تفسير سورة الأعلى

التفسير الشامل
تفسير سورة سورة الأعلى من كتاب التفسير الشامل .
لمؤلفه أمير عبد العزيز . المتوفي سنة 2005 هـ
هذه السورة مكية، وآياتها تسع عشرة.

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ سبح اسم ربك الأعلى ١ الذي خلق فسوّى ٢ والذي قدّر فهدى ٣ والذي أخرج المرعى ٤ فجعله غثاء أحوى ٥ سنقرئك فلا تنسى ٦ إلا ما شاء الله إنه يعلم الجهر وما يخفى ٧ ونيسّرك لليسرى ٨ فذكّر إن نّفعت الذكرى ٩ سيذّكّر من يخشى ١٠ ويتجنّبها الأشقى ١١ الذي يصلى النار الكبرى ١٢ ثم لا يموت فيها ولا يحيى ﴾.
قوله :﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ أي عظّم ربك الأعلى. وقيل : نزّه ربك عن السوء والنقص وعما لا يليق بجلاله العظيم. والأعلى من العلو وهو القهر والاقتدار. وقد روي عن الإمام أحمد عن عقبة بن عامر الجهني : لما نزلت ﴿ فسبح باسم ربك العظيم ﴾ قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اجعلوها في ركوعكم " فلما نزلت ﴿ سبح اسم ربك الأعلى ﴾ قال : " اجعلوها في سجودكم ".
قوله :﴿ الذي خلق فسوّى ﴾ سوّى من التسوية وهي التعديل. يعني خلق الأشياء فسوى خلقها وعدّلها. أو خلق كل شيء فسوى خلقه تسوية فلم يأت به متفاوتا غير ملتئم ولكن أتى به على إحكام واتساق يدل على أن ذلك صادر عن عالم مقتدر حكيم.
قوله :﴿ والذي قدر فهدى ﴾ أي قدر لكل حيوان عاقل أو غير عاقل ما يصلحه فهداه إليه وعرّفه وجه الانتفاع به. فهداية الله للإنسان إلى مصالحه وحوائجه من الأغذية والأدوية وغير ذلك أمر لا يحصى ولا يحصر وإلهامه البهائم والطيور وهوام الأرض شيء لا يوصف.
قوله :﴿ والذي أخرج المرعى ﴾ أخرج من الأرض مرعى الأنعام من صنوف النبات والحشيش والكلأ ما بين أصفر وأخضر وأحمر وأبيض.
قوله :﴿ فجعله غثاء أحوى ﴾ غثاء، منصوب على أنه مفعول ثان، لأن جعله ههنا بمعنى صيّره. أو على الحال إن كان جعله بمعنى خلقه١ والمعنى أن الله جعله بعد خضرته وغضاضته ورفيفه ﴿ غثاء ﴾ أي هشيما جافا يابسا ﴿ أحوى ﴾ متغيرا إلى الحوّة وهي السواد من بعد البياض أو الخضرة من شدة اليبس. وقيل : الغثاء، معناه اليبس. والأحوى، المسودّ من القدم٢.
١ البيان لابن الأنباري جـ ٢ ص ٥٠٨..
٢ مختار الصحاح ص ١٦٤..
قوله :﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ وهذا إخبار من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيعلمه القرآن ويحفظه إياه فلا ينساه، إلا ما شاء الله أن ينسيه إياه فلا يذكره. وقيل : المستثنى ما نسخه الله من القرآن فرفع حكمه وتلاوته.
قوله :﴿ إلا ما شاء الله ﴾ إلا ما شاء الله أن ينسيه إياه فلا يذكره. وقيل : المستثنى ما نسخه الله من القرآن فرفع حكمه وتلاوته.
قوله :﴿ إنه يعلم الجهر وما يخفى ﴾ الله يعلم كل أعمالك يا محمد، سرها وعلانيتها. ويعلم منها ما ظهر وما بطن. أو يعلم ما أسررتم وما أعلنتم من أقوالكم وأفعالكم. وقيل : يعلم أنك تجهر بالقراءة مع قراءة جبريل خشية التفلّت. والله يعلم جهرك معه وما في نفسك مما يحملك على الجهر. فلا تفعل فإني كافيك ما تخافه.
قوله :﴿ ونيسّرك لليسرى ﴾ معطوف على قوله :﴿ سنقرئك فلا تنسى ﴾ والمعنى : نيسرك لعمل الخير. وقيل : نيسرك للجنة. وقيل : نيسرك أو نوفقك للشريعة الكريمة السمحة التي هي أيسر الشرائع وأكملها وأتمها وأسهلها للعمل والأخذ. وقيل : نوفقك للطريقة التي هي أسهل وأيسر لحفظ الوحي.
قوله :﴿ فذكّر إن نفعت الذكرى ﴾ أي فكر الناس يا محمد وعظهم بالقرآن وحذرهم عقاب ربهم ﴿ إن نفعت الذكرى ﴾ أي ذكرهم إن نفعت الذكرى أو لم تنفع. وقيل : المراد بالاشتراط الظاهر ههنا، الذم لهؤلاء الظالمين المعاندين، وذلك على جه الإخبار عن حقيقة حالهم، والاستبعاد لتأثير الذكرى فيهم. وقيل : إن بمعنى ما، وليس الشرطية. أي فذكر ما نفعت الذكرى.
قوله :﴿ سيذّكّر من يخشى ﴾ سيتعظ وينتفع بالموعظة من يخشى الله ويخشى الدار الآخرة وما فيها من سوء الحساب فينظر ويتفكر ويتدبر حتى يهتدي ويستقيم. لكن هؤلاء العتاة الجانحين للضلال والعصيان فليسوا متعظين ولا متدبرين ولا خاشعين. وهو قوله :﴿ ويتجنّبها الأشقى ﴾.
قوله :﴿ ويتجنّبها الأشقى ﴾ أي يتجنب الذكرى ﴿ الأشقى ﴾ وهو الموغل في الكفر والكيد والتربص للإسلام والمسلمين.
قوله :﴿ الذي يصلى النار الكبرى ﴾ أي يرد النار الكبرى وهي نار جهنم. أو هي النار السفلى من أطباق النار.
قوله :﴿ ثم لا يموت فيها ولا يحيى ﴾ لا يموت الشقي في النار فيستريح من العذاب. ولا يحيى حياة آمنة مريحة تنفعه. بل إنه خالد في النار يجد فيها على الدوام سوء الهوان ومس الحريق١.
١ الكشاف جـ ٤ ص ٢٤٣ وتفسير الطبري جـ ٢٠ ص ٩٨، ٩٩..
قوله تعالى :﴿ قد أفلح من تزكّى ١٤ وذكر اسم ربه فصلّى ١٥ بل تؤثرون الحياة الدنيا ١٦ والآخرة خير وأبقى ١٧ إن هذا لفي الصحف الأولى ١٨ صحف إبراهيم وموسى ﴾.
قوله :﴿ قد أفلح من تزكّى ﴾ يعني فاز وأدرك مبتغاه من تطهر من دنس الشرك والمعاصي. وقيل : المراد بذلك صدقة الفطر فإنها طهرة لمن يؤذيها، إذ يتطهر بها من الذنوب. وقيل : المراد زكاة الأموال كلها. وقيل : المراد زكاة الأعمال وليس الأموال. والمعنى : طهّر أعماله من الرياء والتفريط.
قوله :﴿ وذّكر اسم ربه فصلّى ﴾ أي خشي الله بقلبه فخشع وخشعت جوارحه وذكر المعاد والوقوف بين يديه فعبده واتقاه وأذعن لجلاله بالخوف والامتثال ﴿ فصلى ﴾ أي أدى الصلاة المفروضة، وهي الصلوات الخمس. وهو قول ابن عباس. وقيل : المراد بذلك صلاة العيد.
قوله :﴿ بل تؤثرون الحياة الدنيا ﴾ يعني بل تفضّلون الاستكثار من الدنيا بطيباتها وشهواتها ومتاعها على الآخرة وهي الباقية الدائمة. وقد روي عن ابن مسعود أنه قرأ هذه الآية فقال : أتدرون لم آثرنا الحياة الدنيا على الآخرة ؟ لأن الدنيا حضرت وعجلت لنا طيباتها وطعامها وشرابها ولذاتها وبهجتها، والآخرة غيبت عنا فأخذنا العاجل وتركنا الآجل.
قوله :﴿ والآخرة خير وأبقى ﴾ الآخرة أنفع وأدوم. فهي خير من الدنيا الفانية والزائلة. وما الدنيا في الآخرة إلا متاع هين داثر. أو سراب لامع خادع ما يلبث أن ينقشع ويتبدد. وبذلك فإن الدنيا دار ممرّ ما ينبغي لذي عقل أن يؤثرها على الآخرة أو يغلو في حبها والاستكثار منها. وفي ذلك روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له ".
قوله :﴿ إن هذا لفي الصحف الأولى ﴾ الإشارة عائدة إلى الآيات في هذه السورة. وقيل : إلى قوله :﴿ والآخرة خير وأبقى ﴾ وقيل : إلى قوله :﴿ قد أفلح من تزكّى ﴾ حتى آخر قوله :﴿ والآخرة خير وأبقى ﴾ يعني : إن معنى هذا الكلام وارد في الصحف الأولى وهي ﴿ صحف إبراهيم وموسى ﴾.
قوله :﴿ صحف إبراهيم وموسى ﴾ أي الكتب المنزلة عليهما. وروي عن أبي ذر قال : قلت : يا رسول الله، فما كانت صحف إبراهيم ؟ قال : " كانت أمثالا كلها : أيها الملك المتسلط المبتلى المغرور. إني لم أبعثك لتجمع الدنيا بعضها على بعض. ولكن بعثتك لترد عني دعوة المظلوم فإني لا أردها ولو كانت من فم كافر " قلت : يا رسول الله، فما كانت صحف موسى ؟ قال :{ " كانت عبرا كلها : عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح، وعجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب، وعجبت لمن رأى الدنيا وتقلّبها بأهلها كيف يطمئن إليها، وعجبت لمن أيقن بالحساب غدا ثم هو لا يعمل " ١.
١ تفسير ابن كثير جـ ٤ ص ٥٠١ وتفسير الطبري جـ٣٠ ص ١٠٠ وتفسير القرطبي جـ ٣٠ ص ٢١ –٢٥..
Icon