تفسير سورة الطارق

صفوة البيان لمعاني القرآن
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب صفوة البيان لمعاني القرآن .
لمؤلفه حسنين مخلوف . المتوفي سنة 1410 هـ

﴿ والسماء والطارق ﴾ أقسم الله بالسماء وبالطارق. والمراد به هنا : النجم البادي بالليل، وأصله : الآتي ليلا ؛ لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها ؛ ثم اتسع فيه فأطلق على كل ما يأتي ليلا، ومنه النجم الطالع بالليل. وفي الإقسام بهما تفخيم لشأنهما ؛ لدلالتهما في عظم الشكل، وبداعة الصنع – على عظيم قدرته تعالى.
وزاد النجم المقسم به تفخيما قوله ﴿ وما أدراك ما الطارق ﴾ أي أيّ شيء أعلمك ما هو ؟ ثم فسره بقوله :﴿ النجم الثاقب ﴾
﴿ النجم الثاقب ﴾ أي المضيء، كأنه يثقب الظلام بنوره فينفذه فيه. والمراد به الجنس ؛ فإن لكل كوكب ضوءا ثاقبا. أو معهود وهو الثريا. أو النجم الذي يقال له : كوكب الصباح.
وجواب القسم يقوله :﴿ إن كل نفس... ﴾ أي ما كل نفس إلا عليها مهيمن قائم عليها في إيجادها وبقائها ؛ وهو الله سبحانه. أو من يحفظ عملها من الملائكة، ويحصى عليها ما تكتسب من خير أو شر. وعدي " حافظ " بعلى لتضمنه معنى القيام والإحصاء. وقرئ " لما " بالتخفيف، " وما " زائدة للتوكيد، " وإن " مخففة من الثقيلة واسمها محذوف ؛ أي إنه.
ولما ذكر الله تعالى أن كل نفس عليها حافظ أتبع ذلك بوصية الإنسان بالنظر في أول نشأته ؛ حتى يعلم أم من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل لذلك ما يسره في عاقبته فقال ﴿ فلينظر الإنسان مم خلق ﴾
ثم بين جواب الاستفهام بقوله :﴿ خلق من ماء دافق ﴾ أي من ماء ذي دفق. والدفق : صب فيه دفع وسيلان بسرعة. وكل من مني الرجل ومني المرأة اللذين يتخلق منهما الجنين ذو دفق في الرحم
﴿ يخرج من بين الصلب والترائب ﴾ الصلب : الظهر. والترائب : جمع تريبة، وهي ما بين الثديين. أو أطراف المرء : يداه ورجلاه وعيناه. وهما كناية عن البدن كله. والجملة صفة " ماء " أي يخرج هذا الماء الدافق من بينه صلب كل واحد من الرجل والمرأة وترائب كل منهما. أي أن أعضاء وقوى كل منهما تتعاون في تكوين ما هو مبدء لتوالد الإنسان : ماء الرجل وهو المني، ومادة المرأة وهي البويضة المصحوبة بالسائل ؛ المنصبان بدفع وسيلان سريع إلى الرحم عند الاتصال الجنسي. ويسمى الفقهاء هذه المادة منيا وماء.
﴿ إنه على رجعه... ﴾ إن الله تعالى الذي قدر على خلق الإنسان من ماء مهين دافق، لبين القدرة على إعادة خلقه بعد موته ؛ بل ذلك أهون وأيسر
﴿ يوم تبلى... ﴾ يوم تكشف المكنونات، وتبدو ظاهرة للعيان. وهي ما أسر في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفي من الأعمال، ويميز بين الطيب منها والخبيث، وهو يوم القيامة. وأصل الابتلاء : الاختبار والامتحان ؛ وإطلاقه على الكشف والإظهار إطلاق على اللازم.
﴿ فماله من قوة... ﴾ أي فما للإنسان في ذلك اليوم قوة في نفسه يمتنع بها، ولا ناصر ينتصر به.
﴿ والسماء ﴾ أي المظلة﴿ ذات الرجع ﴾ أي المطر. وسمى رجعا لأن السحاب يحمل الماء من بخار البحار والأنهار، ثم يرجعه إلى الأرض مطرا. أو لأنه يعود ويتكرر ؛ من رجع : إذا عاد. ولذا يسمى أوبا، لرجوعه وتكرره.
﴿ ذات الصدع ﴾ ذات النبات ؛ لتصدعها وانشقاقها عنه. وأصل الصدع : الشق، وأطلق على النبات مجازا. والنبات في الأرض إنما يكون بسبب المطر النازل من السماء. أقسم الله بهما على حقية القرآن الناطق بالبعث فقال :﴿ إنه لقول فصل ﴾
﴿ إنه ﴾ أي إن القرآن الذي من جملته هذه الآيات المتلوّة في هذه السورة المشتملة على دلائل القدرة على البعث﴿ لقول فصل ﴾ فاصل بين الحق والباطل، والهدى والضلال. وقد بلغ الغاية في ذلك ؛ حتى كأنه نفس الفصل، وهو جواب القسم. ومن تتمته وصفه بقوله تعالى :﴿ وما هو بالهزل ﴾
﴿ وما هو بالهزل ﴾ ليس في شيء منه شائبة الهزل ؛ وهو اللعب والباطل، بل هو جد كله، فيجب أن يهتدى به، وأن يكون مهيبا في الصدور، معظما في القلوب، يترفع به قارئه وسامعه عن أن يلم بهزل، أو يتفكه بمزاح لا يناسب جلال القرآن وعظمته. ويتصور أن جبار السموات والأرض يخاطبه ؛ فيأمره وينهاه، وبعده ويتوعده، ويبشره وينذره.
﴿ وأكيد كيدا ﴾ أجازيهم، وأقابل كيدهم بكيد متين، لا يستطيعون له دفعا ؛ فأستدرجهم من حيث لا يعلمون، ثم آخذهم أخذ عزيز مقتدر.
﴿ فمهل الكافرين ﴾ أمهلهم، ولا تستعجل عقابهم، وانتظر تدبير الله فيهم. يقال : مهل وأمهل، بمعنى أنظر ؛ والاسم منه المهلة. والاستمهال : الانتظار. وهو وعيد شديد لهم. ﴿ رويدا ﴾ أي أمهلهم إمهالا قريبا أو قليلا حتى أمرك بقتالهم. مصغر رود، بوزن عود ؛ من قولهم : فلان يمشي على رود، أي على مهل. وأصله : من رادت الريح ترود، إذا تحركت حركة ضعيفة.
والله أعلم.
Icon