تفسير سورة التكاثر

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة التكاثر من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية، وهي ثماني آيات، وثمانية وعشرون كلمة، ومائة وعشرون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ ذي الجلال والإكرام ﴿ الرحمن ﴾ الذي عمّ بالإيجاد بعد الإعدام ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص أولياءه بتمام الإنعام.

ولما ختم القارعة بالشقي افتتح هذه بفعل الشقاوة ومبتدأ الحشر لينزجر السامع. فقال تعالى :
﴿ ألهاكم التكاثر ﴾ أي : شغلكم المباهاة والمفاخرة والمكاثرة بكثرة المال والعدد عن طاعة ربكم، وما ينجيكم من سخطه.
﴿ حتى زرتم المقابر ﴾ أي : ألهاكم التكاثر بالأموال والأولاد إلى أن متم وقبرتم، منفقين أعماركم في طلب الدنيا، والاستباق إليها، والتهالك عليها، إلى أن أتاكم الموت، لا همّ لكم غيرها عما هو أولى بكم من السعي لعاقبتكم، والعمل لآخرتكم. وزيارة القبر عبارة عن الموت. قال الأخطل :
لن يخلص العام خليل عشراً ذاق الضماد أو يزور القبرا
تنبيه : حتى غاية، لقوله تعالى :﴿ ألهاكم ﴾ وهو عطف عليه، والمعنى : حتى أتاكم الموت، فصرتم في المقابر زواراً، ترجعون منها كرجوع الزائر إلى منزله من جنة أو نار، يقال لمن مات : قد زار قبره.
فإن قيل : شأن الزائر أن ينصرف قريباً، والأموات ملازمون للقبور، فكيف يقال : إنه زار القبر ؟ وأيضاً حتى زرتم إخبار عن الماضي، فكيف يحمل على المستقبل ؟
أجيب عن الأول : بأن سكان القبور لا بد أن ينصرفوا عنها، فإن كل آت قريب، وعن الثاني : لتحققه عبر عنه بالماضي، كقوله تعالى :﴿ أتى أمر الله ﴾ [ النحل : ١٠ ]، وقال أبو مسلم : إنّ الله تعالى يتكلم بهذه السورة يوم القيامة تعبيراً للكفار، وهم في ذلك الوقت قد تقدّمت منهم زيارة القبور. وقال مقاتل والكلبي : نزلت في حيين من قريش : بني عبد مناف وبني سهم، تفاخروا أيهم أكثر عدداً، فكثرهم بنو عبد مناف، وقالت بنو سهم : إنّ البغي أهلكنا في الجاهلية، فعادّونا بالأحياء والأموات فكثرهم بنو سهم بثلاثة أبيات ؛ لأنهم كانوا في الجاهلية أكثر عدداً، والمعنى : أنكم تكاثرتم بالأحياء حتى استوعبتم عددهم، ثم صرتم إلى المقابر، فتكاثرتم بالأموات، عبر عن بلوغهم ذكر الموتى بزيارة القبور تهكماً بهم، وإنما حذف الملهى عنه وهو ما يعنيهم من أمر الدين للتعظيم والمبالغة.
وقال قتادة : في اليهود، قالوا : نحن أكثر من بني فلان، وبنو فلان أكثر من بني فلان، شغلهم ذلك حتى ماتوا ضلالاً، أو أنهم كانوا يزورون المقابر فيقولون : هذا قبر فلان، وهذا قبر فلان، عند تفاخرهم. والمعنى : ألهاكم ذلك وهو مما لا يعينكم، ولا يجدي عنكم في دنياكم وآخرتكم عما يعينكم من أمر الدين الذي هو أهمّ وأعنى من كل مهمّ من المقابر. والمقابر : جمع مقبرة، بفتح الباء وضمها. ويسمى سعيد المقبري ؛ لأنه كان يسكن المقابر. قال القرطبي : لم يأت في التنزيل ذكر المقابر إلا في هذه السورة، واعترضه ابن عادل بأنّ الله تعالى قال في سورة أخرى :﴿ ثم أماته فأقبره ﴾ [ عبس : ٢١ ]، وهذا ممنوع، فإنه قال المقابر، فلفظ هذه الآية غير لفظ تلك. وزيارة القبور من أعظم الأدوية للقلب القاسي ؛ لأنها تذكر الموت والآخرة، وذلك يحمل على قصر الأمل، والزهد في الدنيا، وترك الرغبة فيها، قال صلى الله عليه وسلم :«كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، فإنها تزهد في الدنيا وتذكر الآخرة ». وروى أبو هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم «لعن زوّارات القبور ». فتكره لهنّ لقلة صبرهنّ، وكثرة جزعهنّ، نعم زيارة النبيّ صلى الله عليه وسلم سنة لهنّ، ويلحق به بقية الأنبياء والعلماء، وينبغي لمن زار القبور أن يتأدّب بآدابها، ويحضر قلبه في إتيانها، ولا يكون حظه منها الطواف عليها فقط، فإنّ هذه حالة يشاركه فيها البهائم ؛ بل يقصد بزيارته وجه الله تعالى، وإصلاح فساد قلبه، ونفع الميت بما يتلوه عنده من القرآن والدعاء، ويتجنب الجلوس عليها، ويسلم إذا دخل المقابر فيقول :«السلام عليكم دار قوم مؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ». وإذا وصل على قبر ميته الذي يعرفه سلم عليه أيضاً، وأتاه من قبل وجهه ؛ لأنه في زيارته كمخاطبه حياً، ثم يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، ويتأمّل حال من مضى من إخوانه كيف انقطعت آمالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومجيء التراب على محاسنهم ووجوههم، وافترقت في التراب أجزاؤهم، وترمل من بعدهم نساؤهم، وشمل ذل اليتم أولادهم، وأنه لا بدّ صائر إلى مصيرهم، وأنّ حاله كحالهم، ومآله كمآلهم.
وعن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه قال :«انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ هذه الآية، قال :" يقول ابن آدم : مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدّقت فأمضيت، أو أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت ». وعن مالك قال :«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يتبع الميت ثلاثة، فيرجع اثنان، ويبقى واحد : يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله ». وقرأ ( ألهاكم ) حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح، وبين اللفظين، والباقون بالفتح.
وقوله تعالى :﴿ كلا ﴾ ردع وتنبيه على أنه لا ينبغي للناظر لنفسه أن تكون الدنيا جميع همه، ولا يهتم بذنبه. وقوله تعالى :﴿ سوف تعلمون ﴾ إنذار ليخافوا، فينتبهوا عن غفلتهم.
وقوله تعالى :﴿ ثم كلا سوف تعلمون ﴾ تكرير للتأكيد، وثم للدلالة على أن الثاني أبلغ من الأوّل وأشدّ، كما يقال للمنصوح : أقول لك : لا تفعل، والمعنى سوف تعلمون، والخطأ فيما أنتم عليه إذا عاينتم ما قدامكم من هول لقاء الله تعالى، وإن هذا التنبيه نصيحة لكم، ورحمة عليكم.
وعن عليّ كرم الله وجهه ورضي الله عنه ﴿ كلا سوف تعلمون ﴾ في الدنيا، ﴿ ثم كلا سوف تعلمون ﴾ في الآخرة، فعلى هذا يكون غير مكرّر لحصول التغاير بينهما ؛ لأجل تغاير المتعلقين، وثم على بابها من المهلة. وعن ابن عباس ﴿ كلا سوف تعلمون ﴾ ما ينزل بكم من العذاب في القبور ﴿ ثم كلا سوف تعلمون ﴾ في الآخرة إذا حل بكم العذاب فالتكرار للحالتين. وروى زر بن حبيش عن علي : كنا نشك في عذاب القبر، حتى نزلت هذه السورة، فأشار على أنّ قوله تعالى :﴿ كلا سوف تعلمون ﴾ في القبور. وقيل :﴿ كلا سوف تعلمون ﴾ إذا نزل بكم الموت، وجاءتكم رسل ربكم بنزع أرواحكم، ﴿ ثم كلا سوف تعلمون ﴾ في القيامة أنكم معذبون، وعلى هذا تضمنت أحوال القيامة، من بعث وحشر وعرض وسؤال إلى غير ذلك من أهوال القيامة، وقال الضحاك :﴿ كلا سوف تعلمون ﴾ يعني الكفار﴿ ثم كلا سوف تعلمون ﴾ أيها المؤمنون، فالأوّل وعيد، والثاني وعد.
ولما كان هذا أمراً صادقاً أشار تعالى إلى أنه يكفي هذه الأمّة المرحومة التأكيد بمرّة واحدة، فقال سبحانه مردّداً الأمر بين تأكيد الردع تالياً بالأداة الصالحة له، ولأن يكون بمعنى حقاً كما يقوله أئمة القراءة. ﴿ كلا ﴾ أي : ليشتدّ ارتداعكم عن التكاثر، فإنه أساس كل بلاء، فإنكم ﴿ لو تعلمون ﴾ أي : أيها الكافرون ﴿ علم اليقين ﴾ أي : لو يقع لكم علم على وجه اليقين مرّة من الدهر لعلمتم ما بين أيديكم، فلم يلهكم التكاثر، ولضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون، فحذف الجواب أخوف ليذهب الوهم معه كل مذهب، ولا يجوز أن يكون.
﴿ لترون الجحيم ﴾ جوابها الآن هذا مثبت، وجواب لو يكون منفياً، ولأنه تعالى عطف عليه، ثم لتسألن، وهو مستقبل لا بد من وقوعه، وحذف جواب لو كثير. قال الأخفش : التقدير لو تعلمون علم اليقين لألهاكم ؛ بل هو جواب قسم محذوف أكد به الوعيد، وأوضح به ما أنذرهم منه بعد إبهامه تفخيماً.
وقوله تعالى :﴿ ثم لترونها ﴾ تكرير للتأكيد، والأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، والثانية إذا وردوها، والمراد بالأولى المعرفة، والثانية الإبصار. ﴿ عين اليقين ﴾ أي : الرؤية التي هي نفس اليقين، فإن علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين. قال الرازي : واليقين مركب الإخلاص في هذا الطريق، وهو غاية درجات العامة، وأوّل خطرة الخاصة. قال صلى الله عليه وسلم :«خير ما ألقي في القلب اليقين »، وعلمه قبول ما ظهر من الحق، وقبول ما غاب للحق، والوقوف على ما قام بالحق. وقال قتادة : اليقين هنا الموت، وعنه أيضاً : البعث، أي : لو تعلمون علم الموت، أو البعث، فعبر عن الموت باليقين، والعلم من أشدّ البواعث على العمل. وقيل : لو تعلمون اليوم في الدنيا علم اليقين بما أمامكم مما وصفت.
﴿ لترونّ الجحيم ﴾ بعيون قلوبكم، فإنّ علم اليقين يريك الجحيم بعين فؤادك. وقرأ ( لترون ) ابن عامر والكسائي بضم التاء، والباقون بالفتح.
﴿ ثم لتسألنّ ﴾ حذف منه نون الرفع لتوالي النونات، والواو لالتقاء الساكنين ﴿ يومئذ ﴾ أي : يوم رؤيتها ﴿ عن النعيم ﴾ وهو ما يلتذ به في الدنيا من الصحة والفراغ والأمن والمطعم والمشرب وغير ذلك، والمراد بذلك ما يشغله عن الطاعة للقرينة والنصوص الكثيرة كقوله تعالى :﴿ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده ﴾ [ الأعراف : ٣٢ ] وقوله تعالى :﴿ كلوا من الطيبات ﴾ [ المؤمنون : ٥١ ] وقال الحسن : لا يسأل عن النعيم إلا أهل النار ؛ لأنّ أبا بكر رضي الله عنه لما نزلت هذه الآية قال : يا رسول الله، أرأيت أكلة أكلتها معك في بيت أبي الهيثم من خبز وشعير ولحم وبسر وماء عذب، أيكون من النعيم الذي يسأل عنه، فقال صلى الله عليه وسلم :«إنما ذلك للكفار، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم ﴿ وهل نجازي إلا الكفور ﴾ [ سبأ : ١٧ ] » ؛ لأنّ ظاهر الآية يدل على ذلك ؛ لأنّ الكفار ألهاهم التكاثر بالدنيا والتفاخر بلذاتها عن طاعة الله تعالى، والاشتغال بشكره، فالله تعالى يسألهم عنها يوم القيامة، حتى يظهر لهم أن الذي ظنوه لسعادتهم كان من أعظم الأسباب لشقاوتهم. وقيل : السؤال عام في حق المؤمن والكافر، لقوله صلى الله عليه وسلم :«أوّل ما يسأل العبد يوم القيامة عن النعيم فيقال له : ألم نصحح جسمك، ألم نروك من الماء البارد ؟ ». وقيل : الزائد على ما لا بدّ منه، وقيل : غير ذلك. قال الرازي : والأولى على جميع النعم ؛ لأنّ الألف واللام تفيد الاستغراق، وليس صرف اللفظ على البعض أولى من صرفه إلى الباقي، فيسأل عنها : هل شكرها أم كفرها.
وإذا قيل : إنّ هذا السؤال للكافر، فقيل : هو في موقف الحساب، وقيل : بعد دخول النار، يقال لهم : إنما حل بكم هذا العذاب لاشتغالكم في الدنيا بالنعيم عن العمل الذي ينجيكم من هذه النار، ولو صرفتم عمركم إلى طاعة ربكم لكنتم اليوم من أهل النجاة.
Icon