ﰡ
(رَبِّ يَسِّر)
القول في تأويل قوله: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنْفَالِ قُلِ الأنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى "الأنفال" التي ذكرها الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم: هي الغنائم، وقالوا: معنى الكلام: يسألك أصحابك، يا محمد، عن الغنائم التي غنمتها أنت وأصحابك يوم بدر، لمن هي؟ فقل: هي لله ولرسوله.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٢٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن عكرمة، "يسئلونك عن الأنفال"، قال: "الأنفال"، الغنائم.
١٥٦٢٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "يسئلونك عن الأنفال"، قال: "الأنفال"، الغنائم.
١٥٦٣٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن مجاهد قال: "الأنفال"، المغنم.
١٥٦٣٢ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "الأنفال"، قال: يعني الغنائم.
١٥٦٣٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: "يسألونك عن الأنفال"، قال: "الأنفال"، الغنائم.
١٥٦٣٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "يسألونك عن الأنفال"، "الأنفال"، الغنائم.
١٥٦٣٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: "يسألونك عن الأنفال"، قال: "الأنفال"، الغنائم.
١٥٦٣٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "الأنفال"، الغنائم.
١٥٦٣٧- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء: "يسألونك عن الأنفال"، قال: الغنائم.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٣٨- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا علي بن صالح بن حي قال، بلغني في قوله: "يسألونك عن الأنفال"، قال: السرايا.
* * *
وقال آخرون: "الأنفال"، ما شذَّ من المشركين إلى المسلمين، من عَبْد أو دابة، وما أشبه ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٣٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول"، قال: هو ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، دابَّة أو عبدٌ أو متاعٌ، ذلك للنبي ﷺ يصنع فيه ما شاء.
١٥٦٤٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن عبد الملك، عن عطاء: "يسألونك عن الأنفال"، قال: هي ما شذّ من المشركين إلى المسلمين بغير قتال، من عبد أو أمة أو متاع أوثَقَل، (١) فهو للنبي ﷺ يصنع فيه ما شاء.
١٥٦٤١-.... قال، حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري: أن ابن عباس سئل عن: "الأنفال"، فقال: السَّلَب والفرس.
١٥٦٤٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ويقال "الأنفال"، ما أخذ مما سقط من المتاع بعد ما تُقَسَّم الغنائم، فهي نفلٌ لله ولرسوله.
١٥٦٤٣- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني عثمان بن أبي سليمان، عن محمد بن شهاب: أن رجلا قال لابن عباس: ما "الأنفال"؟ قال: الفرَس والدِّرع والرمحُ. (٢)
(٢) الأثر: ١٥٦٤٣ - " عثمان بن أبي سليمان بن جبير بن مطعم النوفلي "، ثقة، كان قاضيًا على مكة. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٥: ٣٥٧، وابن أبي حاتم ٣ ١ ١٥٢، وهذا الخبر، رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال ص ٣٠٤ رقم: ٧٥٧ مطولا.
١٥٦٤٥- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن ابن عباس قال: كان ينفِّل الرجل سَلَب الرجل وفرسه. (١)
١٥٦٤٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن القاسم بن محمد قال: سمعت رجلا سأل ابن عباس عن "الأنفال"، فقال ابن عباس: الفرس من النَّفَل، والسلب من النفل. ثم عاد لمسألته، فقال ابن عباس ذلك أيضًا. ثم قال الرجل: "الأنفال"، التي قال الله في كتابه، ما هي؟ قال القاسم: فلم يزل يسأله حتى كاد يُحْرجه، فقال ابن عباس: أتدرون ما مثل هذا، مَثَلُ صَبِيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ (٢)
١٥٦٤٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن القاسم بن محمد قال، قال ابن عباس: كان عمر رضي الله عنه إذا سئل عن شيء قال: "لا آمرك ولا أنهاك". ثم قال ابن عباس: والله ما بعث الله نبيه عليه السلام إلا زاجرًا آمرًا، محللا محرمًا= قال القاسم: فسلِّط على ابن عباس رجل يسأله عن: "الأنفال"، فقال ابن عباس: كان الرجل ينفّل فرس الرجل وسلاحه. فأعاد عليه الرجل، فقال له مثل ذلك، ثم أعاد عليه حتى أغضبه، فقال ابن عباس: أتدرون ما مَثَل هذا، مثل صبيغ الذي ضربه عمر حتى سالت الدماء على عقبيه= أو على رجليه؟ فقال الرجل: أمّا أنت فقد انتقم الله لعمر منك.
(٢) الأثر: ١٥٦٤٦ - رواه مالك في الموطأ ص: ٤٥٥، بلفظه هذا.
" صبيغ "، هو " صبيغ بن عسل بن سهل الحنظلي "، ترجم له ابن حجر في الإصابة، في القسم الثالث، وكان صبيغ وفد على عمر المدينة، وجعل يسأل عن متشابه القرآن، فضربه عمر حتى دمي رأسه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، قد ذهب الذي كنت أجده في رأسي! ونفاه عمر إلى البصرة، وكتب إليهم أن لا يجالسوه، فلم يزل صبيغ وضيعًا في قومه، بعد أن كان سيدًا فيهم.
* * *
وقال آخرون: "النفل"، الخمس الذي جعله الله لأهل الخُمُس.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٤٨- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "يسألونك عن الأنفال"، قال: هو الخمس. قال المهاجرون: لِمَ يُرْفع عنا هذا الخمس، (٢) لم يُخْرج منا؟ فقال الله: هو لله والرسول.
١٥٦٤٩- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أنهم سألوا النبي ﷺ عن الخمس بعد الأربعة الأخماس، فنزلت: "يسألونك عن الأنفال".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في معنى: "الأنفال"، قولُ من قال: هي زيادات يزيدها الإمام بعض الجيش أو جميعهم، إما من سَهْمه على حقوقهم من القسمة، (٣) وإما مما وصل إليه بالنفل، أو ببعض أسبابه، ترغيبًا
(٢) في المخطوطة: " لم يرفع هنا "، والصواب ما في المطبوعة.
(٣) في المطبوعة: " إما من سلبه على حقوقهم "، وفي المخطوطة: " إما سلمه على حقوقهم "، وصواب قراءة المخطوطة ما أثبت، والذي في المطبوعة لا معنى له.
* * *
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، لأن "النفل" في كلام العرب، إنما هو الزيادة على الشيء، يقال منه: "نفَّلتك كذا"، و"أنفلتك"، إذا زدتك.
و"الأنفال"، جمع "نَفَل"، ومنه قول لبيد بن ربيعة:
إِنَّ تَقْوَى رَبِّنا خَيْرُ نَفَلْ وَبِإِذْنِ اللهِ رَيْثِي وَعَجَلْ (٢)
فإذ كان معناه ما ذكرنا، فكل من زيد من مقاتلة الجيش على سهمه من الغنيمة= إن كان ذلك لبلاء أبلاه، أو لغناء كان منه عن المسلمين= بتنفيل الوالي ذلك إيّاه، فيصير حكم ذلك له كالسلب الذي يسلبه القاتل، فهو منفل ما زيد من ذلك، لأن الزيادة نَفَلٌ، [والنَّفَل]، وإن كان مستوجِبَهُ في بعض الأحوال لحق، ليس هو من الغنيمة التي تقع فيها القسمة. (٣) وكذلك كل ما رُضِخ لمن لا سهم له في الغنيمة، فهو "نفل"، (٤) لأنه وإن كان مغلوبًا عليه، فليس مما وقعت عليه القسمة.
(٢) ديوانه ٢: ١١، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٤٠، اللسان (نفل)، وغيرها كثير، فاتحة قصيدة له طويلة.
(٣) كانت هذه الجملة في المطبوعة هكذا: " لأن الزيادة وإن كانت مستوجبة في بعض الأحوال بحق، فليست من الغنيمة التي تقع فيها القسمة "، غير ما كان في المخطوطة كل التغيير، والجملة في المخطوطة كما أثبتها، إلا أن صدرها كان هكذا: " لأن الزيادة أفضل وإن كان مستوجبة " غير منقوطة، سيئة الكتابة، وظاهر أن صوابها ما أثبت، مع زيادة ما زدت بين القوسين.
(٤) " رضخ له من المال "، أعطاه عطية مقاربة، أي قليلة.
* * *
وإذْ كان ذلك معنى "النفل"، فتأويل الكلام: يسألك أصحابك، يا محمد، عن الفضل من المال الذي تقع فيه القسمة من غنيمة كفار قريش الذين قتلوا ببدر، لمن هو؟ قل لهم يا محمد: هو لله ولرسوله دونكم، يجعله حيث شاء.
* * *
واختلف في السبب الذي من أجله نزلت هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في غنائم بدر، لأن النبي ﷺ كان نفَّل أقوامًا على بلاء، فأبلى أقوام، وتخلف آخرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاختلفوا فيها بعد انقضاء الحرب، فأنزل الله هذه الآية على رسوله، يعلمهم أن ما فعل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماضٍ جائزٌ.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٥٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، سمعت داود بن أبي هند يحدث، عن عكرمة، عن ابن عباس، أن النبيّ ﷺ قال: "من أتى مكان كذا وكذا، فله كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا، فله كذا وكذا"، فتسارع إليه الشبان، وبقي الشيوخ عند الرايات، فلما فتح الله عليهم جاءوا يطلبون ما جعل لهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم الأشياخ: لا تذهبوا به دوننا! فأنزل الله عليه الآية "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم". (٢)
(٢) الأثر: ١٥٦٥٠ - خبر ابن عباس هذا، يرويه أبو جعفر من أربعة طرق، من رقم ١٥٦٥٠ - ١٥٦٥٣، إلا آخرها فهو غير مرفوع إلى ابن عباس. وهو خبر صحيح الإسناد.
فمن هذه الطريق الأول " معتمر بن سليمان عن داود،... "، رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٢٦، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن الكبرى ٦: ٣١٥، وفيهما زيادة بعد " لا تذهبوا به دوننا ": " فقد كنا ردءًا لكم ".
وخرجه ابن كثير في تفسيره ٤: ٦، والسيوطي في الدر المنثور ٣: ١٥٩.
١٥٦٥٢- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من فعل كذا فله كذا وكذا من النفل". قال: فتقدم الفتيان، ولزم المشيخةُ الراياتِ، فلم يبرحوا. فلما فُتح عليهم، قالت المشيخة: كنا ردءًا لكم، فلو انهزمتم انحزتم إلينا، (٥) لا تذهبوا بالمغنم دوننا! فأبى الفتيان وقالوا: جعله رسول الله ﷺ لنا! فأنزل الله: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال
(٢) " الردء "، العون، ينصر المرء ويشد ظهره، وهو له قوة وعماد.
(٣) " انكشف القوم "، انهزموا. وقوله: " انكشفتم إلينا "، أي رجعتم بعد الهزيمة إلينا، وكان في المطبوعة: " لفئتم إلينا "، بمعنى رجعتم، ولكني أثبت ما في المخطوطة.
(٤) الأثر: ١٥٦٥١ - هذه هي الطريق الثانية لخبر ابن عباس السالف.
" عبد الأعلى " هو " عبد الأعلى بن عبد الأعلى القرشي السلمي "، ثقة، أخرج له الجماعة. مضى برقم: ٤٧٥١، ٨٢٨٢.
(٥) " انحاز إليه "، انضم إليه.
١٥٦٥٣- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة في هذه الآية: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول"، قال: لما كان يوم بدر، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صنع كذا فله من النفل كذا"! فخرج شبان من الرجال، فجعلوا يصنعونه، فلما كان عند القسمة، قال الشيوخ: نحن أصحاب الرايات، وقد كنا رِدْءًا لكم! فأنزل الله في ذلك: "قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين". (٢)
١٥٦٥٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب الزهري قال، حدثني المغيرة بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن سليمان بن موسى، عن مكحول مولى هذيل، عن أبي سلام، عن أبي أمامة الباهلي، عن عبادة بن الصامت قال، أنزل الله حين اختلف القوم في الغنائم يوم بدر: "يسألونك عن الأنفال" إلى قوله: "إن كنتم مؤمنين"، فقسمه رسول الله ﷺ بينهم، عن بَوَاء. (٣)
" خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي الطحان "، مضى مرارًا آخرها رقم: ١١٥٠٤. وهذا الخبر بهذا الإسناد رواه أبو داود في سننه ٣: ١٠٢ رقم: ٢٧٣٧ مع خلاف يسير في لفظه. وآخره هناك: " فكذلك أيضًا فأطيعوني، فإني أعلم بعاقبة هذا منكم ". ورواه البيهقي في السنن ٦: ٢٩١، ٢٩٢.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ١٣١، ١٣٢ وقال: " هذا حديث صحيح، فقد احتج البخاري بعكرمة، وقد احتج مسلم بداود بن أبي هند، ولم يخرجاه "، وقال الذهبي: " صحيح، قلت هو على شرط البخاري "، والزيادة فيها كما في سنن أبي داود.
خرجه ابن كثير في تفسيره ٤: ٦. وزاد نسبته إلى النسائي، وابن مردويه (واللفظ هناك له)، وابن حبان.
(٢) الأثر: ١٥٦٥٣ - انظر التعليق على الآثار السالفة.
(٣) الأثر: ١٥٦٥٤ - خبر عبادة بن الصامت، مروي هنا من طريقين، هذه أولاهما. إسحاق "، هو " إسحاق بن الحجاج الطاحوني "، مضى برقم: ٢٣٠، ١٦١٤، ١٠٣١٤. و"يعقوب الزهري "، هو " يعقوب بن محمد بن عيسى الزهري "، مختلف فيه، وهو ثقة إن شاء الله، مضى برقم: ٢٨٦٧، ٨٠١٢. كان في المطبوعة هنا " الزبيري "، وهو في المخطوطة غير منقوط، وأقرب قراءته ما أثبت، وهو الصواب بلا ريب، فإن يعقوب بن محمد الزهري، هو الذي يروي عن المغيرة.
و" المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي "، مختلف فيه، ذكره ابن حبان في الثقات ووثقه ابن معين، مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ١ / ٣٢١، ابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٢٢٥، لم يذكرا فيه جرحًا.
وأبوه: " عبد الرحمن بن الحارث بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي "، ثقة، مترجم في التهذيب، ابن أبي حاتم ٢ / ٢ / ٢٢٤. روى عنه ابن إسحاق في سيرته في مواضع. انظر ١: ٣٦٧.
و"سليمان بن موسى الأموي " الأشدق، أبو هشام، ثقة، مضى برقم: ١١٣٨٢.
و" مكحول، مولى هذيل "، هو " مكحول الشامي، أبو عبد الله "، الفقيه التابعي، وكان من سبى كابل، وكانت في لسانه لكنة، جاء في حديثه: " ما فعلت في تلك الهاجة "، يريد " الحاجة "، قلب الحاء هاء. مترجم في التهذيب، وابن سعد ٧ / ٢ / ١٦٠، والكبير ٤ / ٢ / ٢١، وابن أبي حاتم ٤ / ٢ /٤٠٧.
و" أبو سلام "، هو الأسود الحبشي الأعرج، واسمه " ممطور "، في الطبقة الأولى من تابعي أهل الشام. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ / ٢ / ٥٧، وابن أبي حاتم ٤ / ١ / ٤٣١.
و" أبو أمامة الباهلي " واسمه: " صدي بن عجلان " صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وروى عن رسول الله، وعن جماعة من الصحابة،.
وهذا الخبر، رواه مكحول مرة من طريق أبي سلام عن أبي أمامة، ورواه في الذي يليه عن أبي أمامة بلا واسطة. فمن هذه الطريق الأولى رواه أحمد في المسند ٥: ٣٢٣، ٣٢٤، مطولا، وبغير هذا اللفظ من طريق معاوية بن عمرو، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن عياش بن أبي ربيعة عن سليمان ابن موسى، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، لا ذكر فيها لمكحول.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٦: ٢٩٢، من طريق عبد الرحمن بن الحارث، عن سليمان الأشدق، عن مكحول، عن أبي سلام، عن أبي أمامة، مطولا، كرواية أحمد.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ١٣٥، بمثله.
وقوله " عن بَوَاء "، كان في المطبوعة " عن بسواء "، هنا، وفي الخبر التالي، وهو خطأ محض، وسيأتي تفسيره في سياق الخبر التالي.
* * *
وقال آخرون: بل إنما أنزلت هذه الآية، (٢) لأن بعض أصحاب رسول الله ﷺ سأله من المغنم شيئًا قبل قسمتها، فلم يعطه إياه، إذ كان شِرْكًا بين الجيش، فجعل الله جميعَ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم. (٣)
* ذكر من قال ذلك:
وهذا الخبر من رواية " محمد بن إسحاق "، مذكور في سيرة ابن هشام ٢: ٢٩٥، ٢٩٦، بإسناده هذا، ثم في ٢: ٣٢٢، بغير إسناد.
ورواه الطبري بإسناده هذا في التاريخ ٢: ٢٨٥، ٢٨٦.
ورواه أحمد في مسنده /٥: ٣٢٢ من طريقين عن محمد بن إسحاق.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ١٣٦، بالإحالة على لفظه الذي قبله.
ثم رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٢٦، من طريق وهب بن جرير بن حازم، عن محمد ابن اسحاق، يقول حدثني الحارث بن عبد الرحمن، عن مكحول، عن أبي أمامة، وقال: " صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه "، وقال الذهبي: على شرط مسلم. ولا أدري كيف هذا، فإن الثابت في سيرة ابن إسحاق، من رواية ابن هشام أنه من روايته عن " عبد الرحمن بن الحارث "، لا عن " الحارث بن عبد الرحمن " وهو خطأ. هذا فضلا عن أنه مروى بغير هذا اللفظ في سيرة ابن هشام، وفي سائر من رواه عن ابن إسحاق، إلا يونس بن بكير.
فإن البيهقي في السنن الكبرى ٦: ٢٩٢ رواه من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، عن " عبد الرحمن بن الحارث "، بنحو لفظ الحاكم في المستدرك ثم قال: " ورواه جرير بن حازم، عن محمد بن إسحاق، مع تقصير في إسناده ". و " جرير بن حازم " الذي روى الحاكم الخبر من طريقه، ثقة ثبت حافظ، روى له الجماعة. ولكن قال ابن حبان وغيره: " كان يخطئ، لأن أكثر ما كان يحدث من حفظه "، فكأن هذا مما أوجب الحكم عليه بأنه يقصر أحيانًا ويخطيء، والصواب المحض، هو ما أجمعت عليه الرواية عن ابن إسحاق " عبد الرحمن بن الحارث ". وذكره بلفظه هنا، الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ٢٦، هو والخبر الذي قبله، من الطريق المطولة، ثم قال: " ورجال الطريقين ثقات "، وخرجه ابن كثير في تفسيره ٦: ٥، والسيوطي في الدر المنثور ٣: ١٥٩.
(٢) في المطبوعة، حذف " بل " من صدر الكلام.
(٣) في المطبوعة: " لرسول الله "، وأثبت ما في المخطوطة.
١٥٦٥٧- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عاصم، عن مصعب بن سعد، عن سعد بن مالك قال: لما كان يوم بدر جئت بسيف. قال: فقلت: يا رسول الله، إن الله قد شفي صَدري من المشركين = أو نحو هذا= فهبْ لي هذا السيف! فقال لي: هذا ليس لي ولا لك! فرجعت فقلت: عسى أن يعطي هذا من لم يُبْلِ بلائي! فجاءني الرسول، فقلت: حدث فِيَّ حدثٌ! فلما انتهيت قال: يا سعد إنك، سألتني السيف وليس لي، وإنه قد صار لي، فهو لك! ونزلت: "يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول". (٢)
رواه من طريق عاصم، عن مصعب بن سعد برقم ١٥٦٥٦، ١٥٦٥٧.
ومن طريق سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد برقم ١٥٦٥٨، ١٥٦٦٢، ١٥٦٦٣.
ومن طريق محمد بن عبيد الله، أبي عون الثقفي، عن مصعب بن سعد رقم: ١٥٦٥٩، منقطعًا. ومن طريق مجاهد، عن سعد ابن أبي وقاص: ١٥٦٦٤.
وهذا تفسير إسناد الخبر الأول: " إسماعيل بن موسى السدي الفزاري شيخ الطبري "، مضى برقم: ٨٤٩، ٩٦٨٢.
و" أبو الأحوص "، هو " سلام بن سليم الحنفي "، الثقة الحافظ، مضى مرارًا كثيرة.
و" عاصم "، هو " عاصم بن أبي النجود "، مضى مرارًا.
و" مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري "، تابعي ثقة، مضى برقم: ٨٩٤١، ١١٤٥٠.
وهو إسناد صحيح، ولم أجده في موضع آخر من طريق أبي الأحوص عن مصعب.
(٢) الأثر: ١٥٦٥٧ - إسناد صحيح. ورواه من هذه الطريق أحمد في المسند رقم: ١٥٣٨، بنحوه، مطولا.
ورواه أبو داود في سننه ٣: ١٠٣ رقم ٢٧٤٠، بنحوه مطولا.
رواه الحاكم في المستدرك ٢: ١٣٢، بنحوه مطولا، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
ورواه البيهقي في السنن ٦: ٢٩١، وخرجه ابن كثير في تفسيره ٤: ٤، وقال: " رواه أبو داود " والترمذي، والنسائي من طرق، عن أبي بكر بن عياش، وقال الترمذي: حسن صحيح ".
١٥٦٥٩- حدثنا ابن المثنى وابن وكيع= قال ابن المثنى: حدثني أبو معاوية= وقال ابن وكيع: حدثنا أبو معاوية= قال: حدثنا الشيباني، عن محمد بن عبيد الله، عن سعد بن أبي وقاص قال: فلما كان يوم بدر، (٢) قتل أخي عُمَيْر، وقتلت سعيد بن العاص وأخذت سيفه، وكان يسمى "ذا الكتيفة"، (٣) فجئت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: اذهب فاطرحه في القبض! (٤) فطرحته ورجعتُ، وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي، وأخذ سَلَبي! قال: فما جاوزت إلا قريبًا، حتى نزلت عليه "سورة الأنفال"، فقال: اذهب فخذ سيفك! = ولفظ الحديث لابن المثنى. (٥)
(٢) في المطبوعة: " لما كان "، حذف الفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) " ذو الكتيفة " على وزن " عظيمة "، و " الكتيفة ": حديدة عريضة طويلة، وربما كانت كأنها صحيفة، وربما سموا السيف " كتيفًا ".
(٤) " القبض " (بفتحتين) قال أبو عبيد القاسم بن سلام: " القبض، الذي تجمع عنده الغنائم ". وقال غيره: بمعنى المقبوض، وهو ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم.
(٥) الأثر: ١٥٦٥٩ - " أبو معاوية "، هو الضرير، " محمد بن خازم التميمي السعدي " ثقة، من شيوخ أحمد، روى له الجماعة.
وكان في المطبوعة هنا: " قال ابن المثنى حدثني معاوية "، حذف " أبو "، كأنه ظن أن ابن المثنى قال: " معاوية "، وأن ابن وكيع قال " أبو معاوية "، وأن هذا هو وجه الاختلاف! والصواب أن الاختلاف في أن ابن المثنى قال: " حدثني "، وأن ابن وكيع قال: " حدثنا ". فهذا مبلغ الإساءة في التصرف!!.
و" الشيباني "، هو " أبو إسحاق الشيباني ": " سليمان بن أبي سليمان " الثقة الحجة، مضى مرارًا كثيرة
و" محمد بن عبيد الله بن سعيد الثقفي "، " أبو عون الثقفي "، تابعي ثقة ولكنه لم يدرك سعد ابن أبي وقاص، وروايته عن سعد مرسلة. (انظر شرح الإسناد في مسند أحمد). مضى برقم: ٧٥٩٥، ١٣٩٦٥.
وهذا الخبر ضعيف الإسناد، لانقطاعه.
رواه أحمد في مسنده برقم: ١٥٥٦،
ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال: ٣٠٣، بمثله. وقال في خلال الخبر "... قتلت سعيد بن العاص = وقال غيره: العاص بن سعيد. قال أبو عبيد: هذا عندنا هو المحفوظ ". ثم قال تعقيبًا عليه " قال أبو عبيد: وقال أهل العلم بالمغازي: قاتل العاص، علي بن أبي طالب ". والذي قاله أبو عبيد هو الصواب.
فالذي جاء في الخبر هنا " سعيد بن العاص " وهم، فإن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص ابن أمية الأموي، متأخر، قبض رسول الله عليه وله تسع سنين، وهو لم يشرك قط وقتل أبوه " العاص بن سعيد " يوم بدر كافرًا، أما جده " سعيد بن العاص بن أمية "، فمات قبل بدر مشركًا. ويكون الصواب كما قال ابن حجر في الإصابة في ترجمة " عمير بن أبي وقاص ": " العاص بن سعيد بن العاص "، ويكون الاختلاف إذن في الذي قتله: أهو علي بن أبي طالب، أم سعد بن أبي وقاص؟ وإن كنت لم أجد هذا الاختلاف. وهذا موضع يحتاج إلى فضل تحقيق. وانظر التعليق على رقم: ١٥٦٦٤.
هذا، وقد رأيت بعد في الروض الأنف ٢: ٧٦، هذا الخبر عن أبي عبيد وفيه " العاصي ابن سعيد بن العاصي " في صلب الخبر، ورأيت ذكر هذا الاختلاف في الروض الأنف ٢: ١٠٢، ١٠٣.
وأما قوله: " بعض بني ساعدة "، فقد جعلها في المطبوعة " قيس بن ساعدة " لا أدري لم غير ما في المخطوطة.
وأما " أبو أسيد مالك بن ربيعة الأنصاري "، من بني ساعدة بن كعب بن الخزرج، فهو الصحابي المشهور، فجعله في المطبوعة: " أبا أسيد بن مالك بن ربيعة "، زاد " بن " بلا مراجعة.
وأما " سيف بني عائذ " فجعلها " سيف بن عائذ "، كما في الخبر التالي، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة. والصواب من سيرة ابن هشام، وفيها: " سيف بني عائذ المخزوميين ".
و" عائذ " في المخطوطة غير منقوطة، وفي المطبوعة: " عائد " بالدال المهملة. والصواب ما في سيرة ابن هشام. وفي بني مخزوم: " بنو عائذ بن عمران بن مخزوم " (بالذال المعجمة) رهط آل المسيب، وفي بني مخزوم أيضًا: " بنو عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم " (بالباء والدال المهملة)، وهم رهط آل السائب. انظر الروض الأنف ٢: ٧٦، ونسب قريش ٣٣٣ ثم: ٣٤٣، ولم أجد ما أرجح به أحدهما على الآخر.
وهذا الخبر رواه ابن إسحاق في سيرته، ابن هشام ٢: ٢٩٦، بلفظه، وانظر التعليق على الخبر التالي.
و" يحيى بن جعفر "، هو " يحيى بن أبي طالب "، و" يحيى بن جعفر بن الزبير قال "، شيخ الطبري. محدث مشهور ثقة. مضى برقم: ٢٨٤.
و" أحمد بن أبي بكر " هو " أحمد بن القاسم بن الحارث بن زرارة بن مصعب بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري "، كنيته " أبو مصعب الزهري "، ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير ١ ٢ ٦، وابن أبي حاتم ١ ١ ٤٣.
و" يحيى بن عمران بن عثمان بن الأرقم المخزومي "، روى عن أبيه، وعمه " عبد الله ابن عثمان ". روى عنه عطاف بن خالد، وأبو مصعب الزهري " أحمد بن أبي بكر "، وغيرهما ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في تعجيل المنفعة: ٤٤٦، والكبير ٤ ٢ ٢٩٧، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم ٤ ٢ ١٧٧، ١٧٨، وقال ابن أبي حاتم: " سألت أبي عنه فقال: شيخ مدني مجهول "
وأما قوله: " وعن عمه، عن جده "، فكان في المطبوعة والمخطوطة " عن عمه، عن جده " بغير واو العطف، وهو لا يستقيم، بل هو خطأ محض. بل الصواب أن " يحيى بن عمران "، رواه عن جده مباشرة، ورواه مرة أخرى عن عمه " عبد الله بن عثمان "، عن جده أيضًا.
و" عبد الله بن عثمان بن الأرقم "في المطبوعة ابن الأرقم مكررة" المخزومي "، مترجم في تعجيل المنفعة: ٢٢٨، وابن أبي حاتم ٢ ٢ ١١٣، لم يذكروا فيه جرحًا.
وهذا الخبر، مختصر الذي قبله، ولم أجده في مكان آخر.
١٥٦٦٣- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن مصعب بن سعد، عن سعد قال: أخذت سيفًا من المغنم فقلت: يا رسول الله، هب لي هذا! فنزلت: "يسئلونك عن الأنفال". (٢)
١٥٦٦٤- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد في قوله: "يسئلونك عن الأنفال"، قال: قال سعد: كنت أخذت سيفَ سعيد بن العاص بن أمية، فأتيت رسول الله
وهو خبر صحيح الإسناد، من طريق سماك بن حرب، عن مصعب بن سعد.
وبهذا الإسناد رواه أحمد في المسند رقم: ١٥٦٧، ١٦١٤ في خبر طويل، مضى بعضه في شأن تحريم الخمر برقم: ١٢٥١٨، من تفسير الطبري. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: ٢٨ رقم: ٢٠٨. ورواه مسلم في صحيحه ١٢: ٥٣، ٥٤، ورواه البيهقي في السنن الكبرى ٦: ٢٩١، وخرجه ابن كثير في تفسيره ٤: ٥. ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ١٥٠، من طريق زهير بن معاوية عن سماك بن حرب، بغير هذا اللفظ.
(٢) الأثر: ١٥٦٦٣ - مختصر الذي قبله.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت: لأن أصحاب رسول الله ﷺ سألوا قسمة الغنيمة بينهم يوم بدر، فأعلمهم الله أنّ ذلك لله ولرسوله دونهم، ليس لهم فيه شيء. وقالوا: معنى "عن" في هذا الموضع "من"، (٢) وإنما معنى الكلام: يسألونك من الأنفال. وقالوا: قد كان ابن مسعود يقرؤه: "يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ" على هذا التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
و" إبراهيم بن المهاجر بن جابر البجلي "، ثقة، متكلم فيه، مضى برقم: ١٢٩١ في نحو هذا الإسناد.
و" مجاهد " هو " مجاهد بن جبر المكي المخزومي "، الإمام الثقة، روى عن سعد بن أبي وقاص وغيره من الصحابة.
فهذا خبر صحيح الإسناد من إسرائيل، إلى مجاهد.
أما " الحارث "، فهو " الحارث بن أبي أسامة "، وهو ثقة، مضى برقم: ١٠٢٩٥، وغيره.
وأما " عبد العزيز "، فهو " عبد العزيز بن أبان الأموي "، من ولد " سعيد بن العاص ابن أمية "، وهو كذاب خبيث يضع الأحاديث. مضى برقم: ١٠٢٩٥، وغيره، راجع فهارس الرجال.
فمن هذا ضعف إسناده، حتى أجد له رواية عن غير الكذاب، كما قاله أهل الجرح والتعديل. هذا، وقد جاء في هذا الخبر ذكر " سعيد بن العاص بن أمية "، مبينًا، وكنت قلت في التعليق على رقم: ١٥٦٥٩ أن " سعيد بن العاص بن أمية " مات مشركًا قبل يوم بدر، فلذلك لم يصح عندنا قوله في ذلك الخبر " قتلت سعيد بن العاص ". أما في هذا الخبر، فإنه مستقيم، لأنه قال: " أخذت سيف سعيد بن العاص "، فسيفه بلا ريب كان مشهورًا معروفًا عند سعد بن أبي وقاص، وكان عند ولده المقتول ببدر " العاص بن سعيد بن العاص "، وظاهر أنه كان معه يقاتل به يوم بدر فقتل وهو معه، فأخذه سعد بن أبي وقاص. ومع ذلك يظل أمر الاختلاف في قتل " العاص ابن سعيد بن العاص " قائمًا كما هو، أقتله على بن أبي طالب، كما قال أصحاب السير والمغازي، أم قتله سعد بن أبي وقاص، كما دل عليه الخبر الصحيح عنه. راجع التعليق على رقم: ١٥٦٥٩. وانظر الروض الأنف ٢: ١٠٢، ١٠٣ وذكر هذا الاختلاف.
(٢) انظر " عن " بمعنى " من " فيما سلف ١: ٤٤٦، تعليق: ٦.
١٥٦٦٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: هي في قراءة ابن مسعود "يَسْأَلُونَكَ الأنْفَالَ".
* * *
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٦٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول"، قال: "الأنفال"، المغانم كانت لرسول الله ﷺ خالصة، ليس لأحد منها شيء، ما أصاب سرايا المسلمين من شيء أتوه به، فمن حبس منه إبرة أو سِلْكًا فهو غُلول. (١) فسألوا رسول الله ﷺ أن يعطيهم منها، قال الله: يسألونك عن الأنفال، قل: الأنفال لي جعلتها لرسولي، ليس لكم فيها شيء= "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين"، ثم أنزل الله: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول) [سورة الأنفال: ٤١]. ثم قسم ذلك الخُمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن سمي في الآية. (٢)
١٥٦٦٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "يسألونك عن الأنفال"، قال: نزلت في المهاجرين والأنصار ممن شهد بدرًا. قال: واختلفوا، فكانوا أثلاثًا. قال: فنزلت: "يسألونك
(٢) الأثر: ١٥٦٦٧ - هذا الإسناد، سلف بيانه برقم: ١٨٣٣، ٨٤٧٢، وأنه إسناد منقطع، لأن " على بن طلحة " لم يسمع من ابن عباس التفسير.
وهذا الخبر، رواه البيهقي من هذه الطريق نفسها، في السنن الكبرى ٦: ٢٩٣، مطولا.
١٥٦٦٩- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أن الناس سألوا النبي ﷺ الغنائم يوم بدر، فنزلت: "يسألونك عن الأنفال". (٢)
١٥٦٧٠-.... قال: حدثنا عباد بن العوّام، عن جويبر، عن الضحاك: "يسئلونك عن الأنفال"، قال: يسألونك أن تنفِّلهم.
١٥٦٧١- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا أيوب، عن عكرمة في قوله: "يسألونك عن الأنفال"، قال: يسألونك الأنفال.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى أخبرَ في هذه الآية عن قوم سألوا رَسول الله ﷺ الأنفال أن يُعطيهموها، فأخبرهم الله أنها لله، وأنه جعلها لرسوله.
وإذا كان ذلك معناه، جاز أن يكون نزولها كان من أجل اختلاف أصحاب رسول الله ﷺ فيها= وجائز أن يكون كان من أجل مسألة من سأله
(٢) الأثر: ١٥٦٦٩ - " عباد بن العوام الواسطي "، ثقة، من شيوخ أحمد. مضى برقم: ٥٤٣٣.
و" الحجاج " هو " الحجاج بن أرطاة النخعي "، مضى برقم: ٣٢٩٩، ٣٩٦٠، ٤٢٤٦، ٩٦٣١، ١٠١٣٨، وهو ثقة، إلا أنه كان يدلس عن " عمرو بن شعيب "، وقال محمد بن نصر: " الغالب على حديثه الإرسال والتدليس وتغيير الألفاظ "، واشترطوا في حديثه التصريح بالسماع، وهذا مما لم يصرح فيه السماع.
فهذا خبر ضعيف، لهذه العلة.
و" عمرو بن شعيب بن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص "، أنكروا عليه كثرة روايته عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو، قال أبو زرعة: " إنما سمع أحاديث يسيرة، وأخذ صحيفة كانت عنده فرواها "، وهو ثقة في نفسه، وأحاديثه " عن أبيه عن جده "، محتملة، ولكنهم لم يدخلوها في صحاح ما خرجوا.
* * *
واختلفوا فيها: أمنسوخة هي أم غير منسوخة؟
فقال بعضهم: هي منسوخة. وقالوا: نسخها قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) الآية [سورة الأنفال: ٤١]، .
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٧٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قالا كانت الأنفال لله وللرسول، فنسختها: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ)
١٥٦٧٣- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يسئلونك عن الأنفال"، قال: أصاب سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيفًا، فاختصم فيه وناسٌ معه، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأخذه النبي ﷺ منهم، فقال الله: "يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول"، الآية، فكانت الغنائم يومئذ للنبي ﷺ خاصة، فنسخها الله بالخُمس.
١٥٦٧٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني سليم مولى أم محمد، عن مجاهد في قوله: "يسئلونك عن الأنفال"، قال: نسختها: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ). (١)
* * *
وقال آخرون: هي محكمة، وليست منسوخة. وإنما معنى ذلك: "قل الأنفال لله"، وهي لا شك لله مع الدنيا بما فيها والآخرة= وللرسول، يضعها في مواضعها التي أمره الله بوضعها فيه.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٧٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "يسألونك عن الأنفال"، فقرأ حتى بلغ: "إن كنتم مؤمنين"، فسلَّموا لله ولرسوله يحكمان فيها بما شاءا، ويضعانها حيث أرادا، فقالوا: نعم! ثم جاء بعد الأربعين: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) الآية [سورة الأنفال: ٤١]، ولكم أربعة أخماس. وقال النبي ﷺ يوم خيبر: "وهذا الخمس مردود على فقرائكم"، يصنع الله ورسوله في ذلك الخمس ما أحبَّا، ويضعانه حيث أحبَّا، ثم أخبرنا الله بالذي يجب من ذلك. ثم قرأ الآية: (وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [سورة الحشر: ٧].
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنه جعل الأنفال لنبيه صلى الله عليه وسلم، يُنفِّل من شاء، فنفّل القاتل السَّلَب، وجعل للجيش في البَدْأة الربع، وفي الرجعة الثلث بعد الخمس. (١) ونفَّل
وليس في الآية دليل على أن حكمها منسوخ، لاحتمالها ما ذكرتُ من المعنى الذي وصفت. وغير جائز أن يحكم بحكم قد نزل به القرآن أنه منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها، فقد دللنا في غير موضع من كتبنا على أن لا منسوخ إلا ما أبطل حكمه حادثُ حكمٍ بخلافه، ينفيه من كل معانيه، أو يأتي خبرٌ يوجب الحجةَ أن أحدهما ناسخٌ الآخرَ. (١)
* * *
وقد ذكر عن سعيد بن المسيب: أنه كان ينكر أن يكون التنفيل لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، تأويلا منه لقول الله تعالى: "قل الأنفال لله والرسول".
١٥٦٧٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن عمرو قال: أرسل سعيد بن المسيب غلامه إلى قوم سألوه عن شيء، فقال: إنكم أرسلتم إلي تسألوني عن الأنفال، فلا نَفَل بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقد بينا أن للأئمة أن يتأسَّوْا برسول الله ﷺ في مغازيهم بفعله، فينفِّلوا على نحو ما كان ينفل، إذا كان التنفيل صلاحًا للمسلمين.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فخافوا الله أيها القوم، واتقوه بطاعته واجتناب معاصيه، وأصلحوا الحال بينكم.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذي عنى بقوله: "وأصلحوا ذات بينكم".
فقال بعضهم: هو أمر من الله الذين غنموا الغنيمة يوم بدر، وشهدوا الوقعة مع رسول الله ﷺ إذ اختلفوا في الغنيمة: أن يردَّ ما أصابوا منها بعضُهم على بعض. (١)
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٧٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، قال: كان نبي الله ينفِّل الرجل من المؤمنين سَلَب الرجل من الكفار إذا قتله، ثم أنزل الله: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، أمرهم أن يردَّ بعضهم على بعض.
١٥٦٧٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: بلغني أن النبي ﷺ كان ينفّل الرجل على قدر جِدّه وغَنَائه على ما رأى، حتى إذا كان يوم بدر، وملأ الناسُ أيديهم غنائم، قال أهل الضعف من الناس: ذهب أهل القوة بالغنائم! فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت: "قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، ليردَّ أهل القوة على أهل الضعف.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٨٠- حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا خالد بن يزيد= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد= قالا حدثنا أبو إسرائيل، عن فضيل، عن مجاهد، في قول الله: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، قال: حَرَّج عليهم.
١٥٦٨١- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا عباد بن العوام، عن سفيان بن حسين، عن مجاهد، عن ابن عباس: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، قال هذا تحريجٌ من الله على المؤمنين، أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم= قال عباد، قال سفيان: هذا حين اختلفوا في الغنائم يوم بدر.
١٥٦٨٢- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم"، أي لا تَسْتَبُّوا.
* * *
واختلف أهل العربية في وجه تأنيث "البين".
فقال بعض نحويي البصرة: أضاف "ذات" إلى "البين" وجعله "ذاتًا"، لأن بعضَ الأشياء يوضع عليه اسم مؤنث، وبعضًا يذكر نحو "الدار" و"الحائط"، أنث "الدار" وذكر "الحائط".
* * *
وقال بعضهم: إنما أراد بقوله: "ذات بينكم"، الحال التي للبين، فقال: وكذلك "ذات العشاء"، يريد الساعة التي فيها العشاء، قال: ولم يضعوا مذكرًا لمؤنث، ولا مؤنثًا لمذكر، إلا لمعنى.
* * *
قال أبو جعفر: هذا القول أولى القولين بالصواب، للعلة التي ذكرتها له.
* * *
١٥٦٨٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين"، فسلموا لله ولرسوله، يحكمان فيها بما شاءا، ويضعانها حيث أرادا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ليس المؤمن بالذي يخالف الله ورسوله، ويترك اتباعَ ما أنزله إليه في كتابه من حدوده وفرائضه، والانقياد لحكمه، ولكن المؤمن هو الذي إذا ذكر الله وَجِل قلبه، وانقاد لأمره، وخضع لذكره، خوفًا منه، وفَرَقًا من عقابه، وإذا قرئت عليه آيات كتابه صدّق بها، (١) وأيقن أنها من عند الله، فازداد بتصديقه بذلك، إلى تصديقه بما كان قد بلغه منه قبل ذلك، تصديقًا. وذلك هو زيادة ما تلى عليهم من آيات الله إيَّاهم إيمانًا (٢) = "وعلى ربهم يتوكلون"، يقول: وبالله يوقنون، في أن قضاءه فيهم ماضٍ، فلا يرجون غيره، ولا يرهبون سواه. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير " زيادة الإيمان " فيما سلف ٧: ٤٠٥.
(٣) انظر تفسير " الوكيل " فيما سلف ١٢: ٥٦٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٨٤- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: المنافقون، لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله، ولا يتوكلون على الله، ولا يصلّون إذا غابوا، ولا يؤدُّون زكاة أموالهم. فأخبر الله سبحانه أنهم ليسوا بمؤمنين، ثم وصف المؤمنين فقال: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، فأدوا فرائضه= "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا"، يقول: تصديقًا= "وعلى ربهم يتوكلون"، يقول: لا يرجون غيره.
١٥٦٨٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: فَرِقت.
١٥٦٨٦-.... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن السدي: "الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: إذا ذكر الله عند الشيء وجِلَ قلبه.
١٥٦٨٧ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، يقول: إذا ذكر الله وَجِل قلبه.
١٥٦٨٨ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "وجلت قلوبهم"، قال: فرقت.
١٥٦٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
١٥٦٩٠-.... قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان قال: سمعت السدي يقول في قوله: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: هو الرجل يريد أن يظلم = أو قال: يهمّ بمعصية = أحسبه قال: فينزع عنه.
١٥٦٩١- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن شهر بن حوشب، عن أبي الدرداء في قوله: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: الوجل في القلب كإحراق السَّعَفة، (١) أما تجد له قشعريرة؟ قال: بلى! قال: إذا وجدت ذلك في القلب فادع الله، فإن الدعاء يذهب بذلك.
١٥٦٩٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم"، قال: فرقًا من الله تبارك وتعالى، ووَجلا من الله، وخوفًا من الله تبارك وتعالى.
* * *
وأما قوله: "زادتهم إيمانًا"، فقد ذكرت قول ابن عباس فيه. (٢)
* * *
وقال غيره فيه، ما:-
١٥٦٩٣- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا"، قال: خشية.
١٥٦٩٤- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون"، قال: هذا نعت أهل الإيمان، فأثبت نَعْتهم، ووصفهم فأثبت صِفَتهم.
* * *
(٢) يعني رقم: ١٥٦٨٤.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين يؤدون الصلاة المفروضة بحدودها، وينفقون مما رزقهم الله من الأموال فيما أمرهم الله أن ينفقوها فيه، من زكاة وجهاد وحج وعمرة ونفقةٍ على من تجب عليهم نفقته، فيؤدُّون حقوقهم= "أولئك"، يقول: هؤلاء الذين يفعلون هذه الأفعال (١) = "هم المؤمنون"، لا الذين يقولون بألسنتهم: "قد آمنا" وقلوبهم منطوية على خلافه نفاقًا، لا يقيمون صلاة ولا يؤدُّون زكاة.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٩٥- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: "الذين يقيمون الصلاة"، يقول: الصلوات الخمس= "ومما رزقناهم ينفقون"، يقول: زكاة أموالهم (٢) = "أولئك هم المؤمنون حقًّا"، يقول: برئوا من الكفر. ثم وصف الله النفاق وأهله فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ) : إلى قوله: (أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا) [سورة النساء: ١٥٠-١٥١] فجعل الله المؤمن مؤمنًا حقًّا، وجعل الكافر كافرًا حقًّا، وهو قوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) [سورة التغابن: ٢].
(٢) انظر تفسير " حقا " فيما سلف من فهارس اللغة (حقق).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: "لهم درجات"، لهؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم= "درجات"، وهي مراتب رفيعة. (١)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في هذه "الدرجات" التي ذكر الله أنها لهم عنده، ما هي؟
فقال بعضهم: هي أعمال رفيعة، وفضائل قدّموها في أيام حياتهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٩٧- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى القتات، عن مجاهد: "لهم درجات عند ربهم"، قال: أعمال رفيعة. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك مراتب في الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٦٩٨- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
(٢) الأثر: ١٥٦٩٧ - " أبو يحيى القتات "، ضعيف، مضى برقم: ١٢١٣٩.
* * *
وقوله: "ومغفرة"، يقول: وعفو عن ذنوبهم، وتغطية عليها (٢) = "ورزق كريم"، قيل: الجنة= وهو عندي: ما أعد الله في الجنة لهم من مزيد المآكل والمشارب وهنيء العيش. (٣)
١٥٦٩٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، عن هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة: "ومغفرة"، قال: لذنوبهم= "ورزق كريم"، قال: الجنة.
* * *
و" هشام " هو: " هشام بن حسان القردوسي "، مضى برقم: ٢٨٢٧، ٧٢٨٧، ٩٨٣٧، ١٠٢٥٨.
و" جبلة " هو " جبلة بن سحيم التيمي "، مضى برقم: ٣٠٠٣، ١٠٢٥٨، زكان في المطبوعة والمخطوطة: " هشام بن جبلة "، وهو خطأ صرف.
وأما " عطية "، فلا أعرف من يكون، وأنا في شك منه.
و" ابن محيريز "، هو: " عبد الله بن محيريز الجمحي "، مضى برقم: ٨٧٢٠، ١٠٢٥٨.
وهذا الخبر، روى مثله في تفسير غير هذه الآية، فيما سلف برقم: ١٠٢٥٨ قال: " حدثنا علي بن الحسين الأزدي، قال حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن هشام بن حسان، عن جبلة ابن سحيم، عن ابن محيريز "، ليس فيه " ابن عطية " هذا الذي هنا.
و" الحضر " (بضم فسكون)، ارتفاع الفرس في عدوه.
و" المضمر "، هو الذي أعد للسباق والركض.
(٢) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر).
(٣) انظر تفسير " كريم " فيما سلف ٨: ٢٥٩.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الجالب لهذه "الكاف" التي في قوله: "كما أخرجك"، وما الذي شُبِّه بإخراج الله نبيه ﷺ من بيته بالحق.
فقال بعضهم: شُبِّه به في الصلاح للمؤمنين، اتقاؤهم ربهم، وإصلاحهم ذات بينهم، وطاعتهم الله ورسوله. وقالوا: معنى ذلك: يقول الله: وأصلحوا ذات بينكم، فإن ذلك خير لكم، كما أخرج الله محمدًا ﷺ من بيته بالحقّ، فكان خيرًا له. (١)
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧٠٠- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة: "فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين. كما أخرجك ربك من بيتك بالحق"، الآية، أي: إن هذا خيرٌ لكم، كما كان إخراجك من بيتك بالحق خيرًا لك.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كما أخرجك ربك، يا محمد، من بيتك بالحق على كره من فريق من المؤمنين، كذلك هم يكرهون القتال، فهم يجادلونك فيه بعد ما تبين لهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧٠١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
١٥٧٠٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق"، كذلك يجادلونك في الحقِّ، القتالِ.
١٥٧٠٣-.... قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق"، قال: كذلك أخرجك ربك. (١)
١٥٧٠٤- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أنزل الله في خروجه = يعني خروج النبي صلى الله عليه وسلم= إلى بدر، ومجادلتهم إياه فقال: "كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون"، لطلب المشركين، "يجادلونك في الحق بعد ما تبين".
* * *
واختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعض نحويي الكوفيين: ذلك أمر من الله لرسوله ﷺ أن يمضي لأمره في الغنائم، على كره من أصحابه، كما مضى لأمره في خروجه من بيته لطلب العِير وهم كارهون. (٢)
* * *
وقال آخرون منهم: معنى ذلك: يسألونك عن الأنفال مجادلةً، كما جادلوك يوم بدر فقالوا: "أخرجتنا للعِير، ولم تعلمنا قتالا فنستعدَّ له".
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٠٣
* * *
وقال آخرون منهم (٢) هي بمعنى القسم. قال: ومعنى الكلام: والذي أخرجك ربّك. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال في ذلك بقول مجاهد، وقال: معناه: كما أخرجك ربك بالحقّ على كره من فريق من المؤمنين، كذلك يجادلونك في الحق بعد ما تبين= لأن كلا الأمرين قد كان، أعني خروج بعض من خرج من المدينة كارهًا، وجدالهم في لقاء العدو وعند دنوِّ القوم بعضهم من بعض، فتشبيه بعض ذلك ببعض، مع قرب أحدهما من الآخر، أولى من تشبيهه بما بَعُد عنه.
* * *
وقال مجاهد في "الحق" الذي ذكر أنهم يجادلون فيه النبيّ ﷺ بعد ما تبينوه: هو القتال.
١٥٧٠٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يجادلونك في الحق)، قال: القتال.
١٥٧٠٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
وانظر تفسير " كما " فيما سلف ٣: ٢٠٩، في قوله تعالى: " كما أرسلنا فيكم رسولا " [سورة البقرة: ١٥١].
(٢) في المطبوعة: " وقال آخرون "، جمعًا، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، وقائل ذلك هو أبو عبيدة معمر بن المثنى.
(٣) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٤٠، ٢٤١.
* * *
وأما قوله: (من بيتك)، فإن بعضهم قال: معناه: من المدينة.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧٠٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي بزة: (كما أخرجك ربك من بيتك)، المدينة، إلى بدر.
١٥٧٠٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني محمد بن عباد بن جعفر في قوله: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق)، قال: من المدينة إلى بدر.
* * *
وأما قوله: (وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون)، فإن كراهتهم كانت، كما:-
١٥٧١٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، عن عبد الله بن عباس، قالوا: لما سمع رَسول الله ﷺ بأبي سفيان مقبلا من الشأم، ندب إليهم المسلمين، (١) وقال: هذه عير قريش فيها أموالهم، (٢) فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس، فخفّ بعضهم وثقُل بعضهم، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ يلقى حربًا. (٣)
١٥٧١١- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون)، لطلب المشركين.
* * *
(٢) " العير "، (بكسر العين) : القافلة، وكل ما امتاروا عليه من أبل وحمير وبغال. وهي قافلة تجارة قريش إلى الشام.
(٣) الأثر: ١٥٧١٠ - سيرة ابن هشام ٢: ٢٥٧، ٢٥٨.
فقال بعضهم: عُني بذلك: أهلُ الإيمان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا معه حين توجَّه إلى بدر للقاء المشركين.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧١٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، لما شاور النبي ﷺ في لقاء القوم، وقال له سعد بن عبادة ما قال، وذلك يوم بدر، أمرَ الناس، فتعبَّوْا للقتال، (١) وأمرهم بالشوكة، وكره ذلك أهل الإيمان، فأنزل الله: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق بعد ما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون).
١٥٧١٣- حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر القومَ= يعني أصحابَ رسول الله ﷺ = ومسيرَهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين عرف القوم أن قريشًا قد سارت إليهم، وأنهم إنما خرجوا يريدون العيرَ طمعًا في الغنيمة، فقال: (كما أخرجك ربك من بيتك بالحق)، إلى قوله: (لكارهون)، أي كراهيةً للقاء القوم، وإنكارًا لمسير قريش حين ذُكِروا لهم. (٢)
* * *
وقال آخرون: عُني بذلك المشركون.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧١٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
(٢) الأثر: ١٥٧١٣- سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٢، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٦٥٥.
١٥٧١٥- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثني عبد العزيز بن محمد، عن ابن أخي الزهري، عن عمه قال: كان رجل من أصحاب رسول الله ﷺ يفسر: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)، خروجَ رسول الله ﷺ إلى العِير. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس وابن إسحاق، من أن ذلك خبرٌ من الله عن فريق من المؤمنين أنهم كرهوا لقاء العدو، وكان جدالهم نبيَّ الله ﷺ أن قالوا: "لم يُعلمنا أنا نلقى العدو فنستعد لقتالهم، وإنما خرجنا للعير". ومما يدلّ على صحته قولُه (٣) (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ)، ففي ذلك الدليلُ الواضح لمن فهم عن الله، أن القوم قد كانوا للشوكة كارهين، وأن جدالهم كان في القتال، كما قال مجاهد، كراهيةً منهم له= وأنْ لا معنى لما قال ابن زيد، لأن الذي قبل قوله: (يجادلونك في الحق)، خبرٌ عن أهل الإيمان، والذي يتلوه
(٢) الأثر: ١٥٧١٥ - " يعقوب بن محمد الزهري "، مضى قريبًا برقم ١٥٦٥٤، وهو يروي عن ابن أخي الزهري مباشرة، ولكنه روى عنه هنا بالواسطة.
و" عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد الدراوردي " ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: ١٠٦٧٦.
و" ابن أخي الزهري "، هو " محمد بن عبد الله بن مسلم الزهري "، ثقة، متكلم فيه، روى له الجماعة. يروي عن عمه " ابن شهاب الزهري ".
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: " على صحة قوله "، والصواب ما أثبت.
* * *
وأما قوله: (بعد ما تبين)، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: بعد ما تبين لهم أنك لا تفعل إلا ما أمرك الله.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨١٦- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: بعد ما تبين أنك لا تصنع إلا ما أمرك الله به.
* * *
وقال آخرون: معناه: يجادلونك في القتال بعدما أمرت به.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧١٧- رواه الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس. (١)
* * *
وأما قوله: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)، فإن معناه: كأن هؤلاء الذين يجادلونك في لقاء العدوّ، من كراهتهم للقائهم إذا دعوا إلى لقائهم للقتال، "يساقون إلى الموت".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧١٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: (كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون)، أي كراهةً للقاء القوم، وإنكارًا لمسير قريش حين ذكروا لهم. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ١٥٧١٨ - سيرة بن هشام ٢: ٣٢٢، وهو جزء من الخبر السالف رقم: ١٥٧١٣.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكروا، أيها القوم= (إذ يعدكم الله إحدى الطائفتين)، يعني إحدى الفرقتين، (١) فرقة أبي سفيان بن حرب والعير، وفرقة المشركين الذين نَفَروا من مكة لمنع عيرهم.
* * *
وقوله: (أنها لكم)، يقول: إن ما معهم غنيمة لكم= (وتودون أنّ غير ذات الشوكة تكون لكم)، يقول: وتحبون أن تكون تلك الطائفة التي ليست لها شوكة= يقول: ليس لها حدٌّ، (٢) ولا فيها قتال= أن تكون لكم. يقول: تودُّون أن تكون لكم العيرُ التي ليس فيها قتال لكم، دون جماعة قريش الذين جاءوا لمنع عيرهم، الذين في لقائهم القتالُ والحربُ.
* * *
وأصل "الشوكة" من "الشوك".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧١٩- حدثنا علي بن نصر، وعبد الوارث بن عبد الصمد قالا حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة: أن أبا سفيان أقبل ومن معه من رُكبان قريش مقبلين من الشأم، (٣) فسلكوا طريق الساحل. فلما سمع بهم النبي صلى الله عليه وسلم، ندب أصحابه، وحدّثهم بما معهم من الأموال، وبقلة عددهم. فخرجوا
(٢) " الحد " (بفتح الحاء) هو: الحدة (بكسر الحاء)، والبأس الشديد، والنكاية.
(٣) " الركبان " و " الركب "، أصحاب الإبل في السفر، وهو اسم جمع لا واحد له.
١٥٧٢٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة، وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا، (٣) عن عبد الله بن عباس، كُلٌّ قد حدثني بعض هذا الحديث، فاجتمع حديثهم فيما سُقت من حديث بدر، قالوا: لما سمع رسول الله ﷺ بأبي سفيان مقبلا من الشأم، ندب المسلمين إليهم وقال: هذه عير قريش، فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفِّلكموها! فانتدب الناس، فخف بعضهم وثقل بعض، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله ﷺ يلقى حربًا. وكان أبو سفيان يستيقن حين دنا من الحجاز ويتحسس الأخبار، (٤) ويسأل من لقي من الركبان، تخوفًا على
(٢) الأثر: ١٥٧١٩ - " علي بن نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضي "، الثقة الحافظ، شيخ الطبري، روى عنه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، وأبو زرعة، وأبو حاتم، والبخاري، في غير الجامع الصحيح. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ ١ ٢٠٧.
و" عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث العنبري "، شيخ الطبري. ثقة، مضى برقم: ٢٣٤٠.
وأبوه: " عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري "، ثقة، مضى مرارًا كثيرة.
و" أبان العطار "، هو " أبان بن يزيد العطار "، ثقة، مضى برقم: ٣٨٣٢، ٩٦٥٦.
وهذا الخبر رواه أبو جعفر، بإسناده هذا في التاريخ ٢: ٢٦٧، مطولا مفصلا، وهو كتاب من عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان. وكتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان كتاب طويل رواه الطبري مفرقًا في التاريخ، وسأخرجه مجموعًا في تعليقي على الأثر ١٦٠٨٣.
(٣) القائل " من علمائنا | " إلى آخر السياق، هو محمد بن إسحاق. |
وكان في المطبوعة: " يتجسس " بالجيم، وإنما هي بالحاء المهملة، و " تحسس الخبر "، تسمعه بنفسه وتبحثه وتطلبه.
١٥٧٢١- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن أبا سفيان أقبل في عير من الشأم فيها تجارة قريش، وهي اللَّطيمة، (١٣) فبلغ رسول الله ﷺ أنها قد أقبلت، فاستنفر الناس، فخرجوا معه ثلثمائة وبضعة عشر رجلا. فبعث عينًا له من جُهَينة، حليفًا للأنصار، يدعى "ابن أريقط"، (١٤) فأتاه بخبر القوم. وبلغ أبا سفيان خروج محمد صلى الله عليه وسلم، فبعث إلى أهل مكة يستعينهم، فبعث رجلا من بني غِفار يدعى ضمضم بن عمرو، فخرج النبي ﷺ ولا يشعر بخروج قريش، فأخبره الله بخروجهم، فتخوف من الأنصار أن يخذلوه ويقولوا: "إنا عاهدنا أن نمنعك إن أرادك أحد ببلدنا"! فأقبل على أصحابه فاستشارهم في طلب العِير، فقال له أبو بكر رحمة الله عليه: إنّي قد سلكت هذا الطريق، فأنا أعلم به، وقد فارقهم الرجل بمكان كذا وكذا، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم عاد فشاورهم، فجعلوا يشيرون عليه بالعير. فلما أكثر المشورة، تكلم سعد بن معاذ، فقال: يا رسول الله، أراك تشاور أصحابك فيشيرون عليك، وتعود فتشاورهم، فكأنك لا ترضى ما يشيرون عليك، وكأنك تتخوف أن تتخلف عنك الأنصار! أنت رسول الله، وعليك أنزل الكتاب، وقد أمرك الله بالقتال، ووعدك النصر، والله لا يخلف الميعاد، امض لما أمرت به، فوالذي بعثك بالحق لا يتخلف عنك رجل من الأنصار! ثم قام المقداد بن الأسود الكندي فقال: يا رسول الله، إنا لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ
(٢) " استنفر الناس "، استنجدهم واستنصرهم، وحثهم على الخروج للقتال.
(٣) عند هذا الموضع انتهي ما في سيرة ابن هشام ٢: ٢٥٧، ٢٥٨، وسيصله بالآتي في السيرة بعد ٢: ٢٦٦، وعنده انتهي الخبر في تاريخ الطبري ٢: ٢٧٠، وسيصله بالآتي في التاريخ أيضًا ٢: ٢٧٣.
وانظر التخريج في آخر هذا الخبر.
(٤) في السيرة وحدها " فجزع فيه "، وهي أحق بهذا الموضع، ولكني أثبت ما في لمطبوعة والمخطوطة والتاريخ. و " جزع الوادي "، قطعه عرضًا.
(٥) " برك الغماد "، " برك " (بفتح الباء وكسرها)، و " الغماد "، (بكسر الغين وضمها ". قال الهمداني: " برك الغماد "، في أقاصي اليمن (معجم ما استعجم: ٢٤٤).
(٦) " الذمام " و " الذمة "، العهد والكفالة والحرمة.
(٧) في المطبوعة " خاف أن لا تكون الأنصار "، وأثبت ما في سيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري. و " يتخوف " ساقطة من المخطوطة.
و" دهمه " (بفتح الهاء وكسرها) : إذا فاجأه على غير استعداد.
(٨) " استعرض البحر، أو الخطر ": أقبل عليه لا يبالي خطره. وهذا تفسير للكلمة، استخرجته، لا تجده في المعاجم.
(٩) في المطبوعة: " أن يلقانا عدونا غدًا "، لم يحسن قراءة المخطوطة، وهذا هو الموافق لما في سيرة ابن هشام، وتاريخ الطبري.
(١٠) " صدق " (بضمتين) جمع " صدوق "، مجازه: أن يصدق في قتاله أو عمله، أي يجد فيه جدًا، كالصدق في القول الذي لا يخالطه كذب، أي ضعف.
(١١) قوله في آخر الجملة الآتية " غدًا "، ليست في سيرة ابن هشام ولا في التاريخ، ولكنها ثابتة في المخطوطة.
(١٢) الأثر: ١٥٧٢٠ - هذا الخبر، روى صدر منه فيما سلف: ١٥٧١٠. وهو في سيرة ابن هشام مفرق ٢: ٢٥٧، ٢٥٨، ثم ٢: ٢٦٦، ٢٦٧.
وفي تاريخ الطبري ٢: ٢٧٠ ثم ٢: ٢٧٣، ثم تمامه أيضًا في: ٢٧٣.
(١٣) " اللطيمة "، هو الطيب، و " لطيمة المسك "، وعاؤه ثم سموا العير التي تحمل الطيب والعسجد، ونفيس بز التجار: " اللطيمة ".
(١٤) في المطبوعة: " ابن الأريقط "، وأثبت ما في المخطوطة.
١٥٧٢٢- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)، قال: الطائفتان إحداهما أبو سفيان بن حرب إذ أقبل بالعير من الشأم، والطائفة الأخرى أبو جهل معه نفر من قريش. فكره المسلمون الشوكة والقتال، وأحبوا أن يلقوا العير، وأراد الله ما أراد.
١٥٧٢٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين)، قال: أقبلت عير أهل مكة = يريد: من الشأم (١) = فبلغ أهل المدينة ذلك، فخرجوا ومعهم رسول الله ﷺ يريدون العير. فبلغ ذلك أهل مكة، فسارعوا السير إليها، لا يغلب عليها النبي ﷺ وأصحابه. فسبقت العير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الله وعدهم إحدى الطائفتين، فكانوا أن يلقوا العير أحبَّ إليهم، وأيسر شوكة، وأحضر مغنمًا. فلما سبقت العير وفاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم، سار رسول الله ﷺ بالمسلمين يريد القوم، فكره القوم مسيرهم لشوكةٍ في القوم.
١٥٧٢٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)، قال: أرادوا العير. قال: ودخل رسول الله ﷺ المدينة في شهر ربيع الأول، فأغار
١٥٧٢٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)، قال: كان جبريل عليه السلام قد نزل فأخبره بمسير قريش وهي تريد عيرها، ووعده إما العيرَ، وإما قريشًا وذلك كان ببدر، وأخذوا السُّقاة وسألوهم، فأخبروهم، فذلك قوله: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)، هم أهل مكة.
(٢) هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، ولم أجد مكانًا ولا شيئا يقال له " البطم "، وأكاد أقطع أنه تحريف محض، وأن صوابه (بِإضَمٍ). و " إضم " واد بجبال تهامة، وهو الوادي الذي فيه المدينة. يسمى عند المدينة " قناة "، ومن أعلى منها عند السد يسمى " الشظاة "، ومن عند الشظاة إلى أسفل يسمى " إضما ". وقال ابن السكيت: " إضم "، واد يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر، وأعلى إضم " القناة " التي تمر دوين المدينة. و " إضم " من بلاد جهينة.
والمعروف في السير أن أبا سفيان في تلك الأيام، نزل على ماء كان عليه مجدى بن عمير الجهني، فلما أحس بخبر المسلمين، ضرب وجه عيره، فساحل بها، وترك بدرًا بيسار. فهو إذن قد نزل بأرض جهينة، و " إضم " من أرضهم، وهو يفرغ إلى البحر، فكأن هذا هو الطريق الذي سلكه. ولم أجد الخبر في مكان حتى أحقق ذلك تحقيقًا شافيًا.
١٥٧٢٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال، حدثنا عبد الله بن وهب، عن ابن لهيعة، عن ابن أبي حبيب، عن أبي عمران، عن أبي أيوب قال: أنزل الله جل وعز: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم)، فلما وعدنا إحدى الطائفتين أنها لنا، طابت أنفسنا: و"الطائفتان"، عِير أبي سفيان، أو قريش. (١)
و" عبد الله بن وهب المصري "، الثقة، مضى برقم ٦٦١٣، ١٠٣٣٠.
و" ابن لهيعة "، مضى الكلام في توثيقه مرارًا.
و" ابن أبي حبيب "، هو " يزيد بن أبي حبيب المصري "، ثقة مضى مرارًا كثيرة.
و" أبو عمران " هو: " أسلم أبو عمران "، " أسلم بن يزيد التجيبي "، روى عن أبي أيوب، تابعي ثقة، وكان وجيهًا بمصر. مترجم في التهذيب، والكبير ١ ٢ ٢٥، وابن أبي حاتم ١ ١ ٣٠٧. وسيأتي في هذا الخبر بإسناد آخر، في الذي يليه.
ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ٦: ٧٣، ٧٤ مطولا، وقال: " رواه الطبراني، وإسناده حسن ".
١٥٧٢٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يعقوب بن محمد قال، حدثني غير واحد في قوله: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)، إن "الشوكة"، قريش.
١٥٧٣٠- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)، هي عير أبي سفيان، ودّ أصحاب رسول الله ﷺ أن العير كانت لهم، وأن القتال صُرِف عنهم.
١٥٧٣١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم)، أي الغنيمة دون الحرب. (٢)
* * *
وأما قوله: (أنها لكم)، ففتحت على تكرير "يعد"، وذلك أن قوله: (يعدكم الله)، قد عمل في "إحدى الطائفتين".
فتأويل الكلام: (وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين)، يعدكم أن إحدى الطائفتين لكم، كما قال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً). [سورة محمد: ١٨]. (٣)
* * *
(٢) الأثر: ١٥٧٣١ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٢، وهو تابع الأثريين السالفين، رقم: ١٥٧١٣، ١٥٧١٨.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٠٤، وزاد " فأن، في موضع نصب كما نصب الساعة ".
القول في تأويل قوله: ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) ﴾
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يحق الإسلام ويعليه (٢)
= "بكلماته"، يقول: بأمره إياكم، أيها المؤمنون، بقتال الكفار، وأنتم تريدون الغنيمة، والمال (٣) وقوله: (ويقطع دابر الكافرين)، يقول: يريد أن يَجُبَّ أصل الجاحدين توحيدَ الله.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى "دابر"، وأنه المتأخر، وأن معنى: "قطعه"، الإتيان على الجميع منهم. (٤)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧٣١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قول الله: (ويريد الله أن يحق الحق بكلماته)، أن يقتل هؤلاء الذين أراد أن يقطع دابرهم، هذا خيرٌ لكم من العير.
(٢) انظر تفسير " حق " فيما سلف من فهارس اللغة (حقق).
(٣) انظر تفسير " كلمات الله " فيما سلف ١١: ٣٣٥، وفهارس اللغة (كلم).
(٤) انظر تفسير " قطع الدابر " ١١: ٣٦٣، ٣٦٤ ١٢: ٥٢٣، ٥٢٤.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين، كيما يحق الحق، كيما يُعبد الله وحده دون الآلهة والأصنام، ويعزّ الإسلام، وذلك هو "تحقيق الحق"= (ويبطل الباطل)، يقول ويبطل عبادة الآلهة والأوثان والكفر، ولو كره ذلك الذين أجرموا فاكتسبوا المآثم والأوزار من الكفار. (٢)
١٥٧٣٣- حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون)، هم المشركون.
* * *
وقيل: إن "الحق" في هذا الموضع، الله عز وجل.
* * *
(٢) انظر تفسير " المجرم " فيما سلف ص: ٧٠، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ويبطل الباطل"، حين تستغيثون ربكم= ف "إذْ" من صلة "يبطل".
* * *
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وجاءت الرواية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. * ذكر الأخبار بذلك:
١٥٧٣٤- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عكرمة بن عمار قال، حدثني سماك الحنفي قال، سمعت ابن عباس يقول: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر، ونظرَ رَسول الله ﷺ إلى المشركين وعِدّتهم، ونظر إلى أصحابه نَيِّفا على ثلاثمئة، فاستقبل القبلة، فجعل يدعو يقول: "اللهم أنجز لي ما وعدتني! اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض! "، فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه، وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه فوضع رداءه عليه، ثم التزمه من ورائه، (٣) ثم قال: كفاك يا نبي الله، بأبي وأمي، مناشدتَك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك! فأنزل الله: (إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين). (٤)
(٢) انظر تفسير " الإمداد " فيما سلف ١: ٣٠٧، ٣٠٨ ٧: ١٨١.
(٣) " التزمه "، احتضنه أو اعتنقه.
(٤) الأثر: ١٥٧٣٤ - " عكرمة بن عمار اليمامي العجلي "، ثقة، مضى برقم: ٨٤٩، ٢١٨٥، ٨٢٢٤، ١٣٨٣٢.
و" سماك الحنفي "، هو " سماك بن الوليد الحنفي "، " أبو زميل "، ثقة. مضى برقم: ١٣٨٣٢.
وهذا الخبر، رواه مسلم في صحيحه ١٢: ٨٤ - ٨٧، مطولا من طريق هناد بن السري، عن عبد الله بن المبارك، عن عكرمة.
رواه أحمد في مسنده رقم: ٢٠٨، ٢٢١، من طريق أبي نوح قراد، عن عكرمة ابن عمار. مطولا.
وروى بعضه أبو داود في سننه ٣: ٨٢.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير، مختصرًا، من طريق محمد بن بشار، عن عمر بن يونس اليمامي، عن عكرمة، وقال " هذا حديث حسن صحيح غريب، لا نعرفه من حديث عمر، إلا من حديث عكرمة بن عمار، عن أبي زميل ".
ورواه أبو جعفر الطبري في تاريخه، من الطريق نفسها ٢: ٢٨٠.
١٥٧٣٦- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قام النبي ﷺ فقال: اللهم ربنا أنزلت علي الكتاب، وأمرتني بالقتال، ووعدتني بالنصر، ولا تخلف الميعاد! فأتاه جبريلُ عليه السلام، فأنزل الله: (أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزِلِينَ بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)، (١)
[سورة ال عمران: ١٢٤-١٢٥].
١٥٧٣٧- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يُثَيْع قال: كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع رسول الله ﷺ في العريش، فجعل النبي ﷺ يدعو يقول: اللهم انصر هذه العصابة، فإنك إن لم تفعل لن تعبد في الأرض! قال: فقال أبو بكر: بعضَ مناشدتك مُنْجِزَك ما وعدك. (٢)
(٢) الأثر: ١٥٧٣٧ - " أبو إسحاق "، هو الهمداني السبيعي، وكان في المطبوعة " ابن إسحاق " غير ما في المخطوطة، فأساء.
و" زيد بن يثيع الهمداني "، ويقال: "... أثيع " و " أثيل ". آخره لام. روى عن أبي بكر الصديق، وعلي، وحذيفة، وأبي ذر، وعنه أبو إسحاق السبيعي فقط. ذكره ابن حبان في الثقات، مترجم في التهذيب، وابن سعد: ١٥٥، والكبير ٢ ١ ٣٧٣، وابن أبي حاتم ١ ٢ ٥٧٣ في " زيد بن نفيع الهمداني "، وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه، ولكن العجب أنه كان هناك في المطبوعة والمخطوطة، " زيد بن نفيع " أيضًا.
و" يثيع " بالياء والثاء، مصغرًا، هكذا ضبط. وقال ابن دريد في كتاب الاشتقاق: ٢٤٩: "يثيع" "يفعل" من "ثاع، يثيع"، إذا اتسع وانبسط.
١٥٧٣٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (إذ تستغيثون ربكم)، قال: دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
١٥٧٤٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إذ تستغيثون ربكم)، أي: بدعائكم، حين نظروا إلى كثرة عدوهم وقلة عددهم= "فاستجاب لكم"، بدعاء رسول الله ﷺ ودعائكم معه. (١)
١٥٧٤١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح قال: لما كان يوم بدر جعل النبي ﷺ يناشد ربه أشد النِّشدة يدعو، (٢) فأتاه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله، بعض نِشْدَتك، فوالله ليفيَنَّ الله لك بما وعدك!
* * *
وأما قوله: (أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين)، فقد بينا معناه. (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
(٢) " النشدة " (بكسر فسكون) مصدر: " نشدتك الله "، أي سألتك به واستحلفتك.
(٣) انظر ما سلف ص: ٤٠٩.
١٥٧٤٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أحمد بن بشير، عن هارون بن عنترة [عن أبيه]، عن أبيه، عن ابن عباس: (مردفين)، قال: متتابعين. (١)
١٥٧٤٤-.... قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، [عن أبيه]، عن ابن عباس، مثله. (٢)
١٥٧٤٥- حدثني سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا محمد بن الصلت قال، حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (ممدكم بألف من الملائكة مردفين)، قال: وراء كل ملك ملك. (٣)
١٥٧٤٦ - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي كدينة يحيى بن المهلب، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (مردفين)، قال: متتابعين. (٤)
١٥٧٤٧-.... قال، حدثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج بن أرطأة،
و" هارون بن عنترة بن عبد الرحمن "، مضى مرارًا كثيرة آخرها: ١١٠٨٤.
وأبوه " عنترة بن عبد الرحمن "، مضى أيضًا، انظر رقم ١١٠٨٤.
(٢) الأثر: ١٥٧٤٤. زيادة " عن أبيه " بين قوسين، هو ما أرجح أنه الصواب، وأن إسقاطها من الناسخ. انظر الإسناد السالف.
(٣) الأثر: ١٥٧٤٥ - " سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط "، شيخ الطبري، مضى برقم: ٥٩٩٤، ٩٧٤٥.
و" محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي "، مضى برقم: ٣٠٠٢، ٥٩٩٤، ٩٧٤٥.
و" أبو كدينة "، " يحيى بن المهلب البجلي "، مضى برقم: ٤١٩٣، ٥٩٩٤، ٩٧٤٥.
و" قابوس بن أبي ظبيان الجنبي "، مضى برقم: ٩٧٤٥، ١٠٦٨٣.
وأبوه " أبو ظبيان "، هو: " حصين بن جندب الجنبي "، مضى برقم: ٩٧٤٥، ١٠٦٨٣.
(٤) الأثر: ١٥٧٤٦ - انظر رجال الأثر السالف.
١٥٧٤٨-.... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: (مردفين)، قال: بعضهم على إثر بعض.
١٥٧٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
١٥٧٥٠- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (مردفين)، قال: ممدِّين= قال ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: (مردفين)، "الإرداف"، الإمداد بهم.
١٥٧٥١- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (بألف من الملائكة مردفين)، أي متتابعين.
١٥٧٥٢- حدثنا [محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور] قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (بألف من الملائكة مردفين)، يتبع بعضهم بعضًا. (٢)
(٢) الأثر: ١٥٧٥٢ - صدر هذا الإسناد خطأ لا شك فيه. وهو كما وضعته بين القوسين، جاء في المطبوعة. أما المخطوطة، فهو فيها هكذا: " حدثنا محمد بن عبد الله قال، حدثنا محمد ابن ثور قال، حدثنا بن عبد الأعلى قال حدثنا أحمد بن المفضل... "، وهو خلط لا ريب، وهما إسنادان.
فالإسناد الأول، هو: " حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد ثور، عن معمر... "، وهو إسناد دائر في التفسير.
والإسناد الثاني، وهو هذا كما يجب أن يكون:
" حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل... "، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: ١٥٧٣٨.
وظاهر أنه قد سقط تمام إسناد " محمد بن عبد الأعلى ".
١٥٧٥٤- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (بألف من الملائكة مردفين)، يقول: متتابعين، يوم بدر.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة: "مُرْدَفِينَ"، بنصب الدال.
* * *
وقرأه بعض المكيين وعامة قرأة الكوفيين والبصريين: (مُرْدِفِينَ).
* * *
وكان أبو عمرو يقرؤه كذلك، ويقول فيما ذكر عنه: هو من "أردف بعضهم بعضًا".
* * *
وأنكر هذا القول من قول أبي عمرو بعض أهل العلم بكلام العرب وقال: إنما "الإرداف"، أن يحمل الرجل صاحبه خلفه. قال: ولم يسمع هذا في نعت الملائكة يوم بدر.
* * *
واختلف أهل العلم بكلام العرب في معنى ذلك إذا قرئ بفتح الدال أو بكسرها.
فقال بعض البصريين والكوفيين: معنى ذلك إذا قرئ بالكسر: أن الملائكة جاءت يتبع بعضهم بعضًا، على لغة من قال: "أردفته". وقالوا: العرب تقول: "أردفته". و"رَدِفته"، بمعنى "تبعته" و"أتبعته"، واستشهد لصحة قولهم ذلك بما قال الشاعر: (١)
قالوا: فقال الشاعر: "أردفت"، وإنما أراد "ردفت"، جاءت بعدها، لأن الجوزاء تجئ بعد الثريا.
وقالوا معناه إذا قرئ (مردَفين)، أنه مفعول بهم، كأن معناه: بألف من الملائكة يُرْدِف الله بعضهم بعضًا. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك، إذا كسرت الدال: أردفت الملائكة بعضها بعضًا= وإذا قرئ بفتحها: أردف الله المسلمين بهم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ)، بكسر الدال، لإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من تأويلهم، أن معناه: يتبع بعضهم بعضًا، ومتتابعين= ففي إجماعهم على ذلك من التأويل، الدليلُ الواضح على أن الصحيح من القراءة ما اخترنا في ذلك من كسر الدال، بمعنى: أردف بعض الملائكة بعضًا، ومسموع من العرب: "جئت مُرْدِفًا لفلان"، أي: جئت بعده.
وأما قول من قال: معنى ذلك إذا قرئ "مردَفين" بفتح الدال: أن الله أردفَ المسلمين بهم= فقولٌ لا معنى له، إذ الذكر الذي في "مردفين" من الملائكة دون المؤمنين. وإنما معنى الكلام: أن يمدكم بألف من الملائكة يُرْدَف بعضهم ببعض. ثم حذف ذكر الفاعل، وأخرج الخبر غير مسمَّى فاعلُه، فقيل: (مردَفين)، بمعنى: مردَفٌ بعض الملائكة ببعض.
ولو كان الأمر على ما قاله من ذكرنا قوله، وجب أن يكون في "المردفين" ذكر المسلمين، لا ذكر الملائكة. وذلك خلاف ما دلّ عليه ظاهر القرآن.
وسبب هذا الشعر: أن حزيمة بن نهد كان مشئومًا فاسدًا متعرضًا للنساء، فعلق فاطمة بنت يذكر ابن عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار، (وهو أحد القارظين المضروب بهما المثل)، فاجتمع قومه وقومها في مربع، فلما انقضى الربيع، ارتحلت إلى منازلها فقيل له: يا حزيمة: لقد ارتحلت فاطمة! قال: أما إذا كانت حية ففيها أطمع! ثم قال في ذلك:فبلغ ذلك ربيعة، فرصدوه، حتى أخذوه فضربوه. فمكث زمانًا، ثم أن حزيمة قال ليذكر ابن عنزة: أحب أن تخرج حتى نأتي بقرظ. فمرا بقليب فاستقيا، فسقطت الدلو، فنزل يذكر ليخرجها. فلما صار إلى البئر، منعه حزيمة الرشاء، وقال: زوجني فاطمة! فقال: على هذه الحال، اقتسارًا! أخرجني أفعل! قال: لا أخرجك! فتركه حتى مات فيها. فلما رجع وليس هو معه، سأله عنه أهله، فقال: فارقني، فلست أدري أين سلك! فاتهمته ربيعة، وكان بينهم وبين قومه قضاعة في ذلك شر، ولم يتحقق أمر فيؤخذ به، حتى قال حزيمة:
إِذَا الْجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُّرَيَّا | ظَنَنْتُ بِآلِ فَاطِمَةَ الظُّنُونَا |
ظَنَنْتُ بِهَا، وَظَنُّ المرء حُوبٌ | وَإنْ أَوْفَى، وَإِنْ سَكَنَ الحَجُونا |
وَحَالَتْ دُونَ ذَلِكَ مِنْ هُمُومِي | هُمُومٌ تُخْرِيُج الشَّجَنَ الدَّفينَا |
أَرَى ابْنَةَ يَذْكُرٍ ظَعَنَتْ فَحَلَّتْ | جَنُوبَ الْحَزْنِ، يا شَحَطًا مُبِينَا! |
فَتَاةٌ كَأَنَّ رُضَابَ العَبِيرِ | بِفِيهَا، يُعَلُّ بِهِ الزَّنْجَبِيلُ |
قَتَلْتُ أَبَاهَا عَلَى حُبِّهَا، | فَتَبْخَلُ إنْ بَخِلَتْ أوْ تُنِيلُ |
قال أبو بكر بن السراج في معنى بيت الشاهد: " إن الجوزاء تردف الثريا في اشتداد الحر، فتتكبد السماء في آخر الليل، وعند ذلك تنقطع المياه وتجف، فيتفرق الناس في طلب المياه، فتغيب عنه محبوبته، فلا يدري أين مضت، ولا أين نزلت ". وانظر أيضًا شرحه في الأزمنة والأمكنة ٢: ١٣٠، ١٣١.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٠٤، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٤١.
١٥٧٥٥- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال عبد الله بن يزيد: "مُرَدِّفِينَ" و"مُرِدِّفِينَ" و "مُرُدِّفِينَ"، مثقَّل (١) على معنى: "مُرْتَدِفين".
١٥٧٥٦- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال، حدثني عبد العزيز بن عمران عن الزمعي، عن أبي الحويرث، عن محمد بن جبير، عن علي رضي الله عنه قال: نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي ﷺ وفيها أبو بكر رضي الله عنه، ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا فيها. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لم يجعل الله إردافَ الملائكة بعضها بعضًا وتتابعها بالمصير إليكم، أيها المؤمنون، مددًا لكم= "إلا بشرى" لكم، أي: بشارة
(٢) الطبري: ١٥٧٥٦ - " عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن ابن عوف الزهري "، الأعرج، يعرف " بابن أبي ثابت "، كان صاحب نسب وشعر، ولم يكن صاحب حديث، وكان يشتم الناس ويطعن في أحسابهم. قال البخاري " منكر الحديث، لا يكتب حديثه "، وقال ابن أبي حاتم: " منكر الحديث جدًا ". مضى برقم: ٨٠١٢.
و" الزمعي "، هو " موسى بن يعقوب الزمعي القرشي "، ثقة، متكلم فيه مضى برقم: ٩٩٢٣، زكان في المطبوعة هناك " الربعي "، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وهذا صوابه، وهو الذي يروى عن أبي الحويرث.
و" أبو الحويرث " هو: " عبد الرحمن بن معاوية بن الحويرث الأنصاري الزرقي "، ثقة، متكلم فيه حتى قالوا: " لا يحتج بحديثه، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢/٢/٢٨٤، و"محمد بن جبير بن مطعم"، ثقة تابعي مضى برقم: ٩٢٦٩. وهو إسناد ضعيف جداً.
* * *
وروي عن عبد الله بن كثير عن مجاهد في ذلك، ما:-
١٥٧٥٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال، أخبرني ابن كثير: انه سمع مجاهدًا يقول: ما مدّ النبي ﷺ مما ذكر الله غيرُ ألف من الملائكة مردفين، وذكر "الثلاثة" و"الخمسة" بشرى، ما مدُّوا بأكثر من هذه الألف الذي ذكر الله عز وجل في "الأنفال"، وأما "الثلاثة" و"الخمسة"، فكانت بشرَى.
* * *
وقد أتينا على ذلك في "سورة آل عمران"، بما فيه الكفاية. (٤)
(٢) انظر تفسير " الاطمئنان " فيما سلف ٥: ٤٩٢ ٩: ١٦٥ ١١: ٢٢٤.
(٣) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز)، (حكم).
(٤) انظر ما سلف ٧: ١٧٣ - ١٩٢.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ولتطمئن به قلوبكم"، "إذ يغشيكم النعاس"، ويعني بقوله: (يغشيكم النعاس)، يلقي عليكم النعاس (١) = (أمنة) يقول: أمانًا من الله لكم من عدوكم أن يغلبكم، وكذلك النعاس في الحرب أمنة من الله عز وجل.
* * *
١٥٧٥٨- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله قال: النعاس في القتال، أمنةٌ من الله عز وجل، وفي الصلاة من الشيطان. (٢)
١٥٧٥٩ - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري في قوله: "يغشاكم النعاس أمنة منه"، (٣) عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله، بنحوه، قال: قال عبد الله، فذكر مثله.
١٥٧٦٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن عبد الله بنحوه.
* * *
= وتفسير " النعاس " فيما سلف ٧: ٣١٦.
(٢) الأثر: ١٥٧٥٨ - انظر هذا الخبر بإسناد آخر فيما سلف رقم: ٨٠٨٣.
(٣) قوله: " يغشاكم النعاس " قراءة أخرى في الآية، وسأثبتها كما جاءت في المخطوطة بعد.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧٦١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أمنة منه)، أمانًا من الله عز وجل.
١٥٧٦٢ -.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أمنة)، قال: أمنًا من الله.
١٥٧٦٣- حدثني يونس قال، حدثنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قوله: (إذ يغشيكم النعاس أمنة منه)، قال: أنزل الله عز وجل النعاس أمنة من الخوف الذي أصابهم يوم أحد. فقرأ: (ثُمَّ أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا) [سورة ال عمران: ١٥٤].
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: "إذ يغشيكم النعاس أمنة منه"،
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة: " يُغْشِيكُمُ النُّعَاسَ " بضم الياء وتخفيف الشين، ونصب "النعاس"، من: "أغشاهم الله النعاس فهو يغشيهم".
* * *
وقرأته عامة قرأة الكوفيين: (يُغَشِّيكُمُ)، بضم الياء وتشديد الشين، من: "غشّاهم الله النعاس فهو يغشِّيهم".
* * *
وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: "يَغْشَاكُمُ النُّعَاسُ"، بفتح الياء ورفع "النعاس"، بمعنى: "غشيهم النعاس فهو يغشاهم".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب: (إِذْ يُغَشِّيكُمْ)، على ما ذكرت من قراءة الكوفيين، لإجماع جميع القراء على قراءة قوله: (وينزل عليكم من السماء ماء)، بتوجيه ذلك إلى أنه من فعل الله عز وجل، فكذلك الواجب أن يكون كذلك (يغشيكم)، إذ كان قوله: (وينزل)، عطفًا على "يغشي"، ليكون الكلام متسقًا على نحو واحد.
* * *
وأما قوله عز وجل: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به)، فإن ذلك مطرٌ أنزله الله من السماء يوم بدر ليطهر به المؤمنين لصلاتهم، لأنهم كانوا أصبحوا يومئذ مُجْنبِين على غير ماء. فلما أنزل الله عليهم الماء اغتسلوا وتطهروا، وكان الشيطان قد وسوس إليهم بما حزنهم به من إصباحهم مجنبين على غير ماء، فأذهب الله ذلك من قلوبهم بالمطر. فذلك ربطه على قلوبهم، وتقويته أسبابهم، وتثبيته بذلك المطر أقدامهم، لأنهم كانوا التقوا مع عدوهم على رملة ميثثاء، (١) فلبَّدها المطر، حتى صارت الأقدام عليها ثابتة لا تسوخ فيها، توطئةً من الله عز وجل لنبيه عليه السلام وأوليائه، أسبابَ التمكن من عدوهم والظفر بهم.
* * *
وبمثل الذي قلنا تتابعت الأخبار عن [أصحاب] رسول الله ﷺ وغيره من أهل العلم. (٢)
(٢) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، والأخبار الآتية تدل عل صحة ذلك. وكان في المخطوطة أمام هذا السطر حرف (ط) دلالة على الخطأ والشك.
١٥٧٦٤- حدثنا هارون بن إسحاق قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي رضي الله عنه قال: أصابنا من الليل طَشّ من المطر (١) = يعني الليلة التي كانت في صبيحتها وقعة بدر = فانطلقنا تحت الشجر والحَجَف نستظل تحتها من المطر، (٢) وبات رسول الله ﷺ يدعو ربه: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض! " فلما أن طلع الفجر، نادى: "الصلاة عبادَ الله! "، فجاء الناس من تحت الشجر والحجف، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحرض على القتال. (٣)
١٥٧٦٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث وأبو خالد، عن داود، عن سعيد بن المسيب: (ماء ليطهركم به)، قال: طش يوم بدر.
١٥٧٦٦ - حدثني الحسن بن يزيد قال، حدثنا حفص، عن داود، عن سعيد، بنحوه. (٤)
(٢) في المطبوعة: " تحت الشجر "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب جيد.
= و " الحجف " (بفتحتين) جمع " جحفة ". وهي الترس، يكون من الجلود ليس فيه خشب ولا عقب، وهو مثل " الدرقة ".
(٣) الأثر: ١٥٧٦٤ - " هارون بن إسحاق الهمداني "، شيخ الطبري، مضى برقم: ٣٠٠١، ١٠٨٧٣.
و" مصعب بن المقدام الخثمي "، ثقة مضى برقم: ١٢٩١، ٣٠٠١، ١٠٨٧٣، وغيرها.
و" إسرائيل " هو " إسرائيل بن يونس بن إسحاق السبيعي " ثقة حافظ، مضى مرارًا كثيرة.
و" حارثة " هو " حارثة بن مضرب العبدي "، من ثقات التابعين، مضى برقم: ٢٠٥٧، ٨٥٩٧.
وهو خبر صحيح الإسناد، خرجه السيوطي مختصرًا بغير هذا اللفظ، ونسبة إلى ابن جرير، وأبي الشيخ، وابن مردويه. الدر المنثور ٣: ١٧١.
(٤) الأثر: ١٥٧٦٦ - " الحسن بن يزيد "، لم أجد في شيوخ أبي جعفر، وفيمن روى عن حفص بن غياث، من يقال له " الحسن بن يزيد "، وأرجح أنه:
" الحسن بن عرفة بن يزيد العبدي "، شيخ أبي جعفر، نسبه إلى جده، وقد مضى برقم: ٩٣٧٣، ١٢٥٨١.
١٥٧٦٨- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي وسعيد بن المسيب في هذه الآية: (ينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به، ويذهب عنكم رجز الشيطان)، قالا طشٌّ كان يوم بدر، فثبَّت الله به الأقدام.
١٥٧٦٩- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "إذ يغشاكم النعاس أمنة منه" الآية، ذكر لنا أنهم مُطِروا يومئذ حتى سال الوادي ماءً، واقتتلوا على كثيب أعفر، (١) فلبَّده الله بالماء، وشرب المسلمون وتوضأوا وسقوْا، وأذهب الله عنهم وسواس الشيطان.
١٥٧٧٠- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال، نزل النبي ﷺ = يعني: حين سار إلى بدر= والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دَعْصَة، (٢) فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم: تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلُّون مُجْنِبين! فأمطر الله عليهم مطرًا شديدًا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت
(٢) " رملة دعصة "، هكذا جاء في التفسير، في المخطوطة والمطبوعة، وفي ابن كثير، وضبطته بفتح الدال، لأني رجوت أن يكون صفة، كقولهم: " الدعصاء "، وهي أرض سهلة فيها رملة تحمي عليها الشمس، فتكون رمضاؤها أشد من غيرها، قال:
وَالمُسْتَجِيرُ بِعَمْرٍو عِنْدَ كُرْبَتِهِ | كَالمُسْتَجِيرِ مِنَ الدَّعْصَاءِ بِالنَّارِ |
١٥٧٧١ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "إذ يغشاكم النعاس أمنة منه" إلى قوله: (ويثبت به الأقدام)، وذلك أن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير ويقاتلوا عنها، نزلوا على الماء يوم بدر، فغلبوا المؤمنين عليه، فأصاب المؤمنين الظمأ، فجعلوا يصلون مجنبين مُحْدِثين، حتى تعاظم ذلك في صدور أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي، فشرب المسلمون، وملئوا الأسقية، وسقوا الرِّكاب، واغتسلوا من الجنابة، فجعل الله في ذلك طهورًا، وثبت الأقدام. وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رَملة، فبعث الله عليها المطر، فضربها حتى اشتدَّت، وثبتت عليها الأقدام.
١٥٧٧٢ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: بينا رسول الله ﷺ والمسلمون، فسبقهم المشركون إلى ماء بدر فنزلوا عليه، وانصرف أبو سفيان وأصحابه تِلْقاء البحر، فانطلقوا. قال: فنزلوا على أعلى الوادي، ونزل محمد ﷺ في أسفله. فكان الرجل من أصحاب محمد عليه السلام يُجْنِب فلا يقدر على الماء، فصلي جُنُبًا، فألقى الشيطان في قلوبهم فقال: كيف ترجون أن تظهروا عليهم، وأحدكم يقوم إلى الصلاة جنبًا على غير وضوء!، قال: فأرسل الله عليهم المطر، فاغتسلوا وتوضأوا وشربوا، واشتدّت لهم الأرض، وكانت بطحاء تدخل فيها أرجلهم، (٢) فاشتدت لهم من المطر، واشتدُّوا عليها.
(٢) " البطحاء "، تراب لين جرته السيول، وهو " الأبطح "، يكون في مسيل الوادي.
١٥٧٧٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (ماء ليطهركم به)، قال: المطر، أنزله عليهم قبل النعاس= (رجز الشيطان)، قال: وسوسته. قال: فأطفأ بالمطر الغبار، والتبدت به الأرض، (١) وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم.
١٥٧٧٥ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ماء ليطهركم به)، أنزله عليهم قبل النعاس، طبَّق بالمطر الغبار، ولبّد به الأرض، وطابت به أنفسهم، وثبتت به الأقدام.
١٥٧٧٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ماء ليطهركم به)، قال: القطر= (ويذهب عنكم رجز الشيطان)، وساوسه. أطفأ بالمطر الغبار، ولبد به الأرض، (٢) وطابت به أنفسهم، وثبتت به أقدامهم.
١٥٧٧٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
(٢) في المخطوطة: " تطفي بالمطر الغبار، وبدت به الأرض "، وهو محرف، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب.
١٥٧٧٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به)، قال: هذا يوم بدر أنزل عليهم القطر= (وليذهب عنكم رجز الشيطان)، الذي ألقى في قلوبكم: ليس لكم بهؤلاء طاقة! = (وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام).
١٥٧٧٩- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إذ يغشاكم النعاس أمنة منه)، إلى قوله: (ويثبت به الأقدام)، إن المشركين نزلوا بالماء يوم بدر، وغلبوا المسلمين عليه، فأصاب المسلمين الظمأ، وصلوا محدثين مجنبين، فألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزَن، ووسوس فيها: إنكم تزعمون أنكم أولياء الله، وأن محمدًا نبي الله، وقد غلبتم على الماء، وأنتم تصلون محدثين مجنبين! فأمطر الله السماء حتى سال كل واد، فشرب المسلمون وملأوا أسقيتهم، (١) وسقوا دوابهم، واغتسلوا من الجنابة، وثبت الله به الأقدام. وذلك أنهم كان بينهم وبين عدوهم رملة لا تجوزها الدواب، ولا يمشي فيها الماشي إلا بجَهد، فضربها الله بالمطر حتى اشتدت، وثبتت فيها الأقدام.
١٥٧٨٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إذ يغشاكم النعاس أمنة منه"، أي: أنزلت عليكم الأمنة حتى نمتم لا تخافون،= "وينزل عليكم من السماء ماء"، للمطر الذي أصابهم تلك الليلة، (٢) فحبس المشركون أن يسبقوا إلى الماء، وخلَّي سبيل المؤمنين إليه= (ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام)، ليذهب عنهم شك
(٢) في المطبوعة: " ونزل عليكم من السماء المطر الذي أصابهم... "، وفي المخطوطة:
١٥٧٨١- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة، وقيامهم يصلون بغير وضوء، فقال: "إذ يغشيكم النعاسَ أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام"، حتى تشتدون على الرمل، وهو كهيئة الأرض.
١٥٧٨٢- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب= وقال مرة: قرأ= (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهِّركم به)، (٣) فقال سعيد: إنما هي: " وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ". قال: وقال الشعبي: كان ذلك طشًا يوم بدر.
* * *
وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة، أن مجاز قوله: (ويثبت به الأقدام)، ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم، فيثبتون لعدوهم. (٤)
و" استجلدت الأرض "، مما لم تذكره معاجم اللغة، وهو عريق فصيح.
(٢) الأثر: ١٥٧٨٠ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٣، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٧٤٠. وكان في المطبوعة: " الذي سبق "، غير ما كان في المخطوطة، وهو المطابق لما في سيرة ابن هشام، وهو الصواب.
(٣) في المطبوعة كتب " ليطهركم بها "، غير ما في المخطوطة، ولا أدري من أين جاء بها، ولم أجد قراءة كهذه القراءة، بل المعروف أن قراءة عامة القرأة " ليطهركم به " بتشديد الهاء مكسورة، من " طهر " مضعفًا، وأن سعيد بن المسيب، قد انفرد بقراءة " ليطهركم "، كما ضبطتها، بضم الياء، وسكون الطاء وكسر الهاء. من " أطهر "، وهي قراءة شاذة. انظر شواذ القراءات لابن خالويه: ٤٩، وتفسير أبي حيان ٤: ٤٦٨
(٤) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن ١: ٢٤٢.
* * *
وأما قوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم)، أنصركم (٢) = (فثبتوا الذين آمنوا)، يقول: قوُّوا عزمهم، وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين. (٣)
* * *
وقد قيل: إن تثبيت الملائكة المؤمنين، كان حضورهم حربهم معهم.
* * *
وقيل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم.
* * *
وقيل: كان ذلك بأن الملك يأتي الرجلَ من أصحاب النبي ﷺ يقول: سمعت هؤلاء القوم= يعني المشركين= يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن! (٤) فيحدِّث المسلمون بعضهم بعضًا بذلك، فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته.
* * *
وأما ابن إسحاق، فإنه قال بما:-
١٥٧٨٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فثبتوا الذين آمنوا)، أي: فآزروا الذين آمنوا. (٥)
* * *
هذا، وقد أغفل أبو جعفر هنا إفراد تفسير " يذهب عنكم رجز الشيطان " و " وليربط على قلوبكم "
وانظر تفسير " الرجز " فيما سلف: ص: ١٧٩، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٢) انظر تفسير " مع " فيما سلف ٣: ٢١٤ ٥: ٣٥٣.
(٣) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف ٥: ٣٥٤ ٧ ٢٧٢، ٢٧٣، ومادة (ثبت) في فهارس اللغة.
(٤) " الانكشاف "، الانهزام.
(٥) الأثر: ١٥٧٨٣ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٣، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٧٨٠.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: سَأرْعِبُ قلوب الذين كفروا بي، أيها المؤمنون، منكم، وأملأها فرقًا حتى ينهزموا عنكم (١) = "فاضربوا فوق الأعناق".
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فوق الأعناق).
فقال بعضهم: معناه: فاضربوا الأعناق.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧٨٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (فاضربوا فوق الأعناق)، قال: اضربوا الأعناق.
١٥٧٨٥-.... قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أبعث لأعذِّب بعذاب الله، إنما بعثت لضرب الأعناق وشدِّ الوَثَاق.
١٥٧٨٦- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (فاضربوا فوق الأعناق)، يقول: اضربوا الرقاب.
* * *
واحتج قائلو هذه المقالة بأن العرب تقول: "رأيت نفس فلان"، بمعنى: رأيته. قالوا: فكذلك قوله: (فاضربوا فوق الأعناق)، إنما معناه: فاضربوا الأعناق.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك، فاضربوا الرؤوس.
١٥٧٨٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة: (فاضربوا فوق الأعناق)، قال: الرؤوس.
* * *
واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن الذي "فوق الأعناق"، الرؤوس. قالوا: وغير جائز أن تقول: "فوق الأعناق"، فيكون معناه: "الأعناق". قالوا: ولو جاز ذلك، جاز أن يقال (١) "تحت الأعناق"، فيكون معناه: "الأعناق". قالوا: وذلك خلاف المعقول من الخطاب، وقلبٌ لمعاني الكلام. (٢)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فاضربوا على الأعناق، وقالوا: "على" و"فوق" معناهما متقاربان، فجاز أن يوضع أحدهما مكان الآخر. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: أن الله أمر المؤمنين، مُعَلِّمَهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف: أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل. وقوله: (فوق الأعناق)، محتمل أن يكون مرادًا به الرؤوس، ومحتمل أن يكون مرادًا له: من فوق جلدة الأعناق، (٤) فيكون معناه: على الأعناق. وإذا احتمل ذلك، صح قول من قال، معناه: الأعناق. وإذا كان الأمر محتملا ما ذكرنا من التأويل، لم يكن لنا أن نوجِّهه إلى بعض معانيه دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة تدلّ على خصوصه، فالواجب أن يقال: إن الله أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم، أصحابَ نبيه ﷺ الذين شهدوا معه بدرًا.
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " وقلب معاني الكلام "، صواب السياق ما أثبت.
(٣) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٤٢.
(٤) في المطبوعة حذف " من "، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة.
* * *
و"البنان": جمع "بنانة"، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين، ومن ذلك قول الشاعر: (١)
أَلا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنِّي بَنَانَةً وَلاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حاذِرَا (٢)
(٢) مجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٤٢، اللسان (بنن)، ولم أجده في مكان آخر.
وقال أبو عبيدة بعد البيت: " يعني أبا ضب، رجلاً من هذيل، قتل هريم بن مرداس وهو نائم، وكان جاورهم بالربيع ".
وقد روى أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني ١٣: ٦٦ (ساسى)، عن أبي عبيدة أن هريم بن مرداس كان مجاورًا في خزاعة، في جوار رجل منهم يقال له عامر، فقتله رجل من خزاعة يقال له خويلد. فالذي قاله أبو عبيدة هنا مضطرب، وهو زيادة بين قوسين في النسخة المطبوعة، فأخشى أن لا تكون من قول أبي عبيدة.
وأما " أبو ضب " الرجل من هذيل، فهو شاعر معروف من بني لحيان، من هذيل، له شعر في بقية أشعار الهذليين وأخبار، انظر رقم: ١٣، ١٤ من الشعر. وجاء أيضًا في البقية من شعر هذيل ٤٣، ما نصه: " وقال عباس بن مرداس، وأخواله بنو لحيان ": لا تَأْمَنَنْ بالعَادِ والخِلْفِ بَعْدَهَا... جِوَارَ أُناسٍ يَبِتَنُونَ الحَصَائِرَاِ
ذكر " جوارًا " كان في بني لحيان، فأجابه رجل من بني لحيان، يذكر عقوقه أخواله، ويتهدده بالقتل. جَزَى الله عَبَّاسًا عَلَى نَأْي دَارِهِ... عُقُوقًا كَحَرِّ النَّارِ يأتِي المَعَاشِرَا
فَوَاللهِ لَوْلا أَنْ يُقال: ابْنُ أخْتِهِ!... لَفَقَّرْتُهُ، إنِّي أُصِيبُ المَفاقِرَا
فِدًي لأَبِي ضَبٍّ تِلادِي، فإنَّنَا... تَكَلْنَا عَلَيْهِ دَاخِلا ومُجَاهِرَا
وَمَطْعَنَهُ بالسَّيْفِ أحْشَاءَ مالِكٍ... بِما كانَ مَنَّي أوْرَدُوهُ الجَرَائِرَا
فقد ذكر في هذا الشعر " أبا ضب "، ومقتله " مالكا ". لم أقف بعد على " مالك " هذا، ولكني أظن أن شعر عباس هذا، يدخل في خبر مقتل " مالك " الذي قتله " أبو ضب "، لا في خبر مقتل أخيه " هريم بن مرداس "، فذاك خبر معروف رجاله.
وقوله " حاذرا "، أي: مستعدًا حذرًا متيقظًا.
وقال شمر: " الحاذر "، المؤدي الشاك السلاح، وفي شعر العباس بن مرداس ما يشعر بذلك: وَإنِّي حاذِرٌ أَنْمِى سِلاحِي... إلى أَوْصالِ ذَيَّالٍ مَنِيع
وكان في المطبوعة: " قطعت منه بنانة "، فأفسد الشعر إفسادًا، إذ غير الصواب المحض الذي في المخطوطة، متابًعًا خطأ الرواية المحرفة في لسان العرب.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧٨٨- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (واضربوا منهم كل بنان)، قال: كل مفصِل.
١٥٧٨٩ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (واضربوا منهم كل بنان)، قال: المفاصل.
١٥٧٩٠-.... قال: حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (واضربوا منهم كل بنان)، قال: كل مفصل.
١٥٧٩١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة: (واضربوا منهم كل بنان)، قال: الأطراف. ويقال: كل مفصل.
١٥٧٩٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واضربوا منهم كل بنان)، يعني: بالبنان، الأطراف.
١٥٧٩٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (واضربوا منهم كل بنان)، قال: الأطراف.
١٥٧٩٤- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (واضربوا منهم كل بنان)، يعني: الأطراف.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ذلك بأنهم)، هذا الفعل من ضرب هؤلاء الكفرة فوق الأعناق وضرب كل بنان منهم، جزاءٌ لهم بشقاقهم الله ورسوله، وعقاب لهم عليه.
* * *
ومعنى قوله: (شاقوا الله ورسوله)، فارقوا أمرَ الله ورسوله وعصوهما، وأطاعوا أمرَ الشيطان. (١)
* * *
ومعنى قوله: (ومن يشاقق الله ورسوله)، ومن يخالف أمرَ الله وأمر رسوله ففارق طاعتهما (٢) = (فإن الله شديد العقاب)، له. وشدة عقابه له: في الدنيا، إحلالُه به ما كان يحلّ بأعدائه من النقم، وفي الآخرة، الخلودُ في نار جهنم= وحذف "له" من الكلام، لدلالة الكلام عليها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (١٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هذا العقابُ الذي عجلته لكم، أيها الكافرون المشاقون لله ورسوله، في الدنيا، من الضرب فوق الأعناق منكم، وضرب
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: " وفارق "، والسياق يقتضي ما أثبت.
* * *
ولفتح "أن" من قوله: (وأن للكافرين)، من الإعراب وجهان:
أحدهما الرفع، والآخر: النصبُ.
فأما الرفع، فبمعنى: ذلكم فذوقوه، ذلكم وأن للكافرين عذاب النار= بنية تكرير "ذلكم"، كأنه قيل: ذلكم الأمر، وهذا.
وأما النصب: فمن وجهين: أحدهما: ذلكم فذوقوه، واعلموا، أو: وأيقنوا أن للكافرين= فيكون نصبه بنية فعل مضمر، قال الشاعر:
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (٢)
بمعنى: وحاملا رمحًا.
والآخر: بمعنى: ذلكم فذوقوه، وبأن للكافرين عذاب النار= ثم حذفت "الباء"، فنصبت. (٣)
* * *
(٢) مضى البيت مرارًا وتخريجه، انظر آخرها ما سلف ١١: ٥٧٧، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٠٥، ٤٠٦.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله= (إذا لقيتم الذين كفروا) في القتال= (زحفًا)، يقول: متزاحفًا بعضكم إلى بعض= و"التزاحف"، التداني والتقارب (١) = "فلا تولوهم الأدبار"، يقول: فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم، ولكن اثبتوا لهم، فإن الله معكم عليهم (٢) = "ومن يولهم يومئذ دبره"، يقول: ومن يولهم منكم ظهره = (إلا متحرفًا لقتال)، يقول: إلا مستطردًا لقتال عدوه، يطلب عورةً له يمكنه إصابتها فيكرّ عليه = (أو متحيزًا إلى فئة) أو: إلا أن يوليهم ظهره متحيزًا إلى فئة، يقول: صائرًا إلى حَيِّز المؤمنين الذين يفيئون به معهم إليهم لقتالهم، (٣) ويرجعون به معهم إليهم. (٤)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧٩٥- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك: (إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة)، قال: "المتحرف"، المتقدم من أصحابه ليرى غِرَّة من العدوّ فيصيبها. قال، و"المتحيز"، الفارّ إلى
(٢) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى).
= وتفسير " الدبر " فيما سلف ٧: ١٠٩، ١١٠ ١٠: ١٧٠.
(٣) انظر تفسير " فئة " فيما سلف ٩: ٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) في المطبوعة: " يرجعون به معهم إليهم "، وأثبت ما في المخطوطة.
١٥٧٩٦- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة)، أما "المتحرف"، يقول: إلا مستطردًا، يريد العودة= (أو متحيزًا إلى فئة)، قال: "المتحيز"، إلى الإمام وجنده إن هو كرّ فلم يكن له بهم طاقة، ولا يُعذَر الناس وإن كثروا أن يُوَلُّوا عن الإمام.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم)، هل هو خاص في أهل بدر، أم هو في المؤمنين جميعًا؟
فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة، لأنه لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله ﷺ مع عدوه وينهزموا عنه، فأما اليومَ فلهم الانهزام.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٧٩٧- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة في قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: ذاك يوم بدر، ولم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحاز أحدٌ لم ينحز إلا إلي (٢) = قال أبو موسى: يعني: إلى المشركين.
(٢) وقف على قوله: " إلى "، كأنه يشير بيده إلى الفئة الأخرى، والتي فسرها أبو موسى، وهو ابن المثنى، بقوله: يعني: إلى المشركين.
١٥٧٩٩- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن مفضل قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: نزلت في يوم بدر: (ومن يولهم يومئذ دبره).
١٥٨٠٠ - حدثني ابن المثنى، وعلي بن مسلم الطوسي= قال ابن المثنى: حدثني عبد الصمد= وقال علي: حدثنا عبد الصمد= قال، حدثنا شعبة، عن داود، يعني ابن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: يوم بدر= قال أبو موسى: حدثت أن في كتاب غندر هذا الحديث: عن داود، عن الشعبي، عن أبي سعيد.
١٥٨٠١ - حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا علي بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: إنما كان ذلك يوم بدر، لم يكن للمسلمين فئة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما بعد ذلك، فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض. (١)
١٥٨٠٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: هذه نزلت في أهل بدر.
١٥٨٠٣- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال:
و" أبو نضرة " هو " المنذر بن مالك بن قطعة العبدي "، ثقة، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٤٦٦٤.
و" أبو سعيد "، هو أبو سعيد الخدري، صاحب رسول الله.
وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٢٧، من طريق شعبة، عن داود بن أبي هند، بمثله، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
١٥٨٠٤- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد، عن سفيان، عن جويبر، عن الضحاك قال: إنما كان الفرار يوم بدر، ولم يكن لهم ملجأ يلجأون إليه. فأما اليوم، فليس فرارً.
١٥٨٠٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة، ليس الفرار من الزحف من الكبائر.
١٥٨٠٦-.... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة.
١٥٨٠٧-.... قال، حدثنا روح بن عبادة، عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: نزلت في أهل بدر.
١٥٨٠٨- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: ذلكم يوم بدر.
١٥٨٠٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك. عن المبارك بن فضالة، عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: ذلك يوم بدر. فأما اليوم، فإن انحاز إلى فئة أو مصر = أحسبه قال: فلا بأس به.
١٥٨١٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: إنما هذا يوم بدر.
١٥٨١١- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النارَ. قال: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى
١٥٨١٢- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن محمد، أن عمر رحمة الله عليه بلغه قتل أبي عبيدٍ فقال: لو تحيز إليّ! إنْ كنتُ لَفِئَةً! (١)
١٥٨١٣- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن جرير بن حازم قال، حدثني قيس بن سعد قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: (ومن يولهم يومئذ دبره)، قال: هذه منسوخة بالآية التي في الأنفال: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ)، [سورة الأنفال: ٦٦]. قال: وليس لقوم أن يفرُّوا من مثلَيْهم. قال: ونسخت تلك إلا هذه العِدّة. (٢)
١٥٨١٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن
وكان في المطبوعة هنا: " لو تحيز إلى لكنت له فئة "، غير ما في المخطوطة بلا أمانة ولا معرفة.
(٢) الأثر: ١٥٨١٣ - " قيس بن سعد المكي "، ثقة، مضى برقم: ٢٩٤٣، ٩٤١٣، وكان في المخطوطة والمطبوعة: " قيس بن سعيد "، وهو خطأ.
١٥٨١٥-.... قال: ابن المبارك، عن معمر وسفيان الثوري وابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كل مسلم.
* * *
وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزمًا.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨١٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الشرك بالله، والفرار من الزحف، لأن الله عز وجل يقول:
ونزلت عليكم من السماء المطر الذي أصابهم | "، وأثبت ما في سيرة ابن هشام وهو الجيد. |
(ومن يولهم يومئذ دبره | فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير). |
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في هذه الآية بالصواب عندي قولُ من قال: حكمها محكم، وأنها نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين، وأن الله حرّم على المؤمنين إذا لقوا العدو، أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرفٍ القتال، أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتالٍ منهزمًا بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما، فقد استوجب من الله وعيده، إلا أن يتفضل عليه بعفوه.
وإنما قلنا هي محكمة غير منسوخة، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا
* * *
وأما قوله: (فقد باء بغضب من الله)، يقول: فقد رجع بغضب من الله (٢) = (ومأواه جهنم)، يقول: ومصيره الذي يصير إليه في معاده يوم القيامة جهنم (٣) = "وبئس المصير"، يقول: وبئس الموضع الذي يصير إليه ذلك المصير. (٤)
* * *
(٢) انظر تفسير " باء " فيما سلف ١٠: ٢١٦، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " مأوى " فيما سلف ١٠: ٤٨١، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " المصير " فيما سلف ٩: ٢٠٥، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله، ممن شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش: فلم تقتلوا المشركين، أيها المؤمنون، أنتم، ولكن الله قتلهم.
* * *
وأضاف جل ثناؤه قتلهم إلى نفسه، ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين، إذ كان جل ثناؤه هو مسبِّب قتلهم، وعن أمره كان قتالُ المؤمنين إياهم. ففي ذلك أدلُّ الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صُنْعٌ به وَصَلوا إليها.
فيقال للمنكرين ما ذكرنا (١) قد علمتم إضافة الله رَمْيِ نبيه ﷺ المشركين إلى نفسه، بعد وصفه نبيَّه به، وإضافته إليه، وذلك فعلٌ واحد، (٢) كان من الله تسبيبه وتسديده، (٣) ومن رسول الله ﷺ الحذفُ والإرسال، فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة: من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب، ومن الخلق الاكتسابُ بالقُوى؟ فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨١٧- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (فلم تقتلوهم)، لأصحاب محمد ﷺ حين قال هذا: "قتلت"، وهذا: "قتلت"= (وما رميت إذ رميت)، قال لمحمد حين حَصَب الكفار.
١٥٨١٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٥٨١٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر عن
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " ذلك " بغير واو، والكلام لا يستقيم بغيرها.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: " بتسبيبه " وهو خطأ من الناسخ، صوابه ما أثبت بغير باء في أوله، كما يدل عليه السياق.
١٥٨٢٠- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما وقع منها شيء إلا في عين رجل.
١٥٨٢١ - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة قال: لما ورد رسول الله ﷺ بدرًا قال: هذه مصارعهم! ووَجد المشركون النبيَّ ﷺ قد سبقهم إليه ونزل عليه، فلما طلعوا عليه زعموا أن النبي ﷺ قال: "هذه قريش قد جاءت بجَلَبتها وفخرها، تحادُّك وتكذب رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني! ". فلما أقبلوا استقبلهم، فحثا في وجوههم، فهزمهم الله عز وجل. (١)
١٥٨٢٢- حدثنا أحمد بن منصور قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن عمران قال، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر، سمعنا صوتًا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طَسْت، ورمى رسول الله ﷺ تلك الرمية فانهزمنا. (٢)
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه ٢: ٢٦٨ في أثناء خبر طويل، قد مضى بعضه برقم: ١٥٧١٩، وهو من كتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان، رواه أبو جعفر مفرقًا في التاريخ، سأخرجه مجموعًا في تخريج الأثر رقم: ١٦٠٨٣.
وكان في المطبوعة هنا: " قد جاءت بخيلائها وفخرها "، وهو تصرف قبيح. وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ.
و" الجلبة "، هو اختلاط الناس إذ تجمعوا، وصاح بعضهم ببعض يذمره ويستحثه، كالذي يكون في اجتماع الجيوش.
(٢) الأثر: ١٥٨٢٢ - " أحمد بن منصور بن سيار بن المعارك الرمادي "، شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم: ١٠٢٦٠، ١٠٥٢١.
و" يعقوب بن محمد الزهري "، مختلف فيه، وهو صدوق، لكن لا يبالي عمن حدث. مضى برقم: ٢٨٦٧، ٨٠١٢، ١٥٦٥٤، ١٥٧١٤.
و" عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز الزهري "، الأعرج، يعرف بابن أبي ثابت. ضعيف، كان صاحب نسب، لم يكن من أصحاب الحديث. مضى برقم: ٨٠١٢، ١٥٧٥٦.
و" موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهيب بن زمعة الأسدي القرشي "، ثقة، متكلم فيه، وقال أحمد: " لا يعجبني حديثه "، وقال أبو داود: " له مشايخ مجهولون ". مضى برقم: ٩٩٢٣، ١٥٧٥٦.
و" يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي القرشي "، روى عنه ابن أخيه " موسى بن يعقوب ". مترجم في الكبير ٤ ٢ ٣٤٦، وابن أبي حاتم ٤ ٢ ٢٧٦، ولم يذكرا فيه جرحًا.
و" أبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة العدوي "، كان من علماء قريش. ثقة. مترجم في التهذيب، والكني البخاري: ١٣، وابن أبي حاتم ٤ ٢ ٣٤١.
وهذا خبر ضعيف الإسناد، لضعف " عبد العزيز بن عمران الزهري "، وذكره ابن كثير في تفسيره ٤: ٣٢، وقال: " غريب من هذا الوجه "، فقصر في بيان إسناده.
بيد أن الهيثمي ذكره في مجمع الزائد ٦: ٨٤، وقال: " رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وإسناده حسن "، فلعله إسناد غير هذا، فإنه قد ضعف عبد العزيز بن عمران في هذا الباب مرارًا كثيرة.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ١٧٤، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه.
١٥٨٢٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وما رميت إذ رميت)، الآية، ذكر لنا أن نبي الله ﷺ أخذ يوم بدر ثلاثة أحجار ورمى بها وجوه الكفار، فهزموا عند الحجر الثالث.
١٥٨٢٦- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، قال: هذا يوم بدر، أخذ رسول الله ﷺ ثلاث حصيات، فرمى بحصاة في ميمنة القوم، وحصاة في ميسرة القوم، وحصاة بين أظهرهم، وقال: "شاهت الوجوه! "، وانهزموا، فذلك قول الله عز وجل: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى).
١٥٨٢٧- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: رفع رسول الله ﷺ يده يوم بدر فقال: يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا! فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب! فأخذ قبضة من التراب، فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصابَ عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولُّوا مدبرين.
١٥٧٢٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: قال الله عز وجل في رمي رسول الله ﷺ المشركين بالحصباء من يده حين رماهم: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى)، أي: لم يكن ذلك برميتك، لولا الذي جعل الله فيها من نصرك، وما ألقى في صدور عدوك منها حين هزمهم الله. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ١٥٨٢٨ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٣، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٧٨٣. وكان في المطبوعة والمخطوطة، أغفل ذكر " وما رميت إذ رميت "، وأتى ببقية الآية. وكان في المخطوطة " حين هزمهم "، بغير ذكر لفظ الجلالة، فغيرها في المطبوعة فقال: " فهزمتهم ". وأثبت ما في سيرة ابن هشام.
١٥٨٢٩- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري: (وما رميت إذ رميت)، قال: جاء أبي بن خلف الجمحي إلى النبي ﷺ بعظم حائل، فقال: "آلله محيي هذا، يا محمد، وهو رميم؟ "، وهو يفتُّ العظم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يحييه الله، ثم يميتك، ثم يدخلك النار! قال: فلما كان يوما أحد قال: والله لأقتلن محمدًا إذا رأيته! فبلغ ذلك النبي ﷺ فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله.
* * *
وههنا قولان آخران غريبان جدًّا:
أحدهما: قال ابن جرير: حدثني محمد بن عوف الطائي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثنا عبد الرحمن بن جبير: أن رسول الله ﷺ يوم ابن أبي الحقيق بخيبر، دعَا بقوس، فأتِىَ بقوسٍ طويلة، وقال: جيئوني بقوس غيرها. فجاؤوه بقوسٍ كَبْداء، فرمى النبيّ ﷺ الحصن، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق، وهو في فراشه، فأنزل الله " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ".
وهذا غريب، وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير، ولعله اشتبه عليه، أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله، وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدرٍ لا مَحالة، وهذا مما لا يخفي على أئمة العلم، والله أعلم.
والثاني: روى ابن جرير أيضًا، والحاكم في مستدركه، بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيّب والزهري أنهما قالا: أنزلت في رمية النبي ﷺ يوم أُحُدٍ أُبَيَّ بن خلفٍ بالحربة في لأْمَته، فخدشه في تَرْقُوَته، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارًا. حتى كانت وفاتُه بعد أيام قاسى فيها العذاب الأليمَ، موصولا بعذابِ البرزخ، المتصل بعذاب الآخرة.
وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضًا جدًّا، ولعلهما أرادَا أن الآية تتناوله بعمومها، لا أنها نزلت فيه خاصة، كما تقدم، والله أعلم ".
قلت: والخبر الأول منهما، رواه الواحدي في أسباب النزول: ١٧٤ من طريق " صفوان بن عمرو، عن عبد العزيز بن جبير "، وقوله: " عبد العزيز "، خطأ، صوابه ما في تفسير ابن كثير.
ثم إن السيوطي في الدر المنثور ٣: ١٧٥، خرج هذين الخبرين منسوبين إلى ابن جرير أيضًا، وزاد نسبته الأول منهما إلى ابن أبي حاتم. وذكر الثاني وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
ثم زاد السيوطي في الدر المنثور، وهذان الخبران أنقلهما أيضًا بنصهما منه:
الأول: " أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيّب قال: لما كان يوم أُحُد، أخذ أبيُّ بن خلفٍ يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترض رجالٌ من المسلمين لأبيّ بن خلف ليقتلوه. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأخروا! استأخرُوا، فأخذ رسول الله ﷺ حربته في يده فرمى بها أبيّ بن خلف، وكسر ضِلْعًا من أضلاعه، فرجع أبيّ بن خلف إلى أصحابه ثقيلا، فاحتملوه حين وَلَّوا قافلين، فطفقوا يقولون: لا بأس! فقال أبيّ حين قالوا ذلك: والله لو كانت بالناس لقتلتهم! ألم يقلْ: إنِّي أقتلك إن شاء الله؟ فانطلق به أصحابه يَنْعَشونه حتى مات ببعض الطريق، فدفنوه.
قال ابن المسيب: وفي ذلك أنزل الله تعالى: " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى الآية".
الثاني: " وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن الزهري في قوله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى. قال: حيث رمَى أبيَّ بنَ خلف يوم أُحُدٍ بحربته، فهذا كله، يوشك أن يرجح سقوط شيء من أخبار أبي جعفر في هذا الموضع. إلا أن تكون هذه الأخبار ستأتي فيما بعد في غير هذا الموضع. أما فيما سلف، فإن خبر " أبي بن خلف " قد مضى في حديث السدى رقم: ٧٩٤٣ (ج ٧: ٢٥٥)
والخبر الأول رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٢٧، من طريق محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
* * *
وذلك "البلاء الحسن"، رمي الله هؤلاء المشركين، ويعني ب"البلاء الحسن"، النعمة الحسنة الجميلة، وهي ما وصفت وما في معناه. (٣)
١٥٨٣٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال في قوله: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا)، أي ليعرِّف المؤمنين من نعمه عليهم، في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه، وليشكروا بذلك نعمته. (٤)
* * *
وقوله: (إن الله سميع عليم)، يعني: إن الله سميع، أيها المؤمنون، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومناشدته ربه، ومسألته إياه إهلاكَ عدوه وعدوكم، فقيل له: إنْ يَكُ إلا جّحْش! قال: أليسَ قال: أنا أقتلك؟ والله لو قالها لجميع الخلق لماتوا! "
(٢) في المطبوعة: " ويثبت لهم أجور أعمالهم "، وهو لا معنى له، ولم يحسن قراءة المخطوطة، لخطأ في نقطها.
(٣) انظر تفسير " البلاء " فيما سلف ص: ٨٥، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
(٤) الأثر: ١٥٨٣٠ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٣، ٣٢٤، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٨٢٨. وفي السيرة سقط من السياق قوله: " مع كثرة عددهم "، فيصحح هناك.
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (١٨) ﴾
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ذلكم)، هذا الفعل من قتل المشركين ورميهم حتى انهزموا، وابتلاء المؤمنين البلاء الحسن بالظفر بهم، وإمكانهم من قتلهم وأسرهم= فعلنا الذي فعلنا= (وأنّ الله موهن كيد الكافرين)، يقول: واعلموا أن الله مع ذلك مُضْعِف (٢) = "كيد الكافرين"، يعنى: مكرهم، (٣) حتى يَذِلُّوا وينقادوا للحق، أو يُهْلَكوا. (٤)
* * *
وفى فتح "أن" من الوجوه ما في قوله: (ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ)، [سورة الأنفال: ١٤]، وقد بينته هنالك. (٥)
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: (موهن).
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والبصريين: "مُوَهِّنُ" بالتشديد، من: "وهَّنت الشيء"، ضعَّفته.
* * *
(٢) انظر تفسير " الوهن " فيما سلف ٧: ٢٣٤، ٢٦٩ ٩: ١٧٠.
(٣) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف ص: ٣٢٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٤) في المخطوطة: " ويهلكوا "، وصواب السياق ما أثبت.
(٥) انظر ما سلف ص: ٤٣٤.
* * *
قال أبو جعفر: والتشديد في ذلك أعجبُ إليّ، لأن الله تعالى كان ينقض ما يبرمه المشركون لرسول الله ﷺ وأصحابه، عقدًا بعد عَقْدٍ، وشيئًا بعد شيء، وإن كان الآخرُ وجهًا صحيحًا.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله ﷺ ببدر: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، يعني: إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم، وأظلم الفئتين، وتستنصروه عليه، فقد جاءكم حكم الله، ونصرُه المظلوم على الظالم، والمحق على المبطل. (١)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨٣١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
١٥٨٣٣- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، يعني بذلك المشركين: إن تستنصروا فقد جاءكم المدد.
١٥٨٣٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن ابن عباس قوله: (إن تستفتحوا)، قال: إن تستقضوا القضاء= وإنه كان يقول: (وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا)، قلت: للمشركين؟ قال: لا نعلمه إلا ذلك (١)
١٥٨٣٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، قال: كفار قريش في قولهم: "ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه"! ففُتح بينهم يوم بدر.
١٥٨٣٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
١٥٨٣٧- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، قال: استفتح أبو جهل فقال: اللهم = يعني محمدًا ونفسه = "أيُّنا كان أفجرَ لك، اللهم وأقطعَ للرحم، فأحِنْه اليوم"! (٢) قال الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح).
١٥٨٣٨ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، قال: استفتح
(٢) يقال: " أحانه الله "، أهلكه. و " الحين " (بفتح فسكون) : الهلاك، أو هو أجل الهلاك على التحقيق.
١٥٨٣٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثنى عقيل، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير العدوي، حليف بني زهرة، أن المستفتح يومئذ أبو جهل، وأنه قال حين التقى القوم: "أينا أقطعُ للرحم، وآتانا بما لا يُعرف، فأحِنْه الغداة"! فكان ذلك استفتاحه، فأنزل الله في ذلك: (إن إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، الآية. (١)
١٥٨٤٠- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، الآية، يقول: قد كانت بدرٌ قضاءً وعِبْرةً لمن اعتبر.
وهذا الخبر سيأتي من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، برقم: ١٥٨٤٦، ١٥٨٤٨، ومن طريق صالح بن كيسان، عن الزهري، رقم: ١٥٨٤٧.
ورواه أحمد في مسنده ٥: ٤٣١، ٤ من طريق يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق، عن الزهري، وص: ٤٣١، ٤٣٢، من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن الزهري.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٢٨ من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري = ثم من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
وهذا الإسناد الثاني الذي ذكره الحاكم، لم أجده في المسند، و " إبراهيم بن سعد " يروي عن " صالح بن كيسان "، وعن " الزهري "، عن " ابن إسحاق ".
١٥٨٤٢- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) إلى قوله: (وأن الله مع المؤمنين)، وذلك حين خرج المشركون ينظرون عِيرَهم، وإن أهلَ العير، أبا سفيان وأصحابه، أرسلوا إلى المشركين بمكة يستنصرونهم، فقال أبو جهل: "أينا كان خيرًا عندك فانصره"! وهو قوله: (إن تستفتحوا)، يقول: تستنصروا.
١٥٨٤٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، قال: إن تستفتحوا العذاب، فعُذِّبوا يوم بدر. قال: وكان استفتاحهم بمكة، قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، [سورة الأنفال: ٣٢]. قال: فجاءهم العذاب يوم بدر. وأخبر عن يوم أحد: (وإن تعودوا نعد ولن نغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين).
١٥٨٤٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عطية قال: قال أبو جهل يوم بدر: "اللهم انصر أهدى الفئتين، وخير الفئتين وأفضل" فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح).
١٥٨٤٥ -.... قال، حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري: أن أبا جهل هو الذي استفتح يوم بدر وقال: "اللهم أينا كان أفجر وأقطع لرحمه، فأحِنْه اليوم"! فأنزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح).
١٥٨٤٦ -.... قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق،
١٥٨٤٧ -.... قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: كان المستفتح يوم بدر أبا جهل، قال: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة! "، فأنزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح). (٢)
١٥٨٤٨ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، حليف بني زهرة قال: لما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة! "، فكان هو المستفتح على نفسه= (٣) قال ابن إسحاق: فقال الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، لقول أبي جهل: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه للغداة! " قال: "الاستفتاح"، الإنصاف في الدعاء. (٤)
١٥٨٤٩- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن يزيد بن رومان وغيره: قال أبو جهل يوم بدر: "اللهم انصر أحب الدينين إليك، دينَنا العتيق، أم دينهم الحديث"! فأنزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح)، إلى قوله: (وأن الله مع المؤمنين).
* * *
(٢) الأثر: ١٥٨٤٧ - انظر تخريج الآثار السالفة، والذي سيليه.
(٣) قول: " على نفسه "، ليست في سيرة ابن هشام ٢: ٢٨٠. وانظر تخريج الخبر، بعد.
(٤) الأثر: ١٥٨٤٨ - هما خبران، أولهما إلى قوله: " المستفتح على نفسه "، رواه ابن هشام في سيرته ٢: ٢٨٠، وسائر الخبر، رواه في سيرته ٢: ٣٢٤، وهو تابع الأثر: ١٥٨٣٠.
وانظر تخريج الأثر رقم: ١٥٨٣٩.
* * *
وقوله: (ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت)، يقول: وإن تعودوا نعد لهلاككم بأيدي أوليائي وهزيمتكم، ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسَبْيكم وهزمكم (٢) " فئتكم شيئًا ولو كثرت"، يعني: جندهم وجماعتهم من المشركين، (٣) كما لم يغنوا عنهم يوم بدر مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئًا= (وأن الله مع المؤمنين)، يقول جل ذكره: وأن الله مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم، ينصرهم عليهم، أو يظهرهم كما أظهرهم يوم بدر على المشركين. (٤)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨٥٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله: (وإن تنتهوا فهو خير لكم)، قال: يقول لقريش= "وإن تعودوا نعد"، لمثل الواقعة التي أصابتكم يوم بدر= (ولئن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين)، أي: وإن كثر عددكم في أنفسكم لن يغني عنكم شيئًا. وإني مع المؤمنين، أنصرهم على من خالفهم. (٥)
* * *
(٢) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف ٧: ١٣٣.
(٣) انظر تفسير " فئة " فيما سلف ص: ٤٣٥، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " مع " فيما سلف ص: ٤٢٨، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٥) الأثر: ١٥٨٥٠ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٤، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٨٤٨، في القسم الثاني منه.
وكان في المطبوعة و " إن الله مع المؤمنين ينصرهم "، وفي المخطوطة مثله إلا أن فيها " أنصرهم "، وأثبت نص ما في سيرة ابن هشام، والذي في المخطوطة بعضه سهو من الناسخ وعجلة.
وهذا القول لا معنى له، لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه عليه السلام حين أذن له في حرب أعدائه إظهارَ دينه وإعلاءَ كلمته، من قبل أن يستفتح أبو جهل وحزبه، فلا وجه لأن يقال والأمر كذلك: "إن تنتهوا عن الاستفتاح فهو خير لكم، وإن تعودوا نعد"، لأن الله قد كان وعد نبيه ﷺ الفتح بقوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ)، [سورة الحج: ٣٩]، استفتح المشركون أو لم يستفتحوا.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨٥١- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن تعودوا نعد)، إن تستفتحوا الثانية نفتح لمحمد ﷺ = (ولن نغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين)، محمد وأصحابه.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (وإن الله مع المؤمنين).
ففتحها عامة قرأة أهل المدينة بمعنى: ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وإن الله لمع المؤمنين= (١) فعطف ب"أن" على موضع "ولو كثرت"، كأنه قال: لكثرتها، ولأن الله مع المؤمنين. ويكون موضع "أن" حينئذ نصبًا على هذا القول. (٢)
* * *
وكان بعض أهل العربية يزعم أن فتحها إذا فتحت، على: (وأنّ الله موهن كيد الكافرين)، (وأن الله مع المؤمنين)، عطفًا بالأخرى على الأولى.
* * *
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٠٧.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من كسر "إن" للابتداء، لتقضِّي الخبر قبل ذلك عما يقتضي قوله: (وأن الله مع المؤمنين). (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله= (أطيعوا الله ورسوله)، فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه= (ولا تولوا عنه)، يقول: ولا تدبروا عن رسول الله ﷺ مخالفين أمره ونهيه (٢) = "وأنتم تسمعون" أمرَه إياكم ونهيه، وأنتم به مؤمنون، كما:-
١٥٨٥٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا وأنتم تسمعون)، أي: لا تخالفوا أمره، وأنتم تسمعون لقوله، وتزعمون أنكم منه. (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فارس اللغة (ولي).
(٣) الأثر: ١٥٨٥٢ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٤، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٨٥٠.
وكان في المطبوعة هنا " وتزعمون أنكم مؤمنون "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو المطابق لما في سيرة ابن هشام.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا، أيها المؤمنون، في مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالمشركين الذين إذا سمعوا كتاب الله يتلى عليهم قالوا: "قد سمعنا"، بآذاننا= "وهم لا يسمعون"، يقول: وهم لا يعتبرون ما يسمعون بآذانهم ولا ينتفعون به، لإعراضهم عنه، وتركهم أن يُوعُوه قلوبهم ويتدبروه. فجعلهم الله، إذ لم ينتفعوا بمواعظ القرآن وإن كانوا قد سمعوها بأذانهم، (١) بمنزلة من لم يسمعها. يقول جل ثناؤه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا أنتم في الإعراض عن أمر رسول الله، وترك الانتهاء إليه وأنتم تسمعونه بآذانكم، كهؤلاء المشركين الذين يسمعون مواعظ كتاب الله بآذانهم، ويقولون: "قد سمعنا"، وهم عن الاستماع لها والاتعاظ بها معرضون كمن لا يسمَعُها. (٢)
* * *
وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما:-
١٥٨٥٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)، أي: كالمنافقين الذين يظهرون له الطاعة، ويُسِرُّون المعصية. (٣)
١٥٨٥٤- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(٢) في المخطوطة: " وهم لاستعمالها والاتعاظ بها "، والصواب ما في المطبوعة، وإنما هو إسقاط من الناسخ في كتابته. وكان في المطبوعة: " كمن لم يسمعها "، وأثبت ما في المخطوطة.
(٣) الأثر: ١٥٨٥٣ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٤، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٨٥٢.
١٥٨٥٥- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وللذي قال ابن إسحاق وجه، ولكن قوله: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون)، في سياق قَصَص المشركين، ويتلوه الخبر عنهم بذمّهم، وهو قوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ)، فلأن يكون ما بينهما خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنّ شر ما دبَّ على الأرض من خلق الله عند الله، (١) الذين يصمون عن الحق لئلا يستمعوه، (٢) فيعتبروا به ويتعظوا به، وينكُصون عنه إن نطقوا به، (٣) الذين لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، فيستعملوا بهما أبدانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
(٢) انظر تفسير " الصمم " ١: ٣٢٨ - ٣٣١ ٣: ٣١٥ ١٠: ٤٧٨ ١١: ٣٥٠.
(٣) انظر تفسير " البكم " فيما سلف ١: ٣٢٨ - ٣٣١ ٣: ٣١٥ ١١: ٣٥٠.
١٥٨٥٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عكرمة قال: وكانوا يقولون: "إنا صم بكم عما يدعو إليه محمد، لا نسمعه منه، ولا نجيبه به بتصديق! " فقتلوا جميعًا بأحد، وكانوا أصحاب اللواء.
١٥٨٥٨- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "الصم البكم الذين لا يعقلون"، قال: الذين لا يتّبعون الحق.
١٥٨٥٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن شر الدوابّ عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)، وليس بالأصم في الدنيا ولا بالأبكم، ولكن صمّ القلوب وبُكمها وعُميها! وقرأ: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج: ٤٦].
* * *
واختلف فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عُني بها نفرٌ من المشركين.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨٦٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، قال ابن عباس: "الصم البكم الذين لا يعقلون"، نفرٌ من بني عبد الدار، لا يتبعون الحق.
١٥٨٦١ -.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (الصم البكم الذين لا ينقلون)، قال: لا يتبعون الحق= قال، قال ابن عباس: هم نَفرٌ من بني عبد الدار.
١٥٨٦١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
* * *
وقال آخرون: عُني بها المنافقون.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨٦٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إن شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون)، [أي المنافقون الذين نهيتكم أن تكونوا مثلهم، بُكمٌ عن الخير، صم عن الحق، لا يعقلون]، لا يعرفون ما عليهم في ذلك من النقمة والتِّباعة. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال بقول ابن عباس: وأنه عُني بهذه الآية مشركو قريش، لأنها في سياق الخبر عنهم.
* * *
أما الجملة التي أثبتها الناسخ، وهي الخارجة عن القوسين. فكانت في المخطوطة: "... من النعمة والساعة "، الأولى خطأ، وصوابها ما أثبت.
فجاء الناشر، ولم يفهم معنى الكلام، فجعله هكذا: "... من النعمة والسعة "، فصار خلطًا لا خير فيه، ولا معنى له. ورددته إلى الصواب والحمد لله.
و" التباعة "، (بكسر التاء)، مثل " التبعة " (بفتح التاء وكسر الباء) : ما فيه إثم يتبع به صاحبه. يقال: " ما عليه من الله في هذا تبعة ولا تباعة "، أي: مطالبة يطلب بإثمها.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، وفي معناها.
فقال بعضهم: عني بها المشركون. وقال: معناه: أنهم لو رزقهم الله الفهم لما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، لم يؤمنوا به، لأن الله قد حكم عليهم أنهم لا يؤمنون.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨٦٣- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو اسمعهم)، لقالوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا)، [سورة يونس: ١٥]، ولقالوا: (لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا) [سورة الأعراف: ٢٠٣]، ولو جاءهم بقرآن غيره= (لتولوا وهم معرضون).
١٥٨٦٤- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون)، قال: لو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم، ما انتفعوا بذلك، ولتولوا وهم معرضون.
١٥٨٦٥ - وحدثني به مرة أخرى فقال: "لو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم"، بعد أن يعلم أن لا خير فيهم، ما نفعهم بعد أن نفذ علمه بأنهم لا ينتفعون به.
* * *
وقال آخرون: بل عني بها المنافقون. قالوا: ومعناه ما:-
١٥٨٦٦- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم)، لأنفذ لهم قولهم الذي قالوه بألسنتهم، (١) ولكن
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القول في تأويل ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن جريج وابن زيد، لما قد ذكرنا قبل من العلة، وأن ذلك ليس من صفة المنافقين. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرًا، لأسمعهم مواعظ القرآن وعِبَره، حتى يعقلوا عن الله عز وجل حججه منه، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم، وأنهم ممن كتب لهم الشقاء فهم لا يؤمنون. ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا، لتولوا عن الله وعن رسوله، (٤) وهم معرضون عن الإيمان بما دلَّهم على صحته مواعظُ الله وعبره وحججه، (٥) معاندون للحق بعد العلم به. (٦)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم).
فقال بعضهم: معناه: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للإيمان.
(٢) الأثر: ١٥٨٦٦ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٤، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٨٦٢.
(٣) انظر ص: ٤٦١.
(٤) انظر تفسير " التولي " فيما سلف ١٢: ٥٧١، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٥) في المطبوعة: "... دلهم على حقيقة "، وفي المخطوطة: "... دلهم على حجته "، وهذا صواب قراءتها.
(٦) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف ص: ٣٣٢ تعليق: ١، والمراجع هناك.
١٥٨٦٧- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، قال: أمّا "ما يحييكم"، (١) فهو الإسلام، أحياهم بعد موتهم، بعد كفرهم.
* * *
وقال آخرون: للحق.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨٦٨- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد في قول الله: (لما يحييكم)، قال: الحق.
١٥٨٦٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٥٨٧٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم)، قال: الحق.
١٥٨٧١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، قال: للحق.
* * *
وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى ما في القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨٧٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
* * *
وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨٧٣- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، أي: للحرب الذي أعزكم الله بها بعد الذل، وقوّاكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معناه: استجيبوا لله وللرسول بالطاعة، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق. وذلك أن ذلك إذا كان معناه، كان داخلا فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد، والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن، وفي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب. أما في الدنيا، فبقاء الذكر الجميل، (٣) وذلك له فيه حياة. وأما في الآخرة، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها. (٤)
* * *
وأما قول من قال: معناه الإسلام، فقول لا معنى له. لأن الله قد وصفهم بالإيمان بقوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)، فلا وجه لأن يقال للمؤمن: استجب لله وللرسول إذا دعا إلى الإسلام والإيمان. (٥)
* * *
(٢) الأثر: ١٥٨٧٣ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٤، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٨٦٦.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: " فيقال الذكر الجميل "، وهو لا معنى له. صوابه ما أثبت.
(٤) انظر تفسير " الاستجابة " فيما سلف ص: ٤٠٩، تعليق ١، والمراجع هناك.
(٥) في المطبوعة: " إذا دعاك "، وأثبت ما في المخطوطة.
١٥٨٧٤- حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا روح بن القاسم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله ﷺ على أبيٍّ وهو يصلي، فدعاه: أيْ أُبَيّّ! فالتفت إليه أبيّ ولم يجبه. ثم إن أبيًّا خفف الصلاة، ثم انصرف إلى النبي ﷺ فقال: السلام عليك، أي رسول الله! قال: وعليك، ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله، كنت أصلي! قال: أفلم تجد فيما أوحي إليّ: "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم"؟ قال: بلى، يا رسول الله! لا أعود. (١)
" أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: ١٢٨٦١.
و" يزيد بن زريع العيشي "، ثقة حافظ مضى مرارًا. برقم: ١٧٦٩، ٢٥٣٣، ٥٤٢٩، ٥٤٣٨، غيرها.
و" روح بن القاسم التميمي الطبري "، ثقة، مضى برقم ٦٦١٣.
و" العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة "، تابعي ثقة، مضى برقم: ٢٢١، ١٤٢١٠.
وأبوه: " عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة "، تابعي ثقة. مضى برقم: ١٤٢١٠.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده ٢: ٤١٢، ٤١٣، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم، عن العلاء بن عبد الرحمن. عن أبيه، بنحوه، مطولا.
ورواه الترمذي في " فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل الفاتحة "، من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن العلاء، بنحوه مطولا، وقال: " هذا حديث حسن صحيح". وفي الباب عن أنس بن مالك ".
وخرجه ابن كثير في تفسيره ١: ٢٢، ٢٣.
ثم انظر حديث البخاري (الفتح ٨: ١١٩، ٢٣١)، وهو حديث أبي سعيد بن المعلى، بنحو هذه القصة عن أبي بن كعب. وقد فصل الحافظ ابن حجر هناك الكلام فيه، وخرج حديث أبي بن كعب. وانظر أيضًا الموطأ: ٨٣، خبر مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب: أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز، أخبره: " أن رسول الله ﷺ نادى أبي بن كعب وهو يصلي... " بغير هذا السياق، وما قاله فيه الحافظ ابن حجر، وابن كثير في تفسيره، حيث أشرنا إلى موضعه.
* * *
=ما يُبِين عن أن المعنيَّ بالآية، هم الذين يدعوهم رسول الله ﷺ إلى ما فيه حياتهم بإجابتهم إليه من الحق بعد إسلامهم، لأن أبَيًّا لا شك أنه كان مسلمًا في الوقت الذي قال له النبي ﷺ ما ذكرنا في هذين الخبرين.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: يحول بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكفر.
* ذكر من قال ذلك:
(٢) الأثر: ١٥٨٧٥ - إسناد آخر للخبر السالف. وقد خرجته هناك.
" خالد بن مخلد القطواني "، ثقة من شيوخ البخاري، وأخرج له مسلم " مضى مرارًا، برقم: ٢٢٠٦، ٤٥٧٧، ٨١٦٦، ٨٣٩٧، وغيرها.
و" محمد بن جعفر بن أبي كثير الزرقي "، ثقة معروف، مضى برقم: ٢٢٠٦، ٨٣٩٧.
١٥٨٧٧ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد= قالا حدثنا سفيان= وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا الثوري، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير، بنحوه.
١٥٨٧٨ - حدثني أبو زائدة زكريا بن أبي زائدة قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، مثله.
١٥٨٧٩ - حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن المنهال، عن سعيد بن جبير: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان.
١٥٨٨٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (يحول بين المرء وقلبه)، يحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله.
١٥٨٨١ -.... قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان.
١٥٨٨٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، وعبد العزيز بن أبي رواد، عن الضحاك في قوله: (يحول بين المرء
وهو غير " أبي جعفر الرازي التميمي "، " عيسى بن ماهان ".
١٥٨٨٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبى روق، عن الضحاك بن مزاحم، بنحوه.
١٥٨٨٤ -.... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: يحول بين المرء وبين أن يكفر، (١) وبين الكافر وبين أن يؤمن.
١٥٨٨٥ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن الضحاك بن مزاحم: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين الكافر وبين طاعة الله، وبين المؤمن ومعصية الله.
١٥٨٨٦ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا بن أبي رواد، عن الضحاك، نحوه.
١٥٨٨٧ - وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر نحوه.
١٥٨٨٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن منهال قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عبد العزيز بن أبي رواد يحدث، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين المؤمن ومعصيته.
١٥٨٨٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)، يقول: يحول بين المؤمن وبين الكفر، ويحول بين الكافر وبين الإيمان.
١٥٨٩٠ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته، ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
١٥٨٩٢ -.... قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي رواد، عن الضحاك: (يحول بين المرء وقلبه)، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته، وبين المؤمن وبين معصيته.
١٥٨٩٣ -.... قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: (يحول بين المرء وقلبه)، يحول بين المؤمن والمعاصي، وبين الكافر والإيمان.
١٥٨٩٤-.... قال، حدثنا عبيدة، عن إسماعيل، عن أبي صالح: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بينه وبين المعاصي.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يحول بين المرء وعقله، فلا يدري ما يَعمل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٨٩٥- حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين المرء وعقله.
١٥٨٩٦ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه)، حتى تركه لا يعقل.
١٥٨٩٧ - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٥٨٩٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (يحول بين المرء وقلبه)، قال:
١٥٨٩٩ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن حميد، عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: إذا حال بينك وبين قلبك، كيف تعمل.
١٥٩٠٠ - قال: حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين قلب الكافر، وأن يعمل خيرًا.
* * *
وقال آخرون: معناه: يحول بين المرء وقلبه، أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٩٠١- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)، قال: يحول بين الإنسان وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه قريب من قلبه، لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٩٠٢- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله: (يحول بين المرء وقلبه)، قال: هي كقوله: (أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)، [سورة ق: ١٦].
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال: إن ذلك
وإذا كان ذلك معناه، دخل في ذلك قول من قال: "يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان"، وقول من قال: "يحول بينه وبين عقله"، وقول من قال: "يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه"، لأن الله عز وجل إذا حال بين عبد وقلبه، لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه وبينه ما مُنِع إدراكه به على ما بيَّنتُ.
غير أنه ينبغي أن يقال: إن الله عم بقوله: (ولعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه)، الخبرَ عن أنه يحول بين العبد وقلبه، ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئًا دون شيء، والكلام محتمل كل هذه المعاني، فالخبر على العموم حتى يخصه ما يجب التسليم له.
* * *
وأما قوله: (وأنه إليه تحشرون)، فإن معناه: واعلموا، أيها المؤمنون، أيضًا، مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه: أنّ الله الذي يقدر على قلوبكم، وهو أملك بها منكم، إليه مصيركم ومرجعكم في القيامة، (٢) فيوفّيكم جزاء أعمالكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، فاتقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تضيعوه، وأن لا تستجيبوا لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم، فيوجب ذلك سَخَطَه، وتستحقوا به أليم عذابه حين تحشرون إليه.
* * *
(٢) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ص ٢٣، تعليق: ١، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: "اتقوا"، أيها المؤمنون= "فتنة"، يقول: اختبارًا من الله يختبركم، وبلاء يبتليكم (١) = "لا تصيبن"، هذه الفتنة التي حذرتكموها (٢) "الذين ظلموا"، وهم الذين فعلوا ما ليس لهم فعله، إما إجْرام أصابوها، وذنوب بينهم وبين الله ركبوها. يحذرهم جل ثناؤه أن يركبوا له معصية، أو يأتوا مأثمًا يستحقون بذلك منه عقوبة. (٣)
* * *
وقيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين عُنوا بها.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٩٠٣- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن إبراهيم قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن الحسن في قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال: نزلت في علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، رحمة الله عليهم.
١٥٩٠٤- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة)، قال قتادة: قال الزبير بن العوام: لقد نزلت وما نرى أحدًا منا يقع بها. ثم خُلِّفْنا في إصابتنا خاصة. (٤)
(٢) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف ٢: ٩٦، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " الخصوص " فيما سلف ٢: ٤٧١ ٦: ٥١٧.
(٤) في المطبوعة: " ثم خصتنا في إصابتنا خاصة "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو فيها غير منقوط، وظننت أن صواب نقطها ما أثبت. يعني: أنهم بقوا بعد الذين مضوا، فإذا هي في إصابتهم خاصة.
١٥٩٠٦ -.... قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن الصلت بن دينار، عن ابن صبهان قال: سمعت الزبير بن العوام يقول: قرأت هذه الآية زمانًا، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها: (واتقوا فتنه لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب). (٢)
١٥٩٠٧- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصه)، قال: هذه نزلت في أهل بدر خاصة، وأصابتهم يوم الجمل، فاقتتلوا.
١٥٩٠٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن السدي: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب)، قال: أصحاب الجمل.
١٥٩٠٩- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منعم خاصة)، قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقرُّوا المنكر بين أظهرهم، فيعمَّهم الله بالعذاب.
(٢) الأثر: ١٥٩٠٦ - " الصلت بن دينار الأزدي " " أبو شعيب "، " المجنون ". متروك لا يحتج بحديثه. مترجم في التهذيب. والكبير ٢ / ٢ / ٣٠٥، وابن أبي حاتم ٢ / ١ / ٤٣٧. وميزان الاعتدال ١: ٤٦٨.
وابن صهبان" هو "عقبة بن صهبان الحداني الأزدي " تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ١١٣/ ٣١٢، ولم أجدهم ذكروا له رواية عن الزبير بن العوام، ولكنه روى عن عثمان، وعياض بن حمار، وعبد الله بن مغفل، وأبي بكرة الثقفي وعائشة.
١٥٩١١- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (واتقوا فتنه لا تصيبن الذين ظلموا منعم خاصة)، قال: "الفتنة"، الضلالة.
١٥٩١٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم قال: قال عبد الله: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، إن الله يقول: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [سورة الأنفال: ٢٨]، فليستعذ بالله من مُضِلات الفتن. (١)
١٥٩١٣- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن قال: قال الزبير: لقد خُوِّفنا بها= يعني قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).
* * *
واختلف أهل العربية في تأويل ذلك.
فقال بعض نحويي البصرة: (اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا)، قوله: "لا تصيبن"، ليس بجواب، ولكنه نهي بعد أمر، ولو كان جوابًا ما دخلت "النون".
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا)، أمرهم ثم نهاهم. وفيه طرَفٌ من الجزاء، (٢) وإن كان نهيًا. قال: ومثله قوله:
(٢) في المطبوعة: " ومنكم ظرف من الجزاء "، فجاء الناشر بكلام غث لا معنى له وفي المخطوطة: " ومنه طرف "، وصواب قراءته ما أثبت، مطابقًا لما في معاني القرآن للفراء.
وكأن معنى الكلام عنده: اتقوا فتنة، إن لم تتقوها أصابتكم.
* * *
وأما قوله: (واعلموا أن الله شديد العقاب)، فإنه تحذير من الله، ووعيد لمن واقع الفتنة التي حذره إياها بقوله: (واتقوا فتنة)، يقول: اعلموا، أيها المؤمنون، أن ربكم شديد عقابه لمن افتُتن بظلم نفسه، وخالف أمره، فأثم به. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير " شديد العقاب " فيما سلف من فهارس اللغة (شدد)، (عقب).
قال أبو جعفر: وهذا تذكيرٌ من الله عز وجل أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناصحة. يقول: أطيعوا الله ورسوله، أيها المؤمنون، واستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم، ولا تخالفوا أمرَه وإن أمركم بما فيه عليكم المشقة والشدة، فإن الله يهوِّنه عليكم بطاعتكم إياه، ويعجِّل لكم منه ما تحبون، كما فعل بكم إذ آمنتم به واتبعتموه وأنتم قليلٌ يستضعفكم الكفار فيفتنونكم عن دينكم، (١) وينالونكم بالمكروه في أنفسكم وأعراضكم، (٢) تخافون منهم أن يتخطفوكم فيقتلوكم ويصطلموا
(٢) انظر تفسير " المستضعف " فيما سلف ١٢: ٥٤٢ ١٣: ٧٦، ١٣١.
* * *
واختلف أهل التأويل في "الناس" الذين عنوا بقوله: (أن يتخطفكم الناس).
فقال بعضهم: كفار قريش.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩١٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس)، قال: يعني بمكة، مع النبي ﷺ ومن تبعه من قريش وحلفائها ومواليها قبل الهجرة.
١٥٩١٥- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي= أو قتادة أو كلاهما (٦) = (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون) أنها نزلت في يوم بدر، كانوا يومئذ يخافون أن يتخطفهم الناس، فآواهم الله وأيدهم بنصره.
(٢) وانظر تفسير " المأوى " فيما سلف ص: ٤٤١، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " أيد " فيما سلف ٢: ٣١٩، ٣٢٠ ٥: ٣٧٩ ٦: ٢٤٢ ١١: ٢١٣، ٢١٤.
(٤) انظر تفسير " الرزق " فيما سلف من فهارس اللغة (رزق).
= و " الطيبات " فيما سلف منها (طيب).
(٥) في المطبوعة: " لكي تشكروا "، وفي المخطوطة: " لكي تشكرون "، ورجحت ما أثبت.
(٦) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " أو كلاهما "، وهو جائز.
* * *
وقال آخرون: بل عُني به غيرُ قريش.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩١٧- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرني أبي قال، سمعت وهب بن منبه يقول في قوله عز وجل: (تخافون أن يتخطفكم الناس)، قال: فارس.
١٥٩١٨-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول، وقرأ: (واذكروا إن أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس)، و"الناس" إذ ذاك، فارس والروم.
١٥٩١٩-.... قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض)، قال: كان هذا الحي من العرب أذلَّ الناس ذلا وأشقاهُ عيشًا، وأجوعَه بطونًا، (١) وأعراه جلودًا، وأبينَه ضلالا [مكعومين، على رأس حجر، بين الأسدين فارس والروم، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه]. (٢) من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات منهم رُدِّي في النار، يوكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشرَّ منهم منزلا (٣) حتى جاء الله بالإسلام،
(٢) هذه الجملة بين القوسين لا بد منها، فإن الترجمة أن فارس والروم هما المعنيان بهذا. وقد أثبتها من رواية الطبري قبل، كما سيأتي في التخريج. وإغفال ذكرها في الخبر، يوقع في اللبس والغموض.
(٣) قوله: " أشر منهم منزلا " لم ترد في الخبر الماضي، وكان مكانها: " والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا أصغر حظًا، وأدق فيها شأنًا، منهم ".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: "عُني بذلك مشركو قريش"، لأن المسلمين لم يكونوا يخافون على أنفسهم قبل الهجرة من غيرهم، لأنهم كانوا أدنى الكفار منهم إليهم، وأشدَّهم عليهم يومئذ، مع كثرة عددهم، وقلة عدد المسلمين.
* * *
وأما قوله: (فآواكم)، فإنه يعني: آواكم المدينة،
وكذلك قوله: (وأيدكم بنصره)، بالأنصار.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٩٢٠- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فآواكم)، قال: إلى الأنصار بالمدينة= (وأيدكم بنصره)، وهؤلاء أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم، أيدهم بنصره يوم بدر.
١٥٩٢١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: (فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات)، يعني بالمدينة.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله= (لا تخونوا الله)، وخيانتهم الله ورسوله، كانت بإظهار من أظهر منهم لرسول الله ﷺ والمؤمنين الإيمانَ في الظاهر والنصيحةَ، وهو يستسرُّ الكفر والغش لهم في الباطن، يدلُّون المشركين على عورتهم، ويخبرونهم بما خفى عنهم من خبرهم. (١)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية، وفي السبب الذي نزلت فيه.
فقال بعضهم: نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سرِّ المسلمين.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩٢٢- حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا شبابة بن سوار قال، حدثنا محمد بن المُحْرِم قال، لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال، حدثني جابر بن عبد الله: أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريلُ النبيَّ ﷺ فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا! فقال النبي ﷺ لأصحابه: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا! " قال: فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان: "إن محمدًا يريدكم، فخذوا حذركم"! فأنزل الله عز وحل: (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم). (٢)
(٢) الأثر: ١٥٩٢٢ - " القاسم بن بشر بن معروف "، شيخ الطبري، مضى برقم ١٠٥٠٩، ١٠٥٣١.
و" شبابة بن سوار الفزاري "، ثقة، مضى مرارًا: ٣٧، ٦٧٠١، ١٠٠٥١، وغيرها.
و" محمد المحرم "، هو: " محمد بن عمر المحرم "، وقد ترجم صاحب لسان الميزان لثلاثة: " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير المكي " (ج ٥: ٢١٦)، و " محمد بن عمر المحرم " ج (٥: ٣٢٠،) و " محمد المحرم " (ج ٥: ٤٣٩)، وقال هم واحد، وأن " محمد بن عمر " صوابه: " محمد ابن عمير " منسوبًا إلى جده. و " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي "، مضى برقم: ٧٤٨٤.
وترجم البخاري في الكبير ١ ١ ١٤٢ " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي المكي "، عن عطاء، وليس بذاك الثقة. ولم يذكر أنه " محمد المحرم ".
ثم ترجم أيضًا في الكبير ١ ١ ٢٤٨ " محمد المحرم "، عن عطاء والحسن، منكر الحديث. فكأنهما عنده رجلان.
وترجم ابن أبي حاتم ٣ ٢ ٣٠٠ " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي "، وضعفه، ولم يذكر أنه " محمد المحرم ".
ثم ترجم " محمد بن عمر المحرم "، روى عن عطاء، روى عنه شبابة، وقال: " ضعيف الحديث، واهي الحديث "، ولم يذكر أنه الذي قبله.
وترجم الذهبي في ميزان الاعتدال ٣: ٧٧ " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي "، ويقال له: " محمد المحرم ".
ثم ترجم في الميزان ٣: ١١٣ " محمد بن عمر المحرم " عن عطاء، وعنه شبابة، وضعفه، ولم يذكر أنه الذي قبله.
وترجم عبد الغني بن سعيد في والمؤتلف والمختلف: ١١٧، " محمد بن عبيد بن عمير المحرم "، عن: " عطاء بن أبي رباح ".
والظاهر أن الذي قاله الحافظ في لسان الميزان، من أن هؤلاء جميعًا واحد، هو الصواب إن شاء الله، من أنهم جميعًا رجل واحد.
وكان في المطبوعة: " محمد بن المحرم "، غير ما كان في المخطوطة بزيادة " بن " بينهما.
وهذا خبر ضعيف جدًا، لضعف " محمد المحرم "، وهو متروك الحديث. وقد ذكر الخبر ابن كثير في تفسيره ٤: ٤٣، ٤٤، ثم قال: " هذا الحديث غريب جدًا، وفي سنده وسياقه نظر ".
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩٢٣ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، قوله: "لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم"، قال: نزلت في أبي لبابة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى حلقه: إنه الذَّبح= قال الزهري: فقال، أبو لبابة: لا والله، لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموتَ
١٥٩٢٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت عبد الله بن أبي قتادة يقول: نزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" في أبي لبابة. (٢)
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في شأن عثمان رحمة الله عليه.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩٢٥ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي (٣) قال، حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي، عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الآية في قتل عثمان رحمة الله عليه: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول" الآية.
* * *
ورواه الواحدي في أسباب النزول: ١٧٥، وروى بعضه مالك في الموطأ: ٤٨١.
(٢) الأثر: ١٥٩٢٤ - " عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري ". تابعي ثقة، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب.
(٣) الأثر: ١٥٩٢٥ - " يونس بن الحارث الطائفي الثقفي "، ضعيف، إلا أنه لا يتهم بالكذب، وقال ابن معين: " كنا نضعفه ضعفًا شديدًا ". وقال أحمد: " أحاديثه مضطربة ".
مترجم في التهذيب، والكبير ٤ ٢ ٤٠٩، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم ٤ ٢ ٢٣٧، وضعفه.
و" محمد بن عبيد الله بن سعيد "، " أبو عون الثقفي " ثقة، مضى برقم: ٧٥٩٥، ١٣٩٦٥، ١٥٦٥٩.
وكان في المطبوعة: " محمد بن عبد الله بن عون الثقفي "، ومثله في المخطوطة. إلا أنه قد يقرأ " محمد بن عبيد الله "، والصواب ما أثبت، لأن يونس بن الحارث الطائفي، يروي عن أبي عون الثقفي، و " أبو عون " اسم جده " سعيد " لا " عون ".
و" أبو عون الثقفي "، لا أظنه روى عن المغيرة بن شعبة، فالمغيرة مات سنة خمسين، ويقال قبلها. والمذكور في ترجمته أنه يروي عن " عفان بن المغيرة بن شعبة "، فهذا إسناد منقطع على الأرجح عندي.
وقوله: " نزلت في قتل عثمان "، يعني أن حكمها يشمل فعل عثمان رضي الله عنه، فإنه قتل خيانة لله ولرسوله، وخيانة للأمانة، إذ نقض القتلة بيعة له في أعناقهم، رحم الله عثمان وغفر له.
فمعنى الآية وتأويلها ما قدمنا ذكره.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٩٢٦ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول" قال: نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع المنافقون.
١٥٩٢٧ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط. عن السدي: "لا تخونوا الله والرسول" الآية، قال: كانوا يسمعون من النبي ﷺ الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين.
* * *
واختلفوا في تأويل قوله: "وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون".
فقال بعضهم: لا تخونوا الله والرسول، فإن ذلك خيانة لأمانتكم وهلاك لها.
١٥٩٢٨ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم"، فإنهم إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم.
١٥٩٢٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون "، أي لا تظهروا لله من الحق ما يرضى به منكم، ثم تخالفوه في السرِّ إلى غيره، فإن ذلك هلاك لأماناتكم، وخيانة لأنفسكم. (١)
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل قوله: "وتخونوا أماناتكم"، في موضع نصب على الصرف (٢)
كما قال الشاعر: (٣)
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (٤)
ويروى: "وتأتي مثله". (٥)
* * *
وقال آخرون: معناه: لا تخونوا الله والرسول، ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩٣٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
(٢) في المطبوعة: " على الظرف "، وفي المخطوطة: " على الطرف "، والصواب ما أثبت. وانظر معنى " الصرف " فيما سلف من فهارس المصطلحات.
وانظر معاني القرآن للفراء ١: ٤٠٨.
(٣) هو المتوكل الليثي، وينسب لغيره.
(٤) سلف البيت، وتخريجه ١: ٥٦٩ ٣: ٥٥٢.
(٥) يعني على غير النصب.
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويلُ: لا تخونوا الله والرسول، ولا تخونوا أماناتكم.
واختلف أهل التأويل في معنى: الأمانة، التي ذكرها الله في قوله: "وتخونوا أماناتكم".
فقال بعضهم: هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩٣١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وتخونوا أماناتكم"، و"الأمانة": الأعمال التي أمِن الله عليها العباد= يعني: الفريضة. يقول: "لا تخونوا"، يعني: لا تنقصوها.
١٥٩٣٢ - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله"، يقول: بترك فرائضه= "والرسول"، يقول: بترك سننه، وارتكاب معصيته= قال: وقال مرة أخرى: "لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم"، والأمانة: الأعمال، ثم ذكر نحو حديث المثنى.
* * *
وقال آخرون: معنى "الأمانات"، ههنا، الدِّين.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩٣٣ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وتخونوا أماناتكم" دينكم= "وأنتم تعلمون"، قال: قد فعل ذلك
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذن: يا أيها الذين آمنوا، لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه، ولا رسوله من واجب طاعته عليكم، ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه، لا تنقصوهما= "وتخونوا أماناتكم"، وتنقصوا أديانكم، وواجب أعمالكم، ولازمَها لكم= "وأنتم تعلمون"، أنها لازمة عليكم، وواجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: واعلموا، أيها المؤمنون، أنما أموالكم التي خوَّلكموها الله، وأولادكم التي وهبها الله لكم، اختبارٌ وبلاء، أعطاكموها ليختبركم بها ويبتليكم، لينظر كيف أنتم عاملون من أداء حق الله عليكم فيها، والانتهاء إلى أمره ونهيه فيها. (١) = "وأن الله عنده أجر عظيم"، يقول: واعلموا أن الله عنده خيرٌ وثواب عظيم، على طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم، في أمولكم وأولادكم التي اختبركم بها في الدنيا. وأطيعوا الله فيما كلفكم فيها، تنالوا به الجزيل من ثوابه في معادكم. (٢)
١٥٩٣٤ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا المسعودي،
(٢) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف من فهارس اللغة (أجر).
١٥٩٣٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، قال: "فتنة"، الاختبار، اختبارُهم. وقرأ: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [سورة الأنبياء: ٣٥].
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن تتقوا الله بطاعته وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وترك خيانته وخيانة رسوله وخيانة أماناتكم= يجعل لكم فرقانًا"، يقول: يجعل لكم فصلا وفرْقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم المشركين، بنصره إياكم عليهم، وإعطائكم الظفر بهم = (٢) "ويكفر عنكم سيئاتكم"، يقول: ويمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم بينكم وبينه = (٣) "ويغفر لكم"، يقول: ويغطيها فيسترها عليكم، فلا يؤاخذكم بها= (٤) "والله ذو الفضل العظيم"، يقول: والله الذي يفعل ذلك بكم، له
(٢) انظر تفسير " الفرقان " فيما سلف ١: ٩٨، ٩٩ ٣: ٤٤٨ ٦: ١٦٢، ١٦٣.
(٣) انظر تفسير " التكفير " فيما سلف من فهارس اللغة (كفر).
= وتفسير " السيئات " فيما سلف من فهارس (سوأ).
(٤) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر).
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عن تأويل قوله: "يجعل لكم فرقانا".
فقال بعضهم: مخرجًا.
* * *
وقال بعضهم: نجاة.
* * *
وقال بعضهم: فصلا.
* * *
= وكل ذلك متقارب المعنى، وإن اختلف العبارات عنها، وقد بينت صحة ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. (٢)
* * *
ذكر من قال: معناه: المخرج.
١٥٩٣٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا" قال: مخرجًا.
١٥٩٣٧-......... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، قال: مخرجًا.
١٥٩٣٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام عن عنبسة، عن جابر، عن مجاهد: "فرقانا"، مخرجًا.
١٥٩٣٩- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد "فرقانا"، قال: مخرجًا في الدنيا والآخرة.
(٢) يعني ما سلف ١: ٩٨، ٩٩.
١٥٩٤١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فرقانًا"، قال: "الفرقان" المخرج.
١٥٩٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "فرقانا"، يقول: مخرجًا.
١٥٩٤٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد: "فرقانا"، مخرجًا.
١٥٩٤٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا زائدة، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
١٥٩٤٥ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: "فرقانا"، قال: مخرجًا.
١٥٩٤٦- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، سمعت عبيدا يقول، سمعت الضحاك يقول: "فرقانًا"، مخرجًا.
١٥٩٤٧- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
١٥٩٤٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد، عن زهير، عن جابر، عن عكرمة، قال: "الفرقان"، المخرج.
* * *
* ذكر من قال: معناه النجاة.
١٥٩٤٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن جابر، عن عكرمة: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، قال: نجاة.
١٥٩٥٠ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل،
١٥٩٥١- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يجعل لكم فرقانًا"، قال: نجاة.
١٥٩٥٢ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "يجعل لكم فرقانًا"، يقول: يجعل لكم نجاة.
١٥٩٥٣ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "يجعل لكم فرقانًا"، أي: نجاة.
* * *
* ذكر من قال فصلا.
١٥٩٥٤ -...................................... "يا أيها الذين آمنوا إذ تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، قال: فرقان يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل، حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان. (١)
١٥٩٥٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، أي: فصلا بين الحق والباطل، ليظهر به حقكم، ويخفي به باطل من خالفكم. (٢)
(٢) الأثر: ١٥٩٥٥ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٥، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٩٢٩. وكان في المطبوعة: " يظهر " بغير لام، وهي في المخطوطة تقرأ هكذا وهكذا، وأثبت نص ما في السيرة، باللام في أولها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٣٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مذكِّرَه نعمه عليه: واذكر، يا محمد، إذ يمكر بك الذين كفروا من مشركي قومك كي يثبتوك. (٢)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ليثبتوك".
فقال بعضهم: معناه ليقيِّدوك.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٩٥٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، يعني: ليوثقوك.
١٥٩٥٧ -............ قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ليثبتوك"، ليوثِقوك.
١٥٩٥٨ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، الآية، يقول: ليشدُّوك
(٢) انظر تفسير " المكر " فيما سلف ١٢: ٩٥، ٩٧، ٥٧٩ ١٣: ٣٣
١٥٩٥٩ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ومقسم قالا قالوا: "أوثقوه بالوثاق".
١٥٩٦٠ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ليثبتوك"، قال: الإثبات، هو الحبس والوَثَاق.
* * *
وقال آخرون: بل معناه الحبس.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩٦١ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء عن قوله: "ليثبتوك"، قال: يسجنوك= وقالها عبد الله بن كثير.
١٥٩٦٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قالوا: "اسجنوه".
* * *
وقال آخرون: بل معناه: ليسحروك.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩٦٣ - حدثني محمد بن إسماعيل البصري المعروف بالوساوسي قال، حدثنا عبد المجيد بن أبي روّاد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن المطلب بن أبي وَداعة: أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر به قومك؟ قال: يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني! فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: ربي! قال: نعم الرب ربك، فاستوص به خيرًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أستوصي به! بل هو يستوصي بي خيرًا"! فنزلت: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك"، الآية. (١)
وترجم ابن أبي حاتم لأخيه: " أحمد بن إسماعيل بن أبي ضرار الرازي "، ١ ١ ٤١، فوجدت في لباب الأنساب ٢: ٢٧٣: " الوساوسي، عرف بها " أحمد بن إسماعيل الوساوسي البصري "، فدل هذا على ترجيح أن يكون " محمد بن إسماعيل بن أبي ضرار " يقال له " الوساوسي " أيضًا.
و" عبد المجيد بن أبي رواد "، هو " عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد الأزدي "، روى عن ابن جريح وغيره. وثقه أحمد وابن معين. وغيرهما. وضعفه أبو حاتم وابن سعد. ومنهم من قال هو ثبت في حديثه عن ابن جريج، ومنهم من قال: روى عن ابن جريج أحاديث لا يتابع عليها. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ ١ ٦٤.
" وعبيد بن عمير بن قتادة الليثي " ثقة، مضى برقم: ٩١٨٠، ٩١٨١، ٩١٨٩، ١٥٦٢١.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: " عبيد بن عمير بن المطلب بن أبي وداعة "، وهو خطأ لا شك فيه.
و" المطلب بن أبي وداعة السهمي القرشي "، له صحبة - مترجم في التهذيب، والكبير ٤ ٢ ٧، وابن أبي حاتم ٤ ١ ٣٨٥، ولم يذكر لعبيد بن عمير رواية عنه.
وهذا الخبر رواه ابن كثير في تفسيره ٤: ٤٦، ٤٧، وقال: " وذكر أبي طالب في هذا، غريب جدًا، بل منكر لأن هذه الآية مدنية. ثم إن هذه القصة، واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل، إنما كانت ليلة الهجرة سواء. وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين، لما تمكنوا منه واجترأوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه ".
فلو صح ما قاله ابن كثير، كان هذا الخبر من الأخبار التي دعتهم إلى أن يقولوا في " عبد المجيد ابن أبي رواد " أنه روى عن ابن جريج أحاديث لا يتابع عليها. ومع ذلك فإن حجاجًا قد روى عنه مثل رواية عبد المجيد. انظر التعليق على الأثر التالي، فإني اذهب مذهبًا غير مذهب ابن كثير في الخبر. وانظر أيضًا رقم: ١٥٩٧٦، فإن ابن جريج سيقول: إن هذه الآية مكية، لا مدنية.
" وكأن معنى مكر قوم رسول الله ﷺ به ليثبتوه، كما حدثني | " وساق خبر ائتمارهم به ليلة الهجرة. |
وكان هذا قبل الهجرة بزمان طويل، في حياة أبي طالب. فكأن هذا الخبر، هو الذي قال عبيد بن عمير في روايته عن المطلب بن أبي وداعة أنه ائتمار قومه به. فإذا صح ذلك، لم يكن لما قال ابن كثير وجه، ولصح هذا الخبر لصحة إسناده.
١٥٩٦٥ - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس= قال وحدثني الكلبي، عن زاذان مولى أم هانئ، عن ابن عباس: أن نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، (١) فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال شيخ من نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأيٌ ونصحٌ. (٢) قالوا: أجل، ادخل! فدخل معهم، فقال: انظروا إلى شأن هذا الرجل، (٣) والله
(٢) " لن يعدمكم "، أي: لا يعدوكم ويخطئكم مني رأي ونصح.
(٣) في المطبوعة: " في شأن "، وأثبت ما في المخطوطة.
١٥٩٦٦ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى (٦) قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ومقسم، في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك" قالا تشاوروا فيه ليلة وهم بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبع فأوثقوه بالوثاق. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل اخرجوه. فلما أصبحوا رأوا عليًّا رحمة الله عليه، فردَّ الله مكرهم.
١٥٩٦٧ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عيد الرزاق قال، أخبرني أبي، عن عكرمة قال: لما خرج النبي ﷺ وأبو بكر إلى الغار، أمر عليَّ بن أبي طالب، فنام في مضجعه، فبات المشركون يحرسونه، فإذا رأوه نائمًا حسبوا أنه النبي ﷺ فتركوه. فلما أصبحوا ثاروا إليه وهم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هم بعليّ، فقالوا: أين صاحبك؟ قال:
(٢) في المطبوعة: " رأي " بغير باء، والصواب من المخطوطة.
(٣) " الوسيط ": حسيبًا في قومه، من أكرمهم حسبًا ونسبًا ومجدًا. وكان في المطبوعة " وسطا ً "، والصواب ما في المخطوطة. و " غلام نهد ": كريم، ينهض إلى معالي الأمور. واصل " النهد ": المرتفع.
(٤) " العقل "، الدية.
(٥) الأثر: ١٥٩٦٥ - سيرة ابن هشام ٢: ١٢٤ - ١٢٨، وإسناد هناك " قال ابن إسحاق، فحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج، وغيره ممن لا أتهم، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "، ثم ساق الخبر بغير هذا اللفظ.
ومما اعترض به على هذا الخبر أن آية " سورة الطور "، آية مكية، نزلت قبل الهجرة بزمان، وسياق ابن إسحاق للآية بعد الخبر، يوهم أنها نزلت ليلة الهجرة، أو بعد الهجرة، وهذا لا يكاد يصح.
(٦) سقط من المطبوعة: " محمد " وكتب " بن عبد الأعلى "، وهي ثابتة في المخطوطة.
١٥٩٦٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر قال، أخبرني عثمان الجزريّ: أن مقسمًا مولى ابن عباس أخبره، عن ابن عباس في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق= يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات على رحمه الله على فراش النبي ﷺ تلك الليلة، (٢) وخرج النبي ﷺ حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًّا رحمة الله عليه، ردّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري! فاقتصُّوا أثره، فلما بلغوا الجبل ومرُّوا بالغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، قالوا: لو دخل ههنا لم يكن نَسْجٌ على بابه! فمكث فيه ثلاثا. (٣)
(٢) في المخطوطة، سقط من الناسخ " الليلة "، وزادتها المطبوعة.
(٣) الأثر: ١٥٩٦٨ - " عثمان الجزري "، يقال له: " عثمان المشاهد ". روى عن مقسم، روى عنه معمر، والنعمان بن راشد. قال أبو حاتم: " لا أعلم روى عنه غير معمر، والنعمان ". وسئل عنه أحمد فقال: " روى أحاديث مناكير، زعموا أنه ذهب كتابه ". مترجم في ابن أبي حاتم ٣ ١ ١٧٤.
وكان في المطبوعة: " عثمان الجريري "، والمخطوطة، كما أثبتها، غير أنه غير منقوط.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده برقم: ٣٢٥١، وقال أخي: " في إسناده نظر، من أجل عثمان الجزري، كالإسناد ٢٥٦٢ "، وقد استظهر هناك أن " عثمان الجزري " هو " عثمان بن ساج "، ولكن ما قاله ابن أبي حاتم، يرجح أن " عثمان الجزري "، غير " عثمان بن ساج ".
وقد وجدت بعد في مجمع الزوائد ٧: ٢٧، هذا الخبر، بنحوه ثم قال: " رواه أحمد والطبراني، وفيه " عثمان بن عمرو الجزري "، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح ".
ولا أزال أشك في أن " عثمان الجزري "، غير " عثمان بن عمرو بن ساج "
(٢) في المطبوعة: " إذا اصطبح على فراشه "، لا أدري من أين جاء بها!.
فلما هاجر رسول الله ﷺ إلى المدينة، لقيه عمر فقال له: ما فعل القوم؟ وهو يرى أنهم قد أهلكوا حين خرج النبي ﷺ من بين أظهرهم، وكذلك كان يُصنع بالأمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخِّروا بالقتال".
١٥٩٧٠ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ليثبتوك أو يقتلوك"، قال: كفار قريش، أرادوا ذلك بمحمد ﷺ قبل أن يخرج من مكة.
١٥٩٧١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
١٥٩٧٢- حدثني ابن وكيع قال: حدثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه; إلا أنه قال: فعلوا ذلك بمحمد.
١٥٩٧٣ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك"، الآية، هو النبي صلى الله عليه وسلم، مكروا به وهو بمكة.
١٥٩٧٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، إلى آخر الآية، قال: اجتمعوا فتشاوروا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: اقتلوا هذا الرجل. فقال بعضهم: لا يقتله رجل إلا قُتل به! قالوا: خذوه فاسجنوه، واجعلوا عليه حديدًا. قالوا: فلا يدعكم أهل بيته! قالوا: أخرجوه. قالوا: إذًا يستغوي الناس عليكم. (١)
وَكأَنَّهَا دَقَرَى، تَخَايَلَ نَبْتُها... أُنُفٌ يَغُمُّ الضَّالَ نَبْتُ بِحَارِهَا
ومنه قيل للغمة " غمة "، وقيل: " سحاب أغم "، لا فرجة فيه. وانظر بعد ذلك صفة اجتماعهم عليه ﷺ بأبي هو وأمي، وأن أبا بكر لم يجد مدخلا، وقوله أيضًا: " ثم فرجها الله عنه ". فكل هذا يدل على صواب قراءتها كما أثبتها. وهذه الصفحة من المخطوطة، يكاد أكثرها يكون غير منقوط.
(٢) في المطبوعة: " فلما أن كان الليل "، غير ما في المخطوطة، وكان فيها " فلما أن حبط " وصواب قراءتها إن شاء الله ما أثبت. و " حط الليل "، نزل وأطبق.
(٣) في المخطوطة: " فقال: فلان وفلان وفلان، فقال لا. فقال جبريل عليه السلام: نحن أعلم بهم منك... "، أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء، والذي في المطبوعة اجتهاد من الناشر، تركه على حاله.
(٤) في المطبوعة والمخطوطة: " هو ناموس ليل "، والسياق يقتضي ما أثبت.
و" الناموس " دويبة أغبر، كهنة الذرة، تلكع الناس وتلسعهم. وقولهم: " هم ناموس ليل "، يعني حقارتهم وقلة شأنهم.
= أخذته في رأسه. وأما الذي طعن في ركبته، فأصبح وقد أقعد. فذلك قول الله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".
١٥٩٧٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، أي: فمكرت لهم بكيدي المتين، حتى خلّصك منهم. (٦)
(٢) لم يذكر ما فعل جبريل عليه السلام بالخامس، وإن كان ذكر ما آل إليه أمره، فأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء.
(٣) في المطبوعة " مر " حذف الفاء، وهو صواب، فأثبتها من المخطوطة. و " المشقص "، نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض.
(٤) " الأكحل "، عرق الحياة، ويقال له: " نهر البدن "، وهو عرق في اليد ووسط الذراع، وفي كل عضو منه شعبة، لها اسم على حدة، إذا قطع لم يرقأ الدم.
(٥) في المطبوعة: " النقدة "، في الموضعين. وأما المخطوطة، فالأولى، يوشك أن يكتبها " النقبة " إلا أنه يزيد في رأس الباء، ثم كتب بعد " النقدة " ولم أجد في القروح ما يقال له: " نقدة ".
و" النقبة " (بضم فسكون) أول بدء الجرب، ترى الرقعة مثل الكف بجنب البعير أو وركه أو بمشفرة، ثم تتمشى فيه تشريه كله، أي تملؤه كله. فلعل هذه هي المرادة هنا.
(٦) الأثر: ١٥٩٧٥ - سيرة ابن هشام ١: ٣٢٥، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٩٥٥.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " فمكرت لهم "، وأثبت ما في سيرة ابن هشام، وهي أجود.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: واذكر، يا محمد، نعمتي عندك، بمكري بمن حاول المكرَ بك من مشركي قومك، بإثباتك أو قتلك أو إخراجك من وطنك، حتى استنقذتك منهم وأهلكتهم، فامض لأمري في حرب من حاربك من المشركين، وتولى عن إجابة ما أرسلتك به من الدين القيم، ولا يَرْعَبَنَّك كثرة عددهم، فإن ربّك خيرُ الماكرين بمن كفر به، وعبد غيره، وخالف أمره ونهيه.
* * *
وقد بينا معنى "المكر" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٢)
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (٣١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آياتِ كتاب الله الواضحةَ لمن شرح الله صدره لفهمه (٣) =، قالوا جهلا منهم، وعنادًا للحق، وهم يعلمون أنهم كاذبون في قيلهم= "لو نشاء لقلنا مثل هذا"،
(٢) انظر تفسير " المكر " فيما سلف ١٢: ٩٥، ٩٧، ٥٧٩ ١٣: ٣٣، ٤٩١.
(٣) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف ص: ٣٨٥، تعليق: ١، والمراجع هناك.
و"الأساطير" جمع "أسطر"، وهو جمع الجمع، لأن واحد "الأسطر" "سطر"، ثم يجمع "السطر"، "أسطر" و"سطور"، ثم يجمع "الأسطر" "أساطير" و"أساطر". (١)
وقد كان بعضُ أهل العربية يقول: واحد "الأساطير"، "أسطورة".
* * *
وإنما عنى المشركون بقولهم: "إن هذا إلا أساطير الآولين"، إنْ هذا القرآن الذي تتلوه علينا، يا محمد، إلا ما سطَّره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم! كأنهم أضافوه إلى أنه أخذ عن بني آدم، وأنه لم يوحِه الله إليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٥٩٧٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: "وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا"، قال: كان النضر بن الحارث يختلف تاجرًا إلى فارس، فيمرّ بالعِباد وهم يقرأون الإنجيل ويركعون ويسجدون. (٢) فجاء مكة، فوجد محمدًا ﷺ قد أنزل عليه وهو يركع ويسجد، فقال النضر: "قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا! "، للذي سَمِع من العباد. فنزلت: "وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد
(٢) " العباد "، قوم من قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية قبل الإسلام، فأنفوا أن يسموا بالعبيد، فقالوا: " نحن العباد "، ونزلوا بالحيرة. فنسب إلى " العباد "، ومنهم عدى بن يزيد العبادي الشاعر.
١٥٩٧٨ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان النضر بن الحارث بن علقمة، أخو بني عبد الدار، يختلف إلى الحيرة، فيسمع سَجْع أهلها وكلامهم. فلما قدم مكة، سمع كلام النبي ﷺ والقرآن، فقال: "قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولين"، يقول: أساجيع أهل الحيرة. (١)
١٥٩٧٩ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قتل النبيُّ من يوم بدر صبرًا: عقبةَ بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث. وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله، قال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول! فأمر النبي ﷺ بقتله، فقال المقداد: أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واللهم اغْنِ المقداد من فضلك! " فقال المقداد: هذا الذي أردت! وفيه نزلت هذه الآية: "وإذا تتلى عليهم آياتنا"، الآية.
١٥٩٨٠- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: أن رسول الله ﷺ قَتل يوم بدر ثلاثة رهط من قريش صبرًا: المطعم بن عديّ، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط. قال: فلما أمر بقتل النضر، قال المقداد بن الأسود: أسيري، يا رسول الله! قال: إنه كان يقول في كتاب الله وفي رسوله ما كان يقول! قال: فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغْن المقداد من فضلك! وكان المقداد أسر النضر. (٢)
(٢) الأثر: ١٥٩٨٠ - هكذا جاء في رواية هذا الخبر " المطعم بن عدي "، مكان " طعيمة بن عدى "، وكأنه ليس خطأ من الناسخ، لأن ابن كثير في تفسيره ٤: ٥١، قال: " وهكذا رواه هشيم، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير أنه قال: المطعم بن عدي، بدل طعيمة. وهو غلط، لأن المطعم بن عدي لم يكن حيًا يوم بدر، ولهذا قال رسول الله ﷺ يومئذ: لو كان المطعم بن عدي حيًا، ثم سألني في هؤلاء النتنى، لوهبتهم له! يعني الأسارى، لأنه كان قد أجار رسول الله ﷺ يوم رجع من الطائف ". وانظر التعليق على رقم: ١٥٩٨١.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر، يا محمد، أيضًا ما حلّ بمن قال: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"، إذ مكرت بهم، فأتيتهم بعذاب أليم= (١) وكان ذلك العذاب، قتلُهم بالسيف يوم بدر.
* * *
وهذه الآية أيضًا ذكر أنها نزلت في النضر بن الحارث.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩٨١ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله: "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"، قال: نزلت في النضر بن الحارث. (٢)
١٥٩٨٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
(٢) الأثر: ١٥٩٨١ - " أبو بشر "، هو " جعفر بن إياس "، " جعفر بن أبي وحشية "، مضى مرارًا كثيرة. وكان في تعليق ابن كثير، الذي نقلته في التعليق على الخبر السالف " جعفر بن أبي دحية "، وهو خطأ محض.
١٥٩٨٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، قول النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة، من بني عبد الدار.
١٥٩٨٤-...... قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك"، قال: هو النضر بن الحارث بن كلدة.
١٥٩٨٥ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: قال رجل من بني عبد الدار، يقال له النضر بن كلدة: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"، فقال الله: ((وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ)) [سورة ص: ١٦]، وقال: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [سورة الأنعام: ٩٤]، وقال: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ)) [سورة المعارج: ١-٢]. قال عطاء: لقد نزل فيه بضعَ عشرة آية من كتاب الله.
١٥٩٨٦ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: فقال= يعني النضر بن الحارث =: اللهم إن كان ما يقول محمد هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو
والصواب ما في المخطوطة، لأن الاختلاف في نسبة هكذا: " النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار " أو: " النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار " انظر سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٠، ٣٢١. وقد غير ما في المخطوطة بلا حرج ولا ورع.
١٥٩٨٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد في قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية، قال: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ)).
١٥٩٨٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، الآية قال: قال ذلك سُفَّهُ هذه الأمة وجهلتها، (١) فعاد الله بعائدته ورحمته على سَفَهة هذه الأمة وجهلتها. (٢)
١٥٩٨٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر غِرَّة قريش واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، أي: ما جاء به محمد= "فأمطر علينا حجارة من السماء"، كما أمطرتها على قوم لوط = "أو ائتنا بعذاب أليم"، أي: ببعض ما عذبت به الأمم قبلنا. (٣)
* * *
واختلف أهل العربية في وجه دخول "هو" في الكلام.
فقال بعض البصريين: نصب "الحق"، لأن "هو" والله أعلم، حُوِّلت
(٢) هكذا في المخطوطة أيضًا " سفهة "، فتركتها على حالها. انظر التعليق السالف. وكأنه إتباع لقوله " جهلة "، وهذا من خصائص العربية.
(٣) الأثر: ١٥٩٨٩ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٥، وهو تبع الأثر السالف رقم: ١٥٩٧٥.
وكان في المطبوعة: " ثم ذكر غيرة قريش "، وهو لا معنى له، صوابه من المخطوطة وابن هشام. يعني: اغترارهم بأمرهم، وغفلتهم عن الحق.
لأنك تقول: "وجدته هو وإياي"، فتكون "هو" صفة. (١)
وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة، ولكنها تكون زائدة، كما كان في الأول. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم، فيرفع ما بعدها، إن كان بعدها ظاهرًا أو مضمرًا في لغة بني تميم، يقولون في قوله:"إن كان هذا هو الحق من عندك"، "ولكن كانوا هم الظالمون"، (٢) و "تجدوه عند الله هو خيرٌ وأعظم أجرًا" (٣) كما تقول: "كانوا آباؤهم الظالمون"، جعلوا هذا المضمر نحو "هو" و "هما" و "أنت" زائدًا في هذا المكان، ولم تجعل مواضع الصفة، لأنه فصْلٌ أراد أن يبين به أنه ليس ما بعده صفةً لما قبله، ولم يحتج إلى هذا في الموضع الذي لا يكون له خبر.
* * *
وكان بعض الكوفيين يقول: لم تدخل "هو" التي هى عماد في الكلام، (٤) إلا لمعنى صحيح. وقال: كأنه قال: "زيد قائم"، فقلت أنت: "بل عمرو هو القائم" ف "هو" لمعهود الاسم، و"الألف واللام" لمعهود الفعل، (٥) [" والألف واللام"] التي هي صلة في الكلام، (٦) مخالفة لمعنى "هو"، لأن دخولها وخروجها واحد
(٢) في المطبوعة: " هم الظالمين "، خالف المخطوطة وأساء.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: " هو خيرًا "، ولا شاهد فيه، وصوابه ما أثبت.
(٤) " العماد "، اصطلاح الكوفيين، والبصريون يقولون: " ضمير الفصل "، ويقال له أيضًا: " دعامة " و " صفة ". انظر ما سلف ٢: ٣١٢، تعليق ٢، ثم ص ٣١٣، ٣٧٤ ثم ٧: ٤٢٩، تعليق: ٢.
(٥) " الفعل "، يعني الخبر.
(٦) ما بين القوسين، مكانه بياض في المخطوطة، ولكن ناشر المطبوعة ضم الكلام بعضه إلى بعض. وأثبت ما بين القوسين استظهارًا، وكأنه الصواب إن شاء الله. وقوله: " صلة "، أي: زيادة، انظر تفسير ذلك فيما سلف ١: ١٩٠، ٤٠٥، ٤٠٦، ٥٤٨ ٤: ٢٨٢ ٥: ٤٦٠، ٤٦٢ ٧: ٣٤٠، ٣٤١.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) ﴾
وما سلف من التفسير ٢: ٣١٢، ٣١٣ ٧: ٤٢٩، ٤٣٠، وغيرها في فهارس مباحث العربية والنحو وغيرهما.
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، أي: وأنت مقيم بين أظهرهم. قال: وأنزلت هذه على النبي ﷺ وهو مقيم بمكة. قال: ثم خرجَ النبي ﷺ من بين أظهرهم، فاستغفر من بها من المسلمين، فأنزل بعد خروجه عليه، حين استغفر أولئك بها: "وما كان الله معذِّبهم وهم يستغفرون". قال: ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم، فعذّب الكفار.
* ذكر من قال ذلك.
١٥٩٩٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال: كان النبي ﷺ بمكة، فأنزل الله عليه:
١٥٩٩١ - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك، في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني: من بها من المسلمين= "وما لهم ألا يعذبهم الله"، يعني مكة، وفيهم الكفار. (١)
١٥٩٩٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، في قول الله: "وما كان الله ليعذبهم"، يعني: أهل مكة= "وما كان الله معذبهم"، وفيهم المؤمنون، يستغفرون، يُغفر لمن فيهم من المسلمين.
١٥٩٩٣- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرازي، وأبو داود الحفري، عن يعقوب، عن جعفر، عن ابن أبزى: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: بقية من بقي من المسلمين منهم. فلما خرجوا قال: "وما لهم ألا يعذبهم الله". (٢)
١٥٩٩٤ -....... قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: أهل مكة.
(٢) الأثر: ١٥٩٩٣ - " إسحاق بن إسماعيل الرازي " هو: " حبويه، أبو يزيد " سلف مرارًا، آخرها رقم: ١٥٣١١.
١٥٩٩٦-...... قال: حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" قال: المؤمنون يستغفرون بين ظهرانَيْهم.
١٥٩٩٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يقول: الذين آمنوا معك يستغفرون بمكة، حتى أخرجك والذين آمنوا معك.
١٥٩٩٨ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال: ابن عباس: لم يعذب قريةً حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا معه، ويلحقه بحيث أُمِر= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني المؤمنين. ثم أعاد إلى المشركين فقال: "وما لهم ألا يعذبهم الله".
١٥٩٩٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: يعني أهل مكة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين من قريش بمكة وأنت فيهم، يا محمد، حتى أخرجك من بينهم= "وما كان الله معذبهم"، وهؤلاء المشركون، يقولون: "يا رب غفرانك! "، وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول. قالوا: وقوله: "وما لهم ألا يعذبهم الله"، في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك.
١٦٠٠٠ - حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عكرمة، عن أبي زميل، عن ابن عباس: إن المشركين كانوا يطوفون
١٦٠٠١ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن يزيد بن رومان، ومحمد بن قيس قالا قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا" الآية. فلما أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: "غفرانك اللهم! "، فأنزل الله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" إلى قوله: "لا يعلمون".
١٦٠٠٢ - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كانوا يقولون = يعني المشركين =: والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر، ولا يعذِّب أمة ونبيها معها حتى يخرجه عنها! وذلك من قولهم، ورسولُ لله ﷺ بين أظهرهم. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، يذكر له جَهالتهم وغِرَّتهم واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"، كما أمطرتها على قوم لوط. وقال حين نَعى
(٢) " قد، قد "، أي حسبكم، لا تزيدوا. يقال: " قدك "، أي حسبك، يراد بها الردع والزجر.
(٣) في المطبوعة، زاد زيادة بلا طائل، كتب: " فيقولون: لا شريك لك، إلا شريك هو لك ".
(٤) الأثر: ١٦٠٠٠ - " أبو زميل " هو: " سماك بن الوليد الحنفي اليمامي "، مضى برقم: ١٣٨٣٢، ١٥٧٣٤.
١٦٠٠٣ - حدثنا الحسن بن الصباح البزار..................... قال، حدثنا أبو بردة، عن أبي موسى قال: إنه كان قبلُ أمانان، قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" قال: أما النبي ﷺ فقد مضى، وأما الاستغفار فهو دائر فيكم إلى يوم القيامة. (٣)
١٦٠٠٤ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يونس
(٢) الأثر: ١٦٠٠٣ - سيرة بن هشام ٢: ٣٢٥، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٥٩٨٩.
(٣) الأثر: ١٦٠٠٤ - " الحسن بن الصباح البزار "، شيخ الطبري، مضى برقم: ٤٤٤٢، ٩٨٥٧.
وهذا الإسناد قد سقط منه رواة كثيرون، وكان في المخطوطة " بردة " فجعلها الناشر " أبو بردة "، وأصاب وهو لا يدري.
وهذا الخبر روى مثله مرفوعًا الترمذي في سننه في تفسير هذه السورة، وهذا إسناده: " حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عباد بن يوسف، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال، قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: أنزل الله علي أمانين لأمتي: " وما كان ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون "، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.
ثم قال الترمذي: " هذا حديث غريب، وإسماعيل بن إبراهيم يضعف في الحديث ".
أما خبر الطبري، فلا شك أنه خبر موقوف على أبي موسى الأشعري.
وكان في المطبوعة: " إنه كان فيكم أمانان "، غير ما في المخطوطة، وصواب قراءته ما أثبت.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يا محمد، وما كان الله معذب المشركين وهم يستغفرون أي: لو استغفروا. (٢) قالوا: ولم يكونوا يستغفرون، فقال جل ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون: "ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام".
* ذكر من قال ذلك.
١٦٠٠٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: إن القوم لم يكونوا يستغفرون، ولو كانوا يستغفرون ما عُذِّبوا. وكان بعض أهل العلم يقول: هما أمانان أنزلهما الله: فأما أحدهما فمضى، نبيُّ الله. وأما الآخر فأبقاه الله رحمة بين أظهركم، الاستغفارُ والتوبةُ.
١٦٠٠٦ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال الله لرسوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يقول: ما كنت أعذبهم وهم يستغفرون، ولو استغفروا وأقرُّوا بالذنوب لكانوا مؤمنين، وكيف لا أعذبهم وهم لا يستغفرون؟ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن محمد وعن المسجد الحرام؟
١٦٠٠٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال يقول: لو استغفروا لم أعذبهم.
(٢) في المخطوطة والمطبوعة: " أن لو استغفروا "، وكأن الصواب ما أثبت.
* ذكر من قال ذلك.
١٦٠٠٨ - حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير، عن عكرمة، في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: سألوا العذاب، فقال: لم يكن ليعذبهم وأنت فيهم، ولم يكن ليعذبهم وهم يدخلون في الإسلام.
١٦٠٠٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "وأنت فيهم"، قال: بين أظهرهم= وقوله: "وهم يستغفرون"، قال: يُسلمون.
١٦٠١٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، بين أظهرهم= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: وهم يسلمون (١) = "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون"، قريش، "عن المسجد الحرام". (٢)
١٦٠١١- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا محمد بن عبيد الله، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: بين أظهرهم= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: دخولهم في الإسلام.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإسلام.
(٢) (٢) كان في المطبوعة: سياق الآية بلا فصل، وهو قوله: " قريش "، التي أثبتها من المخطوطة. وكان في المخطوطة: " وهم مسلمون يعذبهم الله "، بياض بين الكلامين وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ.
١٦٠١٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يقول: ما كان الله سبحانه يعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم. ثم قال: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يقول: ومنهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان، وهو الاستغفار. ثم قال: "ومالهم ألا يعذبهم الله"، فعذبهم يوم بدر بالسيف.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: وما كان الله معذبهم وهم يصلُّون.
* ذكر من قال ذلك.
١٦٠١٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني: يصلُّون، يعني بهذا أهل مكة.
١٦٠١٤ - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد في قول الله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: يصلون.
١٦٠١٥ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يعني: أهل مكة. يقول: لم أكن لأعذبكم وفيكم محمد. ثم قال: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني: يؤمنون ويصلون.
١٦٠١٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: وهم يصلون.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب المشركين وهم يستغفرون.
* ذكر من قال ذلك.
١٦٠١٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في "الأنفال": "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، فنسختها الآية التي تليها: "وما لهم ألا يعذبهم الله"، إلى قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فقوتلوا بمكة، وأصابهم فيها الجوع والحَصْر.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب، قولُ من قال: تأويله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يا محمد، وبين أظهرهم مقيم، حتى أخرجك من بين أظهرهم، لأنّي لا أهلك قرية وفيها نبيها= وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، من ذنوبهم وكفرهم، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك، بل هم مصرُّون عليه، فهم للعذاب مستحقون= كما يقال: "ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ"، يراد بذلك: لا أحسن إليك، إذا أسأت إليّ، ولو أسأت إليّ لم أحسن إليك، ولكن أحسن إليك لأنك لا تسيء إليّ. وكذلك ذلك= ثم قيل: "ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام"، بمعنى: وما شأنهم، وما يمنعهم أن يعذبهم الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به، (١) وهم يصدون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام؟
وإنما قلنا: "هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب"، لأن القوم = أعني مشركي مكة = كانوا استعجلوا العذاب، فقالوا: "اللهم إن كان ما جاء به محمد هو الحق، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" فقال الله لنبيه: "ما كنت لأعذبهم وأنت فيهم، وما كنت لأعذبهم لو استغفروا،
وكذلك أيضًا لا وجه لقول من قال: ذلك منسوخ بقوله: "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام"، الآية، لأن قوله جل ثناؤه: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" خبرٌ، والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخ، وإنما يكون النسخ للأمر والنهي.
* * *
(٢) في المطبوعة: " وعلى أن ذلك به عنوا، ولا خلاف في تأويله "، وفي المخطوطة، كما أثبته، إلا أنه سقط منه [كني] كما أثبته بين القوسين. وإن كنت أظن في الكلام سقطًا.
هذا وقد ذكر أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: ١٥٤، هذا الرأي، ثم قال: " جعل الضميرين مختلفين، وهو قول حسن، وإن كان محمد بن جرير قد أنكره، لأنه زعم أنه لم يتقدم للمؤمنين ذكر، فيكنى عنهم. وهذا غلط، لأنه قد تقدم ذكر المؤمنين في غير موضع من السورة.
فإن قيل: لم يتقدم ذكرهم في هذا الموضع.
فالجواب: أن في المعنى دليلا على ذكرهم في هذا الموضع. وذلك أن من قال من الكفار: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء "، إنما قال ذلك مستهزئًا ومتعنتًا. ولو قصد الحق لقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له = ولكنه كفر وأنكر أن يكون الله يبعث رسولا بوحي من الله، أي: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأهلك الجماعة من الكفار والمسلمين. فهذا معنى ذكر المسلمين، فيكون المعنى: كيف يهلك الله المسلمين؟ فهذا المعنى: " ما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " يعني المؤمنين = " وما لهم ألا يعذبهم الله "، يعني الكافرين ".
فقال بعض نحويي البصرة: هي زائدة ههنا، وقد عملت كما عملت "لا" وهي زائدة، وجاء في الشعر: (١)
لَوْ لَمْ تَكنْ غَطَفَانُ لا ذُنُوبَ لَهَا إلَيَّ، لامَ ذَوُو أحْسَابِهَا عُمَرَا (٢)
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية وقال: لم تدخل "أن" إلا لمعنى صحيح، لأن معنى: "وما لهم"، ما يمنعهم من أن يعذبوا. قال: فدخلت "أن" لهذا المعنى، وأخرج ب "لا"، ليعلم أنه بمعنى الجحد، لأن المنع جحد. قال: و"لا" في البيت صحيح معناها، لأن الجحد إذا وقع عليه جحد صار خبرًا. (٣)
وقال: ألا ترى إلى قولك: "ما زيد ليس قائما"، فقد أوجبت القيام؟ قال: وكذلك "لا" في هذا البيت. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين إلا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام، ولم يكونوا أولياء الله= "إن أولياؤه"، (٥) يقول: ما
(٢) سلف البيت وتخريجه ٥: ٣٠٢، ٣٠٣، وروايته هناك: " إذن للام ذود أحسابها "، وقد فسرته هناك، وزعمت أن " الذنوب " بفتح الذال بمعنى: الحظ والنصيب عن الشرف والحسب والمروءة.
أمَّا رواية البيت كما جاءت هنا، وفي الديوان، توجب أن تكون " الذنوب " جمع " ذنب ". فهذا فرق ما بين الروايتين والمعنيين.
(٣) يعني بقوله: " خبرًا "، أي: إثباتًا.
(٤) انظر معاني القرآن للفراء ١: ١٦٣ - ١٦٦، وما سلف من التفسير ٥: ٣٠٠ - ٣٠٥.
(٥) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
= "ولكن أكثرهم لا يعلمون" يقول: ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون، بل يحسبون أنهم أولياء الله.
* * *
وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠١٨ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون"، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
١٦٠١٩ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "إن أولياؤه إلا المتقون"، مَن كانوا، وحيث كانوا.
١٦٠٢٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٦٠٢١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون"، الذين يحرمون حرمته، (٢) ويقيمون الصلاة عنده، أي: أنت= يعني النبي صلى الله عليه وسلم= ومن آمن بك= يقول: "ولكن أكثرهم لا يعلمون". (٣)
* * *
(٢) في المطبوعة والمخطوطة مكان: " يحرمون حرمنه "، " يخرجون منه "، وهذا من عجائب التحريف من طريق الاختصار!!، والصواب من سيرة ابن هشام.
(٣) الأثر: ١٦٠٢١ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٥، ٣٢٦، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٠٠٣.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين إلا يعذبهم الله، وهم يصدون عن المسجد الحرام الذي يصلون لله فيه ويعبدونه، ولم يكونوا لله أولياء، بل أولياؤه الذين يصدونهم عن المسجد الحرام، وهم لا يصلون في المسجد الحرام= "وما كان صلاتهم عند البيت"، يعني: بيت الله العتيق= "إلا مُكاء"، وهو الصفير.
يقال منه: "مكا يمكو مَكوًا ومُكاءً" وقد قيل: إن "المكو": أن يجمع الرجل يديه، ثم يدخلهما في فيه، ثم يصيح. ويقال منه: "مَكت است الدابة مُكاء"، إذا نفخت بالريح. ويقال: "إنه لا يمكو إلا استٌ مكشوفة"، ولذلك قيل للاست "المَكْوة"، سميت بذلك، (١) ومن ذلك قول عنترة:
وَحَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلا تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلَمِ (٢)
وقول الطِّرِمَّاح:
(٢) من معلقته المشهورة الغالية. سيرة بن هشام ٢: ٣٢٦، والمعاني الكبير:
٩٨١، واللسان (مكا) وبعد البيت. سَبَقَتْ يَدَايَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ | وَرَشَاشِ نَافِذَةٍ كَلَونِ العَنْدَمِ |
بمعنى: تصوِّت.
وأما "التصدية"، فإنها التصفيق، يقال منه: "صدَّى يصدِّي تصديةً"، و"صفَّق"، و"صفّح"، بمعنى واحد.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٢٢ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبى، عن موسى بن قيس، عن حجر بن عنبس: "إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، التصفير= و"التصدية"، التصفيق. (٢)
١٦٠٢٣ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، "المكاء"، التصفير= و"التصدية"، التصفيق.
١٦٠٢٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
(٢) الأثر: ١٦٠٢٢ - " موسى بن قيس الحضرمي "، " عصفور الجنة "، مضى برقم: ١٦٠٢٢.
و" حجر بن عنبس الحضرمي "، " أبو العنبس "، ويقال: " أبو السكن "، قال ابن معين: " شيخ كوفي ثقة مشهور "، تابعي، وكان شرب الدم في الجاهلية، شهد مع علي الجمل وصفين مترجم في التهذيب، والكبير ١٢ ٦٨، وابن أبي حاتم ١ ٢ ٢٦٦.
١٦٠٢٥ - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا فضيل، عن عطية: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: التصفيق والصفير.
١٦٠٢٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن قرة بن خالد، عن عطية، عن ابن عمر قال: "المكاء"، التصفيق، و"التصدية"، الصفير. قال: وأمال ابن عمر خدّه إلى جانب.
١٦٠٢٧ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع، عن قرة بن خالد، عن عطية، عن ابن عمر: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء" و"التصدية"، الصفير والتصفيق.
١٦٠٢٨- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، سمعت محمد بن الحسين يحدث، عن قرة بن خالد، عن عطية العوفي، عن ابن عمر قال: "المكاء"، الصفير، و"التصدية": التصفيق.
١٦٠٢٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن عطية، عن ابن عمر في قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال، "المكاء" الصفير، و"التصدية"، التصفيق= وقال قرة: وحكى لنا عطية فعل ابن عمر، فصفر، وأمال خده، وصفق بيديه.
١٦٠٣٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول في قول الله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية" قال بكر: فجمع لي جعفر كفيه، ثم نفخ فيهما صفيرًا، كما قال له أبو سلمة.
١٦٠٣٢-... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سلمة بن سابور، عن عطية، عن ابن عمر: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: تصفير وتصفيق. (١)
١٦٠٣٣-... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن ابن عمر، مثله.
١٦٠٣٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفّرون ويصفقون، فأنزل الله: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)) [سورة الأعراف: ٣٢]، فأمروا بالثياب.
١٦٠٣٥ - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد قال: كانت قريش يعارضون النبي ﷺ في الطواف يستهزئون به، يصفرون به ويصفقون، فنزلت: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية".
١٦٠٣٦ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: "إلا مكاء"، قال: كانوا ينفخون في أيديهم، و"التصدية"، التصفيق.
١٦٠٣٨ - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله= إلا أنه لم يقل: "صلاته".
١٦٠٣٩- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: "المكاء"، إدخال أصابعهم في أفواههم، و"التصدية"، التصفيق. قال نفرٌ من بني عبد الدار، كانوا يخلطون بذلك كله على محمد صلاتَه.
١٦٠٤٠ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: من بين الأصابع= قال أحمد: سقط عليَّ حرف، وما أراه إلا الخَذْف (١) = والنفخ والصفير منها، وأراني سعيد بن جبير حيث كانوا يَمْكون من ناحية أبي قُبَيس. (٢)
١٦٠٤١- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليمان قال، أخبرنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير في قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، كانوا يشبِّكون بين أصابعهم ويصفرون بها، فذلك "المكاء". قال: وأراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قُبَيس.
١٦٠٤٢- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب
(٢) " أبو قبيس "، اسم الجبل المشرف على بطن مكة.
١٦٠٤٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: "المكاء"، الصفير، و"التصدية"، التصفيق.
١٦٠٤٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.
١٦٠٤٥ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: كنا نُحَدَّث أن "المكاء"، التصفيق بالأيدي، و"التصدية"، صياح كانوا يعارضون به القرآن.
١٦٠٤٦ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، التصفير، و"التصدية"، التصفيق.
١٦٠٤٧ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، و"المكاء"، الصفير، على نحو طير أبيض يقال له "المكَّاء"، يكون بأرض الحجاز، (١) و"التصدية"، التصفيق.
١٦٠٤٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، صفير كان أهل الجاهلية يُعلنون به. قال: وقال في "المكاء"، أيضًا: صفير في أيديهم ولعب.
* * *
تَقَضِّيَ البَازِي إذَا البَازِي كَسَرْ (٣)
يعني: تقضُّض البازي، فقلب إحدى ضاديه ياء، فيكون ذلك وجهًا يوجَّه إليه.
* ذكر من قال ما ذكرنا في تأويل "التصدية".
١٦٠٤٩ - حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، صدهم عن بيت الله الحرام.
١٦٠٥٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليمان قال، أخبرنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وتصدية" قال: "التصدية"، صدّهم الناس عن البيت الحرام.
١٦٠٥١ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وتصدية"، قال: التصديد، عن سبيل الله، (٤) وصدّهم عن الصلاة وعن دين الله.
(٢) هو العجاج.
(٣) سلف البيت وتخريجه وشرحه ٢: ١٥٧، وسيأتي في التفسير ٣٠: ١٣٥ (بولاق).
(٤) في المطبوعة: " التصدية "، وفي المخطوطة توشك أن تقرأ هكذا وهكذا، ورأيت الأرجح أن تكون " التصديد "، فأثبتها.
* * *
وأما قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فإنه يعني العذابَ الذي وعدهم به بالسيف يوم بدر. يقول للمشركين الذين قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" الآية، حين أتاهم بما استعجلوه من العذاب= "ذوقوا"، أي اطعموا، وليس بذوق بفم، ولكنه ذوق بالحسِّ، ووجود طعم ألمه بالقلوب. (٢) يقول لهم: فذوقوا العذابَ بما كنتم تجحدون أن الله معذبكم به على جحودكم توحيدَ ربكم، ورسالةَ نبيكم صلى الله عليه وسلم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٥٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، أي: ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل. (٣)
١٦٠٥٤ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، قال: هؤلاء أهل بدر، يوم عذبهم الله.
١٦٠٥٥ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، يعني أهل بدر، عذبهم الله يوم بدر بالقتل والأسر.
* * *
(٢) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص ٤٣٤، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) الأثر: ١٦٠٥٣ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٦، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٠٥.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم، (١) فيعطونها أمثالهم من المشركين ليتقوَّوا بها على قتال رسول الله ﷺ والمؤمنين به، ليصدّوا المؤمنين بالله ورسوله عن الإيمان بالله ورسوله، (٢) فسينفقون أموالهم في ذلك، ثم تكون نفقتهم تلك عليهم= "حسرة"، يقول: تصير ندامة عليهم، (٣) لأن أموالهم تذهب، ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، لأن الله مُعْلي كلمته، وجاعل كلمة الكفر السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلى جهنم، فيعذبون فيها، (٤) فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك! أما الحيّ، فحُرِب ماله وذهبَ باطلا في غير دَرَك نفع، ورجع مغلوبًا مقهورًا محروبًا مسلوبًا. (٥) وأما الهالك، فقتل وسُلب، وعُجِّل به إلى نار الله يخلُد فيها، نعوذ بالله من غضبه.
وكان الذي تولَّى النفقةَ التي ذكرها الله في هذه الآية فيما ذُكر، أبا سفيان.
* ذكر من قال ذلك:
(٢) انظر تفسير " الصد " فيما سلف ١٢: ٥٥٩ تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " الحسرة " فيما سلف ٣: ٢٩٥ ٧: ٣٣٥ ١١: ٣٢٥.
(٤) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ص: ٤٧٢ تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٥) في المطبوعة: " محزونًا مسلوبًا "، والسياق يتقضى ما أثبت.
" محروب "، مسلوب المال.
وَجِئْنَا إلَى مَوْجٍ مِنَ البَحْرِ وَسْطَه أَحَابِيشُ، مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ (٢)
ثَلاثَةُ آلافٍ، ونَحْنُ نَصِيَّةٌ ثَلاثُ مِئِينَ إن كَثُرْنَ، فَأرْبَعُ (٣)
١٦٠٥٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن ابن أبزى: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، قال: نزلت في أبي سفيان، استأجر يوم أحد ألفين ليقاتل بهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، سوى من استجاش من العرب. (٤)
(٢) سيرة ابن هشام ٣: ١٤١، طبقات فحول الشعراء: ١٨٣، نسب قريش: ٩ وغيرها.
ويعني بقوله: " فجئنا إلى موج "، جيش الكفار يوم أحد، يموج موجه. وكان عدة المشركين بأحد ثلاثة آلاف. و " الحاسر "، الذي لا درع له، ولا بيضة على رأسه. و " المقنع "، الدارع الذي ليس لبس سلاحه، ووضع البيضة على رأسه.
(٣) " نصية "، أي: خيار أشراف، أهل جلد وقتال. يقال: " انتصى الشيء "، اختار ناصيته، أي أكرم ما فيه. وكان في المطبوعة: " ونحن نظنه "، وهو خطأ صرف، وهي في المخطوطة، كما كتبتها غير منقوطة.
وهكذا جاء الرواية في المخطوطة: " إن كثرن فأربع "، كأنه يعني أنهم كانوا ثلاثمئة، فإن كثروا فأربعمئة. وهو لا يصح، لأن عدة المسلمين يوم أحد كانت سبعمئة. فصواب الرواية ما أنشده ابن إسحاق وابن سلام.
" إنْ كَثُرْنَا وَأَرْبَعُ "
(٤) " استجاش "، طلب منه الجيش وجمعه على عدوه.
١٦٠٥٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، الآية، قال: لما قدم أبو سفيان بالعير إلى مكة أشَّبَ الناس ودعاهم إلى القتال، (٢) حتى غزا نبيَّ الله من العام المقبل. وكانت بدر في رمضان يوم الجمعة صبيحة سابع عشرة من شهر رمضان. وكانت أحد في شوال يوم السبت لإحدى عشرة خلت منه في العام الرابع.
١٦٠٦٠ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال الله فيما كان المشركون، ومنهم أبو سفيان، يستأجرون الرجال يقاتلون محمدًا بهم: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، وهو محمد صلى الله عليه وسلم= "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة"، يقول: ندامة يوم القيامة وويلٌ (٣) = "ثم يغلبون".
١٦٠٦١ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "ينفقون أموالهم ليصدوا
وسألته عنه فقال: " شيخ ". ولم يذكر أن اسم أبيه " عثمان ".
(٢) في المطبوعة: " أنشد الناس "، وهو لا معنى له. وفي المخطوطة: " أنسب "، غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. و " التأشيب "، التحريش بين القوم، و " التأشيب "، التجميع، يقال: " تأشب به أصحابه "، أي: اجتمعوا إليه وطافوا به. أراد أنه جمعهم وحرضهم على القتال.
(٣) في المطبوعة: " وويلا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضًا.
١٦٠٦٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٦٠٦٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، (١) [وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد. وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من الحديث عن يوم أحد، قالوا: أو من قاله منهم: لما أصيب] يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب، (٢) ورجع فَلُّهم إلى مكة، (٣) ورجع أبو سفيان بعِيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، (٤) وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وَتَرَكم وقتل خيارَكم، (٥) فأعينونا
(٢) هذه الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام، وإنما فعلت ذلك، لأن المطبوعة خالفت المخطوطة لخطأ فيها، فكتب في لمطبوعة: " قالوا: أما أصابت المسلمين يوم بدر... "، وكان في المخطوطة: " قالوا: لما أصيبت قريش، أو من قاله منهم، يوم بدر "، وهو غير مستقيم، فرجح قوله: " أو من قال منهم "، أن الناسخ قد عجل في نقل بقية الإسناد، وخلط الكلام فاضطرب. فلذلك أثبته بنصه من السيرة.
(٣) " الفل " (بفتح الفاء) : المنهزمون، الراجعون من جيش قد هزم.
(٤) في المطبوعة: " عبد الله بن ربيعة "، خطأ محض.
(٥) " وتر القوم "، أدرك فيهم مكروهًا بقتل أو غيره. و " الموتور " الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه.
١٦٠٦٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، إلى قوله: "يحشرون"، يعني النفرَ الذين مشوا إلى أبي سفيان، وإلى من كان له مال من قريش في تلك التجارة، فسألوهم أن يُقَوُّوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (٣) ففعلوا. (٤)
١٦٠٦٥ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن عطاء بن دينار في قول الله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم"، الآية، نزلت في أبي سفيان بن حرب. (٥)
* * *
وقال بعضهم: عني بذلك المشركون من أهل بدر.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٦٦ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" الآية، قال: هم أهل بدر.
* * *
(٢) الأثر: ١٦٠٦٣ - سيرة ابن هشام ٣: ٦٤.
(٣) في المطبوعة: " أن يعينوهم "، وفي سيرة ابن هشام: " يقووهم بها "، بزيادة.
(٤) الأثر: ١٦٠٦٤ سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٧، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٠٥٣.
(٥) الأثر: ١٦٠٦٥ - " سعيد بن أبي أيوب مقلاص المصري "، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٣١٧٨. وكان في المخطوطة: " سعيد بن أيوب "، وصححه ناشر المطبوعة.
و" عطاء بن دينار الهذلي المصري "، مضى أيضًا برقم: ١٦٠، ١٣١٧٨، بمثل هذا الإسناد.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (٣٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحشر الله هؤلاء الذين كفروا بربهم، وينفقون أموالهم للصدّ عن سبيل الله، إلى جهنم، ليفرق بينهم= وهم أهل الخبث، كما قال وسماهم "الخبيث" = وبين المؤمنين بالله وبرسوله، وهم "الطيبون"، كما سماهم جل ثناؤه. فميَّز جل ثناؤه بينهم بأن أسكن أهل الإيمان به وبرسوله جناته، وأنزل أهل الكفر نارَه. (١)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٦٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
= وتفسير " الطيب " فيما سلف من فهارس اللغة (طيب).
١٦٠٦٨ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر المشركين، وما يصنع بهم يوم القيامة، فقال: "ليميز الله الخبيث من الطيب"، يقول: يميز المؤمن من الكاف، فيجعل الخبيث بعضه على بعض.
* * *
ويعني جل ثناؤه بقوله: "فيجعل الخبيث بعضه على بعض"، فيحمل الكفار بعضهم فوق بعض = "فيركمه جميعا"، يقول: فيجعلهم ركامًا، وهو أن يجمع بعضهم إلى بعض حتى يكثروا، كما قال جل ثناؤه في صفة السحاب: ((ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا)) [سورة النور: ٤٣]، أي مجتمعًا كثيفًا، وكما:-
١٦٠٦٩ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "فيركمه جميعًا"، قال: فيجمعه جميعًا بعضه على بعض.
* * *
وقوله: "فيجعله في جهنم" يقول: فيجعل الخبيث جميعًا في جهنم= فوحَّد الخبر عنهم لتوحيد قوله: "ليميز الله الخبيث"، ثم قال: "أولئك هم الخاسرون"، فجمع، ولم يقل: "ذلك هو الخاسر"، فردَّه إلى أول الخبر.
ويعني ب "أولئك"، الذين كفروا، وتأويله: هؤلاء الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله "هم الخاسرون"، ويعني بقوله: "الخاسرون" الذين غُبنت صفقتهم، وخسرت تجارتهم. (١) وذلك أنهم شَرَوْا بأموالهم عذابَ الله في الآخرة، وتعجَّلوا بإنفاقهم إياها فيما أنفقوا من قتال نبيّ الله والمؤمنين به، الخزيَ والذلَّ.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "قل"، يا محمد، "للذين كفروا"، من مشركي قومك= "إن ينتهوا"، عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله، وقتالك وقتال المؤمنين، فينيبوا إلى الإيمان (١) = يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم (٢) = "وإن يعودوا"، يقول: وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر= فقد مضت سنتي في الأولين منهم ببدر، ومن غيرهم من القرون الخالية، (٣) إذ طغوا وكذبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم، من إحلال عاجل النِّقَم بهم، فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك، مثل الذي أحللت بهم. (٤)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٧٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "فقد مضت سنة الأولين"، في قريش يوم بدر، وغيرها من الأمم قبل ذلك.
١٦٠٧١ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
(٢) انظر تفسير " سلف " فيما سلف ٦: ١٤ ٨: ١٣٨، ١٥٠ ١١: ٤٨.
(٣) انظر تفسير " سنة " فيما سلف ٧: ٢٢٨ ٨: ٢٠٩.
(٤) في المطبوعة: " اللذين أحلت بهم "، وفي المخطوطة سيئة الكتابة، صوابها ما أثبت.
١٦٠٧٣ - حدثني ابن وكيع قال، (١) حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فقد مضت سنة الأولين"، قال: في قريش وغيرها من الأمم قبل ذلك.
١٦٠٧٤ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال في قوله: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا" لحربك= "فقد مضت سنة الأولين"، أي: من قُتل منهم يوم بدر. (٢)
١٦٠٧٥ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإن يعودوا"، لقتالك= "فقد مضت سنة الأولين"، من أهل بدر.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: وإن يعد هؤلاء لحربك، فقد رأيتم سنتي فيمن قاتلكم منهم يوم بدر، وأنا عائد بمثلها فيمن حاربكم منهم، فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض= وهو "الفتنة" (٣) = "ويكون الدين
" حدثنا المثنى قال، حدثنا ابن وكيع | "، وهو خطأ ظاهر، وصوابه من المخطوطة. |
(٣) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف: ٤٨٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٧٦ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، يعني: حتى لا يكون شرك.
١٦٠٧٧ - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن يونس، عن الحسن في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: "الفتنة"، الشرك.
١٦٠٧٨ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، يقول: قاتلوهم حتى لا يكون شرك= "ويكون الدين كله لله"، حتى يقال: "لا إله إلا الله"، عليها قاتل نبي الله صلى الله عليه وسلم، وإليها دَعا.
١٦٠٧٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: حتى لا يكون شرك.
١٦٠٨٠ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: حتى لا يكون بلاء.
١٦٠٨٢ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: حتى لا يكون كفر= "ويكون الدين كله لله"، لا يكون مع دينكم كفر.
١٦٠٨٣ - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه: أن عبد الملك بن مروان كتبَ إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة: "سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله ﷺ من مكة، وسأخبرك به، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان من شأن خروج رسول الله ﷺ من مكة، أن الله أعطاه النبوة، فنعم النبيُّ! ونعم السيد! ونعم العشيرة! فجزاه الله خيرًا، وعرّفنا وجهه في الجنة، وأحيانَا على ملته، وأماتنا عليها، وبعثنا عليها. وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يَبْعُدوا منه أوّلَ ما دعاهم إليه، (٢) وكادوا
أولهما هذا الإسناد الأول، سقط نص خبره.
والآخر إسناد أبي جعفر إلى ابن إسحاق، وهو هذا، حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:.. "، ثم هذا السياق الذي هنا، وهو نص ما في ابن هشام.
انظر سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٧، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٢٠٧٤.
(٢) في المطبوعة: " لم ينفروا منه " غير ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ.
١٦٠٨٤ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير: أنه كتب إلى الوليد: "أما بعد، فإنك كتبتَ إليّ تسألني عن مخرج رسول الله ﷺ من مكة، وعندي،
(٢) في المطبوعة: " أنكر ذلك عليه ناس "، زاد " عليه "، وفي التاريخ: " أنكروا ذلك عليه "، ليس فيه " ناس ".
(٣) في المطبوعة: " فانعطف عنه "، غير ما في المخطوطة عبثًا، وهو مطابق لما في التاريخ و " انصفق عنه الناس "، رجعوا وانصرفوا. و " انصفقوا عليه ": أطبقوا واجتمعوا، أصله من " الصفقة "، وهو الاجتماع على الشيء. وإنما غير المعنى استعمال الحرف، في الأول " عنه "، وفي الأخرى " عليه ". وهذا من محاسن العربية.
(٤) في المخطوطة: " شدودة الزلزال "، وهو سهو من الناسخ.
(٥) في المخطوطة: " لا يظلم بأرضه "، وصححها لناشر وتصحيحه مطابق لما في التاريخ.
(٦) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري.
(٧) قوله: " ومساكن لتجارهم "، ليست في التاريخ، وفي المطبوعة: " لتجارتهم "، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وابن كثير.
(٨) في المطبوعة: " رتاعًا من الرزق "، خالف المخطوطة، لأنها غير منقوطة، وهي مطابقة لما في التاريخ. و " الرفاغ " مصدر " رفغ " (بفتح فضم)، وهو قياس العربية، والذي في المعاجم " رفاغة ". يقال: " إنه لفي رفاغة من العيش "، و " رفاغية " (على وزن: ثمانية) : سعة من العيش وطيب وخصب. و " عيش رافغ ".
(٩) في المطبوعة والمخطوطة: " وخافوا عليهم الفتن "، والجيد ما أثبته من التاريخ.
(١٠) في التاريخ: " فمكث بذلك سنوات "، وهي أجود.
(١١) إلى هذا الموضع، انتهي ما رواه أبو جعفر في تاريخه ٢: ٢٢٠، ٢٢١، إلا أنه لم يذكر في ختام الجملة " ومنعتهم ".
وقوله: " ومنعتهم " (بفتحات)، جمع " مانع "، مثل " كافر " و " كفرة "، وهم الذين يمنعون من يرديهم بسوء.
وانظر تخريج الخبر في آخر هذا الأثر.
(١٢) " الاسترخاء "، السعة والسهولة. " استرخوا عنهم "، أرخوا عنهم شدة العذاب والفتنة.
(١٣) في المطبوعة: " تحدث بهذا الاسترخاء عنهم "، وفي المخطوطة هكذا: " تحددوا استرخائهم عنهم "، وأثبت الصواب من تفسير ابن كثير.
(١٤) من أول قوله: " فلما رأوا ذلك استرخوا... "، إلى هذا الموضع، لم يذكره أبو جعفر في تاريخه، ثم يروي ما بعده، كما سأبينه بعد في التعليق.
(١٥) في المطبوعة والمخطوطة: " توامرت على أن يفتنوهم "، وأثبت ما في التاريخ. أما ابن كثير في تفسيره فنقل: " توامروا على أن يفتنوهم ". وفي المطبوعة وحدها: " ويشدوا عليهم "، وأثبت ما في التاريخ وابن كثير.
و" تذامر القوم "، حرض بعضهم بعضًا وحثه على قتال أو غيره. و " ذمر حزبه تذميرًا "، شجعه وحثه، مع لوم واستبطاء.
(١٦) في المطبوعة: " سبعون نفسًا "، وفي المخطوطة؛ " سبعين نفسًا "، غير منقوطة، والصواب ما أثبته من تاريخ الطبري، وتفسير ابن كثير.
(١٧) في المطبوعة والمخطوطة: " وأعطوه على أنا منك.. "، سقط من الكلام " عهودهم "، أثبتها من التاريخ، وفي تفسير ابن كثير " وأعطوه عهودهم ومواثيقهم ".
(١٨) الأثر: ١٦٠٨٣ - " أبان العطار "، هو " أبان بن يزيد العطار "، وقد سلف شرح هذا الإسناد: ١٥٧١٩، ١٥٨٢١، وغيرهما إسناد صحيح.
وكتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان قد رواه أبو جعفر مفرقًا في تفسيره، وفي تاريخه، فما رواه في تفسيره آنفًا رقم: ١٥٧١٩، ١٥٨٢١ أما في تاريخه، فقد رواه مفرقًا في مواضع، هذه هي ٢: ٢٢٠، ٢٢١، ٢٤٠، ٢٤١، ٢٤٥، ٢٦٧ - ٢٦٩ ثم ٣: ١١٧، ١٢٥، ١٣٢، وعسى أن أستطيع أن ألم شتات هذا الكتاب من التفسير والتاريخ، حتى أخرج منه كتاب عروة إلى عبد الملك كاملا، فهو من أوائل الكتب التي كتبت عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الخبر نفسه، مفرق في موضعين من التاريخ ٢: ٢٢٠، ٢٢١ كما أشرت إليه في ص: ٤٤٣ تعليق: ١ ثم ٢: ٢٤٠، ٢٤١.
ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من التفسير في تفسيره ٤: ٦١، ٦٢.
ثم انظر التعليق على الأثر التالي.
١٦٠٨٥- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن الأعمش، عن مجاهد: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: "يَسَاف" و"نائلة"، صنمان كانا يعبدان. (٢)
* * *
وأما قوله: "فإن انتهوا"، فإن معناه: فإن انتهوا عن الفتنة، وهي الشرك بالله، وصارُوا إلى الدين الحق معكم (٣) = "فإن الله بما يعملون بصير"، يقول: فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون من ترك الكفر والدخول في دين الإسلام، (٤) لأنه يبصركم ويبصر أعمالكم، (٥) والأشياء كلها متجلية له، لا تغيب عنه، ولا
وممن ضعف " عبد الرحمن بن أبي الزناد " ابن معين قال: " ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث، ليس بشيء ". وقال أحمد: " مضطرب الحديث "، وقال ابن المديني " كان عند أصحابنا ضعيفًا "، وقال ابن المديني: " ما حدث به بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون ". وقال ابن سعد: " كان كثير الحديث، وكان يضعف لروايته عن أبيه ".
وأبوه " عبد الله بن ذكوان "، أبو الزناد، ثقة، روى له الجماعة.
وقد روى " عبد الرحمن بن أبي الزناد "، أن الذي كتب إليه عروة، هو " الوليد بن عبد الملك ابن مروان "، والإسناد السالف أصح واوثق، أنه كتب إلى " عبد الملك بن مروان "، فأنا أخشى أن يكون هذا الخبر مما اضطربت فيه رواية " ابن أبي الزناد "، عن أبيه.
(٢) " إساف " (بكسر اللف وفتحها) و " يساف " (بكسر الياء وفتحها)، واحد. وقد مضى ذلك في الخبر: ١٠٤٣٣، والتعليق عليه ٩: ٢٠٨، تعليق: ١.
وكان في المخطوطة هنا: " ساف ونافلة "، وهو خطأ محض.
(٣) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف ص: ٥٣٦، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٤) انظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة (بصر).
(٥) في المطبوعة: " يبصركم "، والصواب من المخطوطة.
* * *
وقد قال بعضهم: معنى ذلك، فإن انتهوا عن القتال.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بالصواب، لأن المشركين وإن انتهوا عن القتال، فإنه كان فرضًا على المؤمنين قتالهم حتى يسلموا.
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن أدبر هؤلاء المشركون عما دعوتموهم إليه، أيها المؤمنون من الإيمان بالله ورسوله، وترك قتالكم على كفرهم، فأبوا إلا الإصرار على الكفر وقتالكم، فقاتلوهم، وأيقنوا أنّ الله معينكم عليهم وناصركم (١) = "نعم المولى"، هو لكم، يقول: نعم المعين لكم ولأوليائه (٢) = "ونعم النصير"، وهو الناصر. (٣)
* * *
١٦٠٨٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وإن تولوا"، عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم، فإن الله هو مولاكم الذي أعزكم
(٢) انظر تفسير " المولى " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
(٣) انظر تفسير " النصير " فيما سلف ١٠: ٤٨١، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا تعليم من الله عز وجل المؤمنين قَسْمَ غنائمهم إذا غنموها.
يقول تعالى ذكره: واعلموا، أيها المؤمنون، أن ما غنمتم من غنيمة.
* * *
واختلف أهل العلم في معنى "الغنيمة" و"الفيء".
فقال بعضهم: فيهما معنيان، كل واحد منهما غير صاحبه.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٨٧ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح قال: سألت عطاء بن السائب عن هذه الآية: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، وهذه الآية: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ)) [سورة الحشر: ٧]، قال قلت: ما "الفيء"، وما "الغنيمة"؟ قال: إذا ظهر المسلمون على المشركين وعلى أرضهم، وأخذوهم عنوةً، فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو "غنيمة"، وأما الأرض فهو في سوادنا هذا "فيء". (١)
* * *
وقال آخرون: "الغنيمة"، ما أخذ عنوة، و"الفيء"، ما كان عن صلح.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٨٨ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان الثوري قال:
* * *
وقال آخرون: "الغنيمة" و"الفيء"، بمعنى واحد. وقالوا: هذه الآية التي في "الأنفال"، ناسخة قوله: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)) الآية، [سورة الحشر: ٧].
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٨٩ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل)، قال: كان الفيء في هؤلاء، ثم نسخ ذلك في "سورة الأنفال"، فقال: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل"، فنسخت هذه ما كان قبلها في "سورة الأنفال"، (١) وجعل الخمس لمن كان له الفيء في "سورة الحشر"، وسائر ذلك لمن قاتل عليه. (٢)
* * *
وقد بينا فيما مضى "الغنيمة"، وأنها المال يوصل إليه من مال من خوّل الله مالَه أهلَ دينه، بغلبة عليه وقهرٍ بقتال. (٣)
* * *
فأما "الفيء"، فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك، وهو
(٢) الأثر: ١٦٠٨٩ - سيأتي هذا الخبر مطولا في تفسير " سورة الحشر " ٢٨: ٢٥، ٢٦ (بولاق).
(٣) انظر تفسير " الغنيمة " فيما سلف في تفسير " النفل " ص: ٣٦١ - ٣٨٥.
غير أن الذي ردّ حكم الله فيه من الفيء بحكمه في "سورة الحشر"، (٢) إنما هو ما وصفت صفته من الفيء، دون ما أوجف عليه منه بالخيل والركاب، لعلل قد بينتها في كتاب: (كتاب لطيف القول، في أحكام شرائع الدين)، وسنبينه أيضًا في تفسير "سورة الحشر"، إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى. (٣)
* * *
وأما قول من قال: الآية التي في "سورة الأنفال"، ناسخةٌ الآيةَ التي في "سورة الحشر"، فلا معنى له، إذ كان لا معنى في إحدى الآيتين ينفي حكم الأخرى. وقد بينا معنى "النسخ"، وهو نفي حكم قد ثبت بحكمٍ خلافه، في غير موضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (٤)
* * *
وأما قوله: "من شيء"، فإنه مرادٌ به: كل ما وقع عليه اسم "شيء"، مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من المشركين، مما وقع فيه القَسْم، حتى الخيط والمِخْيط، (٥) كما:-
١٦٠٩٠ - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
(٢) في المطبوعة: "... الذي ورد حكم الله فيه من الفيء يحكيه في سورة الحشر "، غير ما في المخطوطة، فأفسد الكلام إفسادًا تامًا.
(٣) انظر ما سيأتي ٢٨: ٢٤ - ٢٧ (بولاق).
(٤) انظر مقالته في " النسخ " في فهارس النحو والعربية وغيرهما، وفي مواضع فيها مراجع ذلك كله في كتابه هذا.
(٥) " المخيط "، الإبرة، وهو ما خيط به.
١٦٠٩١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد بمثله.
١٦٠٩٢- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم الفضل قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم قوله: "فأن لله خمسه"، مفتاحُ كلامٍ، (١) ولله الدنيا والآخرة وما فيهما، وإنما معنى الكلام: فإن للرسول خمسه.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٠٩٣ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن عن قول الله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول"، قال: هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة.
١٦٠٩٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد عن قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، قال: هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة. (٢)
(٢) الأثران: ١٦٠٩٣، ١٦٠٩٤ - " الحسن بن محمد "، هو " الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب "، وهو " الحسن بن محمد بن الحنيفة "، وهو الذي يروي عنه " قيس بن مسلم "، لا يعني " الحسن البصري ".
وهذا الخبر رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال: ١٤، ٣٢٦، ٣٣٠، رقم: ٣٩، ٨٣٦، ٨٤٦ وسيأتي مطولا برقم: ١٦١٢١.
١٦٠٩٦- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: "فأن لله خمسه"، قال: لله كل شيء.
١٦٠٩٧ - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، قال: لله كل شيء، وخُمس لله ورسوله، ويقسم ما سوى ذلك على أربعة أسهم.
١٦٠٩٨ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس، فأربعة أخماس لمن قاتل
و" أبو شهاب "، هو " عبد ربه بن نافع الكناني "، الحناط، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ ١ ٤٢.
و" ورقاء "، هو " ورقاء بن عمرو اليشكري "، مضى برقم: ٦٥٣٤.
و" نهشل "، هو " نهشل بن سعيد بن وردان النيسابوري "، ليس بثقة، وقال أبو حاتم: " ليس بقوي، متروك الحديث، ضعيف الحديث "، وقال ابن حبان: " يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب ".
وقال البخاري: " أحاديثه مناكير، قال إسحاق بن إبراهيم: ككان نهشل كذابًا ". مترجم في التهذيب، والكبير ٤ ٢ ١١٥، وابن أبي حاتم ٤ ١ ٤٩٦، وميزان الاعتدال ٣: ٢٤٣.
وانظر الخبر رقم: ١٦١٢٠.
وكان في المطبوعة: " فجعل سهم الله "، غير ما في المخطوطة وحذف، فأثبت ما في المخطوطة.
١٦٠٩٩ - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا أبان، عن الحسن قال: أوصى أبو بكر رحمه الله بالخمس من ماله، وقال: ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه.
١٦١٠٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الملك، عن عطاء: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول"، قال: خمس الله وخمس رسوله واحد. كان النبي ﷺ يحمل منه ويضع فيه ما شاء. (١)
١٦١٠١- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أصحابه، عن إبراهيم: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، قال: كل شيء لله، الخمس للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن لبيت الله خمسه وللرسول.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١٠٢ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع بن الجراح، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤتَى بالغنيمة، فيقسمها على خمسة، تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة، وهو سهم الله. ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم
١٦١٠٣- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، إلى آخر الآية، قال: فكان يُجَاء بالغنيمة فتوضع، فيقسمها رسول الله ﷺ خمسة أسهم، فيجعل أربعة بين الناس، ويأخذ سهمًا، ثم يضرب بيده في جميع ذلك السهم، فما قَبَضَ عليه من شيء جعله للكعبة، فهو الذي سُمِّي لله، ويقول: "لا تجعلوا لله نصيبًا، فإن لله الدنيا والآخرة، ثم يقسم بقيته على خمسة أسهم: سهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. (١)
* * *
وقال آخرون: ما سُمِّي لرسول الله ﷺ من ذلك، فإنما هو مرادٌ به قرابته، وليس لله ولا لرسوله منه شيء.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١٠٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس، فأربعة منها لمن قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة: فربع لله والرسول ولذي القربى = يعني قرابة النبي ﷺ = فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبي ﷺ من الخمس شيئًا. والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل. (٢)
* * *
(٢) الأثر: ١٦١٠٤ - رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، بهذا الإسناد نفسه، وبلفظه، في كتاب الأموال ص: ١٣، ٣٢٥، رقم: ٣٧، ٨٣٤، وفي آخره تفسير " ابن السبيل "، قال: " وهو الضعيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين ".
وانظر ما سيأتي رقم: ١٦١٢٤، ١٦١٢٩.
* * *
فأما من قال: "سهم الرسول لذوي القربى"، فقد أوجب للرسول سهمًا، وإن كان ﷺ صرفه إلى ذوي قرابته، فلم يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم، وقد:-
١٦١٠٥ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، الآية، قال: كان نبي الله ﷺ إذا غنم غنيمة جعلت أخماسًا، فكان خمس لله ولرسوله، ويقسم المسلمون ما بقي. وكان الخمس الذي جُعل لله ولرسوله، لرسوله ولذوي القربى واليتامى وللمساكين وابن السبيل (١) فكان هذا الخمس خمسة أخماس: خمس لله ورسوله، وخمس لذوي القربى. وخمس لليتامى، وخمس للمساكين. وخمس لابن السبيل.
١٦١٠٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، وجرير عن موسى بن أبي عائشة، عن يحيى بن الجزار، مثله.
١٦١٠٨ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن يحيى بن الجزار، مثله.
١٦١٠٩ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "فأن لله خمسه"، قال: أربعة أخماس لمن حضر البأس، والخمس الباقي لله والرسول، خمسه يضعه حيث رأى، وخمسه لذوي القربى، وخمسه لليتامى، وخمسة للمساكين، ولابن السبيل خمسه.
* * *
وأما قوله: "ولذي القربى"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم.
فقال بعضهم: هم قرابة رسول الله ﷺ من بني هاشم.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١١٠ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد قال: كان آل محمد ﷺ لا تحلّ لهم الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس.
١٦١١١- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد قال: كان النبي ﷺ وأهلُ
و" يحيى بن الجزار العرفي "، ثقة، مضى برقم: ٥٤٢٥.
وكان في المخطوطة: " يحيى الجزار "، والصواب ما في المطبوعة، ولكنه يأتي في الذي يليه في المخطوطة على الصواب.
ورواه أبو عبيد في الأموال ص: ١٣، رقم: ٣٤، ٣٥، وص: ٣٢٤، رقم: ٨٣١، ٨٣٢.
١٦١١٢ - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام، عن خصيف، عن مجاهد قال: قد علم الله أنّ في بني هاشم الفقراء، فجعل لهم الخمس مكانَ الصدقة.
١٦١١٣ - حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا إسماعيل بن أبان قال، حدثنا الصباح بن يحيى المزني، عن السدي، عن أبي الديلم قال، قال علي بن الحسين، رحمة الله عليه، لرجل من أهل الشأم: أما قرأت في "الأنفال": "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول" الآية؟ قال: نعم! قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم! (١)
١٦١١٤ - حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد قال: هؤلاء قرابة رسول الله ﷺ الذين لا تحل لهم الصدقة.
١٦١١٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن نَجْدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى، فكتب إليه كتابًا: "نزعم أنا نحن هم، فأبى ذلك علينا قومنا". (٢)
وأمَّا " صباح بن يحيى المزني "، فهو شيعي أيضُا، متروك، بل متهم، هكذا قال الحافظ ابن حجر والذهبي. وذكره البخاري، فقال: " فيه نظر "، وقال أبو حاتم: " شيخ ". مترجم في لسان الميزان ٣: ١٦٠، والكبير ٢ ٢ ٣١٥، وابن أبي حاتم ٢ ١ ٤٤٢، وميزان الاعتدال ١: ٤٦٢.
وأمَّا " أبو الديلم "، فلم أعرف من يكون، وهكذا أثبته من المخطوطة، وهو في لمطبوعة: " عن ابن الديلمي "، يعني " عبد الله بن فيروز الديلمي "، التابعي الثقة، ولا أظن أنه يروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وهذا إسناد هالك كما ترى.
(٢) الأثر: ١٦١١٥ - " نجدة ابن عويمر الحروري "، من رؤوس الخوارج.
وكتاب ابن عباس إلى نجدة، رواه أبو عبيدة في كتاب الأموال من طرق ص: ٣٣٢ - ٣٣٥، رقم: ٨٥٠ - ٨٥٢، وانظر ما سيأتي رقم: ١٦١١٧.
* * *
وقال آخرون: بل هم قريش كلها.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١١٧ - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرني عبد الله بن نافع، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري قال: كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن ذي القربى قال: فكتب إليه ابن عباس: "قد كنا نقول: إنّا هم، فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى". (١)
* * *
وقال آخرون: سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١١٨- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال: كان طُعْمة لرسول الله ﷺ ما كان حيًّا، (٢) فلما توفي جُعل لوليّ الأمر من بعده.
* * *
وقال آخرون: بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم وبني المطلب خاصةً.
(٢) " الطعمة " (بضم الطاء) : الرزق والمأكلة، يعني به الفيء.
١٦١١٩ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جبير بن مطعم قال: لما قَسَمَ رسول الله ﷺ سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان بن عفان رحمة الله عليه، فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو هاشم، لا ننكر فضلهم، لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد! ثم شبَّك رسول الله ﷺ يديه إحداهما بالأخرى. (١)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: "سهم ذي القربى، كان لقرابة رسول الله ﷺ من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب"، لأنّ حليف القوم منهم، ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين= أعني سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم ذي القربى= بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال بعضهم: يُصرفان في معونة الإسلام وأهله.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١٢٠ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا أبو شهاب، عن ورقاء، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: جُعل
١٦١٢١- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن عن قول الله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى"، قال: هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة. ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال قائلون: سهم النبي صلى الله عليه وسلم، لقرابة النبي ﷺ = وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة= واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
١٦١٢٢ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد، فذكر نحوه. (٢)
١٦١٢٣ - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمر بن عبيد، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي ﷺ في الكُرَاع والسلاح. (٣) فقلت لإبراهيم: ما كان علي رضي الله عنه يقول فيه؟ قال: كان عليٌّ أشدَّهم فيه.
١٦١٢٤ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين" الآية، قال ابن عباس: فكانت
(٢) الأثران: ١٦١٢١، ١٦١٢٢ - " الحسن بن محمد بن الحنفية "، وقد سلف شرح إسناد هذا الخبر، كما سلف مختصرًا برقم: ١٦٠٩٣، ١٦٠٩٤.
(٣) " الكراع " (بضم الكاف). اسم يجمع الخيل والسلاح.
١٦١٢٥- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال: كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تُوُفي، حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله، صدقةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (٢)
* * *
وقال آخرون: سهم ذوي القربى من بعد رسول الله ﷺ مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ولي أمر المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١٢٦ - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عمرو بن ثابت، عن عمران بن ظبيان، عن حُكَيم بن سعد، عن علي رضي الله عنه قال: يعطى كل إنسان نصيبه من الخمس، ويلي الإمام سهم الله ورسوله. (٣)
(٢) الأثر: ١٦١٢٥ - انظر ما سلف رقم: ١٦١١٨، وما سيأتي ١٦١٢٧.
(٣) الأثر: ١٦١٢٦ - " عمران بن ظبيان الحنفي "، فيه نظر، كان يميل إلى التشيع، وضعفه العقيلي، وابن عدي، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ ١ ٣٠٠، مضى برقم: ١٢١٠٠.
و" حكيم بن سعد الحنفي "، " أبو تحيى "، محله الصدق. مترجم في التهذيب، والكبير ٢ ١ ٨٧، وابن أبي حاتم ١ ٢ ٢٨٦.
و" حكيم "، بضم الحاء، مصغرًا. و " تحيي " بكسر التاء.
* * *
وقال آخرون: سهم رسول الله ﷺ مردود في الخمس، والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم: على اليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وذلك قول جماعة من أهل العراق.
وقال آخرون: الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١٢٨ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الغفار قال، حدثنا المنهال بن عمرو قال: سألت عبد الله بن محمد بن علي، وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا هو لنا. فقلت لعلي: إن الله يقول: "واليتامى والمساكين وابن السبيل"، فقالا يتامانَا ومساكيننا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن سهم رسول الله ﷺ مردودٌ في الخمس، والخمس مقسوم على أربعة أسهم، على ما روي عن ابن عباس: للقرابة سهم، ولليتامى سهم، وللمساكين سهم، ولابن السبيل سهم، لأن الله أوجبَ الخمس لأقوام موصوفين بصفات، كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين. وقد أجمعوا أنّ حق الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم، فكذلك حق أهل الخمس لن يستحقه غيرهم. فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم، كما غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في كتابه بفقد بعض من يستحقه، إلى غير أهل السهمان الأخَر.
* * *
و"المساكين"، هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. (٢)
و"ابن السبيل"، المجتاز سفرًا قد انقُطِع به، (٣) كما:-
١٦١٢٩ - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الخمس الرابع لابن السبيل، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون، أنما غنمتم من شيء فمقسوم القسم الذي بينته، وصدِّقوا به إن كنتم أقررتم بوحدانية الله وبما أنزل الله على عبده محمد ﷺ يوم فَرَق بين الحق والباطل ببدر، (٥) فأبان فَلَج المؤمنين وظهورَهم على عدوهم، وذلك "يوم التقى الجمعان"، جمعُ المؤمنين وجمعُ المشركين، والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم بأيدي المؤمنين، وعلى غير ذلك مما يشاء = "قدير"، لا يمتنع عليه شيء أراده. (٦)
* * *
(٢) انظر تفسير " المساكين " فيما سلف ١٠: ٥٤٤، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " ابن السبيل " فيما سلف ٨: ٣٤٦، ٣٤٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
وقوله: " انقطع به " بالبناء للمجهول، وهو إذا عجز عن سفره من نفقة ذهبت، أو عطبت راحلته، أو فنى زاده.
(٤) الأثر: ١٦١٢٩ - انظر ما سلف رقم: ١٦١٠٤، ١٦١٢٤، والتعليق عليهما.
(٥) انظر تفسير " الفرقان " فيما سلف ص: ٤٨٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٦) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة (قدر).
* ذكر من قال ذلك:
١٦١٣٠ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "يوم الفرقان"، يعني: ب"الفرقان"، يوم بدر، فرَق الله فيه بين الحق والباطل.
١٦١٣١ - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. (١)
١٦١٣٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير= وإسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير= يزيد أحدهما على صاحبه= في قوله: "يوم الفرقان"، يوم فرق الله بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رأسَ المشركين عُتبةُ بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، وأصحاب رسول الله ﷺ ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين الألف والتسعمئة. فهزم الله يومئذ المشركين، وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك.
١٦١٣٢م - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن مقسم: "يوم الفرقان"، قال: يوم بدر، فرق الله بين الحق والباطل.
١٦١٣٣- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عثمان الجزري، عن مقسم في قوله: "يوم الفرقان"، قال: يوم
١٦١٣٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "يوم الفرقان يوم التقى الجمعان" يوم بدر، و"بدر"، بين المدينة ومكة.
١٦١٣٥ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثني يحيى بن يعقوب أبو طالب، عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عبد الله بن حبيب قال: قال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانت ليلة "الفرقان يوم التقى الجمعان"، لسبع عشرة من شهر رمضان. (٢)
١٦١٣٦ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "يوم التقى الجمعان"، قال ابن جريج، قال ابن كثير: يوم بدر.
١٦١٣٧ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان"، أي: يوم فرقت بين الحق والباطل بقدرتي، (٣) يوم التقى الجمعان منكم ومنهم. (٤)
(٢) الأثر: ١٦١٣٥ - " يحيى بن يعقوب بن مدرك الأنصاري "، أبو طالب القاص، مترجم في الكبير ٤ ٢ ٣١٢، وابن أبي حاتم ٤ ٢ ١٩٨، ولسان الميزان ٦: ٢٨٢، وميزان الاعتدال ٣: ٣٠٦، قال البخاري: " منكر الحديث "، وقال أبو حاتم: " محله الصدق، لم يرو شيئا منكرًا، وهو ثقة في الحديث، أدخله البخاري في كتاب الضعفاء "، قال ابن أبي حاتم: " فسمعت أبي يقول: يحول من هناك ".
و" أبو عون "، " محمد بن عبيد الله الثقفي "، مضى مرارًا آخرها رقم: ١٥٩٢٥، وكان في المطبوعة: " عن ابن عون، عن محمد بن عبد الله الثقفي "، فأفسد الإسناد كل الإفساد، وكان في المخطوطة: " عن ابن عون، محمد بن عبيد الله الثقفي "، وهو خطأ هين، صوابه ما أثبت.
(٣) في المطبوعة: " أي: يوم فرق بين الحق والباطل ببدر، أي: يوم التقى الجمعان "، لعب بما في المخطوطة لعبًا، فأساء وجانب الأمانة. ولم يكن في المخطوطة من خطأ إلا أنه كتب " فرق " مكان " فرقت ". والذي أثبته نص المخطوطة، وسيرة ابن هشام.
(٤) الأثر: ١٦١٣٧ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٨، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٠٨٦.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقنوا، أيها المؤمنون، واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بيَّنه لكم ربكم، إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على عبده يوم بدر، إذ فرق بين الحق والباطل من نصر رسوله= "إذ أنتم"، حينئذ، "بالعدوة الدنيا"، يقول: بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة (١) = "وهم بالعدوة القصوى"، يقول: وعدوكم من المشركين نزولٌ بشَفير الوادي الأقصى إلى مكة= "والركب أسفل منكم"، يقول: والعير فيه أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١٣٩ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا"، قال: شفير الوادي الأدنى، وهم بشفير الوادي الأقصى= "والركب أسفل منكم"، قال: أبو سفيان وأصحابه، أسفلَ منهم.
١٦١٤١ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى"، من الوادي إلى مكة= "والركب أسفل منكم"، أي: عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها، عن غير ميعاد منكم ولا منهم. (٢)
١٦١٤٢ - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "والركب أسفل منكم"، قال: أبو سفيان وأصحابه، مقبلون من الشأم تجارًا، لم يشعروا بأصحاب بدر، ولم يشعر محمد ﷺ بكفار قريش، ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه، حتى التقى على ماء بدر من يسقي لهم كلهم. (٣) فاقتتلوا، (٤) فغلبهم أصحاب محمد ﷺ فأسروهم.
١٦١٤٣- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٦١٤٤- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
(٢) الأثر: ١٦١٤١ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٨، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦١٣٧.
(٣) (٣) في المطبوعة: " حتى التقيا "، وأثبت ما في المخطوطة.
(٤) " فاقتتلوا "، مكررة في المخطوطة مرتين، وأنا في ريب من هذه الجملة كلها.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: "إذ أنتم بالعدوة".
فقرأ ذلك عامة قرأة المدنيين والكوفيين: (بِالعُدْوَةِ)، بضم العين.
* * *
وقرأه بعض المكيين والبصريين: (بِالعِدْوَةِ)، بكسر العين.
* * *
قال أبو جعفر: وهما لغتان مشهورتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ، يُنْشَد بيت الراعي:
وَعَيْنَانِ حُمْرٌ مَآقِيهِمَا كَمَا نَظَرَ العِدْوَةَ الجُؤْذَرُ (٢)
بكسر العين من "العدوة"، وكذلك ينشد بيت أوس بن حجر:
وَفَارِس لَوْ تَحُلُّ الخَيْلُ عِدْوَتَهُ وَلَّوْا سِرَاعًا، وَمَا هَمُّوا بِإقْبَالِ (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا﴾
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره: ولو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه، أنتم أيها المؤمنون وعدوكم من المشركين، عن ميعاد منكم ومنهم، = "لاختلفتم في الميعاد"، لكثرة عدد عدوكم، وقلة عددكم، ولكن الله جمعكم
(٢) لم أجد البيت في مكان آخر، وللراعي أبيات كثيرة مفرقة على هذا الوزن، كأنه منها.
(٣) من قصيدته في رثاء فضالة بن كلدة الأسدي، والبيت في منتهى الطلب، وليس في ديوانه، يقول قبله:
أمْ مَلِعَادِيَةٍ تردِي مُلَمْلَمَةٍ | كأنَّهَا عَارِضٌ في هَضْبِ أوْعالِ |
لَهَا لَمَّا رأوك عَلَى نَهْدٍ مَرَاكِلُهُ | يَسْعَى بِبزِّ كَمِيٍّ غَيْرِ مِعْزَالِ |
وَفَارِسٍ لا يَحُلُّ القَوْمُ عُدْوَتَهُ | ................... |
١٦١٤٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد"، ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم، ما لقيتموهم= "ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولا"، أي: ليقضي الله ما أراد بقدرته، من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، عن غير مَلأ منكم، (٣) ففعل ما أراد من ذلك بلطفه. (٤)
١٦١٤٧ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ،أخبرني يونس بن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك يقول في غزوة بدر: إنما خرج رسول الله ﷺ والمسلمون يريدون عِيَر قريش،
(٢) انظر تفسير " القضاء " فيما سلف ١١: ٢٦٧، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: " عن غير بلاء "، وفي سيرة ابن هشام، في أصل المطبوعة مثله، وهو كلام فاسد جدًا. وفي مخطوطة الطبري، ومخطوطات ابن هشام ومطبوعة أوربا،: " عن غير ملأ "، كما أثبتها.
يقال: " ما كان هذا الأمر عن ملأ منا "، أي: عن تشاور واجتماع. وفي حديث عمر حين طعن: " أكان هذا عن ملأ منكم؟ "، أي: عن مشاورة من أشرافكم وجماعتكم.
ثم غير ناشر المطبوعة الكلمة التي بعدها، كتب " فعل "، مكان " ففعل ". وكل هذا عبث وذهاب ورع.
(٤) الأثر: ١٦١٤٦ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٨، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦١٤١.
١٦١٤٨ - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله ﷺ وأصحابه، فالتقوا ببدر، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء، ولا هؤلاء بهؤلاء، حتى التقت السُّقَاة. قال: ونَهَدَ الناسُ بعضهم لبعض. (٢)
* * *
و" عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري "، ثقة، كان قائد أبيه حين عمى، روى عن أبيه. روى. روى عنه ابنه عبد الرحمن، وروى عنه الزهري. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ ٢ ١٤٢.
وكان في المخطوطة: " إنما يخرج رسول الله "، وهو جيد عربي. ولكنه في المراجع " إنما خرج "، فأثبته كما في المطبوعة.
وهذا الخبر جزء من خبر كعب بن مالك، الطويل في امر غزوة تبوك، وما كان من تخلفه حتى تاب الله عليه.
ورواه أحمد في مسنده ٣: ٤٥٦، ٤٥٧، ٤٥٩ ٦: ٣٨٧.
ورواه البخاري في صحيحه (الفتح ٨: ٨٦).
ورواه مسلم في صحيحه من هذه الطريق ١٧: ٨٧.
(٢) الأثر: ١٦١٤٨ - " ابن عون "، هو " عبد الله بن عون المزني "، مضى مرارًا.
و" عمير بن إسحاق القرشي "، لم يرو عنه غير ابن عون، متكلم فيه. مضى برقم: ٧٧٧٦.
وكان في المطبوعة: " عمر بن إسحاق "، لم يحسن قراءة المخطوطة.
وقوله: " نهد الناس بعضهم لبعض "، نهضوا إلى القتال. يقال: " نهد القوم إلى عدوهم، ولعدوهم "، أي: صمدوا له وشرعوا في قتاله. و " نهدوا يسألونه "، أي: شرعوا ونهضوا.
وكأن ناشر المطبوعة لم يفهمها أو لم يحسن قراءتها، فكتب مكان " نهد ": " نظر الناس... "، وهذا من طول عبثه بهذا النص الجليل، حتى ألف العبث واستمر عليه واستمرأه.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكن الله جمعهم هنالك، ليقضي أمرًا كان مفعولا= "ليهلك من هلك عن بينة".
* * *
وهذه اللام في قوله: "ليهلك" مكررة على "اللام" في قوله: "ليقضي"، كأنه قال: ولكن ليهلك من هلك عن بينة، جَمَعكم.
* * *
ويعني بقوله: "ليهلك من هلك عن بينة"، ليموت من مات من خلقه، (١) عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره، وعبرة قد عاينها ورآها (٢) = "ويحيا من حي عن بينة"، يقول: وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أُثبتت له وظهرت لعينه فعلمها، جمعنا بينكم وبين عدوكم هنالك.
* * *
وقال ابن إسحاق في ذلك بما:-
١٦١٤٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ليهلك من هلك عن بينة"، [أي ليكفر من كفر بعد الحجة]، (٣) لما رأى من الآية والعبرة، (٤) ويؤمن من آمن على مثل ذلك. (٥)
* * *
(٢) انظر تفسير " بينة " فيما سلف من فهارس اللغة (بين).
(٣) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، أضفتها من سيرة ابن هشام.
(٤) في المطبوعة: " من الآيات والعبر "، وفي المخطوطة: " من الآيات والعبرة "، وأثبت الصواب من سيرة ابن هشام.
(٥) الأثر: ١٦١٤٩ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٨، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦١٤٦.
يقول جل ثناؤه لهم ولعباده: فاتقوا ربكم، (٢) أيها الناس، في منطقكم: أن تنطقوا بغير حق، وفي قلوبكم: أن تعتقدوا فيها غيرَ الرُّشد، فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٤٣) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن الله، يا محمد، سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدوك وعدوهم "في منامك قليلا"، يقول: يريكهم في نومك قليلا فتخبرهم بذلك، حتى قويت قلوبهم، واجترأوا على حرب عدوهم= ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرًا، لفشل أصحابك، فجبنوا وخاموا، (٣) ولم يقدروا على حرب القوم، (٤) ولتنازعوا في ذلك، (٥) ولكن الله
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " واتقوا " بالواو، و " والفاء "، هنا حق الكلام.
(٣) في المطبوعة: " فجبنوا وخافوا "، غير ما في المخطوطة. يقال: " خام في القتال "، إذا جبن، فنكل ونكص وتراجع.
(٤) انظر تفسير " فشل " فيما سلف ٧: ١٦٨، ٢٨٩.
(٥) انظر تفسير " التنازع " فيما سلف ٧: ٢٨٩ ٨: ٥٠٤.
* * *
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا"، أي: في عينك التي تنام بها= فصيّر "المنام"، هو العين، كأنه أراد: إذ يريكهم الله في عينك قليلا. (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١٥٠ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا"، قال: أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر النبي ﷺ أصحابه بذلك، فكان تثبيتًا لهم.
١٦١٥١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
١٦١٥٢-.... وقال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
١٦١٥٣ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا"، الآية، فكان أول ما أراه من ذلك نعمةً من نعمه عليهم، شجعهم بها على عدوهم، وكفَّ بها ما تُخُوِّف عليهم من
(٢) انظر تفسير " ذات الصدور " فيما سلف ٧: ١٥٥، ٣٢٥ ١٠: ٩٤.
(٣) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن ١: ٢٤٧.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ولكن الله سلم".
فقال بعضهم: معناه: ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم، حتى أظهرهم على عدوهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١٥٤ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "ولكن الله سلم"، يقول: سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولكن الله سلم أمره فيهم.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١٥٥ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: "ولكن الله سلم"، قال: سلم أمره فيهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن عباس، وهو أن الله سلم القومَ = بما أرى نبيه ﷺ في منامه = من الفشل
وفي السيرة، بعد تمام الكلام،: " قال ابن هشام: (تخوف)، مبدلة من كلمة ذكرها ابن إسحاق، ولم أذكرها ". فجاء أبو ذر الخشني في تعليقه على السيرة فقال: " يقال الكلمة: (تخوف)، بفتح التاء والخاء والواو، وقيل: كانت (تخوفت) وأصلح ذلك ابن هشام، لشناعة اللفظ في حق الله عز وجل ".
وهذا لا يقال، لأن ابن هشام يصرح بأنه نسيها ولم يذكرها، فأبدل منها غيرها، فهو لم يغير ذلك إلا علة النسيان.
(٢) الأثر: ١٦١٥٣ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٨، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦١٤٩.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (٤٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "وإن الله لسميع عليم" = إذ يري الله نبيه في منامه المشركين قليلا وإذ يريهم الله المؤمنين إذ لقوهم في أعينهم قليلا وهم كثير عددهم، ويقلل المؤمنين في أعينهم، ليتركوا الاستعداد لهم، فتهون على المؤمنين شوكتهم، كما:-
١٦١٥٦ - حدثني ابن بزيع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لقد قلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم هم؟ قال: ألفًا. (١)
١٦١٥٧- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بنحوه.
وكان في المطبوعة: " كنا ألفًا "، زاد " كنا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
١٦١٥٩ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال ناس من المشركين: إن العيرَ قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل: الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه! فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم. وقال: يا قوم لا تقتلوهم بالسلاح، ولكن خذوهم أخذًا، فاربطوهم بالحبال! = يقوله من القدرة في نفسه.
* * *
وقوله: "ليقضي الله أمرًا كان مفعولا"، يقول جل ثناؤه: قلّلتكم أيها المؤمنون، في أعين المشركين، وأريتكموهم في أعينكم قليلا حتى يقضي الله بينكم ما قضى من قتال بعضكم بعضًا، وإظهاركم، أيها المؤمنون، على أعدائكم من المشركين والظفر بهم، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. وذلك أمرٌ كان الله فاعلَه وبالغًا فيه أمرَه، كما:-
١٦١٦٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ليقضي الله أمرا كان مفعولا"، أي: ليؤلف بينهم على الحرب، للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من أهل ولايته. (١)
* * *
= "وإلى الله ترجع الأمور"، يقول جل ثناؤه: مصير الأمور كلها إليه في الآخرة، فيجازي أهلها على قدر استحقاقهم المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا تعريفٌ من الله جل ثناؤه أهل الإيمان به، السيرةَ في حرب أعدائه من أهل الكفر به، والأفعالَ التي يُرْجَى لهم باستعمالها عند لقائهم النصرة عليهم والظفر بهم. ثم يقول لهم جل ثناؤه: "يا أيها الذين آمنوا"، صدقوا الله ورسوله = إذا لقيتم جماعة من أهل الكفر بالله للحرب والقتال، (١) فاثبتوا لقتالهم، ولا تنهزموا عنهم ولا تولوهم الأدبار هاربين، إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة منكم= "واذكروا الله كثيرًا"، يقول: وادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم، وأشعروا قلوبكم وألسنتكم ذكره= "لعلكم تفلحون"، يقول: كيما تنجحوا فتظفروا بعدوكم، ويرزقكم الله النصرَ والظفر عليهم، (٢) كما:-
١٦١٦١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون"، افترضَ الله ذكره عند أشغل ما تكونون، عند الضِّراب بالسيوف.
١٦١٦٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة"، يقاتلونكم في سبيل الله= "فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا"، اذكروا الله الذي بذلتم له أنفسكم والوفاء بما أعطيتموه من بيعتكم= "لعلكم تفلحون". (٣)
* * *
(٢) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص: ١٦٩، تعليق ٢، والمراجع هناك.
(٣) الأثر: ١٦١٦٢ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٩، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦١٦.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: أطيعوا، أيها المؤمنون، ربَّكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تخالفوهما في شيء = "ولا تنازعوا فتفشلوا"، يقول: ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم (١) = "فتفشلوا"، يقول: فتضعفوا وتجبنوا، (٢) = "وتذهب ريحكم".
* * *
وهذا مثلٌ. يقال للرجل إذا كان مقبلا ما يحبه ويُسَرّ به (٣) "الريح مقبلةٌ عليه"، يعني بذلك: ما يحبه، ومن ذلك قول عبيد بن الأبرص:
كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطَبٍ وَالفَضْلُ لِلقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ (٤)
(٢) انظر تفسير " الفشل " ص: ٥٦٩، تعليق: ٤، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: " مقبلا عليه ما يحبه "، زاد " عليه "، وليست في المخطوطة.
(٤) ديوانه: ٤٩، من أبيات قبله، يقول: والبيت الثاني من هذه الأبيات جاء في مخطوطة الديوان: " لا يدَّعوا إذا حام الكماة ولا إذا.. "، فصححه الناشر المستشرق " تدعوا إذن حامي الكماة لا كسلا "، فجاء بالغثاثة كلها في شطر واحد. فيصحح كما أثبته. ويعني بقوله: " لا يدعون إذا خام الكماة "، أي: لا يتنادون بترك الفرار، و " خام " نكص، كما قال الآخر: تَنَادَوْا: يَا آلَ عَمْروٍ لا تَفِرُّوا!... فَقُلْنَا: لا فِرَارَ ولا صُدُودَا
دَعَا مَعَاشِرَ فَاسْتَكَّتْ مَسَامِعُهُمْ | يَا لَهْفَ نَفْسِي لَوْ تَدْعُو بَني أَسَدٍ |
لا يَدَّعُونَ إذَا خَامَ الكُمَاةُ ولا | إذَا السُّيُوفُ بِأَيْدِي القَوْمِ كالْوَقْدِ |
لَوْ هُمْ حُمَاتُكَ بالمحْمَى حَمَوْكَ وَلَمْ | تُتْرَكْ لِيَوْمٍ أقَامَ النَّاسَ في كَبَدِ |
كَمَا حَمَيْنَاكَ.......... | .................... |
* * *
وإنما يراد به في هذا الموضع: وتذهب قوتكم وبأسكم، فتضعفوا ويدخلكم الوهن والخلل.
* * *
="واصبروا"، يقول: اصبروا مع نبيّ الله ﷺ عند لقاء عدوكم، ولا تنهزموا عنه وتتركوه = "إن الله مع الصابرين"، يقول: اصبروا فإني معكم. (٢)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦١٦٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "وتذهب ريحكم"، قال: نصركم. قال: وذهبت ريحُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، (٣) حين نازعوه يوم أحد.
١٦١٦٤- حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وتذهب ريحكم"، فذكر نحوه.
١٦١٦٥- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه= إلا أنه قال: ريح أصحاب محمد حين تركوه يوم أحد.
١٦١٦٦ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، قال:
(٢) انظر تفسير " مع " فيما سلف ص: ٤٥٥، تعليق: ٤، المراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: " أصحاب رسول الله "، وأثبت ما في المخطوطة.
١٦١٦٧ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وتذهب ريحكم"، قال: ريح الحرب.
١٦١٦٨ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وتذهب ريحكم"، قال: "الريح"، النصر، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدو، فإذا كان ذلك لم يكن لهم قِوَام.
١٦١٦٩ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ولا تنازعوا فتفشلوا"، أي: لا تختلفوا فيتفرق أمركم= "وتذهب ريحكم"، فيذهب حَدُّكم (٢) = "واصبروا إن الله مع الصابرين"، أي: إني معكم إذا فعلتم ذلك. (٣)
١٦١٧٠ - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "ولا تنازعوا فتفشلوا"، قال: الفشل، الضعف عن جهاد عدوه والانكسار لهم، فذلك "الفشل".
(٢) في المطبوعة: " جدكم "، بالجيم، والصواب ما في سيرة ابن هشام، وفيها " حدتكم "، وفي مخطوطاتها " حدكم "، وهما بمعنى، كما أسلفت في التعليق قبله.
(٣) الأثر: ١٦١٦٩ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٩، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦١٦٢.
القول في تأويل قوله: ﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) ﴾
قال أبو جعفر: وهذا تقدُّمٌ من الله جل ثناؤه إلى المؤمنين به وبرسوله، أن لا يعملوا عملا إلا لله خاصة، وطلب ما عنده، لا رئاء الناس، كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلبَ رئاء الناس. وذلك أنهم أخبروا بفَوْت العِير رسولَ الله ﷺ وأصحابه، (١) وقيل لهم: "انصرفوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها! "، فأبوا وقالوا: "نأتي بدرًا فنشرب بها الخمر، وتعزف علينا القِيان، وتتحدث بنا العرب فيها"، (٢) فَسُقوا مكان الخمر كؤوس المنايا، كما-
١٦١٧١ - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: كانت قريش قبل أن يلقاهم النبي ﷺ يوم بدر، قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه: إنا قد أجزنا القوم، وأن ارجعوا. (٣) فجاء الركب الذين بعثهم أبو سفيان الذين يأمرون قريشًا بالرجعة بالجُحفة، فقالوا: "والله لا نرجع حتى ننزل بدرًا، فنقيم فيه ثلاث ليالٍ، ويرانا من غَشِينا من أهل الحجاز، فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا". وهم الذين قال الله: "الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، والتقوا هم والنبيّ صلى الله عليه وسلم، ففتح الله على رسوله، وأخزى أئمة الكفر،
(٢) في المطبوعة: " وتتحدث بنا العرب لمكاننا فيها "، زاد ما ليس في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: " فارجعوا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ.
١٦١٧٢ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق = في حديث ذكره = قال، حدثني محمد بن مسلم، وعاصم بن عمر، (٢) وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، عن ابن عباس قال: لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عِيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا! فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا = وكان "بدر" موسمًا من مواسم العرب، يجتمع لهم بها سوق كل عام = فنقيم عليه ثلاثًا، وننحر الجُزُر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا، فامضوا. (٣)
١٦١٧٣ - قال ابن حميد حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، أي: لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه الذين قالوا: "لا نرجع حتى نأتي بدرًا، وننحر الجزر، ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا"، أي: لا يكونن أمركم رياءً ولا سمعة، ولا التماس ما عند الناسَ، وأخلصوا لله النية والحِسْبة في نصر دينكم، وموازرة نبيكم، أي: لا تعملوا إلا لله، ولا تطلبوا غيره. (٤)
١٦١٧٤ - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال،
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " عاصم بن عمرو "، وهو خطأ، إنما هو " عاصم بن عمر بن قتادة)، سلف مرارًا، وانظر سيرة ابن هشام ٢: ٢٥٧.
(٣) الأثر: ١٦١٧٢ - سيرة ابن هشام ٢: ٢٧٠، وتاريخ الطبري ٢: ٢٧٦، من أثر طويل.
(٤) الأثر: ١٦١٧٣ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٢٩، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦١٦٩. وفي لفظه اختلاف يسير.
١٦١٧٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "بطرًا ورئاء الناس"، قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر.
١٦١٧٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله= قال ابن جريج، وقال عبد الله بن كثير: هم مشركو قريش، وذلك خروجهم إلى بدر.
١٦١٧٧ - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، يعني: المشركين الذي قاتلوا رسول الله ﷺ يوم بدر.
١٦١٧٨ - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، قال: هم قريش وأبو جهل وأصحابه، الذين خرجوا يوم بدر.
١٦١٧٩ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط"، قال: كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله يوم بدر، خرجوا ولهم بَغْي وفخر. وقد قيل لهم يومئذ: "ارجعوا، فقد انطلقت عيركم، وقد ظفرتم". قالوا: "لا والله، حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا! ". قال: وذكر لنا أن نبي الله ﷺ قال يومئذ: "اللهم إنّ قريشًا أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادَّك ورسولك"!
١٦١٨٠ - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
١٦١٨١ - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "الذين خرجوا من ديارهم بطرًا"، قال: هم المشركون، خرجوا إلى بدر أشرًا وبطرًا.
١٦١٨٢ - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر، خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط".
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: ولا تكونوا، أيها المؤمنون بالله ورسوله، في العمل بالرياء والسمعة، وترك إخلاص العمل لله، واحتساب الأجر فيه، كالجيش من أهل الكفر بالله ورسوله الذين خرجوا من منازلهم بطرًا ومراءاة الناس بزّيهم وأموالهم وكثرة عددهم وشدة بطانتهم (١) = "ويصدون عن سبيل الله"، يقول: ويمنعون الناس من دين الله والدخول في الإسلام، بقتالهم إياهم، وتعذيبهم من قدروا عليه من أهل الإيمان بالله (٢) = "والله بما يعملون"، من الرياء والصدِّ عن سبيل الله، وغير ذلك من أفعالهم= "محيط"، يقول: عالم بجميع ذلك، لا يخفى عليه منه شيء، وذلك أن الأشياء كلها له متجلّية، لا يعزب عنه منها شيء، فهو لهم بها معاقب، وعليها معذِّب. (٣)
(٢) انظر تفسير " الصد " فيما سلف ص: ٥٢٩، تعليق ٢، والمراجع هناك.
وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل).
(٣) انظر تفسير " محيط " فيما سلف ٩: ٢٥٢، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم)، وحين زين لهم الشيطان أعمالهم، وكان تزيينه ذلك لهم، (١) كما:-
١٦١٨٣- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: جاء إبليس يوم بدر في جُنْد من الشياطين، معه رايته، في صورة رجل من بني مُدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، (٢) فقال الشيطان للمشركين: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم). فلما اصطف الناس، أخذ رسول الله ﷺ قبضةً من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولَّوا مدبرين. وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع. إبليس يده فولَّى مدبرًا هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة، تزعم أنك لنا جار؟ قال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب)، وذلك حين رأى الملائكة.
(٢) في المطبوعة، حذف قوله: " والشيطان "، وساق الكلام سياقًا واحدًا.
١٦١٨٥- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق، حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر =يعني من الحرب= فكاد ذلك أن يثنيهم، (١) فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة [بن مالك] بن جعشم المدلجيّ، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: "أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة [من خلفكم بشيء] تكرهونه"! فخرجوا سراعا. (٢)
١٦١٨٦- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق في قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم)، فذكر استدراج إبليس إياهم، وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم، (٣) حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة في الحرب التي كانت بينهم، (٤) يقول الله: (فلما تراءت الفئتان)، ونظر عدوّ الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيَّد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوهم = (نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون)، وصدق عدوّ الله، إنه رأى ما لا يرون= وقال: (إني أخاف الله والله شديد العقاب)، فأوردهم ثم أسلمهم.
(٢) الأثر: ١٦١٨٥ - سيرة ابن هشام ٢: ٢٦٣، والزيادة بين الأقواس منها.
(٣) في المطبوعة، حذف " لهم "، وهي ثابتة في المخطوطة وسيرة ابن هشام.
(٤) في المطبوعة: " من الحرب "، غير ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام. والناشر كما تعلم وترى، كثير العبث بكلام أهل العلم.
١٦١٨٧- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم)، إلى قوله: (شديد العقاب)، قال: ذُكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة، فزعم عدو الله أنه لا يَدَيْ له بالملائكة، وقال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله)، وكذب والله عدو الله، ما به مخافة الله، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له، (٣) حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مُسْلَم، (٤) وتبرأ منهم عند ذلك.
١٦١٨٨- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) الآية، قال: لما كان يوم بدر، سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين: أنّ أحدًا لن يغلبكم، وإني جار لكم! فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى أمداد الملائكة، نكص على عقبيه =قال: رجع مدبرًا= وقال: (إني أرى ما لا ترون)، الآية.
١٦١٨٩- حدثنا أحمد بن الفرج قال، حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز
(٢) الأثر: ١٦١٨٦ - سيرة ابن هشام ٢: ٣١٨، ٣١٩، وأخر صدر الخبر فجعله في آخره. وهذا الخبر لم يروه ابن هشام في سياق تفسير هذه الآيات في سيرته ٢: ٣٢٩، تابعًا للأثر السالف رقم: ١٦١٧٣، بل ذكر الآية ثم قال: " وقد مضى تفسير هذه الآية ".
(٣) في المطبوعة: " واستعاذ به "، غير ما في المخطوطة بسوء أمانته ورأيه. و " استقاد له "، انقاد له وأطاعه.
(٤) " مسلم " (بضم فسكون ففتح) مصدر ميمي، بمعنى " الإسلام ".
١٦١٩٠- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن الحسن في قوله: (إني أرى ما لا ترون) قال: رأى جبريل معتجرًا ببُرْدٍ، (٢) يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يده اللجام، ما رَكبَ.
١٦١٩١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال: قال الحسن، وتلا هذه الآية: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) الآية، قال: سار إبليس مع المشركين ببدر برايته وجنوده، وألقى في قلوب المشركين أن أحدًا لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دين
" أحمد بن الفرج بن سليمان الحمصي "، شيخ الطبري، مضى برقم: ٦٨٩٩، ١٥٣٧٧. و " عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون التيمي "، فقيه المدينة ومفتيها في زمانه، وهو فقيه ابن فقيه، وهو ضعيف الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ ٢ ٣٥٨.
و" إبراهيم بن أبي عبلة الرملي "، مضى برقم: ١١٠١٤.
و" طلحة بن عبيد الله بن كريز بن جابر الكعبي "، كان قليل الحديث، مضى برقم: ١٥٥٨٥.
هذا خبر مرسل.
وقوله: " يزع الملائكة "، أي: يرتبهم ويسويهم، ويصفهم للحرب، فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار، و " الوازع "، هو المقدم على الجيش، الموكل بالصفوف وتدبير أمرهم، وترتيبهم في قتال العدو. من قولهم: " وزعه "، أي: كفه وحبسه عن فعل أو غيره.
(٢) " الاعتجار "، هو لف العمامة على استدارة الرأس، من غير إدارة تحت الحنك. وإدارتها تحت الحنك هو " التلحي " (بتشديد الحاء).
١٦١٩٢- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب قال: لما أجمعت قريش على السير قالوا: إنما نتخوف من بني بكر! فقال لهم إبليس، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم: أنا جار لكم من بني بكر، ولا غالب لكم اليوم من الناس.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: (وإن الله لسميع عليم)، في هذه الأحوال =وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم، أيها المؤمنون، لحربكم وقتالكم وحسَّن ذلك لهم وحثهم عليكم، وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من بني آدم، فاطمئنوا وأبشروا = (وإني جار لكم)، من كنانة أن تأتيكم من ورائكم فمعيذكم، (٢) أجيركم وأمنعكم منهم، فلا تخافوهم، واجعلوا حدَّكم وبأسكم على محمد وأصحابه (٣) = (فلما تراءت الفئتان)، يقول: فلما تزاحفت جنود الله من المؤمنين وجنود الشيطان من المشركين، ونظر بعضهم إلى بعض= (نكص على عقبيه)، يقول: رجع القهقري على قفاه هاربًا. (٤)
* * *
يقال منه: "نكص ينكُص وينكِص نكوصًا"، ومنه قول زهير:
هُمْ يَضْرِبُونَ حَبِيكَ البَيْضِ إِذْ لَحِقُوا لا يَنْكُصُون، إِذَا مَا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا (٥)
(٢) في المطبوعة: " فيغيركم "، ومثلها في المخطوطة غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها بعد إصلاح فسادها.
(٣) في المطبوعة: " جدكم " بالجيم، وانظر ما سلف ج ١٣ ص: ٥٧٧، تعليق: ١.
(٤) انظر تفسير " العقب " فيما سلف ٣: ١٦٣ ١١: ٤٥٠.
(٥) ديوانه: ١٥٩، من قصيدته في هرم بن سنان، وهي من جياد شعره. و " حبيك البيض "، طرائق حديده. و " البيض " جمع " بيضة "، هي الخوذة من سلاح المحارب، على شكل بيضة النعام، يلبسها الفارس على رأسه لتقيه ضرب السيوف والرماح. و " استلحم الرجل " (بالبناء للمجهول) : إذا نشب في ملحمة القتال، فلم يجد مخلصًا. وقوله: " وحموا "، من قولهم: " حمى من الشيء حمية ومحمية "، إذا فارت نفسه وغلت، وأنف أن يقبل ما يراد به من ضيم، ومنه: " أنف حمى ".
القول في تأويل قوله: ﴿إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وإن الله لسميع عليم)، في هذه الأحوال = (وإذ يقول المنافقون)، وكرّ بقوله: (إذ يقول المنافقون)، على قوله: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) = (والذين في قلوبهم مرض)، يعني: شك في الإسلام، لم يصحَّ يقينهم، ولم تُشرح بالإيمان صدورهم (٣) = (غر هؤلاء دينهم)، يقول: غر هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد ﷺ من أنفسهم، دينُهم (٤) = وذلك الإسلام.
* * *
وذُكر أن الذين قالوا هذا القول، كانوا نفرًا ممن كان قد تكلم بالإسلام من مشركي قريش، ولم يستحكم الإسلام في قلوبهم.
(٢) انظر تفسير " شديد العقاب " فيما سلف من فهارس اللغة (عقب).
(٣) انظر تفسير " مرض " فيما سلف ١: ٢٧٨ - ٢٨١ ١٠: ٤٠٤.
(٤) انظر تفسير " الغرور " فيما سلف ١٢: ٤٧٥، تعليق: ١، والمراجع هناك.
١٦١٩٣- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم)، قال: كان ناسٌ من أهل مكة تكلموا بالإسلام، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: (غر هؤلاء دينهم).
١٦١٩٤- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد، عن داود، عن عامر، مثله. (١)
١٦١٩٥- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم)، قال: فئة من قريش: أبو قيس بن الوليد بن المغيرة، (٢) وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبّه بن الحجاج; خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم. فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: (غرّ هؤلاء دينهم)، حتى قدموا على ما قدموا عليه، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، فشرَّد بهم من خلفهم. (٣)
١٦١٩٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
(٢) مكان " أبو قيس بن "، بياض في المخطوطة، وفوق البياض حرف (ط) دلالة على الخطأ، وبعدها " الوليد بن المغيرة "، فكتب ناشر المطبوعة: " قيس بن الوليد بن المغيرة "، وأخطأ، إنما هو " أبو قيس بن الوليد "، وهو الذي شهد بدرًا، وقتله حمزة بن عبد المطلب. فأثبته. والظاهر أن البياض لا يراد به إلا هذا الذي أثبته، لا زيادة عليه.
(٣) في المطبوعة، حذف " فشرد بهم من خلفهم "، وهي ثابتة في المخطوطة.
١٦١٩٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) إلى قوله: (فإن الله عزيز حكيم)، قال: رأوا عصابة من المؤمنين تشرّدت لأمر الله. (١) وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد ﷺ وأصحابه قال: "والله لا يُعبد الله بعد اليوم! "، قسوة وعُتُوًّا.
١٦١٩٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض)، قال: ناس كانوا من المنافقين بمكة، قالوه يوم بدر، وهم يومئذ ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا.
١٦١٩٩-... قال حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض)، قال: لما دنا القوم بعضهم من بعض، فقلَّل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلَّل المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون: (غر هؤلاء دينهم)، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال الله: (ومن يتوكل على الله فإنّ الله عزيز حكيم).
* * *
وأما قوله: (ومن يتوكل على الله)، فإن معناه: ومن يسلم أمره إلى الله،
وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله وغيرهم، أن يفوِّضوا أمرهم إليه، ويسلموا لقضائه، كيما يكفيهم أعداءهم، ولا يستذلهم من ناوأهم، لأنه "عزيز" غير مغلوب، فجاره غير مقهور = "حكيم"، يقول: هو فيما يدبر من أمر خلقه حكيم، لا يدخل تدبيره خلل. (٣)
القول في تأويل قوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو تعاين، يا محمد، حين يتوفى الملائكةُ أرواحَ الكفار، فتنزعها من أجسادهم، تضرب الوجوه منهم والأستاه، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم. (٤)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
(٢) في المطبوعة: "... عليه يكفه "، غير ما في المخطوطة، وهو محض الصواب.
(٣) انظر تفسير " عزيز "، و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز)، (حكم).
(٤) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف ١٣: ٣٥، تعليق ٥، والمراجع هناك.
وتفسير " الأدبار " فيما سلف ١٣: ٤٣٥، تعليق ٢، والمراجع هناك.
وتفسير " الذوق " فيما سلف ١٣: ٥٢٨، تعليق ٢، والمراجع هناك.
وتفسير " الحريق " فيما سلف ٧: ٤٤٦، ٤٤٧.
١٦٢٠١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن كثير، عن مجاهد: (يضربون وجوههم وأدبارهم)، قال: وأستاههم، ولكن الله كريم يَكْنِي. (١)
١٦٢٠٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، في قوله: (يضربون وجوههم وأدبارهم)، قال: وأستاههم، ولكنه كريم يَكْنِي. (٢)
١٦٢٠٣- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير في قوله: (يضربون وجوههم وأدبارهم)، قال: إن الله كنى، ولو شاء لقال: "أستاههم"، وإنما عنى ب "أدبارهم"، أستاههم.
١٦٢٠٤- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أستاههم، يوم بدر =قال ابن جريج، قال ابن عباس: إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين، ضربوا وجوههم بالسيوف. وإذا ولّوا، أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم.
١٦٢٠٥- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عباد بن راشد، عن الحسن قال: قال رجل: يا رسول الله، إني رأيت بظهر
(٢) في المطبوعة: " ولكن الله "، وأثبت ما في المخطوطة.
١٦٢٠٦- حدثنا محمد قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه، (٢) فنَدرَ رأسُه؟ (٣) فقال: سبقك إليه الملك.
١٦٢٠٧- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: حدثني حرملة: أنه سمع عمر مولى غفرة يقول: إذا سمعت الله يقول: (يضربون وجوههم وأدبارهم)، فإنما يريد: أستاههم. (٤)
* * *
قال أبو جعفر: وفي الكلام محذوف، استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره، وهو قوله: "ويقولون"، (ذوقوا عذاب الحريق)، حذفت "يقولون"، كما حذفت من قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) [سورة السجدة: ٢١]، بمعنى: يقولون: ربنا أبصرنا. (٥)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل الملائكة لهؤلاء المشركين الذين قتلوا ببدر، أنهم يقولون لهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم: "ذوقوا عذاب
(٢) انظر ما أسلفت في تفسير " ذهب يفعل "، فيما سلف ١١: ١٢٨، تعليق: ١، ثم ١١: ٢٥٠، ٢٥١، وص ٢٥٠ تعليق: ١.
(٣) " ندر الشيء " سقط. يقال: " ضرب يده بالسيف فأندرها "، أي قطعها فسقطت.
(٤) الأثر: ١٦٢٠٧ - " حرملة بن عمران التجيبي "، ثقة، مضى برقم: ٦٨٩٠، ١٣٢٤٠. و " عمر، مولى غفرة "، هو " عمر بن عبد الله المدني "، أبو حفص، ليس به بأس، كان صاحب مرسلات ورقائق. مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم ٣ ١ ١١٩.
(٥) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤١٣.
وفي فتح "أن" من قوله: (وأن الله)، وجهان من الإعراب:
أحدهما: النصبُ، وهو للعطف على "ما" التي في قوله: (بما قدمت)، بمعنى: (ذلك بما قدمت أيديكم)، وبأن الله ليس بظلام للعبيد، في قول بعضهم، والخفض، في قول بعضٍ.
والآخر: الرفع، على (ذلك بما قدمت)، وذلك أن الله. (٢)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٥٢) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فِعْلُ هؤلاء المشركون من قريش الذين قتلوا ببدر، كعادة قوم فرعون وصنيعهم وفعلهم وفعل من كذّب بحجج الله ورسله من الأمم الخالية قبلهم، (٣) ففعلنا بهم كفعلنا بأولئك.
(٢) انظر معاني القرآن للفراء ١: ٤١٣.
(٣) انظر تفسير " آل " فيما سلف ٢: ٣٧ ٦: ٣٢٦.
* * *
١٦٢٠٨- حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا شيبان، عن جابر، عن عامر ومجاهد وعطاء: (كدأب آل فرعون) كفعل آل فرعون، كسُنَنِ آل فرعون.
* * *
وقوله: (فأخذهم الله بذننوبهم)، يقول: فعاقبهم الله بتكذيبهم حججه ورسله، ومعصيتهم ربهم، كما عاقب أشكالهم والأمم الذين قبلهم = (إن الله قوي)، لا يغلبه غالب، ولا يرد قضاءه رادٌّ، يُنْفِذ أمره، ويُمضي قضاءه في خلقه =شديد عقابه لمن كفر بآياته وجحد حُججه.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأخذنا هؤلاء الذين كفروا بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم، (١) وفعلنا ذلك بهم، بأنهم غيَّروا ما أنعم الله عليهم به من ابتعاثه رسولَه منهم وبين أظهرهم، بإخراجهم إياه من بينهم، وتكذيبهم له، وحربهم إياه، فغيرنا نعمتنا عليهم بإهلاكنا إياهم، كفعلنا ذلك في الماضين قبلهم ممن طغى علينا وعصى أمرنا.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٠٩- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، يقول: "نعمة الله"، محمد صلى الله عليه وسلم، أنعم به على قريش، وكفروا، فنقله إلى الأنصار.
* * *
وقوله: (وأن الله سميع عليم)، يقول: لا يخفى عليه شيء من كلام خلقه، يسمع كلام كلّ ناطق منهم بخير نطق أو بشرٍّ = (عليم)، بما تضمره صدورهم، وهو مجازيهم ومثيبهم على ما يقولون ويعملون، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (٥٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: غير هؤلاء المشركون بالله، المقتولون ببدر، نعمةَ ربهم التي أنعم بها عليهم، بابتعاثه محمدًا منهم وبين أظهرهم، داعيًا لهم إلى الهدى، بتكذيبهم إياه، وحربهم له = (كدأب آل فرعون)، كسنة آل فرعون وعادتهم وفعلهم بموسى نبي الله، (٢) في تكذيبهم إياه، وقصدهم لحربه، (٣) وعادة
(٢) انظر تفسير " الدأب " فيما سلف ص: ١٩، تعليق: ١، والمراجع هناك.
وتفسير " آل " فيما سلف ص: ١٨، تعليق ٣، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة: " وتصديهم لحربه "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن شر ما دبّ على الأرض عند الله، (١) الذين كفروا بربهم، فجحدوا وحدانيته، وعبدوا غيره = (فهم لا يؤمنون)، يقول: فهم لا يصدِّقون رسلَ الله، ولا يقرُّون بوحيه وتنزيله.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا)، (الذين عاهدت منهم)، يا محمد، يقول: أخذت عهودهم ومواثيقهم أن لا يحاربوك، (٢) ولا يظاهروا عليك محاربًا لك، كقريظة ونظرائهم ممن كان بينك وبينهم عهد
(٢) انظر تفسير " العهد " فيما سلف ١٣: ٧٢، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
١٦٢١٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم)، قال: قريظة مالأوا على محمد يوم الخندق أعداءه.
١٦٢١١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإما تلقيَنَّ في الحرب هؤلاء الذين عاهدتهم فنقضوا عهدك مرة بعد مرة من قريظة، فتأسرهم، (٣) = (فشرد بهم من خلفهم)، يقول: فافعل بهم فعلا يكون مشرِّدًا مَن خلفهم من نظرائهم، ممن بينك وبينه عهد وعقد.
* * *
و"التشريد"، التطريد والتبديد والتفريق.
* * *
وإنما أمِرَ بذلك نبيُّ الله ﷺ أن يفعل بالناقض العهد بينه
(٢) انظر تفسير " النقض " فيما سلف ٩: ٣٦٣ ١٠: ١٢٥.
(٣) انظر تفسير " ثقف " فيما سلف ٣: ٥٦٤ ٧: ١١٠.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢١٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم)، يعني: نكّل بهم من بعدهم.
١٦٢١٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فشرد بهم من خلفهم)، يقول: نكل بهم من وراءهم.
١٦٢١٤- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم)، يقول: عظْ بهم من سواهم من الناس.
١٦٢١٥- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم)، يقول: نكل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم من العدوّ، لعلهم يحذرون أن ينكُثوا فتصنع بهم مثل ذلك.
١٦٢١٦- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: (فشرد بهم من خلفهم)، قال: أنذر بهم من خلفهم.
١٦٢١٧- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
١٦٢١٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون)، أي: نكل بهم من وراءهم لعلهم يعقلون. (١)
١٦٢١٩- حُدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: (فشرد بهم من خلفهم)، يقول: نكل بهم من بعدهم.
١٦٢٢٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم)، قال: أخفهم بما تصنع بهؤلاء. وقرأ: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (٢) [الأنفال: ٦٠]
* * *
وأما قوله: (لعلهم يذكرون)، فإن معناه: كي يتعظوا بما فعلت بهؤلاء الذين وصفت صفتهم، (٣) فيحذروا نقضَ العهد الذي بينك وبينهم خوفَ أن ينزل بهم منك ما نزل بهؤلاء إذا هم نقضوه.
* * *
(٢) الأثر: ١٦٢٢٠ - انظر الأثر التالي رقم: ١٦٢٤٢، والتعليق عليه.
(٣) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وإما تخافن)، يا محمد، من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد، أن ينكث عهد. وينقض عقده، ويغدر بك =وذلك هو "الخيانة" والغدر (١) = (فانبذ إليهم على سواء)، يقول: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم، (٢) حتى تصير أنتَ وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر = (إن الله لا يحب الخائنين)، الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به فيحاربه، قبل إعلامه إياه أنه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يجوز نقضُ العهد بخوف الخيانة، و"الخوف" ظنٌّ = لا يقين؟ (٣)
قيل: إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معناه: إذا ظهرت أمارُ الخيانة من عدوك، (٤) وخفت وقوعهم بك، فألق إليهم مقاليد السَّلم وآذنهم بالحرب. (٥) وذلك كالذي كان من بني قريظة إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من
(٢) انظر تفسير " النبذ " فيما سلف ٢: ٤٠١، ٤٠٢ ٧: ٤٥٩. وفي المطبوعة: " آثار الغدر "، وأثبت ما في المخطوطة، و " الأمار " و " الأمارة "، العلامة، ويقال: " أمار " جمع " أمارة ".
(٣) انظر تفسير " الخوف " فيما سلف ١١: ٣٧٣، تعليق: ٥، والمراجع هناك.
(٤) في المطبوعة: " آثار الخيانة "، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر التعليق السالف رقم: ٢.
(٥) في المخطوطة: " وأد "، وبعدها بياض، صوابه ما في المطبوعة.
* * *
ومعنى قوله: (على سواء)، أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل فريق منكم حرب لصاحبه لا سِلْم. (٣)
* * *
وقيل: نزلت الآية في قريظة.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٢١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فانبذ إليهم على سواء)، قال: قريظة.
* * *
وقد كان بعضهم يقول: "السواء"، في هذا الموضع، المَهَل. (٤)
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٢٢- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: إنه مما تبين لنا أن قوله: (فانبذ إليهم على سواء)، أنه: على مهل =كما حدثنا بكير، عن مقاتل بن حيان في قول الله: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ
(٢) في المخطوطة: " ولم يقاتلوا "، وما في المطبوعة شبيه بالصواب.
(٣) انظر تفسير " السواء " فيما سلف ١٠: ٤٨٨، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٤) في المطبوعة: " وقد قال بعضهم "، غير الجملة كلها بلا شيء.
* * *
وأما أهل العلم بكلام العرب، فإنهم في معناه مختلفون.
فكان بعضهم يقول: معناه: فانبذ إليهم على عدل =يعني: حتى يعتدل علمك وعلمهم بما عليه بعضكما لبعض من المحاربة، واستشهدوا لقولهم ذلك بقول الراجز: (١)
وَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدُرِ الأعْدَاءِ حَتَّى يُجِيبُوكَ إلَى السَّوَاءِ (٢)
يعني: إلى العدل.
* * *
وكان آخرون يقولون: معناه: الوسَط، من قول حسان:
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ الرَّسُولِ ورَهْطِهِ بَعْدَ الُمغيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ (٣)
بمعنى: في وسط اللَّحْد.
* * *
وكذلك هذه المعاني متقاربة، لأن "العدل"، وسط لا يعلو فوق الحق ولا يقصّر عنه، وكذلك "الوسط" عدل، واستواء علم الفريقين فيما عليه بعضهم لبعض بعد المهادنة، (٤) عدل من الفعل ووسط. وأما الذي قاله الوليد بن مسلم من أن معناه: "المهل"، فما لا أعلم له وجهًا في كلام العرب.
* * *
(٢) كان في المطبوعة: " الغدر للأعداء ". وهو خطأ، صوابه من المخطوطة و " الغدر " (بضمتين)، جمع " غدور "، مثل " صبور "، وهو الغادر المستمرئ للغدر.
(٣) سلف البيت وتخريجه وشرحه فيما مضى ٢: ٤٩٦، تعليق ٢.
(٤) في المطبوعة: " واستواء الفريقين "، وفي المخطوطة " واستواء على الفريقين ". وصواب قراءتها ما أثبت، وهو حق المعنى.
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: " وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ " بكسر الألف من "إنهم"، وبالتاء في "تحسبن" =بمعنى: ولا تحسبن، يا محمد، الذين كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم. ثم ابتدئ الخبر عن قدرة الله عليهم فقيل: إن هؤلاء الكفرة لا يعجزون ربهم، إذا طلبهم وأراد تعذيبهم وإهلاكهم، بأنفسهم فيفوتوه بها.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا)، بالياء في "يحسبن"، وكسر الألف من (إِنَّهُمْ).
* * *
وهي قراءة غير حميدة، لمعنيين، (١) أحدهما خروجها من قراءة القرأة وشذوذها عنها =والآخر: بعدها من فصيح كلام العرب. وذلك أن "يحسب" يطلب في كلام العرب منصوبًا وخبره، كقوله: "عبد الله يحسب أخاك قائمًا" و"يقوم" و"قام". فقارئ هذه القراءة أصحب "يحسب" خبرًا لغير مخبر عنه مذكور. وإنما كان مراده، ظنّي: (٢) ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزوننا =فلم يفكر في صواب مخرج الكلام وسُقمه، واستعمل في قراءته ذلك كذلك، ما ظهر له من مفهوم الكلام. وأحسب أن الذي دعاه إلى ذلك، الاعتبارُ بقراءة عبد الله. وذلك أنه فيما ذكر في مصحف عبد الله: " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
(٢) في المطبوعة: " وإنما كان مراد بطي ولا يحسبن "، فأتى بعجب لا معنى له. وقول الطبري: " ظني "، يقول كما نقول اليوم: " فيما أظن ".
وللذي قرأ من ذلك من القرأة وجهان في كلام العرب، وإن كانا بعيدين من فصيح كلامهم:
أحدهما: أن يكون أريد به: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، أو: أنهم سبقوا =ثم حذف "أن" و"أنهم"، كما قال جل ثناؤه: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا)، [الروم: ٢٤]. بمعنى: أن يريكم، وقد ينشد في نحو ذلك بيت لذي الرمة:
أَظُنّ ابْنُ طُرْثُوثٍ عُتَيْبَةُ ذَاهِبًا بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهْ (١)
أقُولُ لِنَفْسِي، لا أُعَاتِبُ غَيْرَهَا | وَذُو اللُّبِّ مَهْمَا كَانَ، لِلنَّفْسِ قائِلُهْ |
لَعَلَّ ابْنَ طُرْثُوثٍ عَتَيْبَةُ ذَاهِبٌ | بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهْ |
بِقَاعٍ، مَنَعْنَاهُ ثَمَانينَ حِجَّةً | وَبِضْعًا، لَنَا أَحْرَاجُه وَمَسَايِلُهْ |
يَعِزُّ، ابْنَ عَبْدِ اللهِ، مَنْ أَنْتَ نَاصِرٌ | وَلا يَنْصُرُ الرَّحْمَنُ مَنْ أنْتَ خَاذِلُهْ |
إذَا خَافَ قَلْبِي جَوْرَ سَاعٍ وَظُلْمَهُ | ذَكَرْتُكَ أُخْرَى فَاطْمَأَنَّتْ بَلابِلُهْ |
تَرَى اللهَ لا تَخْفَى عَلَيْهِ سَرِيرَةٌ | لِعَبْدٍ، ولا أَسْبَابُ أَمْرٍ يُحَاوِلهْ |
لَقَدْ خَطَّ رُومِيٌّ، وَلا زَعَمَاتِهِ، | لِعُتْبَةَ خَطًّا لَمْ تُطَبَّقْ مَفَاصِلُهْ |
بِغَيْرِ كتابٍ وَاضِحٍ مِنْ مُهَاجِرٍ | وَلا مُقْعَدٍ مِنِّي بخَصْمٍ أُجَادِلهْ |
والوجه الثاني على أنه أراد إضمار منصوب بـ "يحسب"، كأنه قال: ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا =ثم حذف "أنهم" وأضمر. (٢)
وقد وجه بعضهم معنى قوله: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)، [سورة آل عمران: ١٧٥] : إنما ذلكم الشيطان يخوف المؤمن من أوليائه، وأن ذكر المؤمن مضمر في قوله: "يخوف"، إذ كان الشيطان عنده لا يخوف أولياءه. (٣)
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الشأم: "وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا " بالتاء من "تحسبن" = (سَبَقُوا أَنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ)، بفتح الألف من "أنهم"، بمعنى: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون.
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجه لهذه القراءة يُعقل، إلا أن يكون أراد القارئ بـ "لا" التي في "يعجزون"، "لا" التي تدخل في الكلام حشوًا وصلة، (٤) فيكون معنى الكلام حينئذ: ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم يعجزون =ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله إلى التطويل، (٥) بغير حجة يجب التسليم لها، وله في الصحة مخرج.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ:
(٢) كان في المطبوعة: " ثم حذف الهمز وأضمر "، وهو كلام لا تفلته الخساسة. وصواب قراءة المخطوطة: " أنهم " كما أثبتها، وهو واضح جدًا.
(٣) انظر ما سلف ٧: ٤١٧، تفسير هذه الآية.
(٤) " الصلة "، الزيادة، كما سلف مرارًا، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف.
(٥) " التطويل "، الزيادة أيضًا. انظر ما سلف ١: ١١٨، ٢٢٤، ٤٠٥، ٤٠٦، ٤٤٠، ٤٤١، وهو هناك " التطول ".
١٦٢٢٣- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون)، يقول: لا يفوتون.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ (٦٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وأعدوا)، لهؤلاء الذين كفروا بربهم، الذين بينكم وبينهم عهد، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم، أيها المؤمنون بالله ورسوله = (ما استطعتم من قوة)، يقول: ما أطقتم أن تعدّوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم، (٢) من السلاح والخيل= (ترهبون به عدو الله وعدوكم)، يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدوَّ الله وعدوكم من المشركين.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٢٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن رجل من جهينة، يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، ألا إنَّ الرمي هو القوة، ألا إنّ الرمي هو القوة. (٣)
(٢) انظر تفسير " الاستطاعة "، فيما سلف ٤: ٣١٥ ٩: ٢٨٤.
(٣) الأثر: ١٦٢٢٤ - " ابن إدريس "، وهو " عبد الله بن إدريس الأودي " الإمام، مضى مرارًا. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " أبو إدريس " وهو خطأ صرف.
و" أسامة بن زيد الليثي "، ثقة، مضى برقم: ٢٨٦٧، ٣٣٥٤.
و" صالح بن كيسان المدني "، روى له الجماعة، مضى برقم: ١٠٢٠، ٥٣٢١.
وسيأتي هذا الخبر من طرق أخرى رقم: ١٦٢٢٦ - ١٦٢٢٨، وسأذكرها عند كل واحد منها، وانظر تخريج الخبر التالي.
و" ابن لهيعة "، مضى مرارًا، ومضى الكلام في أمر توثيقه.
و" يزيد بن أبي حبيب الأزدي المصري "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا آخرها: ١١٨٧١.
و" عبد الكريم بن الحارث بن يزيد الحضرمي المصري "، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٣ ١ ٦٠.
و" أبو علي الهمداني "، هو " ثمامة بن شفي الهمداني " المصري، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير ١ ٢ ١٧٧، وابن أبي حاتم ١ ١ ٤٦٦.
وهذا إسناد فيه ضعف لمن ضعف ابن لهيعة، والطبري نفسه سيقول في ص: ٣٧، تعليق: ٢، أنه سند فيه وهاء ".
بيد أن هذا الخبر روي من طرق صحيحة جدا:
رواه مسلم في صحيحه ١٣: ٦٤، من طريق هارون بن معروف، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي علي ثمامة بن شفي، بمثله.
ورواه أبو داود في سننه ٣: ٢٠، رقم: ٢٥١٤، من طريق سعيد بن منصور، عن ابن وهب، بمثله.
ورواه ابن ماجه في سننه: ٩٤٠ رقم: ٢٨١٣، من طريق يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب بمثله.
ورواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٢٨، من طريق سعيد بن ابي أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ولك يخرجه البخاري، لأن صالح بن كيسان أوقفه " ووافقه الذهبي.
١٦٢٢٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن رجل، عن عقبة بن عامر: أن النبي ﷺ قرأ هذه الآية على المنبر، فذكر نحوه. (٢)
١٦٢٢٨- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (٣)
١٦٢٢٩- حدثنا أحمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن أخيه، محمد بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن عقبة بن عامر، عن النبي ﷺ في قوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، "ألا إن القوة الرمي. (٤)
و" جعفر بن عون المخزومي "، ثقة، أخرج له الجماعة، مضى برقم: ٩٥٠٦.
وهذا الخبر رواه الترمذي من طريق وكيع عن أسامة بن زيد، ثم قال: " وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن عقبة بن عامر، وحديث وكيع أصح، وصالح بن كيسان لم يدرك عقبة بن عامر، وأدرك ابن عمر ". وانظر الخبر رقم: ١٦٢٢٨.
(٢) الأثر: ١٦٢٢٧ - هو مكرر الأثر السالف، وانظر تخريجه، رواه من هذه الطريق، الترمذي في سننه، كما سلف.
(٣) الأثر: ١٦٢٢٨ - هذا هو الحديث الذي أشار إليه الترمذي، وقال فيه: " صالح بن كيسان، لم يدرك عقبة بن عامر ". انظر ما سلف: ١٦٢٢٦.
(٤) الأثر: ١٦٢٢٩ - " موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي "، ضعيف بمرة، لا تحل الرواية عنه. سلف مرارًا، آخرها رقم: ١١٨١١، ١٤٠٤٥، روى عن أخويه " عبد الله " و " محمد " وأخوه " محمد بن عبيدة بن نشيط الربذي "، لم أجد له ترجمة، وهو مذكور في ترجمة أخيه " موسى "، وترجمة أخيه " عبد الله "، وأنه روى عنه. وكان أكبر من أخيه موسى بثمانين سنة. وأخوه " عبد الله بن عبيدة بن نشيط الربذي "، روى عن جماعة من الصحابة، وثقه بعضهم، وضعفه آخرون، وقال أحمد: " موسى بن عبيدة وأخوه، لا يشتغل بهما ". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم ٢ ٢ ١٠١.
١٦٢٣١- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن رجاء بن أبي سلمة قال: لقي رجل مجاهدًا بمكة، ومع مجاهد جُوَالَق، ، (٢) قال: فقال مجاهد: هذا من القوة! =ومجاهد يتجهز للغزو.
١٦٢٣٢- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)، من سلاح.
* * *
وأما قوله: (ترهبون به عدو الله وعدوكم) =
= فقال ابن وكيع:
١٦٢٣٣- حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن مجاهد، عن ابن عباس: (ترهبون به عدو الله وعدوكم)، قال: تخزون به عدو الله وعدوكم.
١٦٢٣٤- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن عثمان، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
١٦٢٣٥- حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ترهبون به عدو الله
(٢) " الجوالق " (بضم الجيم، وفتح اللام أو كسرها)، وعاء من الأوعية، هو الذي نسميه اليوم في مصر محرفا " الشوال ".
١٦٢٣٧- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، وخصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس: (ترهبون به)، تخزون به. (٢)
١٦٢٣٨- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.
* * *
يقال منه: "أرهبت العدو، ورهَّبته، فأنا أرهبه وأرهِّبه، إرهابًا وترهيبًا، وهو الرَّهَب والرُّهْب"، ومنه قول طفيل الغنوي:
وَيْلُ أُمِّ حَيٍّ دَفَعْتُمْ فِي نُحُورِهِمُ بَنِي كِلابٍ غَدَاة الرُّعْبِ والرَّهَبِ (٣)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هؤلاء "الآخرين"، من هم، وما هم؟
فقال بعضهم: هم بنو قريظة.
*ذكر من قال ذلك:
قلت: وقد رأيت بعد أن الطبري ذكرها أيضًا على جهة القراءة، ولا يستقيم نصه إلا بما أثبت.
(٢) سقط من الترقيم: ١٦٢٣٦، سهوًا.
(٣) ديوانه: ٥٦، ومجاز القرآن لأبي عبيدة ١: ٢٤٩ يمدح بها بني جعفر بن كلاب، من أبيات ثلاثة، مفردة.
١٦٢٤٠- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرين من دونهم)، قال: قريظة.
* * *
وقال آخرون: من فارس.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٤١- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم)، هؤلاء أهل فارس.
* * *
وقال آخرون: هم كل عدو للمسلمين، غير الذي أمر النبي ﷺ أن يشرِّد بهم من خلفهم. قالوا: وهم المنافقون.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٤٢- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم)، قال: أخفهم بهم، لما تصنع بهؤلاء. وقرأ: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم). (١)
١٦٢٤٣- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم)، قال: هؤلاء المنافقون، لا تعلمونهم لأنهم معكم، يقولون: لا إله إلا الله، ويغزون معكم.
* * *
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوّون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين، من السلاح والرمي وغير ذلك، ورباط الخيل =ولا وجه لأن يقال: عني بـ "القوة"، معنى دون معنى من معاني "القوة"، وقد عمَّ الله الأمر بها.
فإن قال قائل: فإن رسول الله ﷺ قد بيَّن أن ذلك مرادٌ به الخصوص بقوله: "ألا إن القوة الرمي"؟ (١)
قيل له: إن الخبر، وإن كان قد جاء بذلك، فليس في الخبر ما يدلّ على أنه مرادٌ بها الرمي خاصة، دون سائر معاني القوة عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوة، لأنه إنما قيل في الخبر: "ألا إن القوة الرمي"، ولم يقل: "دون غيرها"، ومن "القوة" أيضًا السيف والرمح والحربة، وكل ما كان معونة على قتال المشركين، كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (٢)
* * *
وأما قوله: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم)، فإن قول من قال: عنى به الجن، أقربُ وأشبهُ بالصواب، لأنه جل ثناؤه قد أدخل بقوله: (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم)، الأمرَ بارتباط الخيل لإرهاب كل عدوٍّ لله وللمؤمنين يعلمونهم، ولا شك أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لهم، لعلمهم بأنهم مشركون، وأنهم لهم حرب. ولا معنى لأن يقال: وهم يعلمونهم لهم
(٢) هذه مرة أخرى تختلف فيها كتابة المخطوطة، فههنا: " وهاء "، كما أثبتها، وكان في المطبوعة: " وهي "، وانظر ما كتبته ما سلف ٩: ٥٣١، تعليق: ٢.
ثم انظر ما قلته في تخريج الخبر السالف رقم: ١٦٢٢٥، وما ذكرته من الطريق الصحيحة في رواية هذا الخبر.
* * *
فإن قال قائل: فإن المؤمنين كانوا لا يعلمون ما عليه المنافقون، فما تنكر أن يكون عُنِي بذلك المنافقون؟
قيل: فإن المنافقين لم يكن تروعهم خيل المسلمين ولا سلاحهم، وإنما كان يَرُوعهم أن يظهر المسلمون على سرائرهم التي كانوا يستسرُّون من الكفر، وإنما أمر المؤمنون بإعداد القوة لإرهاب العدو، فأما من لم يرهبه ذلك، فغير داخل في معنى من أمر بإعداد ذلك له المؤمنون. وقيل: "لا تعلمونهم"، فاكتفي لـ "العلم"، بمنصوب واحد في هذا الموضع، لأنه أريد: لا تعرفونهم، كما قال الشاعر: (٢)
وهذا الذي قاله الطبري، رده العلماء من قوله، وحق لهم. وقد رجح ابن كثير وأبو حبان (٤: ٥١٣)، أن المعنى بذلك هم المنافقون، وهو القول الذي رده أبو جعفر فيما يلي، ورد أبي جعفر رد محكم.
فإن كان لنا أن نختار، فإني أختار أن يكون عني بذلك، من خفي على المؤمنين أمره من أهل الشرك، كنصارى الشأم وغيرهم، ممن لم ينظر المؤمنون عدواتهم بعد، وهي آتية سوف يرونها عيانًا بعد قليل. وفي الكلام فضل بحث ليس هذا مكانه، والآية عامة لا أدري كيف يخصصها أبو جعفر، بخبر لا حجة فيه.
(٢) هو النمر بن تولب العكلي.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما أنفقتم، أيها المؤمنون، من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كُرَاع أو غير ذلك من النفقات، (٢) في جهاد أعداء الله من المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا، ويدَّخر لكم أجوركم على ذلك عنده، حتى يوفِّيكموها يوم القيامة (٣) (وأنتم لا تظلمون)، يقول: يفعل ذلك بكم ربكم، فلا يضيع أجوركم عليه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
وكان النمر سقاه منها، فلم يشكر له، وخان الأمانة ونازعه فيها فقال: يُريدُ خِيَانَتِي وَهْبٌ، وأَرْجُو... مِنَ اللهِ البراءَةَ وَالأمَانَا
فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا... وَيَعْلَمُ أَنْ سَيَلقَاهُ كِلانَا
وَإنَّ بَنِي رَبِيعَةَ بَعْدَ وَهْبٍ... كَرَاعِي البَيْتِ يَحْفَظُهُ فخانَا
وكان البيت في المطبوعة والمخطوطة: فإن اللهَ يعلمني... وأَنا سوف يلقاهُ كلانا
(٢) انظر تفسير " النفقة " فيما سلف من فهارس اللغة (نفق).
(٣) انظر تفسير " وفي " فيما سلف ١٢: ٢٢٤، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإما تخافنّ من قوم خيانة وغدرًا، فانبذ إليهم على سواء وآذنهم بالحرب = (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحربَ، إما بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح (٢) = (فاجنح لها)، يقول: فمل إليها، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه.
* * *
يقال منه: "جنح الرجل إلى كذا يجنح إليه جنوحًا"، وهي لتميم وقيس، فيما ذكر عنها، تقول: "يجنُح"، بضم النون، وآخرون: يقولون: "يَجْنِح" بكسر النون، وذلك إذا مال، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
جَوَانِحَ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ إذَا مَا التَقَى الجمْعانِ أَوَّلُ غَالِبِ (٣)
جوانح: موائل.
* * *
(٢) انظر تفسير " السلم " فيما سلف ٤: ٢٥١ - ٢٥٥.
(٣) ديوانه: ٤٣، من شعره المشهور في عمرو بن الحارث الأعرج، حين هرب إلى الشأم، من النعمان بن المنذر في خبر المتجردة، وقبله، ذكر فيها غارة جيشه، والنسور التي تتبع الجيش:
إذَا مَا غَزَوْا بِالجَيْشِ، حَلَّقَ فَوْقَهُمْ | عَصَائِبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ |
يُصَاحبْنَهُمْ حَتَّى يُغِرْنَ مُغَارَهم | مِنَ الضَّارِيَاتِ بالدِّمَاءِ الدَّوَارِبِ |
تَرَاهُنَّ خَلْفَ القومِ خُزْرًا عُيُونهَا | جُلُوسَ الشُّيُوخِ فِي ثِيَابِ المَرَانِبِ |
جَوانِحَ قَدْ أيْقَنَّ....... | ................... |
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٤٥- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وإن جنحوا للسلم) قال: للصلح، ونسخها قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة: ٥]
١٦٢٤٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وإن جنحوا للسلم)، إلى الصلح= (فاجنح لها)، قال: وكانت هذه قبل "براءة"، وكان نبي الله ﷺ يوادع القوم إلى أجل، فإما أن يسلموا، وإما أن يقاتلهم، ثم نسخ ذلك بعد في "براءة" فقال: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، وقال: (قاتلوا المشركين كافة)، [سورة التوبة: ٣٦]، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمره بقتالهم حتى يقولوا "لا إله إلا الله" ويسلموا، وأن لا يقبلَ منهم إلا ذلك. وكلُّ عهد كان في هذه السورة وفي غيرها، وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به، فإن "براءة" جاءت بنسخ ذلك، فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: "لا إله إلا الله".
١٦٢٤٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، نسختها الآية التي في "براءة" قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ)، إلى قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) [سورة التوبة: ٢٩]
١٦٢٤٩- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، أي: إن دعوك إلى السلم =إلى الإسلام= فصالحهم عليه. (١)
١٦٢٥٠- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، قال: فصالحهم. قال: وهذا قد نسخه الجهاد.
* * *
قال أبو جعفر: فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة، فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل.
وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائنٍ ناسخا. (٢)
وقول الله في براءة: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ)، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله. (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها)، لأن قوله: (وإن جنحوا للسلم)، إنما عني به بنو قريظة، وكانوا يهودًا أهلَ كتاب، وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحربَ على أخذ الجزية منهم.
وأما قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. فليس في إحدى
(٢) انظر مقالته في " النسخ " فيما سلف ١١: ٢٠٩، وما بعده وما قبله في فهارس الكتاب، وفي فهارس العربية والنحو وغيرها.
١٦٢٥١- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن جنحوا للسلم)، قال: قريظة.
* * *
وأما قوله: (وتوكل على الله)، يقول: فوِّض إلى الله، يا محمد، أمرك، واستكفِه، واثقًا به أنه يكفيك (١) كالذي:-
١٦٢٥٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وتوكل على الله)، إن الله كافيك. (٢)
* * *
وقوله: (إنه هو السميع العليم)، يعني بذلك: إن الله الذي تتوكل عليه، "سميع"، لما تقول أنت ومن تسالمه وتتاركه الحربَ من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه، وما يشترط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط (٣) ="العليم"، بما يضمره كل فريق منكم للفريق الآخر من الوفاء بما عاقده عليه، ومن المضمر ذلك منكم في قلبه، والمنطوي على خلافه لصاحبه. (٤)
* * *
(٢) الأثر: ١٦٢٥٢ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٣٠، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٢٤٩.
(٣) في المطبوعة: " ويشرط كل فريق... "، وفي المخطوطة: " ويشترط... "، والصواب بينهما ما أثبت.
(٤) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع)، (علم).
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن يرد، يا محمد، هؤلاء الذين أمرتك بأن تنبذ إليهم على سواء إن خفت منهم خيانة، وبمسالمتهم إن جنحوا للسلم، خداعَك والمكرَ بك (١) = (فإن حسبك الله)، يقول: فإن الله كافيكهم وكافيك خداعَهم إياك، (٢) لأنه متكفل بإظهار دينك على الأديان، ومتضمِّنٌ أن يجعل كلمته العليا وكلمة أعدائه السفلى = (هو الذي أيدك بنصره)، يقول: الله الذي قواك بنصره إياك على أعدائه (٣) = (وبالمؤمنين)، يعني بالأنصار.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٥٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، (وإن يريدوا أن يخدعوك)، قال: قريظة.
١٦٢٥٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله)، هو من وراء ذلك. (٤)
١٦٢٥٥- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (هو الذي أيدك بنصره)، قال: بالأنصار.
(٢) انظر تفسير " حسبك " فيما سلف ١١: ١٣٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
(٣) انظر تفسير " أيد " فيما سلف ١٣: ٣٧٧، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٤) الأثر: ١٦٢٥٤ - سيرة ابن هشام، ٢: ٣٣١، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٢٥٢.
قال أبو جعفر: يريد جل ثناؤه بقوله: (وألف بين قلوبهم)، وجمع بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج، بعد التفرق والتشتت، على دينه الحق، فصيَّرهم به جميعًا بعد أن كانوا أشتاتًا، وإخوانًا بعد أن كانوا أعداء.
وقوله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم)، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لو أنفقت، يا محمد، ما في الأرض جميعا من ذهب ووَرِق وعَرَض، ما جمعت أنت بين قلوبهم بحيْلك، (١) ولكن الله جمعها على الهدى فأتلفت واجتمعت، تقوية من الله لك وتأييدًا منه ومعونة على عدوك. يقول جل ثناؤه: والذي فعل ذلك وسبَّبه لك حتى صاروا لك أعوانًا وأنصارًا ويدًا واحدة على من بغاك سوءًا هو الذي إن رام عدوٌّ منك مرامًا يكفيك كيده وينصرك عليه، فثق به وامض لأمره، وتوكل عليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٥٦- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وألف بين قلوبهم)، قال: هؤلاء الأنصار، ألف بين قلوبهم من بعد حرب، فيما كان بينهم. (٢)
(٢) ما بين " من بعد حرب " و " فيما كان بينهم "، بياض في المخطوطة، فيه معقوفة بالحمرة، لا أدري أهو بياض تركه لسقط، أم هو سهو من الناسخ ملأه بالحمرة.
١٦٢٥٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وألف بين قلوبهم)، على الهدى الذي بعثك به إليهم = (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم)، بدينه الذي جمعهم عليه =يعني الأوس والخزرج. (٢)
١٦٢٥٩- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن إبراهيم الخوزيّ، عن الوليد بن أبي مغيث، عن مجاهد قال: إذا التقى المسلمان فتصافحا غُفِر لهما. قال قلت لمجاهد: بمصافحةٍ يغفر لهما؟ (٣) فقال مجاهد: أما سمعته يقول: (لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم) ؟ فقال الوليد لمجاهد: أنت أعلم مني. (٤)
١٦٢٦٠- حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد، عن أبي عمرو قال، حدثني عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد، ولقيته وأخذ بيدي فقال: إذا تراءى المتحابَّان في الله، (٥) فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه، تحاتّت
(٢) الأثر: ١٦٢٥٨ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٣١، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٢٥٤.
(٣) في المخطوطة: " يغفر الله له " والذي في المطبوعة أجود.
(٤) الأثر: ١٦٢٥٩ - " إبراهيم الخوزي "، هو: " إبراهيم بن يزيد الخوزي الأموي "، مولى عمر بن عبد العزيز، ضعيف، مضى برقم: ٧٤٨٤، وكان في المطبوعة والمخطوطة: " إبراهيم الجزري "، وهو خطأ محض.
و" الوليد بن أبي مغيث "، نسب إلى جده، ولم أجده منسوبًا إليه في غير هذا المكان، وإنما هو: " الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث "، مولى بني عبد الدار، ثقة. روى عن يوسف بن ماهك، ومحمد بن الحنفية. مترجم في التهذيب، والكبير ٤ ٢ ١٤٦، وابن أبي حاتم ٤ ٢ ٩.
(٥) " تراءى الرجلان "، رأى أحدهما الآخر.
١٦٢٦١- حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا فضيل بن غزوان قال، أتيت أبا إسحاق فسلمت عليه فقلت (٣) أتعرفني؟ فقال فضيل: نعم! لولا الحياء منك لقبَّلتك = حدثني أبو الأحوص، عن عبد الله، قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم). (٤)
١٦٢٦٢- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون،
(٢) الأثر: ١٦٢٦٠ - " عبد الكريم بن أبي عمير "، شيخ الطبري، سلف برقم: ٧٥٧٨، ١١٣٦٨، ١٢٨٦٧.
و" الوليد "، هو " الوليد بن مسلم "، سلف مرارًا.
و" أبو عمرو "، هو الأوزاعي الإمام.
و" عبدة بن أبي لبابة الأسدي "، مضى برقم: ٥٨٥٩.
وانظر الخبر الآتي رقم: ١٦٢٦٣.
(٣) في المستدرك: " لقيت أبا إسحاق بعد ما ذهب بصره ".
(٤) الأثر: ١٦٢٦١ - " أبو إسحاق " هو: السبيعي.
و" أبو الأحوص "، هو " عوف بن مالك بن نضلة "، تابعي ثقة، مضى مرارًا.
و" عبد الله "، هو " عبد الله بن مسعود ".
وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك ٢: ٣٢٩، من طريق يعلي بن عبيد، عن فضيل، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ٢٧، ٢٨، من طريق أخرى، وقال: " رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، غير جنادة بن مسلم، وهو ثقة ".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ١٩٩، وزاد نسبته إلى ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان، والنسائي، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.
وسيأتي من طريق أخرى رقم: ١٦٢٦٤.
١٦٢٦٣- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن الأوزاعي قال، حدثني عبدة بن أبى لبابة، عن مجاهد =ثم ذكر نحو حديث عبد الكريم، عن الوليد. (٢)
١٦٢٦٤- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، وابن نمير، وحفص بن غياث=، عن فضيل بن غزوان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص قال: سمعت عبد الله يقول: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم)، الآية، قال: هم المتحابون في الله. (٣)
* * *
وقوله: (إنه عزيز حكيم)، يقول: إن الله الذي ألف بين قلوب الأوس والخزرج بعد تشتت كلمتهما وتعاديهما، وجعلهم لك أنصارًا = (عزيز)، لا يقهره شيء، ولا يردّ قضاءه رادٌّ، ولكنه ينفذ في خلقه حكمه. يقول: فعليه فتوكل، وبه فثق= (حكيم)، في تدبير خلقه. (٤)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (يا أيها النبي حسبك الله)، وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله. يقول لهم جل ثناؤه: ناهضوا
(٢) الأثر: ١٦٢٦٣ - انظر ما سلف رقم: ١٦٢٦٠، والتعليق عليه.
(٣) الأثر: ١٦٢٦٤ - طريق أخرى للأثر السالف رقم: ١٦٢٦١.
(٤) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز)، (حكم).
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٦٥- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان، عن شوذب أبي معاذ، عن الشعبي في قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، قال: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله. (٢)
١٦٢٦٦- حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا سفيان، عن شوذب، عن الشعبي في قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، قال: حسبك الله، وحسب من معك.
١٦٢٦٧- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن شوذب، عن عامر، بنحوه =إلا أنه قال: حسبك الله، وحسب من شهد معك.
١٦٢٦٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين)، قال: يا أيها النبي حسبك الله، وحسب من اتبعك من المؤمنين، إنّ حسبك أنت وهم، الله.
* * *
فـ "منْ" قوله: (ومن اتبعك من المؤمنين)، على هذا التأويل الذي
(٢) الأثر: ١٦٢٦٥ - " شوذب، أبو معاذ "، ويقال: " أبو عثمان "، مولى البراء بن عازب. قال سفيان، عن شوذب: " كنت تياسًا، فنهاني البراء بن عازب عن عسب الفحل " روى عنه سفيان الثوري، وشعبة. مترجم في الكبير ٢ ٢ ٢٦١، وابن أبي حاتم ٢ ١ ٣٧٧، وكان في المطبوعة: "شوذب بن معاذ" وهو خطأ، صوابه في المخطوطة.
وسيأتي في الإسنادين التاليين.
* * *
وقد قال بعض أهل العربية في "من"، أنها في موضع رفع على العطف على اسم "الله"، كأنه قال: حسبك الله ومتبعوك إلى جهاد العدو من المؤمنين، دون القاعدين عنك منهم. واستشهد على صحة قوله ذلك بقوله: (حرض المؤمنين على القتال). (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال)، حُثَّ متبعيك ومصدِّقيك على ما جئتهم به من الحق، على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين (٢) = (إن يكن منكم عشرون) رجلا= (صابرون)، عند لقاء العدو، ويحتسبون أنفسهم ويثبتون
(٢) انظر تفسير " التحريض " فيما سلف ٨: ٥٧٩.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٦٩- حدثنا محمد بن بشار قال. حدثنا محمد بن محبب قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن عطاء في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين)، قال: كان الواحد لعشرة، ثم جعل الواحد باثنين; لا ينبغي له أن يفرَّ منهما. (٣)
١٦٢٧٠- حدثنا سعيد بن يحيى قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج،
(٢) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف ١١: ٢١٥، تعليق: ٢. والمراجع هناك.
(٣) الأثر: ١٦٢٦٩ - " محمد بن محبب بن إسحاق القرشي "، ثقة، مضى برقم: ٦٣٢٠.
١٦٢٧١- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال: قال محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية، ثقلت على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين، ومئة ألفا، فخفف الله عنهم. فنسخها بالآية الأخرى فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين)، قال: وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم. وإن كانوا دون ذلك، لم يجب عليهم أن يقاتلوا، وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم. (١)
١٦٢٧٢- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين)، قال: كان لكل رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي له أن يفرّ منهم. فكانوا كذلك حتى أنزل الله: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين)، فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين، فنسخ الأمر الأول =وقال مرة أخرى في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين)، فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار، فشق ذلك على المؤمنين، ورحمهم الله، فقال: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين)،
١٦٢٧٣- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال)، إلى قوله: (بأنهم قوم لا يفقهون)، وذلك أنه كان جعل على كل رجل من المسلمين عشرة من العدو يؤشِّبهم =يعني: يغريهم (١) = بذلك، ليوطنوا أنفسهم على الغزو، وأن الله ناصرهم على العدو، ولم يكن أمرًا عزمه الله عليهم ولا أوجبه، ولكن كان تحريضًا ووصية أمر الله بها نبيه، ثم خفف عنهم فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا)، فجعل على كل رجلٍ رجلين بعد ذلك، تخفيفا، ليعلم المؤمنون أن الله بهم رحيم، فتوكلوا على الله وصبروا وصدقوا، ولو كان عليهم واجبًا كفّروا إذنْ كلَّ رجل من المسلمين [نكل] عمن لقي من الكفار إذا كانوا أكثر منهم فلم يقاتلوهم. (٢) فلا يغرنَّك قولُ رجالٍ! فإني قد سمعت رجالا يقولون: إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى يكون على كل رجل رجلان، وحتى يكون على كل رجلين أربعة، ثم بحساب ذلك، وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة ذلك، وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدَّةَ أن يكون على كل رجل رجلان، وعلى كل رجلين أربعة، وقد قال الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [سورة البقرة: ٢٠٧]، وقال الله: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة النساء: ٨٤]، فهو التحريض الذي أنزل الله
(٢) في المطبوعة: " ولو كان عليهم واجبًا الغزو إذا بعد كل رجل من المسلمين عمن لقي من الكفار "، جاء بكلام لا معنى له. وكان في المخطوطة: " ولو كان عليهم واجبًا كفروا إذا كل رجل من المسلمين عمن لقي من الكفار "، وصواب الجملة ما أثبت، ولكن الناسخ أسقط، والله أعلم، [نكل] التي وضعها بين القوسين. و " نكل عن عدوه "، نكص.
١٦٢٧٤- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحصين، عن زيد، عن عكرمة والحسن قالا قال في "سورة الأنفال" = (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون)، ثم نسخ فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا)، إلى قوله: (والله مع الصابرين).
١٦٢٧٥- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة، في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون)، قال: واحد من المسلمين وعشرة من المشركين. ثم خفف عنهم فجعل عليهم أن لا يفرَّ رجل من رجلين.
١٦٢٧٦- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون)، إلى قوله: (وإن يكن منكم مئة)، قال: هذا لأصحاب محمد ﷺ يوم بدر، جعل على الرجل منهم عشرة من الكفار، (٢) فضجوا من ذلك، فجعل على الرجل قتال رجلين، تخفيفا من الله.
١٦٢٧٧- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، وأبي معبد عن ابن عباس قال: إنما أمر الرجل أن يصبر نفسه لعشرة، والعشرة لمئة إذ المسلمون قليل، فلما كثر
(٢) في المطبوعة في الموضعين حذف " قتال "، لأنها في المخطوطة: " فقال "، وصواب قراءتها ما أثبت.
١٦٢٧٨- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين)، قال: كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفروا، فإنهم إن لم يفروا غَلَبوا، ثم خفف الله عنهم وقال: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين)، فيقول: لا ينبغي أن يفر ألف من ألفين، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم.
١٦٢٧٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين)، جعل الله على كل رجل رجلين، بعد ما كان على كل رجل عشرة = وهذا الحديث عن ابن عباس.
١٦٢٨٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن الخرِّيت، عن عكرمة، عن ابن عباس: كان فُرِض على المؤمنين أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين. قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا)، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله التخفيف، فجعل على الرجل أن يقاتل الرجلين، قوله: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين)، فخفف الله عنهم، ونُقِصوا من الصبر بقدر ذلك. (١)
١٦٢٨١- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين)، يقول: يقاتلوا مئتين، فكانوا أضعف من ذلك، فنسخها الله عنهم. فخفف
١٦٢٨٢- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين)، قال: كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفروا، فإنهم إن لم يفرُّوا غَلَبوا. ثم خفف الله عنهم فقال: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله)، فيقول: لا ينبغي أن يفرّ ألف من ألفين، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم.
١٦٢٨٣- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان هذا واجبًا أن لا يفر واحد من عشرة.
١٦٢٨٤- وبه قال: أخبرنا الثوري، عن الليث، عن عطاء، مثل ذلك.
* * *
وأما قوله: (بأنهم قوم لا يفقهون)، فقد بينّا تأويله. (١)
* * *
وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما:-
١٦٢٨٥- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (بأنهم قوم لا يفقهون)، أي لا يقاتلون على نِيَّةٍ ولا حقٍّ فيه، ولا معرفة بخير ولا شر. (٢)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الآية =أعني قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين)، = وإن كان مخرجها مخرج الخبر، فإن معناها الأمر. يدلّ على
(٢) الأثر: ١٦٢٨٥ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٣١، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٢٥٧، وقد أخره أبو جعفر عن موضعه إلى هذا الموضع، وقدم عليه الخبر رقم: ١٦٢٧١، وهو تال له في تفسير السورة في سيرة ابن هشام.
كان في المطبوعة. " ولا معرفة لخير "، وأثبت ما في المخطوطة والسيرة.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (وعلم أن فيكم ضعفًا).
فقرأه بعض المدنيين وبعض البصريين: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا)، بضم "الضاد" في جميع القرآن، وتنوين "الضعف" على المصدر من: "ضَعُف الرجل ضُعْفًا".
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا)، بفتح "الضاد"، على المصدر أيضًا من "ضَعُف".
* * *
وقرأه بعض المدنيين: (ضُعَفَاء)، على تقدير "فعلاء"، جمع "ضعيف" على "ضعفاء"، كما يجمع "الشريك"، "شركاء"، و"الرحيم"، "رحماء".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب، قراءة من قرأه: (وَعَلِمَ
* * *
فأما قراءة من قرأ ذلك: "ضعفاء"، فإنها عن قراءة القرأة شاذة، وإن كان لها في الصحة مخرج، فلا أحبُّ لقارئٍ القراءةَ بها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما كان لنبي أن يحتبس كافرًا قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ.
* * *
و"الأسر" في كلام العرب: الحبس، يقال منه: "مأسورٌ"، يراد به: محبوس. ومسموع منهم: "أبَاله الله أسْرًا". (١)
* * *
وإنما قال الله جل ثناؤه [ذلك] لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يعرِّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم ﷺ يوم بدر ثم فادى بهم، كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم.
* * *
وأما قوله: " أباله الله أسرا "، فإن " الأسر " " بضم الألف وسكون السين "، وهو احتباس البول، يقال: " أخذه الأسر ". وهذه الجملة كانت في المخطوطة: " أبي الله أسرًا "، وفي لسان العرب، كما في المطبوعة " أناله بالنون "، وفي أساس البلاغة: " وفي أدعيتهم: أبي لك الله أسرا ".
والذي في المخطوطة وأساس البلاغة يرجح صواب ما قرأته بالباء.
* * *
يقال منه: "أثخن فلان في هذا الأمر"، إذا بالغ فيه. وحكي: "أثخنته معرفةً"، بمعنى: قتلته معرفةً.
* * *
= (تريدون)، يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تريدون)، أيها المؤمنون، (عرض الدنيا)، بأسركم المشركين =وهو ما عَرَض للمرء منها من مال ومتاع. (١) يقول: تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها = (والله يريد الآخرة)، يقول: والله يريد لكم زينة الآخرة وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته، بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض. يقول لهم: فاطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا، (٢) لا ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها = (والله عزيز)، يقول: إن أنتم أردتم الآخرة، لم يغلبكم عدوّ لكم، لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب = وأنه (حكيم) (٣) في تدبيره أمرَ خلقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٨٦- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم، أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً)، [سورة محمد: ٤]، فجعل الله النبيَّ والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار، إن
(٢) في المطبوعة والمخطوطة: " واطلبوا "، والسياق للفاء لا للواو.
(٣) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز)، (حكم).
١٦٢٨٧- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا)، الآية، قال: أراد أصحاب نبيّ الله ﷺ يوم بدر الفداءَ، ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف. (١) ولعمري ما كان أثخن رسول الله ﷺ يومئذ! وكان أول قتال قاتله المشركين.
١٦٢٨٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن حبيب بن أبي عمرة، عن مجاهد قال: "الإثخان"، القتل. (٢)
١٦٢٨٩- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير في قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، قال: إذا أسرتموهم فلا تفادوهم حتى تثخنوا فيهم القتلَ.
١٦٢٩٠-... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى)، الآية، نزلت الرخصة بعدُ، إن شئت فمنّ، وإن شئت ففاد.
١٦٢٩١- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، يعني: الذين أسروا ببدر.
١٦٢٩٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى)، من عدوه = (حتى يثخن في الأرض)، أي:
(٢) الأثر: ١٦٢٨٨ - " حبيب بن أبي عمرة "، القصاب، أو: اللحام، " أبو عبد الله الحماني "، ثقة قليل الحديث سلف برقم: ١٠٢٢٤.
١٦٢٩٣- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية قال، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستأنهم، (٢) لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم! وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا. قال: فقال له العباس: قُطِعتْ رَحِمُك! قال: فسكت رسول الله ﷺ فلم يجبهم، ثم دخل. فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عُمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله ﷺ فقال: "إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوبَ رجال حتى تكون أشد من الحجارة! وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة إبراهيم: ٣٦]، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ)، الآية [سورة المائدة: ١١٨].
(٢) كان في المطبوعة: " واستأن بهم "، وهو نص الخبر في مسند أحمد وغيره، من " الأناة ". يقال: " استأنى بالشيء "، ترفق به، وأخره وانتظر به، وتربص به. ونقل صاحب أساس البلاغة: " واستأنيت فلانًا ": لم أعجله، وأنشد لابن مقبل:
وَقَوْمٌ بأَيدِيهِمْ رِمَاحُ رُدَينَةٍ | شَوَارِعَ تَسْتأني دَمًا أو تسَلَّفُ |
ورواية " واستأنهم " هذه هي الثابتة في تاريخ أبي جعفر، في رواية هذا الخبر.
١٦٢٩٤- حدثنا ابن بشار قال، [حدثنا عمر بن يونس اليمامي] قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثنا أبو زميل قال، حدثني عبد الله بن عباس قال: لما أسروا الأسارى، يعني يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أبو بكر وعمر وعلي؟ قال: ما ترون في الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي رأى أبو بكر، يا نبي الله، ولكن أرى أن تمكننا منهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيبٍ لعمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهويَ رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلت. (٤) قال عمر: فلما كان من الغد، جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أيّ شيء تبكي أنتَ وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرَض لأصحابي من أخذهم الفداء، ولقد عُرِض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة! لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، إلى قوله: (حلالا طيبا)، وأحلّ الله الغنيمة لهم. (٥)
* * *
وإنما ترك رسول الله ﷺ ضرب مثل لعبد الله بن رواحة، والله أعلم، لما في مشورته من النكال الشديد، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار سبحانه وتعالى، وأعاذنا من عذاب جهنم بفضله ورحمته ومنه على كل عاص من عباده.
(٢) " العالة ": الفقراء ذوي الفاقة، جمع " عائل ". و " عال الرجل "، احتاج وافتقر.
(٣) الأثر: ١٦٢٩٣ - إسناده منقطع، لأن "أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود"، لم يسمع من أبيه.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده من هذه الطريق نفسها رقم: ٣٦٣٢ - ٣٦٣٤،
ورواه الحاكم في المستدرك ٣: ٢١، ٢٢، من طريق جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "، وقال الذهبي: " صحيح، سمعه جرير بن عبد الحميد ".
ورواه الطبري في تاريخه ٢: ٢٥٩، بلفظه وإسناده.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد ٦: ٨٦، ٨٧، وفصل الكلام فيه، وقال: " رواه أحمد... ورواه الطبراني، وفيه أبو عبيدة، ولم يسمع من أبيه، ولكن رجاله ثقات ".
ورواه الواحدي في أسباب النزول: ١٧٨.
وأما قوله: " إلا سهيل بن بيضاء "، فهو خطأ من بعض الرواة، وإنما هو " سهل بن بيضاء " أخو " سهيل " لأبيه وأمه، قال ابن سعد: " أسلم بمكة وكتم إسلامه، فأخرجته قريش معها في نفير بدر، فشهد بدرًا مع المشركين، فأسر يومئذ. فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه يصلي بمكة، فخلى عنه. والذي روى القصة في سهيل بن بيضاء قد أخطأ، سهيل بن بيضاء أسلم قبل عبد الله بن مسعود، ولم يستخف بإسلامه، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا مع رسول الله ﷺ مسلمًا، لا شك فيه. فخلط من روى ذلك الحديث ما بينه وبين أخيه، لأن سهيلا أشهر من أخيه سهل، والقصة في سهل "، ابن سعد ٤ ١ ١٥٦.
(٤) هذا الخبر عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه، كما سترى في التخريج.
(٥) الأثر: ١٦٢٩٤ - " أبو زميل "، هو " سماك بن الوليد الحنفي "، سلف أخيرًا برقم: ١٥٧٣٤، ١٦٠٠، وسائر رجال الإسناد قد مضوا جميعًا.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " حدثنا ابن بشار قال حدثنا عكرمة بن عمار "، وهو إسناد مختل، والظاهر أن الناسخ كتب " ابن بشار " في آخر الصفحة، كما هو في مخطوطتنا، ثم لما انتقل إلى أول الصفحة التالية كتب: " حدثنا عكرمة بن عمار "، فأسقط من الإسناد ما أثبته بين القوسين، واستظهرته من رواية صدر هذا الخبر نفسه في الترمذي، في كتاب التفسير، حيث رواه مختصرًا، قال: " حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عمر بن يونس اليمامي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا أبو زميل، حدثني عبد الله بن عباس، حدثني عمر بن الخطاب ".
وقد مضى مختصرًا كما في الترمذي، برقم: ١٥٧٣٤، وقد بينت تخريج الخبر هناك.
وهذا الخبر مطولا رواه أحمد في مسنده رقم: ٢٠٨، ٢٢١، من طريق أبي نوح قراد، عن عكرمة بن عمار.
ورواه مسلم في صحيحه مطولا ١٢: ٨٤ - ٨٧، من طريق هناد بن السري، عن ابن المبارك، عن عكرمة، ثم من طريق زهير بن حرب، عن عمر بن يونس الحنفي (اليمامي)، عن عكرمة.
ورواه أبو جعفر في التاريخ ٢: ٢٩٤، مطولا، من طريق أحمد بن منصور، عن عاصم بن علي، عن عكرمة.
ورواه الواحدي في أسباب النزول: ١٧٩.
وهو حديث صحيح، لا يعرف إلا من طريق عكرمة بن عمار، كما سلف.
وخرجه ابن كثير في تفسير ٤٥: ١٨، ١٩.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداء: (لولا كتاب من الله سبق)، يقول: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ، بأن الله مُحِلٌّ لكم الغنيمة، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يُضِلّ قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، (١) وأنه لا يعذب أحدًا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسولا الله ﷺ ناصرًا دينَ الله = لنالكم من الله، بأخذكم الغنيمة والفداء، عذاب عظيم. (٢)
* * *
(٢) انظر تفسير " المس " فيما سلف ١٣: ٣٣٣، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٢٩٥- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية، قال: إن الله كان مُطْعِم هذه الأمة الغنيمةَ، وإنهم أخذوا الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به. قال: فعاب الله ذلك عليهم، ثم أحله الله.
١٦٢٩٦- حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل عن عوف، عن الحسن في قول الله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية، وذلك يوم بدر، وأخذ أصحاب النبي ﷺ المغانمَ والأسارى قبل أن يؤمروا به، وكان الله تبارك وتعالى قد كتب في أم الكتاب: "المغانم والأسارى حلال لمحمد وأمته"، ولم يكن أحله لأمة قبلهم، وأخذوا المغانم وأسروا الأسارى قبل أن ينزل إليهم في ذلك، قال الله: (لولا كتاب من الله سبق)، يعني في الكتاب الأول. أن المغانم والأسارى حلال لكم = (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
١٦٢٩٧- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية، وكانت الغنائم قبل أن يبعث النبي ﷺ في الأمم، إذا أصابوا مغنمًا جعلوه للقربان، وحرم الله عليهم أن يأكلوا منه قليلا أو كثيرًا. حُرِّم ذلك على كل نبي وعلى أمته، فكانوا لا يأكلون منه، ولا يغلُّون منه، ولا يأخذون منه قليلا ولا كثيرًا إلا عذبهم الله عليه. وكان الله حرمه عليهم تحريمًا شديدًا، فلم يحله لنبيّ إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم. وكان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال، فذلك قوله يوم بدر، في أخذ الفداء من الأسارى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
١٦٢٩٨- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عروة، عن
١٦٢٩٩- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، قال الأعمش في قوله: (لولا كتاب من الله سبق)، قال: سبق من الله أن أحل لهم الغنيمة.
١٦٣٠٠- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بشير بن ميمون قال: سمعت سعيدًا يحدث، عن أبي هريرة، قال: قرأ هذه الآية: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، قال: يعني: لولا أنه سبق في علمي أني سأحلُّ الغنائم، لمسكم فيما أخذتم من الأسارى عذاب عظيم. (١)
١٦٣٠١- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، وأبو معاوية بنحوه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحلت الغنائم لأحدٍ سُودِ الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نارٌ من السماء وتأكلها، حتى كان يوم بدر، فوقع الناس في الغنائم، فأنزل الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم)، حتى بلغ، (حلالا طيبًا).
١٦٣٠٢- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه = قال: فلما كان يوم بدر أسرَع الناس في الغنائم. (٢)
و" سعيد " هو " سعيد بن أبي سعيد المقبري ".
(٢) الأثران: ١٦٣٠١، ١٦٣٠٢ - حديث صحيح الإسناد، إلا ما كان من أمر " جابر بن نوح الحماني "، ليس حديثه بشيء، ضعيف، قال يحيى بن معين: " جابر بن نوح، إمام مسجد بني حمان، ولم يكن بثقة، كان ضعيفًا ". مترجم في التهذيب، والكبير ١ ٢ ٢١٠، وابن أبي حاتم ١ ١ ٥٠٠، وميزان الاعتدال ١: ١٧٦، وأبو كريب رواه عن جابر، وعن أبي معاوية، فحديث أبي معاوية هو الصحيح.
وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق عبد بن حميد، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن الأعمش، وقال: " هذا حديث حسن صحيح ".
ورواه البيهقي في السنن ٦: ٢٩٠ من طريق محاضر، عن الأعمش، ومن طريق أبي معاوية، عن الأعمش.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور ٣: ٢٠٣، وزاد نسبته إلى النسائي، وابن أبي شيبة في المصنف، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
١٦٣٠٤- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن عبيدة قال: كان فداء أسارى بدر مئة أوقية، و"الأوقية" أربعون درهمًا، ومن الدنانير ستة دنانير. (٢)
١٦٣٠٥- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة: أنه قال في أسارى بدر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشْهِد منكم بعِدَّتهم! فقالوا: بلى، (٣) نأخذ الفداء فنستمتع به، ويستشهد منا بعِدَّتهم.
(٢) انظر تقدير " الأوقية " فيما سلف في الأثر رقم: ١٦٠٥٨.
(٣) انظر مجيء " بلى " في غير جحد، فيما سلف في الأثر رقم: ٧٨١ ج ١: ٥٥٤ ثم ٢: ٢٨٠، ٥١٠ ١٠: ٩٨، تعليق: ٤ ثم ١٠: ٢٥٣، تعليق: ٣ ثم ١٢: ١٧٤، تعليق: ٣.
١٦٣٠٧- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (لولا كتاب من الله سبق)، قال: كان المغنم محرَّمًا على كل نبي وأمته، وكانوا إذا غنموا يجعلون المغنم لله قربانًا تأكله النار. وكان سبق في قضاء الله وعلمه أن يحلّ المغنم لهذه الأمة، يأكلون في بطونهم.
١٦٣٠٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء في قول الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم)، قال: كان في علم الله أن تحلّ لهم الغنائم، فقال: (لولا كتاب من الله سبق)، بأنه أحل لكم الغنائم = (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر، أن لا يعذبهم، لمسهم عذاب عظيم.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٣٠٩- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: (لولا كتاب من الله سبق)، قال: لأهل بدر، من السعادة.
١٦٣١٠- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن
وهذا خبر صحيح إسناده.
١٦٣١١- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (لولا كتاب من الله سبق)، قال: سبق من الله خيرٌ لأهل بدر.
١٦٣١٢- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، كان سبق لهم من الله خير، وأحلّ لهم الغنائم.
١٦٣١٣- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن: (لولا كتاب من الله سبق)، قال: (سبق)، أن لا يعذب أحدًا من أهل بدر.
١٦٣١٤- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لولا كتاب من الله سبق)، لأهل بدر، ومشهدَهم إياه.
١٦٣١٥- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم)، لمسكم فيما أخذتم من الغنائم يوم بدر قبل أن أحلها لكم. فقال: سبق من الله العفو عنهم والرحمة لهم، سبق أنه لا يعذب المؤمنين، لأنه لا يعذب رَسوله ومن آمن به وهاجر معه ونصره.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (لولا كتاب من الله سبق)، أن لا يؤاخذ أحدًا بفعل أتاه على جهالة = (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم).
* ذكر من قال ذلك:
١٦٣١٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
١٦٣١٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: عاتبه في الأسارى وأخذ الغنائم، ولم يكن أحد قبله من الأنبياء يأكل مغنمًا من عدوٍّ له. (١)
١٦٣١٨- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد قال، حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُصِرت بالرعب، وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت جوامع الكلم، وأحلّت لي المغانم، ولم تحلّ لنبيٍّ كان قبلي، وأعطيت الشفاعة، خمسٌ لم يُؤْتَهُنَّ نبيٌّ كان قبلي = قال محمد (٢) فقال: (ما كان لنبي)، أي: قبلك = (أن يكون له أسرى) إلى قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم)، أي: من الأسارى والمغانم = (عذاب عظيم)، أي: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب إلا بعد النهي، ولم أكن نهيتكم، لعذبتكم فيما صنعتم. ثم أحلها له ولهم رحمةً ونعمةً وعائدةً من الرحمن الرحيم. (٣)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما قد بيناه قبلُ. وذلك أن قوله: (لولا كتاب من الله سبق)، خبر عامٌّ غير محصور على معنى دون
(٢) قوله: " محمد "، يعني محمد بن إسحاق، لا " محمد بن علي ".
(٣) الأثر: ١٦٣١٨ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٣٢، وصدره تابع الأثر السالف رقم: ١٦٣١٧، وسابق للأثر رقم: ١٦٢٩٢، ثم روى صدرًا من الأثر رقم: ١٦٢٩٢، وأتبعه بما يليه في السيرة.
١٦٣١٩- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لم يكن من المؤمنين أحد ممن نُصِر إلا أحبَّ الغنائم، إلا عمر بن الخطاب، جعل لا يلقى أسيرًا إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله، ما لنا وللغنائم، نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يُعبد الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك! قال الله: لا تعودوا تستحلون قبل أن أحلّ لكم.
١٦٣٢٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: لما نزلت: (لولا كتاب من الله سبق)، الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو نزل عذابٌ من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ، لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحبّ إلي من استبقاء الرجال. (١)
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أهل بدر: (فكلوا)، أيها المؤمنون = (مما غنمتم)، من أموال المشركين = (حلالا)، بإحلاله لكم = (طيبا واتقوا الله)، يقول: وخافوا الله أن تعودوا، أن تفعلوا في دينكم شيئا بعد هذه
* * *
وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وتأويل الكلام: (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا)، (إن الله غفور رحيم)، (واتقوا الله).
* * *
ويعني بقوله: (إن الله غفور)، لذنوب أهل الإيمان من عباده = (رحيم)، بهم، أن يعاقبهم بعد توبتهم منها.
* * *
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي، قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا)، يقول: إن يعلم الله في قلوبكم إسلامًا = (يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم)، من الفداء = (ويغفر لكم)، يقول: ويصفح لكم عن عقوبة جُرْمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبي الله وأصحابه وكفركم بالله = (والله غفور)، لذنوب عباده إذا تابوا = (رحيم)، بهم، أن يعاقبهم عليها بعد التوبة. (١)
* * *
* ذكر من قال ذلك:
١٦٣٢١- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال العباس: فيّ نزلت: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض)، فأخبرت النبي ﷺ بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذ مني فأبى، فأبدلني الله بها عشرين عبدًا، كلهم تاجر، مالي في يديه. (١)
* * *
وقد:-
١٦٣٢٢- حدثنا بهذا الحديث ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد، حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب قال: كان العباس بن عبد المطلب يقول: فيّ والله نزلت، حين ذكرتُ لرسول الله ﷺ إسلامي = ثم ذكر نحو حديث ابن وكيع. (٢)
١٦٣٢٣- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية، قال: ذكر لنا أن نبيّ الله ﷺ لما قدم عليه مالُ البحرين ثمانون ألفًا، وقد توضأ لصلاة الظهر،
(٢) الأثر: ١٦٣٢٢ - هذا الخبر والذي قبله، ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد ٧: ٨، مطولا، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، ورجال الأوسط رجال الصحيح، غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع ".
وظاهر أنه يعني إسنادًا غير هذين الإسنادين، فإن الأول لم يصرح فيه السماع، والثاني فيه " الكلبي ".
وذكره الواحدي في أسباب النزول، عن الكلبي، مطولا: ١٨٠، ١٨١.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " جابر بن عبد الله بن رباب "، وهو خطأ، صوابه ما أثبت.
١٦٣٢٤- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية، وكان العباس أسر يوم بدر، فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب، فقال العباس حين نزلت هذه الآية: لقد أعطاني الله خَصلتين، ما أحب أن لي بهما الدنيا: أني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية، فآتاني أربعين عبدًا، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله.
١٦٣٢٥- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) إلى قوله: (والله غفور رحيم)، يعني بذلك: من أسر يوم بدر. يقول: إن عملتم بطاعتي ونصحتم لرسولي، آتيتكم خيرًا مما أخذ منكم، وغفرت لكم.
١٦٣٢٦- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني. عن ابن عباس: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى)، عباس وأصحابه، قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد إنك لرسول الله، لننصحن لك على قومنا. فنزل: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم)، إيمانًا وتصديقًا، يخلف لكم خيرًا مما أصيب منكم = (ويغفر لكم)، الشرك الذي كنتم عليه. قال: فكان العباس يقول: ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا، وأن لي الدنيا، لقد قال: (يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) فقد أعطاني خيرًا مما أخذ مني مئة ضعف، وقال: (ويغفر لكم)، وأرجو أن يكون قد غُفِر لي.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١) ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يرد هؤلاء الأسارى الذين في أيديكم = (خيانتك)، أي الغدر بك والمكرَ والخداع، بإظهارهم لك بالقول خلافَ ما في نفوسهم (١) = (فقد خانوا الله من قبل)، يقول: فقد خالفوا أمر الله من قبل وقعة بدر، وأمكن منهم ببدر المؤمنين (٢) = (والله عليم)، بما يقولون بألسنتهم ويضمرونه في نفوسهم = (حكيم)، في تدبيرهم وتدبير أمور خلقه سواهم. (٣)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٣٢٨- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
(٢) انظر تفسير " أمكن " فيما سلف ١١: ٢٦٣ ١٢: ٣١٥.
(٣) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم)، (حكم).
١٦٣٢٩- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإن يريدوا خيانتك) الآية، قال: ذكر لنا أن رجلا كتب لنبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمد فنافق، فلحق بالمشركين بمكة، ثم قال: "ما كان محمد يكتب إلا ما شئت! " فلما سمع ذلك رجل من الأنصار، نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح، أمَّن رسول الله ﷺ الناس إلا عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومِقْيَس بن صُبابة، (١) وابن خطل، وامرأة كانت تدعو على النبيّ ﷺ كل صباح. فجاء عثمان بابن أبي سرح، وكان رضيعه = أو: أخاه من الرضاعة = فقال: يا رسول الله، هذا فلان أقبل تائبًا نادمًا! فأعرض نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلما سمع به الأنصاريّ أقبل متقلدًا سيفه، فأطاف به، (٢) وجعل ينظر إلى رسول الله ﷺ رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله ﷺ قدّم يده فبايعه، فقال: أما والله لقد تلوَّمتك فيه لتوفي نذرك! (٣) فقال: يا نبيّ الله إنيّ هِبْتك، فلولا أوْمضت إليّ! (٤) فقال: إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يومض. (٥)
١٦٣٣٠- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
(٢) يقال: " طاف بالقوم، وأطاف بهم "، إذا استدار، وجاء من نواحيهم وهو يحوم حولهم.
(٣) " تلوم في الأمر " و " تلوم به "، انتظر وتلبث وتأنى، وتعدية مثل هذا الفعل من صريح العربية.
(٤) " أومض إليه "، أشار إشارة خفية، من " إيماض البرق "، إذا لمع لمعًا خفيًا، ثم يخفى.
(٥) الأثر: ١٦٣٢٩ - انظر مسند أحمد ٣: ١٥١، حديث أنس، بغير هذا اللفظ.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله = "وهاجروا"، يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم، يعني: تركوهم وخرجوا عنهم، وهجرهم قومهم وعشيرتهم (١) = (وجاهدوا في سبيل الله)، يقول: بالغوا في إتعاب نفوسهم وإنصَابها في حرب أعداء الله من الكفار (٢) = (في سبيل الله)، يقول: في دين الله الذي جعله طريقا إلى رحمته والنجاة من عذابه (٣) = (والذين آووا ونصروا)، يقول: والذين آووا رسول الله والمهاجرين معه، يعني: أنهم جعلوا لهم مأوًى يأوون إليه، وهو المثوى والمسكن، يقول: أسكنوهم، وجعلوا لهم من منازلهم مساكنَ إذ أخرجهم قومهم من منازلهم (٤) = (ونصروا)، يقول: ونصروهم على أعدائهم وأعداء الله من المشركين = (أولئك بعضهم أولياء بعض)، يقول: هاتان الفرقتان، يعني المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من
(٢) انظر تفسير " المجاهدة " فيما سلف ٤: ٣١٨ ١٠: ٢٩٢، ٤٢٣.
(٣) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل).
(٤) انظر تفسير " آوى "، و " المأوى " فيما سلف ١٣: ٤٧٧، تعليق: ٢، والمراجع هناك.
* * *
وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورَّث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة، دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعدُ بقوله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ)، [سورة الأنفال: ٧٥ وسورة الأحزاب: ٦].
* ذكر من قال ذلك:
١٦٣٣١- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض)، يعني: في الميراث، جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، قال الله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا)، يقول: ما لكم من ميراثهم من شيء، وكانوا يعملون بذلك حتى أنزل الله هذه الآية: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [سورة الأنفال: ٧٥ وسورة الأحزاب: ٦]، في الميراث، فنسخت التي قلبها، وصار الميراث لذوي الأرحام.
١٦٣٣٢- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله)، يقول: لا هجرة بعد الفتح، إنما هو الشهادة بعد ذلك = (والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض)، إلى قوله: (حتى يهاجروا). وذلك أن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله ﷺ على ثلاث منازل: منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة، خرج إلى
١٦٣٣٣- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الثلاث الآيات خواتيم الأنفال، فيهن ذكر ما كان والىَ رسول الله ﷺ بين مهاجري المسلمين وبين الأنصار في الميراث. ثم نسخ ذلك آخرها: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
١٦٣٣٤- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا)، إلى قوله: (بما تعملون بصير)، قال: بلغنا أنها كانت في الميراث، لا يتوارث المؤمنون الذين هاجروا، والمؤمنون الذين لم يهاجروا. قال: ثم نزل بعد: (وَأُولُو
١٦٣٣٥- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا)، إلى قوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا)، قال: لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئًا، فنسخ ذلك بعد ذلك، فألحق الله (١) (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا)، [سورة الأحزاب: ٦]، أي: من أهل الشرك، فأجيزت الوصية، (٢) ولا ميراث لهم، وصارت المواريث بالملل، والمسلمون يرث بعضهم بعضًا من المهاجرين والمؤمنين، ولا يرث أهل ملتين.
١٦٣٣٦- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسن، عن يزيد، عن عكرمة والحسن قالا (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله)، إلى قوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا)، كان الأعرابي لا يرث المهاجر، ولا يرثه المهاجر، فنسخها فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
١٦٣٣٧- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
(٢) في المخطوطة: " حرت الوصية "، هكذا غير منقوط، وكأن الصواب ما في المطبوعة.
ولو قرئت: " خيرت الوصية " (بالبناء للمجهول)، لكان وجها.
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: (والذين آمنوا). الذين صدقوا بالله ورسوله = (ولم يهاجروا). قومهم الكفار، ولم يفارقوا دارَ الكفر إلى دار الإسلام = (ما لكم)، أيها المؤمنون بالله ورسوله. المهاجرون قومَهم المشركين وأرضَ الحرب (٢) = (من ولايتهم)، يعني: من نصرتهم وميراثهم.
* * *
(٢) انظر تفسير " الهجرة " فيما سلف ص ٧٧، تعليق: ، والمراجع هناك.
* * *
= (من شيء حتى يهاجروا)، قومَهم ودورَهم من دار الحرب إلى دار الإسلام = (وإن استنصروكم في الدين)، يقول: إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا = (في الدين)، يعني: بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، "فعليكم"، أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار، (النصر) = (إلا) أن يستنصروكم = (على قوم بينكم وبينهم ميثاق)، يعني: عهد قد وثَّق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه (١) = (والله بما تعملون بصير)، يقول: والله بما تعملون فيما أمركم ونهاكم من ولاية بعضكم بعضًا، أيها المهاجرون والأنصار، وترك ولاية من آمن ولم يهاجر ونصرتكم إياهم عند استنصاركم في الدين، وغير ذلك من فرائض الله التي فرضها عليكم = (بصير)، يراه ويبصره، فلا يخفى عليه من ذلك ولا من غيره شيء. (٢)
١٦٣٣٨- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا)، قال: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وآخى النبي ﷺ بينهم، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة. وكان الرجل يسلم ولا يهاجر، لا يرث أخاه، فنسخ ذلك قوله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) [سورة الأحزاب: ٦].
١٦٣٣٩- حدثنا محمد قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: أن النبي ﷺ أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال:
(٢) انظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة (بصر).
١٦٣٤٠- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وإن استنصروكم في الدين)، يعني: إن استنصركم الأعراب المسلمون، أيها المهاجرون والأنصار، على عدوهم، فعليكم أن تنصروهم، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق.
١٦٣٤١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ترك النبي ﷺ الناسَ يوم تُوفي على أربع منازل: مؤمن مهاجر، والأنصار، وأعرابي مؤمن لم يهاجر; إن استنصره النبي ﷺ نصره، وإن تركه فهو إذْنُه، (٢) وإن استنصر النبي ﷺ في الدين كان حقًّا عليه أن ينصره، فذلك قوله: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) = والرابعة: التابعون بإحسان.
١٦٣٤٢- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا)، إلى آخر السورة، قال: إن رسول الله ﷺ توفي وترك الناس على أربع منازل (٣) مؤمن مهاجر. ومسلم أعرابي، والذين آووا ونصروا، والتابعون بإحسان.
* * *
(٢) في المطبوعة: " فهو إذن له " ثبت ما في المخطوطة.
(٣) في المطبوعة: " قال رسول الله " وذلك أن كاتب المخطوطة وصل لام "قال" بألف "إن"، ووصل ألف "إن" بنونها.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (والذين كفروا)، بالله ورسوله = (بعضهم أولياء بعض)، يقول: بعضهم أعوان بعض وأنصاره، وأحق به من المؤمنين بالله ورسوله. (١)
* * *
وقد ذكرنا قول من قال: "عنى بذلك أن بعضهم أحق بميراث بعض من قرابتهم من المؤمنين"، (٢) وسنذكر بقية من حضرنا ذكره.
١٦٣٤٣- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك قال، قال رجل: نورّث أرحامنا من المشركين! فنزلت: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض)، الآية.
١٦٣٤٤- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، نزلت في مواريث مشركي أهل العهد.
١٦٣٤٥- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا)، إلى قوله: (وفساد كبير)، قال: كان المؤمن المهاجر والمؤمن الذي ليس بمهاجر، لا يتوارثان وإن كانا أخوين مؤمنين. قال: وذلك لأن هذا الدين كان بهذا البلد
(٢) في المطبوعة: " عنى بيان أن بعضهم "، وهو سياق فاسد. وفي المخطوطة: " عنى بيان بعضهم "، غير منقوط، مضطرب أيضا فاسد. والصواب ما أثبت.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الكفار بعضهم أنصار بعض = وإنه لا يكون مؤمنًا من كان مقيمًا بدار الحرب لم يهاجر. (١)
* ذكر من قال ذلك:
١٦٣٤٦- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض)، قال: كان ينزل الرجل بين المسلمين والمشركين، فيقول: إن ظهر هؤلاء كنت معهم، وإن ظهر هؤلاء كنت معهم! فأبى الله عليهم ذلك، وأنزل الله في ذلك، فلا تراءى نار مسلم ونار مشرك، (٢) إلا صاحب جزية مُقِرّ بالخراج.
١٦٣٤٧- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: حض الله المؤمنين على التواصل، فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض. (٣)
* * *
وأما قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: إلا تفعلوا، أيها المؤمنون، ما أمرتم به من موارثة المهاجرين منكم بعضهم من بعض بالهجرة، والأنصار بالإيمان، دون أقربائهم من أعراب المسلمين ودون الكفار = (تكن فتنة)، يقول: يحدث بلاء في الأرض
(٢) قوله: " لا تراءى نار مسلم ومشرك "، أسند الترائي إلى النار، كناية عن الجوار، وانظر التعليق السالف ص: ٨٣، رقم: ١.
(٣) الأثر: ١٦٣٤٧ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٣٢، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٣١٨.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٣٤٨- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، إلا تفعلوا هذا، تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير). قال: ولم يكن رسول الله ﷺ يقبل الإيمان إلا بالهجرة، ولا يجعلونهم منهم إلا بالهجرة. (٣)
١٦٣٤٩- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض)، يعني في الميراث = (إلا تفعلوه)، يقول: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)،
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا تَناصروا، أيها المؤمنون، في الدين، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٣٥٠- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: جعل المهاجرين والأنصار أهلَ ولاية في الدين دون من سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض، ثم قال: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، إلا يوالِ المؤمن المؤمن من دون الكافر، وإن كان ذا رحم به = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، أي: شبهة في الحق والباطل، وظهور الفساد في الأرض، بتولّي
(٢) انظر تفسير " الفساد " فيما سلف ١٣: ٣٦، تعليق: ٣، والمراجع هناك.
(٣) في المخطوطة: " ولا يجعلونهم مقيم "، والصواب ما في المطبوعة.
١٦٣٥١- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، قال: إلا تعاونوا وتناصروا في الدين = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير).
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض)، قول من قال: معناه: أن بعضهم أنصار بعض دون المؤمنين، وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقامَ في دار الحرب وترك الهجرة، لأن المعروف في كلام العرب من معنى "الوليّ"، أنه النصير والمعين، أو: ابن العم والنسيب. (٣) فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه، إلا بمعنى أنه يليه في القيام بإرثه من بعده. وذلك معنى بعيد، وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر، أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن أولى التأويلين بقوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير)، تأويلُ من قال: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين، تكن فتنة في الأرض = إذْ كان مبتدأ الآية من قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله). بالحث على الموالاة على الدين والتناصر جاء، فكذلك (٤) الواجب أن يكون خاتمتها به.
* * *
(٢) الأثر: ١٦٣٥٠ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٣٢، ٣٣٣، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٣٤٧، وفيه جزء منه.
(٣) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي).
(٤) في المطبوعة والمخطوطة " وكذلك " بالواو، والفاء حق السياق.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا)، آوَوْا رسول الله ﷺ والمهاجرين معه ونصروهم، ونصروا دين الله، أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقًّا، لا من آمن ولم يهاجر دارَ الشرك، وأقام بين أظهر أهل الشرك، ولم يغزُ مع المسلمين عدوهم (١) = (لهم مغفرة)، يقول: لهم ستر من الله على ذنوبهم، بعفوه لهم عنها (٢) = (ورزق كريم)، يقول: لهم في الجنة مطعم ومشرب هنيٌّ كريم، (٣) لا يتغير في أجوافهم فيصير نجْوًا، (٤) ولكنه يصير رشحًا كرشح المسك (٥)
* * *
وهذه الآية تنبئ عن صحة ما قلنا: أن معنى قول الله: (بعضهم أولياء بعض) في هذه الآية، وقوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء)، إنما هو النصرة والمعونة، دون الميراث. لأنه جل ثناؤه عقّب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده، دون من لم يهاجر بقوله: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا
(٢) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة " غفر ".
(٣) انظر تفسير " رزق كريم " فيما سلف وكان في المطبوعة هنا " طعم ومشرب "، والصواب من المخطوطة.
(٤) " النجو "، ما يخرج من البطن.
(٥) روى مسلم وأبو داود من حديث جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فِيهَا ويَشْرَبُونَ، وَلا يَتْفُلُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ. قِيلَ: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قال: جُشاء ورَشْحٌ كَرَشْحِ المِسْك، يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمُونَ النَّفَس "
(صحيح مسلم ١٧: ١٧٣).
* * *
القول في تأويل قوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ﴾
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "والذين آمنوا"، بالله ورسوله، من بعد تبياني ما بيَّنت من ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضًا، وانقطاع ولايتهم ممن آمن ولم يهاجر حتى يهاجر = (وهاجروا)، دارَ الكفر إلى دار الإسلام = (وجاهدوا معكم)، أيها المؤمنون = (فأولئك منكم)، في الولاية، يجب عليكم لهم من الحق والنصرة في الدين والموارثة، مثل الذي يجب لكم عليهم، ولبعضكم على بعض، (٢) كما:-
١٦٣٥٢- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم ردّ المواريث إلى الأرحام ممن أسلم بعد الولاية من المهاجرين والأنصار دونهم، إلى الأرحام التي بينهم، (٣) فقال: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)، أي: بالميراث (٤) = (إن الله بكل شيء عليم). (٥)
* * *
(٢) انظر تفسير " هاجر "، و " جاهد " فيما سلف ص: ٨٨، تعليق: ١، والمراجع هناك.
(٣) في المطبوعة والمخطوطة: " ثم المواريث إلى الأرحام التي بينهم "، أسقط من الكلام تمام الكلام الذي أثبته من سيرة ابن هشام، وسبب ذلك كما فعل في رقم: ١٦٣٥٠، هو ذكر " الأرحام " مرتين، فاختلط عليه بصره فنقل ما نقل.
(٤) في المطبوعة: " أي: في الميراث "، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة والسيرة.
(٥) الأثر: ١٦٣٥٢ - سيرة ابن هشام ٢: ٣٣٣، وهو تابع الأثر السالف رقم: ١٦٣٥٠.
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والمتناسبون بالأرحام = (بعضهم أولى ببعض)، في الميراث، إذا كانوا ممن قسم الله له منه نصيبًا وحظًّا، من الحليف والولي = (في كتاب الله)، يقول: في حكم الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ والسابق من القضاء (١) = (إن الله بكل شيء عليم)، يقول: إن الله عالم بما يصلح عباده، في توريثه بعضهم من بعض في القرابة والنسب، دون الحلف بالعقد، وبغير ذلك من الأمور كلها، لا يخفى عليه شيء منها. (٢)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
١٦٣٥٣- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا أبي، قال، حدثنا قتادة أنه قال: كان لا يرث الأعرابيُّ المهاجرَ، حتى أنزل الله: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله).
١٦٣٥٤- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا ابن عون، عن عيسى بن الحارث: أن أخاه شريح بن الحارث كانت له سُرِّيَّة، فولدت منه جارية، فلما شبت الجارية زُوِّجت، فولدت غلامًا، ثم ماتت السرِّية، واختصم شريح بن الحارث والغلام إلى شريح القاضي في ميراثها، فجعل شريح بن الحارث يقول: ليس له ميراث في كتاب الله! قال: فقضى شريح بالميراث للغلام. قال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)، فركب ميسرة بن يزيد إلى ابن الزبير، فأخبره بقضاء شريح وقوله، فكتب ابن
(٢) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم).
١٦٣٥٥- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال، حدثني عيسى بن الحارث قال: كانت لشريح بن الحارث سُرِّية، فذكر نحوه = إلا إنه قال في حديثه: كان الرجل يعاقد الرجل يقول: "ترثني وأرثك"، فلما نزلت تُرِك ذلك. (٣)
آخر تفسير "سورة الأنفال"
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
(٢) الأثر: ١٦٣٥٤، ١٦٣٥٥ - رواه وكيع في أخبار القضاة ٢: ٣٢٠، ٣٢١، من طريق عمرو بن بشر، عن حسن بن عيسى، عن عبد الله، عن ابن عون، بنحوه.
(٣) الأثر: ١٦٣٥٤، ١٦٣٥٥ - رواه وكيع في أخبار القضاة ٢: ٣٢٠، ٣٢١، من طريق عمرو بن بشر، عن حسن بن عيسى، عن عبد الله، عن ابن عون، بنحوه.