تفسير سورة العنكبوت

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب تفسير المراغي .
لمؤلفه المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ
سورة العنكبوت
آيها تسع وستون
هي مكية إلا من أولها إلى قوله :﴿ وليعلمن المنافقين ﴾( العنكبوت : ١١ )فمدنية، نزلت بعد سورة الروم.
ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه :
إنه ذكر في السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته، وجعله أهلها شيعا، وافتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم المشركون، وعذبوهم على الإيمان، دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل ؛ تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثا لهم على الصبر كما قال :﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم ﴾( العنكبوت : ٣ ).
ذكر في السورة السابقة نجاة موسى من فرعون وهربه منه ثم عوده إلى مصر رسولا نبيا، ثم ظفره من بعد بغرق فرعون وقومه ونصره عليهم نصرا مؤزّرا، وذكر هنا نجاة نوح عليه السلام وأصحاب السفينة وإغراق من كذبه من قومه.
نعي هناك على عبدة الأصنام والأوثان، وذكر أنه يفضحهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد - وهنا نعي عليهم أيضا وبين أنهم في ضعفهم كضعف بيت العنكبوت.
هناك قص قصص قارون وفرعون، وهنا ذكرهما أيضا، وبين عاقبة أعمالهما.
ذكر هناك في الخاتمة الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾( القصص : ٨٥ )، وفي خاتمة هذه أشار إلى هجرة المؤمنين بقوله :﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ﴾( العنكبوت : ٥٦ ).

بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ آلم( ١ ) أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون( ٢ )ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين( ٣ )أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون ﴾( العنكبوت : ١-٤ ).
تفسير المفردات : الفتنة : الامتحان والاختبار.
المعنى الجملي : بعد أن قال في أواخر السورة السالفة :﴿ وادع إلى ربك ﴾( الحج : ٦٧ )وكان في الدعاء إليه توقع الطعن والضرب في الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن المشركون ويستجيبوا للدعاء، وذلك مما يشق على بعض المؤمنين - أردف ذلك تنبيههم إلى أن المؤمنين لا يتبين إيمانهم الحق إلا إذا فتنوا.
روى ابن جرير وابن المنذر أن ناسا ممن كانوا بمكة آمنوا فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآيات فكتبوا إليهم، أنزلت فيكم آية كذا وكذا ؟ فقالوا : تخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ﴾( النحل : ١١٠ ).
قال مقاتل : نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب، وكان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر الخضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ :" سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة " وجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت :﴿ الم أحسب الناس أن يتركوا ﴾الآية.
الإيضاح :﴿ الم ﴾تقدم أن قلنا إنه ينطق بالحروف المقطعة في أوائل السور بأسمائها ساكنة فيقال( ألف. لام. ميم ).
والحكمة في البداءة بها التنبيه وطلب إصغاء السامعين إلى ما يلقى بعدها، فإن الحكيم إذا خاطب من يكون مشغول البال قدم على المقصود شيئا غيره ليلفت المخاطب بسببه إليه، فحينا يكون كلاما مفهوما كقول القائل اسمع أو ألق بالك إلي، وحينا يكون في معنى الكلام المفهوم كقولك يا علي، وحينا يكون صوتا غير مفهوم المعنى كمن يصفر خلف إنسان ليلتفت إليه.
فالنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان يقظ الجنان فهو إنسان يشغله شأن عن شأن، فحسن من الحكيم الخبير أن يقدم على المقصود حروفا هي كالمنبهات لا يفهم منها معنى، لتكون أتم إفادة التنبيه، لأنه إذا كان المقدم قولا مفهوما فربما ظن السامع أنه هو المقصود ولا كلام للمتكلم بعد ذلك ليصغي إليه، أما إذا سمع صوتا لا معنى له جزم بأن هناك كلاما آخر سيرد بعد، فيقبل إليه تمام الإقبال، ويرهف السمع إلى ما سيأتي.
وقد ثبت بالاستقراء أن كل سورة في أوائلها حروف التهجي بدئت بذكر الكتاب أو التنزيل أو القرآن نحو :﴿ الم( ١ )ذلك الكتاب )( البقرة : ١-٢ ){ المص( ١ )كتاب أنزل إليك )( الأعراف : ١-٢ ){ يس( ١ ) والقرآن الحكيم ﴾( يس : ١-٢ )﴿ ص والقرآن ﴾( ص : ١ )﴿ ق والقرآن ﴾( ق : ١ )﴿ حم( ١ )تنزيل الكتاب )( غافر١-٢ )إلا ثلاث سور{ كهيعص ﴾( مريم : ١ )﴿ الم( ١ )أحسب الناس ﴾( العنكبوت١-٢ )﴿ الم( ١ )غلبت الروم ﴾( الروم : ١-٢ ).
وقد حصل التنبيه في القرآن بغير الحروف التي لا يفهم معناها كقوله :﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم ﴾( النساء : ١ )، وقوله :﴿ يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ﴾( التحريم : ١ )، من قبل أن تقوى الله أمر عظيم، ومثلها تحريم ما أحل الله.
وقد بدئت هذه السورة بالحروف وليس فيها البدء بالقرآن أو الكتاب من قبل أن فيها ذكر جميع التكاليف، وهي شاقة على النفس، فحسن البدء بحروف التنبيه للإيقاظ إلى ما يلقى بعدها.
المعنى الجملي : بعد أن قال في أواخر السورة السالفة :﴿ وادع إلى ربك ﴾( الحج : ٦٧ )وكان في الدعاء إليه توقع الطعن والضرب في الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن المشركون ويستجيبوا للدعاء، وذلك مما يشق على بعض المؤمنين - أردف ذلك تنبيههم إلى أن المؤمنين لا يتبين إيمانهم الحق إلا إذا فتنوا.
روى ابن جرير وابن المنذر أن ناسا ممن كانوا بمكة آمنوا فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآيات فكتبوا إليهم، أنزلت فيكم آية كذا وكذا ؟ فقالوا : تخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ﴾( النحل : ١١٠ ).
قال مقاتل : نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب، وكان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر الخضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ :" سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة " وجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت :﴿ الم أحسب الناس أن يتركوا ﴾الآية.
الإيضاح :﴿ أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ﴾أي أظن الذين نجوا من أصحابك من أذى المشركين أن نتركهم بغير اختبار ولا امتحان بمجرد قولهم : آمنا بك وصدقناك فيما جئنا به من عند الله، كلا لنمتحننهم بشاق التكاليف كالهجرة، والجهاد في سيبل الله، ورفض الشهوات، ووظائف الطاعات، وأفانين المصايب في الأنفس والأموال والثمرات، ليمتاز المخلص من المنافق، والراسخ في الدين من المتزلزل فيه، ونجازي كلا بحسب مراتب عمله.
ونحو الآية قوله :﴿ أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ﴾( التوبة : ١٦ ).
والخلاصة : أيظن الناس أنهم يتركون بمجرد قولهم آمنا دون أن يبتلوا بالفرائض البدنية والمالية كالهجرة من الأوطان والجهاد في سبيل الله ودفع الزكاة للفقراء والمحتاجين وإغاثة البائسين والملهوفين.
تفسير المفردات : ليعلمن الله الذين صدقوا : أي ليظهرن صدقهم.
المعنى الجملي : بعد أن قال في أواخر السورة السالفة :﴿ وادع إلى ربك ﴾( الحج : ٦٧ )وكان في الدعاء إليه توقع الطعن والضرب في الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن المشركون ويستجيبوا للدعاء، وذلك مما يشق على بعض المؤمنين - أردف ذلك تنبيههم إلى أن المؤمنين لا يتبين إيمانهم الحق إلا إذا فتنوا.
روى ابن جرير وابن المنذر أن ناسا ممن كانوا بمكة آمنوا فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآيات فكتبوا إليهم، أنزلت فيكم آية كذا وكذا ؟ فقالوا : تخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ﴾( النحل : ١١٠ ).
قال مقاتل : نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب، وكان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر الخضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ :" سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة " وجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت :﴿ الم أحسب الناس أن يتركوا ﴾الآية.
الإيضاح : ثم ذكر ما هو كالتسلية لهم بما نال من قبلهم بالمشاق فقال :
﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم ﴾أي لقد اختبرنا أتباع الأنبياء من الأمم السالفة وأصبناهم بضروب من البأساء والضراء فصبروا وعضوا على دينهم بالنواجذ، فابتلينا بني إسرائيل بفرعون وقومه وأصابهم منه البلاء العظيم والجهد الشديد، وابتلينا من آمن بعيسى بمن كذبه وتولى عنه - لا جرم ليصيبنّ أتباعك أذى شديد وجهد عظيم ممن خالفهم وناصبهم العداء.
روى البخاري وأبو داود والنسائي عن خبّاب بن الأرتّ قال :" شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لقينا من المشركين شدة، فقلنا : ألا تستنصر لنا ؟ ألا تدعو لنا ؟ فقال : قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه ؛ فما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ؛ لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون ".
وعن أبي سعيد الخدري قال : دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم هو يوعك، فوضعت يدي عليه، فوجدت حره بين يدي فوق اللحاف، فقلت : يا رسول الله ما أشدها عليك ! قال :" إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر "، قلت : يا رسول الله : أي الناس أشد بلاء ؟ قال :" الأنبياء "، قلت : ثم من ؟ قال :" ثم الصالحون، إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها( يمزقها )وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء ".
ونحو الآية قوله :﴿ وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا ﴾( آل عمران : ١٤٦ ).
﴿ فليعلمنّ الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾أي وليظهرن الله الصادقين منهم في إيمانهم من الكاذبين بما يشبه الامتحان والاختبار، وليجازين كلا بما يستحق.
وخلاصة ما سلف : أيها الناس لا تظنوا أني خلقتكم سدى، بل خلقتكم لترقوا إلى عالم أعظم من عالمكم وأرقى منه في كل شؤونه، ولا يتم ذلك إلا بتكليفهم بعلم وعمل، واختباركم من آن إلى آخر بإنزال النوازل والمصايب، في الأنفس والأموال والثمرات، والتخلي عن بعض الشهوات، وفعل التكاليف من الزكاة والصيام والحج ونحوها فحياتكم حياة جهاد وشقاء، شئتم أو أبيتم.
وبمقدار ما تصبرون على هذا الاختبار وتفوزون بالنجاح فيه يكون مقدار الجزاء والثواب، وتلك سنة الله فيكم وفي الأمم من قبلكم، وتاريخ الأديان مليء بأخبار هذا البلاء وما لقيه المؤمنون من المكذبين بالرسل.
تفسير المفردات : السبق : الفوت والمراد به الفوت عن المجازاة، والسيئات هي الشرك بالله والمعاصي التي يجترحونها، ساء ما يحكمون : أي قبح حكمهم أنهم يهربون منا.
المعنى الجملي : بعد أن قال في أواخر السورة السالفة :﴿ وادع إلى ربك ﴾( الحج : ٦٧ )وكان في الدعاء إليه توقع الطعن والضرب في الحرب، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا مأمورين بالجهاد إن لم يؤمن المشركون ويستجيبوا للدعاء، وذلك مما يشق على بعض المؤمنين - أردف ذلك تنبيههم إلى أن المؤمنين لا يتبين إيمانهم الحق إلا إذا فتنوا.
روى ابن جرير وابن المنذر أن ناسا ممن كانوا بمكة آمنوا فكتب إليهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة لما نزلت آية الهجرة لا يقبل منكم إسلام حتى تهاجروا، فخرجوا إلى المدينة فتبعهم المشركون فردوهم فنزلت فيهم هذه الآيات فكتبوا إليهم، أنزلت فيكم آية كذا وكذا ؟ فقالوا : تخرج فإن اتبعنا أحد قاتلناه، فخرجوا فاتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل ومنهم من نجا، فأنزل الله فيهم :﴿ ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ﴾( النحل : ١١٠ ).
قال مقاتل : نزلت في مهجع مولى عمر بن الخطاب، وكان أول قتيل من المسلمين يوم بدر، رماه عامر الخضرمي بسهم فقتله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ :" سيد الشهداء مهجع، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة " وجزع عليه أبواه وامرأته فنزلت :﴿ الم أحسب الناس أن يتركوا ﴾الآية.
الإيضاح :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ﴾أي بل أيظن هؤلاء الذين يجترحون الإثم والفواحش أن يفوتونا، فلا نقدر على مجازاتهم، ولا نستطيع أن نجري العدل فيهم، وما قضت به سنتنا في الظالمين بأخذهم أخذ عزيز مقتدر ؟.
قال ابن عباس : يريد الوليد بن المغيرة وأبا جهل والأسود والعاص بن هشام وعتبة والوليد بن عتبة وعتبة بن أبي معيط وحنظلة بن أبي سفيان والعاص بن وائل.
﴿ ساء ما يحكمون ﴾أي بئس حكما يحكمونه هذا الحكم، وكيف يدور ذلك بخلدهم وإنا لن نخلق الخلق سدى، بل ربيناهم وهذبناهم بضروب من التهذيب والعلم، لعلهم يلمحون في هذا العالم نور جمالي وجلالي.
﴿ من كان يرجوا لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم( ٥ )ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين( ٦ )والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزيهم أحسن الذي كانوا يعملون ﴾( العنكبوت : ٥-٧ ).
تفسير المفردات : يرجو : أي يطمع، لقاء الله : أي نيل ثوابه وجزائه، أجل الله : الوقت المضروب للقائه.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف أن العبد لا يترك في الدنيا سدى، وأن من ترك ما كلف به عذب - أردف ذلك بيان أن من يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع الله عمله ولا يخيب أمله، ثم ذكر أن طلب ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إلى الله تعالى فهو غني عن الناس جميعا، ثم أرشد إلى أن جزاء العمل الصالح تكفير السيئات، ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها فضلا منه ورحمة.
الإيضاح :﴿ من كان يرجو لقاء الله فإن أجل الله لآت وهو السميع العليم ﴾أي من كان يطمع في ثواب الله يوم لقائه فليبادر إلى فعل ما ينفعه، وعمل ما يوصله إلى مرضاته، ويجتنب ما يبعد من سخطه، فإن أجل الله الذي أجله لبعث خلقه للجزاء لآت لا محالة، والله هو السميع لأقوال عباده، العليم بعقائدهم وأعمالهم، ويجازي كلا بما هو أهل له، وفي هذا تنبيه إلى تحقق حصول المرجوّ والمخوف وعدا ووعيدا.
تفسير المفردات : جاهد : أي بذل جهده في جهاد حرب أو نفس.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف أن العبد لا يترك في الدنيا سدى، وأن من ترك ما كلف به عذب - أردف ذلك بيان أن من يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع الله عمله ولا يخيب أمله، ثم ذكر أن طلب ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إلى الله تعالى فهو غني عن الناس جميعا، ثم أرشد إلى أن جزاء العمل الصالح تكفير السيئات، ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها فضلا منه ورحمة.
ثم بين سبحانه أن التكليف بجهاد النفس وجهاد الحرب ليس لنفع يعود إليه، بل لفائدة المكلف فقال :
﴿ ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين ﴾أي ومن بذل جهده في جهاد عدو أو حرب نفس فإنما يجاهد لنفع نفسه، لأنه إنما يفعل ذلك ابتغاء الثواب من الله على جهاده، وهربا من عقابه، وليس بالله إلى فعله حاجة، فهو غني عن جميع خلقه، له الملك وله الأمر يفعل ما يشاء.
ونحو الآية :﴿ من عمل صالحا فلنفسه ﴾( فصلت : ٤٦ )وقوله :﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ﴾( الإسراء : ٧ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف أن العبد لا يترك في الدنيا سدى، وأن من ترك ما كلف به عذب - أردف ذلك بيان أن من يعترف بالآخرة ويعمل لها لا يضيع الله عمله ولا يخيب أمله، ثم ذكر أن طلب ذلك من المكلف ليس لنفع يعود إلى الله تعالى فهو غني عن الناس جميعا، ثم أرشد إلى أن جزاء العمل الصالح تكفير السيئات، ومضاعفة الحسنة إلى عشر أمثالها فضلا منه ورحمة.
الإيضاح : ثم بين بالتفصيل جزاء المطيع فقال :
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون ﴾أي والذين آمنوا بالله ورسوله وصح إيمانهم حين ابتلاءهم، فلم يرتدوا عنه بأذى المشركين لهم، وعملوا صالح الأعمال، فأدّوا فرائضه وقاموا بها حق القيام، فواسوا البائس الملهوف، وأغاثوا المظلوم، وقدّموا لوطنهم ما هو شديد الحاجة إليه، فرأبوا صدعه، وسدوا ثغره، وكانوا للمؤمنين سندا ومعينا، حتى يصيروا كالبنيان يشد بعضه بعضا - لنكفرن عنهم سيئاتهم التي فرطت منهم في شركهم أو صدرت منهم لماما في إيمانهم وندموا على ما اجترحوه منها، ولنثيبهم على صالح أعمالهم حين إسلامهم أحسن ما كانوا يعملون، فنقبل القليل من الحسنات، ونثيب على الواحدة منها عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وتجزى على السيئة بمثلها، أو نعفو عنها.
ونحو الآية قوله :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ﴾( النساء : ٤٠ ).
﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون( ٨ )والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ﴾( العنكبوت : ٨-٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أن العمل الصالح يكفر السيئات ويضاعف الحسنات - أعقب ذلك بذكر البر بالوالدين والحدب عليهما، لأنهما سبب وجوده، فلهما عليه الإحسان والطاعة.
فالإحسان إلى الوالد بالإنفاق وإلى الوالدة بالإشفاق، إلا إذا حرضاه على الشرك وأمراه بالمتابعة على دينهما إذا كانا مشركين، فإنه لا يطيعهما في ذلك، ثم بين أن من يعمل الصالحات يدخله الله في زمرة الأنبياء والأولياء، ويؤتيه من الكرامة والدرجة الرفيعة والزلفى عنده مثل ما أوتي هؤلاء.
روى الترمذي " أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان بارا بأمه، قالت له : ما هذا الدين الذي أحدثت ؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتتعيّر بذلك أبد الدهر يقال : يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية، آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك به ".
الإيضاح :﴿ ووصينا الإنسان بوالديه حسنا ﴾أي وأمرناه بتعهدهما والبر بهما والإحسان إليهما، كما قال في آية أخرى :﴿ وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما( ٢٣ )واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾( الإسراء : ٢٣-٢٤ ).
﴿ وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما ﴾أي وإن حرضاك على أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين، فإياك أن تفعل ذلك، وجاء في الحديث الصحيح " لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ".
ومعنى قوله :﴿ ما ليس لك به علم ﴾أنه لا علم لك بإلهيته، وإذا كان لا يجوز له أن يتبع فيما لا يعلم صحته فأحْربه ألا يتبع فيما يعلم بطلانه.
ثم توعد من يفعل ذلك بقوله :
﴿ إليّ مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون ﴾أي مرجعكم جميعا إلي يوم القيامة، من آمن منكم ومن كفر، ومن بر والديه ومن عق، ثم أجازيكم على أعمالكم، المحسن بإحسانه، والمسيء بما هو أهل له.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر أن العمل الصالح يكفر السيئات ويضاعف الحسنات - أعقب ذلك بذكر البر بالوالدين والحدب عليهما، لأنهما سبب وجوده، فلهما عليه الإحسان والطاعة.
فالإحسان إلى الوالد بالإنفاق وإلى الوالدة بالإشفاق، إلا إذا حرضاه على الشرك وأمراه بالمتابعة على دينهما إذا كانا مشركين، فإنه لا يطيعهما في ذلك، ثم بين أن من يعمل الصالحات يدخله الله في زمرة الأنبياء والأولياء، ويؤتيه من الكرامة والدرجة الرفيعة والزلفى عنده مثل ما أوتي هؤلاء.
روى الترمذي " أن الآية نزلت في سعد بن أبي وقاص وأمه حمنة بنت أبي سفيان لما أسلم وكان من السابقين الأولين وكان بارا بأمه، قالت له : ما هذا الدين الذي أحدثت ؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت فتتعيّر بذلك أبد الدهر يقال : يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب ولم تستظل، فأصبحت وقد جهدت، ثم مكثت يوما آخر وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال : يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت، فأنزل الله هذه الآية، آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك به ".
الإيضاح :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين ﴾أي والذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله وعملوا ما يصلح نفوسهم، ويزكي أرواحهم ويطهرها، لندخلنهم في زمرة الصالحين، ونجعلهم في عدادهم فندخلهم الجنة معهم.
﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم أو ليس الله بأعلم بما في صدور العالمين( ١٠ )وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ﴾( العنكبوت : ١٠-١١ ).
المعنى الجملي : الناس في الدين أقسام ثلاثة : مؤمن حسن الاعتقاد والعمل، وكافر مجاهر بالكفر والعناد، ومذبذب بينهما، يظهر الإيمان بلسانه، ويبطن الكفر في فؤاده، وقد بين القسمين الأولين بقوله :﴿ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾( العنكبوت : ٣ )وبين أحوالهما بقوله :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات ﴾إلى قوله :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾( العنكبوت : ٤-٩ )ثم أردف ذلك ذكر القسم الثالث بقوله :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله ﴾الخ.
روي أن الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أسلم وهاجر، ثم أوذي وضرب فارتد وقد كان عذبه أبو جهل والحارث، وكانا أخويه لأمه، ثم عاش بعد ذلك دهرا وحسن إسلامه.
الإيضاح :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله جعل فتنة الناس كعذاب الله ﴾أي ومن الناس فريق يقول : آمنا بالله وأقررنا بوحدانيته، فإذا آذاه المشركون لأجل إيمانه، جعل فتنة الناس في الدنيا كعذاب الله في الآخرة، فارتد عن إيمانه، ورجع إلى كفره، وكان يمكنه أن يصبر على الأذى، ويجعل قلبه مطمئنا بالإيمان، ولكنه جعل فتنة الناس صارفة له عن الإيمان، كما أن عذاب الله صارف للمؤمنين عن الكفر، وعذاب الناس له دافع، وعذاب الله ليس له دافع، وعذاب الناس يترتب عليه ثواب عظيم، وعذاب الله بعده العقاب الأليم، والمشقة إذا كانت مستتبعة للراحة العظيمة تطيب النفس لها ولا تعدها عذابا.
قال الزجاج : ينبغي للمؤمن أن يصبر على الأذى في الله. أخرج أحمد والترمذي وابن ماجه وأبو ليلى عن أنس قال : قال صلى الله عليه وسلم :" لقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أخفت في الله، وما يخاف أحد ولقد أتت علي ثالثة، وما لي ولبلال طعام يأكله ذو كبد إلا ما وارى إبط بلال ".
وخلاصة ذلك : إن من الناس من يدّعون الإيمان بألسنتهم، فإذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى منهم، فارتدوا عن الإسلام، ورجعوا إلى الكفر الذي كان متغلغلا في حنايا ضلوعهم وشغاف قلوبهم.
ونحو الآية قوله :﴿ ومن الناس من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه ﴾( الحج : ١١ ).
﴿ ولئن جاء نصر من ربك ليقولن إنا كنا معكم ﴾أي ولئن جاء نصر قريب من لدى ربك بالفتح والمغانم ليقولن هؤلاء المنافقون : إنا كنا معكم إخوانا في الدين ننصركم على أعدائكم، وهم كاذبون فيما يدّعون.
ونحو الآية قوله :﴿ الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين ﴾( النساء : ١٤١ ).
ثم توعدهم وذكر أنه عليم بما في صدورهم، لا يخفى عليه شيء من أمرهم فقال :
﴿ أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ﴾أي أوليس الله أعلم بما في قلوب المنافقين وما تكنه صدورهم، وإن أظهروا لكم الموافقة على الإيمان، فكيف يخادعون من لا تخفى عليه خافية، ولا يستتر عنه سر ؟
ثم ذكر أن هذه الفتنة إنما هي ابتلاء واختبار من الله، ليستبين صادق الإيمان من المنافق، الذي لا يتجاوز الإيمان طرف لسانه، ولا يعدوه إلى قلبه فقال :﴿ وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ﴾.
المعنى الجملي : الناس في الدين أقسام ثلاثة : مؤمن حسن الاعتقاد والعمل، وكافر مجاهر بالكفر والعناد، ومذبذب بينهما، يظهر الإيمان بلسانه، ويبطن الكفر في فؤاده، وقد بين القسمين الأولين بقوله :﴿ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين ﴾( العنكبوت : ٣ )وبين أحوالهما بقوله :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات ﴾إلى قوله :﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾( العنكبوت : ٤-٩ )ثم أردف ذلك ذكر القسم الثالث بقوله :﴿ ومن الناس من يقول آمنا بالله ﴾الخ.
روي أن الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أسلم وهاجر، ثم أوذي وضرب فارتد وقد كان عذبه أبو جهل والحارث، وكانا أخويه لأمه، ثم عاش بعد ذلك دهرا وحسن إسلامه.
الإيضاح :﴿ وليعلمن الله الذين آمنوا وليعلمن المنافقين ﴾أي وليختبرن الله عباده بالسراء والضراء، ليميز صادق الإيمان من المنافق، من يطيع الله في كل حال فيصبر على اللأواء إذا مسته، ويعدّها اختبارا له، وأنه سيثاب عليها إذا هو فوّض الأمر فيها إليه، ومن يعصيه إذا حزبه الأمر، واشتد به الخطب، ولا يجد الصبر إلى قلبه سبيلا.
ونحو الآية قوله :﴿ ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم ﴾( محمد : ٣١ )وقوله :﴿ ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ﴾( آل عمران : ١٧٩ ).
﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء إنهم لكاذبون( ١٢ )وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ﴾( العنكبوت : ١٢-١٣ ).
تفسير المفردات : المراد بالحمل هنا : تبعة الذنوب.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف قسر الكفار للمؤمنين على الكفر، وإلزامهم إياه بالأذى والوعيد - أردف ذلك ذكر دعوتهم إياهم إليه بالرفق واللين حينا آخر بنحو قولهم لهم : لا عليكم بذلك من بأس، إننا نحتمل تبعات ذنوبكم، ثم رد مقالتهم ببيان كذبهم، فإن أحدا لا يحمل وزر أحد يوم القيامة، ثم ذكر أن المضلين يتحملون تبعات ضلالهم وإضلالهم، ويكون لهم العذاب على كلا الجرمين.
روي عن مجاهد : أن الآية نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا.
الإيضاح :﴿ وقال الذين كفروا للذين آمنوا اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ﴾أي وقال الكافرون من قريش لمن آمن منهم واتبعوا الهدى : ارجعوا إلى ديننا الذين كنتم عليه، واسلكوا طريقنا، وإن كانت عليكم آثام فعلينا تبعتها وهي في رقابنا، كما يقول القائل : افعل هذا وخطيئتك في رقبتي.
فرد الله عليهم كذبهم بقوله :
﴿ وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء ﴾أي وإنهم لا يحملون ذنوبهم يوم القيامة فإن أحدا لا يحمل وزر أحد كما قال تعالى :﴿ وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى ﴾( فاطر : ١٨ )وقال :﴿ ولا يسأل حميم حميما( ١٠ )يبصرونهم ﴾( المعارج : ١٠-١١ ).
ثم أكد ما سبق وقرره بقوله :
﴿ إنهم لكاذبون ﴾فيما قالوه إنهم يحملون عنهم الخطايا، قال صاحب الكشاف : وترى المتّسمين بالإسلام من يستنّ بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم : افعل هذا وإثمه في عنقي، وكم من مغرور بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم. ا ه.
تفسير المفردات : والأثقال : واحدها ثقل، وهو الحمل الذي يؤود حامله، والمراد به الذنب والإثم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر فيما سلف قسر الكفار للمؤمنين على الكفر، وإلزامهم إياه بالأذى والوعيد - أردف ذلك ذكر دعوتهم إياهم إليه بالرفق واللين حينا آخر بنحو قولهم لهم : لا عليكم بذلك من بأس، إننا نحتمل تبعات ذنوبكم، ثم رد مقالتهم ببيان كذبهم، فإن أحدا لا يحمل وزر أحد يوم القيامة، ثم ذكر أن المضلين يتحملون تبعات ضلالهم وإضلالهم، ويكون لهم العذاب على كلا الجرمين.
روي عن مجاهد : أن الآية نزلت في كفار قريش قالوا لمن آمن منهم : لا نبعث نحن ولا أنتم فاتبعونا، فإن كان عليكم إثم فعلينا.
الإيضاح : وبعد أن بين عدم منفعة كلامهم لمخاطبيهم، بين ما يستتبعه ذلك القول من المضرة لأنفسهم فقال :
﴿ وليحملن أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم ﴾أي وليحملن الدعاة إلى الكفر والضلال يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزارا أخرى، بما أضلوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئا كما جاء في الآية الأخرى :﴿ ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ﴾( النحل : ٢٥ )وفي الصحيح :" من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلال كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئا ".
ثم ذكر أنهم يوم القيامة يسألون على افترائهم على ربهم فقال :
﴿ وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون ﴾أي وليسألن حينئذ سؤال توبيخ وتقريع عما كانوا يكذبونه في الدنيا بوعد من أضلوهم بالأباطيل، وقولهم لهم :﴿ اتبعوا سبيلنا ولنحمل خطاياكم ﴾.
قصص نوح عليه السلام :
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون( ١٤ )فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين ﴾( العنكبوت : ١٤-١٥ ).
الإيضاح : بعد أن ذكر افتتان المؤمنين بأذى الكفار، وأرشد إلى من قبلهم من الأمم قد فتنوا، أعقبه بتفصيل من فتنوا من الأنبياء : كنوح وإبراهيم وهود ولوط وشعيب تسلية له صلى الله عليه وسلم، فقد ابتلوا بما أصابهم من المكاره، وصبروا عليها، فليكن ذلك قدوة للمؤمنين.
وقد بدأ بذكر أبي الأنبياء نوح عليه السلام فذكر أنه مكث في قومه ألف سنة يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا سرا وجهرا، وما زادهم ذلك إلا فرارا من الحق، وإعراضا عنه، وتكذيبا له، وما آمن معه إلا قليل منهم، فأنزل الله عليهم الطوفان فأهلكهم وهم مستمرون في الظلم، لم يتأثروا بما سمعوا من نوح من الآيات، ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة، فأنجى الله نوحا ومن معه ممن ركب السفينة من أتباعه، وكانت تلك السفينة عبرة وموعظة أمدا طويلا مدة بقائها على جبل الجودى، ينظر إليها الناس، وترشدهم إلى نعمته على خلقه بالنجاة من الطوفان، كما قال :﴿ إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية( ١١ )لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية ﴾( الحاقة : ١١-١٢ )وقد تقدم تفصيل هذا في سورة هود.
وجاء النظم هكذا :﴿ إلا خمسين عاما ﴾، ولم يقل : تسعمائة سنة وخمسين سنة، لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني فقد يطلق على ما يقرب منه، إلى أن ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض، وجيء بالمميز أولا بالسنة، ثم بالعام دفعا للتكرار، ولأن العرب تعبر عن الخصب بالعام، وعن الجدب بالسنة، ونوح لما استراح بقي في زمن حسن.
العبرة من هذا القصص : لا يحزننك أيها الرسول ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى، فإني وإن أمليت لهم وأطلت إملاءهم، فإن مصيرهم إلى البوار، ومصيرك ومصير أصحابك إلى العلو والنصر، كفعلنا بقوم نوح : إذ أغرقناهم بالطوفان، وأنجينا نوحا وأتباعه من راكبي السفينة وجعلناها عبرة للعالمين.
وفي ذلك إيماء إلى أن نوحا قد لبث هذا الأمد الطويل يدعو قومه، ولم يؤمن إلا القليل، فصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر، لقلة مدة لبثك، وكثرة عدد أمتك.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:قصص نوح عليه السلام :
﴿ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون( ١٤ )فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين ﴾( العنكبوت : ١٤-١٥ ).
الإيضاح : بعد أن ذكر افتتان المؤمنين بأذى الكفار، وأرشد إلى من قبلهم من الأمم قد فتنوا، أعقبه بتفصيل من فتنوا من الأنبياء : كنوح وإبراهيم وهود ولوط وشعيب تسلية له صلى الله عليه وسلم، فقد ابتلوا بما أصابهم من المكاره، وصبروا عليها، فليكن ذلك قدوة للمؤمنين.
وقد بدأ بذكر أبي الأنبياء نوح عليه السلام فذكر أنه مكث في قومه ألف سنة يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا سرا وجهرا، وما زادهم ذلك إلا فرارا من الحق، وإعراضا عنه، وتكذيبا له، وما آمن معه إلا قليل منهم، فأنزل الله عليهم الطوفان فأهلكهم وهم مستمرون في الظلم، لم يتأثروا بما سمعوا من نوح من الآيات، ولم يرعووا عما هم عليه من الكفر والمعاصي هذه المدة، فأنجى الله نوحا ومن معه ممن ركب السفينة من أتباعه، وكانت تلك السفينة عبرة وموعظة أمدا طويلا مدة بقائها على جبل الجودى، ينظر إليها الناس، وترشدهم إلى نعمته على خلقه بالنجاة من الطوفان، كما قال :﴿ إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية( ١١ )لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية ﴾( الحاقة : ١١-١٢ )وقد تقدم تفصيل هذا في سورة هود.
وجاء النظم هكذا :﴿ إلا خمسين عاما ﴾، ولم يقل : تسعمائة سنة وخمسين سنة، لأن في الاستثناء تحقيق العدد بخلاف الثاني فقد يطلق على ما يقرب منه، إلى أن ذكر الألف أفخم وأوصل إلى الغرض، وجيء بالمميز أولا بالسنة، ثم بالعام دفعا للتكرار، ولأن العرب تعبر عن الخصب بالعام، وعن الجدب بالسنة، ونوح لما استراح بقي في زمن حسن.
العبرة من هذا القصص : لا يحزننك أيها الرسول ما تلقى من هؤلاء المشركين أنت وأصحابك من الأذى، فإني وإن أمليت لهم وأطلت إملاءهم، فإن مصيرهم إلى البوار، ومصيرك ومصير أصحابك إلى العلو والنصر، كفعلنا بقوم نوح : إذ أغرقناهم بالطوفان، وأنجينا نوحا وأتباعه من راكبي السفينة وجعلناها عبرة للعالمين.
وفي ذلك إيماء إلى أن نوحا قد لبث هذا الأمد الطويل يدعو قومه، ولم يؤمن إلا القليل، فصبر وما ضجر، فأنت أولى بالصبر، لقلة مدة لبثك، وكثرة عدد أمتك.

قصص إبراهيم عليه السلام :
﴿ وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون( ١٦ )إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون( ١٧ )وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم وما على الرسول إلا البلاغ المبين ﴾( العنكبوت١٦-١٨ ).
الإيضاح :﴿ وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه ﴾أي واذكر لقومك قصص إبراهيم حين كمل عقله، وقدر على النظر والاستدلال، وترقى من مرتبة الكمال إلى مرتبة إرشاد الخلق، وتصدى للدعوة إلى طريق الحق، فدعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والإخلاص له في السر والعلن، واتقاء سخطه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه.
ثم بين لهم فائدة ذلك فقال :
﴿ ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون ﴾أي فذلك الذي آمركم به خير لكم مما أنتم عليه إن كان لديكم ذرة من الإدراك والعلم، تميزون بها الخير من الشر، وتعلمون ما ينفعكم في مستأنف حياتكم الدنيوية والأخروية.
الإيضاح : ثم أرشدهم إلى فضل ما يدعوهم إليه، وفساد ما هم عليه بقوله :
﴿ إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا ﴾أي ما تعبدون من دون الله إلا تماثيل هي مصنوعة بأيديكم، وتكذبون حين تسمونها آلهة، وتدعون أنها تشفع لكم عند ربكم.
ثم زاد في النعي عليهم والتهكم بهم، وبيان أن ذلك لا يجديهم نفعا فقال :
﴿ إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا ﴾أي إن أوثانكم التي تعبدون لا تقدر أن ترزقكم شيئا من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه، فكيف تعبدونها ؟
ثم ذكر لهم من ينبغي أن يعبد فقال :
﴿ فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له ﴾أي فالتمسوا الرزق عند الله لا عند أوثانكم تدركوا ما تطلبون، واعبدوه وحده، واشكروا له نعمه عليكم مستجلبين بذلك المزيد من فضله.
وبعد أن ذكر أنه هو الرزاق في الدنيا والمنعم على عباده، بين أن المرجع إليه في الآخرة ؛ فهو الذي يطلب رضاه، والتقرب إليه، والزلفى عنده، فقال :
﴿ إليه ترجعون ﴾أي واستعدوا للقائه تعالى بالعبادة والشكر له، فإنكم إليه ترجعون ؛ فيسألكم عما أنتم عليه من عبادتكم غيره، وأنتم عباده وخلقه ؛ وفي نعمه تتقلبون، ومن رزقه تأكلون.
الإيضاح : ولما فرغ من إرشادهم إلى الدين الحق ؛ حذّرهم من تركه، وهددهم بما حلّ بمن قبلهم من المكذبين للرسل فقال :
﴿ وإن تكذبوا فقد كذب أمم من قبلكم ﴾أي وإن تصدقوني فقد فزتم بسعادة الدارين، وإن تكذبوني فيما أخبرتكم به فلا تضروني بتكذيبكم، فقد كذب أمم قبلكم رسلهم : كقوم إدريس ونوح وهود وصالح عليهم السلام، فجرى الأمر على ما سنه الله في الخلق من نجاة المصدقين للرسل، وهلاك العاصين لهم.
﴿ وما على الرسول إلا البلاغ المبين ﴾أي وما ضر ذلك الرسل شيئا، بل هم قد ضروا أنفسهم، فما على الرسول إلا التبليغ الذي لا يبقى معه شك، وما عليه أن يصدقه قومه، وقد خرجت من عهدة التبليغ، ولا عليّ بعد ذلك أصدقتم، أم كذبتم ؟
﴿ أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير( ١٩ )قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير( ٢٠ )يعذب من يشاء ويرحم من يشاء وإليه تقلبون( ٢١ )وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير( ٢٢ ) والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم ﴾( العنكبوت : ١٩-٢٣ ).
المعنى الجملي : بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية، ثم الرسالة بقوله :﴿ وما على الرسول إلا البلاغ المبين ﴾( النور : ٥٤ )شرع يبين الأصل الثالث وهو البعث والنشور، وقد قلنا فيما سلف : إن هذه الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها من بعض في الذكر الإلهي، فأينما تجد أصلين منها تجد الثالث.
الإيضاح :﴿ أولم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير ﴾أرشد إبراهيم خليل الرحمان قومه إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه، بما يشاهدونه في أنفسهم من خلقهم بعد أن لم يكونوا شيئا مذكورا، ثم إعطائهم السمع والبصر والأفئدة، وتصرفهم في الحياة إلى حين، ثم موتهم بعد ذلك، والذي بدأ هذا قادر على أن يعيده، بل هو أهون عليه، كما قال في آية أخرى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه ﴾( الروم : ٢٧ ).
وخلاصة هذا : أنتم قد علمتم ذلك فكيف تنكرون الإعادة وهي أهون عليه ؟.
وبعد أن ساق هذا الدليل المشاهد في الأنفس، أرشد إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة فقال :﴿ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ﴾.
تفسير المفردات : النشأة : الخلق والإيجاد.
المعنى الجملي : بعد أن أقام الأدلة على الوحدانية، ثم الرسالة بقوله :﴿ وما على الرسول إلا البلاغ المبين ﴾( النور : ٥٤ )شرع يبين الأصل الثالث وهو البعث والنشور، وقد قلنا فيما سلف : إن هذه الأصول الثلاثة لا يكاد ينفصل بعضها من بعض في الذكر الإلهي، فأينما تجد أصلين منها تجد الثالث.
الإيضاح :﴿ قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير ﴾أي سيروا في الأرض وشاهدوا السماوات وما فيها من الكواكب النيرة. ثوابتها وسياراتها، والأرض وما فيها من جبال ومهاد، وبراري وقفار، وأشجار وثمار، وأنهار وبحار، فكل ذلك شاهد على حدوثها في أنفسها وعلى جود صانعها الذي يقول للشيء كن فيكون.
أوليس من فعل هذا بقادر على أن ينشئه نشأة أخرى، ويوجده مرة ثانية وهو القادر على كل شيء ؟.
وشبيه بالآية قوله في الآية الأخرى :﴿ سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ﴾( فصلت : ٥٣ ).
تفسير المفردات : تقلبون : أي تردون بعد موتكم.
سورة العنكبوت
آيها تسع وستون
هي مكية إلا من أولها إلى قوله :﴿ وليعلمن المنافقين ﴾( العنكبوت : ١١ )فمدنية، نزلت بعد سورة الروم.

ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه :

إنه ذكر في السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته، وجعله أهلها شيعا، وافتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم المشركون، وعذبوهم على الإيمان، دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل ؛ تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثا لهم على الصبر كما قال :﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم ﴾( العنكبوت : ٣ ).
ذكر في السورة السابقة نجاة موسى من فرعون وهربه منه ثم عوده إلى مصر رسولا نبيا، ثم ظفره من بعد بغرق فرعون وقومه ونصره عليهم نصرا مؤزّرا، وذكر هنا نجاة نوح عليه السلام وأصحاب السفينة وإغراق من كذبه من قومه.
نعي هناك على عبدة الأصنام والأوثان، وذكر أنه يفضحهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد - وهنا نعي عليهم أيضا وبين أنهم في ضعفهم كضعف بيت العنكبوت.
هناك قص قصص قارون وفرعون، وهنا ذكرهما أيضا، وبين عاقبة أعمالهما.
ذكر هناك في الخاتمة الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾( القصص : ٨٥ )، وفي خاتمة هذه أشار إلى هجرة المؤمنين بقوله :﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ﴾( العنكبوت : ٥٦ ).
الإيضاح : ولما أقام الدليل على الإعادة رتب عليها ما سيكون بعدها فقال :
﴿ يعذب من يشاء ويرحم من يشاء ﴾أي يعذب من يشاء منكم ومن غيركم في الدنيا والآخرة بعدله في حكمه بحسب سننه في خلقه، ويرحم من يشاء بفضله ورحمته، فهو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم بما يريد، لا معقب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل، وهم يسألون.
﴿ وإليه تقلبون ﴾أي وإليه تردون بعد موتكم ؛ والمراد أنه إن تأخر ذلك عنكم فلا تظنوا أنه قد فات، فإن إليه إيابكم، وعليه حسابكم، وعنده يدّخر ثوابكم وعقابكم.
تفسير المفردات : بمعجزين : أي جاعلين الله عاجزا، من ولي : أي قريب، ولا نصير : أي معين.
سورة العنكبوت
آيها تسع وستون
هي مكية إلا من أولها إلى قوله :﴿ وليعلمن المنافقين ﴾( العنكبوت : ١١ )فمدنية، نزلت بعد سورة الروم.

ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه :

إنه ذكر في السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته، وجعله أهلها شيعا، وافتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم المشركون، وعذبوهم على الإيمان، دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل ؛ تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثا لهم على الصبر كما قال :﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم ﴾( العنكبوت : ٣ ).
ذكر في السورة السابقة نجاة موسى من فرعون وهربه منه ثم عوده إلى مصر رسولا نبيا، ثم ظفره من بعد بغرق فرعون وقومه ونصره عليهم نصرا مؤزّرا، وذكر هنا نجاة نوح عليه السلام وأصحاب السفينة وإغراق من كذبه من قومه.
نعي هناك على عبدة الأصنام والأوثان، وذكر أنه يفضحهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد - وهنا نعي عليهم أيضا وبين أنهم في ضعفهم كضعف بيت العنكبوت.
هناك قص قصص قارون وفرعون، وهنا ذكرهما أيضا، وبين عاقبة أعمالهما.
ذكر هناك في الخاتمة الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾( القصص : ٨٥ )، وفي خاتمة هذه أشار إلى هجرة المؤمنين بقوله :﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ﴾( العنكبوت : ٥٦ ).
الإيضاح :﴿ وما أنتم بمعجزين في الأرض ولا في السماء ﴾أي إنه تعالى لا يعجزه أحد من أهل سماواته ولا أرضه، بل هو القاهر فوق عباده، فكل شيء فقير إليه، فلو صعد إلى السّماكين، أو هبط إلى موضع السموك في الماء ما خرج من قبضته وما استطاع الهرب منه.
ولما بين أنه مقدور عليهم جميعا لا يفلتون منه، ذكر أنه لا يستطيع أحد نصرهم فقال :
﴿ وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير ﴾أي وما كان لكم أيها الناس ولي يلي أموركم، ويحرسكم من أن يصيبكم بلاء أرضي أو سماوي، ولا نصير يدفع عذاب الله عنكم إن قدر لكم.
سورة العنكبوت
آيها تسع وستون
هي مكية إلا من أولها إلى قوله :﴿ وليعلمن المنافقين ﴾( العنكبوت : ١١ )فمدنية، نزلت بعد سورة الروم.

ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه :

إنه ذكر في السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته، وجعله أهلها شيعا، وافتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم المشركون، وعذبوهم على الإيمان، دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل ؛ تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثا لهم على الصبر كما قال :﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم ﴾( العنكبوت : ٣ ).
ذكر في السورة السابقة نجاة موسى من فرعون وهربه منه ثم عوده إلى مصر رسولا نبيا، ثم ظفره من بعد بغرق فرعون وقومه ونصره عليهم نصرا مؤزّرا، وذكر هنا نجاة نوح عليه السلام وأصحاب السفينة وإغراق من كذبه من قومه.
نعي هناك على عبدة الأصنام والأوثان، وذكر أنه يفضحهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد - وهنا نعي عليهم أيضا وبين أنهم في ضعفهم كضعف بيت العنكبوت.
هناك قص قصص قارون وفرعون، وهنا ذكرهما أيضا، وبين عاقبة أعمالهما.
ذكر هناك في الخاتمة الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾( القصص : ٨٥ )، وفي خاتمة هذه أشار إلى هجرة المؤمنين بقوله :﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ﴾( العنكبوت : ٥٦ ).
الإيضاح : ولما قرر التوحيد والبعث هدد من خالفهما وتوعده فقال :
﴿ والذين كفروا بآيات الله ولقائه أولئك يئسوا من رحمتي وأولئك لهم عذاب أليم ﴾أي والذين كفروا بالدلائل التي نصبها سبحانه في الكون دالة على توحيده، والدلائل التي أنزلها على رسله مرشدة إلى ذلك، وجحدوا لقاءه والورود إليه يوم تقوم الساعة، أولئك لا أمل لهم في رحمته، لأنهم لم يخافوا عقابه، ولم يرجوا ثوابه، ولهم عذاب مؤلم موجع في الدنيا والآخرة.
ونحو الآية قوله :﴿ إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ﴾( يوسف : ٨٧ ).
﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون( ٢٤ )وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ﴾( العنكبوت : ٢٤-٢٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن أقام لهم الحجج والبراهين على الوحدانية وإرسال الرسل والحشر والجزاء ؛ أردف هذا ببيان أنهم جحدوا وعاندوا ودفعوا الحق بالباطل بعد أن ألزمهم الحجة، ولم يجدوا للدفاع سبيلا، وحينئذ عدلوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، فقالوا لقومهم :" ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم "، فأنجاه الله من كيدهم، وجعلها عليه بردا وسلاما، فعاد إلى لومهم بعد أن أخرج من النار، وقال : إن تمسككم بما أنتم عليه لم يكن عن دليل وبرهان، بل عن تقليد وحفظ للمودة بينكم، فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة ولكنكم يوم القيامة تتحاجون حين يزول عمي القلوب، وتستبين الأمور للبيب الأريب، ويكفر بعضكم بعضا، فيقول العابد : ما هذا معبودي، ويقول المعبود : ما هؤلاء بعبدتي، ويلعن بعضكم بعضا، فيقول هذا لذاك : أنت الذي أوقعتني في العذاب حيث عبدتني، ويقول ذاك لهذا : أنت الذي أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادته، ويود كل منكم أن يبعد عن صاحبه، وأنى لهما ذلك، وهما مجتمعان في النار ؟ وما لهما ناصر يخلصهما منها كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها.
الإيضاح :﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه فأنجاه الله من النار ﴾أي فلم يكن جوابهم إذ قال لهم : اعبدوا الله واتقوه. إلا أن قال بعضهم لبعض : اقتلوه أو أحرقوه بالنار، فأضرموا النار وألقوه فيها، فأنجاه الله منها، ولم يسلطها عليه، بل جعلها بردا وسلاما.
ثم ذكر ما في هذا من العبرة لمن اعتبر فقال :
﴿ إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون ﴾أي إن في إنجائنا لإبراهيم من النار، وقد ألقي فيها وهي تستعر وتصييرها بردا وسلاما عليه - لأدلة وحججا لقوم يؤمنون بالله إذا عاينوا ورأوا مثل هذه الحجة.
ثم ذكر ما قاله إبراهيم لهم بعد إنجائه من النار :﴿ وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن أقام لهم الحجج والبراهين على الوحدانية وإرسال الرسل والحشر والجزاء ؛ أردف هذا ببيان أنهم جحدوا وعاندوا ودفعوا الحق بالباطل بعد أن ألزمهم الحجة، ولم يجدوا للدفاع سبيلا، وحينئذ عدلوا إلى استعمال القوة كما هو دأب المحجوج المغلوب على أمره، فقالوا لقومهم :" ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم "، فأنجاه الله من كيدهم، وجعلها عليه بردا وسلاما، فعاد إلى لومهم بعد أن أخرج من النار، وقال : إن تمسككم بما أنتم عليه لم يكن عن دليل وبرهان، بل عن تقليد وحفظ للمودة بينكم، فلا يريد أحدكم أن يفارقه صاحبه في السيرة والطريقة ولكنكم يوم القيامة تتحاجون حين يزول عمي القلوب، وتستبين الأمور للبيب الأريب، ويكفر بعضكم بعضا، فيقول العابد : ما هذا معبودي، ويقول المعبود : ما هؤلاء بعبدتي، ويلعن بعضكم بعضا، فيقول هذا لذاك : أنت الذي أوقعتني في العذاب حيث عبدتني، ويقول ذاك لهذا : أنت الذي أوقعتني فيه حيث أضللتني بعبادته، ويود كل منكم أن يبعد عن صاحبه، وأنى لهما ذلك، وهما مجتمعان في النار ؟ وما لهما ناصر يخلصهما منها كما خلصني ربي من النار التي ألقيتموني فيها.
الإيضاح :﴿ وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانا مودة بينكم في الحياة الدنيا ﴾أي وقال لهم إبراهيم مؤنبا وموبخا على سوء صنيعهم بعبادة الأوثان : إنما اجتمعتم على عبادتها في الدنيا للصداقة والألفة التي بين بعضكم وبعض، فأنتم تتحابون على عبادتها، وتتوادون على خدمتها، كما يتفق الناس على مذهب، فيكون ذلك سبب ألفتهم ومودتهم، لا لقيام الدليل عندكم على صحة عبادتها.
وقصارى ذلك : إن مودة بعضكم بعضا هي التي دعتكم إلى عبادتها، إذ قد رأيتم بعض من تودون عبدوها، فعبدتموها موافقة لهم لمودتكم إياهم، كما يرى الإنسان من يوده يفعل شيئا، فيفعله مودة له.
ثم ذكر أن حالهم في الآخرة ستكون على نقيض هذا فقال :
﴿ ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا ومأواكم النار وما لكم من ناصرين ﴾أي ثم تنعكس الحال يوم القيامة، فتنقلب الصداقة والمودة بغضا وشنآنا وتتجاحدون ما كان بينكم، ويلعن بعضكم بعضا، فيلعن الأتباع المتبوعين، والمتبوعون الأتباع كما قال :﴿ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين ﴾( الزخرف : ٦٧ )ثم مرجعكم إلى النار، وما لكم من ناصر ينصركم، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله.
﴿ فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي إنه هو العزيز الحكيم( ٢٦ )ووهبنا له إسحاق ويعقوب وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب وآتيناه أجره في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾( العنكبوت : ٢٦-٢٧ ).
تفسير المفردات : لوط : هو ابن أخي إبراهيم على ما قاله النسابون - مهاجر إلى ربي : أي إلى الجهة التي أمرني بالهجرة إليها، وإسحاق هو ابنه الأكبر.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر إنجاء إبراهيم من النار، وأن ذلك معجزة لا يفقه قدرها إلا ما كان ذكي الفؤاد، قوي الفطنة، يفهم الدلائل التي أودعها الله في الكون- أردف هذا بيان أنه لم يصدق بما رأى إلا لوط عليه السلام، فقد آمن به، واستقر الإيمان في قلبه. ثم بين أن إبراهيم لما يئس من إيمان قومه هاجر إلى بلاد الشام - فرارا بدينه وقصدا إلى إرشاد الناس وهدايتهم، ثم عدد نعمه العاجلة عليه في الدنيا بأن آتاه بنين وحفدة، وجعل فيهم النبوة، وأنزل عليهم الكتب، وآتاه الذكر الحسن إلى يوم القيامة، ونعمه الآجلة أنه مكتوب في عداد الكملة في الصلاح والتقوى.
الإيضاح :﴿ فآمن له لوط وقال إني مهاجر إلى ربي ﴾أي فلما رأى لوط معجزة إبراهيم آمن به وقال إبراهيم : إني جاعل بلاد الشام دار هجرتي ؛ إذ أمرني ربي بالتوجيه إليها، ويقال : إن مهجره كان من كوثى من سواد الكوفة إلى أرض الشام، فإنه لما بالغ في الإرشاد ولم يهتد به أحد من قومه إلا لوط أصبح بقاؤه بينهم مفسدة، لأنه إما اشتغال بما لا فائدة فيه وهو عبث، وإما سكوت وهو دليل الرضا، فلم تبق إلا الهجرة.
ذكر البيهقي عن قتادة قال : أول من هاجر من المسلمين إلى الله عز وجل بأهله عثمان بن عفان رضي الله عنه، قال أنس بن مالك : خرج عثمان بن عفان ومعه رقية بنت رسول الله إلى أرض الحبشة، فأبطأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرهما، فقدمت امرأة من قريش فقالت : يا محمد رأيت ختنك ومعه امرأته، قال على أي حال رأيتهما ؟ قالت : رأيته وقد حمل امرأته على حمار من هذه الدبابة( التي تدب في الأرض ولا تسرع )وهو يسوقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر بأهله بعد لوط ".
ثم ذكر العلة في الهجرة فقال :
﴿ إنه هو العزيز الحكيم ﴾أي إن ربي هو العزيز الذي لا يذل من نصره، بل يمنعه ممن أراده بسوء، الحكيم في تدبير شؤون خلقه، وتصريفه إياهم فيما صرفهم فيه.
تفسير المفردات : ويعقوب : حفيده وابن إسحاق، وأجر الدنيا : الرزق الواسع الهني، والمنزل الرحب، والمورد العذب، والزوجة الصالحة، والثناء الجميل، والذكر الحسن، والصالح لغة : هو الباقي على ما ينبغي، يقال : طعام بعد صالح أي هو باق على حال حسنة.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر إنجاء إبراهيم من النار، وأن ذلك معجزة لا يفقه قدرها إلا ما كان ذكي الفؤاد، قوي الفطنة، يفهم الدلائل التي أودعها الله في الكون- أردف هذا بيان أنه لم يصدق بما رأى إلا لوط عليه السلام، فقد آمن به، واستقر الإيمان في قلبه. ثم بين أن إبراهيم لما يئس من إيمان قومه هاجر إلى بلاد الشام - فرارا بدينه وقصدا إلى إرشاد الناس وهدايتهم، ثم عدد نعمه العاجلة عليه في الدنيا بأن آتاه بنين وحفدة، وجعل فيهم النبوة، وأنزل عليهم الكتب، وآتاه الذكر الحسن إلى يوم القيامة، ونعمه الآجلة أنه مكتوب في عداد الكملة في الصلاح والتقوى.
ثم ذكر سبحانه ما منّ به عليه من النعم في الدنيا والآخرة كفاء إخلاصه له فقال :
١ )﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب ﴾أي ورزقناه من لدنا إسحاق ولدا ويعقوب من بعده حفيدا.
ونحو الآية قوله :﴿ فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله وهبنا له إسحاق ويعقوب وكلا جعلنا نبيا ﴾( مريم : ٤٩ )وقوله :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ﴾( الأنبياء : ٧٢ )وفي الصحيحين :" إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ".
٢ )﴿ وجعلنا في ذريته النبوة والكتاب ﴾فلم يوجد نبي بعده إلا وهو من سلائله، فجميع أنبياء بني إسرائيل من أولاد يعقوب، حتى كان آخرهم عيسى ابن مريم.
٣ )﴿ وآتيناه أجره في الدنيا ﴾فبدل الله أحواله في الدنيا بأضدادها، فبدل وحدته بكثرة الذرية، وبدل قومه الضالين بقوم مهتدين، وهم ذريته الذين جعل فيهم النبوة والكتاب، وكان لا مال له ولا جاه وهما غاية اللذة في الدنيا، فكثر ماله، وعظم جاهه، فصارت تقرن الصلاة عليه بالصلاة على سائر الأنبياء، وصار معروفا بأنه شيخ الأنبياء بعد أن كان خامل الذكر، حتى قال قائلهم :﴿ سمعنا فتى يقال له إبراهيم ﴾( الأنبياء : ٦٠ )وهذا لا يقال إلا في المجهول بين الناس، إلى أنه تعالى اتخذه خليلا، وجعله للناس إماما.
٤ )﴿ وإنه في الآخرة لمن الصالحين ﴾أي وإنه في الآخرة لفي عداد الكملة في الصلاح والتقوى، المستحقين لتوفير الأجر، وكثرة العطاء، والفوز بالدرجات العلى من لدن رب العالمين.
وقصارى أمره : إنه سبحانه جمع له بين سعادة الدارين، وآتاه الحسنى في الحياتين.
قصص لوط عليه السلام :
﴿ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين( ٢٨ )أئنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين( ٢٩ )قال رب انصرني على القوم المفسدين ﴾( العنكبوت : ٢٨-٣٠ ).
تفسير المفردات : الفاحشة : الفعلة القبيحة التي تنفر منها النفوس الكريمة.
المعنى الجملي : بعد أن قص علينا سبحانه قصص إبراهيم وما لاقاه من قومه من العتو والجبروت، ثم نصره له نصرا مؤزرا، أعقبه بقصص لوط، إذ كان معاصرا له وسبقه إلى الدعوة إلى الله، وقد افتن قومه في فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سذوم العذاب جاؤوا ضيوفا لإبراهيم عليه السلام.
الإيضاح :﴿ ولوطا إذ قال لقومه إنكم لتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين ﴾أي واذكر قصص لوط حين أرسلناه إلى أهل سذوم الذين سكن فيهم وصاهرهم وانقطع إليهم فصاروا قومه، فأنكر عليهم سوء صنيعهم وقبيح أفعالهم التي اختصوا بها، ولم يسبقهم إليها أحد من قبلهم، لفظاعتها، ونفرة الطباع السليمة منها.
ثم فصل هذه الفاحشة وكرر الإنكار عليها فقال :
١- ﴿ أئنكم لتأتون الرجال ﴾.
٢- ﴿ وتقطعون السبيل ﴾.
٣- ﴿ وتأتون في ناديكم المنكر ﴾.
تفسير المفردات : السبيل : الطريق، وكانوا يتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ الأموال.
المعنى الجملي : بعد أن قص علينا سبحانه قصص إبراهيم وما لاقاه من قومه من العتو والجبروت، ثم نصره له نصرا مؤزرا، أعقبه بقصص لوط، إذ كان معاصرا له وسبقه إلى الدعوة إلى الله، وقد افتن قومه في فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سذوم العذاب جاؤوا ضيوفا لإبراهيم عليه السلام.
الإيضاح : ١ )﴿ أئنكم لتأتون الرجال ﴾إتيان الشهوة، وتستمتعون بهم الاستمتاع بالنساء.
٢ )﴿ وتقطعون السبيل ﴾أي وتقفون في الطرقات تتعرضون للمارة تقتلونهم وتأخذون أموالهم.
٣ )﴿ وتأتون في ناديكم المنكر ﴾أي وتفعلون من الأفعال والأقوال في أنديتكم ومجتمعاتكم ما لا يليق، ويخجل منه أرباب الفطر السليمة، والعقول الراجحة الحصيفة.
أخرج أحمد والترمذي والطبراني والبيهقي عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى :﴿ وتأتون في ناديكم المنكر ﴾فقال :" كانوا يجلسون بالطريق فيخذفون- يرمون بالحصى- أبناء السبيل، ويسخرون منهم ". وفي رواية عن ابن عباس :" هو الخذف بالحصى والرمي بالبنادق والفرقعة ومضغ العلك- اللبان- والسواك بين الناس وحل الإزار والسباب والفحش في المزاح ".
ثم ذكر جوابهم عن نصحه لهم فقال :
﴿ فما كان جواب قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين ﴾أي فما كان جوابهم إذ نهاهم عما يكرهه الله من إتيان الفواحش التي حرمها عليهم إلا قولهم : ائتنا بعذاب الله الذي تعدنا به إن كنت صادقا فيما تقول، ومنجزا ما تعد، وكان قد أوعدهم بالعذاب على ذلك.
وهذا الجواب صدر منهم في أولى مواعظه، فلما ألحف عليهم في الإنكار والنهي قالوا :﴿ أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ﴾( الأعراف : ٨٢ )كما جاء في سورة الأعراف وفي هذا إيماء إلى شديد كفرهم، وعظيم عنادهم.
ولما يئس من هدى قومهم واتباعهم نصحه طلب من الله نصره فقال :﴿ قال رب انصرني على القوم المفسدين ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن قص علينا سبحانه قصص إبراهيم وما لاقاه من قومه من العتو والجبروت، ثم نصره له نصرا مؤزرا، أعقبه بقصص لوط، إذ كان معاصرا له وسبقه إلى الدعوة إلى الله، وقد افتن قومه في فعلة لم يسبقهم إليها أحد من العالمين، ولأن الملائكة الذين أنزلوا بقرية سذوم العذاب جاؤوا ضيوفا لإبراهيم عليه السلام.
الإيضاح :﴿ قال رب انصرني على القوم المفسدين ﴾أي قال رب انصرني على هؤلاء الذين ابتدعوا الفواحش، وجعلوها سنة فيمن بعدهم، وأصروا عليها، وجعلوا وعيدنا لهم تهكما وسخرية، فأنزل عليهم رجزا من السماء بما كانوا يفسقون.
﴿ ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين( ٣١ )قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بما فيها لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين( ٣٢ )ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين( ٣٣ )إنا منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون( ٣٤ )ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون ﴾( العنكبوت : ٣١-٣٥ ).
تفسير المفردات : القرية : هي سذوم.
المعنى الجملي : لما استنصر لوط عليه السلام بربه بقوله :﴿ رب انصرني على القوم المفسدين ﴾( العنكبوت : ٣٠ )استجاب دعاءه وبعث لنصرته ملائكة، وأمرهم بإهلاك قومه، وأرسلهم من قبل بالبشرى لإبراهيم فجاؤوه وبشروه بذرية طيبة ثم قالوا له : إنا مهلكو أهل هذه القرية لتمادي أهلها في الشر وإصرارهم على الكفر والمعاصي، فأشفق إبراهيم على لوط وقال إن في القرية لوطا فقالوا إنا منجوه وأهله إلا امرأته، ثم ننزل عليهم من السماء عذابا بما اجترحوا من السيئات واجترموا من الذنوب والآثام، ثم ندعهم عبرة للغابرين، وآية بينة لقوم يعقلون.
الإيضاح :﴿ ولما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكو أهل هذه القرية ﴾أي ولما جاءت رسل الله مبشرة بإسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب - قالوا لإبراهيم إنا مهلكو قرية سذوم قرية قوم لوط.
ثم ذكروا سبب ذلك فقالوا :
﴿ إن أهلها كانوا ظالمين ﴾لأنفسهم بتماديهم في فنون الفساد، وأنواع المعاصي، وتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولما قالت له الملائكة ذلك :﴿ قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها ﴾.
تفسير المفردات : الغابرين : الباقين، وهو لفظ مشترك في الماضي والباقي ؛ يقال فيما غبر من الزمان : أي فيما مضى، ويقال الفعل ماض، وغابر : أي باق.
المعنى الجملي : لما استنصر لوط عليه السلام بربه بقوله :﴿ رب انصرني على القوم المفسدين ﴾( العنكبوت : ٣٠ )استجاب دعاءه وبعث لنصرته ملائكة، وأمرهم بإهلاك قومه، وأرسلهم من قبل بالبشرى لإبراهيم فجاؤوه وبشروه بذرية طيبة ثم قالوا له : إنا مهلكو أهل هذه القرية لتمادي أهلها في الشر وإصرارهم على الكفر والمعاصي، فأشفق إبراهيم على لوط وقال إن في القرية لوطا فقالوا إنا منجوه وأهله إلا امرأته، ثم ننزل عليهم من السماء عذابا بما اجترحوا من السيئات واجترموا من الذنوب والآثام، ثم ندعهم عبرة للغابرين، وآية بينة لقوم يعقلون.
الإيضاح :﴿ قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها ﴾أي قال إبراهيم إشفاقا على لوط ليعلم حاله : إن في القرية لوطا وهو ليس من الظالمين لأنفسهم، بل هو من رسل الله وأهل الإيمان به والطاعة له، فقال الرسل نحن أعلم منك بمن فيها من الكافرين، وبأن لوطا ليس منهم.
ثم زادوا ما سلف إيضاحا وطمأنوه بذكر ما يسره من نجاته بقولهم.
﴿ لننجينه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين ﴾أي لننجينه وأتباعه من الهلاك الذي هو نازل بأهل القرية إلا امرأته فإنها من الباقين في العذاب لممالأتها إياهم على الكفر والبغي وفعل الخبائث.
تفسير المفردات : سيء بهم : أي جاءته المساءة والغم بسببهم مخافة أن يقصدهم قومه بسوء، ضاق بهم ذرعا : أي عجز عن تدبير شؤونهم، يقال : طال ذرعه وذراعه على الشيء إذا كان قادرا عليه، ومثله رحب ذرعه، وضده ضاق ذرعه، لأن طويل الذراع ينال ما لا يناله قصيره.
المعنى الجملي : لما استنصر لوط عليه السلام بربه بقوله :﴿ رب انصرني على القوم المفسدين ﴾( العنكبوت : ٣٠ )استجاب دعاءه وبعث لنصرته ملائكة، وأمرهم بإهلاك قومه، وأرسلهم من قبل بالبشرى لإبراهيم فجاؤوه وبشروه بذرية طيبة ثم قالوا له : إنا مهلكو أهل هذه القرية لتمادي أهلها في الشر وإصرارهم على الكفر والمعاصي، فأشفق إبراهيم على لوط وقال إن في القرية لوطا فقالوا إنا منجوه وأهله إلا امرأته، ثم ننزل عليهم من السماء عذابا بما اجترحوا من السيئات واجترموا من الذنوب والآثام، ثم ندعهم عبرة للغابرين، وآية بينة لقوم يعقلون.
الإيضاح : ثم ذكر ما كان من أمر لوط حين مجيء الرسل ضيوفا لديه فقال :
﴿ ولما أن جاءت رسلنا لوطا سيء بهم وضاق بهم ذرعا وقالوا لا تخف ولا تحزن ﴾أي ولما أن جاءت الملائكة من عند إبراهيم إلى لوط على صورة بشر حسان الوجوه خاف عليهم من قومه، وحصلت له مساءة وغم بسببهم، مخافة أن يقصدهم أحد بسوء وهو عاجز عن مدافعة قومه، وتدبير الحيلة لحمايتهم ودفع الأذى عنهم، وحين رأوه على هذه الحال من القلق والاضطراب قالوا له : هوّن على نفسك ولا تخف علينا، ولا تحزن بما نفعله بقومك، فإنهم قد بلغوا في الخبث مبلغا لا مطمع في رجوعهم عنه مهما نصحت وألحفت في الإرشاد.
ثم ذكروا ما يوجب زوال خوفه وحزنه وما يشيرون به إلى أنهم ملائكة فقالوا :
﴿ إنا منجوك وأهلك إلا امرأتك كانت من الغابرين ﴾أي إنا منجوك من العذاب الذي سينزل بقومك، ومنجو أتباعك معك، فلن يصيبكم ما يصيبهم منه إلا امرأتك فإنها من الهالكين، لمظاهرتها إياهم والميل إلى شد أزرهم والدفاع عنهم، فقد كانت تدلهم على ضيوفه، فيقصدونهم بالسوء، فصارت شريكة لهم في الجرم.
وبعد أن بشروه بالنجاة قالوا له :﴿ إنا منزلون على أهل هذا القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ﴾.
تفسير المفردات : الرجز : العذاب الذي يقلق المتعذب أي يزعجه من قولهم : ارتجز فلان وارتجس : أي اضطرب.
المعنى الجملي : لما استنصر لوط عليه السلام بربه بقوله :﴿ رب انصرني على القوم المفسدين ﴾( العنكبوت : ٣٠ )استجاب دعاءه وبعث لنصرته ملائكة، وأمرهم بإهلاك قومه، وأرسلهم من قبل بالبشرى لإبراهيم فجاؤوه وبشروه بذرية طيبة ثم قالوا له : إنا مهلكو أهل هذه القرية لتمادي أهلها في الشر وإصرارهم على الكفر والمعاصي، فأشفق إبراهيم على لوط وقال إن في القرية لوطا فقالوا إنا منجوه وأهله إلا امرأته، ثم ننزل عليهم من السماء عذابا بما اجترحوا من السيئات واجترموا من الذنوب والآثام، ثم ندعهم عبرة للغابرين، وآية بينة لقوم يعقلون.
الإيضاح :﴿ إنا منزلون على أهل هذا القرية رجزا من السماء بما كانوا يفسقون ﴾أي منزلون عليها عذابا من لدنا يرتجزون له( يضطربون )وتنخلع له قلوبهم، لأن الفسق قد تغلغل في أفئدتهم، وصار هجّيراهم وديدنهم.
وأشهر الآراء أن زلزلة خسفت بهم الأرض، وابتلعتهم في باطنها وصار مكان قريتهم بحيرة ملحة( البحر الميت ).
وبعدئذ بين أن ما حل بهم عبرة لمن اعتبر وادّكر فقال :﴿ ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون ﴾.
المعنى الجملي : لما استنصر لوط عليه السلام بربه بقوله :﴿ رب انصرني على القوم المفسدين ﴾( العنكبوت : ٣٠ )استجاب دعاءه وبعث لنصرته ملائكة، وأمرهم بإهلاك قومه، وأرسلهم من قبل بالبشرى لإبراهيم فجاؤوه وبشروه بذرية طيبة ثم قالوا له : إنا مهلكو أهل هذه القرية لتمادي أهلها في الشر وإصرارهم على الكفر والمعاصي، فأشفق إبراهيم على لوط وقال إن في القرية لوطا فقالوا إنا منجوه وأهله إلا امرأته، ثم ننزل عليهم من السماء عذابا بما اجترحوا من السيئات واجترموا من الذنوب والآثام، ثم ندعهم عبرة للغابرين، وآية بينة لقوم يعقلون.
الإيضاح :﴿ ولقد تركنا منها آية بينة لقوم يعقلون ﴾أي ولقد أبقينا مما فعلنا بهم عبرة بينة، وعظة زاجرة، لقوم يستعملون عقولهم في الاستبصار، وجعلناها مثلا للآخرين.
ونحو الآية قوله :﴿ وإنكم لتمرون عليهم مصبحين( ١٣٧ )وبالليل أفلا تعقلون ﴾( الصافات : ١٣٧-١٣٨ ).
وتقدم أن قلنا آنفا عند ذكر هذه القصة ما أثبته الكشف الحديث في هذا الموضع.
قصة شعيب عليه السلام :
﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين( ٣٦ )فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾( العنكبوت : ٣٦-٣٧ ).
تفسير المفردات : مدين : أبو القبيلة، وارجوا اليوم الآخر : أي توقعوه وتوقعوا ما يحدث فيه من الأهوال، ولا تعثوا : أي ولا تفسدوا.
الإيضاح :﴿ وإلى مدين أخاهم شعيبا فقال يا قوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الآخر ولا تعثوا في الأرض مفسدين ﴾أي وأرسلنا إلى مدين شعيبا فقال لهم : يا قوم اعبدوا الله وحده، وأخلصوا له العبادة، وارجوا بعبادتكم إياه جزاء اليوم الآخر وثوابه، ولا تفسدوا في الأرض، ولا تبغوا على أهلها، فتنقصوا المكيال والميزان، وتقطعوا الطريق على الناس، بل توبوا إلى ربكم وأنيبوا إليه.
ثم ذكر ما أعقب هذا النصح فقال :﴿ فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾.
تفسير المفردات : والرجفة : الزلزلة الشديدة، جاثمين : أي مقيمين، من جثم الطائر : إذا قعد ولصق بالأرض، والمراد أنهم ماتوا.
سورة العنكبوت
آيها تسع وستون
هي مكية إلا من أولها إلى قوله :﴿ وليعلمن المنافقين ﴾( العنكبوت : ١١ )فمدنية، نزلت بعد سورة الروم.

ووجه اتصالها بما قبلها من وجوه :

إنه ذكر في السورة السالفة استعلاء فرعون وجبروته، وجعله أهلها شيعا، وافتتح هذه السورة بذكر المؤمنين الذين فتنهم المشركون، وعذبوهم على الإيمان، دون ما عذب به فرعون بني إسرائيل ؛ تسلية لهم بما وقع لمن قبلهم، وحثا لهم على الصبر كما قال :﴿ ولقد فتنا الذين من قبلهم ﴾( العنكبوت : ٣ ).
ذكر في السورة السابقة نجاة موسى من فرعون وهربه منه ثم عوده إلى مصر رسولا نبيا، ثم ظفره من بعد بغرق فرعون وقومه ونصره عليهم نصرا مؤزّرا، وذكر هنا نجاة نوح عليه السلام وأصحاب السفينة وإغراق من كذبه من قومه.
نعي هناك على عبدة الأصنام والأوثان، وذكر أنه يفضحهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد - وهنا نعي عليهم أيضا وبين أنهم في ضعفهم كضعف بيت العنكبوت.
هناك قص قصص قارون وفرعون، وهنا ذكرهما أيضا، وبين عاقبة أعمالهما.
ذكر هناك في الخاتمة الإشارة إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾( القصص : ٨٥ )، وفي خاتمة هذه أشار إلى هجرة المؤمنين بقوله :﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة ﴾( العنكبوت : ٥٦ ).
الإيضاح :﴿ فكذبوه فأخذتهم الرجفة فأصبحوا في دارهم جاثمين ﴾أي فكذبوه فيما جاءهم به من عند ربهم، فأهلكهم بزلزلة عظيمة ارتجفت لها القلوب، واضطربت الأفئدة، فأصبحوا في دارهم ميتين لا حراك بهم.
وقد تقدمت هذه القصة مبسوطة في السور : الأعراف، وهود، والشعراء.
قصص هود وصالح عليهما السلام :
﴿ وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين ﴾( العنكبوت : ٣٨ ).
الإيضاح : أي وأهلكنا أيضا عادا قوم هود عليه السلام وكانوا يسكنون الأحقاف، وهي قريبة من بلاد اليمن. وثمود قوم صالح، وكانوا يسكنون الحجر قريبا من وادي القرى مع ما كانوا عليه من العتو والتكبر، وكانت العرب تعرف مساكنهم معرفة تامة وتمر عليهم كثيرا وترى ما حل بهم.
وما سبب ما جرى عليهم إلا أن زين لهم الشيطان أعمالهم من عبادة غير الله، وصدهم عن الطريق السوي الذي يوصلهم إلى النجاة، وقد كانوا متمكنين من النظر والاستبصار، فلم يكن لهم عذر في الغفلة وعدم التدبر في العواقب.
قصص موسى عليه السلام :
﴿ وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين ﴾( العنكبوت : ٣٩ ).
تفسير المفردات : يقال سبق فلان طالبه : أي فاته ولم يدركه، ولقد أدركهم أمره تعالى أي إدراك، فتداركوا نحو الدمار والهلاك.
الإيضاح : أي وأهلكنا أيضا قارون صاحب الأموال الطائلة والكنوز الكثيرة، وفرعون ملك الملوك في عصره ومصره ووزيره هامان، ولقد جاءهم موسى بآيات بينات تدل على صدق رسالته، فاستكبروا في الأرض وأبوا أن يصدقوه وأن يؤمنوا به، وما كانوا فائتين الله ولا هاربين من عقابه، بل قادر عليهم وآخذهم أخذ عزيز مقتدر.
عاقبة الأمم المكذبة لرسلها :
﴿ فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾( العنكبوت : ٤٠ ).
تفسير المفردات : الحاصب : الريح العاصفة فيها حصباء : أي حجارة صغيرة.
الإيضاح :﴿ فكلا أخذنا بذنبه ﴾أي أهلك الله الأمم المكذبة بأربعة ألوان من العذاب :
١ )﴿ فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ﴾كقوم عاد إذ قالوا من أشد منا قوة ؟ فجاءتهم ريح صرصر عاتية باردة شديدة الهبوب تحمل الحصباء فألقتها عليهم.
٢ )﴿ ومنهم من أخذته الصيحة ﴾كقوم ثمود حين قامت عليهم الحجة ولم يؤمنوا، بل استمروا في طغيانهم وكفرهم وتهددوا نبي الله صالحا ومن آمن معه، فجاءتهم صيحة أخمدت منهم الأصوات والحركات.
٣ )﴿ ومنهم من خسفنا به الأرض ﴾كقارون الذي طغى وبغى، وعصى الرب الأعلى، ومشى في الأرض مرحا، وتاه بنفسه عجبا فخسف الله به وبداره الأرض.
٤ )﴿ ومنهم من أغرقنا ﴾كقوم نوح أغرقوا بالطوفان، وفرعون وهامان وجنودهما أغرقوا في صبيحة يوم واحد.
ثم بين أن هذه العقوبة جزاء ما اجترحوا من الآثام والذنوب ولم تكن ظلما لهم فقال :
﴿ وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾أي ولم يكن الله ليهلكهم بغير جرم اجترموه، لأن ذلك ليس من سننه تعالى، وهو لا يوافق منهج الحكمة، فلا يصدر عن الحكيم، ولكنه أهلكهم بذنوبهم وكفرهم بربهم، وجحودهم نعمه عليهم، وتقلبهم في آلائه، وعبادتهم غيره، ومعصيتهم من أنعم عليهم.
﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون( ٤١ )إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء وهو العزيز الحكيم( ٤٢ )وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون( ٤٣ )خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين( ٤٤ )اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون ﴾( العنكبوت : ٤١-٤٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن أسلف - سبحانه - أنه أهلك من أشرك به بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، ولا ينفعه في الدارين معبوده، ولا يجديه ركوعه وسجوده – أردف هذا تمثيل حال من اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت، وقد اتخذت لها بيتا لا يريحها إذا هي أوت، ولا يجيرها من حر أو برد إذا هي ثوت، ثم زاد الإنكار توكيدا فذكر أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم، ويشتغل بعبادة من ليس بشيء ؟ ثم أردف هذا ببيان فائدة ضرب الأمثال للناس، وأنه لا يدرك مغزاها إلا ذوو الألباب، الذين يفهمون خبيء الكلام، وظاهره، وسره وعلانيته، ثم ذكر أنه لم يخلق السماوات والأرض إلا لحكمة يعلمها المؤمنون، ويدركها المستبصرون وهي ما أرشد إليها بقوله :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾( الذاريات : ٥٦ ).
وبعد أن أمر سبحانه عباده بما تقدم بيانه وأظهر الحق ببرهانه، ولم يهتد بذلك المشركون، سلّى رسوله بأمره بتلاوة كتابه وعبادته تعالى طرفي النهار وزلفا من الليل، وإرشاده إلى أن الله عليم بما يصنع عباده، وسيجازيهم كفاء ما يعملون من خير أو شر.
الإيضاح :﴿ مثل الذين اتخذوا من دون الله أولياء كمثل العنكبوت اتخذت بيتا ﴾أي مثل الذين اتخذوا الأصنام والأوثان من دون الله أولياء يرجون نصرهم ونفعهم لدى الشدائد ؛ في قبيح احتيالهم وسوء اختيارهم لأنفسهم، كمثل العنكبوت في ضعفها وقلة حيلتها، اتخذت لنفسها بيتا يكنّها من حر وبرد ودفع أذى، فلم يغن عنها شيئا حين حاجتها إليه، فكذلك هؤلاء المشركون لم يغن عنهم أولياؤهم الذين اتخذوهم من دون الله شيئا، ولم يدافعوا عنهم ما أحله الله بهم من سوء العذاب بكفرهم به وعبادتهم سواه.
وخلاصة ذلك : إن بيت العنكبوت لا يكن ولا يمنع أذى الحر والبرد كما هو شأنها فيما ترون، فكذلك المعبود ينبغي أن يكون منه الخلق والرزق، وجر المنافع، ودفع المضار، وما عبده الكافرون لم يفدهم شيئا من ذلك، فكيف يصرّون على عبادتهم ؟.
ثم ذكر جهلهم وسوء تقديرهم لما صنعوا فقال :
﴿ وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون ﴾أي لو كان هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء - يعلمون أن أولياءهم لا يجدونهم فتيلا ولا قطميرا، كما لا يجدي بيت العنكبوت عنها شيئا - ما فعلوا ذلك ؛ لكنهم قد بلغ بهم الجهل وسوء التقدير حدا لا يستطيعون معه العلم بعواقب ما يفعلون، ومن ثم فهم يحسبون أنهم ينفعونهم ويقربونهم إلى الله زلفى.
وإجمال ما تقدم : مثل المشرك الذي يعبد الوثن إذ قيس بالموحد الذي يعبد الله، كمثل العنكبوت اتخذت بيتا بالإضافة إلى رجل بنى بيتا بآجر وجص، أو نحته من صخرة، وكما أن أوهن البيوت إذا استقريتها بيتا بيتا بيت العنكبوت، فأضعف الأديان إذا سبرتها دينا فدينا عبادة الأوثان.
ثم زاد الإنكار توكيدا وتثبيتا فقال :﴿ إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن أسلف - سبحانه - أنه أهلك من أشرك به بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، ولا ينفعه في الدارين معبوده، ولا يجديه ركوعه وسجوده – أردف هذا تمثيل حال من اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت، وقد اتخذت لها بيتا لا يريحها إذا هي أوت، ولا يجيرها من حر أو برد إذا هي ثوت، ثم زاد الإنكار توكيدا فذكر أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم، ويشتغل بعبادة من ليس بشيء ؟ ثم أردف هذا ببيان فائدة ضرب الأمثال للناس، وأنه لا يدرك مغزاها إلا ذوو الألباب، الذين يفهمون خبيء الكلام، وظاهره، وسره وعلانيته، ثم ذكر أنه لم يخلق السماوات والأرض إلا لحكمة يعلمها المؤمنون، ويدركها المستبصرون وهي ما أرشد إليها بقوله :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾( الذاريات : ٥٦ ).
وبعد أن أمر سبحانه عباده بما تقدم بيانه وأظهر الحق ببرهانه، ولم يهتد بذلك المشركون، سلّى رسوله بأمره بتلاوة كتابه وعبادته تعالى طرفي النهار وزلفا من الليل، وإرشاده إلى أن الله عليم بما يصنع عباده، وسيجازيهم كفاء ما يعملون من خير أو شر.
الإيضاح :﴿ إن الله يعلم ما يدعون من دونه من شيء ﴾أي إن الله يعلم حال ما تعبدونه من دونه من الأوثان والأصنام والجن والإنس، وأنها لا تنفعكم ولا تضركم إن أراد الله بكم سوءا، وإن مثلها في قلة غنائها لكم، كمثل بيت العنكبوت في قلة غنائه لها.
وقد يكون المعنى : ليس الذين يدعون من دونه شيئا، إذ هو لحقارته وقلة الاعتداد به لا يسمى شيئا.
﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾أي والله هو العزيز في انتقامه ممن كفر به، وأشرك في عبادته معه غيره، فاتقوا - أيها المشركون به - عقابه بالإيمان قبل نزوله بكم، كما نزل بالأمم الذي قص الله قصصهم في هذه السورة، فإنه إن نزل بكم لم تغن عنكم أولياؤكم الذين اتخذتموهم من دونه شيئا، وهو الحكيم في تدبير خلقه ؛ فمهلك من استوجب عمله الهلاك، ومؤخر من رأى فيه الرجاء للصلاح والاستقامة.
المعنى الجملي : بعد أن أسلف - سبحانه - أنه أهلك من أشرك به بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، ولا ينفعه في الدارين معبوده، ولا يجديه ركوعه وسجوده – أردف هذا تمثيل حال من اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت، وقد اتخذت لها بيتا لا يريحها إذا هي أوت، ولا يجيرها من حر أو برد إذا هي ثوت، ثم زاد الإنكار توكيدا فذكر أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم، ويشتغل بعبادة من ليس بشيء ؟ ثم أردف هذا ببيان فائدة ضرب الأمثال للناس، وأنه لا يدرك مغزاها إلا ذوو الألباب، الذين يفهمون خبيء الكلام، وظاهره، وسره وعلانيته، ثم ذكر أنه لم يخلق السماوات والأرض إلا لحكمة يعلمها المؤمنون، ويدركها المستبصرون وهي ما أرشد إليها بقوله :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾( الذاريات : ٥٦ ).
وبعد أن أمر سبحانه عباده بما تقدم بيانه وأظهر الحق ببرهانه، ولم يهتد بذلك المشركون، سلّى رسوله بأمره بتلاوة كتابه وعبادته تعالى طرفي النهار وزلفا من الليل، وإرشاده إلى أن الله عليم بما يصنع عباده، وسيجازيهم كفاء ما يعملون من خير أو شر.
الإيضاح : ثم بين فائدة ضرب الأمثال فقال :
﴿ وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون ﴾أي وهذا المثل ونظائره من الأمثال التي اشتمل عليها الكتاب العزيز ؛ فضربها للناس تقريبا لما بعد من أفهامهم، وإيضاحا لما أشكل عليهم أمره، واستعصى عليهم حكمه، وما يفهم مغزاها ومعرفة تأثيرها، واستتباعها لكثير من الفوائد إلا الراسخون في العمل، المتدبرون في عواقب الأمور.
روي عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية فقال :" العلم من عقل عن الله تعالى فعمل بطاعته واجتنب سخطه ".
المعنى الجملي : بعد أن أسلف - سبحانه - أنه أهلك من أشرك به بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، ولا ينفعه في الدارين معبوده، ولا يجديه ركوعه وسجوده – أردف هذا تمثيل حال من اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت، وقد اتخذت لها بيتا لا يريحها إذا هي أوت، ولا يجيرها من حر أو برد إذا هي ثوت، ثم زاد الإنكار توكيدا فذكر أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم، ويشتغل بعبادة من ليس بشيء ؟ ثم أردف هذا ببيان فائدة ضرب الأمثال للناس، وأنه لا يدرك مغزاها إلا ذوو الألباب، الذين يفهمون خبيء الكلام، وظاهره، وسره وعلانيته، ثم ذكر أنه لم يخلق السماوات والأرض إلا لحكمة يعلمها المؤمنون، ويدركها المستبصرون وهي ما أرشد إليها بقوله :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾( الذاريات : ٥٦ ).
وبعد أن أمر سبحانه عباده بما تقدم بيانه وأظهر الحق ببرهانه، ولم يهتد بذلك المشركون، سلّى رسوله بأمره بتلاوة كتابه وعبادته تعالى طرفي النهار وزلفا من الليل، وإرشاده إلى أن الله عليم بما يصنع عباده، وسيجازيهم كفاء ما يعملون من خير أو شر.
الإيضاح : ولما قدم سبحانه أن لا معجز له سبحانه، ولا ناصر لمن خذله، أقام الدليل على ذلك بقوله :
﴿ خلق الله السماوات والأرض بالحق إن في ذلك لآية للمؤمنين ﴾أي خلق السماوات والأرض لحكم وفوائد دينية ودنيوية ولم يخلقها عبثا ولهوا، فبخلقها أمكن إيجاد كل ممكن تعلق به العلم، واقتضت الإرادة إيجاده، وأمكن معرفة الخالق الذي أوجدها وعبادته كفاء نعمه، كما جاء في الحديث القدسي حكاية عن الله عز وجل :" كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف فخلقت الخلق فبي عرفوني ".
ولا يفهم هذه الأسرار إلا من آمنوا بالله وصدقوا رسوله، لأنهم هم الذين يستدلون بالآثار على مؤثرها كما أثر عن بعض العرب :" البعرة تدل على البعير، وآثار الأقدام تدل على المسير ".
المعنى الجملي : بعد أن أسلف - سبحانه - أنه أهلك من أشرك به بعاجل العقاب، وسيعذبه بشديد العذاب، ولا ينفعه في الدارين معبوده، ولا يجديه ركوعه وسجوده – أردف هذا تمثيل حال من اتخذ معبودا دون الله بحال العنكبوت، وقد اتخذت لها بيتا لا يريحها إذا هي أوت، ولا يجيرها من حر أو برد إذا هي ثوت، ثم زاد الإنكار توكيدا فذكر أن ما يدعونه ليس بشيء، فكيف يتسنى للعاقل أن يترك القادر الحكيم، ويشتغل بعبادة من ليس بشيء ؟ ثم أردف هذا ببيان فائدة ضرب الأمثال للناس، وأنه لا يدرك مغزاها إلا ذوو الألباب، الذين يفهمون خبيء الكلام، وظاهره، وسره وعلانيته، ثم ذكر أنه لم يخلق السماوات والأرض إلا لحكمة يعلمها المؤمنون، ويدركها المستبصرون وهي ما أرشد إليها بقوله :﴿ وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ﴾( الذاريات : ٥٦ ).
وبعد أن أمر سبحانه عباده بما تقدم بيانه وأظهر الحق ببرهانه، ولم يهتد بذلك المشركون، سلّى رسوله بأمره بتلاوة كتابه وعبادته تعالى طرفي النهار وزلفا من الليل، وإرشاده إلى أن الله عليم بما يصنع عباده، وسيجازيهم كفاء ما يعملون من خير أو شر.
الإيضاح : ثم خاطب رسوله مسليا له بقوله :
﴿ اتل ما أوحي إليك من الكتاب ﴾أي أدم تلاوة الكتاب تقربا إلى الله بتلاوته، وتذكرا لما في تضاعيفه من الأسرار والفوائد وتذكيرا للناس، وحملا لهم على العمل بما فيه من أحكام وآداب ومكارم أخلاق.
﴿ وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ﴾أي وأد الصلاة على الوجه القيم مريدا بذلك وجه الله ؛ والإنابة إليه مع الخشوع والخضوع له ؛ فإنها إن كانت كذلك نهتك عن الفحشاء والمنكر ؛ لما تحويه من صنوف العبادات من التكبير والتسبيح، والوقوف بين يدي الله عز وجل، والركوع والسجود بغاية الخضوع والتعظيم، ففي أقوالها وأفعالها ما يومئ إلى ترك الفحشاء والمنكر، فكأنها تقول : كيف تعصي ربا هو أهل لما أتيت به ؟ وكيف يليق بك أن تفعل ذلك وتعصيه ؟ وأنت وقد أتيت بما أتيت به من أقوال وأفعال تدل على عظمة المعبود وكبريائه، وإخباتك له، وإنابتك إليه، وخضوعك لجبروته وقهره ؛ إذا عصيته وفعلت الفحشاء والمنكر تكون كالمناقض نفسه بين قوله وفعله.
﴿ ولذكر الله أكبر ﴾أي ولذكر الله تعالى إياكم برحمته أكبر من ذكركم إياه بطاعته.
﴿ والله يعلم ما تصنعون ﴾من خير أو شر وهو يجازيكم كفاء أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر كما جرت بذلك سنته في خلقه، وهو الحكيم الخبير.
ولا يخفى ما في ذلك من وعد ووعيد ؛ وحث على مراقبة الله في السر والعلن﴿ فإنه يعلم السر وأخفى ﴾( طه : ٧ ).
ثم تفسير هذا الجزء من كلام ربنا القديم بمدينة حلوان من أرباض القاهرة حاضرة الديار المصرية في اليوم الثامن والعشرين من شهر ربيع الثاني من سنة أربع وستين وثلاثمائة وألف هجرية. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
الجزء الحادي والعشرون
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون( ٤٦ )وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون( ٤٧ )وما كنت تتلوا من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون( ٤٨ )بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ﴾( العنكبوت : ٤٦-٤٩ ).
تفسير المفردات : الجدل : الحجاج والمناظرة، مسلمون : أي خاضعون مطيعون.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول، والمبالغة في تسفيه آرائهم وتوهين شبههم بنحو قوله :﴿ صم بكم عمي ﴾( البقرة : ١٨ )وقوله :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾( الأعراف : ١٧٩ )إلى أشباه ذلك - أردف هذا ذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسنى، ولا يسفه آراءهم، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم.
ذاك أن المشركين جاؤوا بالمنكر من القول ونسبوا إلى الله ما لا ينبغي من الشريك والولد، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا بالله وأنبيائه، لكنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن شريعتهم باقية على وجه الدهر لا تنسخ بشريعة أخرى، فينبغي إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته وصدق رسالته بما يكون لهم فيه مقنع، وبما لو تأملوا فيه وصلوا إلى الصواب، وأدركوا الأمر على الوجه الحق، إلا من ظلموا منهم وعاندوا ولم يقبلوا النصح والإرشاد، فاستعملوا معهم الغلظة في القول، والأسلوب الجاف في الحديث، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم :" آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن، وأنزل إليكم التوراة والإنجيل، وإن إلهنا وإلهكم واحد، ونحن مطيعون له ".
ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما أن من أهل مكة من يؤمن به، وما يجحد به إلا من توغل في الكفر، وعدم حسن التأمل والفكر، إذ لا ريب في صدق رسوله، وأن كتابه منزل من عند ربه، فإن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم العلم، ولم يدارس إنسانا مدى حياته، يأتي بهذه الحكم والأحكام، وجميل الآداب ومكارم الأخلاق، مما لم يكن له مثيل في محيط نشأ به، ولا في بلد كان يأويه - لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر، بل أوتيه من لدن حكيم خبير.
الإيضاح :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم ﴾أي ولا تجادلوا من أراد الاستبصار في الدين من اليهود والنصارى إلا باللين والرفق، وقابلوا الغضب بكظم الغيظ، والشغب بالنصح، والسورة بالأناة.
ونحو الآية قوله :﴿ ادفع بالتي هي أحسن ﴾( المؤمنون : ٩٦ )وقوله :﴿ ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾( النحل : ١٢٥ )وقوله لموسى وهارون حين بعثهما إلى فرعون :﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ﴾( طه : ٤٤ ).
إلا من ظلموا منهم وحادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح الحجة، وعاندوا وكابروا، ولم يجد فيهم الرفق، فمثل هؤلاء لا ينفع فيهم إلا الغلظة :
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
قال سعيد بن جبير ومجاهد : المراد بالذين ظلموا منهم - الذين نصبوا القتال للمسلمين وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجادلهم بالسيف حتى يسلموا أو يعطوا الجزية.
﴿ وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون ﴾أي إذا حدثكم أهل الكتاب عن كتبهم، وأخبروكم عنها بما يمكن أن يكونوا صادقين فيه وأن يكونوا كاذبين، ولم تعلموا حالهم في ذلك - فقولوا لهم : آمنا بالقرآن الذي أنزل إلينا والتوراة والإنجيل اللذين أنزلا إليكم، ومعبودنا ومعبودكم واحد ونحن خاضعون له، منقادون لأمره ونهيه والطاعة له.
روى البخاري والنسائي عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرؤون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون " وروى عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق، وإما أن تصدقوا بباطل "، وفي البخاري عن حميد بن عبد الرحمان سمع معاوية يحدث رهطا من قريش بالمدينة، وذكر كعب الأحبار فقال : إن كان من أصدق هؤلاء، المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب.
تفسير المفردات : الجحد : نفي ما في القلب ثبوته أو إثبات ما في القلب نفيه ؛ والمراد به هنا الإنكار عن علم.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول، والمبالغة في تسفيه آرائهم وتوهين شبههم بنحو قوله :﴿ صم بكم عمي ﴾( البقرة : ١٨ )وقوله :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾( الأعراف : ١٧٩ )إلى أشباه ذلك - أردف هذا ذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسنى، ولا يسفه آراءهم، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم.
ذاك أن المشركين جاؤوا بالمنكر من القول ونسبوا إلى الله ما لا ينبغي من الشريك والولد، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا بالله وأنبيائه، لكنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن شريعتهم باقية على وجه الدهر لا تنسخ بشريعة أخرى، فينبغي إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته وصدق رسالته بما يكون لهم فيه مقنع، وبما لو تأملوا فيه وصلوا إلى الصواب، وأدركوا الأمر على الوجه الحق، إلا من ظلموا منهم وعاندوا ولم يقبلوا النصح والإرشاد، فاستعملوا معهم الغلظة في القول، والأسلوب الجاف في الحديث، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم :" آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن، وأنزل إليكم التوراة والإنجيل، وإن إلهنا وإلهكم واحد، ونحن مطيعون له ".
ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما أن من أهل مكة من يؤمن به، وما يجحد به إلا من توغل في الكفر، وعدم حسن التأمل والفكر، إذ لا ريب في صدق رسوله، وأن كتابه منزل من عند ربه، فإن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم العلم، ولم يدارس إنسانا مدى حياته، يأتي بهذه الحكم والأحكام، وجميل الآداب ومكارم الأخلاق، مما لم يكن له مثيل في محيط نشأ به، ولا في بلد كان يأويه - لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر، بل أوتيه من لدن حكيم خبير.
الإيضاح : ثم بين أنه لا عجب في إنزال القرآن على الرسول فهو على مثال ما أنزل من الكتب من قبل فقال :
﴿ وكذلك أنزلنا إليك الكتاب فالذين آتيناهم الكتاب يؤمنون به ومن هؤلاء من يؤمن به ﴾أي كما أنزلنا الكتب على من قبلك أيها الرسول - أنزلنا إليك هذا الكتاب، فالذين آتيناهم الكتب ممن تقدم عهدك من اليهود والنصارى يؤمنون به، إذ كانوا مصدقين بنزوله بحسب ما علموا عندهم من الكتاب، ومن كفار قريش وغيرهم من يؤمن به.
﴿ وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون ﴾أي وما يكذب بآياتنا ويجحد حقها إلا من يستر الحق بالباطل، ويغطي ضوء الشمس بالوصائل، ويغمط حق النعمة عليه، وينكر التوحيد عنادا واستكبارا.
ثم ذكر ما يؤيد إنزاله ويزيل الشبهة في افترائه فقال :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾.
تفسير المفردات : الارتياب : الشك.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول، والمبالغة في تسفيه آرائهم وتوهين شبههم بنحو قوله :﴿ صم بكم عمي ﴾( البقرة : ١٨ )وقوله :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾( الأعراف : ١٧٩ )إلى أشباه ذلك - أردف هذا ذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسنى، ولا يسفه آراءهم، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم.
ذاك أن المشركين جاؤوا بالمنكر من القول ونسبوا إلى الله ما لا ينبغي من الشريك والولد، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا بالله وأنبيائه، لكنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن شريعتهم باقية على وجه الدهر لا تنسخ بشريعة أخرى، فينبغي إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته وصدق رسالته بما يكون لهم فيه مقنع، وبما لو تأملوا فيه وصلوا إلى الصواب، وأدركوا الأمر على الوجه الحق، إلا من ظلموا منهم وعاندوا ولم يقبلوا النصح والإرشاد، فاستعملوا معهم الغلظة في القول، والأسلوب الجاف في الحديث، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم :" آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن، وأنزل إليكم التوراة والإنجيل، وإن إلهنا وإلهكم واحد، ونحن مطيعون له ".
ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما أن من أهل مكة من يؤمن به، وما يجحد به إلا من توغل في الكفر، وعدم حسن التأمل والفكر، إذ لا ريب في صدق رسوله، وأن كتابه منزل من عند ربه، فإن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم العلم، ولم يدارس إنسانا مدى حياته، يأتي بهذه الحكم والأحكام، وجميل الآداب ومكارم الأخلاق، مما لم يكن له مثيل في محيط نشأ به، ولا في بلد كان يأويه - لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر، بل أوتيه من لدن حكيم خبير.
الإيضاح :﴿ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون ﴾أي وما كنت من قبل إنزال الكتاب إليك تقدر أن تتلو كتابا ولا تخطه بيمينك : أي ليس من دأبك وعادتك ذلك، إذ لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط أو ممن يعتادها لارتاب المشركون وقالوا : لعله التقط ذلك من كتب الأوائل، ولما لم يكن أمرك هكذا لم يكن لارتيابهم وجه.
قال مجاهد : كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية :
وخلاصة ما سلف : إنك قد لبثت في قومك عمرا طويلا قبل أن تأتي بهذا القرآن ولا تقرأ ولا تكتب، وكل واحد من قومك يعرف أنك أمي لا تقرأ ولا تكتب، وهذه صفتك في الكتب المتقدمة كما قال :﴿ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ﴾( الأعراف : ١٥٧ ).
فلا وجه إذا للشك في أن هذا القرآن منزل من عند الله وليس مفتعلا من صنع يدك تعلمته من الكتب المأثورة عمن قبلك كما حكى سبحانه عنهم من نحو قولهم :﴿ وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا ﴾( الفرقان : ٥ ).
ثم أكد ما سلف وبين أنه منزل من عند الله حقا فقال :﴿ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ﴾.
تفسير المفردات : الظالمون : أي الذين ظلموا أنفسهم وجحدوا وجه الحق.
المعنى الجملي : بعد أن بين سبحانه طريق إرشاد المشركين وجدالهم بالخشن من القول، والمبالغة في تسفيه آرائهم وتوهين شبههم بنحو قوله :﴿ صم بكم عمي ﴾( البقرة : ١٨ )وقوله :﴿ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ﴾( الأعراف : ١٧٩ )إلى أشباه ذلك - أردف هذا ذكر طريق إرشاد أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأن يسلك معهم طريق الحجاج بالحسنى، ولا يسفه آراءهم، ولا ينسب إلى الضلال آباءهم.
ذاك أن المشركين جاؤوا بالمنكر من القول ونسبوا إلى الله ما لا ينبغي من الشريك والولد، أما أهل الكتاب فقد اعترفوا بالله وأنبيائه، لكنهم أنكروا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وقالوا إن شريعتهم باقية على وجه الدهر لا تنسخ بشريعة أخرى، فينبغي إقناع مثل هؤلاء بالحسن من القول، ولفت أنظارهم إلى الأدلة الباهرة الدالة على نبوته وصدق رسالته بما يكون لهم فيه مقنع، وبما لو تأملوا فيه وصلوا إلى الصواب، وأدركوا الأمر على الوجه الحق، إلا من ظلموا منهم وعاندوا ولم يقبلوا النصح والإرشاد، فاستعملوا معهم الغلظة في القول، والأسلوب الجاف في الحديث، لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويتأملون فيما يقنعهم من الحجج والبراهين.
ثم أمر رسوله أن يقول لهم :" آمنا بالذي أنزل إلينا من القرآن، وأنزل إليكم التوراة والإنجيل، وإن إلهنا وإلهكم واحد، ونحن مطيعون له ".
ثم ذكر أن من أهل الكتاب من يؤمن بالقرآن، كما أن من أهل مكة من يؤمن به، وما يجحد به إلا من توغل في الكفر، وعدم حسن التأمل والفكر، إذ لا ريب في صدق رسوله، وأن كتابه منزل من عند ربه، فإن رجلا أميا لا يقرأ ولا يكتب، ولم يتعلم العلم، ولم يدارس إنسانا مدى حياته، يأتي بهذه الحكم والأحكام، وجميل الآداب ومكارم الأخلاق، مما لم يكن له مثيل في محيط نشأ به، ولا في بلد كان يأويه - لمن أكبر الأدلة على أنه ليس من عند بشر، بل أوتيه من لدن حكيم خبير.
الإيضاح :﴿ بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم ﴾أي بل هذا القرآن آيات واضحات الدلالة على الحق، يسر الله حفظها وتفسيرها للعلماء كما قال :﴿ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر ﴾( القمر : ١٧ ).
روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" ما من نبي إلا وقد أعطى ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا ".
﴿ وما يجحد بآياتنا إلا الظالمون ﴾أي وما يكذب آياتنا ويبخس حقها ويردها إلا المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه.
ونحو الآية قوله :﴿ إن الذين حقت عليهم كلمت ربك لا يؤمنون( ٩٦ )ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم ﴾( يونس : ٩٦-٩٧ ).
﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه قل إنما الآيات عند الله وإنما أنا نذير مبين( ٥٠ )أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون( ٥١ )قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا يعلم ما في السماوات والأرض والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ﴾( العنكبوت : ٥٠-٥٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر الدليل على أن القرآن من عند الله وليس بمفترى من عند محمد صلى الله عليه وسلم - أردف هذا شبهة أخرى لهم، وهي أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي لهم بمعجزة محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى، فأجابهم بأن أمر ذلك إلى الله لا إليه، فلو علم أنكم تهتدون بها لأجابكم إلى ما طلبتم، ثم بين سخف عقولهم وطلبهم الآيات الدالة على صدقه بعد أن جاءهم بالمعجزة الباقية على وجه الدهر وهي القرآن يتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار، فيه خبر من قبلهم ونبأ من بعدهم وحكم ما بينهم، وفيه بيان الحق ودحض الباطل، وفيه ذكرى حلول العقاب بالمكذبين والعاصين.
ثم أبان أن الله شهيد على صدقه وهو العليم بما في السماوات والأرض، ثم هدد الكافرين بأن كل من يكذب رسل الله بعد قيام الأدلة على صدقهم، ويؤمن بالجبت والطاغوت فقد خسرت صفقته، وسينال العقاب من ربه جزاء وفاقا على جحوده وإنكاره.
أخرج الدارمي وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال : جاء ناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم }فنزلت :﴿ أولم يكفهم ﴾الآية. وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلى الله عليه وسلم :{ ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي يستغن به عن غيره. وعن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال : دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال : هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر : أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم " أخرجه عبد الرزاق.
الإيضاح :﴿ وقالوا لولا أنزل عليه آيات من ربه ﴾أي وقال كفار قريش تعنتا وعنادا : هلا أنزل على محمد آية من الآيات التي أنزل مثلها على رسل الله الماضين كناقة صالح وعصا موسى وأشباههما من المعجزات المحسوسة التي ترى رأى العين، فيكون ذلك أقبل لدى النفوس وأدهش للعقول، فتلجئ إلى التصديق بمن تظهر على يده المعجزة.
فأمره الله أن يجيبهم بقوله :
﴿ قل إنما الآيات عند الله ﴾أي قل لهم : إنما أمر الآيات ونزول المعجزات إلى الله، ولو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى ما سألتم، لأن ذلك سهل يسير عليه، ولكنه يعلم أنكم إنما قصدتم بذلك التعنت والامتحان، فهو لا يجيبكم إلى ما طلبتم كما قال سبحانه :﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ﴾( الإسراء : ٥٩ ).
﴿ وإنما أنا نذير مبين ﴾أي وليس من شأني إلا الإنذار بما أوتيت من الآيات، لا الإتيان بما اقترحتموه منها، فعليّ أن أبلغكم رسالة ربي وليس علي هداكم كما قال :
﴿ من يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد له وليا مرشدا ﴾( الكهف : ١٧ )وقال :﴿ ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ﴾( البقرة : ٢٧٢ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر الدليل على أن القرآن من عند الله وليس بمفترى من عند محمد صلى الله عليه وسلم - أردف هذا شبهة أخرى لهم، وهي أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي لهم بمعجزة محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى، فأجابهم بأن أمر ذلك إلى الله لا إليه، فلو علم أنكم تهتدون بها لأجابكم إلى ما طلبتم، ثم بين سخف عقولهم وطلبهم الآيات الدالة على صدقه بعد أن جاءهم بالمعجزة الباقية على وجه الدهر وهي القرآن يتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار، فيه خبر من قبلهم ونبأ من بعدهم وحكم ما بينهم، وفيه بيان الحق ودحض الباطل، وفيه ذكرى حلول العقاب بالمكذبين والعاصين.
ثم أبان أن الله شهيد على صدقه وهو العليم بما في السماوات والأرض، ثم هدد الكافرين بأن كل من يكذب رسل الله بعد قيام الأدلة على صدقهم، ويؤمن بالجبت والطاغوت فقد خسرت صفقته، وسينال العقاب من ربه جزاء وفاقا على جحوده وإنكاره.
أخرج الدارمي وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال : جاء ناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم }فنزلت :﴿ أولم يكفهم ﴾الآية. وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلى الله عليه وسلم :{ ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي يستغن به عن غيره. وعن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال : دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال : هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر : أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم " أخرجه عبد الرزاق.
الإيضاح : ثم بين سبحانه سخفهم وجهلهم، إذ كيف يطلبون الآيات مع نزول القرآن عليهم فقال :
﴿ أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ﴾أي أما كفاهم دليلا على صدقك أنزلنا الكتاب عليك، يتلونه ويتدارسونه ليل نهار، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ولم تخالط أحدا من أهل الكتاب، وقد جئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى، وبينت الصواب فيما اختلفوا فيه كما قال :﴿ أولم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ﴾( طه : ١٣٣ ).
ثم بين فضائل هذا الكتاب ومزاياه فقال :
﴿ إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ﴾أي إن هذا الكتاب الباقي على وجه الدهر - لرحمة لمن آمن به، ببيان الحق وإزالة الباطل، وتذكرة بعقاب الله الذي حل بالمكذبين قبلكم، وبما سيحل بهم من النكال والوبال، وبما سيكون لمن اتبع وكذب بالآيات بعد وضوحها.
وبعد أن أقام الأدلة على صدق رسالته، وبين أن المعاندين من أهل الكتاب والمشركين لم يؤمنوا به - أمره أن يكل علم ذلك إلى الله وهو العليم بصدقه وكذبه فقال :﴿ قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر الدليل على أن القرآن من عند الله وليس بمفترى من عند محمد صلى الله عليه وسلم - أردف هذا شبهة أخرى لهم، وهي أنهم طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتي لهم بمعجزة محسوسة كما أتى بذلك الأنبياء السابقون كناقة صالح وعصا موسى، فأجابهم بأن أمر ذلك إلى الله لا إليه، فلو علم أنكم تهتدون بها لأجابكم إلى ما طلبتم، ثم بين سخف عقولهم وطلبهم الآيات الدالة على صدقه بعد أن جاءهم بالمعجزة الباقية على وجه الدهر وهي القرآن يتلى عليهم آناء الليل وأطراف النهار، فيه خبر من قبلهم ونبأ من بعدهم وحكم ما بينهم، وفيه بيان الحق ودحض الباطل، وفيه ذكرى حلول العقاب بالمكذبين والعاصين.
ثم أبان أن الله شهيد على صدقه وهو العليم بما في السماوات والأرض، ثم هدد الكافرين بأن كل من يكذب رسل الله بعد قيام الأدلة على صدقهم، ويؤمن بالجبت والطاغوت فقد خسرت صفقته، وسينال العقاب من ربه جزاء وفاقا على جحوده وإنكاره.
أخرج الدارمي وأبو داود عن يحيى بن جعدة قال : جاء ناس من المسلمين بكتب قد كتبوها فيها بعض ما سمعوه من اليهود، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :" كفى بقوم حمقا أو ضلالة أن يرغبوا عما جاء به نبيهم إليهم إلى ما جاء به غيره إلى غيرهم }فنزلت :﴿ أولم يكفهم ﴾الآية. وأخرج البخاري عند تفسير الآية قوله صلى الله عليه وسلم :{ ليس منا من لم يتغن بالقرآن " أي يستغن به عن غيره. وعن عبد الله بن الحارث الأنصاري قال : دخل عمر بن الخطاب على النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب فيه مواضع من التوراة فقال : هذه أصبتها مع رجل من أهل الكتاب أعرضها عليك، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم تغيرا شديدا لم أر مثله قط، فقال عبد الله بن الحارث لعمر : أما ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله ربا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيا، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال :" لو نزل موسى فاتبعتموه وتركتموني لضللتم، أنا حظكم من النبيين، وأنتم حظي من الأمم " أخرجه عبد الرزاق.
الإيضاح :﴿ قل كفى بالله بيني وبينكم شهيدا ﴾أي كفى الله عالما بما صدر مني من التبليغ والإنذار، وبما صدر منكم من مقابلة ذلك بالتكذيب والإنكار، وهو المجازي كلا بما يستحق، وإني لو كنت كاذبا عليه لانتقم مني كما قال :﴿ ولو تقول علينا بعض الأقاويل( ٤٤ )لأخذنا منه باليمين( ٤٥ )ثم لقطعنا منه الوتين( ٤٦ )فما منكم من أحد عنه حاجزين ﴾( الحاقة : ٤٤-٤٧ )بل إني صادق فيما أخبرتكم به، ومن ثم أيدني بالمعجزات الواضحات، والدلائل القاطعات.
ثم علل كفايته وأكدها بقوله :
﴿ يعلم ما في السماوات والأرض ﴾أي هو العليم بكل ما فيهما، ومن جملته شأني وشأنكم، فيعلم ما تنسبونه إلي من التقول عليه، وبما أنسبه إليه من القرآن الذي يشهد لي به عجزكم عن الإتيان بمثله، فهو حجتي الفالجة عليكم، التي لم تستطيعوا لها ردا ولا دفعا.
ولما بين طريق الجدل مع كل من أهل الكتاب والمشركين - عاد إلى تهديد المشركين وبين مآل أمرهم، فقال :
﴿ والذين آمنوا بالباطل وكفروا بالله أولئك هم الخاسرون ﴾ أي والذين يعبدون الأوثان والأصنام ويكفرون بالله، مع تظاهر الأدلة التي في الآفاق والأنفس على الإيمان به، ويكفرون برسوله مع تعاضد البراهين على صدقه، أولئك هم الأخسرون أعمالا، المغبونون في صفقتهم، من حيث اشتروا الكفر بالإيمان، فاستوجبوا العقاب حين الوقوف بين يدي الملك الديان.
وخلاصة ذلك : إن الله سيجزيهم على ما صنعوا من تكذيبهم بالحق، واتباعهم للباطل، وتكذيبهم برسول الله، مع قيام الأدلة على صدقه﴿ نارا تلظى( ١٤ )لا يصلاها إلا الأشقى( ١٥ )الذي كذب وتولى ﴾( الليل : ١٤-١٦ ).
﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون( ٥٣ )يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين( ٥٤ )يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون ﴾( العنكبوت : ٥٣-٥٥ ).
المعنى الجملي : بعد أن أنذر المشركين بالعذاب، وهددهم أعظم تهديد قالوا له تهكما واستهزاء : إن كان هذا حقا فأتنا به، وهم يقطعون بعدم حصوله فأجابهم بأنه لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجل باستعجالكم، لأن الله أجله لحكمة، ولولا ذلك الأجل المسمى، الذي اقتضته حكمته، وارتضته رحمته، لعجله لكم ولأوقعه بكم، وإنه ليأتينكم فجأة وأنتم لا تشعرون به، ثم تعجب منهم في طلبهم الاستعجال، وهو سيحيط بهم في جميع نواحيهم، ويقال لهم على طريق الإهانة والتوبيخ : ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون.
الإيضاح :﴿ ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب ﴾أي ويستعجلك كفار قريش بنزول العذاب، بنحو قولهم :﴿ متى هذا الوعد ﴾( يونس : ٤٨ )وقولهم :﴿ فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾( الأنفال : ٣٢ )ولولا أجل مسمى ضربه الله لعذابهم، لجاءهم حين استعجالهم إياه.
﴿ وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون ﴾أي وليأتينهم العذاب فجأة، وهم لا يشعرون بمجيئه، بل يكونون في غفلة عنه، واشتغال بما ينسيهموه.
المعنى الجملي : بعد أن أنذر المشركين بالعذاب، وهددهم أعظم تهديد قالوا له تهكما واستهزاء : إن كان هذا حقا فأتنا به، وهم يقطعون بعدم حصوله فأجابهم بأنه لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجل باستعجالكم، لأن الله أجله لحكمة، ولولا ذلك الأجل المسمى، الذي اقتضته حكمته، وارتضته رحمته، لعجله لكم ولأوقعه بكم، وإنه ليأتينكم فجأة وأنتم لا تشعرون به، ثم تعجب منهم في طلبهم الاستعجال، وهو سيحيط بهم في جميع نواحيهم، ويقال لهم على طريق الإهانة والتوبيخ : ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون.
الإيضاح : ثم زاد في التعجيب من جهلهم بقوله :
﴿ يستعجلونك بالعذاب ﴾أي يطلبون منك إيقاع العذاب ناجزا في غير ميقاته، ويلحقون في ذلك ولو علموا ما هم صائرون إليه، لتمنوا أنهم لم يخلقوا، فضلا عن أن يستعجلوا، ولأعملوا جميع جهدهم في الخلاص منه.
ثم بين السبب في جهلهم وحمقهم، فقال :
﴿ وإن جهنم لمحيطة بالكافرين ﴾أي وإن جهنم ستحيط بالكافرين المستعجلين للعذاب يوم القيامة.
ثم ذكر كيف تحيط بهم، فقال :﴿ يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن أنذر المشركين بالعذاب، وهددهم أعظم تهديد قالوا له تهكما واستهزاء : إن كان هذا حقا فأتنا به، وهم يقطعون بعدم حصوله فأجابهم بأنه لا يأتيكم بسؤالكم ولا يعجل باستعجالكم، لأن الله أجله لحكمة، ولولا ذلك الأجل المسمى، الذي اقتضته حكمته، وارتضته رحمته، لعجله لكم ولأوقعه بكم، وإنه ليأتينكم فجأة وأنتم لا تشعرون به، ثم تعجب منهم في طلبهم الاستعجال، وهو سيحيط بهم في جميع نواحيهم، ويقال لهم على طريق الإهانة والتوبيخ : ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون.
الإيضاح :﴿ يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم ويقول ذوقوا ما كنتم تعملون ﴾أي يوم يجلّلهم العذاب، ويكون من الأهوال والأحوال، ما لا يفي به المقال، ويقال لهم على سبيل التوبيخ والتقريع :﴿ ذوقوا ما كنتم تعملون ﴾.
ونحو الآية قوله :﴿ لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش ﴾( الأعراف : ٤١ )وقوله :﴿ لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ﴾( الزمر : ١٦ )وقوله :﴿ لو يعلم الذين كفروا حين لا يكفون عن وجوههم النار ولا عن ظهورهم ﴾( الأنبياء : ٣٩ )، وقوله :﴿ يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر ﴾( القمر : ٤٨ )وقوله :﴿ يوم يدعون إلى نار جهنم دعا( ١٣ )هذه النار التي كنتم بها تكذبون ﴾( الطور : ١٣-١٤ ).
﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون( ٥٦ )كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون( ٥٧ )والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين( ٥٨ )الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون( ٥٩ )وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ﴾( العنكبوت : ٥٦-٦٠ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحوال المشركين، وأنذرهم بالخسران، وجعلهم من أهل النار - اشتد عنادهم للمؤمنين وكثر أذاهم لهم ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله بالهجرة إلى دار أخرى إن تعذرت عليهم العبادة في ديارهم.
ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس كريهة لديها، بين لهم أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، فأولى بكم أن يكون ذلك في سبيل الله لتناولوا جزاءه ومرجعكم إلى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهنالك الغرف التي تجري من تحتها الأنهار، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين المتوكلين على ربهم، الذين يعلمون أن الله قد تكفل بأرزاقهم، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته، وهو السميع لدعائهم، العليم بحاجتهم.
روي أن الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة، وقالوا : نخشى إن نحن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة.
الإيضاح :﴿ يا عبادي الذين آمنوا إن أرضي واسعة فإياي فاعبدون ﴾أي يا عبادي الذين وحدوني وآمنوا بي وبرسولي محمد صلى الله عليه وسلم، إن أرضي لم تضق عليكم فتقيموا منها بموضع لا يحل لكم المقام فيه، فإذا انتشرت في موضع ما معاصي الله، ولم تقدروا على تغييرها، فاهربوا منه إلى موضع آخر تتمكنون من القيام فيه بشعائر دينكم.
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبت خيرا فأقم " ومن ثم لما ضاق على المستضعفين مقامهم بمكة خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك، فوجدوا خير المنزلين لدى أصحمة النجاشي ملك الحبشة، فآواهم وأيدهم بنصره، وأنزلهم ضيوفا مكرمين ببلاده، ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة.
والخلاصة : إن الله أمر المؤمنين بالهجرة إن لم يتسن لهم إقامة شعائر دينهم، إلى أرض يستطيعون ذلك فيها.
ثم حث على إخلاص العبادة له والهجرة من الوطن، فبين أن الدنيا ليست دار بقاء، وأن وراءها دار الجزاء، التي يؤتى فيها كل عامل جزاء عمله فقال :﴿ كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون ﴾.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحوال المشركين، وأنذرهم بالخسران، وجعلهم من أهل النار - اشتد عنادهم للمؤمنين وكثر أذاهم لهم ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله بالهجرة إلى دار أخرى إن تعذرت عليهم العبادة في ديارهم.
ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس كريهة لديها، بين لهم أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، فأولى بكم أن يكون ذلك في سبيل الله لتناولوا جزاءه ومرجعكم إلى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهنالك الغرف التي تجري من تحتها الأنهار، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين المتوكلين على ربهم، الذين يعلمون أن الله قد تكفل بأرزاقهم، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته، وهو السميع لدعائهم، العليم بحاجتهم.
روي أن الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة، وقالوا : نخشى إن نحن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة.
الإيضاح :﴿ كل نفس ذائقة الموت ثم إلينا ترجعون ﴾أي أينما تكونوا يدرككم الموت، فكونوا في طاعة الله وافعلوا ما أمركم به، فذلك خير لكم، فإن الموت لا محالة آت، ولله در القائل :
الموت في كل حين ينشد الكفنا ونحن في غفلة عما يراد بنا
لا تركننّ إلى الدنيا وزهرتها وإن توشحت من أثوابها الحسنا
أين الأحبة والجيران ما فعلوا أين الذين هم كانوا لها سكنا ؟
سقاهم الموت كأسا غير صافية صيرتهم تحت طباق الثرى رهنا
ثم إلى الله مرجعكم، فمن كان مطيعا له جازاه خير الجزاء وآتاه أتم الثواب.
والخلاصة : لا يصعبن عليكم ترك الأوطان، مرضاة للرحمان، بل هاجروا إلى أوفق البلاد وإن بعدت، فإن مدى الدنيا قريب، والموت لا محيص منه، ثم إلى ربكم ترجعون، فيوفيكم جزاء ما تعملون، فقدموا له خير العمل تفوزوا بنعيم مقيم، وجنة عرضها السماوات والأرض.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحوال المشركين، وأنذرهم بالخسران، وجعلهم من أهل النار - اشتد عنادهم للمؤمنين وكثر أذاهم لهم ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله بالهجرة إلى دار أخرى إن تعذرت عليهم العبادة في ديارهم.
ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس كريهة لديها، بين لهم أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، فأولى بكم أن يكون ذلك في سبيل الله لتناولوا جزاءه ومرجعكم إلى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهنالك الغرف التي تجري من تحتها الأنهار، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين المتوكلين على ربهم، الذين يعلمون أن الله قد تكفل بأرزاقهم، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته، وهو السميع لدعائهم، العليم بحاجتهم.
روي أن الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة، وقالوا : نخشى إن نحن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة.
الإيضاح : ثم بين جزاء المؤمن بربه، المهاجر بدينه، فرارا من شرك المشركين، فقال :
﴿ والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة غرفا تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نعم أجر العاملين ﴾أي والذين صدقوا الله ورسوله فيما جاء من عنده، عملوا بما أمرهم به، فأطاعوه وانتهوا عما نهاهم عنه لننزلنهم من الجنة علاليّ وقصورا، تجري من تحت أشجارها الأنهار، ماكثين فيها إلى غير نهاية، جزاء لهم على ما عملوا ونعم الجزاء.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحوال المشركين، وأنذرهم بالخسران، وجعلهم من أهل النار - اشتد عنادهم للمؤمنين وكثر أذاهم لهم ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله بالهجرة إلى دار أخرى إن تعذرت عليهم العبادة في ديارهم.
ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس كريهة لديها، بين لهم أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، فأولى بكم أن يكون ذلك في سبيل الله لتناولوا جزاءه ومرجعكم إلى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهنالك الغرف التي تجري من تحتها الأنهار، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين المتوكلين على ربهم، الذين يعلمون أن الله قد تكفل بأرزاقهم، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته، وهو السميع لدعائهم، العليم بحاجتهم.
روي أن الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة، وقالوا : نخشى إن نحن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة.
الإيضاح : ثم بين صفات هؤلاء العاملين الذين استحقوا تلك الجنات بقوله :
﴿ الذين صبروا وعلى ربهم يتوكلون ﴾أي هؤلاء العاملون هم الذين صبروا على أذى المشركين، وشدائد الهجرة وغيرهما من الجهود والمشاق، وتوكلوا على ربهم فيما يأتون وما يذرون، كأرزاقهم وجهاد أعدائهم، فلا ينكلون عنهم، ولا يتراجعون ثقة منهم بأن الله معل كلمتهم، وموهن كيد الكافرين، وأن ما قسم لهم من الرزق من يفوتهم.
المعنى الجملي : بعد أن ذكر سبحانه أحوال المشركين، وأنذرهم بالخسران، وجعلهم من أهل النار - اشتد عنادهم للمؤمنين وكثر أذاهم لهم ومنعوهم من العبادة، فأمرهم الله بالهجرة إلى دار أخرى إن تعذرت عليهم العبادة في ديارهم.
ولما كانت مفارقة الأوطان عزيزة على النفس كريهة لديها، بين لهم أن المكروه واقع لا محالة إن لم يكن بالهجرة فهو حاصل بالموت، فأولى بكم أن يكون ذلك في سبيل الله لتناولوا جزاءه ومرجعكم إلى ربكم، وحينئذ تنالون من النعيم المقيم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فهنالك الغرف التي تجري من تحتها الأنهار، ونعم هذا الأجر جزاء للعاملين الصابرين المتوكلين على ربهم، الذين يعلمون أن الله قد تكفل بأرزاقهم، كما تكفل بأرزاق جميع مخلوقاته، وهو السميع لدعائهم، العليم بحاجتهم.
روي أن الآية نزلت في قوم تخلفوا عن الهجرة، وقالوا : نخشى إن نحن هاجرنا من الجوع وضيق المعيشة.
الإيضاح : ثم ذكر سبحانه أن مما يعين على التوكل عليه معرفة أنه الكافي أمر الرزق في الوطن والغربة فقال :
﴿ وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم ﴾أي هاجروا أيها المؤمنون بالله ورسوله، وجاهدوا أعداءه، ولا تخافوا علية ولا إقتارا، فكم من دابة ذات حاجة إلى الغذاء والمطعم لا تطيق جمع قوتها ولا حمله، فترفعه من يومها لغدها عجزا منها عن ذلك، الله يرزقها وإياكم يوما بيوم وساعة فساعة، وهو السميع لقولكم نخشى من فراق أوطاننا العيلة، العليم بما في أنفسكم، وإليه يصير أمركم وأمر عدوكم من إذلال الله إياه ونصرتكم عليه ولا تخفى عليه خافية من أمور خلقه.
روى ابن عباس : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمؤمنين بمكة حين آذاهم المشركون :" اخرجوا إلى المدينة وهاجروا، ولا تجاوروا الظلمة "، قالوا : ليس لنا بها دار ولا عقار، ولا من يطعمنا ولا من يسقينا، فنزلت الآية.
﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله فأنى يؤفكون( ٦١ )الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم( ٦٢ )ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ﴾( العنكبوت : ٦١-٦٣ ).
المعنى الجملي : لما بين الأمر للمشركين وذكر لهم سوء مغبة أعمالهم - خاطب المؤمنين بما فيه مدّكر لهم، وإرشاد للمشرك لو تأمله وفكر فيه، ومثل هذا مثل الوالد له ولدان : أحدهما : رشيد والآخر مفسد، فهو ينصح المفسد أولا، فإن لم يسمع يعرض عنه، ويلفت إلى الرشيد قائلا : إن هذا لا يستحق أن يخاطب، فاسمع أنت ولا تكن كهذا المفسد، فيكون في هذا نصيحة للمصلح، وزجر للمفسد، ودعوة له إلى سبيل الرشاد.
الإيضاح :﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله ﴾أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله : من خلق السماوات والأرض فسواهن، وسخر الشمس والقمر يجريان دائبين لمصالح خلقه ؟ ليقولن : الذي خلق ذلك وفعله هو الله.
﴿ فأنى يؤفكون ﴾أي فكيف يصرفون عن توحيده، وإخلاص العبادة له، بعد إقرارهم بأنه خالق كل ذلك.
والخلاصة : إنهم يعترفون بأنه هو الخالق للسماوات والأرض، والمسخر للشمس والقمر، ثم هم مع ذلك يعبدون سواه، ويتوكلون على غيره، فكما أنه الواحد في ملكه، فليكن الواحد في عبادته، وكثيرا ما يقرر القرآن توحيد الألوهية بعد الاعتراف بتوحيد الربوبية التي كانوا يدينون بها بنحو قولهم : لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك.
الإيضاح : ولما ذكر اعترافهم بالخلق ذكر حال الرزق، من قبل أن كمال الخلق ببقائه، ولا بقاء له إلا بالرزق فقال :
﴿ الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له ﴾أي إن الله يوسع رزقه على من يشاء من خلقه، ويقتر على من يشاء، فالأرزاق وقسمتها بيده تعالى لا بيد أحد سواه، فلا يؤخرنكم عن الهجرة وجهاد عدوكم خوف العيلة والفقر، فمن بيده تكوين الكائنات لا يعجز عن أرزاقها.
ونحو الآية قوله :﴿ إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين ﴾( الذاريات : ٥٨ ).
ثم علل التفاوت في الرزق بين عباده بعلمه بالمصلحة في ذلك فقال :
﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾أي إنه هو العليم بمصالحكم، فيعلم من يصلحهم البسط ومن يفسدهم، ويعطيهم بحسب ذلك إن شاء.
ثم ذكر اعترافهم بهذا بقوله :﴿ ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ﴾.
الإيضاح :﴿ ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله ﴾أي ولئن سألتهم من ينزل من السحاب ماء فيحيي به الأرض القفر فتصير خضراء تهتز بعد أن لم تكن كذلك لم يجدوا إلا سبيلا واحدة، هي الاعتراف الذي لا محيص عنه بأنه الله، فهو الموجد لسائر المخلوقات، ومن عجب أنهم بعد ذلك يشركون به بعض مخلوقاته التي لا تقدر على شيء من ذلك.
ولما أثبت أنه الخالق بدءا وإعادة - نبه إلى عظمة صفاته التي يلزم من إثباتها صدق رسوله صلى الله عليه وسلم فقال :
﴿ قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون ﴾أي قل متعجبا من حالهم : الحمد لله على إظهار الحجة، واعترافهم بأن النعم كلها منه تعالى، ولكن أكثر المشركين لا يعقلون ما لهم فيه من النفع في دينهم وما فيه الضر لهم، فهم لجهلهم يحسبون أنهم لعبادتهم الآلهة دون الله ينالون بها الزلفى والقرب عنده.
والخلاصة : إن أقوالهم تخالف أفعالهم، فهم يقرون بوحدانية الله وعظيم قدرته وجلاله، ثم هم يعبدون معه سواه مما هم معترفون بأنه خلقه.
﴿ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب وإن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون( ٦٤ )فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون( ٦٥ )ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا فسوف يعلمون ﴾( العنكبوت : ٦٤-٦٦ ).
تفسير المفردات : اللهو : الاستمتاع بالذات، واللعب : هو العبث وما لا فائدة فيه، الحيوان : أي الحياة التامة التي لا فناء بعدها.
المعنى الجملي : لما ذكر فيما سلف أنهم يعترفون بأن الله هو الخالق وأنه هو الرازق، وهم بعد ذلك يتركون عبادته، ويعبدون من دونه الشركاء اغترارا بزخرف الدنيا وزينتها - أردف ذلك أن هذه الدنيا باطل وعبث زائل، وإنما الحياة الحقة هي الحياة الآخرة التي لا فناء بعدها ؛ فلو أوتوا شيئا من العلم ما آثروا تلك على هذه.
ثم أرشد إلى أنهم مع إشراكهم بربهم سواه في الدعاء والعبادة، إذ هم ابتلوا بالشدائد كما إذا ركبوا البحر وعلتهم الأمواج من كل جانب، وخافوا الغرق نادوا الله، معترفين بوحدانيته، وأنه لا منجي سواه، وليتهم استمروا على ذلك، ولكن سرعان ما يرجعون القهقرى، ويعودون سيرتهم الأولى، كما هو دأب من يعمل للخوف لا للعقيدة.
الإيضاح :﴿ وما هذه الحياة الدنيا إلا لهو ولعب ﴾أي وما هذه الحياة الدنيا التي يتمتع بها هؤلاء المشركون إلا شيء يتعلل به، ثم هو منقض عما قريب، لا بقاء له ولا دوام، ومن ثم قيل : الدنيا إن بقيت لك لم تبق لها، وأنشدوا :
تروح لنا الدنيا بغير الذي غدت وتحدث من بعد الأمور أمور
وتجري الليالي باجتماع وفرقة وتطلع فيها أنجم وتغور
فمن ظن أن الدهر باق سروره فذاك محال لا يدوم سرور
عفا الله عمن صير الهم واحدا وأيقن أن الدائرات تدور
﴿ وإن الدار الآخرة لهي الحيوان ﴾أي وإن الدار الآخرة لهي دار الحياة الدائمة التي لا زوال لها ولا انقطاع.
﴿ لو كانوا يعلمون ﴾أي لو كانوا يعلمون أن ذلك كذلك لما آثروا عليها الحياة الدنيا السريعة الزوال، الوشيكة الاضمحلال.
ثم أخبر بأن تلك حال المشركين في الرخاء، فإذا ابتلوا بالشدائد دعوا الله وحده ليخلصهم منها كما قال :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ﴾.
الإيضاح :﴿ فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين ﴾أي فإذا ركب هؤلاء المشركون في السفينة وخافوا الغرق، دعوا الله وحده، وأفردوا له الطاعة، ولم يستغيثوا بآلهتهم وأندادهم، ليخلصوهم من تلك الشدة، فهلا يكون هذا منهم دائما ؟
ثم بين سرعة رجوعهم وعودتهم إلى ما كانوا عليه وشيكا فقال :
﴿ فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ﴾أي فلما خلصهم مما كانوا فيه من الضيق، ونجاهم من الهلاك، ووصلوا إلى البر، رجعوا القهقرى، وعادوا سيرتهم الأولى، وجعلوا مع الله الشركاء، ودعوا الآلهة والأنداد.
ونحو الآية قوله :﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ﴾( الإسراء : ٦٧ ).
روى محمد بن إسحاق في السيرة عن عكرمة بن أبي جهل قال :" لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ذهبت فارا منها، فلما ركبت البحر إلى الحبشة اضطربت بنا السفينة، فقال أهلها : يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء، فإنه لا منجّي هاهنا إلا هو، فقال عكرمة : لئن كان لا ينجي في البحر غيره فإنه لا ينجي في البر أيضا غيره، اللهم لك عليّ عهد، لئن خرجت لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد فلأجدنّه رؤوفا رحيما فكان كذلك ".
وقال عكرمة : كان أهل الجاهلية إذا ركبوا في البحر حملوا معهم الأصنام، فإذا اشتد عليهم الريح ألقوها فيه وقالوا : يا رب يا رب.
قال الرازي في اللوامع : وهذا دليل على أن معرفة الرب في فطرة كل إنسان، وأنهم إن غفلوا في السراء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضراء. ا ه.
الإيضاح :﴿ ليكفروا بما آتيناهم وليتمتعوا ﴾أي يشركون لتكون عاقبة أمرهم الكفران بما آتيناهم من نعمة النجاة، وليتمتعوا باجتماعهم على عبادة الأصنام وتوادّهم عليها.
ثم تهددهم وتوعدهم فقال :
﴿ فسوف يعلمون ﴾عاقبة ذلك حين يعاقبون يوم القيامة.
﴿ أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون( ٦٧ )ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه أليس في جهنم مثوى للكافرين( ٦٨ )والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين ﴾( العنكبوت : ٦٧-٦٩ ).
المعنى الجملي : بعد أن ذكر المشركين حين يشتد بهم الخوف إذا ركبوا في الفلك ونحوه لجؤوا إلى الله وحده مخلصين له العبادة - ذكر هنا أنهم حين الأمن كما إذا كانوا في حصنهم الحصين وهو مكة التي يأمن من دخلها من الشرور والأذى يكفرون به ويعبدون معه سواه، وتلك قال من التناقض لا يرضاها لنفسه عاقل، فإن دعاءهم إياه حال الخوف مع الإخلاص ما كان إلا ليقينهم بأن نعمة النجاة منه لا من سواه، فكيف يكفرون به حين الأمن، وهم يوقنون بأن الأصنام حين الخوف لا تجديهم فتيلا ولا قطميرا ؟
الإيضاح :﴿ أولم يروا أنا جعلنا حرما آمنا ويتخطف الناس من حولهم ﴾أي أولم ير هؤلاء المشركون من قريش ما خصصناهم به من النعمة دون سائر عبادنا، فأسكناهم بلدا حرمنا على الناس أن يدخلوه لغارة أو حرب، وآمنا من سكنه من القتل والسبي والناس من حولهم يقتلون ويسبون في كل حين، فيشكرونا على ذلك، ويزدجروا عن كفرهم بنا وإشراكهم ما لا ينفعهم ولا يضرهم.
والخلاصة : أنه تعالى يمتن على قريش بما أحلهم من حرمه الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد، ومن دخله كان آمنا، فهم في أمن عظيم، والأعراب حولهم نهب مقسم، يقتل بعضهم بعضا، ويسبي بعضهم بعضا، ثم هم مع ذلك يكفرون به، ويعبدون معه سواه.
ونحو الآية قوله :﴿ لإيلاف قريش( ١ )إلافهم رحلة الشتاء والصيف( ٢ )فليعبدوا رب هذا البيت( ٣ )الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف ﴾( قريش : ١-٤ ).
ثم بين أن العقل كان يقضي بشكرهم على هذه النعمة، لكنهم كفروا بها، وما جنحوا إلى مرضاة ربهم، فقال :
﴿ أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله يكفرون ﴾أي أفكان شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به، وعبدوا معه غيره من الأصنام والأنداد، وبدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار، فكفروا بنبي الله وعبده ورسوله.
والخلاصة : إنه كان من حق شكرهم له على هذه النعم إخلاص العبادة له، وألا يشركوا به، وأن يصدقوا برسوله، ويعظموه ويوقروه، لكنهم كذبوه فقاتلوه وأخرجوه من بين أظهرهم، ومن ثم سلبهم الله ما كان أنعم به عليهم، بقتل من قتل منهم ببدر، وأسر من أسر، حتى قطع دابرهم يوم الفتح، وأرغم آنافهم وأذل رقابهم.
ولما استنارت الحجة، وظهر الدليل، ولم يكن لهم فيه مقنع، بين أنهم قوم ظلمة مفترون، وضعوا الأمور في غير مواضعها بكذبهم على الله، فقال :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه ﴾.
الإيضاح :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه ﴾أي ومن أظلم ممن كذبوا على الله، بأن زعموا أن له شريكا، وأنهم إذا فعلوا فاحشة قالوا : إن الله أمرنا بها، والله لا يأمر بالفحشاء، وكذبوا بالكتاب حين مجيئه، دون أن يتأملوا فيه أو يتوقفوا، بل سارعوا إلى التكذيب أول ما سمعوه.
وفي هذا من تسفيه آرائهم، وتقبيح طرائقهم ما لا يخفى.
ثم بين سوء مغبة أعمالهم بطريق الاستفهام التقريري، وهو أبلغ في إثبات المطلوب، فقال :
﴿ أليس في جهنم مثوى للكافرين ﴾ أي ألا يستوجب هؤلاء الكافرون من أهل مكة الثواء في جهنم، فقد افتروا على الله الكذب، فكذبوا بالكتاب لما جاءهم بلا تريث ولا تلبث ؟
والخلاصة : إن مثوى هؤلاء وأشباههم جهنم وبئس المصير.
وبعد أن بين عاقبة أولئك الكافرين ذكر عاقبة المؤمنين الذين اهتدوا بهدى الله وجاهدوا في سبيله، فقال :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ﴾.
الإيضاح :﴿ والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ﴾أي والذين قاتلوا هؤلاء المفترين على الله الكذب، المكذبين لما جاءهم به رسوله، مبتغين بقتالهم علو كلمتنا، ونصرة ديننا، لنزيدنهم هداية إلى سبل الخير، وتوفيقا لسلوكها كما قال :﴿ والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ﴾( محمد : ١٧ )وجاء في الحديث :" من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم "، وقال عمر بن عبد العزيز : إنما قصر بنا عن علم ما جهلنا تقصيرنا في العمل بما علمنا، ولو عملنا ببعض ما علمنا لا ورثنا علما لا تقوم به أبداننا. وقال أبو سليمان الداراني : ليس الجهاد في الآية قتال الكفار فقط، بل هو نصر الدين، والرد على المبطلين، وقمع الظالمين، وعظمه المر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ومنه مجاهدة النفوس في طاعة الله، وهو الجهاد الأكبر.
ثم ذكر أن الله يعينهم بالنصرة والتوفيق.
﴿ وإن الله لمع المحسنين ﴾أي وإن الله ذا الرحمة لمع من أحسن من خلقه، فجاهد أهل الشرك مصدقا رسوله فيما جاء به من عند ربه بالمعونة والنصرة على من جاهد من أعدائه، وبالمغفرة والثواب في العقبى.
روى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : قال عيسى ابن مريم عليه السلام : إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك، وليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك.
Icon