ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ وبعده بقليلٍ: ﴿بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ [الأحزاب: ٩] قرأهما أبو عمروٍ بياءِ الغَيْبة. والباقون بتاءِ الخطابِ، وهما واضحتان: أمَّا الغَيْبَةُ في الأولِ فلقولِه «الكافرين» و «المنافقين»، وأمَّا الخطابُ فلقولِه: ﴿يا أَيُّهَا النبي﴾ لأنَّ المرادَ هو وأمتُه، أو خوطب بالجمع تعظيماً، كقولِه:٣٦٧٥ - فإنْ شِئْتَ حَرَّمْتُ النساءَ سِواكُمُ | ............... |
ووجهُ هذه القراءةِ أنهما حَذَفا الياءَ بعد الهمزةِ تخفيفاً، ثم أبدلا الهمزةَ ياءً، وسَكَّناها لصيرورتِها ياءً مكسوراً ما قبلها كياءِ القاضي والغازِي، إلاَّ أنَّ هذا ليس بقياس، وإنما القياسُ جَعْلُ الهمزةِ بينَ بينَ. قال أبو علي: «لا يُقْدَمُ على مثلِ هذا البدلِ إلاَّ أَنْ يُسْمَعَ». قلت: قال أبو عمروٍ ابن العلاء: «إنها لغةُ قريشٍ التي أُمِر الناسُ أَنْ يَقْرَؤوا بها». وقال بعضهم: لم يُبْدِلوا وإنما كتبوا فعبَّر عنهم القُرَّاء بالإِبدال. وليس بشيء.
وقال أبو علي وغيره: «إظهارُ أبي عمرو» اللايْ يَئِسْنَ «يدلُّ على أنه يُسَهِّلُ ولم يُبْدِلْ» وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ البدلَ عارضٌ. فلذلك لم يُدْغِمْ. وقرآ - هما أيضاً - وورشٌ بهمزةٍ مُسَهَّلة بينَ بينَ. وهذا الذي زعم بعضُهم أنه لم يَصِحَّ عنهم غيرُه وهو تخفيفٌ قياسيٌّ، وإذا وقفوا سكَّنوا الهمزةَ، ومتى سَكَّنوها استحالَ تسهيلُها بينَ بينَ لزوالِ حركتِها/ فتُقْلَبُ ياءً لوقوعِها ساكنةً بعد كسرةٍ، وليس مِنْ مذهبِهم تخفيفُها فتُقَرَّ همزةً.
وقرأ قنبل وورشٌ بهمزةٍ مكسورةٍ دونَ ياءٍ، حَذَفا الياءَ واجتَزَآ عنها
قوله: «تُظاهِرون» قرأ عاصمٌ «تُظاهِرون» بضم التاء وكسر الهاءِ بعد ألفٍ، مضارعَ ظاهَرَ. وابنُ عامرٍ «تَظَّاهرون» بفتح التاء والهاء وتشديد الظاء مضارعَ تَظاهَر. والأصل «تتظاهرون» بتاءَيْن فأدغم. والأخوان كذلك، إلاَّ أنهما خَفَّفا الظاءَ. والأصل أيضاً بتاءَيْن. إلاَّ أنهما حَذَفا إحداهما، وهما طريقان في تخفيف هذا النحو: إمَّا الإِدغامُ، وإمَّا الحَذْفُ. وقد تقدَّم تحقيقُه في نحو: «يَذَّكَّرْ» و «تَذَكَّرُون» مثقلاً ومخففاً. وتقدَّم نحوُه في البقرة أيضاً.
والباقون «تَظَّهَّرون» بفتح التاءِ والهاءِ وتشديدِ الظاء والهاء دونَ ألفٍ. والأصل: تَتَظَهَّرُوْن بتاءَيْن فأدغَم نحو: «تَذَكَّرون». وقرأ الجميع في المجادلة كقراءتِهِم هنا في قوله: ﴿يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ﴾ [المجادلة: ٣] إلاَّ الأخَوَيْن، فإنَّهما خالَفا أصلهما هنا فقرآ في المجادلة بتشديدِ الظاءِ كقراءةِ ابنِ عامر. والظِّهارُ مشتقٌّ من الظَّهْرِ. وأصلُه أن يقولَ الرجلُ لامرأتِه: «أنتِ علي كظهرِ أمي»، وإنما لم يَقْرأ الأخَوان بالتخفيفِ في المجادلة لعدم المسوِّغِ له وهو الحذفُ؛ لأنَّ الحذفَ إنما كان لاجتماع مِثْلَيْن وهما التاءان، وفي المجادِلة ياءٌ من تحتُ
هذا ما قُرِئ به متواتراً.
وقرأ ابنُ وثَّاب «تُظْهِرُون» بضم التاء وسكون الظاء وكسرِ الهاء مضارعَ أَظْهَرَ. وعنه أيضاً «تَظَهَّرُون» بفتح التاء والظاءِ مخففةً، وتشديدِ الهاء، والأصل: تَتَظَهَّرون، مضارعَ تَظَهَّر مشدداً فحذف إحدى التاءين. وقرأ الحسن «تُظَهِّرون» بضمِّ التاء وفتح الظاءِ مخففةً وتشديد الهاء مكسورةً مضارعَ ظَهَّر مشدداً. وعن أبي عمروٍ «تَظْهَرُون» بفتحِ التاء والهاء وسكونِ الظاءِ مضارعَ «ظهر» مخففاً. وقرأ أُبَي - وهي في مصحفِه كذلك - تَتَظَهَّرون بتاءَيْن. فهذه تسعُ قراءات: أربعٌ متواترةٌ، وخمسٌ شاذةٌ. وأَخْذُ هذه الأفعالِ مِنْ لفظِ الظَّهْر كأَخْذِ لَبَّى من التَّلْبية، وتأَفَّفَ مِنْ أُفٍّ. وإنما عُدِّي ب «مِنْ» لأنه ضُمِّن معنى التباعد. كأنه قيل: يتباعَدُون مِنْ نسائِهم بسببِ الظِّهار كما تقدَّم في تعديةِ الإِيلاء ب «مِنْ» في البقرة.
قوله: «ذلكمْ قولُكم» مبتدأٌ وخبرٌ أي: دعاؤكُم الأدعياءَ أبناءً مجردُ قولِ لسانٍ مِنْ غيرِ حقيقةٍ. والأَدْعياءُ: جمعُ دَعِيّ بمعنى مَدْعُوّ فَعيل بمعنى مَفْعول. وأصلُه دَعِيْوٌ فأُدْغم ولكن جَمْعَه على أَدْعِياء غيرُ مَقيس؛ لأنَّ أَفْعِلاء إنما يكونُ جمعاً لفَعيل المعتلِّ اللامِ إذا كان بمعنى فاعِل نحو: تقِيّ وأَتْقِياء، وغَنيّ
قوله: ﴿ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ﴾ يجوزُ في «ما» وجهان، أحدُهما: أنها مجرورةُ المحلِّ عطفاً على «ما» قبلها المجرورةِ ب «في»، والتقديرُ: ولكنَّ الجُناحَ فيما تعمَّدت. والثاني: أنها مرفوعةُ المحلِّ بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ. تقديرُه: تُؤَاخَذُون به، أو عليكم فيه الجُناحُ. ونحوُه.
قوله: «بعضُهم» يجوز فيه وجهان، أحدُهما: أَنْ يكونَ بدلاً من «أُوْلُو». والثاني: أنه مبتدأٌ وما بعده خبرُه، والجملةُ خبرُ الأولِ.
قوله: ﴿فِي كِتَابِ الله﴾ يجوزُ أَنْ يتعلَّقَ ب «أَوْلَى» ؛ لأنَّ أَفْعَلَ التفضيلِ يعملُ في الظرفِ. ويجوزُ أَنْ تتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الضمير في «أَوْلَى» والعاملُ فيها «أَوْلَى» لأنها شبيهةٌ بالظرفِ. / ولا جائزٌ أَنْ يكونَ حالاً مِنْ «أُوْلُو» للفَصْلِ بالخبرِ، ولأنَّه لا عامِلَ فيها.
قوله: «من المؤمنين» يجوز فيه وجهان، أحدهما: أنها «مِنْ» الجارَّةُ للمفضولِ كهي في «زيدٌ أفضلُ من عمروٍ» المعنى: وأُولو الأرحامِ أَوْلَى بالإِرثِ من المؤمنين والمهاجرين الأجانب. والثاني: أنَها للبيانِ جيْءَ بها بياناً
قوله: ﴿إِلاَّ أَن تفعلوا﴾ هذا استثناءٌ مِنْ غيرِ الجنس، وهو مستثنىً مِنْ معنى الكلامِ وفحواه، إذ التقديرُ: أُولو الأرحامِ بعضُهم أَوْلَى ببعض في الإِرث وغيرِه، لكن إذا فَعَلْتُمْ مع غيرِهم مِنْ أوليائِكم خيراً كان لكم ذلك. وعُدِّي «تَفْعَلوا» ب «إلى» لتضمُّنِه معنى تَدْخُلوا.
قوله: «ميثاقاً غليظاً» هو الأولُ، وإنما كُرِّر لزيادةِ صفتِه وإيذاناً بتوكيده.
قوله: «وأَعَدَّ» يجوزُ فيه وجهان، أحدهما: أَنْ يكونَ معطوفاً على ما دَلَّ عليه «ليَسْألَ الصادقين» ؛ إذ التقديرُ: فأثاب الصادقين وأعَدَّ للكافرين. والثاني: أنه معطوفٌ على «أَخَذْنا» لأنَّ المعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى أكَّدَ على الأنبياءِ الدعوةَ
قوله: «الحَناجرَ» جمع حَنْجَرة وهي رأسُ الغَلْصَمَة، والغَلْصَمَةُ مُنتهى الحُلْقوم، والحُلْقُوْمُ مَجْرى الطعامِ والشرابِ. وقيل: الحُلْقُوم مَجْرى النَّفَس، والمَرِي: مَجْرى الطعام والشراب وهو تحت الحُلْقوم. وقال الراغب: «رأسُ الغَلْصَمَة من خارج».
٣٦٧٦ - اسْتأثَرَ اللَّهُ بالوفاءِ وبال | عَدْلِ ووَلَّى المَلامَةَ الرَّجُلا |
٣٦٧٧ - أقِلِّي اللومَ عاذلَ والعِتابا | وقُولي إن أَصَبْتُ لقد أصابا |
قوله: «هنالك» منصوبٌ ب «ابْتُلِيَ» وقيل: ب «تَظُنُّون». واسْتَضْعَفَه ابنُ عطية. وفيه وجهان، أظهرهما: أنه ظرفُ مكانٍ/ بعيدٍ أي: في ذلك المكان الدَّحْضِ وهو الخندقُ. الثاني: أنه ظرفُ زمانٍ، وأنشد بعضُهُم على ذلك:
٣٦٧٨ - وإذا الأمورُ تَعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ | فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ |
قوله: «زِلْزالاً» مصدر مُبَيِّنٌ للنوعِ بالوصف. والعامَّةُ على كسر الزاي.
وإذا الأمورُ تَعاظَمَتْ وتشاكَلَتْ | فهناك يَعْتَرفون أين المَفْزَعُ |
قوله :" زِلْزالاً " مصدر مُبَيِّنٌ للنوعِ بالوصف. والعامَّةُ على كسر الزاي. وعيسى والجحدري فتحاها. وهما لغتان في مصدرِ الفعل المضعَّفِ إذا جاء على فِعْلال نحو : زِلْزال وقِلْقال وصِلْصال. وقد يُراد بالمفتوح اسمُ الفاعل نحو : صَلْصال بمعنى مُصَلْصِل، وزَلزال بمعنى مُزَلْزِل.
٣٦٧٩ -....................... | مواعيدَ عُرْقوبٍ أخاه بيَتْرَبِ |
٣٦٨٠ - له الشَّدَّةُ الأُوْلى إذا القِرْنُ أَعْورا... وقرأ ابن عباس وابن يعمر وقتادة وأبو رجاء وأبو حيوة وآخرون «عَوِرة» بكسرِ الواو، وكذلك ﴿وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ﴾ وهي اسمُ فاعلٍ يُقال: عَوِر المنزلُ يَعْوَر عَوْراً وعَوْرَة فهو عَوِر وبيوتٌ عَوْرَةٌ. قال ابن جني: «تصحيحُ الواوِ شاذٌ» يعني حيث تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلها، ولم تُقْلَبْ ألفاً. وفيه نظرٌ لأنَّ شرطَ ذاك في الاسم الجاري على الفعلِ أَنْ يَعْتَلَّ فِعْلُه نحو: مَقام ومَقال. وأمَّا هذا ففعلُه صحيحٌ نحوَ: عَوِر. وإنما صَحَّ الفعلُ وإنْ كان فيه مُقْتضى الإِعلال لِمَدْرَكٍ آخرَ: وهو أنه في معنى ما لا يُعَلُّ وهو أَعْوَر ولذلك لم يُتَعَجَّبْ مِنْ عَوِر وبابه. وأَعْوَرَ المنزلُ: بَدَتْ عَوْرَتُه، وأَعْوَرَ الفارسُ: بدا منه خَلَلٌ للضربِ. قال الشاعر:
٣٦٨١ - متى تَلْقَهم لم تَلْقَ في البيتِ مُعْوِراً | ولاَ الضيفَ مَسْجوراً ولا الجارَ مُرْسَلاً |
٣٦٨٢ - قد عَلِمَتْ سَلْمى وجاراتُها | ما قَطَّر الفارسَ إلاَّ أنا |
قوله: «ثم سُئِلوا» قرأ مجاهد «سُوْيِلُوا» بواوٍ ساكنة ثم ياءٍ مكسورةٍ كقُوتلوا. حكى أبو زيد هما يَتَساوَلان بالواو. والحسنُ «سُوْلُوا» بواوٍ ساكنةٍ فقط، فاحتملت وجهين، [أحدهما] : أَنْ يكونَ أصلُها سُئِلوا كالعامَّةِ ثم خُفِّفَتِ الكسرةُ فسَكَنَتْ، كقولِهم في «ضَرِب» بالكسر: ضَرْب بالسكون فَسَكَنت الهمزةُ بعد ضمة فقُلِبت واواً نحو: بُوْس في بُؤْس. والثاني: أن تكونَ مِنْ لغة الواو. ونُقل عن أبي عمرو أنه قرأ «سِيْلُوا» بياءٍ ساكنةٍ بعد كسرةٍ نحو: مِيْلُوا.
قوله: «لأَتَوْها» قرأ نافعٌ وابن كثيرِ بالقصر بمعنى لَجأْؤُوْها
قوله: «إلاَّ يَسِيراً» أي: إلاَّ تَلَبُّثاً أو إلاَّ زماناً يسيراً. وكذلك قولُه: ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ [الأحزاب: ١٦] أي: إلا تَمَتُّعاً أو إلاَّ زماناً قليلاً.
قوله: ﴿وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ﴾ «إذن» جوابٌ وجزاءٌ. ولمَّا وقعَتْ بعد عاطفٍ جاءَتْ على الأكثر، وهو عدمُ إعمالِها، ولم يَشِذَّ هنا ما شَذَّ في الإِسراء فلم
٣٦٨٣ -........................... | مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحاً |
وقرأ ابن أبي عبلة «أَشِحَّةٌ» بالرفع على خبرِ ابتداءٍ مضمرٍ أي: هم أَشِحَّةٌ. وأشحَّة جَمْعُ شَحيح، وهو جمعٌ لا ينقاس؛ إذ قياسُ فَعِيل الوصفِ الذي عينُه ولامُه مِنْ وادٍ واحدِ أن يُجْمَعَ على أفْعِلاء نحو: خليل وأَخِلاَّء، وظَنين وأَظِنَّاء وضَنين وأَضِنَّاء. وقد سُمِعَ أشِحَّاء، وهو القياس. والشُّحُّ: البخل. وقد تقدَّم في آل عمران.
قوله: «تَدُورُ» إمَّا حالٌ ثانية، وإمَّا حالٌ مِنْ «يَنْظُرون».
قوله: «كالذي يُغْشَى» يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أَنْ تكونَ حالاً مِنْ «أعينُهم» أي: تدورُ أعينُهم حالَ كونِها مُشْبِهَةً عينَ الذي يُغْشى عليه من الموتِ. الثاني: أنه نعتُ مصدرٍ مقدَّرٍ لقوله «يَنْظُرون» تقديرُه: ينظرون إليك نَظَراً مثلَ نَظَرِ الذي يُغْشى عليه من الموت، ويُؤَيَّدُهُ الآيةُ الأخرى «يَنْظُرون إليك نَظَرَ المَغْشِيِّ عليه من الموت». الثالث: أنه نعتٌ لمصدرٍ مقدَّرٍ أيضاً ل «تدورُ» أي: دَوَراناً مثلَ دَوَرانِ عَيْنِ الذي. وهو على الوجهين مصدرٌ تشبيهيٌّ.
قوله: «سَلَقوكم» يقال: سَلَقه أي: اجترأ عليه في خِطابه، وخاطبه مُخاطبةً بليغةً. وأصلُه البَسْط ومنه: سَلَقَ امرأتَه أي: بَسَطَها وجامَعَها. قال مسيلمةُ لسجاح لعنهما الله تعالى: /
٣٦٨٤ - ألا هُبِّي إلى المضجَعْ... فإنْ شِئْتِ سَلَقْنَاك... وإن شِئْتِ على أربعْ
والسَّليقَةُ: الطبيعةُ المتأتِّيَةُ. والسَّلِيقُ: المَطمئنُّ من الأرض. وخطيبٌ مِسْلاق وسَلاَّق. ويقال بالصاد قال الشاعر:
٣٦٨٥ - فَصَلَقْنا في مُرادٍ صَلْقَةً | وصُداءٍ أَلْحَقَتْهُمْ بالثَّلَلْ |
قوله: «بادُوْن» هذه قراءةُ العامَّةِ جمعُ بادٍ. وهو المُقيم بالباديةِ. وقرأ عبد الله وابن عباس وطلحة وابن يعمر «بُدَّى» بضم الباءِ وتشديدِ الدالِ مقصوراً كغازٍ وغُزَّى، وسارٍ وسُرَّى. وليس بقياسٍ. وإنما قياسُه في التكسير «بُداة» كقُضاة وقاضٍ. ولكنْ حُمِلَ على الصحيح كقولِهم: «ضُرَّب». ورُوِي عن ابن عباس أيضاً قراءةٌ ثانيةٌ «بَدِيْ» بزنةِ عَدِي، وثالثةٌ «بَدَوْا» فعلاً ماضياً.
قوله: «يَسْألون» يجوز أَنْ يكونَ مستأنفاً، وأن يكونَ حالاً مِنْ فاعِل «يَحْسَبُون». والعامَّةُ على سكونِ السين بعدها همزةٌ. ونَقَل ابن عطية عن أبي عمرو وعاصم بنَقْلِ حركةِ الهمزةِ إلى السينِ كقولِه: ﴿سَلْ بني إِسْرَائِيلَ﴾ [البقرة: ٢١١]. وهذه ليسَتْ بالمشهورةِ عنهما، ولعلها نُقِلَتْ عنهما شاذَّةً، وإنما
والأُسْوة بمعنى الاقتداء. وهي اسمٌ وُضِعَ مَوْضِعَ المصدرِ وهو الائْتِساء، فالأُسْوَةُ من الائتساء كالقُدْوة من الاقتداء. وائْتَسَى فلانٌ بفلانٍ أي اقتدى به. و «أسوةٌ» اسمُ «كان». وفي الخبرِ وجهان، أحدهما: هو «لكم» فيجوزُ في الجارِّ الآخرِ وجوهٌ: التعلُّقُ بما يتعلَّقُ به الخبرُ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ مِنْ «أُسْوَة»، إذ لو تأخَّر لكان صفةً، أو ب «كان» على مذهبِ مَنْ يراه. والثاني: أنَّ الخبرَ هو ﴿فِي رَسُولِ الله﴾، و «لكم» على ما تَقَدَّم في ﴿فِي رَسُولِ الله﴾، أو تتعلَّقُ بمحذوفٍ على التبيين أي: أَعْني لكم.
قوله: ﴿لِّمَن كَانَ يَرْجُو﴾ فيه أوجهٌ، أحدها: أنه بدلٌ من الكافِ في «لكم»، قاله الزمخشري. وقد منعه أبو البقاء. وتابعه الشيخُ. قال أبو البقاء: «وقيل: هو بدلٌ مِنْ ضمير المخاطبِ بإعادةِ الجارِّ. ومَنَعَ منه
٣٦٨٦ - بكم قُرَيْشٍ كُفِيْنا كلَّ مُعْضِلَةٍ | وأَمَّ نَهْجَ الهُدى مَنْ كان ضِلِّيلا |
والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «حَسَنةٌ». الثالث: أَنْ يتعلَّقَ بنفس «حَسَنة» قالهما أبو البقاء. ومَنَعَ أَنْ يَتَعَلَّقَ ب «أُسْوَة» قال: «لأنها قد وُصِفَتْ». و «كثيراً» أي: ذِكْراً كثيراً.
٣٦٨٧ - لا أرى الموتَ يَسْبِقُ الموتَ شيءٌ | ............................... |
قوله: «وما زادَهُمْ» فاعلُ «زادهم» ضميرُ الوَعْدِ أي: وما زادهم وَعْدُ اللَّهِ أو الصدقُ. وقال مكي: «ضميرُ النظر؛ لأنَّ قولَه:» لَمَّا رأى «بمعنى: لَمَّا نظر». وقال أيضاً: «وقيل: ضمير الرؤية. وإنما ذُكِّر لأن تأنيثها غيرُ حقيقي» ولم يَذْكُرْ غيرَهما. وهذا عجيبٌ منه؛ حيث حَجَّر واسعاً مع الغُنْيَةِ عنه.
وقرأ ابنُ أبي عبلة «وما زادُوهم» بضمير الجمع. ويعود للأحزابِ؛
قوله:» قضى نَحْبَه «النَّحْبُ: ما التزمه الإِنسانُ، واعتقد الوفاءُ به.
قال:
٣٦٨٨ - عَشِيَّةَ فَرَّ الحارِثيُّون بعدَما | قضى نَحْبَه في مُلْتَقَى القومِ هَوْبَرُ |
٣٦٨٩ - بطَخْفَةَ جالَدْنا الملوكَ وخَيْلُنا | عَشيَّةَ بِسْطامٍ جَرَيْنَ على نَحْبِ |
قوله: «إنْ شاءَ» جوابُه مقدَّرٌ. وكذلك مفعول «شاء». أي: إنْ شاءَ تعذيبَهم عَذَّبهم. فإنْ قيل: عذابُهم مُتَحَتِّمٌ فكيف يَصِحُّ تعليقُه على المشيئةِ وهو قد شاءَ تعذيبَهم إذا ماتوا على النفاق؟ فأجاب ابنُ عطية: بأنَّ تعذيبَ المنافقين ثمرةُ إدامتِهم الإِقامةَ على النفاقِ إلى موتِهم، والتوبةُ موازِيَةٌ لتلك الإِقامةِ، وثمرةُ التوبةِ تَرْكُهم دونَ عذاب فهما درجتان: إقامةٌ على نفاقٍ، أو توبةٌ منه، وعنهما ثمرتان: تعذيبٌ أو رحمة. فذكر تعالى على جهةِ الإِيجازِ
قال الشيخ:» وكأنَّ ما ذَكَر يَؤُوْلُ إلى أنَّ التقديرَ: ليُقيموا على النفاقِ فيموتُوا عليه إنْ شاء فيُعَذِّبَهم، أو يتوبَ عليهم فيرحمَهم. فحذف سببَ التعذيبِ وأثبت المسبَّب وهو التعذيبُ، وأثبت سببَ الرحمةِ والغفرانِ وحَذَفَ المُسَبَّبَ وهو الرحمةُ والغُفْران «.
قوله: ﴿لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً﴾ حالٌ ثانيةٌ أو حالٌ من الحال الأولى فهي متداخِلَةٌ. ويجوز أَنْ تكونَ حالاً من الضمير المجرور بالإِضافة. وجَوَّز الزمخشري فيها أَنْ تكونَ بياناً للحالِ الأولى أو مستأنفةً. ولا يظهر البيانُ إلاَّ على البدل، والاستئنافُ بعيد.
٣٦٩٠ -.............................. | كوَقْعِ الصَّياصِيْ في النسيجِ المُمَدَّدِ |
قوله: «لم تَطؤُوْها» الجملةُ صفةٌ ل «أرضاً». والعامَّةُ على همزةٍ مضمومةٍ ثم واوٍ ساكنةٍ مضارعَ وَطِئ. وزيد بن علي «تَطُوْها» بواوٍ بعد طاءٍ مفتوحةٍ. ووجهُها: أنها أَبْدَلَ الهمزةَ ألفاً على غيرِ قياسٍ كقولِه:
٣٦٩١ - إنَّ الأُسودَ لَتَهْدا في مَرابِضِها | ............................ |
إنَّ الأُسودَ لَتَهْدا في مَرابِضِها ***. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فلمَّا أَسْنده للواو التقى ساكنان فَحُذِف أولهما نحو : لم يَرَوْها. وهذا أحسنُ مِنْ أَنْ تقول : ثم أجرى الألفَ المبدَلةَ مِنْ الهمزةِ مُجْرَى الألفِ المتأصِّلةِ فَحَذَفها جزماً ؛ لأنَّ الأحسنَ هناك أَنْ لا تُحْذَفَ اعتداداً بأصلها. واستشهد بعضُهم على الحَذْفِ بقولِ زهير :
جَرِيْءٍ متى يُظْلَمْ يعاقِبْ بظلمِه *** سَريعاً وإن لا يُبْدَ بالظُّلمِ يَظْلِمِ
٣٦٩٢ - جَرِيْءٍ متى يُظْلَمْ يعاقِبْ بظلمِه | سَريعاً وإن لا يُبْدَ بالظُّلمِ يَظْلِمِ |
٣٦٩٣ - واعلَمْ فَعِلْمُ المَرْءِ يَنْفَعُه | أَنْ سَوْفَ يَأْتيْ كلُّ ما قُدِرا |
قوله: «يُضاعَفْ» قرأ أبو عمرو «يُضَعَّفْ» بالياء من تحت وتشديد العين مفتوحةً على البناء للمفعول. «العذابُ» بالرفع لقيامِه مقامَ الفاعل. وقرأ ابن كثير وابن عامر «نُضَعِّفْ» بنونِ العظمةِ، وتشديد العين مكسورةً، على البناءِ للفاعل. قوله: العذابَ «بالنصب على المفعول به. وقرأ الباقون» يُضاعَفْ «من المفاعلة مبنياً للمفعول.» العذابُ «بالرفعِ لقيامِه مَقامَ الفاعل. وقد تقدَّم توجيهُ التضعيف والمضاعَفة في سورة البقرة فأغنى عن إعادتِه.
٣٦٩٤ - وإنَّ مِن النِّسْوان مَنْ هي روضةٌ | ......................... |
وقرأ الجحدريُّ ويعقوب وابن عامر في رواية وأبو جعفر وشيبةُ «تَقْنُتْ» بالتاءِ مِنْ فوقُ حَمْلاً على المعنى وكذلك «وتَعْمَل». وقال أبو البقاء: «إنَّ بعضَهم قرأ» ومَنْ تَقْنُتْ «بالتأنيث حَمْلاً على المعنى و» يَعْمَلْ «بالتذكير حملاً على اللفظ». قال: «فقال بعض النحويين: هذا ضعيفٌ؛ لأنَّ التذكيرَ أصلٌ فلا يُجْعَلُ تَبَعاً للتأنيث. وما عَلَّلوه به قد جاء مثلُه في القرآن. قال تعالى: ﴿خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا﴾ » [الأنعام: ١٣٩].
٣٦٩٥ - فما كان بينَ الخيرِ لو جاء سالماً | أبو حُجُرٍ إلاَّ ليالٍ قَلائِلُ |
قوله: «إنِ اتَّقَيْتُنَّ» في جوابه وجهان، أحدهما: أنه محذوفٌ لدلالةِ ما تقدَّم عليه أي: إنْ اتَّقَيْتُنَّ اللَّهَ فَلَسْتُنَّ كأحدٍ. فالشرط قيدٌ في نفي أَنْ يُشَبَّهْنَ بأحدٍ من النساء. الثاني: أنَّ جوابَه قولُه: «فلا تَخْضَعْنَ» والتقوى على بابها. وجَوَّزَ الشيخُ على هذا أن يكونَ اتَّقى بمعنى استقبل أي: استَقْبَلْتُنَّ أحداً
واتقى بمعنى استقبل معروفٌ في اللغة. وأنشد:
٣٦٩٦ - سَقَطَ النَّصِيفُ ولم تُرِدْ إسقاطَه | فتناوَلَتْهُ واتَّقَتْنا باليَدِ |
قلت: هذا خروجٌ عن الظاهرِ من غير ضرورةٍ. وأمَّا البيتُ فالاتِّقاءُ أيضاً على بابِه/ أي صانَتْ وجهَها بيدِها عنا.
قوله: «فَيَطْمَعَ» العامَّةُ على نصبه جواباً للنهي. والأعرج بالجزم فيكسِرُ العينَ لالتقاءِ الساكنين. ورُوي عنه وعن أبي السَّمَّال وابن عمر وابن محيصن بفتح الياء وكسر الميم. وهذا شاذٌّ؛ حيث تَوافَقَ الماضي والمضارعُ في حَرَكةٍ. ورُوي عن الأعرج أيضاً أنه قرأ بضمِّ الياء وكسرِ الميم مِنْ أطمع. وهي تحتمل وجهين، أحدهما: أَنْ يكونَ الفاعلُ ضميراً مستتراً عائداً على الخضوعُ المريضَ القلبِ. ويحتمل أن يكون «الذي» فاعلاً، ومفعوله محذوف أي: فيُطْمِع المريضُ نفسَه.
قوله: «وَقَرْنَ» قرأ نافع وعاصم بفتح القاف. والباقون بكسرها. فأمَّا
والوجه الثاني: أنها أمرٌ مِنْ قارَ يَقارُ كخاف يخافُ إذا اجتمع. ومنه «القارَةُ» لاجتماعِها، فحُذِفت العين لالتقاء الساكنين فقيل: قَرْنَ كخَفْنَ. ووزنُه على هذا أيضاً فَلْن.
إلاَّ أنَّ بعضَهم تكلَّم في هذه القراءةِ مِنْ وجهين، أحدهما: قال أبو حاتم: يقال: قَرَرْتُ بالمكان بالفتح أقِرُّ به بالكسر وقَرَّتْ عينُه بالكسر تَقَرُّ بالفتح، فكيف يُقرأ «وَقَرْنَ» بالفتح؟ والجوابُ عن هذا: أنه قد جُمِعَ في كلٍ منهما الفتحُ والكسرُ، حكاه أبو عبيد. وقد تقدَّم ذلك في سورة مريم.
الثاني: سَلَّمْنا أنه يُقال: قَرِرْت بالمكان بالكسر أَقَرُّ به بالفتح، وأنَّ
والجوابُ: أنَّ المقتضِيَ للحذفِ إنما هو التكرارُ.
ويؤيد هذا أنهم لم يَحْذِفوا مع التكرارِ ووجودِ الضمةِ، وإنْ كانت أثقلَ نحو: اغْضُضْنَ أبصارَكنَّ، وكان أَوْلَى بالحذفِ فيُقالُ: غُضْنَ. لكنَّ السماعَ خلافُه. قال تعالى: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ﴾ [النور: ٣١]. على أن الشيخَ جمالَ الدين بن مالك قال: «إنه يُحْذَفُ في هذا بطريقِ الأَوْلى» أو تقولُ: إنَّ هذه القراءةَ إنما هي مِنْ قارَ يَقارُ بمعنى اجتمع. وهو وجهٌ حسنٌ بريءٌ من التكلُّفِ، فيندفع اعتراضُ أبي حاتمٍ وغيرِه، لولا أنَّ المعنى على الأمرِ بالاستقرارِ لا بالاجتماع.
وأمَّا الكسرُ فمِنْ وجهين أيضاً أحدهما: أنه أمرٌ من قَرَّ بالمكانِ بالفتح في الماضي، والكسرِ في المضارع، وهي اللغةُ الفصيحةُ، ويجيءُ فيه التوجيهاتُ الثلاثةُ المذكورةُ أولاً: إمَّا حَذْفُ الراءِ الثانية أو الأولى، أو إبدالُها ياءً، وحَذْفُها كما قال الفارسيُّ. ولا اعتراض على هذه القراءةِ لمجيئها على مشهورِ اللغة فيندفعُ اعتراضُ أبي حاتم، ولأنَّ الكسرَ ثقيلٌ، فيندفعُ الاعتراضُ الثاني، ومعناها مطابقٌ لِما يُرادُ بها من الثبوتِ والاستقرار.
والوجه الثاني: أنها أمرٌ مِنْ وَقَرَ يَقِرُ أي: ثبتَ واستقرَّ. ومنه الوَقارُ. وأصلُه اِوْقِرْن فحُذِفت الفاءُ وهي الواوُ، واسْتُغني عن/ همزةِ الوصل فبقي «قِرْن» وهذا كالأمرِ مِنْ وَعَد سواء. ووزنُه على هذا عِلْنَ. وهذه الأوجهُ المذكورةُ إنما يَتَهَدَّى إليها مَنْ مَرِنَ في علمِ التصريف، وإلاَّ ضاق بها ذَرْعاً.
قوله: «أهلَ البيتِ» فيه أوجه: النداء والاختصاص، إلاَّ أنه في المخاطب أقلُّ منه في المتكلم. وسُمِعَ «بك اللَّهَ نرجو الفضلَ» والأكثر إنما هو في المتكلم كقولِها:
٣٦٩٧ - نحن بناتِ طارِقْ | نَمْشِي على النمارِقْ |
٣٦٩٨ - نحن بني ضَبَّةَ أصحابُ الجملْ | الموتُ أَحْلَى عندنا من العَسَلْ |
والوجه الثاني : أنها أمرٌ مِنْ قارَ يَقارُ كخاف يخافُ إذا اجتمع. ومنه " القارَةُ " لاجتماعِها، فحُذِفت العين لالتقاء الساكنين فقيل : قَرْنَ كخَفْنَ. ووزنُه على هذا أيضاً فَلْن.
إلاَّ أنَّ بعضَهم تكلَّم في هذه القراءةِ مِنْ وجهين، أحدهما : قال أبو حاتم : يقال : قَرَرْتُ بالمكان بالفتح أقِرُّ به بالكسر وقَرَّتْ عينُه بالكسر تَقَرُّ بالفتح، فكيف يُقرأ " وَقَرْنَ " بالفتح ؟ والجوابُ عن هذا : أنه قد جُمِعَ في كلٍ منهما الفتحُ والكسرُ، حكاه أبو عبيد. وقد تقدَّم ذلك في سورة مريم.
الثاني : سَلَّمْنا أنه يُقال : قَرِرْت بالمكان بالكسر أَقَرُّ به بالفتح، وأنَّ الأمرَ منه اقْرَرْنَ، إلاَّ أنه لا مُسَوِّغَ للحذفِ ؛ لأن الفتحةَ خفيفةٌ، ولا يجوز قياسُه على قولِهم " ظَلْتُ " وبابِه ؛ لأن هناك شيئَيْن ثقيلين : التضعيفَ والكسرةَ فحَسُنَ الحذفُ، وأمَّا هنا فالتضعيفُ فقط.
والجوابُ : أنَّ المقتضِيَ للحذفِ إنما هو التكرارُ.
ويؤيد هذا أنهم لم يَحْذِفوا مع التكرارِ ووجودِ الضمةِ، وإنْ كانت أثقلَ نحو : اغْضُضْنَ أبصارَكنَّ، وكان أَوْلَى بالحذفِ فيُقالُ : غُضْنَ. لكنَّ السماعَ خلافُه. قال تعالى :﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ]. على أن الشيخَ جمالَ الدين بن مالك قال :" إنه يُحْذَفُ في هذا بطريقِ الأَوْلى " أو تقولُ : إنَّ هذه القراءةَ إنما هي مِنْ قارَ يَقارُ بمعنى اجتمع. وهو وجهٌ حسنٌ بريءٌ من التكلُّفِ، فيندفع اعتراضُ أبي حاتمٍ وغيرِه، لولا أنَّ المعنى على الأمرِ بالاستقرارِ لا بالاجتماع.
وأمَّا الكسرُ فمِنْ وجهين أيضاً أحدهما : أنه أمرٌ من قَرَّ بالمكانِ بالفتح في الماضي، والكسرِ في المضارع، وهي اللغةُ الفصيحةُ، ويجيءُ فيه التوجيهاتُ الثلاثةُ المذكورةُ أولاً : إمَّا حَذْفُ الراءِ الثانية أو الأولى، أو إبدالُها ياءً، وحَذْفُها كما قال الفارسيُّ. ولا اعتراض على هذه القراءةِ لمجيئها على مشهورِ اللغة فيندفعُ اعتراضُ أبي حاتم، ولأنَّ الكسرَ ثقيلٌ، فيندفعُ الاعتراضُ الثاني، ومعناها مطابقٌ لِما يُرادُ بها من الثبوتِ والاستقرار.
والوجه الثاني : أنها أمرٌ مِنْ وَقَرَ يَقِرُ أي : ثبتَ واستقرَّ. ومنه الوَقارُ. وأصلُه اِوْقِرْن فحُذِفت الفاءُ وهي الواوُ، واسْتُغني عن/ همزةِ الوصل فبقي " قِرْن " وهذا كالأمرِ مِنْ وَعَد سواء. ووزنُه على هذا عِلْنَ. وهذه الأوجهُ المذكورةُ إنما يَتَهَدَّى إليها مَنْ مَرِنَ في علمِ التصريف، وإلاَّ ضاق بها ذَرْعاً.
قوله :" تَبَرُّجَ الجاهليةِ " مصدرٌ تشبيهيٌّ أي : مثلَ تبرُّجِ. والتبرُّجُ : الظهورُ مِن البُرْجِ لظهورِه وقد تقدَّم. وقرأ البزي " ولا تَّبَرَّجْنَ " بإدغامِ التاء في التاء. والباقون بحذفِ إحداهما. وتقدَّم تحقيقُه في البقرة في " ولا تَيَمَّموا ".
قوله :" أهلَ البيتِ " فيه أوجه : النداء والاختصاص، إلاَّ أنه في المخاطب أقلُّ منه في المتكلم. وسُمِعَ " بك اللَّهَ نرجو الفضلَ " والأكثر إنما هو في المتكلم كقولِها :
نحن بناتِ طارِقْ *** نَمْشِي على النمارِقْ
[ وقوله ] :
نحن بني ضَبَّةَ أصحابُ الجملْ *** الموتُ أَحْلَى عندنا من العَسَلْ
" نحن العربَ أَقْرَى الناسِ للضيف " " نحن معاشرَ الأنبياءِ لا نورث " أو على المدح أي : أمدحُ أهلَ البيتِ.
وقرأ الكوفيون وهشام «يكونَ» بالياءِ من أسفلِ؛ لأنَّ «الخِيَرَة» مجازيُّ التأنيثِ، وللفصلِ أيضاً. والباقون بالتاء من فوقُ مراعاةً للفظِها. وقد تقدَّم أنَّ الخِيَرَةَ مصدرُ تَخَيَّر كالطِّيَرَة مِنْ تَطَيَّر. ونَقَل عيسى بن سليمان أنه قُرِئَ «الخِيْرَة». بسكون الياء. و «مِنْ أمرِهم» حالٌ من «الخِيَرة» وقيل: «من» بمعنى في. وجَمَعَ الضمير في «أمرِهم» وما بعده؛ لأنَّ المرادَ بالمؤمن والمؤمنة الجنسُ. وغلَّب المذكرَ على المؤنث. وقال الزمخشري: «كان مِنْ حَقِّ
٣٦٩٩ - هَوِّنْ عليكَ فإنَّ الأمورَ | بكفِّ الإِلهِ مقاديرُها |
٣٧٠٠ - دَعْ عنك نَهْباً صِيْحَ في حُجُراتِهِ | ............................ |
قوله:» وتُخْفي «فيه أوجهٌ، أحدها: أنه معطوفٌ على» أَمْسِكْ «أي: وإذ تجمعُ بين قولك كذا وإخفاءِ كذا، وخشيةِ الناس. قاله الزمخشري. الثاني: أنها واوُ الحالِ أي: تقول كذا في هذه الحالةِ. قاله الزمخشري أيضاً. وفيه نظرٌ من حيث إنه مضارعٌ مثبتٌ فكيف تباشِرُه الواوُ؟ وتخريجُه كتخريجِ» قمتُ وأَصُكُّ عينَه «أعني على إضمارِ مبتدأ. الثالث: أنه مستأنفٌ. قاله الحوفي. وقوله: ﴿والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ﴾ قد تقدَّم مثلُه في براءة.
قوله:» وَطَراً «مفعولُ» قَضَى «. والوَطَرُ: الشَّهْوَةُ والمحبةُ، قاله المبرد. وأنشد:
٣٧٠١ - وكيف ثَوائي بالمدينةِ بعدَما | قَضَى وَطَراً منها جميلُ بنُ مَعْمَرِ |
و» لِكَيْلا «متعلقٌ ب» زَوَّجْناكها «وهي هنا ناصبةٌ فقط لدخولِ الجارِّ عليها. واتصل الضميران بالفعلِ لاختلافِهما رتبةً.
والأولُ أليقُ لأنَّ «لكن» ليست عاطفةً لأجلِ الواو، فالأليقُ بها أن تدخلَ على الجملِ كمثل التي لَيَستْ بعاطفةٍ.
وقرأ أبو عمروٍ في روايةٍ بتشديدها؛ على أنَّ «رسولَ الله» اسمُها، وخبرُها محذوفٌ للدلالةِ أي: ولكن رسولَ الله هو أي: محمدٌ. وحَذْفُ خبرها شائعٌ. وأُنْشِد:
٣٧٠٢ - ودَّعَنا قبلَ أَنْ نُوَدِّعَهْ | لَمَّا قضى مِنْ شبابِنا وَطَراً |
٣٧٠٧ - فلو كنتَ ضَبِّيَّاً عَرَفْتَ قَرابتي | ولكنَّ زَنْجِيَّاً عظيمَ المَشافِرِ |
وقرأ زيد بن علي وابن أبي عبلة بتخفيفها ورفع «رسولُ» على الابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: هو. أو بالعكس أي: ولكن هو رسول كقوله:
٣٧٠٤ - ولَسْتُ الشاعرَ السَّفسافَ فيهمْ | ولكنْ مِدْرَهُ الحربُ العَوانِ |
والكسرُ على أنه اسمُ فاعلٍ، ويؤيِّده قراءةُ عبد الله المتقدمة. وقال بعضُهم: هو بمعنى المفتوح، يعني بمعنى آخرهم.
قوله: «وسِراجاً» يجوزُ أَنْ يكونَ عطفاً على ما تقدم: إمَّا على التشبيه وإمَّا على حَذْفِ مضافٍ أي: ذا سِراج. وجَوَّزَ الفراء أَنْ يكونَ الأصلُ: وتالياً سِراجاً. ويعني بالسِّراج القرآنَ. وعلى هذا فيكونُ مِنْ عطفِ الصفات وهي لذاتٍ واحدة: لأنَّ التاليَ هو المُرْسَل. وجَوَّزَ الزمخشريُّ أَنْ يُعْطَفَ على مفعول «أَرْسَلْنَاك» وفيه نظرٌ؛ لأنَّ السِّراجَ هو القرآنُ، ولا يُوْصَفُ بالإِرسال بل الإِنزال، إلاَّ أنْ يُقالَ: إنه حُمِلَ على المعنى، كقوله:
٣٧٠ - ٥- عَلَفْتُها تِبْناً وماءً بارداً | ................................ |
٣٧٠٦ - وإني لَرامٍ نَظْرَةً قِبَلَ التي | لَعَلِّي وإنْ شَطَّتْ نَواها أَزورها |
قوله: «تَعْتَدُّوْنَها» صفةٌ ل «عِدَّة» و «تَعْتَدُّونها» تَفْتَعِلُونها: إمَّا مِن العَدَدِ، وإمَّا مِن الاعتدادِ أي: تَحْتَسِبُونها أو تَسْتَوْفون عَدَدَها مِنْ قولِك: عَدَّ الدراهمَ فاعتدَّها. أي: استوفى عَدَدها نحو: كِلْتُه فاكتاله، ووَزَنْتُه فاتَّزَنَه. وقرأ
٣٧٠٧ - تَحِنُّ فَتُبْدِيْ ما بها مِنْ صَبابةٍ | وأُخْفي الذي لولا الأسى لقَضاني |
٣٧٠٨ - ويومٍ شَهِدْناه................... | ................................ |
ويومٍ شَهِدْناه سُلَيْمى وعامِراً | قليلٍ سوى الطَّعْنِ النِّهالِ نوافِلُهْ |
قوله: «وامرأةً» العامَّةُ على النصب. وفيه وجهان، أحدهما: أنها عطفٌ على مفعولِ «أَحْلَلْنا» أي: وأَحْلَلْنا لك امرأةً موصوفةً بهذين الشرطين. قال أبو البقاء: «وقد رَدَّ هذا قومٌ وقالوا:» أَحْلَلْنا «ماضٍ و» إنْ وَهَبَتْ «وهو صفةُ المرأة مستقبلٌ، فأَحْلَلْنا في موضع جوابِه، وجوابُ الشرط لا يكونُ ماضياً في المعنى» قال: «وهذا ليس بصحيحٍ لأنَّ معنى الإِحلالِ ههنا الإِعلامُ بالحِلِّ إذا وقع الفعلُ على ذلك كما تقول: أَبَحْتُ لك أَنْ تُكلِّمَ فلاناً إنْ سَلَّم عليك». الثاني: أنه ينتصِبُ بمقدرٍ تقديرُه: ويُحِلُّ لك امرأةً.
قوله: «إنْ وَهَبَتْ... إنْ أرادَ» هذا من اعتراضِ الشرط على الشرطِ، والثاني هو قيدٌ في الأولِ، ولذلك نُعْرِبه حالاً، لأنَّ الحالَ قيدٌ. ولهذا اشترط الفقهاءُ أن يتقدَّمَ الثاني على الأولِ في الوجود. فلو قال: «إنْ أكلْتِ إنْ ركبْتِ فأنتِ طالقٌ» فلا بُدَّ أنْ يتقدَّم الركوبُ على الأكلِ. وهذا لِتَتَحَقَّقَ الحاليةُ والتقييدُ كما ذكرْتُ لك؛ إذ لو لم يتقدَّمْ لخلا جزءٌ من الأكل غيرُ مقيدٍ بركوبٍ، فلهذا اشترطُوا تقدُّمَ الثاني. وقد مضى تحقيقُ هذا، وأنَّه بشرطِ أَنْ لا تكونَ ثَمَّ قرينةٌ تمنعُ من تقدُّمِ الثاني على الأولِ. كقولك: «إنْ تَزَوَّجْتُكِ إنْ طَلَّقْتُكِ فعَبْدي حُرٌّ» لا يُتَصَوَّرُ هنا تقديمُ الطلاق على التزويج.
وأبو حيوةَ «وامرأة» بالرفع على الابتداء، والخبرُ مقدرٌ أي: أَحْلَلْناها لك أيضاً. وفي قوله: ﴿إِنْ أَرَادَ النبي﴾ التفاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبة بلفظِ الظاهر تنبيهاً على أنَّ سببَ ذلك النبوَّةُ، ثم رَجَعَ إلى الخطاب فقال: خالصةً لك.
وقرأ أُبَيُّ والحسنُ وعيسى «أَنْ» بالفتح وفيه وجهان، أحدهما: أنه بدلٌ مِنْ «امرأة» بدلُ اشتمالٍ، قاله أبو البقاء. كأنه قيل: وأَحْلَلْنا لك هِبَةَ
قوله: «خالصةً» العامَّةُ على النصبِ. وفيه أوجهٌ، أحدها: أنَّه منصوبٌ على الحالِ مِنْ فاعلِ «وَهَبَتْ». أي: حالَ كونِها خالصةً لك دونَ غيرك. الثاني: أنها حالٌ من «امرأةٌ» لأنها وُصِفَتْ فتخصَّصَتْ وهو بمعنى الأول. وإليه ذهب الزجَّاج. الثالث: أنها نعتُ مصدرٍ مقدرٍ أي: هِبةً خالصةً. فنصبَها بوَهَبَتْ. الرابع: أنها مصدرٌ مؤكدٌ ك ﴿وَعْدَ الله﴾ [النساء: ١٢٢]. قال الزمخشري: «والفاعلُ والفاعلةُ في المصادر غيرُ عزيزَيْن كالخارِج والقاعِد والكاذِبة والعافِية». يريد بالخارج ما في قولِ الفرزدق:
٣٧٠٩ -............................. | ولا خارِجاً مِنْ فِيَّ زُوْرُ كَلامِ |
قوله: «لكيلا» متعلِّقٌ ب «خالصةً» وما بينهما اعتراضٌ و «مِنْ دون» متعلِّقٌ ب «خالصةً» كما تقول: خَلَصَ مِنْ كذا.
وقوله: ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ جوابُها. والمعنى: مَنْ طَلَبْتَها من النسوةِ اللاتي عَزَلْتَهُنَّ فليس عليك في ذلك جُناحٌ. الثاني: أَنْ تكونَ مبتدأةً. والعائدُ محذوفٌ. وعلى هذا فيجوزُ في «مَنْ» أَنْ تكونَ موصولةً، وأنْ تكونَ شرطيةً و ﴿فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ﴾ خبرٌ أو جوابٌ أي: والتي ابتَغَيْتَها. ولا بُدَّ حينئذٍ مِنْ ضميرٍ راجعٍ إلى اسم الشرط من الجوابِ أي: في ابتغائِها وطَلَبها. وقيل: في الكلامِ حذفُ معطوفٍ تقديرُه: ومَنِ ابتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ ومَنْ لم تَعْزِلْ سواءٌ لا جُناح عليك كما تقول: مَنْ لَقِيَكَ مِمَّن لم يَلْقَك جميعُهم لك شاكرٌ. تريد: مَنْ لَقِيَكَ ومَنْ لم يَلْقَكَ. وهذا فيه إلغازٌ.
قوله: «ذلك» أي: التفويضُ إلى مَشيئتِك أقربُ إلى قرَّة أعينِهنَّ.
والعامَّةُ «تَقَرَّ» مبنياً للفاعل مُسْنداً ل «أَعْيُنُهُنَّ». وابنُ محيصن «تُقِرَّ» مِنْ أَقَرَّ رباعياً. وفاعلُه ضمير المخاطب. «أعينَهُنَّ» نصبٌ على المفعولِ به.
قوله: «كلُّهن» العامةُ على رفعِه توكيداً لفاعلِ «يَرْضَيْن». وأبو أناس بالنصب توكيداً لمفعولِ «آتيتهُنَّ».
قوله: «مِنْ بَعْدُ» أي: مِنْ بعدِ اللاتي نَصَصْنا لك على إحْلالِهِنَّ. وقد تقدَّم. وقيل: مِنْ بعدِ إباحةِ النساءِ المسلماتِ دونَ الكتابيات.
قوله: «مِنْ أزواجٍ» مفعولٌ به. و «مِنْ» مزيدةٌ فيه لاستغراق الجنس.
قوله: «ولو أعجبكَ» كقولِه: «أَعْطُوا السائل ولو على فَرَس» أي: في كل حال، ولو على هذه الحالِ المنافية.
قوله: «إلاَّ ما مَلَكَتْ» فيه أوجهٌ، أحدها: أنه مستثنى من «النساء»، فيجوز فيه وجهان: النصبُ على أصل الاستثناء، والرفعُ على البدل. وهو المختار. الثاني: أنه مستثنى من أزواج. قاله أبو البقاء. فيجوزُ أَنْ يكونَ في موضعِ
وقال ابن عطية: «إنْ كانَتْ» ما «مصدريةً فهي في موضعِ نصبٍ لأنه مِنْ غير الجنس. وليس بجيد؛ لأنه قال بعد ذلك: والتقديرُ: إلاَّ مِلْك اليمين. ومِلْك بمعنى مَمْلوك». انتهى. وإذا كان بمعنى مَمْلوك صار من الجنس، وإذا صار من الجنس لم يكن منقطعاً. على أنه على تقدير انقطاعه لا يَتَحَتَّمُ نصبُه بل يجوزُ عند تميم الرفعُ بدلاً، والنصبُ على الأصلِ كالمتصل، بشرط صحةِ توجُّهِ العاملِ إليه كما حَقَّقْتُه غيرَ مرة. وهذا يمكنُ توجُّهُ العاملِ إليهِ ولكنَّ اللغةَ المشهورةَ لغةُ الحجازِ: وهو لزومُ النصبِ في المنقطعِ مطلقاً كما ذكره أبو محمدٍ آنفاً.
وردَّ الشيخُ الأولَ: بأنَّ النحاةَ نَصُّوا على أنَّ «أنْ» المصدريةَ لا تقعُ
و «إلى طعامٍ» متعلقٌ ب «يُؤْذَنَ» ؛ لأنه بمعنى: إلاَّ أن تُدْعَوا إلى طعام. وقرأ العامةُ «غيرَ ناظرين» بالنصب على الحال كما تقدم، فعند الزمخشري ومَنْ تابعه: العاملُ فيه «يُؤْذَنَ» وعند غيرِهم العاملُ فيه مقدرٌ تقديره: ادْخُلوا غيرَ ناظرين. وقرأ ابن أبي عبلة «غيرِ» بالجرِّ صفةً ل طعام. واستضعفها الناسُ مِنْ أجل عدمِ بروزِ الضميرِ لجريانِه على غيرِ مَنْ هُو له، فكان مِنْ حقِّه أَنْ يُقال: غيرَ ناظرين إناه أنتم. وهذا رأيُ البصريين. والكوفيون يُجيزون ذلك إن لم يُلْبَسْ كهذه الآيةِ. وقد تقدَّمَتْ هذه المسألةُ وفروعُها وما قيل فيها. وهل ذلك مختصٌّ بالاسمِ أو يَجْري في الفعل؟ خلافٌ مشهور قَلَّ مَنْ يَضْبِطُه.
وقرأ العامَّةُ «إناه» مفرداً أي: نُضْجَه. يقال: أَنَى الطعام إنىً نحو: قَلاه قِلىً. وقرأ الأعمشُ «آناءه» جمعاً على أفْعال فأُبْدِلَتْ الهمزةُ الثانية ألفاً، والياءُ همزةً لتطرُّفها بعد ألفٍ زائدةٍ، فصار في اللفظ كآناء من قوله: ﴿وَمِنْ آنَآءِ الليل﴾ [طه: ١٣٠] وإن كان المعنى مختلفاً.
قوله: «لحديثٍ» يُحتمل أَنْ تكونَ لامَ العلةِ أي: مستأنسين لأجل أَنْ يُحَدِّثَ بعضُكم بعضاً، وأن تكونَ المقوِّيةَ للعامل لأنه فرعٌ أي: ولا مُسْتأنسين حديثَ أهلِ البيت أو غيرِهم.
قوله: «إنَّ ذلكم» أي: إنَّ انتظارَكم واستئناسَكم فأُشير إليهما إشارةَ الواحدِ كقوله: ﴿عَوَانٌ بَيْنَ ذلك﴾ [البقرة: ٦٨]. أي: إنَّ المذكور. وقُرئ «لا يَسْتَحِي» بياءٍ واحدةٍ، والأخرى محذوفةٌ. واخْتُلِفَ فيها: هل هي الأولى أو الثانية؟ وتقدَّم ذلك في البقرة، وأنها روايةٌ عن ابن كثير. وهي لغةُ تميمٍ. يقولون: اسْتَحى يَسْتَحي، مثل: اسْتَقَى يَسْتقي. وأنشدْتُ عليه هناك ما سُمِع فيه.
قوله: «أَنْ تُؤْذُوا» هي اسمُ كان. و «لكم» الخبرُ. و ﴿وَلاَ أَن تنكحوا﴾ عطفٌ على اسم كان. و «أبداً» ظرف.
وقد منع الزمخشريُّ ذلك فقال:» ولا يَصِحُّ أنْ ينتصِبَ ب «أُخِذُوا» لأنَّ ما بعد كلمة الشرطِ لا يَعْمل فيما قبلَها «. وهذا منه مَشْيٌ على الجادَّةِ. وقوله:» ما بعد كلمةِ الشرط «يشملُ فعلَ الشرطِ والجوابِ. فأمَّا الجوابُ فتقدَّم حكمُه، وأمَّا الشرطُ فأجاز الكسائيُّ أيضاً تقديمَ معمولِه على الأداة نحو:» زيداً إنْ تَضْرِبْ أُهِنْكَ «. فتلخَّص في المسألة ثلاثةُ مذاهبَ: المَنعُ مطلقاً، الجوازُ مطلقاً، التفصيلُ: يجوز تقديمُه معمولاً للجواب، ولا يجوزُ تقديمُه معمولاً للشرط، وهو رأيُ الفرَّاء.
قوله:» وقُتِّلوا «العامَّةُ على التشديد. وقُرِئ بالتخفيف. وهذه يَرُدُّها مجيءُ المصدرِ على التَّفْعيل إلاَّ أَنْ يُقالَ: جاء على غيرِ صَدْرِه. وقوله:» سُنَّةُ اللَّهِ «قد تقدَّم نظيرها.
وقوله: «فَأَبَيْنَ» أتى بضميرِ هذه كضميرِ الإِناث؛ لأنَّ جَمْعَ التكسيرِ غيرَ العاقلِ يجوز فيه ذلك، وإنْ كان مذكراً، وإنما ذكَرْتُه لئلا يُتَوَهَّم أنه قد غَلَّبَ المؤنثَ وهو «السماوات» على المذكر وهو «الجبالُ».