تفسير سورة الطارق

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الطارق من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٨٦- سورة الطارق
هي مكية وآيها سبع عشرة.
روى الإمام أحمد ١ عن عبد الرحمن بن خالد بن أبي حبل العدواني عن أبيه " أنه أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مشرق ثقيف وهو قائم على قوس أو عصا حين أتاهم يبتغي عندهم النصر فسمعته يقرأ ﴿ والسماء والطارق ﴾ حتى ختمها قال فوعيتها في الجاهلية وأنا مشرك ثم قرأتها في الاسلام قال فدعتني ثقيف فقالوا ماذا سمعت من هذا الرجل ؟ فقرأتها عليهم فقال من معهم من قريش نحن أعلم بصاحبنا لو كنا نعلم ما يقول حقا لاتبعناه " وروى النسائي٢ عن جابر قال " صلى معاذ المغرب فقرأ البقرة أو النساء فقال النبي صلى الله عليه وسلم أفتان أنت يا معاذ ؟ ما كان يكفيك أن تقرأ ب ﴿ السماء والطارق والشمس وضحاها ﴾ ونحو هذا ؟ ".
١ أخرجه في المسند بالصفحة رقم ٣٣٥ من الجزء الرابع (طبعة الحلبي)..
٢ أخرجه في ١١- كتاب الافتتاح ٦٣- باب القراءة في المغرب ب سبح باسم ربك الأعلى..

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤)
وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ النَّجْمُ الثَّاقِبُ أي المضيء كأنه يثقب ظلمة الليل وينفذ فيه، فيبصر بنوره ويهتدي به. وسمي طارقا لأنه يطرق ليلا أي يبدو فيه.
قال الشهاب: الطارق من (الطرق) وأصل معناه الضرب بوقع وشدة يسمع لها صوت. ومنه المطرقة والطريق، لأن السابلة تطرقها. ثم صار في عرف اللغة اسما لسالك الطريق، لتصور أنه يطرقها بقدمه. واشتهر فيه حتى صار حقيقة. وتسمية الآتي ليلا (طارقا) لأنه في الأكثر يجد الأبواب مغلقة فيطرقها.
والتعريف في النَّجْمُ للجنس. وأصل معنى (الثقب) الخرق. فالثاقب الخارق. ثم صار بمعنى المضيء، لتصور أنه ثقب الظلام أو الفلك. وفي إبهامه ثم تفسيره، تفخيم لشأنه وتنبيه على الاعتبار والاستدلال به.
إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أي مهيمن عليها رقيب. وهو الله تعالى، كما في آية: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً [الأحزاب: ٥٢]، فيحصي عليها ما تكسب من خير أو شر، وقد قرئ (لمّا) بالتخفيف ف (إن) مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن وكُلُّ نَفْسٍ مبتدأ وعَلَيْها حافِظٌ خبره. و (ما) صلة واللام هي الفارقة. وقرئ (لما) بالتشديد على أنها بمعنى (إلّا) الاستثنائية و (إن) نافية والخبر محذوف. أي ما كل نفس كائنة في حال من الأحوال، إلا في حال أن يكون عليها حافظ ورقيب و (كل) على هذا مؤكدة لأن نَفْسٍ حينئذ نكرة في سياق النفي، فتعم.
قال ابن جرير: والقراءة التي لا أختار غيرها في ذلك، التخفيف. لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، وقد أنكر التشديد جماعة من أهل المعرفة بكلام
العرب. غير أن الفرّاء كان يرى أنها لغة في هذيل. يجعلون (إلا) مع (إن) المخففة لمّا. فإن كان صحيحا ما ذكر الفراء فالقراءة بها جائزة صحيحة. وإن كان الاختيار مع ذلك قراءة التخفيف. لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب. ولا ينبغي أن يترك الأعرف إلى الأنكر. انتهى.
وقد صحح غير واحد ثبوتها. وبها قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة. واستشهد ابن هشام لها في (المغني) فراجعه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطارق (٨٦) : الآيات ٥ الى ١٠]
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩)
فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠)
فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ جواب لمقدر. والفاء فصيحة أي:
إن ارتاب مرتاب في كل نفس من الأنفس عليها رقيب، فلينظر إلخ.
قال الإمام: قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ بمنزلة الدليل على الدعوى المقسم عليها، زيادة في التأكيد. ووجه ذلك أن الماء الدافق من المائع الذي لا تصوير فيه ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء ونحوها. ثم إن هذا السائل ينشأ خلقا كاملا كالإنسان، مملوءا بالحياة والعقل والإدراك، قادرا على القيام بخلافته في الأرض. فهذا التصوير والتقدير وإنشاء الأعضاء والآلات البدنية، وإيداع كل عضو من القوة ما به يتمكن من تأدية عمله في البدن، ثم منح قوة الإدراك والعقل، كل هذا لا يمكن أن يكون بدون حافظ يراقب ذلك كله ويدبره، وهو الله جل شأنه. ويجوز أن يكون قوله: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ من قبيل التفريع على ما ثبت في القضية الأولى. كأنه يقول: فإذا عرفت أن كل نفس عليها رقيب، فمن الواجب على الإنسان أن لا يهمل نفسه، وأن يتفكر في خلقه. وكيف كان ابتداء نشئه ليصل بذلك إلى أن الذي أنشأه أول مرة، قادر على أن يعيده. فيأخذ نفسه بصالح الأعمال والأخلاق. ويعدل بها عن سبل الشر. فإن عين الرقيب لا تغفل عنها في حال من الأحوال. انتهى.
ودافِقٍ من الدفق. وهو صبّ فيه دفع. وقد قيل إنه بمعنى مدفوق، وإن اسم الفاعل بمعنى المفعول. كما أن المفعول يكون بمعنى الفاعل ك حِجاباً مَسْتُوراً [الإسراء: ٤٥].
450
والصحيح أنه بمعنى النسبة ك (لابن وتامر) أي ذي دفق، وهو صادق على الفاعل والمفعول. أو هو مجاز في الإسناد. فأسند إلى الماء ما لصاحبه مبالغة. أو هو استعارة مكنية أو مصرحة بجعله دافقا. لأنه لتتابع قطراته كأنه يدفق بعضه بعضا أي يدفعه. أو دافق بمعنى منصب من غير تأويل، كما نقل عن الليث. أقوال.
وقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أي من بين صلب الرجل ونحر المرأة.
قال الإمام: الصلب هو كل عظم من الظهر فيه فقار. ويعبر عنه في كلام العامة بسلسلة الظهر. وقد يطلق بمعنى الظهر نفسه إطلاقا لاسم الجزء على الكل و (الترائب) موضع القلادة من الصدر، وكنى بالصلب عن الرجل وبالترائب عن المرأة. أي أن ذلك الماء الدافق، إنما يكون مادة لخلق الإنسان، إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع في المحل الذي جرت عادة الله أن يخلقه فيه، وهو رحم المرأة.
فقوله (يخرج) إلخ وصف لا بد من ذكره لبيان أن الإنسان إنما خلق من الماء الدافق المستوفي شرائط صحة الخلق منه.
وقال بعض علماء الطب: الترائب جمع تريبة وهي عظام الصدر في الذكر والأنثى. ويغلب استعمالها في موضع القلادة من الأنثى، ومنها قول امرئ القيس:
ترائبها مصقولة كالسّجنجل
قال: ومعنى الآية أن المني باعتبار أصله وهو الدم، يخرج من شيء ممتد بين الصلب- أي فقرات الظهر في الرجل- والترائب أي عظام صدره. وذلك الشيء الممتد بينهما هو الأبهر (الأورطي) وهو أكبر شريان في الجسم يخرج من القلب خلف الترائب ويمتد إلى آخر الصلب تقريبا. ومنه تخرج عدة شرايين عظيمة. ومنها شريانان طويلان يخرجان منه بعد شرياني الكليتين، وينزلان إلى أسفل البطن حتى يصلا إلى الخصيتين، فيغذيانهما. ومن دمهما يتكون المنيّ في الخصيتين يسميان شرياني الخصيتين، أو الشريانين المنويين فلذا قال تعالى عن المني يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ لأنه يخرج من مكان بينهما وهو الأورطي أو الأبهر. وهذه الآية على هذا التفسير، تعتبر من معجزات القرآن العلمية وهذا القول أوجه وأدق من التفسير الأول. انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّهُ أي الحافظ سبحانه، المتقدم في قوله: لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ أو الخالق المفهوم من خلق عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ أي رجع الإنسان وإعادته في
451
النشأة الثانية، لقادر. كما قدر على إبدائه في النشأة الأولى يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ أي تظهر وتعرف خفيات الضمائر.
قال الزمخشري: السرائر ما أسرّ في القلوب من العقائد والنيات وغيرها، وما أخفى من الأعمال. وبلاؤها تعرّفها وتصفّحها، والتمييز بين ما طاب منها وما خبث فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ أي من قوة يمتنع بها من عذاب الله وأليم نكاله. ولا ناصر ينصره فيستنقذه ممن ناله بمكروه. يعني أنه فقد ما كان يعهده في الدنيا إذ يرجع إلى قوة بنفسه أو بعشيرته، يمتنع منهم ممن أراده بسوء. وناصر حليف ينصره على من ظلمه واضطهده. ولم يبق له إلا انتظار الجزاء على ما قدم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الطارق (٨٦) : الآيات ١١ الى ١٧]
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥)
وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧)
وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ أي المطر. يسمى رجعا لأنه تعالى يرجعه وقتا فوقتا إلى العباد، ولولاه لهلكوا وهلكت مواشيهم وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ أي النبات، لأنه يصدع الأرض أي يشقها. أي الانشقاق بالنبات. فهو علم أو مصدر إِنَّهُ أي القرآن الكريم لَقَوْلٌ فَصْلٌ أي حق فرق بين الحق والباطل وَما هُوَ بِالْهَزْلِ أي بالكلام الذي ليس له أصل في الفطرة ولا معنى في القلب، بل هو جدّ الجدّ إِنَّهُمْ أي المكذبين به، الجاحدين لحقه يَكِيدُونَ كَيْداً أي يمكرون مكرا لإبطال أمر الله وإطفاء نوره وَأَكِيدُ كَيْداً قال ابن جرير: أي وأمكر مكرا. ومكره جل ثناؤه بهم إملاؤه إياهم على معصيتهم وكفرهم به. يعني أن الكيد هنا استعارة تبعية أو تمثيلية. بتشبيه إمهال الله لهم ليستدرجهم، بالكيد وبهذا يظهر تفريع أمره بإمهالهم في قوله: فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أي لا تستعجل عقابهم. وقوله: أَمْهِلْهُمْ بمعنى (مهلهم) فهو بدل منه للتأكيد. أو تكرير بلفظ آخر للتأكيد. وقوله:
رُوَيْداً أي قليلا.
قال الإمام: وفي ذلك وعيد شديد لهم بأن ما يصيبهم قريب، سواء كان في الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت. ثم فيه الوعد للنبيّ ﷺ بل لكل داع إلى الحق الذي جاء به، أنه سيبلغ من النجاح ما يستحقه عمله، وأن المناوئين له هم الخاسرون.
452

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الأعلى
مكية وآيها تسع عشرة: قال ابن كثير: والدليل على أنها مكية ما رواه البخاري «١» عن البراء بن عازب قال: أول من قدم علينا من أصحاب النبيّ ﷺ مصعب بن عمير وابن أم مكتوم فجعلا يقرئاننا القرآن. ثم جاء عمار وبلال وسعد.
ثم جاء عمر بن الخطاب في عشرين. ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم. فما رأيت أهل المدينة فرحوا بشيء فرحهم به. حتى رأيت الولائد والصبيان يقولون هذا رسول الله ﷺ قد جاء. فما جاء حتى قرأت سبح اسم ربك الأعلى، في سور مثلها.
وعن علي رضي الله عنه قال: كان رسول الله ﷺ يحب هذه السورة سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى تفرد به الإمام أحمد «٢»
وثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ قال لمعاذ: هلا صليت بسبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والليل إذا يغشى.
وعن النعمان بن بشير «٣»
أن النبي ﷺ كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية. وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما. رواه مسلم وأهل السنن.
وعن عائشة أن النبي ﷺ كان يقرأ في الوتر بسبح اسم ربك الأعلى، وقل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد والمعوذتين.
(١) أخرجه في: التفسير، سورة الأعلى، ١- حدثنا عبدان، حديث رقم ١٨٣١.
(٢) أخرجه في مسنده ١/ ٩٦.
(٣) أخرجه مسلم في: الجمعة، حديث رقم ٦٢.
453
Icon