تفسير سورة الإنسان

بيان المعاني
تفسير سورة سورة الإنسان من كتاب بيان المعاني المعروف بـبيان المعاني .
لمؤلفه ملا حويش . المتوفي سنة 1398 هـ

عليه السّلام المشار إليها في الآية ٣٩ من سورة النّمل ج ١ والآية ١٢ من سورة سبأ ج ٢ وغيرهما من المواضع، حتى إنهم ينسبون الرّجل الطّيب لها فيقولون فلان عبقري، والقرآن نزل بلغتهم، وحتى الآن يضرب المثل بهذه الكلمة لكل ما يستحسن «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (٧٧) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» (٧٨) ختم جل جلاله نعم الآخرة بهذه الآية الجليلة إشارة إلى تمجيده وتحميده، كما ختم نعم الدّنيا المتقدمة بمثلها إعلاما بأنه الباقي وإنها فانية ولا يخفى أن وصف الجنتين الأخيرتين أبلغ وأعظم من الأوليين وما فيهما، كذلك لأنهما للمقربين وهم أقوم وأقدس من أصحاب اليمين كما علمت، روى مسلم عن ثوبان قال كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا انصرف من صلاته استغفر الله ثلاثا وقال اللهم أنت السّلام ومنك السّلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام. وأخرج أبو داود والنّسائي مثله بزيادة لم يقعد بعد السّلام إلّا مقدار ما يقول اللهم أنت السّلام إلى آخره. ولذلك ذهب أبو حنيفة إلى سنة قراءة الأوراد الواردة بعد الصّلوات بعد أداء السّنة إذ لم يثبت لديه أنه صلّى الله عليه وسلم قعد بين الفريضة والسّنة بأكثر من ذلك وذهب الإمام الشّافعي إلى قرائتها بين الفريضة والسّنة لأنه صلّى الله عليه وسلم فصل بينهما بتلك الكلمات، ولكل وجهة. والله أعلم، وأستغفر الله، ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم، وصلّى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين إلى يوم الدّين. والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الإنسان عدد ١٢- ٩٨ و ٧٦
نزلت بالمدينة بعد سورة الرّحمن، وهي إحدى وثلاثون آية، ومئتان وأربعون كلمة، وألف وأربعمائة وخمسون حرفا، وتسمى سورة الدّهر.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى «هَلْ أَتى» قال أكثر المفسرين معناه قد مضى. وظاهره استفهام للحمل على الإقرار بما دخلت عليه هل الاستفهامية، أي مضى عليه زمن كثير ولم يدر ما هو على المعنى الأول، والمقرر به من ينكر البعث لأنهم يقولون مضى على انسان دهور وهو كذلك، أي قولوا
67
لهم إن الذي أوجده بعد أن لم يكن، كيف يمتنع عليه إعادته بعد موته؟ ثم بين كيف كان وما آل إليه فقال عز قوله مرّ «عَلَى الْإِنْسانِ» آدم عليه السّلام في بداية خلقه «حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ» مدة كثيرة وهي من معاني الحين «لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً» (١) ولم يدر ما هو وما يراد به لأنه عبارة عن هيكل مصنوع من طين لا حراك به. وهذا الاستفهام على المعنى الثاني تقريري يجاب ببلى أي أنه مر عليه زمن طويل وهو مجندل مصور من الطّين لم يذكره ولم يعلم بأنه سيكون بشرا، وتتولد منه هذه الخلائق وما قيل أن آدم صور وطرح بين مكة والطّائف ينفيه ما رواه مسلم عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لما صور الله آدم في الجنّة تركه ما شاء الله أن يتركه، فجعل إبليس يطوف به وينظر إليه فلما رآه أجوف علم أنه خلق لا يتمالك أي لا يملك نفسه ويحبسها عن الشّهوات، وإذا كان كذلك فمن الممكن التسلط عليه وإغواؤه، قال تعالى «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» المذكور بعد أن كوناه من التراب جعلنا ذريته مخلوقة «مِنْ نُطْفَةٍ» حقيرة «أَمْشاجٍ» ممزوجة من ماء المرأة والرّجل يقال مشجت الشّيء بمعنى مزجته وخلطته، وإنا بعد أن خلقناه على هذه الصّورة «نَبْتَلِيهِ» فنختبره ونمتحنه بأوامرنا ونواهينا بعد أن نركب فيه العقل ونصيّره قادرا على تمييز الخير من الشّر «فَجَعَلْناهُ» بعد تمام خلقه وكمال حواسه على الصّورة المبينة في الآية ١٧ فما بعدها من سورة المؤمن ج ٢ «سَمِيعاً بَصِيراً» (٢) قدم السّمع على البصر لأنه أفضل منه، لأن الأعمى يمكن التفاهم معه بخلاف الأطرش، وخصّ هاتين الحاستين من بين الحواس العشر المشار إليها في الآية ٧٣ من سورة يوسف ج ٢ لعظم فضلهما «إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ» السوي في دنياه وبينا له عاقبة الخير والشّر وأعطيناه عقلا يميز به النّفع من الضّر، وجعلنا له الخيار فيما يريد «إِمَّا شاكِراً» يكون لنعمنا هذه مقدرها حق تقديرها موحدا لإلهيتنا مؤمنا بقدرتنا آخذا بإرشاد رسلنا «وَإِمَّا كَفُوراً» (٣) بذلك جحودا لما أوليناه من النّعم كافرا برسلنا وكتبنا. هذا، وقال ابن عباس إنه بقي مئة وعشرين سنة، يريد أربعين سنة طينا وأربعين صلصالا، وأربعين حمأة، وقال الفخر إن الحين له معنيان الأوّل أنه طائفة
68
من الزمن الطّويل الممتد وغير مقدر في نفسه، والثاني مقدر بأربعين سنة وبالنظر للأحاديث الواردة في هذا الشّأن المعبرة للأول وهو الأولى، والله أعلم «إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ» بنا في الآخرة «سَلاسِلَ» يوثقون بها بأرجلهم «وَأَغْلالًا» تربط بها أيديهم وأعناقهم «وَسَعِيراً» (٤) نارا موقدة تحرقهم «إِنَّ الْأَبْرارَ» الشاكرين لنعمنا قد هيأنا لهم الجنّة يدخلونها مع الشّهداء «يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ» راجع معناه في الآية ١٨ من سورة الواقعة في ج ١ «كانَ مِزاجُها كافُوراً» (٥) من حيث بياضه ورائحته وبرده وهذا اسم لعين الماء التي يخلط بها شرابهم لا الكافور المعروف، لأنه لا يشرب، ومما يدل على ما ذكرناه قوله تعالى «عَيْناً» بدل من كافور «يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً» (٦) إلى حيث شاءوا وأرادوا من قصورهم وخيامهم، لأن التفجير شق الشّيء بان يجروها جداول إلى حيث شاءوا في مساكنهم وغيرها بمجرد إشارتهم إليها، وقد أعطوا هذا الشّيء العظيم في الآخرة لأنهم في الدّنيا كانوا «يُوفُونَ بِالنَّذْرِ» الذي أوجبوه على أنفسهم لذلك فإن الله تعالى وفّى لهم ما وعدهم به وأوجبه على نفسه تفضلا منه إذ لا واجب عليه.
مطلب في الحين والنّذر والكرم وأنواعه وثوابه وأول من سنه:
روى البخاري ومسلم عن ابن عباس قال استفتى سعد بن عبادة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في نذر كان على أمه فتوفيت قبل أن تقضيه فأمره أن يقضيه عنها وفي هذا دليل على وجوب الوفاء بالنّذر أما إذا كان معصية فلا، فقد روى البخاري عن عائشة قالت سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول من نذر أن يطيع الله فليف بنذره، ومن نذر أن يعصيه فلا يف به. وعنها قال، لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين- أخرجه الترمذي- وأبو داود والنّسائي «وَيَخافُونَ يَوْماً» عظيما لأن تنكيره يدل على هول ما فيه من الفزع «كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً» (٧) منتشرا على الخلائق والسّموات والأرضين وما فيهما «وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ» في الدّنيا قصد الثواب ابتغاء مرضاة الله تعالى «عَلى حُبِّهِ» وحاجتهم إليه ويؤثرون على أنفسهم «مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً» (٨) ويقولون لمن يتفضلون عليهم «إِنَّما نُطْعِمُكُمْ
69
لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً»
(٩) لئلا يعزم المحتاجون على مكافتهم وتكون طيبة أنفسهم ويتأثمون من المن والأذى بنفقاتهم قائلين «إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً» وجه أهله المفرطين بدنياهم «قَمْطَرِيراً» (١٠) شديد الا كفهرار تتغير فيه الوجوه حتى لا تكاد تعرف وعليه قوله:
واصطليت الحروب في كلّ يوم باسل الشّر قمطرير الصّباح
أي إنما يقصدون بإحسانهم الوقاية من هول ذلك اليوم فقط لا لأمر آخر
«فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ» جزاء إطعامهم واعتقادهم وإحسانهم للوقاية من هوله وحسن ظنهم بالله والله عند حسن ظن عبده «وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً» بهاء وبهجة في وجوههم «وَسُرُوراً» (١١) في قلوبهم أشرق لمعانه على وجوههم، لأن فرح القلب يبعث الانطلاق على الوجه فيظهر الابتسام عليه وهو نوره «وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا» على إيثار الفقراء على أنفسهم وعلى فعل الطّاعات والكف عن المعاصي وأذى النّاس إليهم «جَنَّةً وَحَرِيراً» (١٢) يلبسونه في تلك الجنّة «مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ» الأسرة الجميلة خلال الحجال، ولا تسمى أريكة إلّا وهي فيها «لا يَرَوْنَ فِيها» أي تلك الجنّة «شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» (١٣) لا حرا ولا بردا مزعجين وليسوا بحاجة إلى ضوء الشّمس والقمر لأن الجنّة مضيئة بنفسها بنور ربها المشرق عليها قال تعالى وأشرقت الأرض (أي أرض الجنّة) بنور ربها الآية ٦٩ من سورة الزمر ج ٢، والزمهرير هو القمر على لغة طيء وعليه قولهم:
وليلة ظلامها قد اعتكر قطعتها والزمهرير ما زهر
أي ما درّ وما طلع «وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها» الحاصلة من أشجارها بدليل قوله «وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» (١٤) أي سخرت للتناول تسخيرا كما يشاء طالبها بحيث يتمكن من قطعها على أي حالة كان راجع الآية ٥٤ من سورة الرّحمن المارة، وقيل المراد بتذليلها ثقل حملها وليس بشيء إذ لا فضل لهم به، والقصد هنا تفضيلهم وإكرامهم حتى في مثل هذا «وَيُطافُ عَلَيْهِمْ» بواسطة الجوار الحسان «بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ» كؤوس ملأى من الشّراب اللّذيذ لها عرى «وَأَكْوابٍ» كيزان لا عرى لها «كانَتْ» هذه الأوان والأكواب «قَوارِيرَا» (١٥)
70
شفافة لطيفة ليست بجام بل هي «قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ» جامعة بين بياض الفضة وحسنها وصفاء الجام ولطافته بحيث يرى الشّراب من خارجها وتتلون بلون ما فيها «قَدَّرُوها تَقْدِيراً» (١٦) لدى الرّجل الواحد بلا زيادة ولا نقص وهذا يكون في غاية اللّذة، وهكذا كلّ ما في الجنّة كامل طيب «وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً» ملأي خمرا لم تمزج بماء بل «كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا» (١٧) اسم لعين ماء خاص لمزج شراب الأبرار، ولهذا أبدل منه «عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا» (١٨) كانت العرب تضع الزنجبيل في شرابهم لما فيه من الرّائحة واللّذع، قال المسيب ابن علس:
وكأن طعم الزنجبيل... إذا ذقته وسلافة الخمر
وقال الأعشى:
كان القرنفل والزنجبيل... باتا بقيها وأره مشورا
الأرى العسل، والمشور المستخرج من بيوت النّحل. وقد ذكره الله تعالى لأنه كان مستطابا عند العرب، والآن يضعون اليانسون في شرابهم قبح الله شاربيه إذا ماتوا مدمنين عليه، وسميت هذه العين سل سبيلا كأنها تقول لأهل الجنّة اختاروا أي طريق تريدون أن أجري فيه إلى قصوركم وخيامكم. وقدمنا وصف خمرة الآخرة في الآية ١٨ من سورة الواقعة في ج ١ والآية ٢٥ من المطففين في ج ٢ فراجعهما «وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ» راجع الآية ١٧ من سورة الواقعة المذكورة في معنى مخلدون، لأن معنى الخلد هنا لا يتم عن كبير معنى، لأن الخلود في الجنّة لمن فيها محقق وكلّ ما فيها خالد فلا حاجة لذكر خلود خدمها وهي دار الخلد، بل معناه مقرطون، وقيل مسوّرون أي لابسون أقراطا وأسورة من ذهب كالمخدومين، راجع الآية ٢٤ من سورة الحج الآتية فيشابهون أسيادهم من هذه الجهة، وان إلباس العبيد يشير إلى عظمة الأسياد في الدّنيا، لأنا نرى بعض الشيوخ يلبسون عبيدهم أحسن منهم، فلأن يكون في الآخرة من باب أولى «إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً» (١٩) في البياض والحسن والكثرة و «إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ» هناك يا سيد الرّسل في تلك الجنان الباهرة «رَأَيْتَ نَعِيماً»
71
عظيما لا يوصف بهاؤه «وَمُلْكاً كَبِيراً» (٢٠) لا يقدر قدره وإن أهل هذه الجنان
«عالِيَهُمْ» لباسهم الفوقي كالعباءة والملحفة والجبة وهو مبتدأ خبره «ثِيابُ سُندُسٍ» هو ما، رقّ من الحرير «خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ» هو أثخنه «وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ» وقد مر في سورة فاطر يحلون فيها من أساور من ذهب الآية ٢٣ في ج ٢ وفي آية الحج الآتية في ذهب ولؤلؤ الآية ٢٣، وعليه يكون المعنى أن كلا من أهل الجنّة يلبس اسورة من فضة وذهب ولؤلؤ، ومن هنا تعلم أن أهل الدّنيا لما صاروا يوسون اللّؤلؤ بالذهب ويتحلون به أخذوه من كتاب الله «وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً» (٢١) لم تلمسه يد ولم تدنسه رجل، لأنه صنع الله بكلمة كن «إِنَّ هذا» المذكور كله وأضعافه «كانَ لَكُمْ» أيها المؤمنون «جَزاءً» لأعمالكم الصّالحة «وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً» (٢٢) عند ربكم محمودا مرضيا، لأن أعمالكم في الدّنيا كانت مرضية عنده، ولأنكم قلتم للفقراء لا نريد منكم جزاء ولا شكورا، لمثل هذا فليعمل العاملون أيها النّاس، وبه فليتنافس المتنافسون.
نعمت جزاء المؤمنين الجنه دار الأمالي والمنى والمنه
من الزرابي فرشها أي صاح ترى بها الحرام كالمباح
وهذه الآيات عامة في كلّ مؤمن يعمل مثل هذا العمل، وإن سبب نزولها على ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن عليا كرم الله وجهه كان عمل ليهودي بشعير، فأصلحوا هو وزوجته فاطمة رضي الله عنهما وخادمته فضة قسما منه ليأكلوه، فجاءهم مسكين فأعطوه إياه، ثم أصلحوا القسم الآخر فجاءهم يتيم فأعطوه إياه، ثم أصلحوا باقيه وعند ما تم نضجه أتاهم أسير فدفعوه له، وباتوا طاوين شاكرين الله على ذلك، لأنهم تصدقوا بما عندهم مع احتياجهم إليه، وهذا معنى قوله تعالى (عَلى حُبِّهِ) إذا صح لا يخصصها فيه عليه السّلام دون غيره بل يشمل عمومها كل من عمل عمله لعموم اللّفظ، ويدخل فيها هو دخولا أوليا، كيف وهو من بيت الكرم، لأن أول من سن القرى جده ابراهيم عليه السّلام وأول من هشم الثريد جده هاشم، وأول من أفطر جيرانه على مائدته في الإسلام عمه عبد الله
72
بن عباس، وهو أول من وضع الموائد على الطّريق وكان إذا خرج الطّعام من بيته لا يرد منه شيئا بل يتركه لمن يأكله وهو أول من وضع الطّعام على الطّرق للمسافرين والقافلين، وهذه سنة لم يسبقه بها أحد من أجواد الجاهلية والإسلام مثل حاتم وهرم بن سنان وكعب بن مامه وغيرهم. قالوا وقد جدد هذه السّنة الأخيرة من أكارم العرب صفوك الجرياء شيخ عشائر شمر في الجزيرة جد مشعل باشا الموجود الآن وجد عجيل الياور القاطن في الموصل كثر الله الكرام وأدام نعمه عليهم في الدنيا والآخرة. ومما قاله معدن الكرم عبد الله بن عباس:
إذا طارقات الهم ضاجعت الفتى واعمل فكر اللّيل واللّيل عاكر
وباكرني في حاجة لم يجد بها سواي ولا من نكبة الدّهر ناصر
فرجت بما لي همه من مقامه وزايله هم طروق مسافر
وكان له فضل عليّ بظنه بي الخير إني للذي ظن شاكر
ومن مروءة ابن عمه عبد الله بن جعفر أنه أسلف الزبير الف درهم، فلما توفي الزبير قال ابنه عبد الله له اني أجد في كتب أبي أن له عليك الف الف درهم قال هو صادق فاقبضها إن شئت، ثم لقيه بعد ذلك، فقال يا أبا جعفر اني واهم المال لك على أبي، قال فهو له، فقال لا أريد ذلك، قال فاختر إن شئت فهو له، وإن كرهت ذلك فلك فيه نظرة ما شئت، فانظروا أيها النّاس أين هؤلاء الكرام ألا يوجد من يتأسى بهم فينال الثناء من النّاس في الدّنيا والثواب من الله في الآخرة، ولكن النّاس ويا للأسف حرصوا على الدّنيا بحبّهم لحطامها الذي يسهل لهم كلّ شيء كما قيل:
وإذا رأيت صعوبة في مطلب فاحمل صعوبته على الدّينار
وابعثه فيما تشتهيه فإنه حجر يلين قوة الأحجار
فخير للناس من أن يجمعوه ويتركوه فيحاسبوا عليه أن يصرفوه في طرق الخير، وينالوا ثوابه، اللهم وفقنا لما فيه خيرنا وفلاحنا. قال تعالى «إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا»
(٢٣) كثيرا، المرة بعد المرة لأن التشديد يفيد التكثير والتضعيف، إذ أنزل آية آية، وخمس خمس، وسورة سورة، كما اقتضته حكمة الله.
73
وفي هذه الآية ردّ على الكافرين والمنافقين القائلين إنه سحر وكهانة وشعر واختلاق وتعلم وخرافات «فَاصْبِرْ» يا حبيبي على أذى قومك وتحمل ثقلهم، فقد آن أن يأتيك الفرج العام والنّصر المبين، فانتظر «لِحُكْمِ رَبِّكَ» بهذا إلى أن يأتي الوقت المقدر للفتح العظيم الذي وعدناك به «وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً» (٢٦) وإنما وصمهم بهاتين الخصلتين لأنهم أحد رجلين: إما كثير الإثم كأهل الكتابين أو مشرك كأهل مكة وحلفاهم من العرب، وإن كلا منهم يدعو إلى ما هو عليه.
هذا ولا يصح نزول هذه الآية في عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة أو في أبي جهل كما قاله بعض المفسرين، لأنهم قتلوا قبل نزولها ولا قائل بأنها مكية أو أن هذه الآية مستثناة منها، وكون مجيئها مسوقة على ما كان منهم عند حدوث ذكرهم بعيد أيضا، ولهذا فإنها عامة مطلقة في كلّ من هو كذلك. قال تعالى «وَاذْكُرِ» يا سيد الرّسل «اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (٢٥) أول النّهار وآخره، وهذا إشارة إلى صلاة الصّبح والظّهر والعصر «وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا» (٢٦) وهذه اعلام بصلاة المغرب والعشاء والتطوع، والقصد منها إدامة ذكر الله تعالى ليل نهار وفي كلّ حال، واعلم يا سيد الرّسل «إِنَّ هؤُلاءِ» الكفرة والمنافقين «يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ» متوغلين في الدّنيا متهالكين عليها ولذلك يعرضون عنك لأنك تدعوهم إلى ضدها، ولكنهم لا يريدون الآخرة التي تدعوهم إليها لأنهم لم يصدقوا بوجودها ويرون إجابة طلبك بالرشد والنّصح صعبا عليهم قال:
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلّب في الماء جذوة نار
وهيهات ذلك لأن الآخرة لمن يؤمن بالغيب الذي تخبر به وهم جاحدون له كافرون به مقتصرون على الدّنيا «وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلًا» (٢٧) عليهم وقعه شديدا بلاؤه، ولو علموه لجعلوه أمامهم صباح مساء ولكن لم يعرفوه فتركوه وراءهم، ولم يلتفتوا إليه، قال تعالى «نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ» مفاصلهم بالأعصاب ليتمكنّوا من القيام والقعود والأخذ والدّفع والقبض والبسط ولولا هذا الرّبط المحكم بهذا النّظام البديع لما انتفعنا بجوارحنا وحق لمن فعل هذا معنا أيها النّاس الشّكر والطّاعة لا الكفر والمعصية «وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ
74
تَبْدِيلًا»
(٢٨) فجعلناهم على صور أخرى وأهلكناهم وخلقنا قوما غيرهم يشكرون ويطيعون ليعلموا أنا قادرون على إحيائهم بعد الموت، كما نحن قادرون على تبديلهم الآن، وهذه الآية بمعنى الآية ٢٧ من سورة النّساء المارة «إِنَّ هذِهِ» الآيات المندرجة في هذه السّورة «تَذْكِرَةٌ» عظيمة وعظة بليغة لمن يوفقه الله لامتثالها والقيام بمقتضاها «فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا» (٢٩) بالتذكر فيها واتباع سبيل النّجاح الموصل إلى النّجاة «وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ» لأن الأمر كله له وحده فلا تقدرون على طاعته إلّا بتوفيقه وإرادته ولا ينكفون عن معصيته إلّا بمشيئته وأمره «إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً» بأحوال خلقه وما يؤل إليه حالهم في الدّنيا والآخرة «حَكِيماً» (٣٠) مصيبا بما يفعله بخلقه
«يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ» بهدايته لدينه القويم وتأهيله لها «وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ» باختيارهم المعاصي وظلمهم أنفسهم وغيرهم «عَذاباً أَلِيماً» (٣١) في الآخرة لا تطيقه قواهم لأنه علم إصرارهم على الكفر فلم يوفقهم للتوبة ولم يهديهم لسلوك طريقة السّوي فاستحقوا العذاب الدّائم بسوء نيتهم. هذا والله أعلم. وأستغفر الله ولا حول ولا قوة إلّا بالله العلي العظيم وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأتباعه أجمعين. والحمد لله رب العالمين.
تفسير سورة الطّلاق عدد ١٣- ٩٩- ٦٥
نزلت بالمدينة بعد الإنسان، وهي اثنتا عشرة آية ومئتان وتسع وأربعون كلمة والف وستون حرفا، ومثلها في عدد الآي وسورة التحريم فقط.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قال تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» المختار لرسالتنا الأمين على وصيتنا المأمور بتبليغ أوامرنا ونواهينا، قل لأمتك «إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ» أي بعد تمام الحيض أول الطّهر لئلا تطول عليهن العدة المانعة من زواجهن بغيركم، روى البخاري ومسلم عن ابن عمر أنه طلق زوجته وهي حائض فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتغيظ منه رسول الله، ثم قال مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، فإن بدا
75
له أن يطلقها فليطلقها قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق لها النّساء، ففعل كما أمر. واعلموا أيها النّاس أن هذا هو الطّلاق المأمور به من يريده وهو عند الله ورسوله وعلى غير هذه الصّورة يكون بدعيا مخالفا للسنة مؤاخذا عليه عند الله لما فيه من قصد الإضرار بالزوجة، قال بعض العلماء لعل هذه الآية هي النّاسخة للمتعة الواردة في الآية ٢٤ من سورة النّساء المارة لأنها متأخرة عنها ولأنها تنص على لزوم إيقاع الطّلاق للعدة أي لزمانها والمتعة لا عدة فيها، راجع الآية المذكورة في سورة النّساء فيما يتعلق في هذا البحث وقد ذكرنا فيها أنها إنما ثبتت بالسنة ونسخت بها لأن السّنة تنسخ بمثلها ولا تنسخ القرآن، فالقول الصّحيح أنها لم تنسخ بالقرآن، وإنما نهى عنها رسول الله كما أنها ثبتت بإجازته، وامتثال أمره ونهيه واجب على الأمة لأنه لا ينطق عن هوى، وقال تعالى (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) الآية ٥٨ من سورة النّساء المارة وقال (ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) الآية من سورة الحشر الآتية لذلك فإنها محرمة على القطع بتحريم رسول الله كما وتحريمه تحريم الله القائل «وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ» ليعلم أنه إذا أراد زواجها المطلق ضمنها كان له ذلك إذا كان الطّلاق رجعيا وتتزوج بعدها إذا انقضت عدتها له أو لغيره وليتزوج هو بعدها أيضا إذا كان له ثلاث زوجات غيرها إذ لا يجوز لها الزواج قبل نفاد العدة كما لا يجوز له، وهنا إذا قيل لك أيها العاقل هل يعتد الزوج أم لا فقل يعتد في هذه الحالة ولحفظ النّفقة فيها «وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ» أيها المطلقون «لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ» حتى انقضاء عدتهن ولا تطلقوهن إلا بزمانها «وَلا يَخْرُجْنَ» من تلقاء أنفسهن إلّا لحاجة ماسة وليبقين في بيوتهن لا يخرجن منها «إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ» فلكم حينئذ أن تخرجوهن منها كما لورثتكم ذلك على الوجه المبين في الآيتين ٢٣٥ و ٢٤٠ من سورة البقرة المارة «وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ» نبينها لكم في الطّلاق هنا وفي الآيات ٢٢٦ و ٢٤٤ من سورة البقرة وفي الآيات ١٩ و ٢٠ و ٣٤ و ١٣٨ من سورة النّساء المارة، وقد حدّ لكم حدودا في ذلك فإياكم ومجاوزتها «وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ» فيخالف ما أمره ويقدم على ما نهاه «فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ» وأوردها مورد الهلاك
76
واعلم أن الله تعالى إنما نهاك عن الطّلاق البت مع أنه جازه لك لأنك أيها المطلق «لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً» لم يكن بالحسبان بأن يوقع في قلبك حبها كما أوقع فيه كراهيتها فتندم ولات حين مندم إذا كان الطّلاق بنا كما مرّ في الآية ١٩ من سورة النّساء، وكذلك على المرأة أن لا تطلب الطّلاق البت بسبب كراهتها لزوجها لاحتمال تبدل الحال معها أيضا كذلك يستحب للرجل أن لا يوقع على زوجته أكثر من طلقتين رجعيتين يبقى له مجالا للرجوع، وعليها أن لا تطلقه بأكثر من ذلك ليبقى لها الطّريق مفتوحا فيتراجعا متى أرادا ضمن العدة، فإذا أعلقاه بأيديهما وقد أوقع الله في قلوبهما محبة العودة يعظم ندمهما، وقد يبغيان جهلا طريق التحليل وهو خبيث أثيم منهي عنه، فالمحلل ليس بهذه النّية زوجا.
وقد جاء في الخبر عن سيد البشر لعن الله المحلل والمحلل له. فما بالكم أيها النّاس يريد الله لكم الأصلح وتريدون الأصعب يريد الله لكم اليسر وتريدون العسر يريد الله أن يخفف عنكم وتريدون التثقيل، راجع الآيتين ١٨٥ في البقرة و ٢٧ في النّساء المارتين، وإذا تشاددتم وأبيتم إلّا الطّلاق البات فليكن بطلقة واحدة بائنة ففيها يحصل المقصود لأن الزوجة تملك عصمتها ولا يحق للزوج الرّجوع عليها إلا برضاها، حتى إذا بدل الله ما في القلوب وتزجها بعقد ومهر جديدين.
مطلب كراهة الطّلاق والنّهي عن البت فيه والعدة على الزوج أو الزوجة.
التوكل على الله المانع من الانتحار:
أخرج أبو داود عن محارب بن درثّا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال ما أحل الله شيئا أبغض إليه من الطّلاق وله. عن ابن عمر أبغض الحلال إلى الله الطّلاق وله. وللترمذي عن ثوبان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال أيما امرأة سألت زوجها الطّلاق من غير ما بأس حرام عليها رائحة الجنّة، فأحذروا أيها المؤمنون من أن توقعوا أنفسكم فيما لا خلاص لكم منه، وقد جعل الله لكم سبيلا ومخرجا لما به صلاحكم، فالله الله في أنفسكم قال تعالى «فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ» وكان ما وقع من الطّلاق منكم ليس بتا وعنّ لكم الرّجوع إلى أزواجكم «فَأَمْسِكُوهُنَّ» بالمراجعة في العدة أو تجديد العدة بعدها أو فيها إذا كان الطّلاق بتا وكان دون الثلاث «بِمَعْرُوفٍ»
77
وإحسان لا لقضاء الشّهوة فقط فيكون مكروها، وإذا كان للإضرار فحرام «أَوْ فارِقُوهُنَّ» اتركوهن يتزوجن غيركم إذا لم ترغبوا بالرجوع إليهن «بِمَعْرُوفٍ» أيضا قال تعالى (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) الآية ٢٨ من سورة البقرة المارة وتزوجوا غيرهن «وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ» على الطلاق وعلى تجديد النّكاح لئلا يقع تجاهد بينكم في ذلك، وفي النّفقة والزواج بالغير اشهدوا أيضا لئلا يدع أحد ميراث لآخر على فرض موت أحدهما «وَأَقِيمُوا» أيها الشّهود «الشَّهادَةَ لِلَّهِ» بأن تؤدوها على صحتها راجع الآية ٢٨٣ من سورة البقرة لتقف على ما يتعلق بالشهادة والآية ٢٢١ منها فيما يتعلق بالزواج والطّلاق «ذلِكُمْ» الذي بيناه لكم مما «يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» في ذلك كله، وجميع أوامر الله ونواهيه فيما يتعلق بينه وبين النّاس وبين ربه فمن يفعل ذلك «يَجْعَلْ لَهُ» مولاه ومالك أمره «مَخْرَجاً» من كل ما يحذر منه ويتعسر عليه وكلّ ضيق «وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ» ولا يعن على فكره ولا يخطر على باله ولا يرجوه «إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ» ومنفذه وممضيه ومبرمه لا بفوته مراد ولا يعجزه مطلوب، وعلى العبد أن يسلم لأمر الله ويسعى ولا يستبطئ ما طلبه، لأنه لا يقع فيهما إلّا بالوقت الذي قدره «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً» أجلا وزمنا لا ينخرمان فيقع فيهما حتما دون أن يتوقف على شيء أو يعوقه شيء إذا حان أجله المقدر عنده. هذا ومن أجال النظر في هذه الآية وعرف مغزى (إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) وما شاكلها من الآيات والأحاديث المؤيدة لها هانت عليه الدّنيا، وفرج كربه، ونفس همه، وانشرح صدره، وتوسع فيضه، ولو أنعم فكره إلى مرمى هذه الآيات الواردة في الذكر الحكيم من حدثته نفسه بالانتحار لما انتحر لأنه يعلم أن الله تعالى لا بد أن يبسط عليه من فضله ويمنّ عليه من جوده فيفرج همه ويزيل كربه ويكشف ضيقه، ولكن أين المتذكرون، أين المتوكلون يقول الله تعالى (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) وأنتم تعرضون عنه فمن أين يستجاب لكم؟ ويقول الرّسول لو توكلتم على الله حق
78
التوكل لرزقكم كما يرزق الطّير. وأنتم لا تلتفتون بل تشكون وتجحدون ولا تصدقون، فمن أين يأتيكم الخير وكيف يدفع الله عنكم الضّر؟ فلا حول ولا قوة إلا بالله. روي أن عوف بن مالك أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال له إن العدو أسر ابني مالكا وشكا إليه فاقته، فقال اتق الله واصبر وأكثر من قول لا حول ولا قوة إلّا بالله، ففعل فلم يحس إلّا وابنه وإبلا جاء بها ممن أسروه، فجاء به إلى الرسول فأخبره وقال أيحل أكل ما أتى به؟ فقال نعم أفتاه بحله لأنه من العدو في الدّين وكلّ ما كان فيه نقص أموالهم ورجالهم جاز فعله بأي صورة كانت، لأن الحربي لا ذمة له ولا عهد ولا أمانة له فيجوز أخذ ما لهم سرقة وقمار أو خلسة وبأي صورة كانت قال ابن عباس غفل عنه العدو فاستاق أنعامهم، وأنا أقول بسبب توكل أبيه وتفويض أمره لربه وأخذه بقول رسوله وأمره له بالصبر والحوقلة كان له ذلك وأعمى عنه أعداءه. هذا وقد عدّ بعض المفسرين هذه القصة من أسباب نزول هذه الآية، ولا مانع وهي باقية على عمومها. ثم لما بين الله تعالى أحكام ذوات الحيض من النّساء المدخول بهن
ذكر ما يتعلق بغيرهن فقال عز قوله «وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ» في أحكامهن وشككتم في عدتهن «فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ» فقط «وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ» لصغرهن أو لعدم طرء الحيض عليهن بعد فكذلك عدتهن ثلاثة أشهر «وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» سواء في ذلك عدة الطّلاق أو الوفاة لاطلاق النّص ولو كان يوما واحدا. روى البخاري الوداع ومسلم عن سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خوله فتوفى عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلت من نفاسها نجملت للخطاب، فدخل عليها أبو السّنابل ابن بعلها، فقال لها مالي أراك تجملت للخطاب ترجين النّكاح وأنت بعد في العدة، والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشرة أيّام، قالت سبيعة فلما قال ذلك جمعت على ثيابي حتى أمسيت أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأن قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي. وهذا لا يعني أن الآية نزلت وقت السّؤال لأنه واقع في حجة الوداع بل بعد
79
نزولها بأقل من سنتين، ولكن السّؤال والحادثة وقعت في ذلك، والفتيا تابعة لها. وهذه الآية ليست بناسخة للآية ٢٣٤ من سورة البقرة بل مخصصة لها، فتلك باق حكمها في غير ذوات الحمل، وهذه مقتصرة على الحوامل فقط، فلو وضعت حملها بعد الطّلاق أو الوفاة بيوم واحد فقد حلت للأزواج، لأن دم النفاس لا يمنع الزواج، وكذلك الحيض، ولا تكون ناسخة أيضا للآية ٢٢٩ من البقرة أيضا، والآيات الأخر المتقدمة فيها، لأن حكمها باق في غير الحوامل من ذوات الحيض، وهذه مخصصة بالحوامل، لأن النّسخ هو رفع الحكم بالمرة، وهذا غير موجود هنا، وكذلك الآية ٤٩ من سورة الأحزاب فإنها غير ناسخة لآية البقرة ولا هذه ناسخة لها، ولا يوجد في القرآن نسخ بمعنى ابطال الحكم بالكلية كما قاله بعض المفسرين، وإن بقاء الآية المنسوخ حكمها للتلاوة فقط، بل النّسخ يكون بالمعنى الذي ذكرناه من التخصيص والتقييد والتدريج بالأحكام والتخفيف فيها ولهذا فإنك دائما ترى في القرآن العظيم إذا تتبعته بحسب نزوله العام والمطلق سابقين على الخاص والمقيد، أما النّسخ بمعنى إبطال الحكم بالكلية من أنه مناقض له بحيث لا يمكن التأليف بينهما فغير موجود بالقرآن حتما، وكذلك ما قيل إن بعض الآيات قد نسخ حكمها وتلاوتها مع بقائها في القرآن لا صحة له البتة، راجع ما بيناه في المقدمة في بحث النّسخ والآية ١٠٧ من البقرة تجد ما يقنعك. قال تعالى «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً» (٤) بأن يسهل عليه أمر الدّنيا والآخرة «ذلِكَ» الحكم المنوه به هو «أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ» أيها النّاس لتعملوا به، فخذوه واحذروا أن تخالفوه «وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» ويعمل بما أمره به «يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً» (٥) كثيرا إذ يضاعف له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة إلى مالا نهاية. ثم بين جل بيانه كيفية التقوى بأمر النساء فقال عز قوله «أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ» بحسب ما تجدونه من السّعة والطّاقة، لأن الله لم يكلفكم فوق قدرتكم «وَلا تُضآرُّوهُنَّ» فتؤذوهن ولو بالكلام «لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ» كى يخرجن من بيوتهن كرها، بل عاملوهن بالحسنى مدة عدتهن، وتذكروا وصية الله فيهن،
80
واجعلوا نصب أعينكم ما جاء في الآية الأولى المارة والاية ١٨ من سورة النّساء، بأن تبغوا طريقا للألفة كي يتيسر لكم الرّجوع إذا عنّ لكم «وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ» غير مقدر بقدر لأنه بالوضع تنتهي العدة وترفع عنكم كلفة نفقتها أما ذوات الحيض والآيات واللائي لم يحضن فلكل منهن قدر معلوم بينه الله لكم وألزمكم النفقة بقدره، أما ذوات الأحمال فإنه قد يتأخر الحمل إلى سنتين في مذهب أبي حنيفة، وإلى أربع في مذهب الشّافعي لذلك أوجب الله النّفقة على المطلق إلى حين الوضع، وإنهما رضي الله عنهما لم يقولا بذلك إلّا لما ثبت لديهما بالاستقراء، ولا قيمة لقول بعض الأطباء بأن الحمل لا يتأخر عن تسعة أشهر بعد أن ثبت حسا بأقوال الثقات. ومبنى قول الأطباء على العادة والعادة قد تنخرم أحيانا لأنها تكون أغلبية والله خرق العوائد. هذا وإن هؤلاء المطلقات إذا وضعن حملهن عندكم «فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ» أولادكم باختيارهن إذ لا يجبرن على الإرضاع إلّا بالصورة المبينة في الآية ٢٣٨ من سورة البقرة «فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» عليه
لأنهن غير مكلفات إرضاع أولادكم، وفي حالة التكليف لهن الاجرة المتعارفة عليكم «وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ» لايق بالمروءة، فعلى الأب أن لا يماكس بقلة الأجرة ويماطل بدفعها، وعلى الولي عند فقده أن يقوم مقامه، وعلى المرأة أن لا تعاسر بطلب أكثر من أجر المثل أو تمنع عن الإرضاع في حالة عدم قبول الولد ثدى غيرها حفظا لحق الولد «وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ» بأن أصر كلّ منكم على ما يريده ولم يتساهل أحد منكم فلم تتفقوا على قدر معلوم وكان الولد يقبل ثدى المرضعات «فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى» (٦) رفعا للنزاع والتشاحن، وإلّا فإن لم يقبل غير ثدي أمه فتجبر على إرضاعه بأجر المثل رضيت أم لم ترض كما بيناه في الآية الآنفة الذكر من سورة البقرة، لأن الله تعالى يقول «لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ» على قدر حاله ونسبة أمثاله «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ» وضيق كسبه ولم يكن له مال «فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ» بقدر ما يتمكن عليه لا على ما تطلبه المرضعة إذ «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها» الغني بحسب غناه، والمتوسط بمقتضى حاله، والفقير على
81
ما تيسر له. فإذا فعلتم هذا أيها النّاس ولم تتجاوزوا الحالة التي أنتم عليها فاعلموا أنه «سَيَجْعَلُ اللَّهُ» لكم «بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً» (٧) وهذا وعد من الله للفقير بالسعة إذا لم يتعد قدره فيه، وللمكروب بالفرج، إذا لم ييأس، أما إذا بذخ المتوسط واستدان وأفرط، وكذلك الفقير إذا فرط وتجاوز حده في النّفقة، فمصيرهما الهلاك لمخالفتهما قوله تعالى «لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها» الآية الأخيرة من البقرة، فراجعها تقف على ما تريد في البحث.
مطلب الحكم الشّرعي في الإشهاد على أن الطّلاق والرّجعة بعد بيان أحوال المطلقات والآية الوحيدة الدّالة على أن الأرضين سبع كالسماوات:
أما الحكم الشّرعي بالإشهاد على الطّلاق والرّجعة فظاهر القرآن أنه واجب فيهما وقد اختلفت أقوال العلماء في ذلك، منهم من قال بوجوبه، ومنهم من قال بندبه أخرج أبو داود عن عمران بن حصين أن سئل عن رجل طلق امرأته ثم يقع عليها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها، فقال طلقة بغير سنة ورجعة بغير سنة، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد أي أن ذلك جائز وموف بالمقصود إلّا أنه مخالف للسنة. وقد اختلفت آراء العلماء في مثل هذا، فذهب أبو حنيفة لندب الإشهاد فيهما لقوله تعالى (وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ) فهو على النّدب أيضا، وقال الشافعي مندوب في الطّلاق واجب في الرّجعة. وفي هذا الزمان أرى أن يكون واجبا فيهما لما يرى من التجاحد الذي لازالت تقام فيه الدّعاوى. قال تعالى «وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ» راجع بحث كلمة كأين في الآية ١٤٦ من آل عمران المارة «عَتَتْ» طغت وبغت فتجاوزت وأعرضت فجنحت «عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً» على عتوّها «وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً» (٨) فظيعا لا قبل لها به «فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها» الذي فعلته في الدّنيا من الطّغيان «وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً» (٩) في الآخرة كما كان في الدّنيا، وأهل هذه القرية المعتاة وأمثالهم «أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً» فنالوا أهونه في الدّنيا وسينالون أشده في الآخرة. واعلموا أيها النّاس أن من يعمل عمل أهل تلك القرية منكم ولم يتب ويقلع عنه فإنه سيناله ذلك العذاب أيضا «فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي
82
Icon