ﰡ
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (١) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢)قلت: «سورة» : خبر، أي: هذه سورة، وأشير لها، مع عدم تقدم ذكره لأنها في حكم الحاضر المشاهدَ. وقرئ بالنصب على الاشتغال، وجملة: (أنزلناها)، وما عطف عليه: صفة لسورة، مؤكد لما أفاده التنكير من الفخامة.
و (الزانية) : مبتدأ، والخبر: (فاجلدوا)، ودخلت الفاء لتضمن المبتدأ معنى الشرط إذ اللام موصولة، أي: والتي زنت والذي زنى فاجلدوا، هذا مذهب المبرد وغيره، والاختيار عند سيبويه: الرفع على الابتداء، والخبر: محذوف، أي: فيما فرض عليكم، أو: مما يُتلى عليكم: حكم الزانية والزاني، وقدَّم الزانية لأنها الأصل في الفعل، والداعية فيها أوفر، ولولا تمكينها منه لم يقع. وقيل: لمّا كان وجود الزنى في النساء أكثر، بخلاف السرقة، ففي الرجال أكثر، قَدَّم الحق تعالى الأكثر فيهما.
يقول الحق جلّ جلاله: هذه سُورَةٌ، وهي الجامعة لآيات، بفاتحة لها وخاتمة، مشتقة من سور البلد.
من نعت تلك السورة: أَنْزَلْناها عليك، وَفَرَضْناها أي: فرضنا الأحكام التي فيها. وأصل الفرض: القطع، أي: جعلناها مقطوعاً بها قطعَ إيجاب. وقرأ المكي وأبو عمرو: بالتشديد للمبالغة في الإيجاب وتوكيده، أو: لأن فيها فرائض شتى، أو: لكثرة المفروض عليهم من السلف ومن بعدهم.
وَأَنْزَلْنا فِيها أي: في تضاعيفها آياتٍ بَيِّناتٍ أي: دلائل واضحات لوضوح دلالتها على أحكامها لا على معانيها فإنها كسائر السور. وتكرير (أنزلنا)، مع أن جميع الآيات عين السورة لاستقلالها بعنوان رائق دَاع إلى تخصيص إنزالها بالذكر إبانة لخطرها، ورفعاً لقدرها، كقوله تعالى: وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ «١»، بعد قوله: نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: لكي تتعظوا فتعملوا بموجبها عند وقوع الحوادث الداعية إلى إجراء أحكامها. وفيه إيذان بأن حقها أن تكون على بالٍ منهم، بحيث متى مست الحاجة إليها استحضروها.
وشرط الإحصان: العقل، والحرية، والإسلام، والبلوغ، والتزوج بنكاح صحيح، ودخول معتبر. وفي التعبير بالجلد، دون الضرب إشارة إلى أنه لا يبالغ إلى أن يصلَ أثرُ الضرب إلى اللحم، ولكن يخفف حتى يكون حد ألمه الجِلد الظاهر. والخطاب للأئمة لأن إقامة الحدود من الدِّين، وهو على الكل، إلا أنه لا يمكن الاجتماع، فيقوم الإمام مقامهم، وزاد مالك والشافعي مع الجلد: تغريب عام، أخذاً بالحديث الصحيح «١». وقال ابو حنيفة: إنه منسوخ بالآية.
وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ أي: رحمة ورقة. وفيها لغات: السكونُ، والفتح مع القصر والمد، كالنشأة والنشاءة، وقيل: الرأفة في دفع المكروه، والرحمة في إيصال المحبوب. فِي دِينِ اللَّهِ أي: فى طاعته وإقامة حدوده، والمعنى: أن الواجب على المؤمنين أن يتصلبوا في دين الله، ولا يأخذهم اللين حتى يتركوا حدود الله.
إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، هو من باب التهييج، وإلهاب الغضب لله، ولدينه، فإن الإيمان يقتضي الجد في طاعته، والاجتهاد في إجراء أحكامه. وذكر اليوم الآخر لتذكير ما فيه العقاب في مقابلة المسامحة.
وجواب الشرط: مضمر، أي: إن كنتم تؤمنون بالله فاجلدوا ولا تعطلوا الحد.
قيل لأبي مجلز في هذه الآية: والله إنا لنرحمهم أن يُجلَدَ الرجل أو تُقطع يده، فقال: إنما ذلك في السلطان، ليس له أن يدعهم رحمة لهم. وجَلَدَ ابن عمر جارية، فقال للجلاد: ظهرَها ورجليها وأسفلها، وخفّف، فقيل له: أين قوله: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ.. ؟ فقال: أأقتلها؟، إنَّ الله أمرني أن أضربها وأأدبها، ولم يأمرني أن أقتلها. هـ «٢».
ويجرد للجلد إلا ما يستر العورة.
وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما أي: وليحضر موضع حدِّهما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ زيادة في التنكيل، فإن التفضيح قد ينكل أكثر من التعذيب. قال بعض العلماء: ينبغي أن يقام بين يدي الحكام، ولا يقيمه إلا فضلاء الناس وخيارهم لأنه قيام بقاعدة شرعية، وقُربة تعبدية، يجب المحافظة على فعلها، وقدرها، ومحلها، وحالها، بحيث
(٢) أخرجه الطبري (١٨/ ٦٧).
وتسمية الحدّ عذاباً دليل على أنه عقوبة وكفارة. و «الطائفة» : فرقة، يمكن أن تكون حافة حول الشيء، من الطوْف، وهو الإدارة، وأقلها: ثلاثة، وقيل: أربعة إلى أربعين. وعن الحسن: عشرة، والمراد: جمع يحصل به التشهير. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التقوى أساس الطريق، وبها يقع السير إلى عين التحقيق. فمن لا تقوى له لا طريق له، ومن لا طريق له لا سَيْر له، ومن لا سير له لا وصول له. وأعظم ما يتَقي العبدُ شهوةَ الفروج، فهي أعظم الفتن وأقبح المحن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: «ما تَرَكْتُ بَعْدِي أَضَرُّ عَلَى الرِّجَالِ مِنَ النِّسَاءِ» «١»، أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وعن حذيفة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا معشر الناس اتقوا الزنا، فإن فيه ستَّ خصال: ثلاثاً في الدنيا، وثلاثاً في الآخرة: فأما اللاتي في الدنيا فيُذهب البهاء، ويورثُ الفقرَ، وينْقُصُ العمرَ، وأما اللاتي في الآخرة فيوجب السخطَة وسوءَ الحساب والخلود فى النار» «٢». والمراد بنقص العمر: قلة بركته، وبالخلود: طول المكث. وفي حديث آخر: «إنَّ أهل النار ليتأذون من نتن فروج الزناة والزواني» «٣»، وعن أنس رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أعمال أمتي تُعرض عليَّ في كل جمعة مرتين، فاشتد غضب الله على الزناة» «٤». وقال وهب بن منبه: (مكتوب في التوراة: الزاني لا يموت حتى يفتقر، والقواد لا يموت حتى يعمى).
وفي بعض الأخبار القدسية: «يقول الله عزّ وجل: أنا اللهُ لا إِله إلاّ أنا، خلقت مكة بيدي، أُغني الحاج ولو بعد حين، وأُفقر الزاني ولو بعد حين، هذا وباله في الدنيا والآخرة، وأما في عالم البرزخ فتُجعل أرواحهم فى تنور من نار، فإذا اشتعلت عَلَوْا مع النار، وإذا خمدت سقطوا إلى أسفلها، هكذا حتى تقوم الساعة، كما فى حديث
(٢) عزاه فى كنز العمال (٥/ ٣١٩ ح ١٣٠٢٢) للخرائطى فى مساوئ الأخلاق. وأبى نعيم فى الحلية (٤/ ١١١)، والبيهقي فى شعب الإيمان (ح ٥٤٧٥)، عن حذيفة. والحديث ضعفه البيهقي.
(٣) أخرجه بنحوه البزار (كشف الأستار ح ١٥٤٨) عن بريدة رضي الله عنه، وضعّفه الهيثمي فى المجمع (٦/ ٢٥٥).
(٤) أخرجه أبو نعيم فى الحلية (٦/ ١٧٩) عن أنس رضي الله عنه.
وقوله تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ: قال في الإحياء: في الحديث: «خيار أمتي أَحِدَّاؤُهَا» «٢» يعني: في الدين قال تعالى: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ، فالغيرة على الحُرَمِ، والغضب لله وعلى النفس، بكفها عن شهوتها وهواها، محمود، وفَقْدُ ذلك: مذمومٌ. هـ. وبالله التوفيق.
ثم نهى عن نكاح الزواني، فقال:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣]
الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (٣)
يقول الحق جلّ جلاله: من شأن الزَّانِي الخبيث: أنه لا يرغب إلا في زانية خبيثة من شكله، أو في مشركة، والخبيثة المسافحة لا يرغب فيها إلا من هو من شكلها، من الفسقة أو المشركين. وهذا حُكْمٌ جار على الغالب المعتاد، جيء به لزجر المؤمنين عن نكاح الزواني، بعد زجرهم عن الزنا بهن إذ الزنا عديل الشرك في القبح، كما أن الإيمان قرين العفاف والتحصن، وهو نظير قوله: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ «٣».
روي أن المهاجرين لَمَّا قدموا المدينة، وكان فيهم من ليس له مال ولا أهل، وبالمدينة نساء بغايا مُسافِحَات، يُكرين أنفسهن، وهُنَّ أخْصَبُ أهل المدينة، رغب بعضُ الفقراء في نكاحهن لحسنهن، ولينفقوا عليهم من كَسْبِهِنّ، فاستأذنوا النبي ﷺ فنزلت «٤»، فنفرهم الله تعالى عنه، وبيَّن أنه من أفعال الزناة وخصائص المشركين، فلا تحوموا حوله لئلا تنتظموا في سلكهم وتَتَّسِمُوا بسمتهم.
قيل: كان نكاح الزانية محرماً في أول الإسلام، ثم نسخ بقوله: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «٥». وقيل: المراد بالنكاح: الوطء، أي: الزاني لا يزني إلا بزانية مثله، وهو بعيد، أو باطل.
(٢) أخرجه الطبراني فى الأوسط (ح ٥٧٩٣) والبيهقي فى الشعب (ح ٨٣٠١) من حديث سيدنا علىّ، بسند ضعيف، وزادا: (والذين إذا غضبوا رجعوا).. [.....]
(٣) الآية ٢٦ من سورة النور.
(٤) عزاه السيوطي فى الدر (٥/ ٣٨) لابن أبى حاتم، عن مقاتل.
(٥) من الآية ٣٢ من سورة النور.
ومعنى الجملة الأولى: وصفُ الزاني بكونه غير راغب في العفائف، ولكن في الفواجر. ومعنى الثانية: وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفاء، ولكن الزناة، وهما معنيان مختلفان. وقدّم الزاني هنا، بخلاف ما تقدم في الجلد لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ماجنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية، كما تقدم، وأما هنا فمسوقة لذكر النكاح، والرجل اصل فيه.
ثم ذكر الحُكْم، فقال: وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي: نكاح الزواني بقصد التكسب، أو: للجمال لِمَا في ذلك من التشبه بالفساق وحضور مواضع التهمة، والتعرض لسوء المقالة والغيبة والطعن في النسب، وغير ذلك من المفاسد التي لا تكاد تليق بأحد من الأداني والأراذل، فكيف بالمؤمنين والأفاضل؟، ولذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم، مبالغة في الزجر، وقيل: النفي بمعنى النهي، وقرئ به. والتحريم: إما على حقيقته، ثم نسخ بقوله:
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ... «٢» إلخ، أو: مخصوص بسبب النزول. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الصحبة لها تأثير في الأصل والفرع، فيحصل الشرف أو السقوط بصحبة أهل الشرف أو الأراذل، وفي ذلك يقول القائل:
عَلَيْكَ بأَرْبَابِ الصُّدُورِ، فَمَنْ غَدَا | مُضَافاً لأَرْبَابِ الصُّدُورِ تَصَدَّرَا |
وَإِيَّاكَ أَنْ تَرْضَى بِصُحْبَةِ سَاقِطٍ | فَتَنحط قَدْراً مِنْ عُلاَكَ وَتَحْقُرَا |
والثاني: قوله: «الحرام لا يُحرم الحلال، أخرجه ابن ماجه فى (النكاح، باب لا يحرم الحرام حلال، ١/ ٦٤٩ ح ٢٠١٥) والدارقطني (٧/ ١٦٩) عن ابن عمر رضي الله عنه.
(٢) الآية ٣٢ من سورة النور.
وفي الحديث: «إياكم وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ، قيل: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: المرأة الحسناء في المنبت السوء» «٢». قال ابن السكيت: شبهها بالبقلة الخضراء في دِمْنَةِ أرض خبيثة لأن الأصل الخبيث يحن إلى أصله، فتجيء أولادها لأصلها فى الغالب. فيجب على اللبيب- إن ساعفته الأقدار- أن يختار لزراعته الأرض الطيبة، وهي الأصل الطيب، لتكون الفروع طيبة. وفي الحديث: «تخيَّرُوا لنطفكم ولا تضعوها إلاّ في الأَكْفَاءِ» «٣» هـ وبالله التوفيق.
ثم ذكر حدّ القذف، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤ الى ٥]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
قلت: «ثمانين» : مفعول مطلق، و «جلَدة» : تمييز. «إلا الذين تابوا» : إما: استثناء من ضمير «لهم»، فمحله:
الجر، او: من قوله: «الفاسقون»، فمحله: النصب لأنه بعد مُوجَبٍ تام.
يقول الحق جلّ جلاله، في بيان شأن العفائف، بعد بيان شأن الزواني: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أي: يقذفون بالزنا الْمُحْصَناتِ الحرائر العفائف المسلمات المكلفات، بأن يقول: يا زانية، أو: يا مُحبة، ولا فرق بين التصريح والتعريض، ولا بين النساء والرجال، قاذفاً أو مقذوفاً. والتعبير بالرمي، المنبئ عن صلابة الآلة، وإيلام المرمى، وبعده عن الرامي إيذان بشدة تأثيره فيهن، وكونه رجماً بالغيب. والتعبير بالإحصان يدل على أن رميهن إنما كان بالزنا، لا غير.
(٢) أخرجه الشهاب القضاعي، فى مسنده (٩٥٧)، والديلمي (الفردوس ح ١٥٣٧) عن أبي سعيد الخدري. قال العجلونى، فى كشف الخفاء (١/ ٢٧٢) : قال ابن عدى: تفرد به الواقدي، وذكره أبو عبيد فى الغريب. ورواه الدار قطنى فى الأفراد، وقال: لا يصح من وجه.
(٣) أخرجه بلفظ: «تخيروا لنطفكم وانكحوا الأكفاء» : ابن ماجة فى (النكاح، باب الأكفاء، ١/ ٦٣٣، ح ١٩٦٨)، والبيهقي فى السنن (٧/ ١٣٣)، والدارقطني فى السنن (٢/ ٢٩٨)، من حديث السيدة عائشة رضى الله عنها. وأخرجه بلفظ المفسر: ابن عدى فى الكامل (٢/ ٦١٤)، والبغدادي فى تاريخ بغداد (١/ ٢٦٤)، وانظر كشف الخفا (١/ ٣٠٢).
وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ بعد ذلك شَهادَةً أَبَداً زجراً لهم لأن رد شهادتهم مؤلم لقلبهم، كما أن الجلد مؤلم لبدنهم. وقد آذى المقذوف بلسانه، فعوقب بإهدار شهادته، جزاء وفاقاً. والمعنى: ولا تقبلوا منهم شهادة من الشهادات، حال كونها حاصلة لهم عند الرمي، أبداً، مدة حياتهم، فالرد من تتمه الحدّ، كأنه قيل: فاجلدوهم وردوا شهادتهم، أي: فاجمعوا لهم بين الجلد والرد. وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ، كلام مستأنف غير داخل في جزاء الشرط لأنه حكاية حال الرامي عند الله تعالى بعد انقضاء الجزاء، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلتهم في الشر والفساد، أي: أولئك هم المحكوم عليهم بالفسق، والخروج عن الطاعة، والتجاوز عن الحد، فإنهم المستحقون لإطلاق اسم الفاسق عليهم، دون غيرهم.
إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ القذف، وَأَصْلَحُوا أحوالهم، فهو استثناء من الفاسقين، بدليل قوله:
فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي: يغفر ذنوبهم ويرحمهم، ولا ينظمهم في سلك الفاسقين. فعلى هذا لا تُقبل شهادته مطلقاً فيما حدّ فيه وفي غيره لأن رد شهادته وُصلت بالأبد، وأما توبته فإنما تنفعه فيما بينه وبين الله، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، وهو قول ابن عباس وشريح والنخعي. وقيل: الاستثناء راجع لقوله: وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً، فإذا تاب وأصلح قبلت شهادته مطلقاً لأنه زال عنه اسم الفسق، والأبد عبارة عن مدة كونه فاسقاً، فينتهي بالتوبة، وبه قال الشافعي وأصحابه، وهو قول الشعبي ومسروق وابن جبير وعطاء وسليمان بن يسار. وفصل مالك، فقال:
لا تجوز فيما حدّ فيه، ولو تاب، وتجوز فيما سواه، وكأنه جمع بين القولين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الغض عن مساوئ الناس من أفضل القرب، وهو من شيم ذوي الألباب، وبه السلامة من الهلاك والعطَب، والتعرض لمساوئهم من أعظم الذنوب، وأقبح العيوب، ولله در القائل:
لِسَانَكَ، لا تذكر به عورة امرئ... فعندك عَوْرَاتٌ ولِلنَّاس أَلسُنُ
وإنْ أبصرت عَيْنَاكَ عيباً فقل لها:... أيا عَيْنُ لا تنظري فللناس أعيُنُ
وعَاشِرْ بمَعْرُوفٍ وجَانِبْ مَنِ اعتَدى... وفارقْ ولكنْ بالتي هي أحْسَنُ «١»
فالمتوجه إلى الله لا يشتغل بغير مولاه، ولا يرى في المملكة سواه، يذكر الله على الأشياء، فتنقلب نوراً لحسن ظنه بالله، ويلتمس المعاذر لعباد الله لكمال حسن ظنه بهم. وبالله التوفيق.
ثم تكلم على من رمى زوجته، وبه يقع اللعان، ، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦ الى ١٠]
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٦) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٧) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (٨) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (١٠)
قلت: (إلا أنفسهم) : بدل من (شهداء)، أو صفة له، على أن (إلا) بمعنى غير. و (فشهادة) : مبتدأ، والخب محذوف، أي: واجبة، أو: تدرأ عنه العذاب، أو: خبر عن محذوف، أي: فالواجب شهادة أحدهم، و (أنَّ)، في الموضعين: مخففة، وَمَنْ شَدَّدَ فعلى الأصل. و (الخامسة) : مبتدأ، و (أنَّ غَضَبَ) : خبر، وقرأ حفص بالنصب، أي:
ويشهد الشهادة الخامسة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ أي: يقذفون زوجاتهم بالزنا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ أي: لم يكن لهم على تصديق قولهم من يشهد لهم به إِلَّا أَنْفُسُهُمْ، جُعِلوا من جملة الشهداء إيذاناً بعدم قبول قولهم بالمرة، فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أي: فالواجب شهادة أحدهم أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ يقول: أشهد بالله إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ فيما رماها به من الزنا. وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي: إنه لعنة الله عليه، أي:
يقول فيها: لعنة الله عليه إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ فيما رماها به. فإذا حلف درئ عنه العذاب، أي: دفع عنه الحد، وَإِنْ نَكَلَ: حدّ لقذفها.
«يُكْثِرْنَ اللعْنَ» «١»، فربما يجترئن على الإقدام، لكثرة جري اللعن على ألسنتهن، وسقوط وقعه عن قلوبهن، فذكر الغضب في جانبهن ليكون ردعاً لهن.
فإذا حلفا معاً فُرق بينهما بمجرد التلاعن، عند مالك والشافعي، على سبيل التأبيد، وقال أبو حنيفة: حتى يحكم القاضي بطلقة بائنة فتحل له بنكاح جديد إذا أكذب نفسه وتاب.
رُوي أن آية القذف المتقدمة لَمَّا نزلت قرأها النبي ﷺ على المنبر، فقام عاصم بن عدي الأنصاري، فقال:
جعلني الله فداءك، إن وجد رجل مع امرأته رجلاً، فأخبر بما رأى، جُلِدَ ثمانين، وسماه المسلمون فاسقاً، ولا تقبل شهادته أيضاً، فكيف لنا بالشهداء، ونحن إذا التمسنا الشهداء فرغ الرجلُ من حاجته، وإن ضربه بالسيف قُتل؟ اللهم افتح، وخرج فاستقبله هلالُ بن أمية- وقيل: عُوَيْمِر «٢» - فقال: ما وراءك؟ فقال: الشر، وجدت على امراتي خولة- وهي بنت عاصم- شريكَ بن سحماء- فقال عاصم: والله هذا سؤال ما أسرع ما ابتليت به، فرجعا، فأخبرا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلم خولة: فأنكرت، فنزلت هذه الآية، فتلاعنا في المسجد، وفرَّق بينهما، فقال صلى الله عليه وسلم: «ارقبوا الولد، إن جاءت به على نعت كذا وكذا، فما أراه إلا كذب عليها، وإن جاءت به على نعت كذا، فما أراه إلا صدق» فجاءت به على النعت المكروه.
قال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي: تفضله عليكم وَرَحْمَتُهُ ونعمته وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ، وجواب «لولا» : محذوف لتهويله، والإشعار بضيق العبارة عن حصره، كأنه قيل: لولا تفضله تعالى
(٢) كلاهما جاءت قصته فى الصحيح، وأخرج قصة عويمر البخاري، فى (التفسير، سورة النور، وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ.. ح ٤٧٤٥) ومسلم فى (أول كتاب اللعان، ٢/ ١١٢٩ ح ١٤٩٢) من حديث سهل بن سعد الساعدي.
وأخرج قصة هلال بن أمية: البخاري أيضا، فى: (التفسير- سورة النور، باب: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ ح ٤٧٤٧). عن ابن عباس. وأخرجها مسلم فى الموضع السابق ذكره (ح ١٤٩٦) عن أنس بن مالك.
وقد جمع العلماء بين هذه الأحاديث: بأن أول من وقع له ذلك هلال، وصادف مجىء عويمر أيضا، فنزلت فى شأنهما معا، فى وقت واحد. وقد جنح النووي وابن حجر الى هذا. انظر فتح الباري (٨/ ٣٠٤- ٣٠٥) وراجع أيضا: تفسير الطبري (١٨/ ٨٢- ٨٤) والبغوي (٦/ ١٢- ١٥).
الإشارة: النفس إذا تحقق فناؤها، وكمل تهذيبها، رجعت سراً من أسرار الله، فلا يحل رميها بنقص لأن سر الله تعالى منزه عن النقائص، فإن رماها بشيء فليبادر بالرجوع عنه. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال من رمى أزواج النبي- عليه الصلاة والسلام- فى قضية الإفك، فقال:
[سورة النور (٢٤) : آية ١١]
إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (١١)
قلت: (عُصْبة) : خبر «إن»، و (لا تحسبوه) : استئناف.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ وهو أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقيل: هو البهتان لا تشعر به حتى يفاجئك. والمراد: مَا أُفِك على الصديقة عائشة- رضي الله عنها-، وفي لفظ المجيء إشارة إلى أنهم أظهروه من عند أنفسهم من غير أن يكون له أصل.
وذلك أن رسول الله ﷺ كان إذا أراد سفراً أقْرَعَ بين نسائِه، فأيَّتهُنَّ خرجت قُرعتها استصحبها، قالت عائشة- رضى الله عنها-: فأقرعَ بيننا في غزوةٍ غزاها- قيل: هي غزوة بني المصطلق، وتُسمى أيضاً: غزوة المريسيع، وفيها أيضاً نزل التيم- فَخَرّج سهمي، فخرجتُ معه ﷺ بعد نزول آية الحجاب، فحُملت في هودج، فسرنا حتى إذا قفلنا ودنونا من المدينة نزلنا منزلاً، ثم نُودي بالرحيل، فقمتُ ومشيتُ حتى جاوزتُ الجيش، فلما قضيتُ شأني أقبلتُ إلى رَحْلي، فلمسْتُ صدري فإذا عِقْدٌ لي مِنْ جَزْعِ أظفارٍ «١» قد انقطعَ، فرجعتُ فالتمسته، فحبسني التماسه. وأقبل الرَّهطُ الذين كانوا يرحلوني، فاحتملوا هَوْدَجِي فرحلوه على بعيري، وهم يحسبون أنِّي فيه لخفتي، فلم يستنكروا خفة الهودج، وذهبوا بالبعير، ووجدت عقدى بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس فيه داعٍ ولا مجيب، فتيممت منزلي، وظننت أن سيفقدونني ويعودُون في طَلَبي، فبينما أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني، فنمت، وكان صَفْوَانُ بن المعطِّل قد عرّس «٢» من وراء الجيش، فأدْلَجَ فأصبح عند منزلي، فلما رآني
(٢) التعريس: نزول المسافر آخر الليل نزلة للنوم والاستراحة.. انظر النهاية (عرس ٣/ ٢٠٦). [.....]
وقوله تعالى: عُصْبَةٌ مِنْكُمْ أي: جماعة من جلدتكم، والعصبة: من العشرة إلى الأربعين، وكذا العصابة، يقال: اعصوصبَوا: اجتمعوا. وهم عبد الله بن أبي رأس المنافقين، وزيد بن رفاعة، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، ومن ساعدهم. واختلف فى حسان بن ثابت، فمن قال: كان منهم، أنشد البيت المروي في شأنهم ممن جلدوا الحد:
لَقَدْ ذَاقَ حَسَّانُ الذي هُو أَهْلُهُ | وحمنة إذا قالا هجَيْراً، وِمسْطَحُ |
حصان رزان ماتزن بِرِيبَةٍ | وتُصْبحُ غَرْثَى من لُحُوم الْغَوافِلِ «٢» |
فَإنْ كان ما بُلِّغْتَ عَنِّي قُلْتُه | فَلاَ رَفَعَتْ سَوْطِي إليَّ أَنامِلي |
(٢) الحصان: العفيفة، والرزان: الرزينة الثابتة التي لا يستخفها الطيش. وتزن: ترمى وتتهم. وغرثى: جائعة، والمعنى: لا تغتاب النساء. والغوافل: جمع غافلة، وهى التي غفلت عن الشر. وانظر: ديوان حسان (١٩٠- ١٩١) والبحر المحيط (٦/ ٤٠١).
ثم قال تعالى: لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، والخطاب للرسول- عليه الصلاة والسلام-، وأبي بكر، وعائشة، وصفوان تسلية لهم من أول الأمر، بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لاكتسابكم به الثواب العظيم، وظهور كرامتكم على الله عزّ وجل بإنزال القرآن الذي يُتلى إلى يوم الدين في نزاهة ساحتكم وتعظيم شأنكم، وتشديد الوعيد فيمن تكلم فيكم، والثناء على من ظن خيراً بكم، مع ما فيه من صدق الرُّجْعَى إلى الله، والافتقار إليه، والإياس مما سواه.
ثم ذكر وبال مَن وقع فيها بقوله: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أي: من أولئك العصبة مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ أي: له من الجزاء بقدر ما خاض فيه، وكان بعضهم ضحك، وبعضهم تكلم، وبعضهم سكت. وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ أي: معظمه وجُله مِنْهُمْ أي: من العصبة، وهو عبد الله بن أُبَيّ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة، إن كان كافراً، كابن أُبّي، وفي الدنيا إن كان مؤمناً، وهو الحد وإبطال شهادتهم وتكذيبهم. وقد رُوي أن مسطح كُف بصره، وكذلك حسان، إن ثبت عنه الخوض فيه، والله تعالى أعلم.
الإشارة: كلام الناس في أهل الخصوصية مَقَاذِفُ لسير سفينتهم، ورياح لها، فكلما قوي كلامُ الناس في الولي قَوِيَ سَيْرُهُ إلى حضرة ربه، حتى تمنى بعضهم أن يكون غابة والناس فيه حَطاَّبَة. وفي الحِكَم: «إنما أجرى الأذى عليكم كي لا تكون ساكناً إليهم، أراد أن يُزْعِجَكَ عن كل شيء حتى لا يَشْغَلَكَ عنه شيء».
والحق تعالى غيور على قلوب أصفيائه، لا يحب أن تركن إلى غيره، فمهما ركنت إلى شيء شوش ذلك عليه، كقضية سيدنا إبراهيم الخليل عليه السلام مع ابنه حين أمر بذبحه، وكقضية سيدنا يعقوب عليه السلام مع ابنه حين غيّبه عنه. وكانت عائشة- رضى الله عنها- قد استولى عليها حبه- عليه الصلاة والسلام-، فكادت أن تحجب بالواسطة عن الموسوط، فردها إليه تعالى بما أنزل بها، تمحيصاً وتخليصاً وتخصيصاً، حتى أفردت الحق تعالى بالشهود، فقالت: بحمد الله، لا بحمد أحد. وكذا شأنه تعالى مع أحبائه يردهم إليه بما يوقع بهم من المحن والبلايا، حتى لا يكونوا لغيره. وبالله التوفيق «١».
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٢ الى ١٣]
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (١٢) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (١٣)
قلت: قال ابن هشام: وقد يلي حرف التخصيص اسم معلق بفعل، إما بمضمر، نحو: «فهَلاَّ بكْراً تُلاعِبُها وتُلاعِبُك» «١» أي: فهلا تزوجت، أو مؤخراً نحو: (لولا إذ سمعتموه قلتم..) أي: فهلا قلتم إذ سمعتموه. هـ. وإليه أشار في الخلاصة بقوله:
وَقَدْ يَلِيهَا اسْمٌ بِفِعْلِ مُضْمَرِ | عُلِّقَ أَوْ بِظاَهِرٍ مُؤَخَّرِ |
عَفَافاً وصلاحاً، وذلك نحو ما يُروى عن عمر رضي الله عنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا قاطع بكذب المنافقين لأن الله تعالى عصمك عن وقوع الذباب على جلدك، لئلا يقع على النجاسات فَتُلَطَّخَ بها، فإذا عصمك من ذلك فكيف لا يعصمك من صحبة من تكون ملطخة بهذه الفاحشة) !. وقال عثمان رضي الله عنه: (ما أوقع ظلك على الأرض لئلا يضع إنسان قدمه عليه فلَمَّا لم يُمكِّن أحداً من وضع القدم على ظلك، فكيف يُمكِّن أحداً من تلويث عرض زوجتك!). وكذا قال علىّ رضي الله عنه: إن جبريل أخبرك أنَّ على نَعْلِك قذراً، وأمرك بإخراج النعل عن رجلك، بسبب ما التصق به من القذر، فكيف لا يأمرك بإخراجها، على تقدير أن تكون متلطخة بشيء من الفواحش) ؟ قاله النسفي.
وروي أن أبا أيوب الأنصاري قال لامرأته: ألا ترين ما يقال في عائشة؟ فقالت: لو كُنْتَ بدل صفوان أَكُنْتَ تخون رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: لا، قالت: ولو كنتُ أنا بدل عائشة مَا خُنْتُ رسول الله، فعائشة خير مني، وصفوان خير منك. وفي رواية ابن إسحاق: قالت زوجة أبى يوب لأبي أيوب: ألا تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال:
بلى، وذلك الكذب، أَكُنْتِ فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله، فقال: عائشة خير منك، سبحان الله، هذا بهتان عظيم، فنزل: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ.. الآية «٣».
(٢) من الآية ١١ من سورة الحجرات.
(٣) انظر تفسير ابن جرير (١٨/ ٩٦)، والبغوي (٦/ ٢٥)، وأسباب النزول للواحدى، ص (٣٣٣).
وَقالُوا عند سماع هذه الفرية: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ كذب ظاهر لا يليق بمنصب الصدّيقة بنت الصدّيق. لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ هلاَّ جاء الخائضون بأربعة شهداء على ما قالوا فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ، ولم يقل: «بهم» لزيادة التقرير، فَأُولئِكَ الخائضون عِنْدَ اللَّهِ أي: في حُكمه وشرعه هُمُ الْكاذِبُونَ الكاملون في الكذب، المستحقون لإطلاق هذا الاسم عليهم دون غيرهم. والله تعالى أعلم.
الإشارة: حُسْن الظن بعباد الله من أفضل الخصال عند الله، ولا سيما ما فيه حرمة من حُرَم الله. قال القشيري على الآية: عاتبهم على المبادرة إلى الاعتراض وتَرْكِ الإعراضِ عن حُرمة بيت نبيهم. ثم قال: وسبيلُ المؤمن ألا يستصغر في الوفاق طاعة، ولا في الخلاف زَلَّةً، فإِنَّ تعظيمَ الأمْرِ بتعظيم الآمرِ، وإن الله لينتقم لأوليائه ما لا ينتقم لنفسه، ولا سيما ما تعلق به حق الرسول- عليه الصلاة والسلام- فذلك أعظم عند الله، ولذلك بالغ في التوبيخ على ما أقدموا عليه، مما تأذى به الرسول، وقلوب آل الصدِّيق، وقلوب المخلصين من المؤمنين. هـ ثم قال تعالى:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٤ الى ١٨]
وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٤) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (١٥) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (١٦) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (١٨)
قلت: (لولا) هنا: امتناعية بخلاف المتقدمة فإنها تحضيضية، و (إذ سمعتموه) : معمول لقُلتم، و (إذْ تلقونه) :
ظرف لمسَّكم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أيها السامعون وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا من فنون النِعَم، التي من جملتها: الإمهال والتوبة، وَفى الْآخِرَةِ من ضروب الآلاء، التي من جملتها: العفو
إِذْ تَلَقَّوْنَهُ أي: لمسكم العذاب العظيم وقت تلقيه إياكم من المخترعين له، يقال: تلقى القول، وتلقنه، وتلقفه، بمعنى واحد، غير أن التلقف: فيه معنى الخطف والأخذ بسرعة، أي: إذ تأخذونه بِأَلْسِنَتِكُمْ بأن يقول بعضُكم لبعض: هل بلغك حديث عائشة، حتى شاع فيما بينكم وانتشر، فلم يبق بيت ولا نادٍ إلا طار فيه. وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ
أي: قولاً لا حقيقة له، وقيّده بالأفواه، مع أن الكلام لا يكون إلا بالفم لأن الشيء المعلوم يكون في القلب، ثم يترجم عنه اللسان، وهذا الإفك ليس إلا قولاً يدور فى الأفواه، من غير ترجمة عن علم به في القلب. وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً أي: وتظنون أن خوضكم في عائشة سَهْلٌ لا تبعة فيه، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ أي: والحال أنه عند الله كبير، لا يُقادر قدره في استجلاب العذاب. جزع بعض الصالحين عند الموت، فقيل له في ذلك، فقال: أخاف ذنباً لم يكن مني على بال، وهو عند الله عظيم.
وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ من المخترعين والشائعين له قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا ما يمكننا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا، وما ينبغي أن يصدر عنا، وتوسيط الظروف بين «لولا» و «قلتم» إشارة إلى أنه كان الواجب أن يُبادروا بإنكار هذا الكلام في أول وقت سمعوه، فلما تأخر الإنكار وبَّخهم عليه، فكان ذكرُ الوقت أَهَمَّ، فقدّم، والمعنى: هلاَّ قُلتم إذ سمعتم الإفك: ما يصح لنا أن نتكلم بهذا، سُبْحانَكَ تنزيهاً لك، وهو تعجبٌ مِنْ عِظَمِ ما فاهوا به.
ومعنى التعجب في كلمة التسبيح: أن الأصل أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه تعالى، ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه. أو: تنزيهاً لك أن يكون في حرم نبيك فاجرة، هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ لعظمة المبهوت عليه، واستحالة صدقه، فإنَّ حقارة الذنوب وعظمتها باعتبار متعلقاتها. وقال فيما تقدم: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ «١». ويجوز أن يكونوا أُمروا بهما معاً، مبالغة في التبري.
يَعِظُكُمُ اللَّهُ أي: ينصحكم أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أي: كراهة أن تعودوا، أو يزجركم أن تعودوا لمثل هذا الحديث أو القذف أو الاستماع، أَبَداً مدة حياتكم، إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإن الإيمان وازع عنه لا محالة.
وفيه تهييج وتقريع وتذكير بما يوجب ترك العود، وهو الإيمان الصادُّ عن كل قبيح.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: الكلام في الأولياء سم قاتل لأن الله ينتصر لأوليائه لا محالة، فمنهم من ينتصر لهم في الدنيا بإنزال البلايا والمحن في بدنه أو ولده أو ماله، ومنهم من يؤخر عقوبته إلى الآخرة، وهو أقبح. ومنهم من تكون عقوبته دينية قلبية كقساوة القلب وجمود العين، وتعويق عن الطاعة، ووقوع في ذنب، أو فترة في همة، أو سلب لذاذة خدمة أو معرفة، وهذه أقبح العقوبة، والعياذ بالله.
ثم أوعد من كان يشيع حديث الإفك، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ١٩ الى ٢٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (١٩) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (٢٠)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ يريدون أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أي: تنتشر الخصلة المفرطة في القبح، وهو الرمي بالزنا، أو نفس الزنا، والمراد بشيوعها: شيوع خبرها، أي: يحبون شيوعها ويتصدون مع ذلك لإشاعتها. وإنما لم يصرح به اكتفاء بذكر المحبة فإنها مستلزمة له لا محالة، وهم: عبد الله بن أبي وأصحابه ومن تبعهم. لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بالحدّ والفضيحة والتكذيب. ولقد ضرب ﷺ الحدّ كل من رمى عائشة. وتقدم الخلاف في ابن أُبي، فقيل: حدَّه، وقيل: تركه استئلافاً له. وَلهم العذاب في الْآخِرَةِ بالنار وغيرها، إن لم يتوبوا. وَاللَّهُ يَعْلَمُ جميع الأمور، التي من جملتها: المحبة المذكورة، وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ما يعلمه تعالى، بل إنما يعلمون ما ظهر من الأقوال والأفعال المحسوسة، فابنوا أمركم على ما تعلمونه، وعاقبوا في الدنيا على ما تشاهدونه من الأحوال الظاهرة، والله يتولى السرائر، فيعاقب في الآخرة على ما تُكنه الصدور.
الإشارة: من شأن أهل الُبعد والإنكار: أنهم إذا سمعوا بحدوث نقص أو عيب في أهل النِّسْبَةِ وأهل الخصوصية فرحوا، وأحبوا أن تشيع الفاحشة فيهم قصداً لغض مرتبتهم حسداً وعناداً، لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة، ولولا فضل الله ورحمته لعاجلهم بالعقوبة. والله تعالى أعلم وأحلم.
ولما نزلت براءة عائشة- رضى الله عنها- حلف أبوها لا ينفق على مسطح شيئاً غضباً لعائشة، وكان يُنفق عليه لقرابته، فأنزل الله تعالى:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢١) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ أي: لا تسلكوا مسالكه في كل ما تأتون وتذرون من الأفاعيل، والتي من جملتها: منع الإحسان إلى مَن أساء إليكم غضباً وحَمِيَّةً، وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ، وضع الظاهر موضع المضمر، حيث لم يقل: ومن يتبعها، أو: ومن يتبع خطواته لزيادة التقرير والمبالغة في التنفير، فَإِنَّهُ أي: الشيطان يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ كالبخل والشح، وكل ما عَظُمَ قُبْحُهُ، وَالْمُنْكَرِ كالغضب، والحمية، وكل ما ينكره الشرع لأن شأن الشيطان أن يأمر بهما. فمن اتبع خطواته فقد امتثل أمره.
وهذا الكلام مقدمة لقوله: وَلا يَأْتَلِ، من قولك: أليت: إذا حلفت، أي: لاَ يحلف أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ أي: في الدين، وكفى به دليلاً على فضل الصّديق رضي الله عنه، وَالسَّعَةِ. أي: والسعة في المال أَنْ يُؤْتُوا أي:
لا يحلف على ألا يُعطوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كمسطح، فإنه كان ابن خالته، وكان من فقراء المهاجرين. وهذه الأوصاف هي لموصوف واحد، جيء بها، بطريق العطف تنبيهاً على أن كلاًّ منها علة مستقلة لاستحقاقه الإيتاء. وحذف المفعول الثاني لظهوره، أي: على ألاّ يؤتوهم شيئاً، وَلْيَعْفُوا عما فرط منهم وَلْيَصْفَحُوا بالإغضاء عنه، فالعفو: التستر، والصفح: الإعراض، أي: وليتجاوزوا عن الجفاء، وليُعرضوا عن العقوبة.
أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ؟ فلتفعلوا ما تحبون أن يُفْعَلَ بكم وبهم، مع كثرة خطاياهم، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ في المغفرة والرحمة، مع كثرة ذنوب العباد، فتأدبوا بآداب الله، واعفوا، وارحموا. ولما قرأها النبي ﷺ على أبى بكر رضي الله عنه قال: بل أُحب أن يغفر الله لي. ورد إلى مسطح نفقته، وقال: والله لا أنزعها منه أبداً «١».
وبالله التوفيق.
الإشارة: كل ما يصد عن مكارم الأخلاق كالحلم، والصبر، والعفو، والكرم، والإغضاء، وغير ذلك من الكمالات، فهو من خطوات الشيطان، تجب مجانبته، فإن الشيطان لا يأمر إلا بالفحشاء والمنكر كالغضب، والانتصار، والحمية، والحقد، والشح، والبخل، وغير ذلك من المساوئ، ولا طريق إلى الدواء من تلك المساوئ إلا بالرجوع إلى الله والاضطرار له، والتعلق بأذيال فضله وكرمه.
قال الورتجبي قوله تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ.. إلخ: بيّن أن تطهير العباد من الذنوب لا يكون إلا بفضله السابق وعنايته الأزلية، كيف يزكي العِلَلَ ما يكون عللاً، فالمعلول لا يُطَهِّرُ، والمعلول أفعال الحدثان على كل صنف، ولطف القديم له استحقاق ذهاب العلل بوصوله. قال السياري: قال الله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ، ولم يقل: لولا عبادتكم وصلاتكم وجهادكم وحسن قيامكم بأمر الله ما نجا منكم أحد ليعلم أن العبادات، وإن كثرت، فإنها من نتائج الفضل. هـ.
قال في الحاشية: وظهر لي أن الآية مقدمة لما ندب إليه الصدِّيق بقوله: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ، ففيه إشارة إلى أن فضله وزكاته فضل من الله عليه، وعنايةٌ سابقةٌ، وهي سبب حِفْظِهِ وتحليه بِخِلَعِ كوامل الأوصاف، فليشهدْ ذلك، ولا يأتل على من لم يجد ذلك، حتى وقع فيما وقع من القذف، بل يعذره، ويرى مِنَّةَ الله عليه في كونه نَزَّهَهُ بعنايته من الوقوع في مثل ذلك، مع كون المحل قابلاً، ولكن الله خَصَّصَهُ. هـ.
قال الورتجبي على قوله: وَلا يَأْتَلِ.. إلخ: في الآية بيانُ وتأديبُ الله للشيوخ والأكابر ألاَّ يهجروا صاحب العثرات والزلات، من المريدين، ويتخلقوا بخلق الله، حيث يغفر الذنوب العظامَ ولا يبالي، وأَعْلَمَهُمْ الاّ يَكُفُّوا أعطافهم عنهم. ثم قال: فَإنَّ مَنْ لَهُ اسْتِعْدَادٌ لا يَحْتَجِبُ بِعَوَارِضِ البَشَرِيَّةِ عَنْ أَحْكَامِ الطَّرِيقَةِ أبَداً. هـ.
ثم ذكر وبال القاذفين لعائشة- رضى الله عنها- أو لغيرها، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٢٣) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (٢٤) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (٢٥)
قلت: «يوم تشهد» : ظرف للاستقرار، في «لهم»، أو: معمول لا ذكر.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ يقذفون الْمُحْصَناتِ العفائف مِمَا رُمين به من الفاحشة، الْغافِلاتِ عنها على الإطلاق، بحيث لم يخطر ببالهن شيء منها ولا من مقدماتها، أو السليمات
ثم ذكر الوعيد، فقال: لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ، حيث يلعنهم اللاعنون من المؤمنين والملائكة أبداً، وَلَهُمْ مع ذلك عَذابٌ عَظِيمٌ، هائل لا يُقادَرُ قَدْرُهُ لعظم ما اقترفوه من الجناية، إن لم يتوبوا، فيعذبون.
يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: بما أَفكوا وبَهَتُوا يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ أي: يوم تشهد جوارحُهم بأعمالهم القبيحة يُوفيهم الله جزاءهم الْحَقَّ أي: الثابت الذي يحق أن يثبت لهم لا محالة، أو الذي هم أهله، والحق: صفة لدينهم، أو لله، ونصب على المدح. وَيَعْلَمُونَ عند ذلك أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثابت الواجب الوجود الْمُبِينُ الظاهر البين لارتفاع الشكوك، وحصول العلم الضروري لارتفاع الغطاء بظهور ما كان وعداً غيباً.
ولم يُغَلِظِ الله تعالى في القرآن في شيء من المعاصي تَغْلِيظَهُ في إفك عائشة- رضى الله عنها- فأوجز في ذلك وأَشْبَعَ، وفَصَّل، وأَجَمَلَ، وأَكَّدَ، وكَرَّرَ، وما ذلك إلا لأمر عظيم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه: (من أذنب ذنباً وتاب قُبلت توبته، إلا مَن خاض في أمر عائشة- رضى الله عنها) «١»، وهذا منه مبالغةً وتعظيم لأمر الإفك، وقد برّأ الله تعالى أربعة برّأ يوسف بشاهدٍ من أهلها، وموسى عليه السلام من قول اليهود فيه: أنه آدر، بالحجر الذي ذهب بثوبه، ومريم بنطق ولدها، وعائشة بهذه الآي العظام في كتابه المعجز، المتلوّ على وجود الدهر، بهذه المبالغات. فانظر: كم بينها وبين تبرئة أولئك؟! وما ذلك إلا لإظهار علوّ منزلة رسوله، والتنبيه على إنافة محله «٢» صلى الله عليه وسلم.
وقد رام بعضُ النصارى الطَّعْنَ على المسلمين بقضية الإفك، فقال: كيف تبقى زوجة نبيكم مع رجل أجنبي؟
فقال له، من كان يناظره من العلماء: قد برأها من برأ أُمَّ نبيكم، فبُهت الذي كفر. والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد مدح الله تعالى أزواج النبي ﷺ بثلاثة أوصاف، هي من أكمل الأوصاف: العفة، والتغافل، وتحقيق الإيمان أما العفة: فهي حفظ القلب من دخول الهوى، والجوارح من معاصي المولى، وأما التغافل: فهو
(٢) أي: علو مقامه وارتفاعه.
قال القشيري: قوله تعالى: وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ: تصير المعارف ضروريةً، فيجدون المعافاة في النظر والتذكر، ويستريح القلبُ من وَصْفَيْ تَرَدُّدِه وتَغيُّرِه، باستغنائه ببَصرِه عن تبصره. ويقال: لا يشهدون هذا إلا بالحق، فهم قائمون بالحق للحق مع الحق، يُبدي لهم أسرارَ التوحيد وحقائقه، فيكون القائمَ فيهم والآخذَ لهم عنهم، من غير أن يردهم عليهم. هـ. وبالله التوفيق.
ثم برهن على نزاهة أهل البيت النبوي بقوله:
[سورة النور (٢٤) : آية ٢٦]
الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٢٦)
يقول الحق جلّ جلاله: الْخَبِيثاتُ من النساء لِلْخَبِيثِينَ من الرجال، وَالْخَبِيثُونَ من الرجال لِلْخَبِيثاتِ من النساء. وهذه قاعدة السنة الإلهية، أن الله تعالى يسوق الأهل للأهل، فمن كان خبيثاً فاسقاً يُزوجه الله للخبيثة الفاسقة مثله، ومن كان طيباً عفيفاً رزقه الله طيبة مثله. وهو معنى قوله تعالى: وَالطَّيِّباتُ من النساء لِلطَّيِّبِينَ من الرجال وَالطَّيِّبُونَ من الرجال، لِلطَّيِّباتِ من النساء فهذا هو الغالب.
وحيث كان- عليه الصلاة والسلام- أطيب الأطيبين، وخيرة الأولين والآخرين، تبين كون الصديقة- رضى الله عنها- من أطيب الطيبات، واتضح بطلان ما قيل فيها من الخرافات، حسبما نطق به قوله تعالى: أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ، على أن الإشارة إلى أهل البيت، المنتظمين في سلك الصِّدِّيقِيَّةِ انتظاماً أولياً، وقيل: إلى رسول الله ﷺ والصدِّيقة وصفوان، وما في اسم الإشارة من معنى البُعد، للإيذان بعلو رتبة المشار إليهم، وبُعْدِ منزلتهم في الفضل، أي: أولئك الموصوفون بعلو الشأن: مبرؤون مما يقوله أهله الإفك في حقهم من الأكاذيب الباطلة.
وقيل: (الخبيثات) من القول تقال (للخبيثين) من الرجال والنساء، أي: لائقة بهم، لا ينبغي أن تقال إلا لهم.
(والخبيثون) من الفريقين أَحِقَّاءُ بأن يُقَالَ في حقهم خبائث القول. (والطيبات) من الكلم (للطيبين) من الفريقين،
دخل ابن عباس رضي الله عنه على عائشة- رضى الله عنها- في مرضها، وهي خائفة من القدوم على الله عزّ وجل، فقال: لا تخافي، فإنك لا تقدمين إلا على مغفرة ورزق كريم، وتلى الآية، فغشي عليها: فرحاً بما تلا.
وقالت رضى الله عنها-: (قد أُعْطِيت تسعاً ما أُعْطِيَتْهُنَّ امرأة: نزل جبريل بصورتي في راحته، حين أمر- عليه الصلاة والسلام- أن يتزوجني، وتزوجني بكراً، وما تزوج بكراً غيري، وتوفى- عليه الصلاة والسلام- ورأسه في حِجْري، وقبره في بيتي، وينزل عليه الوحي وأنا في لحافه، وأنا ابنة خليفته وصديقه، ونزل عذري من السماء، وخُلقت طيبة عند طيب، ووُعدت مغفرةً ورزقاً كريماً) «١».
الإشارة: الأخلاق الخبيثة مثل الكبر، والعجب، والرياء، والسمعة، والحقد، والحسد، وحب الجاه والمال، للخبيثين، والخبيثون للخبيثات، فهم متصفون بها، وهي لازمة لهم، إلا أن يَصْحُبوا أهل الصفاء والتطهير، فيتطهرون بإذن الله، والأخلاق الطيبات كالتواضع، والإخلاص، وسلامة الصدور، والزهد، والورع، والسخاء، والكرم، وغير ذلك من الأخلاق الطيبة، للطيبين، والرجال الطيبون للأخلاق الطيبات. أولئك مبرءون مما يقول أهل الإنكار فيهم، لهم مغفرة ستر لعيوبهم، ورزق كريم لأرواحهم من قوت اليقين، وشهود رب العالمين. وبالله التوفيق.
ولمَّا كان سبب الإفك هو تهمة الخلوة، أمر بالاستئذان، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٢٧) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٢٩)
كان الرجل منهم إذا أراد أن يدخل بيتاً غير بيته يقول: حييتم صباحا، حييتم مساء، فربما أصاب الرجلَ مع امرأته في لحاف. رُوي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلّم: أَأَسْتأذنُ على أمي؟ قال: نَعَم، قال: ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال صلى الله عليه وسلّم: «أتحُبُّ أن تراها عريانة.. ؟» «١». لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: أمرتكم به، أو:
قيل لكم هذا لكي تتعظوا وتعملوا بموجبه.
فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها في البيوت أَحَداً ممن يستحق الإذن، من الرجال البالغين، وأما النساء والولدان فوجودهم وعدمهم سواء «٢»، فَلا تَدْخُلُوها، على أن مدلول الآية هو النهي عن دخول البيوت الخالية لما فيه من الاطلاع على ما يعتاد الناس إخفاءه، وأما حرمة دخول ما فيه النساء والولدان فمن باب الأولى لما فيه من الاطلاع على الحريم وعورات النساء. فإن لم يُؤذن لكم فلا تدخلوا، واصبروا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ من جهة من يملك الإذن، أو: فإن لم تجدوا فيها أحداً من أهلها، ولكم فيها حاجة فلا تدخلوها إلا بإذن أهلها لأن التصرف في ملك الغير لا بد أن يكون برضاه.
وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا أي: إذا كان فيها قوم، وقالوا: ارجعوا فَارْجِعُوا ولا تُلحُّوا في طلب الإذن، ولا تقِفُوا بالأبواب، ولا تخرقوا الحجاب لأن هذا مما يُوجب الكراهية والعداوة، وإذا نهى عن ذلك لأدائه إلى
(٢) هذا الرأى، غير مسلم به، فالنساء، قطعا، يدخلن تحت مفهوم «أحد»، وكذلك الولدان المميزون، فكيف نقول: وجودهم وعدمهم سواء؟ ثم إنه من الثابت فى السنة الصحيحة أنه يجوز الدخول على المغيبة [أي: التي زوجها غائب فى سفر أو غزو، أو نحو ذلك،] فيجوز الدخول عليها بشرط وجود رجلين أو ثلاثة فما أكثر، والدخول يحتاج إلى استئناس واستئذان.. إلخ. فدّل هذا على أن كلام المفسر، هو رأى خاص به، وليس حكما شرعيا. [.....]
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ في أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ أي: غير موضوعة لسكنى طائفة مخصوصة، بل يتمتع بها مَنْ يُضطر إليها، من غير أن يتخذها مسكناً كالرُّبَطِ، والخانات، والحمامات، وحوانيت التجار. فِيها مَتاعٌ لَكُمْ أي: منفعة كاستكنانٍ من الحر والبرد، وإيواء الرجال والسلع، والشراء والبيع، والاغتسال، وغير ذلك، فلا بأس بدخولها بغير استئذان. روي أن أبا بكر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، إن الله قد أنزل عليك آية في الاستئذان، وإنا لنختلِفُ في تجارتنا إلى هذه الخانات، فلا ندخلها إلا بإذن؟ فنزلت «١». وقيل: هي الخرابات، يُتَبَرَّزُ فيها، ويقضون فيها حاجتهم من البول وغيره، والظاهر: أنها من جملة ما ينتظم في البيوت، لا أنها المرادة فقط. وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ، وعيد لمن يدخل مدخلاً من هذه المداخل لفسادٍ أو اطلاعٍ على عورات. والله تعالى أعلم.
الإشارة: التصوف كله آداب، حتى قال بعضهم: اجعل عَمَلك مِلْحاً وأدبك دقيقاً. فيتأدبون بالسُنَّة في حركاتهم وسكناتهم، ودخولهم وخروجهم، فهم أَولى بالأدب، فيستأذنون كما أمر الله عند دخول منزلهم برفع صوتهم بذكر الله، أو بالتسبيح، أو بالسلام قبل الدخول. وكذا عند دخول منزل غيرهم، أو منزل بعضهم بعضاً. وأما مع الشيخ: فالأدب هو الصبر حتى يخرج، تأدباً بقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ «٢»، فلا يقرعون بابه، ولا يطلبون خروجه إلا لضرورة فادحة.
ولمّا كان الاستئذان إنما شرع من أجل النظر، أمر بغض البصر، فقال:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٠]
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (٣٠)
(٢) الآية ٥ من سورة الحجرات.
وَقل لهم أيضاً: يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ، إلاّ على أزواجهم، أو ما ملكت إيمانهم، وتقييد الغض بمن التبعيضية، دون حفظ الفروج لِما في النظر من السَّعَة، فيجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها وقدميها، وإلى رأس المحارم والصدور والساقين والعضدين. قاله النسفي. قلت: ومذهب مالك: حرمة نظر الساقين والعضدين من المحرَم، فإن تعذر التحرر مِنْهُ، كشغل البنات في الدار، باديات الأرجلِ، فليتمسك بقول الحنفي، إن لم يقدر على غض بصره. قاله شيخنا الجنوي.
ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ أي: أطهر لهم من دَنَسِ الإثم أو الريبة، إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ، وفيه ترغيب وترهيب، يعني: أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم، فكيف يجيلون أبصارهم، وهو يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور؟! فعليهم، إذا عرفوا ذلك، أن يكونوا منه على حَذر.
[سورة النور (٢٤) : آية ٣١]
وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣١)وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ بالتستر والتصون عن الزنا، فلا تنظر إلى ما لا يحلّ لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء، وهي من الرجل: ما عدا الوجه والأطراف، ومن النساء: ما بين السرة والركبة، فلا يحل للمرأة أن تنظر إلى الرجل ما سوى الوجه والأطراف، أو بشهوة. وقيل: إن حصل الأمن من الشهوة جاز، وعليه يحمل نظر عائشة إلى الحبشة.
وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ من الزنا والمساحقة. وإنما قدّم غض البصر على حفظ الفروج لأن النظر بريد الزنا، ورائد الفجور، فَبَذْرُ الهوى طُمُوحُ العَيْنِ. وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ كالحُلي، والكحل، والخضاب، والمراد بالزينة: مَوَاضِعُها، فلا يحل للمرأة أن تظهر مواضع الزينة، كانت مُتَحَلِّيَةً بها أم لا، وهي: الرأس، والأُذن، والعنق، والصدر، والعضدان، والذراع، والساق. والزينة هي: الإكليل، والقرط، والقلادة، والوِشاح، والدملج، والسوار، والخلخال. إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها إلا ما جرت العادة بإظهارها، وهو الوجه والكفان، إلا لخوف الفتنة، زاد أبو حنيفة: والقدمين، ففي ستر هذه حرج فإن المرأة لا تجد بُدّاً من مزاولة الأشياء بيديها، ومن الحاجة إلى كشف وجهها، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح، وتضطر إلى المشي في الطرقات، وظهور قدميها، ولا سيما الفقيرات منهن. قاله النسفي.
وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ أي: وَلْيَضَعْنَ خُمُرَهنَّ، جمع خمار، وهو ما يستر الرأس، عَلى جُيُوبِهِنَّ، وهو شَقُّ القميص من ناحية الصدر، وكانت النساء على عادة الجاهلية يَسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ، فتبدو نحورُهن وقلائدهُن من جيوبهن، وكانت واسعةً، يبدو منها صدورهن وما حواليها، فأُمِرْنَ بإسدال خُمُرِهن على جيوبهن ستراً لما يبدو منها. وقد ضمَّنَ الضَّرْبَ معنى الإلقاء والوضع، فَعُدِّيَ بعلى.
وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ أي: مواضع الزينة الباطنة كالصدر، والرأس، ونحوهما، كرره: ليستثني منه ما رخص فيه، وهو قوله: إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ لأزواجهن، فإنهم المقصودون بالزينة. ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج، أَوْ آبائِهِنَّ، ويدخل فيهم الأجداد، أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ فقد صاروا محارم، أَوْ أَبْنائِهِنَّ، ويدخل فيهم الأحفاد، أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ لأنهم صاروا محارم أيضاً، أَوْ إِخْوانِهِنَّ الشقائق،
قال البيضاوي: رُوي أنه- عليه الصلاة والسلام- أتى فَاطِمَةَ بعبد، وَهَبَهُ لها، وعليها ثوب إذا قَنَّعَتْ به رأسها لم يبلغ رجليها، وإذا غطّت رجليها لم يبلغ رأسها، فقال- عليه الصلاة والسلام: «إنه ليس عليك بأسٌ، إنما هو أبوكِ وغلامُك»، فانظر من أخرجه «٢». واختلف: هل يجوز أن يراها عبد زوجها، وعبد الأجنبي، أم لا؟
على قولين.
أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي: الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم، أو لخدمة، أو لشيء يُعْطَاهُ، كالوكيل والمتصرف. وقال بعضهم: هو الذي يتبعك وَهَمُّهُ بَطْنُهُ، ويشترط ألا تكون له إِربةٌ، أي:
حاجة وشهوة إلى النساء كالخَصِيِّ، والمُخَنَّثِ، والشيخ الهَرِم، والأحمق، فلا تجوز رؤيتهم إلا باجتماع الشرطين:
أن يكونوا تابعين، ولا إربة لهم في النساء. أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ، أراد بالطفل:
الجنس، ولذلك وصفه بالجمع، ويقال فيه: «طفل» ما لم يراهق الحلُمُ. و (يظهروا) معناه: يطلعون بالوطء على عورات النساء مِنْ: ظهر على كذا: إذا قوي عليه، فمعناه: الذين لم يطيقوا وطء النساء، أو: لا يدرون ما عورات النسآء؟
وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ، كانت المرأة تضرب برجلها الأرض ليسمع قعقعة خلخالها، فيعلم أنها ذات خُلْخال، فنُهين عن ذلك إذ سَمَاعُ صَوْتِ الزينة كإظهارها، فيورث ميل الرجال إليهن.
ويوهم أن لهن ميلاً إليهم. قال الزجاج: سماع صوت الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها. هـ.
(٢) أخرجه أبو داود فى (اللباس، باب فى العبد ينظر إلى شعر مولاته، ح ٤١٠٦)، والبيهقي (٧/ ٩٥) من حديث أنس رضي الله عنه.
وإِنَّكَ، إِنْ أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً | لِقَلْبِكَ، يَوْماً، أَتْعَبَتْكَ المُناظِرُ |
تَرَى، ما لاَ كٌلهُ أَنْتَ قَادِرٌ | عَلَيْهِ، وَلاَ عَنْ بَعْضِه أَنْتَ صَابِرُ |
وقوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها، قال بعضهم: لا يجوز كل ما يستدعي فِتْنَةً للغير من إظهار حال مع الله، مما هو زينة السريرة، فلا يظهر شيئاً من ذلك إلا لأهله، إلا إذا ظهر عليه شىء من غير إظهار منه، ولا قصدَ غير صالح. هـ. فلا يجوز إظهار العلوم التي يفتتن بها الناس من حقائق أسرار التوحيد، ولا من الأحوال التي تُنكرها الشريعة، فَيُوقِعُ النَّاسَ في غيبته. وأما قَضِيَّةُ لِصَّ الحَمَّامِ «٢» فحال غالبة لا يقتدى بها. والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالتوبة لأن النظر لا يسلم منه أحد في الغالب، فقال:
وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ...
يقول الحق جلّ جلاله: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط، وَلاَ سيما في الكف عن الشهوات، وقيل: توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية، فإنه، وإن جُبّ بالإسلام، لكن يجب الندم عليه، والعزم على الكف عنه، كلما يُتَذَكَّرُ، ويَخْطِرُ بالبال. وفي تكرير الخطاب بقوله: أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ:
تأكيد للإيجاب، وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال، حَتْماً. قيل: أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس
وأخرج الحاكم (٤/ ٣١٤) عن ابن مسعود مرفوعا: «النظرة سهم مسموم من سهام إبليس، من تركها من مخافتى أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه».
(٢) راجع قصة لص الحمّام عند التعليق على إشارة الآية ٢٦٧ من سورة البقرة. (١/ ٣٠١)
الإشارة: التوبة أساس الطريق، ومنها السير إلى عين التحقيق، فَمَنْ لاَ تَوْبَةَ له لا سَيْر له، كمن يبني على غير أساس. والتوبة يَحْتَاجُ إليها المبتدئ والمتوسط والمنتهى، فتوبة المبتدئ من المعاصي والذنوب، وتوبة السائر:
من الغفلة ولوث العيوب، وتوبة المنتهي: من النظر إلى سوى علام الغيوب.
قال ابن جزي: التوبة واجبة على كل مكلف، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة. وفرائضها ثلاثة: الندم على الذنب من حيث عُصِيَ به ذو الجلال، لا من حيث أضر ببدن أو مال. والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان، من غير تأخير ولا توان، والعزم ألا يعود إليها أبداً. ومهما قضى الله عليه بالعود، أحدث عَزْماً مُجَدَّداً.
وآدابها ثلاث: الاعتراف بالذنب، مقروناً بالانكسار، والإكثار من التضرع والاستغفار، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من الأوزار. ومراتبها سبع: فتوبة الكفار من الكفر، وتوبة المُخَلِّطِينَ من الذنوب الكبائر، وتوبة العدول من الصغائر، وتوبة العابدين من الفترات، وتوبة السالكين من عِلَلِ القلوب والآفات، وتوبة أهل الورع من الشبهات، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات. والبواعث على التوبة سبعة: خوف العقاب، ورجاء الثواب، والخجل من الحساب، ومحبة الحبيب، ومراقبة الرقيب، وتعظيم المقام، وشكر الإنعام. هـ.
ثم أمر بالنكاح لأنه أغض للبصر، فقال:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٢]
وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٣٢)
قلت: الأيامى: جَمْعُ أَيِّمٍ، وأصله: أيايم، فقلبت الياء لآخر الكلمة، ثم قبلت ألفاً، فصارت أيامى. والأيم: من لا زوج له من الرجال والنساء.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَنْكِحُوا أي: زَوِّجُوا الْأَيامى مِنْكُمْ أي: مَنْ لا زوج له من الرجال والنساء، بِكراً كان أو ثيباً. والمعنى: زوجوا من لا زوج له من الأحرار والحرائر. والخطاب للأولياء والحكام، أمرهم بتزويج الأيامى، فاقتضى ذلك النهي عن عضلهن. وفي الآية دليل عدم استقلال المرأة بالنكاح، واشتراط الولي فيه، وهو مذهب مالك والشافعي، خلافاً لأبي حنيفة.
وقيل: المراد بالصلاح: صلاحهم للتزوج، والقيام بحقوقهم، فإن ضَعُفُوا لم يُزَوَّجُوا. ونفقة العبد على سيده إن زَوَّجَه، أو أَذن له، وإلا خُيِّر فيه.
ثم قال تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ من المال يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بالكفاية والقناعة، أو باجتماع الرزقين. وفي الحديث: «التمسوا الرزق بالنكاح» «١»، وقال ابن عجلان: أن رجلاً أتى النبي ﷺ فشكا إليه الحاجة، فقال: «عليك بالباءة»، أي: التزوج. وكذلك قال أبو بكر وعمر وعثمان لمن شكى إليهم العَيْلَةَ، متمسكين بقوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ، فبسط الرزقَ لمن يشاءُ ويقدرُ، حسبما تقتضيه المشيئة والحكمة والمصلحة. فالغِنَى، للمتزوج، مقيد بالمشيئة، فلا يلزم الخلف بوجود من لم يستغن مع التزوج، وقيل: مقيد بحسن القصد، وهو مغيب. والله تعالى أعلم.
الترغيب فى النكاح: قال صلى الله عليه وسلم: «تناكحوا تكثروا، فإني أباهي بكم الأمم حتى بالسقط» «٢». وقال صلى الله عليه وسلم: «من أحب فطرتي فليستن بسنتي، وهي النكاح، فإن الرجل يُرفعُ بدعاء ولده من بعده» «٣»، وقال سمرة رضي الله عنه: (نهى النبي ﷺ عن التبتل). وقال- عليه الصلاة والسلام: «من كان له ما يتزوج به، فلم يتزوج، فليس منا» «٤» وقال عليه الصلاة والسلام: «من أدرك له ولد، وعنده ما يزوجه به، فلم يزوجه، فأحدث، فالإثم بينهما». وقال
وانظر كشف الخفاء (١/ ١٧٧).
(٢) أخرجه عبد الرزاق فى المصنف (٦/ ١٧٣) عن سعيد بن أبى هلال، مرسلا، وانظر كشف الخفاء (١/ ٣٨٠).
(٣) أخرجه- دون العبارة الأخيرة- البيهقي فى الكبرى (٧/ ٧٨) وعبد الرزاق فى المصنف (٦/ ١٦٩) وسعيد بن منصور فى السنن (١/ ١٣٨) عن عبيد بن سعد.
(٤) أخرجه البيهقي فى الشعب (٥٤٨١- ٥٤٨٢)، عن أبى نجيح مرسلا. بلفظ: «من كان موسرا لأن ينكح، ثم لم ينكح، فليس منى».
وقال أبو أمامة: (أربعة لعنهم الله من فوق عرشه، وأمَّنت عليهم ملائكته: الذي يحصر نفسه عن النساء، فلا يتزوج ولا يسترى لئلا يولد له، والرجل يتشبه بالنساء، والمرأة تتشبه بالرجال، وقد خلقها الله أنثى، ومُضلل المساكين). وقال سهل بن عبد الله: لا يصح الزهد في النساء لأنهن قد حُببن إلى سيد الزاهدين. ووافقه ابن عُيَيْنَةَ، فقال: ليس في كثرة النساء دنيا لأن أزهد الصحابة كان عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان له أربع نسوة وبِضعَ عَشْرَةَ سُرِّيَّةً. هـ. من القوت.
وقال عطية بن بُسْر المازني: أتى عكافُ بن وَدَاعَة الهلالي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له: «يا عكاف ألك زوجة؟
قال: لا، يا رسول الله، ولا أمة؟ قال: لا. قال: وأنت صحيح موسر؟ قال: نعم، والحمد لله. قال: فإنك، إذاً من إخوان الشياطين، إما أن تكون من رهبان النصارى، وإما أن تكون مؤمناً، فاصنع ما بدا لك. فإن من سنتنا النكاح، شراركم عزابكم، وأرذال موتاكم عزابكم، ما للشيطان، في سلاح، أبلغ من مُحْتَمِلِ العَزَبَةِ، ألا إن المتزوجين هم المطهرون المبرءون من الخنا» «١». انظر الثعلبي.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٣) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٣٤)
قال تعالى: وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أي: ليجتهد في العفة عن الزنا وقمع الشهوة من لم يجواد الاستطاعة على النكاح من المهر والنفقة، حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ حتى يقدرهم الله على المهر والنفقة، قال عليه الصلاة والسلام: «يا معشر الشباب، مَنْ اسْتَطَاعَ منْكُمُ البَاءَةَ فليتزوج فإنه أغضُّ للبصر، وأحصنُ للفرج، ومَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَليْه بالصَّوْمِ فَإِنَّه لَهُ وِجَاء» «٢»، فانظر كيف رتَّب الحق تعالى هذه الأمور أمر،
(٢) أخرجه البخاري فى (النكاح، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: من استطاع الباءة فليتزوج ح ٥٠٦٥)، ومسلم فى (النكاح، باب استحباب النكاح لمن تاقت نفسه ٢/ ١٠١٨، ح ١٤٠٠)، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
وبالله التوفيق.
الإشارة: الأرواح والقلوب والنفوس لا يظهر نِتَاجُها حتى ينعقد النكاح بينها وبين شيخ كامل، فإذا انعقدت الصحبة بينها وبين الشيخ، قذف نطفة المعرفة في الروح أو القلب أو النفس، ثم يربيها في مشيمة الهِمَّة، ثم في حَضَانة الحفظ والرعاية، فَيَظْهَرُ منها نِتاجُ اليقين والعلوم والأسرار والمعارف، وأما إن بقيت أيامَى لازوح لها، فلا مطمع في نِتَاجها، قال تعالى: وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ، وهي الأرواح، والصالحين من قلوبكم، ونفوسكم، إن يكونوا فقراء من اليقين، والمعرفة بالله، يغُنهم الله من فضله بمعرفته، والله واسع عليم، وليتعفف، عن المناكر، الذين لا يجدون من يأخذ بيدهم، حتى يغنيهم الله من فضله بالسقوط على شيخ كامل فإنه من فضل الله ومنته، لا يسقط عليه إلا من اضْطُرَّ إليه، وصَدَقَ الطلبَ في الوصول إليه. وبالله التوفيق.
ولما أمر بتزوج العبيد، أمر بمكاتبتهم، فقال:
... وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ...
قلت: الكتاب هنا: مصدر، بمعنى الكتابة. وهي: مقاطعة العبد على مال مُنَجَّمٍ، فإذا أداه خرج حراً، وإن عجز، ولو عن نصف درهم، بقي رقيقاً.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ أي: والمماليك الذين يطلبون الكتابة مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من عبيدكم فَكاتِبُوهُمْ، والأمر للندب، عند مالك والجمهور، وقال الظاهرية وغيرهم: على الوجوب، وهو ظاهر قول عمر رضي الله عنه لأنس بن مالك، حين سأله مملوكه سيرين الكتابة، فأبى عليه أنس، فقال له عمر: لتكاتبنه، أَوْ لأُوجِعَنَّكَ بالدِّرَّةِ «١». وإنما حمله مالك على الندب لأن الكتابة كالبيع، فكما لا يجبر على البيع لا يجبر عليها.
أن يقول لمملوكه: كاتبتك على كذا، فإن أدى ذلك عُتِقَ، ومعناه: كتبت لك على نفسي أن تُعْتَقَ مني إذا وَفَّيْتَ المال، وكتبتَ لي على نفسك أن تفي بذلك. وتجوز حَالَّةً، وتسمى: القطاعة، ومُنَجَّمَةً وَغَيْرَ مُنَجَّمَةٍ.
وقوله تعالى: إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً، أي: قدرة على الكسب، وأمانة وديانة، والنَّدْبِيَّةُ متعلقة بهذا الشرط، فالخير هنا: القوة على الأداء بأي وجه كان، وقيل: هو المال الذي يؤدي منه كتابته، من غير أن يسأل أموال الناس، وقيل: الصلاح في الدين.
وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ، هذا أمر بإعانَةِ المكاتب على كتابته، واخْتُلِف: مَنِ المُخَاطَبُ بذلك؟
فقيل: هو خطاب للناس أجمعين، وقيل: للولاة، والأمر على هذين القولين للندب، وقيل: للسادات المُكَاتِبينَ، وهو على هذا القول، ندب عند مالك، ووجوب عند الشافعي. فإن كان الأمر للناس، فالمعنى: أن يعطوهم صدقة من أموالهم، وإن كان للولاة: فيعطوهم من الزكوات أو من بيت المال، وإن كان للسادات فَيَحُطُّوا عنهم من كتابتهم، وقيل: يعطوهم من أموالهم، من غير الكتابة، وعلى القول بالحط من الكتابة اختلف في مقدار ما يُحَطُّ، فقيل:
الربع، وروي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: الثلث، وقال مالك: لا حد في ذلك، بل أقل ما يطلق عليه شيء، إلا أن الشافعي يجبره على ذلك، ولا بجيره مالك. وزمان الحط عنه في آخر الكتابة عند مالك، وقيل: في أول نَجْمٍ.
قاله ابن جزي.
الإشارة: العبيد على أربعة أقسام: عَبْدٌ قِنُّ مقتنى للخدمة، وعبد مأذون له في التجارة، وعبد مُكَاتبٌ، وعبد آبق. فمثال الأول، وهو العبد القن: أهل الخدمة، وهم العباد والزهاد، أقامهم الحق تعالى لخدمته، وقَوَّاهُمُ على دوام معاملته، أهل الصيام والقيام، وأهل السياحة والهيام. ومثال الثاني، وهو المأذون له: العارفون بالله، يتصرفون في ملك سيدهم بالله، خلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، يحكمون بحكم الله، ويأخذون من الله ويدفعون إلى الله، يأخذون النصيب من كل شيء، ولا يُؤْخَذُ من نصيبهم شيء، قد سخرّ لهم كل شيء، ولم يُسَخَّرُوا لشيء، سُلَِطُوا على كل شىء، ولم
ومثال الثالث، وهو المُكَاتَب: الصالحون من المؤمنين يعملون على فك رقبتهم من النار، فإذا أدوا ما فرض عليهم حررهم بعد موتهم، وأسكنهم فسيح جناته. ومثال الآبق: هم العصاة والفجار، استمروا على عصيانهم، حتى قدموا على الملك الجبار، فهم تحت حكم المشيئة، إن شاء عفا عنهم، وإن شاء عاقبهم. والله تعالى أعلم.
ولما أمر بتزويج الإماء نهى عن إكراههن على الزنا، فقال:
وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ...
يقول الحق جلّ جلاله: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ أي: إِمَاءَكُمْ، يقال للعبد: فتى، وللأمة: فتاة. والجمع:
فتيات، عَلَى الْبِغاءِ أي: الزنا، وهو خاص بزنا النساء. كان لابن أُبيِّ ست جوار: مُعَاذَة، ومُسَيْكَة، وأميمة، وعَمْرَة، وأَرْوَى، وقُتَيْلَة، وكان يكرههن، ويضرب عليهن الضرائب لذلك، فشكتِ ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الآية «١».
وقوله تعالى: إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً أي: تعففاً، ليس قيداً في النهي عن الإكراه، بل جرى على سبب النزول، فالإكراه: إنما يُتَصَوَّرُ مع إرادة التَّحَصُّنِ لأن المطيعة لا تسمى مكرهة، ثم خصوص السبب لا يُوجب تخصيص الحُكم على صورة السبب، فلا يختص النهي عن الإكراه بإرادة التعفف، وكذلك الأمر بالزنا، والإذن فيه لا يُبَاحُ ولا يجوز شيء من ذلك للسيد، وما يقبض من تلك الناحية سُحْتٌ وربا. وفيه توبيخ للموالي لأن الإماء إذا رغبن في التحصن فأنتم أولى بذلك، ثم علل الإكراه بقوله: لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: لتبتغوا بإكراههن على الزنا أجورهن وأولادهن، جيءَ به تشنيعاً لهم على ما هم عليه من أحمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير، أي:
لا تفعلوا ذلك لطلب المتاع السريع الزوال، الوشيك الاضمحلال.
يكرههما على الزنا، فشكتا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ).
وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ موضّحات، أو: واضحات المعنى، والمراد: الآيات التي بُينت في هذه السورة، وأوضحت معاني الأحكام والحدود. وهو كلام مستأنف جيء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة لبيان جلالة شأنها، المقتضي للإقبال الكلي على العمل بمضمونها. وصُدر بِالْقَسَمِ الذي تُعرب عنه اللام لإبراز كمال العناية بشأنها. أي: والله، لقد أنزلنا إليكم، في هذه السورة الكريمة، آيات مبينات لكل ما لكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام، وإسناد البيان إليها: مجازي، أو: آيات واضحات تصدقها الكتب القدسية والعقول السليمة، على أن «مُبَيِّنات» مِنْ بيَّن، بمعنى تبيّن، كقولهم في المثل: «قد بيَّن الصبح لذي عينين» أي:
تبين. ومن قرأها بالبناء للمفعول، فمعناه: قد بيَّن الله فيها الأحكام والحدود. وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أي: وأنزلنا مثلاً من أمثال مَنْ قَبْلَكُم، من القصص العجيبة، والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة، والكلمات الجارية على ألسنة الأنبياء والحكماء، فتنتظم قصة عائشة- رضي الله عنها- المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مَرْيَمَ، وسائر الأمثال الواردة في السورة الكريمة، انتظاماً واضحاً.
وتخصيص الآيات البينات بالسوابق، وحمل المثل على قصة عائشة المحاكية لقصة يوسف ومريم، يأباه تعقيب الكلام بما سيأتى من التمثيلات.
وَأنزلنا مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ يتعظون بها، وينزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخُل بمحاسن الآداب، والمراد: ما وعظ به من الآيات والمثل، مثل قوله: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ «١»، ولَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ.. «٢» إلخ، يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ «٣».
وتخصيص المتقين لأنهم المنتفعون بها، المغتنمون لآثارها، المقتبسون لأنوارها، ومدار العطف هو التَّغَايُرُ العنواني المُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ التغايُرِ الذاتي. وقد خصَّت الآيات بما بيّن الأحكامَ والحدودَ، والموعظة بما وعظ به من
(٢) الآية: ١٢ من سورة النور.
(٣) الآية: ١٧ من سورة النور.
الإشارة: كل من أمر بالمعصية ودلَّ عليها، أو رضي فعلها، فهو شريك الفاعل في الوزر، أو أعظم. وكل من أمر بالطاعة ودلّ عليها فهو شريك الفاعل في الثواب، أو أعظم. وفي الأثر: «الدَّالُّ عَلَى الخَيْرِ كَفَاعِلِه» «١».
قال القشيري: حامِلُ العاصي على زَلَّته، والداعي له إلى عَثْرَته، والمُعِينُ له على مخالفته، تتضاعف عليه العقوبة، وله من الوِزْرِ أكثرُ من غيره، وعكسه لو كان الأمر في الطاعة والإعانة على العبادة. هـ. ومن هذا القبيل:
تعليم العلم لمن تحقق أنه يطلب به رئاسةً أو جاهاً، أو تَوَصُّلاً إلى الدنيا المذمومة، أو عَلِمَ منه قصداً فاسداً، فإن تحقق ذلك وعَلِمَه، فهو مُعين له على المعصية، كمن يعطي سيفاً لمن يقطع به الطريق على المسلمين. والله تعالى أعلم.
ثم إن أنوار الشريعة، وهى أحكام المعاملة الظاهرة، تهدى إلى أنوار الطريقة، وهى أحكام المعاملة الباطنة، وأنوار الطريقة تهدى إلى أنوار الحقيقة، وأنوار الحقيقة تصيّر الكون كلّه نورا، كما قال تعالى:
[سورة النور (٢٤) : آية ٣٥]
اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٣٥)
يقول الحق جلّ جلاله: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: منور أهلهما [بنور الإسلام والإيمان لأهل الإيمان] «٢»، وبنور الإحسان لأهل الإحسان، فحقيقة النور: هو الذي تنكشف به الأشياء على ما هي عليه، حسية أو معنوية، والمراد هنا: المعنوية بدليل قوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ، فإن انكشف به أحكام العبودية، باعتبار المعاملة الظاهرة، يُسمّى: نُورُ الإسلام، وإن انكشف به أوصاف الذات العلية وكمالاتها، من طريق البرهان، يُسمى: نُور الإيمان، وإن انكشف به حقيقة الذات وأسرارها، من طريق العيان، يُسمى: نور الإحسان. فالأول: يشبه نور النجوم، والثاني:
نور القمر، والثالث: نور الشمس، ولذلك تقول الصوفية: نجوم الإسلام، وقمر الإيمان، وشمس العرفان.
(٢) أرى أن تكون العبارة هكذا [بنور الإسلام لأهل الإسلام، وبنور الإيمان لأهل الإيمان].
تَوَقَدُ «١» بالتخفيف والتأنيث، أي: الزجاجة، أو يُوقَدُ بالتخفيف والغيب، أو: تَوَقَّدَ بالتشديد، أي:
المصباح مِنْ شَجَرَةٍ أي: من زيت شجرة الزيتون، أي: رويت فتيلته من زيت شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ كثيرة المنافع، أو: لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين، وهي الشام، وقيل: بارك فيها سبعون نبياً، منهم إبراهيم عليه السلام.
زَيْتُونَةٍ: بدلٌ من شَجَرَةٍ، من نعتها لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ أي: ليست شرقية فقط، لا تُصيبها الشمس إلا في حالة الشروق، ولا غربية، لا تصيبها إلا في حال الغروب، بل هي شرقية غربية، تصيبها الشمس بالغداة والعشي، فهو أنضر لها، وأجود لزيتونها. وقيل: ليست من المشرق ولا من المغرب، بل في الوسط منه، وهو الشام، وأجودُ الزيتونِ زيتون الشام.
يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مسَاسٍ نَارٍ أصلاً. نُورٌ عَلى نُورٍ أي: نور المصباح متضاعف على نور الزيت الصافي، فهذا مثال النور الذي يقذفه الله في قَلبِ المؤمن فالمشكاة هو الصدر، والمصباح نور الإيمان أو الإسلام أو الإحسان، على ما تقدم، والزجاجة هو القلب الصافي، ولذلك شبهه بالكوكب الدُرّيّ، والزيت هو العِلْمُ النافع الذي يقوي اليقين. ولذلك وصفه بالصفاء والإنارة. يكاد صاحبه تشرق عليه أنوار الحقائق، ولو لم يمسسه علمها. نُورٌ عَلى نُورٍ أي: نور الإيمان مُضَافٌ إلى نور الإسلام، أو نور الإحسان مضاف إلى نور الإيمان والإسلام،
الإشارة: اعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطْعةٌ من نور الحق، وسر من أسرار ذاته، مُلْكٌ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت، فالكائنات كلها: الله نُورُها وسرُّها، وهو القائم بها. ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله، وحسبُ مَن لم يَبلُغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه، وتحققوه ذوقاً وكشفاً.
ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلاً لنوره الفائض من بحر جبروته، فقال: مَثَلُ نُورِهِ الظاهر، الذي تجلى به في عالم الشهادة، كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ أي: كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ، خرج منها نور كثيف كالمصباح، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ، انفجر من النور، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله: الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ..... إلخ. فالآية كلها من تتمه التمثيل.
وقوله تعالى: وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قيل: الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة، فيستغني عن الوسائط. وقوله تعالى: نُورٌ عَلى نُورٍ أي: نور ملكوته على نور جبروته، يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ أي: لشهود نوره، أو لمعرفة نوره، مَنْ يَشاءُ من خواص أحبابه، كأنبيائه وأوليائه، فمن لم يشهد هذا النور، ولم يعرفه، لا خصوصية له يتميز بها عن العوام، فهو من عامة أهل اليمين، ولو كثر علمه وعمله إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب. وفي الحِكَم: «الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته»، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله: (أو كظلمات..) إلخ.
وفي الحِكَم. «الكون كله ظلمة، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه، أو عنده، أو قبله أو بعده، فقد أعوزه وجود الأنوار، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار» «١». فالكون عند أهل العيان كله نور، وعند أهل الحجاب كله ظلمة، وهو محيط بهم، فالظلمة محيطة بهم، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه:
فَالنُّورُ يُظْهِرُ مَا تَرَى مِنْ صُورَةٍ | وبه ظهور الكَائِنَاتِ بِلاَ امْتِرَاءِ |
ثم ذكر محل ظهور ذلك المصباح، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (٣٦) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (٣٧) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٨)
قلت: (في بيوت) : يتعلق بمشكاة، أي: كائنة في بيوت، أو توقد، أو بيسبح، أي: يسبح له رجال في بيوت، وفيه تكرير لزيادة التأكيد، نحو: زيد في الدار جالس فيها، أو بمحذوف، أي: سبّحوا في بيوت. و (أَذِنَ) : نَعْتٌ له.
يقول الحق جلّ جلاله: وذلك النور الذي في المشكاة يكون فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ، وهي المساجد والزوايا المُعدَّة لذكر الله والصلاة وتلاوة القرآن. ورفعها: تعظيمها. أي: التي أمر الله بتعظيمها كتطهيرها من الخبث، وتنقيتها من القذى، وتعليق القناديل ونصب الشموع، ويزاد التعظيم في شهر رمضان. ومن تعظيمها:
غلقها في غير أوقات الصلاة، وقيل المراد برفعها: بناؤها، كقوله تعالى:.. بَناها رَفَعَ سَمْكَها.. «١»، وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ «٢»، والأول أصح.
وَأذن أيضاً أن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ، وهو عام في جميع الذِّكْر، مفرداً أو جماعة، ويدخل فيه تلاوة القرآن. يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي: يصلي له فيها بالغداة: صلاة الفجر، والآصال: صلاة الظهر
(٢) من الآية ١٢٧ من سورة البقرة.
مرفوع بمحذوف، دل عليه يُسَبِّحُ أي: يسبحه رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ: لا تشغلهم تِجارَةً في السفر، وَلا بَيْعٌ في الحضر، عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ باللسان والقلب، وقيل: التجارة: الشراء، أي: لا يشغلهم شراء ولا بيع عن ذكر الله، والجملة: صفة لرجال، مؤكدة لما أفاده التنكير من الفخامة، مفيدة لكمال تَبَتُّلِهِمْ إلى الله تعالى، واستغراقهم فيما حكى عنهم من التسبيح من غير صارف يلويهم ولا عاطف يثنيهم.
وتخصيصُ التِّجَارَةِ بالذكر لكونها أقوى الصوارف عندهم وأشهرها، أي: لا يشغلهم نوع من أنواع التجارة، ولا فرد من أفراد البياعات، وإن كان في غاية الربح. وإفراده بالذكر، مع اندراجه تحت التجارة لأنه ألهى لأن ربحه متيقن ناجز في الغالب، وما عداه متوقع في ثانى الحال.
وَلا يشغلهم ذلك أيضاً عن إِقامِ الصَّلاةِ أي: إقامتها لمواقيتها من غير تأخير، وأصله: وإقامة، فأسقطت التاء المعوضة عن العين الساقطة بالإعلال، وعوض عنها الإضافة، فأقيمت الإضافة مقام التاء، وَإِيتاءِ الزَّكاةِ أي: وعن إيتاء الزكاة، وذكرها، وإن لم يكن مما تفعل في البيوت، لكونها قرينتها لا تفارق إقامة الصلاة في عامة المواضع، مع ما فيه من التنبيه على أن مَحَاسِنَ أعمالهم غَيْرُ مُنْحَصِرَةٍ فيما يقع في المساجد.
والمعنى: لا تجارة لهم حتى تلهيهم، أو يبيعون ويشترون ويذكرون الله مع ذلك، لا يشغلهم عن ذكر الله شيء، وإذا حضرت الصلاة قاموا إليها مسرعين. يَخافُونَ يَوْماً أي: يوم القيامة تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ أي: تضطرب وتتغير من الهول والفزع، وتبلغ إلى الحناجر، وَتتقلب الْأَبْصارُ بالشخوص أو الزرقة. أو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفران، والأبصار إلى العيان بعد النكران، كقوله: فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «٢».
يفعلون ذلك الاستغراق في التسبيح والذكر، مع الخوف لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أي: أحسن جزاء أعمالهم، حسبما وعدهم بمقابلة حسنة بعشر أمثالها إلى سبع مائة ضعف، وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أي: يتفضل عليهم بأشياء وعدهم بها، لم تخطر على بال كالنظر إلى وجهه، وزيادة كشف ذاته، فهو كقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ «٣». وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ أي: يثيب من يشاء ثواباً لا يدخل تحت حساب الخلق، و «مَنْ» : واقعة على من ذُكِرَتْ أوصافهم الجميلة، كأنه قيل: والله يرزقهم بغير حساب، ووضعه موضع
(٢) من الآية ٢٢ من سورة ق.
(٣) من الآية ٢٦ من سورة يونس.
الإشارة: البيوت التي أَذِنَ الله أن تُرفع هي القلوب، التي هي معدن الأسرار ومحل مصابيح الأنوار، ورفعها:
صونها من الأغيار، وتطهيرها من لوث الأكدار، وبُعدها من جيفة الدنيا، التي هي مجمع الخبائث والأشرار، ليُذكَرَ فيها اسم الله، كثيرا، على نعت الحضور والاستهتار، وإنما يمكن ذلك من أهل التجريد والانقطاع إلى الله، الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب عن حضرة الله، والأبصار عن شهود الله، وذلك بشؤم الغفلة في الدنيا عن الله، والقيام بحقوق الله، ليجزيهم الله أحسن ما عملوا، في جنة الزخارف، ويزيدهم من فضله التَّنَزُّهَ في جنة المعارف. والله يرزق من العلوم والمعارف من يشاء بغير حساب.
ثم ذكر ضد أهل النور، وهم أهل الظلمة، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماء حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٣٩) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (٤٠)
قلت: «كسراب» : خبر الثاني، وهو: ما يروى في الفلوات من لمعان الشمس وقت الظهيرة، يسرب على وجه الأرض، فَيُظَنُّ أنه ماء يجري. و (بقيعة) : متعلق بمحذوف، صفة لسراب، أي: كائن بأرض قيعة، أي: منبسطة، و (سحاب ظلمات) : مَنْ جَرَّها: فبالإضافة «١»، ومن رفعها: فخبر، أي: هي ظلمات.
يقول الحق جلّ جلاله، في بيان أعمال الكفرة وظلمة قلوبهم، بعد بيان حَالِ المؤمنين وأنوار قلوبهم:
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ التي هي من أبواب البر، كصلة الرحم، وفك العُنَاةِ، وسقاية الحاج، وعمارة البيت، وإغاثة الملهوف، وَقِرَى الأضياف، ونحوها، مما لَوْ قارنه الإيمان لا ستوجب الثواب، مثاله: كَسَرابٍ
وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب العباد في ساعة لأنه لا يحتاج إلى عد وعقد، ولا يشغله حساب عن حساب، أو قَرِيبٌ حسابُه لأنَّ كل آتٍ قريبٌ. شبه ما يعمله الكفرة من البر، الذي يعتقد أنه ينفعه يوم القيامة وينجيه من عذاب الله، ثم يخيب في العاقبة أَملُهُ، ويلقى خلاف ما قدّر، بسراب يراه الكافر بالساهرة، وقد غلبه عطش يوم القيامة، فيحسبه ماء، فيأتيه، فلا يجد ما رجاه، ويجد زبانية الله، فيأخذونه إلى جهنم، فيسقونه الحميم والغساق. قيل: هم الذين قال الله فيهم: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ «١»، ويَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «٢». قيل: نزلت في عتبة بن ربيعة بن أمية، كان ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، والتمس الدين، فلما جاء الإسلام كفر. هـ.
ثم ضرب مثلاً لأعمالهم في الدنيا، فقال: أَوْ كَظُلُماتٍ، «أو» : للتنويع، فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ عميق كثير الماء، منسوب إلى اللج، وهو معظم ماء البحر، يَغْشاهُ أي: يغشى البحر، أو مَن فيه، أي: يعلوه ويغطيه بالكلية، مَوْجٌ هو ما ارتفع من الماء، مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي: من فوق الموج موج آخر، مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ من فوق الموج الأعلى سحاب، ظُلُماتٌ أي: هذه ظلمات ظلمة السحاب، وظلمة الأمواج، وظلمة البحر، بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ ظلمة الموج على ظلمة البحر، وظلمة الموج على ظلمة الموج الأسفل، وظلمة السحاب على الموج، وهذا أعظمُ للخوف وأقربُ للعطب، لأنه يغطي النجوم التي يهتدي بها ويشتد معه الريح والمطر، وذلك يؤكد التلف، إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ أي: الواقع فيه، أو مَن ابْتُلِيَ بها، لَمْ يَكَدْ يَراها مبالغة في «لم يرها» أي: لم يقرب أن يراها، فضلاً عن أن يراها. شبّه أعمالهم، في ظلمتها وسوادها لكونها باطلة، وخلوها عن نور الحق، بظلماتٍ متراكمة من لج البحر والأمواج والسحاب.
قال ابن جُزَيّ: لمَّا ذكر حال المؤمنين عَقَّبَ ذلك بمثالين لأعمال الكفار الأول: يقتضي حال أعمالهم في الآخرة، وأنها لا تنفعهم، بل يضمحل ثوابها كما يضمحل السراب. والثاني: يقتضي حال أعمالهم في الدنيا، وأنها في غاية الفساد والضلال، كالظلمة التي بعضها فوق بعض. ثم قال: وفي وصف هذه الظلمات مبالغة، كما أن فى
(٢) الآية ١٠٤ من سورة الكهف.
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً في قلبه، من نور توحيده ومعرفته، فَما لَهُ مِنْ نُورٍ أي: من لم يشأ الله أن يهديه لنوره: لم يهتد، وفي الحديث: «خلق الله الخلق في ظلمة، ثم رش عليها من نوره، فمَن أصابه ذلك النور اهتدى، ومَن أخطأه ضل»، وينبغى للقارىء عند هذه الآية أن يقول: (اللهمَّ اجعلْ في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن شمالي نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، واجعلني نوراً، وأعظم لي نوراً) «١»، كما في الحديث في غير هذا المحل.
الإشارة: كل مَن لم يتحقق بمقام الإخلاص كانت أعماله كسرابٍ بقيعة، يحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده، فوفاه حسابه، أي: يناقشه فيما أراد بعمله، وأهل التوحيد الخاص: الوجود كله، عندهم، كالسراب، يحسبه الناظر إليه شيئاً، حتى إذا جاءه بفكرته لم يجده شيئاً، ووجد الله عنده وحده، وفيه يقول الشاعر:
مَن أبصرَ الخلقَ كالسرابِ | فقَد تَرقَّى عن الحجابِ |
إِلى وُجودٍ تراهُ رَتْقاً | بِلاَ ابتعادٍ ولا اقْتِرابِ |
ولم تُشَاهِدْ به سواهُ | هناك يهدى إلى الصوابِ |
فَلا خِطابَ بِه إليهِ | وَلا مُشِيرَ إلى الخِطَابِ |
ثم ذكر علامات وجود ذلك النور المتقدم فى أهل السموات والأرض، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٤١) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٤٢)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ يا محمد، وخصَّه بالخطاب إيذاناً بأنه ﷺ قد أفاض عليه أعلى مَرَاتِبَ النور وأجلاها، وبيَّن له من أسرار الملكوت أجلهَا وأخفاها، أي: ألم تنظر بعين بصيرتك، فتعلم علم يقين، أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ أي: ينزهه على الدَّوَامِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من العقلاء وغيرهم، تنزيهاً معنوياً، فإن كلا من الموجودات يدل على وجود صانع واجب الوجود، متصف بصفات الكمال، مقدس عن كل ما لا يليق بعلو شأنه. أو: تنزيهاً حسياً بلسان المقال، وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُون تَسْبِيحَهُمْ. وتخصيص التنزيه بالذكر، مع دلالة ما فيهما على اتصافه تعالى بنعوت الكمال أيضأً لأن مساق الكلام تَقْبيحُ حَالِ الكفرة في إخلالهم بالتنزيه بجعلهم الجمادات شركاء له ودعوى اتخاذه الولد.
وَيسبحه الطَّيْرُ حال كونها صَافَّاتٍ أي: يصففن أجنحتهن في الهواء، وتخصيصها بالذكر، مع اندراجها في جملة ما في الأرض لعدم استمرار قرارها فيها، ولاختصاصها بصنع بارع، وهو اصطفاف أجنحتها في الجو، وتمكينها من الحركة كيف تشاء، وإرشادها إلى كيفية استعمالها بالقبض والبسط، ففي ذلك دلالة واضحة على كمال قدرة الصانع المجيد، وغاية حكمة المبدئ المعيد.
كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ أي: كل واحد من الأشياء المذكورة قد عَلِمَ الله تعالى صَلاتَهُ، أي: دعاءه وخضوعه وتسبيحه. أو: كلٌّ قد علم في نفسه ما يصدر عنه من صَلاَةٍ وتسبيح، فالضمير: ما إليه أو لكلٌ. ولا يبعد أن يلهم الله الطيرَ دعاءه وتسبيحه كما ألهمها سائر العلوم الدقيقة، التي لا يكاد العقلاء يهتدون إليها. وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ لا يعزب عن علمه شيء.
الإشارة: ما استقر في السموات السبع والأرضين السبع كله من قَبْضَةِ النُّور الأوَّلِيَّةِ، بين حس ومعنى، حسه خاضع لأحكام الربوبية، ومعناه قاهر بسطوات الألوهية، حسه حِكْمةٌ، ومعناه قدرة، حسه مُلْكٌ، ومعناه ملكوت، وهذا معنى قوله: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، فافهم.
ثم ذكر جزئيات من تلك النور، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (٤٣) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (٤٤)
يقول الحق جلّ جلاله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي أي: يسوق، برفق وسهولة، سَحاباً: جمع سحابة، ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ أي: يضم بعضه إلى بعض، ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكماً بعضه فوق بعض، فَتَرَى الْوَدْقَ: المطر، يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ من فُتُوقِهِ ووسطه، جمع خَلل، كجبال وجبل، وقيل: مفرد، كحجاب وحجاز.
قال القشيري: ترتفع بقدرته بُخَارَاتُ البحر، فيتصعد، بتسييره وتقديره، إلى الهواء، وهو السحاب، ثم يديره إلى سَمْتِ يريد أن ينزل به المطر، ثم ينزل ما في السحاب من ماء البحر، قطرة قطرة، ويكون الماء، حين حصوله في بخارات البحر، غير عذب، فيقلبه عذباً، ويَسُحُّهُ السحابُ سَكْباً، فيوصل إلى كلِّ موضع قَدْراً يكون له مُراداً معلوماً، لا بالجهدِ مِنَ المخلوقين يُمْسَكُ عن المواضع الذي عليه ينزله، ولا بالحيلة يُسْتَنْزلُ على المكانِ الذي لا يُمْطِره. هـ. قلت: وهذا أحد الأقوال فى حقيقة المطر، والمشهور عند أهل السنة: أن الله تعالى يُنْشِىءُ السحاب بقدرته، ويخلق فيه الماء بحكمته، وينزله حيث شاء.
قال ابن جزي: قيل: إن الجبال هنا حقيقة، وإن الله جعل في السماء جبالاً من بَرَد، وقيل: إنه مجاز، كقولك:
عند فلان جبال من مال أو عِلم، أي: هن في الكثرة مثل الجبال. هـ. وأصله لابن عطيه. وقال الشيخ أبو زيد الثعالبي: حَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى، إن لم يمنع من ذلك مانع. هـ. يعني: ولا مانع هنا، فيحمل على ظاهره، وإن الله خلق جبال بَرد في السماء. وقال الهروي عن ابن عرفة- يعنى اللغوي-: سمعت أحمد بن يحيى يقول: فيه قولان: أحدهما: وينزل من السماء بردا من جبال فى السماء من برد، والآخر: وينزل من السماء أمثال الجبال من البَرَد. ويقال: إنما سمي برَدَاً لأنه يَبْرُدُ وجه الأرض أي: يُقشره. هـ.
قال البيضاوي: إن الأبخرة إذا تصاعدت ولم يتخللها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، وقوي البرد هناك، اجتمع وصار سحاباً، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً، وإن اشتد، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها، نزل ثلجاً، وإلاّ نزل بَرَداً، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض، وينعقد سحاباً، وينزل منه المطر أو الثلج. وكل ذلك لا بد وأن يُسْنَدَ إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالِّها وأوقاتها، وإليه أشار بقوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ والضمير للبرَد. هـ. أي:
فيصيب بذلك البَرَد من يشاء أن يصيبه به، فيناله ما ناله من ضرره في بدنه وماله من زرع أو غيره. وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ أن يصرفه عنه، فينجو من غائلته.
يَكادُ سَنا بَرْقِهِ أي: ضوء برق السحاب، الموصوف بما مر من الإزجاء والتآلف. وإضافة البرق إليه، قبل الإخبار بوجوده، فيه إيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به. وقيل: الضمير للسماء، وهو أقرب، أي: يكاد ضوء برق السماء، ويحتمل أن يعود على «الله» تعالى لتقدم ذكره، أي: يكاد ضوء برقه تعالى يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ، أي: يخطفها من فرط الإضاءة، وسرعة ورودها، ولو عند إغماضها. يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أي: يصرفهما بالتعاقب، فيأتي هذا بعد هذا، أو ينقص أحدهما وزيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما.
إِنَّ فِي ذلِكَ، الإشارة إلى ما فصل آنفاً، أي: إن في إزجاء السحاب، وإنزال الودق، وتقليب الليل والنهار،
الإشارة: ألم تر أن الله يُزجي سحابَ الواردات الإلهية، تحمل العلوم اللدنية، ثم يُؤلف بينه حتى يكون قوياً، يُقتطع به صاحبه عن حسه، ويغيبه عن أمسه ورسمه، فترى أمطار العلوم اللدنية، والأسرار الربانية، والفتوحات العرفانية، تخرج من خلاله، أي: من قلب العارف، وهي نتائج الواردات وثمراتها. وفي الحكم: «لا تزكين واردا لم تعلم ثمرته، فليس المراد من السحابة الأمطار، وإنما المراد منها وجود الأثمار».
وينزل من سماء الأرواح من جبالِ عقولٍ، فيها علم الرسوم الظاهرة، فيصيب به من يشاء، ممن أريد لحمل الشرائع والقيام بها، ويصرفه عمن يشاء، ممن أريد أن يكون من عامة الناس، أو من خاصتهم. إن هبت عليه رياح الحقائق، فأمطرت على قلبه العلوم الغيبية فأغنته عن العلوم الرسمية، يكاد سنا برقه الساطع لقلوب أوليائه، وهو سطوع أنوار الملكوت وأسرار الجبروت، فإنها تكون أولاً كالبرق، تلمع وتخفي، ثم يتصل ورودها وشروقها، فتكون متصلة البروق دائمة الشروق، نهار بلا ليل، واتصال بلا انفصال، ووصال بلا انقطاع. وفي ذلك يقول القائل:
طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بلَيلٍ | واستنَارَت، فمَا تَلاها غُرُوبُ |
إنَّ شَمْسَ النهار تَغرُبُ بالَّليلِ | وشَمسُ القُلوبِ ليْس لَهَا مَغِيبُ |
ولمّا ذكر التجليات العلوية ذكر التجليات السفلية، فقال:
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٥]
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ أي: خلق كل حيوان يدب على وجه الأرض مِنْ ماءٍ من نوع من الماء مختص بتلك الدابة، وهو جزء مادته عند الأطباء، أو: من ماء مخصوص، وهو النطفة،
قالوا: أنَّ أول ما خلق الله الماء، فخلق منه النار والريح والطين، فخلق من النار الجن، ومن الريح الملائكة، ومن الطين آدم ودواب الأرض. قال النسفي. وعلى الثاني: تكون الآية أغلبية لأن مِن الحيواناتِ من يتولد من غير نطفة، كالدود والبَعُوضِ وغيرهما.
ثم فصّل أحوالهم بقوله: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحية والحوت، وتسمية حركتها مشياً، مع كونها زحفاً، استعارة، كما يقال في الشيء المستمر: قد مشى هذا الأمر على هذا النمط، او على طريق المشاكلة لذكر الزاحف مع الماشين. وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنسان والطير، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالبهائم والوحش. وعدم التعرض لما يمشي على أكثر من أربع كالعناكب ونحوها من الحشرات لعدم الاعتداد بها، لقلتها. وتذكير الضمير في (منهم) لتغليب العقلاء، وكذلك التعبير بكلمة (مَن). وقدَّم ما هو أغرق في القدرة، وهو الماشي بغير آلة، ثم الماشي على رجلين، ثم الماشي على أربع.
يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ مما ذكر ومما لم يذكر، بَسيطاً أو مركباً، على ما يشاء من الصور والأعضاء والهيئات والطبائع والقوى والأفاعيل، مع اتحاد العنصر إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء كما يشاء. وإظهار الاسم الجليل في الموضعين في موضع الإضمار لتفخيم شأن الخلق المذكور، والإيذان بأنه من أحكام الألوهية. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أظهر الحق تعالى الأشياء من الماء، وأظهر الماء من نور القبضة، وأظهر القبضة من بحر سر الذات. أو تقول: أظهر الماء من نور الملكوت، وأبرز نور الملكوت من بحر الجبروت، وبحر الجبروت هو بحر أسرار
(٢) من الآية ٣٠ من سورة الأنبياء.
تَجلَّى حَبِيبي فِي مَرَائِي جَمَالِهِ | فَفِي كُلِّ مَرْئِيّ لِلْحَبِيبِ طَلاَئِعُ |
فَلَمَّا تَبَدَّى حُسْنُه مُتَنَوِّعاً | تَسَمَّى بِأَسْمَاءٍ فَهُنَ مَطَالِعُ. |
[سورة النور (٢٤) : آية ٤٦]
لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٤٦)
يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ لكل ما يليق بيانه من الأحكام الديني، ة والأسرار التكوينية. أو: موضحات، أوضحنا بها ما يحتاجون إليه من علم الشرائع والأحكام، وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ توْفِيقَه إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: دين قيِّم يُوصل إلى رضوان الله ومعرفته.
الإشارة: لقد أنزلنا من بحر الجبروت أنواراً ساطعة لعالم الملكوت، والله يهدي من يشاء إلى طريق شهود هذه الأنوار. فالطريق المستقيم هي التي تُوصل إلى حضرة العيان، على نعت الكشف والوجدان، وهي ثلاثة مدارج:
المدرج الأول: إتقان الشريعة الظاهرة، وهي تهذيب الظواهر وتأديبها بالسُنَّة والمتابعة. والمدرج الثاني: إتقان الطريقة، وهي تهذيب البواطن وتصفيتها من الرذائل، فإذا تطهر الباطن، وكمل تهذيبه، أشرف على المدرج الثالث، وهو كشف الحقائق العرفانية والأسرار الربانية، فيفنى مَن لم يكن، ويبقى مَن لم يزل، فيقع العيان عل فقد الأعيان، وتشرق شمس العرفان فتغطي وجودَ الأكوان. وبالله التوفيق. «١»
ولما ذكر إنزال الآيات ذكر افتراق الناس إلى ثلاث فرق، فرقة آمنت ظاهرا وكفرت باطنا، وهم المنافقون، وفرقة آمنت ظاهرا وباطنا، وهم المخلصون، وفرقة كفرت ظاهرا وباطنا وهم الكافرون، وبدأ بالأولى، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٧) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (٤٨) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (٤٩) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٥٠)
قال الحسن: نزلت في المنافقين، الذين كانوا يُظهرون الإيمان ويًسرون الكفر. وقيل: نزلت في «بِشْر» المنافق، خاصم يهودياً، فدعاه إلى كعب بن الأشْرَف، ودعاه اليهودي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال بشر: لا، إن محمداً يحيفُ علينا «١» - قبح الله سعيه. وقيل: في المغيرة بن وائل، خاصم عليّا رضي الله عنه في أرض وماء، فأبى أن يتحاكم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأيا ما كان فصيغة الجمع تدل على أن للقائل طائفة يساعدونه ويشايعونه فى تلك المقالة.
ثم حكم عليهم بالكفر، فقال: وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ أي: المخلصين، والإشارة إلى القائلين: آمنا بالله وبالرسول، لا إلى الفريق المتولي منهم فقط، لئلا يلزم نفي الإيمان عنهم فقط، دون مَنْ قبلهم، بخلاف العكس، فإن نفى الإيمان عن القائلين يقتضي نفيه عنهم، على أبلغ وجه وآكده، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببُعد منزلتهم في الكفر والفساد.
وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: إلى رسول الله ﷺ لأن حُكمَه حكمُ الله، لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي:
ليحكم الرسول بينهم لأنه المباشر للحُكم حقيقة، وإن كان ذلك حكم الله في الحقيقة لأنه خليفته. وذكر الله تعالى لتفخيم شأنه عليه، والإيذان بجلالة قدره عنده. فإذا دُعُوا إلى التحاكم بينهم إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ أي:
فاجأ فريق منهم الإعراض عن المحاكمة إليه ﷺ لكون الحق عليهم، وقد علموا أنه ﷺ يحكم بالحق على من كان.
وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ على غيرهم يَأْتُوا إِلَيْهِ إلى الرسول مُذْعِنِينَ مسرعين في الطاعة، طلباً لحقهم، لا رضاً بحُكم رسولهم. قال الزجاج: والإذعان: الإسراع مع الطاعة. والمعنى: أنهم لمعرفتهم أنك لا تحكم إلا بالحق المُر والعدل المحض، يمتنعون من المحاكمة إليك، إذا ركبهم الحق، لئلا تنزعه منهم بقضائك عليهم لخصُومهم، وإن ثبت لهم حق على خصم أسرعوا إليك، ولم يرضوا إلا بحكومتك، لتأخذ لهم ما وجب لهم على خصمهم.
الإشارة: ترى فريقاً من الناس يدّعون الإيمان والطاعة والمحبة، ونفوسهم غالبة عليهم، فإذا دُعُوا إلى من يحكم بينهم وبينها، بأن يأمرهم بمجاهدتها أو قتلها إذا فريق منهم معرضون، وإن يكن لهم الحق، بأن وجدوا من يدلهم على البقاء مع عوائدها وشهواتها، يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم شك ووَهْم، أم ارتابوا في وجود الطبيب، أم يخافون أن يحيف الله عليهم؟ بأن يدلهم على من يتعبهم ولا يبرئهم، حيث حسّنوا الظن به والتجئوا إليه، فلا يدلهم إلا على من يوصلهم إليه، بل أولئك هم الظالمون لنفوسهم، حيث حرموها الوصول، وتركوها في أودية الشكوك والخواطر تجول. قال الورتجبي: وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أي: دُعوا إلى مشاهدة الله بنعت المحبة والمعرفة، وعبودية بنعت الإخلاص، ودُعُوا إلى رسوله بالمتابعة والموافقة في الشريعة والطريقة. هـ.
ثم ذكر الفريق الثاني، وهم المخلصون، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٥١) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (٥٢)
قلت: (قول) : خَبَرُ «كَانَ» مُقَدَّمٌ، و (أن يقولوا) : اسمها مؤخر، وقرأ الحسن: بالرفع على الاسمية، والأول:
أرجح صنَاعةً، والثاني: أظهر دلالة، وأكثر إفادة. انظر أبا السعود.
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، هذا استئناف جيء به لتقرير ما قبله من حسن حال المؤمنين، وترغيب مَن عَدَاهم في الانتظام في سلكهم، أي: وَمَن يُطع الله وَرَسُولَهُ، كائناً من كان، فيما أمَرَا به من الأحكام الشرعية اللازمة والمتعدية، وقيل: من يطع الله في فرائضه، ورسولَهُ في سننه. وَيَخْشَ اللَّهَ على ما مضى من ذنوبه، وَيَتَّقْهِ فيما يستقبل من عمره، فَأُولئِكَ الموصوفون بما ذك ر من الطاعة والخشية، والاتقاء، هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم، لاَ مَنْ عَدَاهُم.
وعن بعض الملوك: أنه سأل عن آية كافية، فتُليت عليه هذه الآية. وهي جامعة لأسباب الفوز. قال القرطبي:
ذكر أسلم: أن عمر بينما هو قائم فى مسجده ﷺ فإذا رجل من دهاقين الروم قائم على رأسه، وهو يقول:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، فقال له عمر: ما شأنك؟ قال: أسلمت، قال: ألهذا سبب؟ قال:
نعم إني قرأت التوراة والزبور والإنجيل، وكثيراً من كتب الأنبياء، فسمعت أسيراً يقرأ آية من القرآن، جمع فيها كل ما في الكتب المتقدمة، فعلمت أنه من عند الله، فأسلمت. قال: ما هذه الآية؟ قال قوله تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في الفرائض، وَرَسُولَهُ في السنن، وَيَخْشَ اللَّهَ فيما مضى من عمره، وَيَتَّقْهِ فيما بقي، فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ والفائز: من نجا من النار واُدْخِل الجنة، فقال عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُعطيتُ جوامع الكلم «١» ». هـ «٢». والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنما كان قول المؤمنين الكاملين، الطالبين الوصول إلى حضرة رب العالمين، إذا دُعوا إلى حضرة الله ورسوله ليحكم بينهم وبين نفوسهم التي حجبتهم حتى يغيبوا عنها، أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، ويدخلوا تحت تربية المشايخ، فإذا أمروهم أو نهوهم، قالوا: سمعنا وأطعنا، وأولئك هم المفلحون الفائزون بالوصول إلى الله تعالى.
ومن يطع الله في أمره ونهيه، ورسوله في سنَّته، وما رغَّب فيه، ويخش الله أن يعاتبه، أو يؤدبه، ويتقه، أي: يجعل
(٢) انظر تفسير القرطبي (٥/ ٤٨١٩).
ثم رجع إلى تتمة القسم الأول، حاكيا بعض جنايتهم، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٣ الى ٥٤]
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٥٣) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٥٤)
قلت: (جهد) : مصدر مؤكد لفعله، الذي هو فى حيز النصب على الحال، من فاعل «أقسموا»، ومعنى جَهْدِ اليمين: بلوغ غايتها بطريق الإستعارة، من قولهم: جهد نفسه: إذا بلغ أقصى وسعها وطاقتها. وأصل أقسم جهد اليمين: أقسم بجهدِ اليمين جَهداً، فحذف الفعل وقدم المصدر، فوضع موضعه مضافاً إلى المفعول، كقوله:
فَضَرْبَ الرِّقابِ «١» وحكم هذا المنصوب حكم الحال، كأنه قال: أقسموا جاهدين أيمانهم. و (طاعة) : مبتدأ حُذف خبره، أي: طاعة معروفة أولى من تسويفكم، أو: خبر عن محذوف، أي: الذي يطلب منكم طاعة معروفة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأَقْسَمُوا
أي: المنافقون بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ
أي: بلغوا فيها غاية وسعهم، بأن حلفوا بالله. وعن ابن عباس رضي الله عنه: (من حلف بالله فقد جهد يمينه)، لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَ
أي:
قالوا: لئن أمرنا محمد بالخروج للغزو، أو من ديارنا وأموالنا، لخرجنا. وحيث كانت مقالتهم هذه كاذبة ويمينهم فاجرة أمر عليه الصلاة والسلام- بردها حيث قيل: قُلْ لا تُقْسِمُوا
أي: قل رداً عليهم، وزجراً عن التفوه بها: لا تحلفوا وأنتم كاذبون، طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ
، تعليل للنهي، أي: لا تُقسموا على ما تدعون من الطاعة لأن طاعتكم طاعة نفاقية، معروفة بالنفاق، واقعة باللسان فقط من غير مواطأة للقلب. وإنما عبّر عنها بمعروفة للإيذان بأن كونها نفاقية مشهور معروف لكل أحد. وحملها على الطاعة الحقيقة، على حذف المبتدأ أو الخبر، مما لا يُساعده المقام. انظر أبا السعود.
قال القشيري: طاعة في الوقت أولى من تسويفٍ في الوعد، ولا تعِدُوا بما هو معلوم أنكم لا تفوا به. هـ. وقال النسفي: طاعة معروفة أمثل وأولى بكم من هذه الأيمان الفاجرة. أو: الذي يطلب منكم طاعة معروفة معلومة لا يُشك فيها ولا يُرتاب، كطاعة الخُلص من المؤمنين، لا أيمان تقسمونها بأفواهكم، وقلوبُكُم على خلافها. هـ.
من الأعمال الظاهرة والباطنة، التي من جملتها ما تظهرونه من الأكاذيب المؤكدة بالأيمان الفاجرة، وما تضمرونه في قلوبكم من الكفر والنفاق، والعزيمة على مخادعة المؤمنين، وغيرها من فنون الفساد.
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ، أُمِر- عليه الصلاة والسلام- بتبليغ ما خاطبهم الله به، وصرف الكلام عن الغيبة إلى الخطاب، وهو أبلغ في تبكيتهم، فَإِنْ تَوَلَّوْا- بحذف إحدى التاءين بدليل قوله:
وَعَلَيْكُمْ أي: فإن تُعرضوا عن الطاعة إثر ما أمرتكم بها فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ من التبليغ وقد بلَّغَ، وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من التلقي بالقبول والإذعان. والمعنى: فإن تعرضوا عن الإيمان فما ضررتم إلا أنفسكم، فإن الرسول ليس عليه إلا ما حمله الله تعالى من أداء الرسالة، فإذا أدى فقد خرج عن عهدة تكليفه. وأما أنتم فعليكم ما كلفتم، أي: ما أمرتم به من الطاعة والإذعان، فإن لم تفعلوا وتوليتم فقد عرَّضتم نفوسكم لسخط الله وعقوبته. قال القشيري: قل يا محمد: أطيعوا الله، فإن أجابوا، سعدوا في الدارين، وإنما أحسنوا لأنفسهم. وإن تولوا فما أضروا إلا بأنفسهم، ويكون اللوم في المستقبل عليهم، وسوف يلقون سوء عواقبهم. هـ.
وَإِنْ تُطِيعُوهُ فيما أمركم به من الهدى تَهْتَدُوا إلى الحق، الذي هو المقصد الأصلي الموصل إلى كل خير، والمنجي من كل شر، وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الموضح لكل ما يحتاج إلى الإيضاح، أو:
البيِّن الوضوح لكونه مقروناً بالآيات والمعجزات المتواترة. والجملة مقررة لِما قبلها من أن غائلة التولي وفائدة الإطاعة مقصورتان عليهم. واللام: إما للجنس المنتظم فيه- عليه الصلاة والسلام- انتظاماً أولياً، أو للعهد، أي:
ما على جنس الرسول كائناً من كان، أو ما عليه- عليه الصلاة والسلام- إلا التبليغ الواضح. وبالله التوفيق.
الإشارة: ترى بعض الناس يُقسمون بالله جَهدَ أَيْمَانهم: لئن ظهر شيخ التربية وأمرهم بالخروج عن أموالهم وأنفسهم ليخرجن، فلما ظهر تولوا وأعرضوا، فيقال لهم: فإن تولوا فإنما عليه ما حمل من الدلالة على الله، والتعريف به، وعليكم ما حُملتم من الدخول تحت تربيته، وإن تُطيعوه تهتدوا إلى معرفة الله بالعيان، وما على الرسول إلا البلاغ المبين.
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٥٥) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٥٦)
قلت: (ليستخلفنهم) : جواب لقسم مضمر، أو تنزيل وعْده تعالى منزلة القسم، و (كما) : الكاف: محلها النصب على المصدر التشبيهي، أي: استخلافاً كائناً كاستخلافه مَنْ قَبْلَهُمْ. و (ما) : مصدرية. و (يعبدوننى) : حال من الموصول الأول، مقيدة للوعد بالثبات على التوحيد، أو استئنافٌ ببيان مقتضى الاستخلاف، و (لا يشركون) : حال من واو (يعبدونني).
يقول الحق جلّ جلاله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ أي: كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر من أي طائفة كان، وفي أي وقت وجد، لا من آمن من المنافقين فقط، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة، بحسب ظهور الوعد الكريم. و (من) : للبيان. وقيل: للتبعيض، ويراد المهاجرون فقط «١». وَعَمِلُوا مع الإيمان الأعمال الصَّالِحاتِ، وتوسيط المجرور بين المَعْطُوفَيْنِ لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم، وأهم ما يجب عليهم.
وأما تأخيره في قوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً «٢» فإن الضمير للذين آمنوا معه صلى الله عليه وسلّم فلا ريب أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة، مثابون عليها، فلا بد من ورود بيانهم بعد نعوتهم الجليلة بكمالها.
ثم ذكر الموعود به، فقال: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ أي: ليجعلنهم خلفاء متصرفين فيما تصرف الملوك في مماليكهم، والمراد بالأرض: أرض الكفار كلها، لقوله عليه الصلاة والسلام: «ليدخلن هذا الدين ما دخل الليل والنهار» «٣»،
(٢) من الآية ٢٩ من سورة الفتح.
(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٤/ ١٠٣) والبيهقي فى الكبرى (٩/ ١٨١) والحاكم (٤/ ٤٣٠) وصححه، ووافقه الذهبي، من حديث تميم الداري، بلفظ: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين، بعز عزيز، أو بذل ذليل، يعز بعز الله فى الإسلام، ويذل به فى الكفر».
وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ: عطف على لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ، داخل معه في سلك الجواب، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل، فَتصْدير المواعد بها فى الاستمالة أدخل، والمعنى: ليجعل دينهم ثابتاً متمكناً مقرراً لا يتبدل ولا يتغير، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة. ثم وصفه بقوله: الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ، وهو دين الإسلام، وصفه بالارتضاء تأليفاً ومزيدَ ترغيب فيه وفضْلَ تثبيت عليه. وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ بالتشديد والتخفيف من الإبدال، مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من الأعداء أَمْناً.
نزلتْ حيث كان أصحاب رسول صلى الله عليه وسلّم قبل الهجرة عشر سنين، أو أكثر، خائفين، ولَمَّا هاجروا كانوا بالمدينة يُصْبِحُون في السلاح ويُمْسُون فيه، حتى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، ونضع السلاح، فلما نزلت، قال عليه الصلاة والسلام: «لا تصبرون إلا يسيراً حتى يَجْلِسَ الرجل منكم في الملأِ العظيم، مُحْتبياً، ليس معه حديدة» «٢»، فأنجز الله وعده، فأمِنُوا، وأظهرهم على جزيرة العرب، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب، ومزقوا ملك الأكاسرة، وملكوا خزائنهم، واستولوا على الدنيا بحذافيرها. وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى. وقيل: الخوف والأمن في الآخرة.
ثم مدحهم بالإخلاص فقال: يَعْبُدُونَنِي وحدي، لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً أي: حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئاً من الأشياء، شركاً جلياً ولا خفياً لرسوخ محبتهم، فلا يُحبون معه غيره، وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد الوعد الكريم، كفرانَ النعمة، أو الرجوع عن الإيمان، كما فعل أهلُ الردة، فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسق، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها، قيل: أول من كفر هذه النعمة قتلة عثمان رضي الله عنه فاقتتلوا بعد ما كانوا إخواناً.
والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين لأن المستخلَفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغي هم الخلفاء- رضي الله عنهم-.
(٢) أخرجه الطبري (١٨/ ١٥٩- ١٦٠). وعزاه فى الدر المنثور (٥/ ١٠٠) لعبد بن حميد، وابنُ أبي حاتم، عن أبى العالية. وانظر أسباب النزول للواحدى (٣٣٨).
الإشارة: سُنَّة الله تعالى في خواصه: أن يُسلط عليهم في بدايتهم الخَلْقَ، فينُزل بهم الذلَ والفقرَ والخوفَ من الرجوع عن الطريق، ثم يُعزهم، ويُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً، كما قال الشاذلى رضي الله عنه: اللهم إنَّ القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا... إلخ كلامه.
قال القشيري: وفي الآية إشارة إلى أئمة الدين، الذين هم أركان السُنَّة «٢» ودعائم الإسلام، الناصحون لعباد الله، الهادون من يسترشد في الله. ثم قال: فأما حُفاظ الدين فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله، وهم أصناف: قومٌ هم حفّاظ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلّم، وحُفّاظُ القرآن، وهم بمنزلة الخزنة، وقوم هم علماء الأصول، الرادُّون على أهلِ العناد، وأصحاب الابتداع، بواضح الأدلة، وهم بطارِقَةُ الإسلام وشجعانه، وقوم هم الفقهاء المرجوعُ إليهم في علوم الشريعة وفي العبادات وكيفية المعاملات، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين في المُلْك، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق، وهم في الدِّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار، الذين لا يبرحون في عالي مجلس السلطان، فالدين معمورٌ بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة. هـ «٣». وتقدم مثله في قوله: فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ... الخ «٤». والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الفريق الثالث، وهم الكفرة ظاهرا وباطنا، فقال:
[سورة النور (٢٤) : آية ٥٧]
لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٥٧)
قلت: والنواجذ آخر الأضراس، واحدها: ناجذ. وأراد بذلك الجد فى لزوم السنة، فعل من أمسك الشيء بين أضراسه، وعضّ عليها، منعا له أن ينتزع.
(٢) فى القشيري: «الملّة».
(٣) بتصرف.
(٤) الآية ١٢٢ من سورة التوبة.
مفعول أول، و (معجزين) : مفعول ثان. وقرأ حمزة والشامي بالغيب، و (الذين) : فاعل، والأول: محذوف، أي:
لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم معجزين فِي الْأَرْضِ. ومَأْواهُمُ النَّارُ: معطوف على محذوف، أي: بل هم مُدْرَكُونَ، وَمَأْواهُمُ النَّارُ أي: مسكنهم ومرجعهم، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي: والله لبئس المرجع هي. وفي إيراد النار، بعنوان كونها مأوى ومصيراً لهم، إثر نفي قوتهم بالهرب في الأرض كل مهرب، من الجزالة ما لا غاية وراءه. والله تعالى أعلم.
الإشارة: لا تحسبن أهل الانتقاد على أولياء الله أنهم فائتون، بل لا بد من غيرة الله عليهم، عاجلاً أو آجلاً، في الظاهر أو الباطن، ومأواهم نار القطيعة ولبئس المصير. وقال القشيري على هذه الآية: الباطل قد تكون له صَوْلَةٌ لكنه يختل، وما لذلك بقاء، ولعل لبثه من عارض الشتاء في القيظ، أي: الحر. هـ «١». والله تعالى أعلم.
ثم تمم الكلام على الاستئذان المتقدم، ووسط بينهما مواعظ تحث على الامتثال، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٨) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٩)
يقول الحق جلّ جلاله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، ويدخل فيه النساء، لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من العبيد والإماء، وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ أي: والأطفال الذين لم يحتلموا من الأحرار،
رُوي أن غلاماً لأسماء بنت أبي مرثد دخل عليها في وقت كَرِهَتْهُ، فنزلت «٢». وقيل: أرسل رسول الله ﷺ مُدْلِجَ بنَ عَمرو الأنْصاريّ، وكان غلاماً، وقت الظهيرة، ليدعو عمر رضي الله عنه، فدخل عليه وهو نائم قد انكشف عنه ثوبه، فقال عمر رضي الله عنه: لوددت أن الله تعالى نهى عن الدخول في هذه الساعات إلا بإذن، فانطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده وقد نزلت عليه هذه الآية «٣». والأمر، قيل: للوجوب، وقيل: للندب.
ثم عذرهم في ترك الاستئذان في غير هذه الأوقات، فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ أي:
لا إثم عليكم ولا على المذكورين من المماليك والغلمان في الدخول بغير استئذان بعد كل واحدة من تلك العورات الثلاث، أي: في الأزمنة التي بين هذه العورات الثلاث.
ثم بيّن العلة في ترك الاستئذان في هذه الأوقات بقوله: طَوَّافُونَ أي: هم طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ لحاجة البيت والخدمة، بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ أي: بعضكم طائف على بعض، أو يطوف على بعض، والجملة: إما بدل مما قبلها، أو بيان، يعني: أنكم محتاجون إلى المخالطة والمداخلة، يطوفون عليكم للخدمة وتطوفون عليهم للاستخدام، فلو جزم الأمر بالاستئذان في كل وقت لأفضى إلى الحرج، وهو مدفوع بالنص، كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي: كما بيّن الاستئذان، يبين لكم غيره من الآيات التي تحتاجون إلى بيانها، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بمصالح عبادة، حَكِيمٌ فيما دَبَّرَ وحكم به.
وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ أي: الأحرار دون المماليك الْحُلُمَ أي: الاحتلام، وهو البلوغ، وأرادوا الدخول عليكم فَلْيَسْتَأْذِنُوا في جميع الأوقات. قال القرطبي: لم يقل: فليستأذنوكم، وقال في الأولى:
(٢- ٣) ذكره ابن كثير فى تفسيره (٣/ ٣٠٣) والواحدي فى أسباب النزول (ص ٣٣٩) والبغوي فى التفسير (٦/ ٦٠) عن مقاتل، بدون إسناد.
الآية. والمعنى: أن الأطفال مأذون لهم في الدخول بغير إذن، إلا في العورات الثلاث، فإذا اعتاد الأطفال ذلك ثم بلغوا الحُلُمَ وَجَبَ أن يُفطَمُوا عن تلك العادة، ويُحملوا على أن يَسْتَأْذِنوا في جميع الأوقات، كالرجال الكبار الذين لم يعتادوا الدخول عليكم إلا بإذن.
والناس عن هذه غافلون. عن ابن عباس رضي الله عنه: ثلاث آيات جحدهن الناس: الإذن كله، وقوله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «٢»، وقوله: وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ.. «٣». وعن سعيد بن جبير: (يقولون: إنها منسوخة، والله ما هي بمنسوخة) «٤». وعن ابن عباس أيضاً قال: إنما أُمروا بها حين لم يكن للبيوت الستر، فلما وجدوا ذلك استغنوا عن الاستئذان. وعن أبي محمد مكي: هذا الأمر إنما كان من الله للمؤمنين إذ كانت البيوت بغير أبواب. قلت: أما باعتبار الأجانب فالأبواب تكفي، وأما باعتبار المماليك والأطفال الذين يلجون الدار من غير حَجْرٍ فلا تكفي الأبواب في حقهم، فلا بد من الاستئذان كما في الآية.
كَذلِكَ أي: مثل ذلك البيان العجيب يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ. قال ابْنُ عرفة: قال قبل هذه وبعدها:
الآيات، وفي هذه: آياته لوجهين، الأول: هذه خاصة بالأطفال، وما قبلَها عامة في العبيد والأطفال، فأطلقت الآية، ولم تقيد بالإضافة، وهذه خاصة، فعبّر عنها بلفظ خاص. الثاني: أن الخطاب بما هنا للبالغين، فأسند فيه الحكم إلى الله تعالى، تخويفاً لهم وتشديداً عليهم. هـ. والمتبادر أنه تفنن. قاله المحشي الفاسي. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ فيما أمر ودبر.
الإشارة: إنما أمر الله بالاستئذان لئلا يُكشف السر إلى غير أهله غَيْرَةً منه تعالى على كشف أسرار عباده، وإذا كان غار على كشف سر عبده، فَغَيْرَتُهُ على كشف أسرار ذاته أولى وأحرى، فيجب كتم أسرار الذات عن غير أهله، وكل من خصه الله بسر وجب كتمه إلا على من هو أهل له، وهو من أَعْطَى نفسه وماله، وباعهما لله تعالى.
وكل من أُطْلِعَ على سر من سرار الله أو قضاء من قضائه، ثم استشرف أن يُعْلِم الناس بذلك فهو كذاب. وفي الحِكَم:
«استشرافك أن يعلم الخلق بخصوصِيَّتِكَ دليل على عدم صدقك في عبوديتك». وبالله التوفيق.
(٢) الآية ١٣ من سورة الحجرات.
(٣) الآية ٨ من سورة النساء. والخبر عزاه ابن كثير فى التفسير (٣/ ٣٠٣) لابن أبى حاتم.
(٤) أخرجه الطبري (١٨/ ١٦٣).
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٠]
وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٦٠)
قلت: «القواعد» جمع قاعد، بغير تاء لأنهما من الصفات المختصة بالنساء، كالطالق والحائض، فلا تحتاج إلى تمييز، وهو مبتدأ، و (اللاتي..) إلخ: صفة له، (فليس) : خبر، وأدخلت الفاء لما في المبتدأ من معنى الشرط من العموم الذي في الألف واللام. و (يرْجُون) : مبني لاتصاله بنون النسوة.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالْقَواعِدُ أي: العجائز مِنَ النِّساءِ اللَّاتِي قعدن عن الحيض والولادة لِكِبَرِهِنَّ. قال ابن قتيبة: سمين بذلك لأنهن بعد الكِبَرِ يُكثرن القعود. ويقرب منه من فسره بالقعود عن التصرف للكبر، والظاهر أن قوله: لا يَرْجُونَ نِكاحاً: نعت مُخَصِّصٌ، إن فُسِّرَ القعود فيها بالقعود عن الحيض والولد لأنه قد يكون فيها مع ذلك رَغْبَةٌ للرجال. وقد يُجْعَلُ كاشفاً إذا فسر القعود باستقذار الرجال لهن من عزوف النفس عنهن، فقوله: لا يَرْجُونَ نِكاحاً أي: لا يطمعن في رغبة الرجال فيهن، فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ في أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ أي: الثياب الظاهرة، كَالجِلْبَابِ الذي فوق الخمار ونحوه.
قال ابن عطية: قرأ ابن مسعود وأُبَيّ: «أن يَضَعْنَ مِنْ ثيابهن». والعرب تقول: امرأة واضع، للتي كبرت فوضعت خِمَارها، قال في الحاشية: والآية صادقة بما إذا دخل أجنبي بعد الاستئذان، وبخروجهن أيضاً، ومن التبرج: لبس ما يَصف لكونه رقيقاً، أو: شفافاً. هـ.
ثم قيَّد الرخصة بقوله: غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ أي: مظهرات زينة، يريد الزينة الخفية، كالشعر والنحر والساق ونحوه، أي: لا يقصدن بوضعهن التبرجَ وإظهارَ مَحَاسنها، ولكن التخفيف. وحقيقة التبرج: تَكَلُّفُ إِظْهَارِ ما يجب إخفاؤه، من قولهم: سفينة بارجة: لاَ غِطَاءَ عليها، إلا أنه خص بكشف المرأة زينتها أو محل حسنها للرجال.
وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ أي: يطلبن العفة عن وضع الثياب، فيتسترن خَيْرٌ لَهُنَّ من الانكشاف، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي: سميع ما يجرى بينهن وبين الرجال من المقاولة، عليم، فيعلم مقاصدهن وسرائرهن في قصد التخفيف أو التبرج، وفيه من الترهيب ما لا يخفى.
الإشارة: إذا كمل تهذيب الإنسان وإخلاصه، وكمل استغناؤه بربه، فلا بأس أن يظهر من أحواله وعلومه ما يقتدى به ويهتدى، ليعم الانتفاع به. فإن خيف منه تهمة فالاستعفاف والاكتفاء بعلم الله خير له. والله سميع عليم.
[سورة النور (٢٤) : آية ٦١]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦١)
يقول الحق جلّ جلاله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ في الدخول من غير استئذان لأنه لا يتوقع منه نظر لما يكره. وكذلك لا حرج عليه فيما لا قدرة له عليه من الجهاد وغيره، ثم استطرد من شاركه في مطلق العذر فقال: وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ فيما لا يقدر عليه من الجهاد وغيره، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ في ذلك.
وقال سعيد بن المُسَيِّب: كان المسلمون إذا خرجوا إلى الغزو وضعوا مفاتيح بيوتهم عند الأعمى والأعرج والمريض وعند أقاربهم، ويأذنونهم أن يأكلوا من بيوتهم، فكانوا يتحرجون من ذلك، ويقولون: نخشى أن تكون نفوسهم غير طيبة بذلك، فنزلت الآية، رُخْصَةً لهم «١». وقيل: كانوا يتحرجون من الأكل معهم لأن الأعمى لا يبصر الطيب من الطعام، والأعرج لا يستطيع المزاحمة عليه، والمريض لا يستطيع استيفاءه «٢». هـ.
وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي: لا حرج عليكم أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أي: البيت الذي فيه أهل بيتكم أزواجكم وعيالكم، فإذا كان للزوجة أو للولد هناك شيء منسوب إليهما فلا بأس للرجل بأكله لأن الزوجين صارا كنفس واحدة، فصار بيت المرأة بيت الزوج. وقيل: المراد ببيوتكم: بيوت أولادكم، فجعل بيوت أولادهم بيوتهم لأن ولد الرجل من كسبه، وماله كماله، لقوله عليه الصلاة والسلام: «أنت ومالك لأبيك» «٣»، ولذلك لم يذكر الأولاد في الآية لاندراجهم في بيوتكم.
(٢) أخرجه الطبري (١٨/ ١٦٨) وذكره الواحدي فى أسباب النزول (٣٣٩) عن ابن عباس رضي الله عنه. [.....]
(٣) أخرجه، من حديث جابر، ابن ماجة فى (التجارات، باب ما للرجل من مال ولده، ح ٢٢٩١)، وأخرجه من حديث ابن مسعود، الطبراني فى الأوسط (١/ ٢٢ ح ٥٧)، وأخرجه من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، الإمام أحمد فى المسند (٢/ ٢٠٤)، وأبو داود فى (البيوع/ ح ٣٥٢٨- ٣٥٢٩)، وابن ماجه فى الموضع السابق ذكره (ح/ ٢٢٩٢).
أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ قال ابن عباس: هو وكيل الرجل وقيّمه في ضَيْعَتِهِ وماشيته، له أن يأكل من ثمرة ضيعته، ويشرب مِنْ لبن ماشيته. والمراد بملك المفاتح: كَوْنُها في يده وتحت حَوْزِهِ. وقيّده ابن العربي بما إذا لم تكن له أجرة، وإن كانت له أجرة على فعله حَرُمَ، يعني: إلا إذا علم طيب نَفْسٍ صاحبه فيدخل في الصديق.
وقيل: أريد به بيت عَبْدهِ لأن العبد وما في يده لمولاه.
أَوْ صَدِيقِكُمْ أي: أو بيوت أصدقائكم، والصديق يكون واحداً وجمعاً، وهو من يصدقك في مودته وتصدقه في مودتك، يؤلمه ما يؤلمك ويؤلمك ما يؤلمه، ويسرك ما يسره كذلك. وكان الرجل من السلف يدخل دار صديقه وهو غائب، فيسأل جاريته كيسَهُ فيأخذ ما شاء، فإذا حضر مولاها أعتقها سروراً بذلك، فأما الآن فقد غلب الشحّ فلا يأكل إلا بإذن. قاله النسفي «٣».
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً: مجتمعين أَوْ أَشْتاتاً: متفرقين، جمع شَتّ، نزلت في بني ليث بن عمرو، كانوا يتحرّجُون أن يأكل الرجل وحده، فربما قعد منتظراً نهاره إلى الليل، فإذا لم يجد من يؤاكله من الضيفان أكَل أكْل ضرورة. وقيل: في قوم من الأنصار كانوا إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلا مع ضيفهم، فرخص لهم أن يأكلوا كيف شاءوا. وقيل: في قوم تحرجوا من الاجتماع على الطعام لاختلاف الناس في الأكل، وزيادة بعضهم على بعض، فخيّرهم. وقيل: كان الغنى منهم إذا دخل على الفقير من ذوي قرابته وصداقته، ودعاه إلى طعام، فيقول: إني أتحرج أن آكل معك، وأنا غني وأنت فقير، فأباح لهم ذلك. والله تعالى أعلم.
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٥/ ٧٢) فى حديث خطبة الوداع الطويل، والبيهقي فى الكبرى (٦/ ١٠٠) عن أبى حرة الرشاقى، عن عمه. وأخرجه الديلمي (الفردوس ح ٧٦٣٥) والدار قطنى (٣/ ٢٦)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(٣) انظر تفسير النسفي (٢/ ٥٢٠).
وقال الورتجبي في قوله: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ: عماه الحقيقي ألا يطيق أن ينظر بطونَ الأزل والغيبَ وغيبَ الغيب. وهذا من قوله- عليه الصلاة والسلام- في وصف جمال الحق سبحانه: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَو كشَفَهُ لأحرقت سُبحات وجهه ما أنتَهَى إلَيه بَصَرُهُ مِنْ خلْقِهِ». فجعله معذوراً ألا يدرك فى الحقيقة وحقيقة الحق إذ يستحيل الحَدَثُ أن يحيط بالقدم إن كان واجباً معرفة الكل من حيث الحقوق لا من حيث التوحيد. هـ. ومراده ببطون الأزل: تجلياته تعالى، البارزة من وسط بحر جبروته الغيبي، وهي المراد بالغيب وغيب الغيب، فالأكوان كلها برزت من بحر الذات الأزلية والكنز الغيبي، لكنها، لما تجلت، كستها رداء الكبرياء، فمن فتحت بصيرته رأى الحق تعالى فيها، أو قبلها، أو معها، ومن عميت بصيرته لم ير إلا حس الأكوان الظُّلْمَانِيَّةِ. والله تعالى أعلم.
ومذهب الصوفية في تناول متاع بعضهم بعضاً هو ما قال القائل: «نَحْنُ: لاَ مَالٌ مَقْسُومٌ، وَلاَ سِرٌّ مَكْتُومٌ، فَتَرِكَتُهُمْ لاَ تُقْسَمُ أبداً». دخل الجنيد بَيْتَ بَعْضِ إخوانه، فوجد زوجته، فقال: هل عندك شيء نطعم به الفقراء؟
فأشارت إلى وعاء فيه تمر، لا يملك غيره، فأفرغه على رأسه، فأكلوا، وأخذوا ما بقي، فلما جاء زوجها ذكرت له ذلك، فقال: الآن علمت أنه يُحبني.
ثم أمر بالسلام بعد الاستئذان، فقال:
فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يقول الحق جلّ جلاله: فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من البيوت المذكورة أو غيرها بعد الإذن، فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ أي: فابدأوا بالسلام على أهلها، الذين هم منكم، الذين هم بمنزلة أنفسكم لما بينكم وبينهم من القرابة
كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ، تكرير لتأكيد الأحكام المختتمة وتفخيمها، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ: لكي تعقلوا ما في تضاعيفها من الشرائع والأحكام، وتعملوا بموجبها، فتفوزوا بسعادة الدارين. والله تعالى أعلم.
الإشارة: السلام على النفس: هو طلب الأمان لها ومنها، فإذا سَلِمَت النفس من موجبات الغضب من الله، سَلِمَ صاحبها منها، قال القشيري: السلامُ: الأمانُ، فسبيل المؤمن إذا دخل بيتاً أن يُسلِّمَ مِنَ الله على نَفْسه، يعني: بأن يقول السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يطلب السلامة والأمان من الله تعالى، لِتسْلَمَ نَفْسُه من الإقدام على ما لا يرضي الله، إذ لا يحل لمُسلم أن يفْتُرَ لحظة عن الاستجارة بالله، بأن لا يرفع عنه ظل عصمته بإدامة حِفظهِ من الاتصاف بمكروه الشرع. هـ.
ولمّا تكلم على الاستئذان فى الدخول، تكلم على الاستئذان فى الخروج، إذا كان مع كبير القوم، فقال:
[سورة النور (٢٤) : آية ٦٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٢)
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، إنما ذكر الإيمان بالله ورسوله في حيز الصلة للموصول الواقع خبراً للمبتدأ، مع تضمنه له تقريراً لِمَا قبله، وتمهيداً لما بعده، وإيذاناً بأن ما بعده حقيق بأن يُجْعَلَ قريناً للإيمان بهما ومنتظماً في سلكه.
وَلَمَّا أراد الحقُّ تعالى أَنْ يُرِيَهُمْ عِظَمَ الجنايةِ في ذهاب الذاهب عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلّم بغير إذنه، إذا كانوا معه على أمر جامع، جعل ترك ذهابهم والصبر معه، حتى يأذن لهم: ثالث الإيمان، وجعل الإيمان برسوله كالسبب له، والبساط لذكره، وذلك مع تصدير الجملة ب «إنما، ثم عقبة بما يزيده توكيداً وتشديدا حيث أعاده على أسلوب آخر، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، فقضَى بأن المستأذنين هم المؤمنون خاصة. وفي «أولئك» : من تفخيم المستأذنين، ما لا يخفى، فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ في الانصراف لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ أي: أمرهم المهم وخطْبهم الملم. فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ لما علمت في ذلك من مصلحة وحكمة.
وهذا بيان لما هو وظيفته صلى الله عليه وسلّم في هذا الباب، إثر بيان ما هو وظيفة المؤمنين، وأن الإذن منه- عليه الصلاة والسلام- ليس بأمر محتوم، بل هو مفوّض إلى رأيه عليه الصلاة والسلام، وفيه مِنْ رَفْع شأنه صلى الله عليه وسلّم ما لا يخفى.
والفاء: لترتيب ما بعدها على ما قبلها، أي: بعد ما تحقق أن الكاملين في الإيمان هم المستأذِنُون.
فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ، فإن الاستئذان، وإن كان لعذر، فقد لا يخلو من شائبة تقديم أمر الدنيا على أمر الآخرة، ففيه دليل على أن الصبر وترك الاستئذان أفضل. إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مبالغ في غفران فَرَطَاتِ العباد، وفى إفاضة آثار الرحمة عليهم.
وما ذكره الحق تعالى في شأن الصحابة مع الرسول- عليه الصلاة والسلام- في شأن الاستئذان ينبغي أن يكون كذلك مع أئمتهم ومقدّميهم في العلم والدين، لا يتفرقون عنهم إلا بإذن. والآية نزلت في الخندق، كان المنافقون يرجعون إلى منازلهم من غير استئذان، فنزلت «١». وبقي حكمها عاماً إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
فالأدب مع الشيخ هو الأدب مع الله، لكن لمّا كان من شأن العبد الجهل بالله وسوء الأدب معه أمره بالتحكيم لغيره من جنسه، فإذا حكم جنسه على نفسه قبل المعرفة حكم الله على نفسه بعد المعرفة. والتحكيم في غاية الصعوبة على النفس، لا يرضاها إلا مَن سبقت له الهداية، وجذبته جواذب العناية، أعني الدخول تحت الشيخ وتحكيمَه على نفسه، حتى لا يتحرك إلا بإذنه، فهذا سبب الوصول إلى مقام الشهود والعيان، فإذا فعل المريد شيئاً من غير استئذان فليتب وليطلب من الشيخ الاستغفار له. وينبغي للشيخ أن يقبل العذر ويسامح ويستغفر له، لقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فالخليفة لرسول الله قائم مقامه، ونائب عنه في رتبة التربية. والله تعالى أعلم.
ثم نهاهم عن التساهل فى ترك الاستئذان، فقال:
[سورة النور (٢٤) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٦٣) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٤)
يقول الحق جلّ جلاله: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي: إذا احتاج الرسول صلى الله عليه وسلّم إلى اجتماعكم لأمر جامع، فدعَاكم، فلا تتفرقوا عنه إلا بإذنه، ولا تقيسوا دعاءه إياكم على دعاء بعضكم
لا تجعلوا دعاء الرسول على أحد، كدعاء بعضكم بعضاً، فإنَّ غضبه عليه ليس كغضبكم لأن غضبه غضب الله، ودعاؤه مستجاب. وهذا يناسب ما قبله من جهة التحذير عن ترك الاستئذان، فإنَّ من رجع بغير استئذان معرض لغضبه- عليه الصلاة والسلام- ودعائه عليه. أو: لا تجعلوا نداءه ﷺ كنداء بعضكم بعضاً كندائه باسمه، ورفع الصوت عليه، وندائه من وراء الحُجرات، ولكن بلَقَبه المعظم يا رسول الله، يا نبي الله، مع غاية التوقير والتفخيم والتواضع وخفض الصوت.
قال القشيري: أي: عَظِّموه في الخطاب، واحفظوا حرمته وخدمته بالأدب، وعانقوا طاعته على مراعاة الهيبة والتوقير. هـ. فالإضافة، على الأوليْن: للفاعل، وعلى الثالث للمفعول، لكنه بعيد من المناسبة لما قبله ولما بعده في قوله: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ أي: يخرجون قليلاً على خِفْيَةٍ منكم، لِواذاً أي: ملاوذين، بأن يستتر بعضهم ببعض حتى يخرج، أو يلوذ بمن يخرج بالإذن إراءة أنه من أتباعه. أو مصدر، أي: يلوذون لواذاً.
واللواذ: الملاوذة، وهي التعلق بالغير، وهو أن يلوذ هذا بهذا في أمر، أي: يتسللون عن الجماعة خفية، على سبيل الملاوذة واستتار بعضهم ببعض.
ثم هددهم على المخالفة بقوله: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي: الذين يصدون عن أمره، يقال:
خالفه إلى الأمر: إذا ذهب إليه دونه، ومنه: وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ «١»، وخالفه عن الأمر: إذا صد عنه. والضمير: إما لله سبحانه، أو للرسول- عليه الصلاة والسلام-، وهو أنسب لأنه المقصود بالذكر.
والمعنى: فليحذر الذين يخالفون عن طاعته ودينه وسنَّته، أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ محنة في الدنيا كقتل أو زلازل وأهوال، أو تسليط سلطان جائر، أو عدو، أو قسوة قلب، أو كثرة دنيا استدراجاً وفتنة.
قال القشيري: سعادة الدارين في متابعة السُّنَّة، وشقاوتهما في مخالفتها، ومما يصيب من خالفها: سقوط حشمة الدين عن القلب. هـ.
أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. والآية تدل على أن الأمر للإيجاب، وكلمة «أو» : لمنع الخلو، دون منع الجمع. وإعادة الفعل صريحاً للاعتناء بالتهديد والتحذير.
وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. رُوِي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه قرأ سورة النور على المنبر في الموسم، وفسرها على وجه لو سمعته الروم لأسلمت. هـ. وأمّا ما ورد في فضل السور فموضوع، وقد غلط من ذكره من المفسرين. وبالله التوفيق.
الإشارة: شيوخ التربية خلفاء الرسول ﷺ في القيام بالتربية النبوية، فيجب امتثال كل ما أمروا به، واجتناب كل ما نهوا عنه، فُهِمَ معناه أو لم يُفهم. فإذا كانوا مجموعين على أمر جامع لم يذهب أحد حتى يستأذن شيخه، ولا يكفي إِذْنُ بَعْضِ الفقراء، إلا إنْ وَجّهَهُ الشيخ لذلك، فلا يكون دعاء الشيخ كدعاء بعضكم بعضاً في التساهل في مخالفة أمره، أو امتثال أمره. قد يعلم الله الذين يتسللون، فيفرون عنه لِواذاً، فليحذر الذين يُخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة كتسليط الدنيا عليه فتفتنه وتنسخ حلاوة الشهود من قلبه، أو يصيبهم عذاب أليم، وهو السلب بعد العطاء، والعياذ بالله من الزلل ومواقع الضلال. نسأل الله تعالى أن يثبت قدمنا على المنهاج الحق، وأن يميتنا على المحبة والتعظيم، ورسوخ القدم في معرفة الرحمن الرحيم. آمين. وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد، النبي الكريم، وعلى آله وصحبه، وسلّم.