تفسير سورة البروج

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة البروج من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سُورَةُ الْبُرُوجِ
مكية، وآيها اثنتان وعشرون

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (١) هي البروج الاثنا عشر المشهورة. والإقسام بها؛ لأن سير الشمس فيها، وبه نيط نظام العالم السفلي. أو منازل القمر؛ لأن تلك البروج منقسمة إلى ثمانية وعشرين منزلاً. أو الكواكب العظام. أو أبواب السماء، فإنَّ النوازل يظهر منها. وأصل التركيب للظهور، ومنه تبرج المرأة. (وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) يوم القيامة.
(وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) عن أبي هريرة وأبي مالك الأشعري عن رسول اللَّه - ﷺ -: " الشاهد: يوم الجمعة، والمشهود: يوم عرفة " وكذا عن سعيد بن المسيب، وعن ابن عباس
--: " الشاهد: محمد، والمشهود: يوم القيامة؛ وعن سعيد بن جبير: " الشاهد: هو اللَّه، والمشهود: يوم القيامة ".
(قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (٤) دليل جواب القسم، أي: أقسم أنَّ قريشاً لملعونون، أحقاء بأن يقال فيهم: قتلوا كما قتل أصحاب الأخدود. وقيل: المذكور هو الجواب. والأول: هو الوجه، لأنَّ الكلام مسوق لتصبير المؤمنين وتهديد المشركن كما دل عليه آخر السورة. والأخدود: جمع خدّ وهو الشق. وفي الحديث: " أَنْهَارُ الجَنَّةِ تَجْرِي فِي غَيْرِ أُخْدود " والقصة على ما رواها مسلم: " أنَّ رسول اللَّه - ﷺ - أخبر أنه كان فيمن كان قبلكم ملك كافر له ساحر، فلما كبر سأل الملك أن يدفع إليه غلاماً ليعلمه السحر، فدفع إليه غلاماً، وكان في طريق الغلام راهب على ملة عيسى، فسَمِعَ الرَّاهِبَ وأَعْجَبَهُ كلامه، فانقطع من الساحر إلى الراهب، فكان يضربه الساحر لانقطاعه، فقال له الراهب، إذا قال لك الساحر ما حبسك عني قل حبسني أهلي، وإذا سألك أهلك قل حبسني الساحر، فمرّ يوماً على دابة عظيمة في الطريق قد حبست الناس، فأخذ حجراً فقال: " اللَّهم إن كان أمر الراهب أحب
361
إليك من الساحر فاقتل هذه الدابة "، فرماها فقتلها فأخبر الراهب فقال: " إنك أفضل مني، وستبتلى فلا تدل عليَّ "، فشرع الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، وكان جليس الملك قد عمي، فأتى الغلامَ بأموال وقال: " اشفني "، قال. " الشافي هو اللَّه، فإن آمنت به دعوت اللَّه فشفاك "، فآمن فدعا الغلام فشفاه اللَّه، فلما حضر الملك قال. " من ردّ عليك البصر "؟ قال: " ربي "، قال: " أنا "؟ قال: " لا، ربي وربك اللَّه "، فأخذه يعذبه حتى دل على الغلام، فلما أتي به قال: " بلغ من سحرك أنك تبرئ الأكمه والأبرص "؟ قال: " الشافي هو اللَّه "، قال: " أولك ربٌّ غيري "؟ قال: " ربي وربك اللَّه "، فلم يزل يعذبه حتى دلّ على الراهب، فقال للراهب: " ارجع عن دينك " فلم يرجع، فوضع المنشار على رأسه فشقه، ودفع الغلام إلى جماعة فقال: " اذهبوا به إلى ذروة شاهق فألقوه "، فلما علوا به الجبل، فقال: " اللَّهم أكفنيهم "، فرجف بهم الجبل فهلكوا عن آخرهم، فرجع الغلام سالماً، فسأله الملك عن القوم؟ فقال: " هلكوا "، فدفعه إلى نفر وقال: " اجعلوه في قرقور " فإذا توسطتم البحر فألقوه في البحر "، فلما توسطوا البحر قال: " اللَّهم اكفنيهم "، فغرقوا ورجع الغلام إلى الملك، فقال: " ما فعل أصحابك "؟ قال: " غرقوا "، ثم قال للملك: " أنت لا تقدر على قتلي إلا إذا فعلت ما آمرك به، اجمع الناس في صعيد واحد واصلبني، وخذ سهمًا من كنانتي وقل: بسم اللَّه ربِّ الغلام، فإنك إذا فعلت ذلك قدرت على قتلي "، ففعل ذلك فقُتل الغلام، فقال الناس: " آمنا بربِّ الغلام " فأمر بأفواه السكك فخدّت أخاديد وأضرمت فيها النيران وقال: " من رجع عن دينه فدعوه "، فكانوا يتعادون ويتدافعون إلى النار رغبة في الموت على الدِّين، فجاءت امرأة تحمل رضيعا فتقاعست فناداها الرضيع: " يا أمِّاه اصبري فإنك على الحق "، فألقت نفسها مع الصبي ". وعن عليٍّ: أنهم حين اختلفوا في
362
أحكام المجوس، قال: هم أهل كتاب، وكانوا متمسكين به، فشرب بعض ملوكهم الخمر، ووقع على أخته، فلمّا صحا ندم وطلب المخرَجَ، فقالت أختُه: المخرج أن يخطب ويقول في الخُطبة: أيها الناس إنَّ اللَّه قد أحلّ نكاحَ الأخواتِ، ثم بعد ذلك تَخْطُبُ وتقول: إنَّ الله قد حرّم ذلك، فخطب، فلم يقبلوا منه فبسط فيهم السوطَ فلم يقبلوا، فقالت: ابسِطْ فيهم السيفَ، ففعل فلم يقبلوا، فأمرتْه بالأخدودِ وإيقادِ النار وإلقاء من أبى فيها ".
وروى ابن إسحاق: أنَّ رجلا عالماً من علماء النصارى وقع بنجران فدعاهم إلى دين عيسى فآمنوا به فسار إليهم ذو نواس اليهودي من بلاد اليمن، فخيرهم بين النار واليهودية فأبوا،
363
فأحرق منهم اثني عشر ألفاً، وقيل سبعين ونجا منهم رجل فلحق بقيصر، فكتب قيصر إلى ملك الحبشة يحثه على قتال ذي نواس ونصر دين عيسى، فأرسل النجاشي جيشاً أميرهم أرياط فهزم ذا نواس اليهودي، حتى دخل البحر في سفينة وغرق فيها، واستمر مُلك اليمن في يد الحبشة سبعين سنة حتى استنقذه سيف بن ذي يزن من أبناء تبع وهو الذي أخبر عبد المطلب بشأن رسول اللَّه وصفاته ".
(النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (٥) النار بدل اشتمال. و (ذَاتِ الْوَقُودِ) صفة لها بالعظمة وكثرة الوقود من الحطب والناس. قيل: كان طول الأخدود أربعين ذراعاً في عرض اثني عشر.
(إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (٦) ظرفا لـ " قتل "، أي: لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها.
(وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنه
سعى في إحراقهم ولم يقصر، أو يشهدون يوم القيامة على أنفسهم (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ).
(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) أي: وما عابوا منهم إلا أفضل المناقب، وأحسن الخصال وهو الإيمان بمن هذه صفاته، من كونه غالباً على كل شيء، منعماً محموداً على نعمه. كقوله:
وَلا عَيبَ فيهِم غَيرَ أَن سييوفَهُم بِهِنِّ فُلولٌ مِن قِراعِ الكَتائبِ.
(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩) أعاد المظهر؛ للدلالة على أنَّ شمول العلم شأن الألوهية ومن لوازمها.
(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا... (١٠) يشمل أصحاب الأخدود وغيرهم (فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ) لكفرهم. (وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ) نار أخرى عظيمة تتسع بهم كما يتسع الحريق لفتنتهم، وقيل: هم أصحاب الأخدود لما روي " أنَّ النار انقلبت عليهم فأحرقتهم ".
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١) الذي يستحقر ملك الدنيا دونه.
(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) البطش: هو الأخذ بالشدة والعنف. فالوصف بالشدة زيادة مبالغة، ثم قرر ذلك بقوله:
(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) ومَن هذا شأنه يكون بطشه وانتقامه من أعدائه في نهاية الشدة، وقيل: يبدئ البطش في الدنيا ويعيده في الآخرة، وهذا يلائم ما قيل: إنَّ النار انقلبت على أصحاب الأخدود.
وَهُوَ الْغَفُورُ... (١٤) للذنوب (الْوَدُودُ) لمن تاب (ذُو الْعَرْشِ... (١٥) خالق العرش، أو كنى به عن الملك (الْمَجِيدُ) خبر رابع لـ " هو ". ومجد اللَّه عظمته وكبرياؤه. وقرأ حمزة والكسائي بالجر صفة العرش، والمراد به: عظمة جرمه، أو اتساع الملك؛ دلالة على كمال الاقتدار. والرفع أولى؛ لكونه غالباً في صفاته تعالى.
(فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (١٦) لا يتأتى عليه مراد. خبر مبتدأ محذوف، لدلالته على تحقق الوصفين: البطش بالأَعداء، والمغفرة والودّ للأولياء. ولو جعل خبر " هو " المذكور " فات " ولا يخفى ما في التنكير وزيادة اللام من الفخامة.
(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) أبدلهما عن " الجنود "؛ لأنَّ المراد: فرعون وملأه، وضمّ ثمود إليه دون غيرهم؛ لقرب بلادهم، ورعاية للفاصلة. والمعنى: قد أحطت علماً بتكذيبهم، وما حاق بهم؛ تسلية له وتهديد لقومه.
(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) في الإضراب دلالة على أن حال هؤلاء أعجب من أولئك، فإنهم سمعوا بأخبارهم وشهدوا آثارهم وهم مستغرقون في التكذيب.
(وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) علماً وقدرة، لا يفوته أحد. جملة معترضة.
(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) أي: ما كذبوا به قرآن شريف معجز. في الإضراب ترقٍّ، وإشارة إلى أنَّ تكذيبه خارج عن سائر أنواع التكذيب.
(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢) عن جمهور الملائكة، لا يطلع عليه إلا بعض المقربين، فكيف يكون كذباً؟.
* * *
Icon