ﰡ
أصحهما: أنها مرفوعة بفعل مقدر مبني للمفعول، حذف وفسَّره ما بعده على الاشتغال، والرفع على هذا الوجه، أعني: إضمار الفعل واجبٌ عند البصريين؛ لأنهم لا يجيزون أن يليها غيره، ويتَأوَّلُون ما أوهمَ خلافَ ذلكَ.
والثاني: أنَّها مرفوعة بالابتداء، وهو قول الكوفيين، والأخفش، لظواهر جاءت في الشعر، وانتصر له ابن مالك.
قال الزمخشري: ارتفاع «الشمس» على الابتداء، أو الفاعليَّة؟.
قلت: بل على الفاعلية ثم ذكر نحو ما تقدم، ويعني بالفاعلية: ارتفاعها بفعل الجملة، وقد مرَّ أنَّهُ يسمي مفعول ما لم يسم فاعله فاعلاً، وارتفاع «النجوم» وما بعدها، كما تقدَّم في «الشمس».
فصل في تفسير معنى التكوير
قد تقدَّم تفسير التَّكوير في أول «تنزيل».
وفي الحديث: «نعُوذُ باللهِ مِنَ الحَوْرِ بَعدَ الكَوْرِ»، أي: من التشتت بعد الألفة.
وقيل: من فساد أمورنا بعد صلاحها.
والحَوْرُ: بالحاء المهملة والراء؛ الطيُّ واللَّف، والكورُ والتَّكويرُ واحدٌ.
وسميت كارَّة القصار: كارة؛ لأنه يجمع ثيابه في ثوب واحد.
ثم إن الشيء الذي يلفّ يصير مختفياً عن الأعين، فعبر عن إزالة النور عن جرم الشمس، وغيبوبتها عن الأعين ب «التكوير».
فلهذا قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: تكويرها: إدخالها في العرش.
وقال الحسنُ: ذهاب ضوئها، وهو قول مجاهدٍ وقتادة.
وروي عن ابن عباس أيضاً وسعيد بن جبير: غورت.
وقال الرًّبيعُ بنُ خيثمٍ: «كُوِّرتْ» : رمي بها.
ومنه كورته فتكور: أي: سقط.
قال الأصمعي: يقال: طعنه فكوَّره وحوره أي: صرعه.
فمعنى «كورت» : أي: ألقيت ورميت عن الفلك.
وعن أبي صالح: «كورت» نكست.
وقال ابن الخطيب: وروي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن لفظة «كُوِّرتْ» مأخوذةٌ من الفارسية، فإنه يقال للأعمى: كور.
قوله: ﴿وَإِذَا النجوم انكدرت﴾ أي: تناثرت وتساقطت.
قال تعالى: ﴿وَإِذَا الكواكب انتثرت﴾ [الانفطار: ٢]
والأصل في الانكدار: الانصباب.
قال الخليل: انكدر عليهم القول إذا جاءوا أرسالاً، وانصبوا عليهم.
وقال أبو عبيدة: انصبّ كما ينصب العقاب إذا كسرت؛ قال العجاجُ يصفُ صقراً: [الرجز]
٥١١٩ - أبْصَرَ خِرْبَانَ فضَاءٍ فانْكَدرْ | تَقضِّيَ البَازِيَ إذَا البَازِي كَسَرْ |
وروي ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أن النجوم قناديلُ معلقةٌ بين السماء والأرض بسلاسلَ من نور بأيدي الملائكة، فإذا مات من في السموات، ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيدي الملائكة؛ لأنه مات من كان يمسكها.
قال القرطبي: «ويحتمل أن يكون» انكدارها «: طمسَ آثارها، وسميت النجوم نجوماً لظهورها في السماء بضوئها.
وعن ابن عباس - أيضاً -:» انْكَدرَتْ «: تغيَّرت، فلم يبق لها ضوءٌ لزوالها عن أماكنها، والمعنى متقارب.
قوله: ﴿وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ﴾، يعني: قطعت عن وجه الأرض وسيرت في الهواء، لقوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً﴾ [الكهف: ٤٧]، وقوله تعالى: ﴿وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً﴾ [النبأ: ٢٠] في الهواء، لقوله تعالى: ﴿وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب﴾ [النمل: ٨٨].
وقيل: سيرها أن تحوَّل عن صفة الجبال للحجارة، فتكون كثيباً مهيلاً، أي: رملاً سائلاً، وتكون كالعِهْن، وتكون هباءً منبثاً، وتكون مثل السَّراب الذي ليس بشيءٍ، وعادت الأرض قاعاً صفصفاً، ﴿لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً﴾ [طه: ١٠٧].
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ﴾. العشار: جمع عشراء، وهي: الناقة التي مر لحملها عشرة أشهر، ثم هو اسمها إلى أن تضع في تمام السَّنة وكذلك يقال في جمع نفساء.
قال القرطبي: وهو اسمها بعد ما تضع أيضاً، ومن عادة العرب أن يسمُّوا الشيء باسمه المتقدم، وإن كان قد جاوز ذلك، يقول الرجل لفرسه وقد قرح: قربوا مهري يسميه بمتقدم اسمه، وإنَّما خصَّ العشار بالذكر؛ لأنَّها أعزُّ ما يكون عند العرب، وهذا على وجه المثل؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء، أو المعنى: أنَّ يوم القيامة بحالٍ لو كان للرجل ناقة عشراء لعطَّلها، واشتغل بنفسه، يقال: ناقة عشراء، وناقتان عشراوتانِ، ونوقٌ عشارٌ وعشراوات، يبدلون من همزة التأنيث واواً.
وقيل:» العِشَارُ «: السَّحاب، و» عطلت «: أي: لا تمطر.
والعرب تشبه السحاب بالحامل، قال تعالى: ﴿فالحاملات وِقْراً﴾ [الذاريات: ٢].
وقيل: الأرض تعطل زرعها.
والتعطيل: الإهمال، ومنه قيل للمرأة: عاطل إذا لم يكن عليها حُليّ. وتقدم في» بئر معطلة «.
قال امرؤ القيس: [الطويل]
٥١٢٠ - وجيدِ كَجيدِ الرِّئمِ لَيْسَ بفَاحِشٍ | إذَا هِيَ نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطِّلِ |
قال الرازي: هو غلطٌ، إنما هو بفتحتين، بمعنى:» تعطَّلتْ «؛ لأن التشديد فيه للتعدي، يقال: عطلت الشيء، وأعطله فعطل.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ﴾، الوحوش: ما لم يتأنس به من حيوان البرّ، والوحشُ أيضاً: المكان الذي لا أنس فيه، ومنه: لقيته بوحش أي: ببلد قفر، والوحشُ: الذي يبيت وجوفه خالياً من طعامٍ، وجمعه: أوحاشٌ، وسمِّي به المنسوب إلى المكان الوحشيّ: وحشي، وعبر بالوحشيّ عن الجانب الذي يضاد الإنسي، والإنسي: ما يقبل من الإنسان وعلى هذا وحشي الفرس وإنسيه.
وقوله تعالى: ﴿حُشِرَتْ﴾. أي: جمعت، والحشرُ: الجمع قاله الحسنُ وقتادةُ وغيرهما.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: حشرها موتها، رواه عكرمة، وحشر كلِّ شيءٍ: الموت لغير الجن والإنس، فإنهما يوافيان يوم القيامة.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: يحشَرُ كلُّ شيءٍ حتى الذباب.
وعن ابن عباس - أيضاً -: يحشر الوحوش غداً، أي: تُجمع، حتى يقتصّ لبعضها من بعض، فيقتص للجمَّاء من القرناء ثم يقال لها: كوني تراباً فتموت.
ومعنى الآية: أي: أنَّ الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم؟.
وقيل: أي: أنَّها مع نفرتها اليوم من النَّاس، وتبددها في الصحاري، تنضمّ غداً إلى الناس من أهوال ذلك اليوم؛ قاله أبي بن كعب.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ﴾.
قرأ ابن كثيرٍ وأبو عمروٍ: «سُجِرتْ» بتخفيف الجيم.
والباقون: بتثقيلها على المبالغة والتنكير.
والمعنى: مُلئتْ من الماء، والعرب تقول: سجرتُ الحوضَ أسجره سجراً إذا ملأتهُ، وهو مسجورٌ، والمسجورُ والسَّاجرُ في اللغة: المَلآن.
وروى الربيع بن خيثمٍ: «سُجِّرَت» : فاضت وملئت، قال تعالى: ﴿وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ﴾ [الانفطار: ٣].
وقال الحسن: اختلطت وصارت شيئاً واحداً.
وقيل: أرسل عذبها على مالحها، ومالحها على عذبها حتى امتلأت.
وقال القشيريُّ: يرفع الله الحاجز الذي ذكره - تعالى - في قوله: ﴿بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ﴾ [الرحمن: ٢٠]، فإذا رفع ذلك البرزج تفجَّرت مياه البحار، فعمَّت الأرض كلَّها، وصارت بحراً واحداً.
وعن الحسن وقتادة وابن حيان: تيبس، فلا يبقى من مائها قطرةٌ.
قال القشيريُّ: وهو من سجرتُ التنور أسجره سجراً: إذا أحميته، وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرُّطوبة، وتقدم اشتقاق هذه المادة.
قال القفالُ: وهذا التأويل يحتمل وجوهاً:
الأول: أن تكون جهنم في قعر البحار، فهي الآن غير مسجرة بقوام الدنيا، فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل الله تعالى تأثير ذلك النِّيران إلى البِحَار، فصارت مسجورة
الثاني: قال ابن عباس: يُكوِّر الله تعالى الشمس، والقمر، والنجوم في البحار، فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك يبعث الله - تعالى -[لها] ريحاً دبوراً، فتنفخه حتى تصير ناراً، كذا جاء في الحديث.
الثالث: أن يخلق الله - تعالى - تحت البحار نيراناً عظيمة حتى تسجر تلك المياه.
قال ابن الخطيب: وهذه وجوه متكلِّفة، ولا حاجة إلى شيء منها؛ لأن القادر على تخريب الدنيا يقدر على أن يفعل في البحار ما شاء من تسجير مياهها، ومن قلب مياهها ناراً من غير حاجةٍ إلى أن يلقي فيها الشمس والقمر، أو يكون تحتها نار جهنم.
قال القرطبيُّ: وروي عن ابنِ عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم.
وقال أبي بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ستّ آيات قبل يوم القيامة: بينما الناس في أسواقهم إذا ذهب ضوءُ الشمس، فتحيَّروا ودهشُوا، فبينما هم كذلك ينظرون إذا تناثرت النجوم، وتساقطت، فبينما هم كذلك إذا وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت، واحترقت فصارت هباءً منبثاً، ففزعتِ الجنُّ إلى الإنسِ، وفزعتِ الإنسُ إلى الجنِّ، واختلط الدواب، والوحش، والهوام والطير، وماج بعضها في بعض، فذلك قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ﴾، ثم قالت الجنُّ للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجَّجُ، فبينما هم كذلك إذا تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذا جاءتهم ريح، فأماتتهم.
وقال ابن الخطيب: وهذه العلامات يمكن أن تكون عند خراب الدنيا، وأن تكون بعد القيامة.
وقيل: معنى «سُجِّرتْ» يحمر ماؤها حتى يصير كالدَّم، من قولهم: «عَيْنٌ سَجراءُ». أي: حمراء.
العامة: على تشديد «الواو» من «زوَّجت» من التزويج.
وروي عن عاصم: «زُوْوجَتْ» على وزن «فُوعِلتْ».
قال أبو حيان: «والمُفاعَلةُ» تكون من اثنين.
قال شهابُ الدِّين: وهي قراءةٌ مشكلةٌ؛ لأنَّه لا ينبغي أن يلفظ بواو ساكنة، ثم أخرى مكسورة، وقد تقدم أنه متى اجتمع مثلان، وسكن أولهما وجب الإدغام حتى في كلمتين، ففي كلمة واحدة أولى.
فصل في المراد بالآية
قال النُّعمانُ بنُ بشيرٍ: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: « ﴿وإذَا النُّفوسُ زُوِّجَتْ﴾ قال:» يُقْرَنُ كُل رجُلٍ مَعَ كُلِّ قومٍ كَانُوا يَعْملُونَ كعَملهِ «».
قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يقرن الفاجرُ مع الفاجر، ويقرن الصالحُ مع الصالحِ.
وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة: السَّابقون زوج صِنْفاُ، وأصحاب اليمين زوجٌ، وأصحاب الشِّمال زوجٌ.
وعنه أيضاً قال: زوجت نفوس المؤمنين بالحُورِ العينِ، وقُرِنَ الكفَّار والمنافقون بالشَّياطينِ.
وقال الزجاجُ: قُرنَت النفوسُ بأعمالها.
وقيل: قرنت الأرواح بالأجساد أي: وقت ردت إليها قاله عكرمة.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ﴾.
الموءودة: هي البِنْتُ تدفنُ حيَّة من الوأد، وهو الثقل لأنها تثقل بالتراب والجندل.
يقال: وأد يَئِدُ، ك «وعد» «يعِد».
وقال الزمخشري: «وأدَ يئد»، مقلوب من «آد يئود» إذا أثقل، قال الله تعالى: ﴿وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: ٢٥٥] ؛ لأنه إثقال بالتراب.
قال أبو حيان: ولا يدعى ذلك؛ لأن كلاًّ منهما كامل التصرف في الماضي، والأمر، والمضارع والمصدر واسم الفاعل، واسم المفعول، وليس فيه شيء من مسوغات إدغام القلب، والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهدُ له بالأصالةِ، والآخر ليس كذلك، أو أكثر استعمالاً من الآخر، وهذا على ما قرروهُ في أحكام علم التصريف.
فالأول: ك «يَئِسَ وأيِسَ».
والثاني: ك «طَأمَن واطمَأنَّ».
والثالث: ك «شوائع وشواعي».
والرابع: ك «لعمري، ورعملي».
قرأ العامة: «الموءودة» بهمزة بين واوين ساكنتين كالموعودة.
وقرأ البزي في رواية بهمزة مضمومة، ثم واو ساكنة. وفيه وجهان:
أحدهما: أن تكون كقراءة الجماعة، ثم نقل حركة الهمزة إلى «الواو» قبلها، وحذفت الهمزة فصار اللفظ: «الموودة» بواو مضمومة، ثم أخرى ساكنة، فقلبت «الواو» المضمومة همزة، نحو «أجُوهٍ» في «وُجُوه» فصار اللفظ كما ترى، ووزنها الآن «مَفْعُولة» ؛ لأن المحذوف «عين».
والثاني: أن تكون الجملة اسم مفعول من «آدَهُ يئوده» مثل «قَادَه يَقُودُه»، والأصل: «مأوودة»، مثل: «مقوودة»، ثم حذف إحدى الواوين على الخلاف المشهور في الحذف من نحو: «مَقُول، ومَصُون»، فوزنها الآن إما «مَفعلة»، إن قلنا: إنَّ المحذوف الواو الزائدة، وإمَّا «مَفولة» إن قلنا: إن المحذوف عين الكلمة، وهذا يظهرُ فضل علم التصريف. وقرأ الموودة - بضم الواو الأولى - على أنه نقل حركة الهمزة بعد حذفها، ولم يقلب الواو همزة.
وقال مكي: بل هو تخفيف قياسي، وذلك أنه نقل حركة «الهمزة» إلى «الواو» لم يهمزها، فاستثقل الضمة عليها فسكَّنها، فالتقى ساكنان، فحذف الثاني.
وهذا كله خروج عن الظاهر.
وإنما يظهر في ذلك ما نقله الفراء من أن حمزة وقف عليها كالموزة.
قالوا: لأجل الخط لأنها رسمت كذلك، والرسم سُنة متبعة.
والعامة على: «سُئِلَت» مبنياً للمفعول، مضموم السين.
والحسن: يكسرها من سال يسال.
وقرأ أبو جعفر: «قُتِّلتْ» - بتشديد التاء - على التكثير؛ لأن المراد اسم الجنس، فناسبه التكثير.
وقرأ عليٌّ وابن مسعودٍ وابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - «سألَت» مبنياً للفاعل، «قُتِلتُ» بضم التاء الأخيرة والتي للمتكلم، حكاية لكلامها.
وعن أبيّ وابن مسعودٍ - أيضاً - وابن يعمر: «سألتْ» مبنياً للفاعل، «قُتِلتْ» بتاء التأنيث الساكنة، كقراءة العامة.
فصل في وأد أهل الجاهلية لبناتهم
كانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين:
إحداهما: كانوا يقولون: الملائكة بنات الله، فألحقٌوا البنات به؛ تبارك وتعالى عن ذلك.
والثانية: مخافة الحاجة والإملاق، وإمَّا خوفاً من السَّبْي والاسْترقَاقِ.
قال ابن عبَّاسٍ: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخّضت على رأسها فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردَّت التراب عليها، وإن ولدتْ غلاماً حبسته، ومنه قول الراجز: [الرجز]
٥١٢١ - سَمَّيْتُهَا إذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ | والقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ زِمِّيتُ |
وكان صعصعة بن ناجية ممن يمنع الوأد؛ فافتخر الفرزدق به في قوله: [المتقارب]
٥١٢٢ - ومِنَّا الذي مَنَعَ الوَائِدَاتِ | وأحْيَا الوَئِيدَ فَلمْ يُوأدِ |
فصل
رُوَيَ «أنَّ قيس بن عاصم جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: يا رسول الله: إنِّي وأدتُ ثماني بنات كُنَّ لي في الجاهليَّة، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» فأعْتِقْ عن كُلِّ واحدةٍ منهُنَّ رقبةٌ «، قال: يا رسول الله إنِّي صاحبُ إبل، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» فأهْدِ عَن كُلِّ واحدةٍ مِنْهُنَّ بدنَةً إنْ شِئْتَ «».
واعلم أنَّ سؤال الموءودة سؤالُ توبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضرب: لِمَ ضُربتَ، وما ذنْبُكَ؟.
قال الحسنُ: أراد الله توبيخ قاتلها؛ لأنها قتلت بغير ذنبٍ.
وقال أبنُ أسلمُ: بأي ذنب ضربتْ، وكانوا يضربونها.
وقيل في قوله تعالى: ﴿سُئِلَتْ﴾ معناه: طُلبتْ، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل، وهو كقوله تعالى: ﴿وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً﴾ [الأحزاب: ١٥] أي: مطلوباً، فكأنها طلبت منهم، فقيل: أين أولادكم؟.
وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ المَرْأةَ الَّتي تَقْتلُ ولدهَا تَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مُتعلِّقٌ ولدُهَا بِثَدْيَيِْهَا، مُلطَّخاً بدمَائِهِ، فيقُولُ: يا ربِّ، هذهِ أمِّي، [وهذه] قَتلتْنِي».
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ﴾.
قرأ الأخوان وابن كثير وأبو عمرو: بالتثقيل، على تكرار النشر للمبالغة في تقريع العاصي، وتبشير المطيع.
وقيل: لتكرير ذلك من الإنسان.
والباقون: بالتخفيف. ونافع وحفص وابن ذكوان «سُعِّرت» بالتثقيل، والباقون بالتخفيف.
قوله: ﴿نُشِرَتْ﴾، أي: فتحت بعد أن كانت مطويَّة، والمراد: صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير أو شر، تطوى بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته، فيعلم ما فيها، فيقول: ﴿مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا﴾ [الكهف: ٤٩].
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ﴾، أي قُشرت، من قولهم: كشط جلد الشَّاة، أي: سلخها. وقرأ الله «قشطت» - بالقاف - وقد تقدم أنهما متعاقبان كثيراً، وأنه قرئ: وقافوراً [وكافوراً] في ﴿هَلْ أتى عَلَى الإنسان﴾ [الإنسان: ١]. [يقال: لبكت الثريد ولبقته].
قال القرطبي: «يقال: كشَطْتُ البعير كشْطاً، نزعت جلده، ولا يقال: سلخته، لأن العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته»، والمعنى: أزيلت عما فوقها.
قال الفراء: طويت.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ﴾، أي: أوقدت، فأضرمت للكفَّار، وزيد في إحمائها يقال: سعرتُ النَّار وأسْعرتُهَا.
قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أوقِدَ على النَّارِ ألْفَ سنةٍ حَتَّى اسْودَّتْ فهيَ مُظْلمةٌ».
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ﴾، أي: أدنيت وقرِّبتْ من المتَّقِينَ.
قال الحسنُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -[إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها.
وقال عبد الله بن زيد] : زُيِّنت، والزُّلْفَى في كلام العرب: القُربَة.
قوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ﴾، هذا جواب «إذا» أوَّل السُّورة وما عطف عليها، والمعنى: ما عملتْ من خيرٍ وشرٍّ. وروي عن ابن عباس وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنهما قرآها، فلما بلغا «علمت نفس ما أحضرت» قالا: لهذا أجريتِ القصَّةُ.
قال ابن الخطيب: ومعلوم أنَّ العمل لا يمكن إحضاره، فالمراد: إذا ما أحضرته في صحائفها، أو ما أحضرته عند المحاسبة، وعند الميزان من آثار تلك الأعمال، أو المراد: ما أحضرت من استحقاق الجنَّة والنَّار، فإنَّ كلَّ نفس تعلم ما أحضرت، لقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً﴾ [آل عمران: ٣٠].
والتنكير في قوله: «نَفْسٌ» من عكس كلامهم الذي يقصدون به المبالغة، وإن كان اللفظ موضوعاً للتقليل، لقوله تعالى: ﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ﴾ [الحجر: ٢]، أو يكون المراد: أنَّ الكفار كانوا يتعبُون أنفسهم بما يظنونه طاعة، ثم يظهر لهم في القيامة خلاف ذلك.
قال تعالى :﴿ وَإِذَا الكواكب انتثرت ﴾ [ الانفطار : ٢ ]
والأصل في الانكدار : الانصباب.
قال الخليل : انكدر عليهم القول إذا جاءوا أرسالاً، وانصبوا عليهم.
وقال أبو عبيدة : انصبّ كما ينصب العقاب إذا كسرت ؛ قال العجاجُ يصفُ صقراً :[ الرجز ]
٥١١٩- أبْصَرَ خِرْبَانَ فضَاءٍ فانْكَدرْ | تَقضِّيَ البَازِيَ إذَا البَازِي كَسَرْ١ |
وروي ابن عباس - رضي الله عنهما - : أن النجوم قناديلُ معلقةٌ بين السماء والأرض بسلاسلَ من نور بأيدي الملائكة، فإذا مات من في السموات، ومن في الأرض تساقطت تلك الكواكب من أيدي الملائكة ؛ لأنه مات من كان يمسكها٣.
قال القرطبي٤ :«ويحتمل أن يكون » انكدارها « : طمسَ آثارها، وسميت النجوم نجوماً لظهورها في السماء بضوئها.
وعن ابن عباس - أيضاً - :«انْكَدرَتْ » : تغيَّرت، فلم يبق لها ضوءٌ لزوالها عن أماكنها٥، والمعنى متقارب.
٢ تقدم..
٣ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٤٩) من طريق الضحاك عن ابن عباس..
٤ ينظر: الجامع لأحكام القرآن (١٩/١٤٩)..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٥٨)..
وقيل : سيرها أن تحوَّل عن صفة الجبال للحجارة، فتكون كثيباً مهيلاً، أي : رملاً سائلاً، وتكون كالعِهْن، وتكون هباءً منبثاً، وتكون مثل السَّراب الذي ليس بشيءٍ، وعادت الأرض قاعاً صفصفاً، ﴿ لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً ﴾ [ طه : ١٠٧ ].
قال القرطبي١ : وهو اسمها بعد ما تضع أيضاً، ومن عادة العرب أن يسمُّوا الشيء باسمه المتقدم، وإن كان قد جاوز ذلك، يقول الرجل لفرسه وقد قرح : قربوا مهري يسميه بمتقدم اسمه، وإنَّما خصَّ العشار بالذكر ؛ لأنَّها أعزُّ ما يكون عند العرب، وهذا على وجه المثل ؛ لأن في القيامة لا تكون ناقة عشراء، أو المعنى : أنَّ يوم القيامة بحالٍ لو كان للرجل ناقة عشراء لعطَّلها، واشتغل بنفسه، يقال : ناقة عشراء، وناقتان عشراوتانِ، ونوقٌ عشارٌ وعشراوات، يبدلون من همزة التأنيث واواً.
وقد عشرت الناقة تعشيراً : أي : صارت عشراء.
وقيل :» العِشَارُ « : السَّحاب، و » عطلت « : أي : لا تمطر.
والعرب تشبه السحاب بالحامل، قال تعالى :﴿ فالحاملات وِقْراً ﴾ [ الذاريات : ٢ ].
وقيل : الأرض تعطل زرعها.
والتعطيل : الإهمال، ومنه قيل للمرأة : عاطل إذا لم يكن عليها حُليّ. وتقدم «في بئر معطلة »٢.
قال امرؤ القيس :[ الطويل ]
٥١٢٠- وجيدِ كَجيدِ الرِّئمِ لَيْسَ بفَاحِشٍ*** إذَا هِيَ نَصَّتْهُ ولا بِمُعَطِّلِ٣
وقرأ ابنُ كثير٤ في رواية :«عُطِلت » بتخفيف الطاء.
قال الرازي : هو غلطٌ، إنما هو بفتحتين، بمعنى :«تعطَّلتْ » ؛ لأن التشديد فيه للتعدي، يقال : عطلت الشيء، وأعطله فعطل.
٢ سورة الحج آية ٤٥..
٣ ينظر: ديوانه ص ١٦، والمعلقات العشر للزوزني ٢٥، والبحر ٨/٤٢٤، والمحرر الوجيز ١/٤٧٩، والدر المصون ٦/٤٨٨..
٤ ينظر: إعراب القراءات ٢/٤٤٣، والبحر المحيط ٨/٤٢٣، والدر المصون ٦/٤٨٥..
وقوله تعالى :﴿ حُشِرَتْ ﴾. أي : جمعت، والحشرُ : الجمع قاله الحسنُ وقتادةُ وغيرهما١.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : حشرها موتها، رواه عكرمة٢، وحشر كلِّ شيءٍ : الموت لغير الجن والإنس، فإنهما يوافيان يوم القيامة.
وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : يحشَرُ كلُّ شيءٍ حتى الذباب٣.
وعن ابن عباس - أيضاً - : يحشر الوحوش غداً، أي : تُجمع، حتى يقتصّ لبعضها من بعض، فيقتص للجمَّاء من القرناء ثم يقال لها : كوني تراباً فتموت٤.
وقرأ الحسن٥ وابن ميمون :«حُشِّرت » بتشديد الشين.
ومعنى الآية : أي : أنَّ الوحوش إذا كانت هذه حالها فكيف ببني آدم ؟.
وقيل : أي : أنَّها مع نفرتها اليوم من النَّاس، وتبددها في الصحاري، تنضمّ غداً إلى الناس من أهوال ذلك اليوم ؛ قاله أبي بن كعب.
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٥٩) من طريق عكرمة عن ابن عباس..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢٧) وعزاه إلى ابن المنذر وابن أبي حاتم..
٤ تقدم في سورة النبأ..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٤١، والبحر المحيط ٨/٤٢٤، والدر المصون ٦/٤٨٥..
قرأ ابن كثيرٍ١ وأبو عمروٍ :«سُجِرتْ » بتخفيف الجيم.
والباقون : بتثقيلها على المبالغة والتنكير.
والمعنى : مُلئتْ من الماء، والعرب تقول : سجرتُ الحوضَ أسجره سجراً إذا ملأتهُ، وهو مسجورٌ، والمسجورُ والسَّاجرُ في اللغة : المَلآن.
وروى الربيع بن خيثمٍ :«سُجِّرَت » : فاضت وملئت، قال تعالى :﴿ وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ ﴾ [ الانفطار : ٣ ].
وقال الحسن : اختلطت وصارت شيئاً واحداً٢.
وقيل : أرسل عذبها على مالحها، ومالحها على عذبها حتى امتلأت.
وقال القشيريُّ : يرفع الله الحاجز الذي ذكره - تعالى - في قوله :﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾ [ الرحمن : ٢٠ ]، فإذا رفع ذلك البرزج تفجَّرت مياه البحار، فعمَّت الأرض كلَّها، وصارت بحراً واحداً.
وعن الحسن وقتادة وابن حيان : تيبس، فلا يبقى من مائها قطرةٌ٣.
قال القشيريُّ : وهو من سجرتُ التنور أسجره سجراً : إذا أحميته، وإذا سلط عليه الإيقاد نشف ما فيه من الرُّطوبة، وتقدم اشتقاق هذه المادة.
قال القفالُ٤ : وهذا التأويل يحتمل وجوهاً :
الأول : أن تكون جهنم في قعر البحار، فهي الآن غير مسجرة بقوام الدنيا، فإذا انتهت مدة الدنيا أوصل الله تعالى تأثير ذلك النِّيران إلى البِحَار، فصارت مسجورة بالكلية، وهذا قولُ ابن زيد، وعطية، وسفيان، ووهب، وأبيّ، وعلي بن أبي طالب، وابن عباس في رواية، والضحاك - رضي الله عنهم - أوقدت فصارت ناراً.
الثاني : قال ابن عباس : يُكوِّر الله تعالى الشمس، والقمر، والنجوم في البحار، فتصير البحار مسجورة بسبب ذلك يبعث الله - تعالى - [ لها ]٥ ريحاً دبوراً، فتنفخه حتى تصير ناراً، كذا جاء في الحديث٦.
الثالث : أن يخلق الله - تعالى - تحت البحار نيراناً عظيمة حتى تسجر تلك المياه.
قال ابن الخطيب٧ : وهذه وجوه متكلِّفة، ولا حاجة إلى شيء منها ؛ لأن القادر على تخريب الدنيا يقدر على أن يفعل في البحار ما شاء من تسجير مياهها، ومن قلب مياهها ناراً٨ من غير حاجةٍ إلى أن يلقي فيها الشمس والقمر، أو يكون تحتها نار جهنم.
قال القرطبيُّ٩ : وروي عن ابنِ عمرو - رضي الله عنه - : لا يتوضأ بماء البحر لأنه طبق جهنم١٠.
وقال أبي بن كعب رضي الله عنه : ستّ آيات قبل يوم القيامة : بينما الناس في أسواقهم إذا ذهب ضوءُ الشمس، فتحيَّروا ودهشُوا، فبينما هم كذلك ينظرون إذا تناثرت النجوم، وتساقطت، فبينما هم كذلك إذا وقعت الجبال على وجه الأرض، فتحركت واضطربت، واحترقت فصارت هباءً منبثاً، ففزعتِ الجنُّ إلى الإنسِ، وفزعتِ الإنسُ إلى الجنِّ، واختلط الدواب، والوحش، والهوام والطير، وماج بعضها في بعض، فذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ ﴾، ثم قالت الجنُّ للإنس : نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحار فإذا هي نار تأجَّجُ، فبينما هم كذلك إذا تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى، وإلى السماء السابعة العليا، فبينما هم كذلك إذا جاءتهم ريح، فأماتتهم١١.
وقال ابن الخطيب١٢ : وهذه العلامات يمكن أن تكون عند خراب الدنيا، وأن تكون بعد القيامة.
وقيل : معنى «سُجِّرتْ » يحمر ماؤها حتى يصير كالدَّم، من قولهم :«عَيْنٌ سَجراءُ ». أي : حمراء.
٢ ذكره الطبري في "تفسيره" (١٢/١٥٠)..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٦١) عن قتادة والحسن.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢٧) عن الحسن والضحاك وعزاه إلى عبد بن حميد وابن المنذر..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٦٣..
٥ سقط من أ..
٦ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢٠) وعزاه إلى ابن أبي الدنيا في "الأهوال" وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" عن ابن عباس..
٧ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٣٦..
٨ في أ: نيرانا..
٩ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٥١..
١٠ ينظر: تفسير القرطبي (١٩/١٥١)..
١١ ينظر المصدر السابق..
١٢ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٦٣..
العامة : على تشديد «الواو » من «زوَّجت » من التزويج.
وروي عن عاصم١ :«زُوْوجَتْ » على وزن «فُوعِلتْ ».
قال أبو حيان٢ :«والمُفاعَلةُ » تكون من اثنين.
قال شهابُ الدِّين٣ : وهي قراءةٌ مشكلةٌ ؛ لأنَّه لا ينبغي أن يلفظ بواو ساكنة، ثم أخرى مكسورة، وقد تقدم أنه متى اجتمع مثلان، وسكن أولهما وجب الإدغام حتى في كلمتين، ففي كلمة واحدة أولى.
فصل في المراد بالآية
قال النُّعمانُ بنُ بشيرٍ : قال النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ وإذَا النُّفوسُ زُوِّجَتْ ﴾ قال :«يُقْرَنُ كُل رجُلٍ مَعَ كُلِّ قومٍ كَانُوا يَعْملُونَ كعَملهِ٤ ».
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : يقرن الفاجرُ مع الفاجر، ويقرن الصالحُ مع الصالحِ٥.
وقال ابن عباس رضي الله عنه : ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة : السَّابقون زوج صِنْفاُ، وأصحاب اليمين زوجٌ، وأصحاب الشِّمال زوجٌ٦.
وعنه أيضاً قال : زوجت نفوس المؤمنين بالحُورِ العينِ، وقُرِنَ الكفَّار والمنافقون بالشَّياطينِ٧.
وقال الزجاجُ : قُرنَت النفوسُ بأعمالها.
وقيل : قرنت الأرواح بالأجساد أي : وقت ردت إليها قاله عكرمة.
وقيل غير ذلك.
٢ البحر المحيط ٨/٤٢٤..
٣ ينظر: الدر المصون ٦/٤٨٥..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢٧) وعزاه إلى ابن مردويه..
٥ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٦٢) والحاكم (٢/٥١٥ -٥١٦) عن النعمان بن بشير عن عمر ابن الخطاب.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢٧) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن أبي شيبة وسعيد بن منصور والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "البعث" وأبي نعيم "الحلية"..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٥١)..
٧ ينظر: المصدر السابق..
الموءودة : هي البِنْتُ تدفنُ حيَّة من الوأد، وهو الثقل لأنها تثقل بالتراب والجندل.
يقال : وأد يَئِدُ، ك «وعد » «يعِد ».
وقال الزمخشري١ :«وأدَ يئد »، مقلوب من «آد يئود » إذا أثقل، قال الله تعالى :﴿ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا ﴾ [ البقرة : ٢٥٥ ] ؛ لأنه إثقال بالتراب.
قال أبو حيان٢ : ولا يدعى ذلك ؛ لأن كلاًّ منهما كامل التصرف في الماضي، والأمر، والمضارع والمصدر واسم الفاعل، واسم المفعول، وليس فيه شيء من مسوغات إدغام القلب، والذي يعلم به الأصالة من القلب أن يكون أحد النظمين فيه حكم يشهدُ له بالأصالةِ، والآخر ليس كذلك، أو أكثر استعمالاً من الآخر، وهذا على ما قرروهُ في أحكام علم التصريف.
فالأول : ك «يَئِسَ وأيِسَ ».
والثاني : ك «طَأمَن واطمَأنَّ ».
والثالث : ك «شوائع وشواعي ».
والرابع : ك «لعمري، ورعملي ».
قرأ العامة :«الموءودة » بهمزة بين واوين ساكنتين، كالموعودة.
وقرأ البزي٣ في رواية بهمزة مضمومة، ثم واو ساكنة. وفيه وجهان :
أحدهما : أن تكون كقراءة الجماعة، ثم نقل حركة الهمزة إلى «الواو » قبلها، وحذفت الهمزة فصار اللفظ :«الموودة » بواو مضمومة، ثم أخرى ساكنة، فقلبت «الواو » المضمومة همزة، نحو «أجُوهٍ » في «وُجُوه » فصار اللفظ كما ترى، ووزنها الآن «مَفْعُولة » ؛ لأن المحذوف «عين ».
والثاني : أن تكون الجملة اسم مفعول من «آدَهُ يئوده » مثل «قَادَه يَقُودُه »، والأصل :«مأوودة »، مثل :«مقوودة »، ثم حذف إحدى الواوين على الخلاف المشهور في الحذف من نحو :«مَقُول، ومَصُون »، فوزنها الآن إما «مَفعلة »، إن قلنا : إنَّ المحذوف الواو الزائدة، وإمَّا «مَفولة » إن قلنا : إن المحذوف عين الكلمة، وهذا يظهرُ فضل علم التصريف. وقرأ الموودة - بضم الواو الأولى - على أنه نقل حركة الهمزة بعد حذفها، ولم يقلب الواو همزة.
وقرأ الأعمش٤ :«المودة »، [ بسكون الواو ]٥، وتوجيهه : أنه حذف الهمزة اعتباطاً، فالتقى ساكنان، فحذف ثانيهما، ووزنها «المُفْلَة » : لأن الهمزة عين الكلمة، وقد حذفت.
وقال مكي : بل هو تخفيف قياسي، وذلك أنه نقل حركة «الهمزة » إلى «الواو » لم يهمزها، فاستثقل الضمة عليها فسكَّنها، فالتقى ساكنان، فحذف الثاني.
وهذا كله خروج عن الظاهر.
وإنما يظهر في ذلك ما نقله الفراء من أن حمزة وقف عليها كالموزة.
قالوا : لأجل الخط لأنها رسمت كذلك، والرسم سُنة متبعة.
والعامة على :«سُئِلَت » مبنياً للمفعول، مضموم السين.
والحسن٦ : يكسرها من سال يسال.
وقرأ أبو جعفر٧ :«قُتِّلتْ » - بتشديد التاء - على التكثير ؛ لأن المراد اسم الجنس، فناسبه التكثير.
وقرأ عليٌّ وابن مسعودٍ وابنُ عباسٍ٨ - رضي الله عنهم - «سألَت » مبنياً للفاعل، «قُتِلتُ » بضم التاء الأخيرة والتي للمتكلم، حكاية لكلامها.
وعن أبيّ وابن مسعودٍ - أيضاً - وابن يعمر٩ :«سألتْ » مبنياً للفاعل، «قُتِلتْ » بتاء التأنيث الساكنة، كقراءة العامة.
فصل في وأد أهل الجاهلية لبناتهم
كانوا يدفنون بناتهم أحياء لخصلتين :
إحداهما : كانوا يقولون : الملائكة بنات الله، فألحقٌوا البنات به ؛ تبارك وتعالى عن ذلك.
والثانية : مخافة الحاجة والإملاق، وإمَّا خوفاً من السَّبْي والاسْترقَاقِ.
قال ابن عبَّاسٍ : كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت حفرت حفرة، وتمخّضت على رأسها فإن ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وردَّت التراب عليها، وإن ولدتْ غلاماً حبسته١٠، ومنه قول الراجز :[ الرجز ]
٥١٢١- سَمَّيْتُهَا إذْ وُلِدَتْ تَمُوتُ | والقَبْرُ صِهْرٌ ضَامِنٌ زِمِّيتُ١١ |
وكان صعصعة بن ناجية ممن يمنع الوأد ؛ فافتخر الفرزدق به في قوله :[ المتقارب ]
٥١٢٢- ومِنَّا الذي مَنَعَ الوَائِدَاتِ | وأحْيَا الوَئِيدَ فَلمْ يُوأدِ١٣ |
فصل
رُوَيَ «أنَّ قيس بن عاصم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله : إنِّي وأدتُ ثماني بنات كُنَّ لي في الجاهليَّة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«فأعْتِقْ عن كُلِّ واحدةٍ منهُنَّ رقبةٌ »، قال : يا رسول الله إنِّي صاحبُ إبل، قال عليه الصلاة والسلام :«فأهْدِ عَن كُلِّ واحدةٍ مِنْهُنَّ بدنَةً إنْ شِئْتَ »١٤.
واعلم أنَّ سؤال الموءودة سؤالُ توبيخ لقاتلها، كما يقال للطفل إذا ضرب : لِمَ ضُربتَ، وما ذنْبُكَ ؟.
قال الحسنُ : أراد الله توبيخ قاتلها ؛ لأنها قتلت بغير ذنبٍ١٥.
وقال أبنُ أسلمُ : بأي ذنب ضربتْ، وكانوا يضربونها١٦.
وقيل في قوله تعالى :﴿ سُئِلَتْ ﴾ معناه : طُلبتْ، كأنه يريد كما يطلب بدم القتيل، وهو كقوله تعالى :﴿ وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً ﴾ [ الأحزاب : ١٥ ] أي : مطلوباً، فكأنها طلبت منهم، فقيل : أين أولادكم ؟.
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«إنَّ المَرْأةَ الَّتي تَقْتلُ ولدهَا تَأتِي يَوْمَ القِيَامَةِ مُتعلِّقٌ ولدُهَا بِثَدْيَيِْهَا، مُلطَّخاً بدمَائِهِ، فيقُولُ : يا ربِّ، هذهِ أمِّي، [ وهذه ]١٧ قَتلتْنِي »١٨.
والأول قول الجمهور، كقوله تعالى لعيسى ابن مريم :﴿ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين ﴾ [ المائدة : ١١٦ ]، على جهة التوبيخ، والتبكيت لهم، فكذلك سؤال الموءودة : توبيخ لوائدها وهو أبلغ من سؤالها عن قتلها ؛ لأن هذا مما لا يصحّ إلا بذنب، أي : فبأي ذنب كان ذلك، فإذا ظهر أنه لا ذنب لها كان أعظم في البيّنة وظهور الحجة على قاتلها، وفي الآية دليل على أن الأطفال المشركين لا يعذَّبُون، وعلى أن التعذيب لا يستحقُّ إلاَّ بذنبٍ.
٢ البحر المحيط ٨/٤٢٤..
٣ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٢٤، والدر المصون ٦/٤٨٥..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٤٢، والبحر المحيط ٨/٤٢٤، والدر المصون ٦/٤٨٦..
٥ في أ بزنة الموزة..
٦ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٤٢، والبحر المحيط ٨/٤٢٥، والدر المصون ٦/٤٨٦..
٧ ينظر: السابق..
٨ ينظر: السابق..
٩ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٢٥، والدر المصون ٦/٤٨٦..
١٠ ينظر: القرطبي (١٩/١٥١)..
١١ ينظر: اللسان (زمت)، ومجمع البيان ١٠/٦٧٤، والقرطبي ١٩/١٥٢..
١٢ سقط منك ب..
١٣ ينظر ديوان الفرزدق ١/١٧٣، واللسان (وأد) والكشاف ٤/٧٠٨، ومجمع البيان ١٠/٦٧٢، والقرطبي ١٩/١٥٢، والبحر ٨/٤٢٥..
١٤ تقدم تخريجه..
١٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٥٢)..
١٦ ينظر: المصدر السابق..
١٧ سقط من: أ..
١٨ ينظر: تفسير القرطبي (١٩/١٥٢)..
قرأ الأخوان١ وابن كثير وأبو عمرو : بالتثقيل، على تكرار النشر للمبالغة في تقريع العاصي، وتبشير المطيع.
وقيل : لتكرير ذلك من الإنسان.
والباقون : بالتخفيف. ونافع وحفص وابن ذكوان «سُعِّرت » بالتثقيل، والباقون بالتخفيف.
قوله :﴿ نُشِرَتْ ﴾، أي : فتحت بعد أن كانت مطويَّة، والمراد : صحف الأعمال التي كتبت الملائكة فيها أعمال العباد من خير أو شر، تطوى بالموت، وتنشر في يوم القيامة، فيقف كل إنسان على صحيفته، فيعلم ما فيها، فيقول :﴿ مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
قال القرطبي٣ :«يقال : كشَطْتُ البعير كشْطاً، نزعت جلده، ولا يقال : سلخته، لأن العرب لا تقول في البعير إلا كشطته أو جلدته »، والمعنى : أزيلت عما فوقها.
قال الفراء : طويت.
٢ سقط من: ب..
٣ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٥٣..
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«أوقِدَ على النَّارِ ألْفَ سنةٍ حَتَّى اسْودَّتْ فهيَ مُظْلمةٌ »١.
احتج بهذه الآية من قال : إن النار مخلوقة الآن ؛ لأنه يدل على أنَّ سعيرها معلَّق بيوم القيامة.
قال الحسنُ - رضي الله عنه - [ إنهم يقربون منها لا أنها تزول عن موضعها.
وقال عبد الله بن زيد ]١ : زُيِّنت، والزُّلْفَى في كلام العرب : القُربَة.
قال ابن الخطيب : ومعلوم أنَّ العمل لا يمكن إحضاره، فالمراد : إذا ما أحضرته في صحائفها، أو ما أحضرته عند المحاسبة، وعند الميزان من آثار تلك الأعمال، أو المراد : ما أحضرت من استحقاق الجنَّة والنَّار، فإنَّ كلَّ نفس تعلم ما أحضرت، لقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً ﴾ [ آل عمران : ٣٠ ].
والتنكير في قوله :«نَفْسٌ » من عكس كلامهم الذي يقصدون به المبالغة، وإن كان اللفظ موضوعاً للتقليل، لقوله تعالى :﴿ رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ الحجر : ٢ ]، أو يكون المراد : أنَّ الكفار كانوا يتعبُون أنفسهم بما يظنونه طاعة، ثم يظهر لهم في القيامة خلاف ذلك.
«والخُنَّسُ» : جمع خانسٍ، والخُنوسُ: الانقباضُ، يقال: خنس بين القوم، وانْخنسَ.
وفي الحديث: «فانْخَنَسْتُ»، أي: استخفيت. يقال: خَنَسَ عنه يَخْنسُ - بالضم - خُنُوساً.
ويقال: رجلٌ أخنسُ، وامرأةٌ خنساءُ، ومنه: الخنساءُ الشاعرةُ.
والخُنَّسُ في القرآن، قيل: الكواكب السبعة السَّيارة القمران، وزحل، والمشتري والمريخ، والزهرة، وعطارد؛ لأنها تخنس في المغيب أو لأنها تختفي نهاراً.
وعن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي زُحَل، والمشتري، والمريخ، والزهرة وعطارد.
وفي تخصيصها بالذكر من بين سائر النجوم وجهان:
أحدهما: لأنَّها تستقبل الشمس، قاله بكر بن عبد الله المزني.
الثاني: تقطع المجرة، قاله ابن عباس.
وقيل: خُنُوسُهَا: رجوعها، وكُنُوسها: اختفاؤها تحت ضوء الشمس.
قال ابن الخطيب: الأظهرُ أنَّ ذلك إشارة إلى رجوعها واستقامتها.
وقال الحسن وقتادة: هي النجوم كلها؛ لأنها تخنس بالنهار إذا غربت، وتظهر بالليل، وتكنس في وقت غروبها، أي: تتأخر عن البصر لخفائها، وتكنس أي: تستتر، تكنس في وقت غروبها، أي: تتأخر عن البصر لخفائها، وتكنس أي: تستتر، كما تكنس الظِّباء في المغارة، وهي الكناس، والكنس: الداخلة في الكناس، وهي بيت الوحش، والجواري: جمع جارية.
وعن ابن مسعود: هي بقر الوحش؛ لأن هذه صفتها.
وروي عن عكرمة قال: الخُنَّسُ: البقر، والكُنسُ: هي الظباء، فهي خنسٌ إذا رأين الإنسان خَنَسْنَ، وانقبضن وتأخرن ودخلن كناسهنّ.
وحكي الماورديُّ: أنها الملائكة، والكُنَّسُ: الغيبُ، مأخوذة من الكناس، وهو كناس الوحش الذي يختفي فيه، والكُنَّسُ: جمع كانس وكانسة.
قوله تعالى: ﴿والليل إِذَا عَسْعَسَ﴾. يقال: عَسْعَسَ وسَعْسَع، أي: أقبل.
قال العجاج: [الرجز]
٥١٢٣ - حَتَّى إذَا الصُّبْحُ لهَا تَنفَّسَا | وانْجَابَ عَنْهَا ليْلُهَا وعِسْعَسَا |
قال الفراء: أجمع المفسرون على أن معنى «عسعس» : أدبر حكاه الجوهري.
وقيل: دَنَا من أوله وأظلم، وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض.
وقيل: «أدْبَر» من لغة قريش خاصَّة.
وقيل: أقبل ظلامُه، ورجحه مقابلته بقوله تعالى ﴿والصبح إِذَا تَنَفَّسَ﴾، وهذا قريبٌ من إدباره.
وقيل: هو لهما على طريق الاشتراك.
قال الخليل وغيره: عسعس الليل: إذا أقبل، أو أدبر.
قال المبرد: هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحدٍ، وهو ابتداء الظلام في وله، وإدباره في آخره.
قال الماورديُّ: وأصل العسِّ: الامتلاء.
ومنه قيل للقدح الكبير: عُسٌّ، لامتلائه بما فيه، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه، وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه، فعلى هذا يكون القسم بإقبال الليل وبإدباره، وهو قوله تعالى: ﴿والصبح إِذَا تَنَفَّسَ﴾ لا يكون فيه تكرار.
وعَسْعَس: اسم موضع البادية، وأيضاً: هو اسم رجل.
ويقال للذئب: العَسْعَسُ والعَسْعَاس؛ لأنه يعسُّ في الليل ويطلب.
قوله تعالى: ﴿والصبح إِذَا تَنَفَّسَ﴾، أي امتد حتى يصير نهاراً واضحاً.
يقال للنهار إذا زاد: تنفس، ومعنى التنفس: خروج النسيم من الجوف.
وفي كيفية المجاز قولان:
الأول: أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، فقيل: تنفس الصبح.
الثاني: أنه شبَّه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي خنس بحيث لا يتحرك، فإذا تنفس وجد راحة، فهاهنا لما طلع الصبح، فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس.
وقيل: ﴿إِذَا تَنَفَّسَ﴾ أي إذا انشق وانفلق، ومنه تنَفَّسَتِ القوسُ: أي: تصدعت. [وهذا آخر القسم].
قوله تعالى: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ﴾. قال الحسنُ وقتادةُ والضحاكُ: الرسول الكريم: جبريل.
والمعنى: إنَّه لقولُ رسولٍ كريمٍ من الله كريمٍ على الله، وأضاف الكلام إلى جبريل، ثم عزاه عنه فقال: ﴿تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين﴾ [الواقعة: ٨٠] ليعلم أهل التحقيق في التصديق أن الكلام لله تعالى.
وقيل: هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فمن جعله جبريل، فقوته ظاهرة؛ لما روى الضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادمِ جناحه.
وقوله تعالى: ﴿عِندَ ذِي العرش﴾ أي: عند الله سبحانه وتعالى.
«مكين» أي: ذي منزلةٍ ومكانةٍ.
وروى أبو صالح قال: يدخل سبعين سرادقاً بغير إذن.
وقيل: المراد: القوة في أداء طاعة الله تعالى، وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف.
وقوله تعالى: ﴿عِندَ ذِي العرش﴾ هذه العندية ليست عندية الجهة، بل عندية الإشراف، والتكريم، والتعظيم.
قوله تعالى: ﴿مُّطَاعٍ ثَمَّ﴾ ؛ أي: في السموات.
قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: من طاعة الملائكة جبريل - عليه السلام - أنَّه لمَّا أسري برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال جبريلُ لرضوان خازن الجنانِ: افتحْ له ففتحَ، فدخلها، فرأى ما فيها وقال لمالك خازن النار: افتح له ففتح، فدخلها، ورأى ما فيها.
وقوله تعالى: ﴿أَمِينٍ﴾، أي: مؤتمن على الوحي الذي يجيء به.
ومن قال: إن المراد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «ذِ قوةٍ» على تبليغ الوحي «مطاع» أي: يطيعه من أطاع الله عَزَّ وَجَلَّ.
﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ حتى يتَّهم في قوله، وهو من جواب القسم والضمير في قوله: «إنَّهُ» يعود إلى القرآن الذي نزل به جبريل - عليه السلام - على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: يعود إلى الذي أخبركم به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أنّ أمر الساعة في هذه السورة ليس بكهانة، ولا ظنَّ، ولا افتعال، إنما هو قول جبريل أتاه به وحياً من الله تعالى.
فصل فيمن استدل بالآية على تفضيل جبريل على سيدنا محمد
قال ابنُ الخطيب: احتج بهذه الآية من فضل جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إذا وازنت بين قوله سبحانه: ﴿إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ﴾، وبين قوله تعالى: ﴿وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ﴾ ظهر التفاوت العظيم.
قوله: «عند ذي» : يجوز أن يكون نعتاً ل «رسولٍ»، وأن يكون حالاً من «مكينٍ»، وأصله الوصف، فلما قدم نصب حالاً.
قوله: ﴿ثَمَّ أَمِينٍ﴾. العامة: على فتح الثَّاء؛ لأنه ظرف مكان للبعد، والعامل فيه «مطاعٍ».
وأبو البرهسم، وأبو جعفر وأبو حيوة: بضمها، جعلوها عاطفة، والتراخي هنا في الرتبة؛ لأن الثانية أعظم من الأولى.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين﴾، أي: لقد رأى جبريل في صورته في ستمائة
وقيل: «بالأفق المبين» ؛ أقطار السماء ونواحيها.
قال الماورديُّ: فعلى هذا ففيه ثلاثة أقوال:
الأول: أنه رآه في الأفق الشرقيِّ. قاله سفيان.
الثاني: في أفق السماء الغربي، حكاه ابن شجرة.
الثالث: أنه رآه نحو «أجياد»، وهو مشرق «مكة»، قاله مجاهد.
وقيل: إنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى ربه - عَزَّ وَجَلَّ - بالأفق المبينِ، وهو قول ابن مسعود وقد تقدم ذلك في سورة «والنجم».
وفي «المُبينِ» قولان:
أحدهما: أنه صفة للأفق، قاله الربيع.
الثاني: أنَّه صفة لمن رآه، قاله مجاهد.
قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ﴾.
قرأ ابن كثير، وأبو عمر، والكسائي: بالظاء، بمعنى متهم من ظن بمعنى: اتهم، فيتعدى لواحدٍ.
وقيل: معناه بضعيف القوة عن التبليغ من قولهم: «بئر ظنُون» أي: قليلة الماء، والظِّنَّة التهمة، واختاره أبو عبيدة وفي مصحف عبد الله كذلك.
والباقون: بالضاد، بمعنى: بخيل بما يأتيه من قبل ربِّه، من ضننت بالشيء أضنُّ ضنًّا، يعني: لا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك، ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً، إلا أنَّ الطبري قال: بالضاد خطوط المصاحف كلها.
وليس كذلك لما كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرأ بها، وهذا دليل على التمييز بين الحرفين خلافاً لمن يقول: إنه لو وقع أحدهما موقع الآخر بحال لجاز لعسر معرفته، وقد شنَّع الزمخشريُّ على من يقول ذلك، وذكر بعض المخارج، وبعض الصفات بما يطول ذكره.
و «الغيب» : القرآن، وخبر السماء هذا صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
وقيل: صفة جبريل عليه السلام.
قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾، أي: مَرْجُومٍ، والضمير في «هو» للقرآن، قالت قريش: إنَّ هذا القرآن يجيء به شيطان، فيلقيه على لسانه، فنفى الله ذلك، يريدون بالشيطان: الأبيض الذي كان يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صورة جبريل يريد أن يفتنه.
فصل في الكلام على الآية
قال ابنُ الخطيب: إن قيل: إنَّه حلف على أن القرآن قول جبريل - عليه السلام - فوجب علينا أن نصدقه، فإن لم نقطع بوجوب حمل اللفظ على الظاهر، فلا أقلَّ من الاحتمال، وإن كان كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتملُ أن يكون كلام جبريل لا كلام الله تعالى، وبتقدير أن يكون كلام جبريل لا يكون معجزاً، ولا يمكن أن يقال بأن جبريل معصوم؛ لأنَّ عصمته متفرعة على صدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصدق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على كون القرآن معجزاً، وكون القرآن معجزاً متفرع على عصمة جبريل، فيلزم دور.
فالجواب: أنَّ الإعجاز ليس في الفصاحة، بل في سلب تلك الدواعي عن القلوب، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلاَّ الله تعالى، لأن سلب القدرة عما هو مقدور لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
ثم قال في قوله تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ﴾ : فإن قيل: القول بصحة النبوة موقوف على نفي هذا الاحتمال فكيف يمكن نفيه بالدليل السمعي؟.
قلنا: قد بينَّا أنَّه على القول بالصرف لا يتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي.
قال ابن الخطيب١ : الأظهرُ أنَّ ذلك إشارة إلى رجوعها واستقامتها.
وقال الحسن وقتادة : هي النجوم كلها ؛ لأنها تخنس بالنهار إذا غربت، وتظهر بالليل، وتكنس في وقت غروبها، أي : تتأخر عن البصر لخفائها، وتكنس أي : تستتر، كما تكنس الظِّباء في المغارة، وهي الكناس، والكنس : الداخلة في الكناس، وهي بيت الوحش، والجواري : جمع جارية٢.
وعن ابن مسعود : هي بقر الوحش ؛ لأن هذه صفتها٣.
وروي عن عكرمة قال : الخُنَّسُ : البقر، والكُنسُ : هي الظباء، فهي خنسٌ إذا رأين الإنسان خَنَسْنَ، وانقبضن وتأخرن ودخلن كناسهنّ٤.
قال القرطبيُّ٥ :«والخُنَّسُ » على هذا : من الخنس في الأنف، وهو تأخير الأرنبة، وقصر القصبة، وأنوف البقر والظِّباء خنس، والقول الأول أظهر لذكر الليل والصبح بعده.
وحكي الماورديُّ : أنها الملائكة، والكُنَّسُ : الغيبُ، مأخوذة من الكناس، وهو كناس الوحش الذي يختفي٦ فيه، والكُنَّسُ : جمع كانس وكانسة.
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٦٧) عن الحسن..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٦٨) والحاكم (٢/٥١٦) والطبراني كما في "مجمع الزوائد" (٧/١٣٧) عن ابن مسعود.
وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
وقال الهيثمي: رواه الطبراني ورجاله رجال صحيح.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢٩) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور والفريابي وابن سعد وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر من طرق عن عبد الله بن مسعود.
.
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٦٩) عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد والضحاك. وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٢٩) عن مجاهد وعزاه إلى عبد بن حميد..
٥ الجامع لأحكام القرآن ١٩/١٥٥..
٦ في : ب يجتمع..
قال العجاج :[ الرجز ]
٥١٢٣- حَتَّى إذَا الصُّبْحُ لهَا تَنفَّسَا | وانْجَابَ عَنْهَا ليْلُهَا وعِسْعَسَا١ |
قال الفراء : أجمع المفسرون على أن معنى «عسعس » : أدبر حكاه الجوهري.
وقيل : دَنَا من أوله وأظلم، وكذلك السحاب إذا دنا من الأرض.
وقيل :«أدْبَر » من لغة قريش خاصَّة.
وقيل : أقبل ظلامُه، ورجحه مقابلته بقوله تعالى ﴿ والصبح إِذَا تَنَفَّسَ ﴾، وهذا قريبٌ من إدباره.
وقيل : هو لهما على طريق الاشتراك.
قال الخليل وغيره : عسعس الليل : إذا أقبل، أو أدبر.
قال المبرد : هو من الأضداد، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحدٍ، وهو ابتداء الظلام في أوله، وإدباره في آخره.
قال الماورديُّ : وأصل العسِّ : الامتلاء.
ومنه قيل للقدح الكبير : عُسٌّ، لامتلائه بما فيه، فأطلق على إقبال الليل لابتداء امتلائه، وأطلق على إدباره لانتهاء امتلائه، فعلى هذا يكون القسم بإقبال الليل وبإدباره، وهو قوله تعالى :﴿ والصبح إِذَا تَنَفَّسَ ﴾ لا يكون فيه تكرار.
وعَسْعَس : اسم موضع البادية، وأيضاً : هو اسم رجل.
ويقال للذئب : العَسْعَسُ والعَسْعَاس ؛ لأنه يعسُّ في الليل ويطلب.
ويقال للقنافذ : العَساعِس، لكثرة ترددها بالليل، والتَّعَسْعُس : الشم والتَّعَسْعُس - أيضاً - : طلب الصيد.
*** وأعسف الليل إذا الليل غسا ***
ينظر ديوان العجاج ١٢٩، ومجاز القرآن ٢/٢٨٨، والطبري ٣٠/٥٠، ومجمع البيان ١٠/٢٧٦، والكشاف ٤/٧١١، والقرطبي ١٩/١٥٥، والبحر ٨/٤٢٢ وقد نسب البيتان إلى علقمة بن قرط..
يقال للنهار إذا زاد : تنفس، ومعنى التنفس : خروج النسيم من الجوف.
وفي كيفية المجاز قولان :
الأول : أنه إذا أقبل الصبح أقبل بإقباله روح ونسيم، فجعل ذلك نفساً له على المجاز، فقيل : تنفس الصبح.
الثاني : أنه شبَّه الليل المظلم بالمكروب المحزون الذي خنس بحيث لا يتحرك، فإذا تنفس وجد راحة، فهاهنا لما طلع الصبح، فكأنه تخلص من ذلك الحزن فعبر عنه بالتنفس.
وقيل :﴿ إِذَا تَنَفَّسَ ﴾ أي إذا انشق وانفلق، ومنه تنَفَّسَتِ القوسُ : أي : تصدعت. [ وهذا آخر القسم ]١.
والمعنى : إنَّه لقولُ رسولٍ كريمٍ من الله كريمٍ على الله، وأضاف الكلام إلى جبريل، ثم عزاه عنه فقال :﴿ تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين ﴾ [ الواقعة : ٨٠ ] ليعلم أهل التحقيق في التصديق أن الكلام لله تعالى.
وقيل : هو محمد صلى الله عليه وسلم، فمن جعله جبريل، فقوته ظاهرة ؛ لما روى الضحاك عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : من قوته قلعه مدائن قوم لوط بقوادمِ جناحه٢.
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (١٩/١٥٦) عن الضحاك عن ابن عباس..
«مكين » أي : ذي منزلةٍ ومكانةٍ.
وروى أبو صالح قال : يدخل سبعين سرادقاً بغير إذن.
وقيل : المراد : القوة في أداء طاعة الله تعالى، وترك الإخلال بها من أول الخلق إلى آخر زمان التكليف.
وقوله تعالى :﴿ عِندَ ذِي العرش ﴾ هذه العندية ليست عندية الجهة، بل عندية الإشراف، والتكريم، والتعظيم.
وقوله تعالى :«أنا عند المنكسرة قلوبهم »، وقوله سبحانه :﴿ مَكِينٍ ﴾ : قال الكسائي : يقال : مكنَ فلانٌ عند فلانٍ - بضم الكاف - تمكُّناً ومكانة، فعلى هذا هو ذو الجاه الذي يعطي ما يسأل.
قال ابن عباس رضي الله عنهما : من طاعة الملائكة جبريل - عليه السلام - أنَّه لمَّا أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم قال جبريلُ لرضوان خازن الجنانِ : افتحْ له ففتحَ، فدخلها، فرأى ما فيها وقال لمالك خازن النار : افتح له ففتح، فدخلها، ورأى ما فيها١.
وقوله تعالى :﴿ أَمِينٍ ﴾، أي : مؤتمن على الوحي الذي يجيء به.
ومن قال : إن المراد محمد صلى الله عليه وسلم فقال :«ذِي قوةٍ » على تبليغ الوحي «مطاع » أي : يطيعه من أطاع الله عز وجل.
وقيل : يعود إلى الذي أخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم من أنّ أمر الساعة في هذه السورة ليس بكهانة، ولا ظنَّ، ولا افتعال، إنما هو قول جبريل أتاه به وحياً من الله تعالى.
فصل فيمن استدل بالآية على تفضيل جبريل على سيدنا محمد
قال ابنُ الخطيب١ : احتج بهذه الآية من فضل جبريل - عليه الصلاة والسلام - على محمد صلى الله عليه وسلم فقال : إذا وازنت بين قوله سبحانه :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾، وبين قوله تعالى :﴿ وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ ﴾ ظهر التفاوت العظيم.
قوله :«عند ذي » : يجوز أن يكون نعتاً ل «رسولٍ »، وأن يكون حالاً من «مكينٍ »، وأصله الوصف، فلما قدم نصب حالاً.
قوله :﴿ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾. العامة : على فتح الثَّاء ؛ لأنه ظرف مكان للبعد، والعامل فيه «مطاعٍ ».
وأبو البرهسم٢، وأبو جعفر وأبو حيوة : بضمها، جعلوها عاطفة، والتراخي هنا في الرتبة ؛ لأن الثانية أعظم من الأولى.
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٤٤، والبحر المحيط ٨/٤٢٦، والدر المصون ٦/٤٨٧..
وقيل :«بالأفق المبين » ؛ أقطار السماء ونواحيها.
قال الماورديُّ : فعلى هذا ففيه ثلاثة أقوال :
الأول : أنه رآه في الأفق الشرقيِّ. قاله سفيان.
الثاني : في أفق السماء الغربي، حكاه١ ابن شجرة.
الثالث : أنه رآه نحو «أجياد »، وهو مشرق «مكة »، قاله مجاهد٢.
وقيل : إنَّ محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه - عز وجل - بالأفق المبينِ، وهو قول ابن مسعود وقد تقدم ذلك في سورة «والنجم ».
وفي «المُبينِ » قولان :
أحدهما : أنه صفة للأفق، قاله الربيع.
الثاني : أنَّه صفة لمن رآه، قاله مجاهد.
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٤٧٢) عن مجاهد وينظر تفسير الماوردي (٦/٢١٨) والقرطبي (١٩/١٥٧)..
قرأ ابن كثير، وأبو عمر، والكسائي١ : بالظاء، بمعنى متهم، من ظن بمعنى : اتهم، فيتعدى لواحدٍ.
وقيل : معناه بضعيف القوة عن التبليغ من قولهم :«بئر ظنُون » أي : قليلة الماء، والظِّنَّة التهمة، واختاره أبو عبيدة وفي مصحف عبد الله٢ كذلك.
والباقون : بالضاد، بمعنى : بخيل بما يأتيه من قبل ربِّه، من ضننت بالشيء أضنُّ ضنًّا، يعني : لا يكتمه كما يكتم الكاهن ذلك، ويمتنع من إعلامه حتى يأخذ عليه حلواناً، إلا أنَّ الطبري قال : بالضاد خطوط المصاحف كلها.
وليس كذلك لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بها، وهذا دليل على التمييز بين الحرفين خلافاً لمن يقول : إنه لو وقع أحدهما موقع الآخر بحال لجاز لعسر معرفته، وقد شنَّع الزمخشريُّ على من يقول ذلك، وذكر بعض المخارج، وبعض الصفات بما يطول ذكره٣.
و﴿ عَلَى الغيب ﴾ متعلق ب «ظنين »، أو «ضَنِيْنٍ ».
و«الغيب » : القرآن، وخبر السماء هذا صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل : صفة جبريل عليه السلام.
٢ ينظر: الكشاف ٤/٧١٣، والمحرر الوجيز ٥/٤٤٤، والبحر المحيط ٨/٤٢٦، والدر المصون ٦/٤٨٧..
٣ ينظر: الكشاف ٤/٧١٣..
فصل في الكلام على الآية
قال ابنُ الخطيب١ : إن قيل : إنَّه حلف على أن القرآن قول جبريل - عليه السلام - فوجب علينا أن نصدقه، فإن لم نقطع بوجوب حمل اللفظ على الظاهر، فلا أقلَّ من الاحتمال، وإن كان كذلك ثبت أن هذا القرآن يحتملُ أن يكون كلام جبريل لا كلام الله تعالى، وبتقدير أن يكون كلام جبريل لا يكون معجزاً، ولا يمكن أن يقال بأن جبريل معصوم ؛ لأنَّ عصمته متفرعة على صدق النبي صلى الله عليه وسلم وصدق النبي صلى الله عليه وسلم على كون القرآن معجزاً، وكون القرآن معجزاً متفرع على عصمة جبريل، فيلزم دور.
فالجواب : أنَّ الإعجاز ليس في الفصاحة، بل في سلب تلك الدواعي عن القلوب، وذلك مما لا يقدر عليه أحد إلاَّ الله تعالى، لأن سلب القدرة عما هو مقدور لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
ثم قال في قوله تعالى :﴿ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ ﴾ : فإن قيل٢ : القول بصحة النبوة موقوف على نفي هذا الاحتمال فكيف يمكن نفيه بالدليل السمعي ؟.
قلنا : قد بينَّا أنَّه على القول بالصرف لا يتوقف صحة النبوة على نفي هذا الاحتمال بالدليل السمعي.
٢ الفخر الرازي ٣١/٦٨..
وقال أبو البقاء: أي: إلى أين؟ فحذف حرف الجرِّ، كقولك: ذهبت «الشام»، ويجوز أن يحمل على المعنى، كأنه قال: أين تؤمنون، يعني: أنه على الحذف، أو على التضمين، وإليه نحا مكيٌّ أيضاً.
فصل في تفسير الآية
قال قتادةُ: فإلى أين تعدلون عن هذا القول، وعن طاعته.
وقال الزجاج: فأي طريق تسلكون أبين من هذه الطريقة التي بيَّنت لكم.
ويقال: أين تذهب وإلى أين تذهب.
وحكى الفراء عن العرب: ذهبت «الشام»، وخرجت «العراق»، وانطلقت السوق، أي: إليها؛ وأنشد لبعض بني عقيل: [الوافر]
٥١٢٤ - تَصِيحُ بِنَا حنيفةُ إذْ رَأتْنَا | وأيُّ الأرضِ تَذْهَبُ لِلصِّياحِ |
قوله: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ﴾، يعني: القرآن ذكر للعالمين، أي: موعظة، وزجر. و «إن» بمعنى: «ما».
وقيل: ما محمد إلا ذكر.
قوله: ﴿لِمَن شَآءَ مِنكُمْ﴾ بدل من «للعالمين» بإعادة العامل، وعلى هذا فقوله: ﴿أَن يَسْتَقِيمَ﴾ : مفعول «شاء» أي: لمن شاء الاستقامة، ويجوز أن يكون «لمن شاء» خبراً مقدماً، ومفعول شاء محذوف، وأن يستقيم مبتدأ، وتقدم نظيره والمعنى: لمن شاء منكم أن يستقيم.
قال أبو جهل: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم وهذا هو القدر، وهو رأس القدرية، فنزلت: ﴿وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين﴾، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيراً إلا بتوفيق الله تعالى، ولا شرًّا إلا بخذلانه.
قوله: ﴿إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾، أي: إلا وقت مشيئة الله تعالى.
وقال مكيٌّ: «أن» في موضع خفض بإضمار «الباء»، أو في موضع نصب بحذف الخافض.
يعني: أن الأصل «إلا بأن»، وحينئذ تكون للمصاحبة.
فصل في تفسير الآية
قال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله تعالى لها.
وقال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله﴾ [يونس: ١٠٠].
وقال تعالى: ﴿إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ﴾ [القصص: ٥٦]، والآيُ في هذا كثيرة وكذلك الأخبار وأن الله - تعالى - هدى بالإسلام، وأضلَّ بالكفر.
قال ابنُ الخطيب: وهذا عين مذهبنا؛ لأن الأفعال موقوفة على مشيئتنا، ومشيئتنا موقوفة على مشيئة الله، والموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فأفعال العباد ثبوتاً ونفياً موقوفة على مشيئة الله تعالى، وحمل المعتزلة ذلك على أنها مخصوصة بمشيئة الإلجاء والقهر، وذلك ضعيف؛ لأن المشيئة الاختيارية حادثة، فلا بد من محذوف، فيعود الكلام. والله تعالى أعلم.
روى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ ﴿إِذَا الشمس كُوِّرَتْ﴾، أعاذهُ الله أنْ يَفضحَهُ حِينَ تُنشرُ صَحِيفَتُهُ» والله أعلم بالصواب.
وقيل : ما محمد إلا ذكر.
قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم وهذا هو القدر، وهو رأس القدرية. فنزلت :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين ﴾، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيراً إلا بتوفيق الله تعالى، ولا شرًّا إلا بخذلانه.
قوله :﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾، أي : إلا وقت مشيئة الله تعالى.
وقال مكيٌّ :«أن » في موضع خفض بإضمار «الباء »، أو في موضع نصب بحذف الخافض.
يعني : أن الأصل «إلا بأن »، وحينئذ تكون للمصاحبة.
قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا، وإن شئنا لم نستقم وهذا هو القدر، وهو رأس القدرية. فنزلت :﴿ وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين ﴾، فبين بهذا أنه لا يعمل العبد خيراً إلا بتوفيق الله تعالى، ولا شرًّا إلا بخذلانه.
قوله :﴿ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾، أي : إلا وقت مشيئة الله تعالى.
وقال مكيٌّ :«أن » في موضع خفض بإضمار «الباء »، أو في موضع نصب بحذف الخافض.
يعني : أن الأصل «إلا بأن »، وحينئذ تكون للمصاحبة.
فصل في تفسير الآية
قال الحسن : والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله تعالى لها١.
وقال وهب بن منبه - رضي الله عنه - : قرأت في تسعة٢ وثمانين كتاباً مما أنزل الله - تعالى - على الأنبياء : من جعل إلى نفسه شيئاً فقد كفر، وفي التنزيل :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ﴾ [ الأنعام : ١١١ ].
وقال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ [ يونس : ١٠٠ ].
وقال تعالى :﴿ إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ ﴾ [ القصص : ٥٦ ]، والآيُ في هذا كثيرة وكذلك الأخبار وأن الله - تعالى - هدى بالإسلام، وأضلَّ بالكفر٣.
قال ابنُ الخطيب٤ : وهذا عين٥ مذهبنا ؛ لأن الأفعال موقوفة على مشيئتنا، ومشيئتنا موقوفة على مشيئة الله، والموقوف على الشيء موقوف على ذلك الشيء، فأفعال العباد ثبوتاً ونفياً موقوفة على مشيئة الله تعالى، وحمل المعتزلة ذلك على أنها مخصوصة بمشيئة الإلجاء والقهر، وذلك ضعيف ؛ لأن المشيئة الاختيارية حادثة، فلا بد من محذوف، فيعود الكلام. والله تعالى أعلم.
٢ في أ: سبعة..
٣ ينظر: المصدر السابق..
٤ ينظر: الفخر الرازي ٣١/٦٩..
٥ في أ: غير..