تفسير سورة الرّوم

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة الروم من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة الروم مكية إلا قوله فسبحان الله الآية وآيها ستون أو تسع وخمسون آية.

(٣٠) سورة الروم
مكية إلا قوله (فسبحان الله) الآية وآيها ستون أو تسع وخمسون آية
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١ الى ٥]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) غُلِبَتِ الرُّومُ (٢) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (٣) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (٤)
بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٥)
الم.
غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أرض العرب منهم لأنها الأرض المعهودة عندهم، أو في أدنى أرضهم من العرب واللام بدل من الإِضافة. وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ من إضافة المصدر إلى المفعول، وقرئ «غَلَبِهِمْ» وهو لغة كالجلب والجلب. سَيَغْلِبُونَ.
فِي بِضْعِ سِنِينَ
روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى، وقيل بالجزيرة وهي أدنى أرض الروم من الفرس فغلبوا عليهم وبلغ الخبر مكة ففرح المشركون وشمتوا بالمسلمين وقالوا: أنتم والنصارى أهل كتاب ونحن وفارس أميون وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ولنظهرن عليكم فنزلت، فقال لهم أبو بكر: لا يقرن الله أعينكم فو الله لتظهرن الروم على فارس بعد بضع سنين، فقال له أبي بن خلف: كذبت اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه، فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما وجعلا الأجل ثلاث سنين، فأخبر أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر وماده في الأجل، فجعلاه مائة قلوص إلى تسع سنين ومات أبي من جرح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد قفوله من أحد وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية فأخذ أبو بكر الخطر من ورثة أبي، وجاء به إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال تصدق به.
واستدلت به الحنفية على جواز العقود الفاسدة في دار الحرب، وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار، والآية من دلائل النبوة لأنها إخبار عن الغيب. وقرئ «غَلَبَت» بالفتح و «سَيُغْلِبُونَ» بالضم ومعناه أن الروم غلبوا على ريف الشام والمسلمون سيغلبونهم، وفي السنة التاسعة من نزوله غزاهم المسلمون وفتحوا بعض بلادهم وعلى هذا تكون إضافة الغلب إلى الفاعل. لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين، ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين أي له الأمر حين غلبوا وحين يغلبون ليس شيء منهما إلا بقضائه، وقرئ «مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ» من غير تقدير مضاف إليه كأنه قيل قبلاً وبعداً أي أولاً وآخراً. وَيَوْمَئِذٍ ويوم تغلب الروم. يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ.
بِنَصْرِ اللَّهِ من له كتاب على من لا كتاب له لما فيه من انقلاب التفاؤل وظهور صدقهم فيما أخبرا به المشركين وغلبتهم في رهانهم وازدياد يقينهم وثباتهم في دينهم، وقيل بنصر الله المؤمنين بإظهار صدقهم أو بأن ولي بعض أعدائهم بعضاً حتى تفانوا. يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى. وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ينتقم من عباده بالنصر عليهم تارة ويتفضل عليهم بنصرهم أخرى.

[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٦ الى ٧]

وَعْدَ اللَّهِ لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٦) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (٧)
وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لنفسه لأن ما قبله في معنى الوعد. لاَ يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الكذب عليه تعالى. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ وعده ولا صحة وعده لجهلهم وعدم تفكرهم.
يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يشاهدونه منها والتمتع بزخارفها. وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ التي هي غايتها والمقصود منها. هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم، وهُمْ الثانية تكرير للأولى أو مبتدأ وغافِلُونَ خبره والجملة خبر الأولى، وهو على الوجهين مناد على تمكن غفلتهم عن الآخرة المحققة لمقتضى الجملة المتقدمة المبدلة من قوله: لاَّ يَعْلَمُونَ تقريراً لجهالتهم وتشبيهاً لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها، فإن من العلم بظاهرها معرفة حقائقها وصفاتها وخصائصها وأفعالها وأسبابها وكيفية صدورها منها وكيفية التصرف فيها ولذلك نكر ظاهراً، وأما باطنها فإنها مجاز إلى الآخرة ووصلة إلى نيلها وأنموذج لأحوالها وإشعاراً بأنه لا فرق بين عدم العلم والعلم الذي يختص بظاهر الدنيا.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٨]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (٨)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أو لم يحدثوا التفكر فيها، أو أَوَ لَمْ يَتَفَكْرُوا في أمر أنفسهم فإنها أقرب إليهم من غيرها ومرآة يجتلى فيها للمستبصر ما يجتلى له في الممكنات بأسرها ليتحقق لهم قدرة مبدعها على إعادتها مثل قدرته على إبدائها. ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بقول أو علم محذوف يدل عليه الكلام. وَأَجَلٍ مُسَمًّى تنتهي عنده ولا تبقى بعده. وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بلقاء جزائه عند انقضاء الأجل المسمى أو قيام الساعة. لَكافِرُونَ جاحدون يحسبون أن الدنيا أبدية وأن الآخرة لا تكون.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٩]
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٩)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تقرير لسيرهم في أقطار الأرض ونظرهم في آثار المدمرين قبلهم. كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً كعاد وثمود. وَأَثارُوا الْأَرْضَ وقلبوا وجهها لاستنباط المياه واستخراج المعادن وزرع البذور وغيرها. وَعَمَرُوها وعمروا الأرض. أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها من عمارة أهل مكة إياها فإنهم أهل واد غير ذي زرع لا تبسط لهم في غيرها، وفيه تهكم بهم من حيث إنهم مغترون بالدنيا مفتخرون بها وهم أضعف حالاً فيها، إذ مدار أمرها على التبسط في البلاد والتسلط على العباد والتصرف في أقطار الأرض بأنواع العمارة وهم ضعفاء ملجؤون إلى دار لا نفع لها. وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو الآيات الواضحات. فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ليفعل بهم ما تفعل الظلمة فيدمرهم من غير جرم ولا تذكير. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عملوا ما أدى إلى تدميرهم.
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٠]
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (١٠)
ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أي ثم كان عاقبتهم العاقبة السُّواى أو الخصلة السُّواى،
فوضع الظاهر موضع الضمير للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم وأنهم جاءوا بمثل أفعالهم، والسُّواى تأنيث الأسوأ كالحسنى أو مصدر كالبشرى نعت به. أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ علة أو بدل أو عطف بيان ل السُّواى، أو خبر كان والسُّواى مصدر أساؤوا أو مفعوله بمعنى، ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الذين اقترفوا الخطيئة أن طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ حتى كذبوا بآيات الله واستهزءوا بها، ويجوز أن تكون السُّواى صلة الفعل وأَنْ كَذَّبُوا تابعها والخبر محذوف للإبهام والتهويل، وأن تكون أَنْ مفسرة لأن الإِساءة إذا كانت مفسرة بالتكذيب والاستهزاء كانت متضمنة معنى القول، وقرأ ابن عامر والكوفيون عاقِبَةَ بالنصب على أن الاسم السُّواى وأَنْ كَذَّبُوا على الوجوه المذكورة.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١١ الى ١٢]
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١١) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (١٢)
اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئهم. ثُمَّ يُعِيدُهُ يبعثهم. ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء والعدول إلى الخطاب للمبالغة في المقصود، وقرأ أبو بكر وأبو عمرو وروح بالياء على الأصل.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يسكتون متحرين آيسين يقال ناظرته فأبلس إذا سكت وآيس من أن يحتج ومنه الناقة المبلاس التي لا ترغو، وقرئ بفتح اللام من أبلسه إذا أسكته.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (١٣) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (١٤)
وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ ممن أشركوهم بالله. شُفَعاءُ يجيرونهم من عذاب الله، ومجيئه بلفظ الماضي لتحققه. وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يكفرون بآلهتهم حين يئسوا منهم، وقيل كانوا في الدنيا كافرين بسببهم، وكتب في المصحف شفعواء وعلمواء بني إسرائيل بالواو وكذا السُّواى بالألف إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي المؤمنون والكافرون لقوله تعالى:
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٥ الى ١٦]
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (١٥) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (١٦)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ أرض ذات أزهار وأنهار. يُحْبَرُونَ يسرون سرورا تهللت له وجوههم.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ مدخلون لا يغيبون عنه.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ١٧ الى ١٨]
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (١٧) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (١٨)
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ إخبار في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى والثناء عليه في هذه الأوقات التي تظهر فيها قدرته وتتجدد فيها نعمته، أو دلالة على أن ما يحدث فيها من الشواهد الناطقة بتنزهه واستحقاقه الحمد ممن له تمييز من أهل السموات والأرض، وتخصيص التسبيح بالمساء والصباح لأن آثار القدرة والعظمة فيهما أظهر، وتخصيص الحمد بالعشي الذي هو آخر النهار من عشى العين إذا نقص نورها والظهيرة التي هي وسطه لأن تجدد النعم فيهما أكثر،
ويجوز أن يكون عَشِيًّا معطوفا على حِينَ تُمْسُونَ وقوله وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ اعتراضاً.
وعن ابن عباس أن الآية جامعة للصلوات الخمس تُمْسُونَ صلاتا المغرب والعشاء، وتُصْبِحُونَ صلاة الفجر، وعَشِيًّا صلاة العصر، وتُظْهِرُونَ صلاة الظهر. ولذلك زعم الحسن أنها مدنية لأنه كان يقول كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت اتفقتا وإنما فرضه الخمس بالمدينة، والأكثر على أنها فرضت بمكة.
وعنه عليه الصلاة والسلام «من سره أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل فسبحان الله حين تمسون الآية».
وعنه عليه الصلاة والسلام «من قال حين يصبح فسبحان الله حين تمسون إلى قوله وكذلك تخرجون أدرك ما فاته في ليلته، ومن قاله حين يمسي أدرك ما فاته في يومه».
وقرئ «حيناً تمسون» و «حيناً تصبحون» أي تمسون فيه وتصبحون فيه.
[سورة الروم (٣٠) : آية ١٩]
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (١٩)
يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالإِنسان من النطفة والطائر من البيضة. وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ كالنطفة والبيضة، أو يعقب الحياة الموت وبالعكس. وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات. بَعْدَ مَوْتِها يبسها. وَكَذلِكَ ومثل ذلك الإخراج. تُخْرَجُونَ من قبوركم فإنه أيضا تعقيب للحياة الموت، وقرأ حمزة والكسائي بفتح التاء.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٠ الى ٢١]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (٢٠) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢١)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي في أصل الإِنشاء لأنه خلق أصلهم منه. ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ثم فاجأتم وقت كونكم بشراً منتشرين في الأرض.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لأن حواء خلقت من ضلع آدم وسائر النساء خلقن من نطف الرجال، أو لأنهن من جنسهم لا من جنس آخر. لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لتميلوا إليها وتألفوا بها فإن الجنسية علة للضم والاختلاف سبب للتنافر. وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ أي بين الرجال والنساء، أو بين أفراد الجنس. مَوَدَّةً وَرَحْمَةً بواسطة الزواج حال الشبق وغيرها بخلاف سائر الحيوانات نظماً لأمر المعاش، أو بأن تعيش الإِنسان متوقف على التعارف والتعاون المحوج إلى التواد والتراحم، وقيل المودة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد كقوله تعالى: وَرَحْمَةً مِنَّا. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعلمون ما في ذلك من الحكم.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٢]
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (٢٢)
وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ لغاتكم بأن علم كل صنف لغته أو ألهمه وضعها وأقدره عليها، أو أجناس نطقكم وأشكاله فإنك لا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية. وَأَلْوانِكُمْ بياض الجلد وسواده، أو تخطيطات الأعضاء وهيئاتها وألوانها، وحلاها بحيث وقع التمايز والتعارف حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة.
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ لا تكاد تخفى على عاقل من ملك أو إنس أو جن، وقرأ حفص بكسر اللام ويؤيد قوله: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ.

[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٣]

وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٢٣)
وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وتقوي القوى الطبيعية وطلب معاشكم فيهما، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار فلف وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين إشعاراً بأن كلاً من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة، ويؤيده سائر الآيات الواردة فيه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهم واستبصار فإن الحكمة فيه ظاهرة.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٤]
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٤)
وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ مقدر بأن المصدرية كقوله:
أَلا أَيّهذا الزَّاجِرِي أَحضُرَ الوَغَى وأَنْ أشَهدَ اللذاتِ هَلْ أنتَ مُخلِدي
أو الفعل فيه منزلة المصدر كقولهم: تَسْمَعُ بِالْمِعيديِّ خَيرٌ مِنْ أن تراه، أو صفة لمحذوف تقديره آية يريكم بها البرق كقوله:
فَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ تَارَتَانِ فَمِنْهُمَا أَمُوتُ وَأُخْرَى أَبْتَغِي العَيْشَ أَكْدَحُ
خَوْفاً من الصاعقة للمسافر. وَطَمَعاً في الغيث للمقيم، ونصبهما على العلة لفعل يلزم المذكور فإن إراءتهم تستلزم رؤيتهم أوله على تقدير مضاف نحو إرادة خوف وطمع، أو تأويل الخوف والطمع بالإِخافة والإِطماع كقولك فعلته رغماً للشيطان، أو على الحال مثل كَلَّمْتُهُ شِفَاهاً. وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً وقرئ بالتشديد. فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بالنبات. بَعْدَ مَوْتِها يبسها. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (٢٥) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (٢٦)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ قيامهما بإقامته لهما وإرادته لقيامهما في حيزيهما المعينين من غير مقيم محسوس، والتعبير بالأمر للمبالغة في كمال القدرة والغنى عن الآلة. ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ عطف على أَنْ تَقُومَ على تأويل مفرد كأنه قيل: ومن آياته قيام السموات والأرض بأمره ثم خروجكم من القبور إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً واحدة فيقول أيها الموتى اخرجوا، والمراد تشبيه سرعة ترتب حصول ذلك على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه، وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه ومن الأرض متعلق بدعا كقولك: دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي لا بتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها، وإِذا الثانية للمفاجأة ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.
وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ منقادون لفعله فيهم لا يمتنعون عليه.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٢٧]
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧)
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد هلاكهم. وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ والإِعادة أسهل عليه من الأصل بالإِضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم وإلا فهما عليه سواء ولذلك قيل الهاء ل الْخَلْقَ، وقيل أَهْوَنُ بمعنى هين وتذكير هو لأهون أو لأن الإِعادة بمعنى أن يعيد. وَلَهُ الْمَثَلُ الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامة والحكمة التامة ومن فسره بقول لا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية. الْأَعْلى الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه. فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يصفه به ما فيها دلالة ونطقاً. وَهُوَ الْعَزِيزُ القادر الذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته. الْحَكِيمُ الذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٢٨ الى ٢٩]
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ منتزعاً من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم. هَلْ لَكُمْ مِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من مماليككم. مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال وغيرها. فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ فتكونون أنتم وهم فيه شرعاً يتصرفون فيه كتصرفكم مع أنهم بشر مثلكم وأنها معارة لكم، ومِنْ الأولى للابتداء والثانية للتبعيض والثالثة مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. تَخافُونَهُمْ أن يستبدوا بتصرف فيه.
كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كما يخاف الأحرار بعضهم من بعض. كَذلِكَ مثل ذلك التفصيل. نُفَصِّلُ الْآياتِ نبينها فإن التفصيل مما يكشف المعاني ويوضحها. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في تدبر الأمثال.
بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالإِشراك. أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ جاهلين لا يكفهم شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه. فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ فمن يقدر على هدايته. وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم من الضلالة ويحفظونهم عن آفاتها.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فقومه له غير ملتفت أو ملتفت عنه، وهو تمثيل للإقبال والاستقامة عليه والاهتمام به. فِطْرَتَ اللَّهِ خلقته نصب على الإِغراء أو المصدر لما دل عليه ما بعدها. الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها خلقهم عليها وهي قبولهم للحق وتمكنهم من إدراكه، أو ملة الإِسلام فإنهم لو خلوا وما خلقوا عليه أدى بهم إليها، وقيل العهد المأخوذ من آدم وذريته. لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لا يقدر أحد أن يغيره أو ما ينبغي أن يغير. ذلِكَ إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو الفطرة إن فسرت بالملة. الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الذي لا عوج فيه. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ استقامته لعدم تدبرهم.
مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه من أناب إذا رجع مرة بعد أخرى، وقيل منقطعين إليه من الناب وهو حال من الضمير في الناصب المقدر لفطرة الله أو في أقم لأن الآية خطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم والأمة لقوله: وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ غير أنها صدرت بخطاب الرسول صلّى الله عليه وسلّم تعظيما له.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٢]
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢)
مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدل من المشركين وتفريقهم اختلافهم فيما يعبدونه على اختلاف أهوائهم،
وقرأ حمزة والكسائي فارقوا بمعنى تركوا دينهم الذي أمروا به. وَكانُوا شِيَعاً فرقاً تشايع كل إمامها الذي أضل دينها. كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ مسرورون ظناً بأنه الحق، ويجوز أن يجعل فرحون صفة كل على أن الخبر مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٣ الى ٣٥]
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥)
وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ شدة. دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه من دعاء غيره. ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصاً من تلك الشدة. إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فاجأ فريق منهم بالإِشراك بربهم الذي عافاهم.
لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه للعاقبة وقيل للأمر بمعنى التهديد لقوله: فَتَمَتَّعُوا غير أنه التفت فيه مبالغة وقرئ و «ليتمتعوا». فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتعكم، وقرئ بالياء التحتية على أن تمتعوا ماض.
أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجة وقيل ذا سلطان أي ملكاً معه برهان. فَهُوَ يَتَكَلَّمُ تكلم دلالة كقوله كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ أو نطق. بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ بإشراكهم وصحته، أو بالأمر الذي بسببه يشركون به في ألوهيته.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧)
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً نعمة من صحة وسعة. فَرِحُوا بِها بطروا بسببها. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدة. بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بشؤم معاصيهم. إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ فاجؤوا القنوط من رحمته وقرأ الكسائي وأبو عمرو بكسر النون.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٨]
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨)
فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ كصلة الرحم، واحتج به الحنفية على وجوب النفقة للمحارم وهو غير مشعر به.
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ما وظف لهما من الزكاة، والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لمن بسط له ولذلك رتب على ما قبله بالفاء. ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ذاته أو جهته أي يقصدون بمعروفهم إياه خالصاً، أو جهة التقرب إليه لا جهة أخرى. وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ حيث حصلوا بما بسط لهم النعيم المقيم.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٣٩]
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩)
وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً زيادة محرمة في المعاملة أو عطية يتوقع بها مزيد مكافأة، وقرأ ابن كثير بالقصر بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ليزيد ويزكو في أموالهم. فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ فلا
يزكو عنده ولا يبارك فيه، وقرأ نافع ويعقوب لتربو أي لتزيدوا أو لتصيروا ذوي ربا. وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ تبتغون به وجهه خالصاً فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ذوو الأضعاف من الثواب ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوة واليسار، أو الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة، وقرئ بفتح العين وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظماً للمبالغة، والالتفات فيه للتعظيم كأنه خاطب به الملائكة وخواص الخلق تعريفاً لحالهم، أو للتعميم كأنه قال: فمن فعل ذلك فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ، والراجع منه محذوف إن جعلت مَا موصولة تقديره المضعفون به، أو فَمُؤْتُوه أولئك هم المضعفون.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٠]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ أثبت له لوازم الألوهية ونفاها رأساً عما اتخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها مؤكداً بالإنكار على ما دل عليه البرهان والعيان ووقع عليه الوفاق، ثم استنتج من ذلك تقدسه عن أن يكون له شركاء فقال: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ويجوز أن تكون الكلمة الموصولة صفة والخبر هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ والرابط مِنْ ذلِكُمْ لأنه بمعنى من أفعاله، ومِنْ الأولى والثانية تفيد أن شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال والثالثة مزيدة لتعميم المنفي وكل منها مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء، وقرأ حمزة والكسائي بالتاء.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢)
ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ كالجدب والموتان وكثرة الحرق والغرق وإخفاق الغاصة ومحق البركات وكثرة المضار، أو الضلالة والظلم. وقيل المراد بالبحر قرى السواحل وقرئ و «البحور». بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بشؤم معاصيهم أو بكسبهم إياه، وقيل ظهر الفساد فى البر بقتل قابيل أخاه وفي البحر بأن جلندا ملك عمان كان يأخذ كل سفينة غصباً. لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا بعض جزائه فإن تمامه في الآخرة واللام للعلة أو للعاقبة. وعن ابن كثير ويعقوب لِنُذِيقَهُمْ بالنون. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عما هم عليه.
قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ لتشاهدوا مصداق ذلك وتتحققوا صدقه.
كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ استئناف للدلالة على أن سوء عاقبتهم كان لفشو الشرك وغلبته فيهم، أو كان الشرك في أكثرهم وما دونه من المعاصي في قليل منهم.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٣]
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ البليغ الاستقامة. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ لا يقدر أن يرده أحد، وقوله: مِنَ اللَّهِ متعلق ب يَأْتِيَ، ويجوز أن يتعلق ب مَرَدَّ لأنه مصدر على معنى لا يرده الله لتعلق إرادته القديمة بمجيئه. يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتصدعون أي يتفرقون فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ كما قال
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥)
مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وباله وهو النار المؤبدة. وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ يسوون منزلاً في الجنة، وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص.
لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ علة ل يَمْهَدُونَ أو ل يَصَّدَّعُونَ، والاقتصار على جزاء المؤمنين للإِشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء على فحوى قوله: إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْكافِرِينَ فإن فيه إثبات البغض لهم والمحبة للمؤمنين، وتأكيد اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل له ومن فضله دال على أن الإِثابة تفضل محض، وتأويله بالعطاء أو الزيادة على الثواب عدول عن الظاهر.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٦]
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦)
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ الشمال والصبا والجنوب فإنها رياح الرحمة وأما الدبور فريح العذاب، ومنه
قوله عليه الصلاة والسلام «اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً»
وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح على إرادة الجنس. مُبَشِّراتٍ بالمطر. وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني المنافع التابعة لها، وقيل الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها والعطف على علة محذوفة دل عليها مُبَشِّراتٍ أو عليها باعتبار المعنى، أو على يُرْسِلَ بإضمار فعل معلل دل عليه. وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني تجارة البحر. وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ولتشكروا نعمة الله تعالى فيها.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٤٧]
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)
لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
بالتدمير. كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
إشعار بأن الانتقام لهم وإظهار لكرامتهم حيث جعلهم مستحقين على الله أن ينصرهم،
وعنه عليه الصلاة والسلام «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم ثم تلا ذلك».
وقد يوقف على قًّا
على أنه متعلق بالانتقام.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ متصلاً تارة. فِي السَّماءِ في سمتها. كَيْفَ يَشاءُ سائراً أو واقفاً مطبقاً وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك. وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً قطعاً تارة أخرى، وقرأ ابن عامر بالسكون على أنه مخفف أو جمع كسفة أو مصدر وصف به. فَتَرَى الْوَدْقَ المطر. يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ في التارتين. فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني بلادهم وأراضيهم. إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لمجيء الخصب.
وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر. مِنْ قَبْلِهِ تكرير للتأكيد والدلالة على تطاول عهدهم بالمطر واستحكام يأسهم، وقيل الضمير للمطر أو السحاب أو الإِرسال. لَمُبْلِسِينَ لآيسين.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٠]
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠)
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أثر الغيث من النبات والأشجار وأنواع الثمار ولذلك جمعه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وقرئ بالتاء على إسناده إلى ضمير الرحمة. إِنَّ ذلِكَ يعني إن الذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها. لَمُحْيِ الْمَوْتى لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية، كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية، هذا ومن المحتمل أن يكون من الكائنات الراهنة ما يكون من مواد تفتتت وتبددت من جنسها في بعض الأعوام السالفة. وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لأن نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥١]
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١)
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا فرأوا الأثر أو الزرع فإنه مدلول عليه بما تقدم، وقيل السحاب لأنه إذا كان مُصْفَرًّا لم يمطر واللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط وقوله: لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ جواب سد مسد الجزاء ولذلك فسر بالاستقبال. وهذه الآية ناعية على الكفار بقلة تثبتهم وعدم تدبرهم وسرعة تزلزلهم لعدم تفكرهم وسوء رأيهم، فإن النظر السوي يقتضي أن يتوكلوا على الله ويلتجئوا إليه بالاستغفار إذا احتبس القطر عنهم ولا ييأسوا من رحمته، وأن يبادروا إلى الشكر والاستدامة بالطاعة إذا أصابهم برحمته ولم يفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه إذا ضرب زروعهم بالاصفرار ولا يكفروا نعمه.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣)
فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتى وهم مثلهم لما سدوا عن الحق مشاعرهم. وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ قيد الحكم به ليكون أشد استحالة، فإن الأصم المقبل وإن لم يسمع الكلام يفطن منه بواسطة الحركات شيئاً، وقرأ ابن كثير بالياء مفتوحة ورفع الصُّمَّ.
وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ سماهم عمياً لفقدهم المقصود الحقيقي من الأبصار أو لعمى قلوبهم، وقرأ حمزة وحده «تهدي العمي». إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فإن إيمانهم يدعوهم إلى تلقي اللفظ وتدبر المعنى، ويجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإِيمان. فَهُمْ مُسْلِمُونَ لما تأمرهم به.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٤]
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أو خلقكم من أصل ضعيف وهو النطفة. ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً وذلك إذا بلغتم الحلم أو تعلق بأبدانكم الروح. ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً إذا أخذ منكم السن، وفتح عاصم وحمزة الضاد في جميعها والضم أقوى لقول ابن عمر رضي الله عنهما: قرأتها على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من ضعف فأقرأني من ضُعف». وهما لغتان كالفُقُر والفُقر والتنكير مع التكرير لأن المتأخر ليس عين المتقدم. يَخْلُقُ مَا يَشاءُ من ضعف وقوة وشبية وشيبة. وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ فإن الترديد في الأحوال المختلفة مع إمكان غيره دليل العلم والقدرة.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٥٥]
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتة
وصارت علما لها بالغلبة كالكوكب للزهرة. يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا في الدنيا أو في القبور أو فيما بين فناء الدنيا والبعث وانقطاع عذابهم،
وفي الحديث «ما بين فناء الدنيا والبعث أربعون»
وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام. غَيْرَ ساعَةٍ استقلوا مدة لبثهم إضافة إلى مدة عذابهم في الآخرة أو نسياناً. كَذلِكَ مثل ذلك الصرف عن الصدق والتحقيق. كانُوا يُؤْفَكُونَ يصرفون في الدنيا.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧)
وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ من الملائكة والإِنسَ. لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ في علمه أو قضائه، أو ما كتبه لكم أي أوجبه أو اللوح أو القرآن وهو قوله: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ. إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ ردوا بذلك ما قالوه وحلفوا عليه. فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الذي أنكرتموه. وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ أنه حق لتفريطكم في النظر، والفاء لجواب شرط محذوف تقديره: إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه، أي فقد تبين بطلان إنكاركم.
فَيَوْمَئِذٍ لاَّ تنفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ وقرأ الكوفيون بالياء لأن المعذرة بمعنى العذر، أو لأن تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما. وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يدعون إلى ما يقتضي إعتابهم أي إزالة عتبهم من التوبة والطاعة كما دعوا إليه في الدنيا من قولهم استعتبني فلان فأعتبته أي استرضاني فأرضيته.
[سورة الروم (٣٠) : الآيات ٥٨ الى ٥٩]
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩)
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ ولقد وصفناهم فيه بأنواع الصفات التي هي في الغرابة كالأمثال، مثل صفة المبعوثين يوم القيامة فيما يقولون وما يقال لهم وما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة والاستعتاب، أو بينا لهم من كل مثل ينبههم على التوحيد والبعث وصدق الرسول. وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ من آيات القرآن. لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من فرط عنادهم وقساوة قلوبهم. إِنْ أَنْتُمْ يعنون الرسول والمؤمنين.
إِلَّا مُبْطِلُونَ مزورون.
كَذلِكَ مثل ذلك الطبع. يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لا يطلبون العلم ويصرون على خرافات اعتقدوها فإن الجهل المركب يمنع إدراك الحق ويوجب تكذيب المحق.
[سورة الروم (٣٠) : آية ٦٠]
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠)
فَاصْبِرْ على أذاهم. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك وإظهار دينك على الدين كله. حَقٌّ لا بد من إنجازه. وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ ولا يحملنك على الخفة والقلق. الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ بتكذيبهم وإيذائهم فإنهم شاكون ضالون لا يستبدع منهم ذلك. وعن يعقوب بتخفيف النون، وقرئ «ولا يستحقنك» أي لا يزيغنك فيكونوا أحق بك مع المؤمنين.
عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك سبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما ضيع في يومه وليلته».
Icon