ﰡ
تقويم الإنسان ثم انحداره إلى النار
الجمال في الخلق والتكوين الإنساني هو الظاهرة الإلهية الإبداعية التي تقتضي شكران المنعم، والوفاء لقدر النعمة بالطاعة والخضوع والامتثال لله، ولكن الناس لا يقومون بحق النعمة، وينحدرون في أخلاقهم وأعمالهم حتى يكونوا من أهل النار الذين هم أسفل السافلين بسبب كفرهم، باستثناء المؤمنين الذين يعملون الصالحات، فلهم الثواب الكبير، وليس لأحد بعد إقامة الدلائل على البعث إنكار القيامة، وإقامة صرح العدالة والقضاء الحق في ذلك اليوم، كما جاء في سورة التين المكية بلا خلاف بين المفسرين:
[سورة التين (٩٥) : الآيات ١ الى ٨]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤)ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [التين: ٩٥/ ١- ٨].
أقسم- أنا الحق- بالتين الطيب الذي يأكله الناس، وبالزيتون الذي يعتصر منه
(٢) جبل بالشام في صحراء سيناء، كلم الله تعالى عليه موسى عليه السّلام. [.....]
(٣) مكة المكرمة.
(٤) أحسن تعديل لصورته وشكله وتكوينه.
(٥) جعلناه من أهل النار الذين هم أسفل السافلين.
(٦) غير مقطوع.
(٧) يوم الجزاء.
أقسم الله سبحانه بهذه المواضع الثلاثة، لأنها مهابط الوحي الإلهي على الرسل الكرام أولي العزم. والقسم بها تنويه بشأنها.
ذكر القرطبي في تفسيره عن أبي ذر: أنه أهدي للنبي صلّى الله عليه وسلّم سل تين، فأكل منه، وقال: «لو قلت: إن فاكهة نزلت من الجنة قلت: هذه، لأن فاكهة الجنة بلا عجم (نوى) فكلوا، فإنه يقطع البواسير، وينفع من النقرس».
وجواب القسم: أننا خلقنا الإنسان في أحسن صورة وأجمل شكل، وأبدع تكوين، والمراد: جمال الخلقة والتكوين والتركيب، والتميز بالعقل والفكر، والتدبير والحكمة، وانتصاب القامة، فجميع هذه الأشياء هو حسن التقويم، وليس المراد الجمال الظاهري.
ولم ير قوم الحنث على من حلف بالطلاق أن زوجته أحسن من الشمس أو أجمل من القمر.
ثم جعلناه بعد حسن التركيب إلى النار التي هي أسفل الدرجات إن لم يطع الله ويتبع الرسل، أو أننا رددناه أحيانا في آخر العمر إلى الهرم، وذهول العقل، وتغلب الكبر، حتى يصير لا يعلم شيئا.
وعلى التفسير الأول: يكون قوله تعالى بعدئذ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا.. استثناء متصلا، وعلى التفسير الثاني: يكون ذلك استثناء منقطعا.
إن مصير أكثر الناس إلى النار، على التفسير الأول، إلا المؤمنين العاملين عملا صالحا، بأن جمعوا بين الإيمان والعمل في حال الاستطاعة، فلهم ثواب جزيل،
ثم وبّخ الله تعالى الكافر على التكذيب بيوم الجزاء والحساب بعد البعث بقوله:
فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) قال جمهور من المتأولين: المخاطب الإنسان الكافر، أي ما الذي يجعلك كذابا بالدين، أي بالجزاء في عالم الآخرة، تجعل لله تعالى أندادا، وتزعم ألا بعث بعد هذه الدلائل؟ لقد عرفت أن الله تعالى خلقك في أحسن تقويم، وأنه بسبب الكفر يردك إلى النار مع أسفل السافلين، فما يحملك على أن تكذب بالبعث والجزاء؟ لقد علمت البدأة، وعرفت أن من قدر على البدأة، فهو قادر على الرجعة بطريق أولى، فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد، وقد عرفت هذا؟
وقال قتادة، والفراء والأخفش: المخاطب في قوله تعالى: فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) ؟ هو محمد صلّى الله عليه وسلّم، قال الله تعالى له: فما الذي يكذّبك فيما تخبر به من الجزاء والبعث، وهو الدّين، بعد هذه العبرة التي يوجب النظر فيها صحة ما قلت؟
أخرج ابن جرير عن ابن عباس في قوله: ثُمَّ رَدَدْناهُ.. قال: هم نفر، ردوا إلى أرذل العمر، على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فسئل عنهم حتى سفهت عقولهم، فأنزل الله عذرهم، أن لهم أجرهم الذي عملوا، قبل أن تذهب عقولهم.
ثم أكد الله تعالى إيقاع الجزاء والبعث بقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨) أي أما هو أحكم الحاكمين قضاء وعدلا، الذي لا يجور ولا يظلم، ومن عدله أن يقيم
هذا إخبار من الله تعالى لجميع خلقه على أنه سبحانه أحكم الحاكمين، على جهة التقرير والتثبيت.
أخرج الترمذي عن أبي هريرة مرفوعا. «فإذا قرأ أحدكم: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ فأتى على آخرها: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ فليقل: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين.
وأخرج أيضا عبد بن حميد عن قتادة: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأ هذه السورة قال: «بلى وأنا على ذلكم من الشاهدين».