ﰡ
فمَن جعلَ هذه الحروفَ التي في أوائلِ السُّورة قَسَماً، احتملَ أن يكون جوابُ القَسَمِ في قولهِ:﴿ وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ﴾[العنكبوت: ٣]؛ واحتملَ أن يكون﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ ﴾[العنكبوت: ٣].
وقولهُ تعالى: ﴿ أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ ﴾ لفظةُ استخبارٍ، ومعناهُ التوبيخُ والتقرير، كأنه قالَ: أظَنُّوا أن نقنَعَ منهم بأنْ يقولُوا آمَنَّا فقط ولا يُمتَحَنُونَ بالأوامرِ والنَّواهي والتَّكليفِ، ولا يُختَبَرُونَ بما يعلم أنه صِدْقُ إيْمانِهم. قال الحسنُ رضي الله عنه: (سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لَمَّا أُصِيْبَ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَ أُحُدٍ وَكَانَتِ الْكَرَّةُ عَلَيْهِمْ، عَيَّرَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بذلِكَ، فَشُقَّ ذلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِيْنَ، فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ). قال السديُّ وقتادة ومجاهدُ: (مَعْنَاهُ: أحَسِبَ النَّاسُ أنْ يُتْرَكُواْ أنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ) فِي أمْوَالِهِمْ وَأنْفُسِهِمْ بالْقَتْلِ وَالتَّعْذِيْب). وقال مقاتلُ:" نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ فِي مَهْجَعِ بْنِ عَبْدِاللهِ مَوْلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب رضي الله عنه وَكَانَ أوَّلَ قَتِيْلٍ مِنَ الْمُسْلِمِيْنَ يَوْمَ بَدْرٍ، رَمَاهُ عَامِرُ بْنُ الْحَضْرَمِيِّ بسَهْمٍ فَقَتَلَهُ، فَقَالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: " سَيِّدُ الشُّّهَدَاءِ مَهْجَعُ، وَهُوَ أوَّلُ مَنْ يُدْعَى إلى بَاب الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ " فَجَزِعَ عَلَيْهِ أبَوَاهُ وَامْرَأتَهُ "، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ هَذِهِ الآيَةَ وَأخْبَرَ أنَّهُ لاَ بُدَّ لَهُمْ مِنَ الْبَلاَءِ وَالْمَشَقَّةِ فِي ذاتِ اللهِ.
﴿ فَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْكَاذِبِينَ ﴾، فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الصادقَ بوقوعِ صِدْقِهِ منه بالصَّبرِ على ما يُؤْمَرُ به، والكاذبَ بوقُوعِ كَذِبٍ منهُ وَالْجَزَعِ والمخالفةِ في القِتَالِ الذي يُؤمَرُ به، فاللهُ تعالى قد عَلِمَ الصادقَ مِن الكاذب قَبْلَ أنْ يخلُقَهم، ولكن القصدَ من الآية قصدُ وُقُوعِ العلمِ بما يُجازَى عليه؛ لأنَّ عِلْمَ الشَّهادةِ هو الذي يجبُ به الجزاء، فأما عِلْمُ الغيب قَبْلَ وقُوعهِ فلا يحلُّ به الجزاءُ. وقال ابنُ عبَّاس رضي الله عنه: (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِيْنَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْهُمْ إبْرَاهِيْمُ الْخَلِيلُ عليه السلام ابْتُلِيَ بالنَّمْرُودِ، وَمِنْهُمْ قَوْمٌ بَعْدَهُ نُشِرُواْ بالْمَنَاشِيْرِ عَلَى دِيْنِ اللهِ فَلَمْ يَرْجِعُواْ عَنْهُ). وقال بعضُهم: يعني بَنِي إسرائيلَ ابْتُلُوا بفرعونَ فكان يسُومُهم سوءَ العذاب.
﴿ فَإِنَّ أَجَلَ ٱللَّهِ لآتٍ ﴾؛ أي فإن أجلَ الموت لآتٍ لِمن يرجُو، ولِمن لا يرجو، وإنَّ ثوابَ العملِ الصالح لقريبٌ ﴿ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ﴾؛ لِمقالَةِ الكُفَّار والمؤمنين.
﴿ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ بما يستحقُّه كلُّ واحد منهم وَقِيْلَ: إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيةُ قَالَ:" يَا عَلِيَّ؛ يَا فَاطِمَةَ: إنَّ اللهَ قَدْ أنْزَلَ: مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللهِ فَإنَّ أجَلَ اللهِ لآتٍ، وََإنَّ حَقِيْقَةَ رَجَاءِ لِقَاءِ اللهِ أنْ يَسْتَعِدَّ الإنْسَانُ لأَجَلِ اللهِ إذا كَانَ آتِياً باتِّبَاعِ طَاعَتِهِ وَاجْتِنَاب مَعَاصِيهِ ".
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي عن أعمَالِهم وعبادتِهم.
﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾؛ بالإيْمانِ والتوبةِ، ومعنى ﴿ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ أي لنبطلنَّها حتى كأنَّها لَم تُعْمَلْ.
﴿ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾؛ أي نَجزيهم بأحْسَنِ أعمالِهِم وهي الطاعةُ، ولا نَجزيهم بمساوئ أعمَالِهم.
﴿ فَأُنَبِّئُكُم ﴾؛ فأُخبرُكم.
﴿ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾؛ في الدُّنيا من الخيرِ والشرِّ والبرِّ والعُقوقِ. واختلفَ النُّحاةُ في نصب قولهِ ﴿ حُسْناً ﴾، فقال البصرِيُّون: بنَزْعِ الخافضِ؛ تقديرهُ: ووصَّينا الإنسانَ بالْحُسْنِ، كما يقالُ: وَصِّيهِ خَيْراً؛ أي بخَيْرٍ، وقال الكوفِيُّون: ووصَّينا الإنسانَ أن يفعلَ حُسناً، فحذفَهُ لدلالةِ الكلام عليه. وَقِيْلَ: هو مثلُ قولهِ﴿ فَطَفِقَ مَسْحاً ﴾[ص: ٣٣] أي يمَسْحُ مَسْحاً. وَقِيْلَ: معناهُ: ألْزَمْنَاهُ حُسناً. وقرأ أبو رجَاءٍ: (حَسَناً) بفتح الحاء والسين، وفي مُصحَفِ أُبَيٍّ: (إحْسَاناً).
ومعنَى الآيةِ: ومِن الناسِ مَن يقولُ آمَنَّا باللهِ، فإذا عُذِّبَ في طاعةِ الله جَعَلَ تعذيبَ الناسِ كتعذيب الله، فأطاعَ الناسَ خوفاً منهم، كما يطيعُ الله مَن خافَ عذابَهُ. قولهُ: ﴿ وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾؛ أي إذا جاء فَتْحٌ مِِن ربكَ ﴿ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ ﴾ وهذه صفةُ المنافقين، يقولُ اللهُ تعالَى: ﴿ أَوَ لَيْسَ ٱللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ ٱلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي بما في قلُوب الْخَلْقِ من الطُّمأنينَةِ بالإيْمانِ والانشراحِ بالكُفرِ.
﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ﴾؛ أي لِيَجْزِيَ اللهُ المؤمنين.
﴿ وَلَيَعْلَمَنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ ﴾؛ ولَيُمَيِّزَنَّ المنافقينَ.
﴿ وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ ﴾، ونحنُ الكفلاءُ بكُلِّ تَبعَةٍ تصيبُكم من اللهِ في ذلك، ونحملُ عنكم خطَايَاكم، إنْ كان عليكم فيهِ إثْمٌ ووزْرٌ، فنحنُ نحملهُ عنكم. قال الفرَّاء: (قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَلْنَحْمِلْ ﴾ لَفْظُهُ لَفْظُ الأَمْرِ، وَمَعْنَاهُ: الْجَزَاءُ؛ أيْ إن اتَّبَعْتُمْ سَبيْلَنَا حَمَلْنَا خَطَايَاكُمْ). قولهُ: ﴿ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ ﴾؛ فيما ضَمِنوا من حَمل خطاياهم، ولا يحفظُونَ العذابَ عنهم.
﴿ فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ﴾، فأهلَكَ اللهُ المكذِّبين بالطُّوفانِ وهو الغرقُ (وَهُمُ الظَّالِمُونَ) أي مُشرِكون. وفي الحديث:" أنَّ نُوحاً عليه السلام أرْسَلَ إلَيْهِمْ بَعَدَ مَا أتَى عَلَيْهِ مِائَتَانِ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَعَاشَ بَعْدَ الطُّوفَانِ مِائَتَيْنِ وَخَمْسِيْنَ سَنَةً "وسُمي الغرقُ طُوفَاناً لأنَّ الماءَ في ذلك اليومِ طَافَ في جميعِ الأرض.
﴿ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ ﴾؛ أي جعلنا السَّفينةَ عِبْرَةً لمن بعدَهم من الناسِ إنْ عَصَوا رسولَهم فَعَلْنَا بهم مثلَ ذلك.
﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ ﴾ أي وَحِّدُوا اللهَ وأطيعوهُ واخشَوهُ.
﴿ ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ ﴾؛ أي عبادةُ اللهِ خيرٌ لكم من عبادةِ الأوثان.
﴿ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾؛ ذلكَ.
﴿ وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً ﴾؛ أي وتَخْتَرِعُونَ على الله كَذِباً في قولِكم: إنَّها آلِهةٌ. ويجوزُ أن يكون معنى ﴿ وَتَخْلُقُونَ ﴾ أي تَنْحَتُونَ أصْنَاماً. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً ﴾ أي إنَّ الذين تعبدُونَ من الأصنامِ لاَ يَقْدِرُونَ أنْ يرزقُوكم. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَٱبْتَغُواْ عِندَ ٱللَّهِ ٱلرِّزْقَ وَٱعْبُدُوهُ وَٱشْكُرُواْ لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾؛ أي اطْلُبُوا الرِّزقَ مِنِّي، فأنا القادرُ على ذلكَ.
﴿ وَٱعْبُدُوهُ ﴾ أي اعبدُوا مَن يَمِلكُ أرزاقَكم، (وَاشْكُرُواْ مَنْ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) في الآخرةِ فيَجزِيَكم بأعمالِكم.
﴿ وَمَا عَلَى ٱلرَّسُولِ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ ﴾؛ أي مَا عليهِ إلاّ تبليغُ الرسالةَِ عن اللهِ بلُغَةِ الَّذين أرسَلَهم إليهم.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾؛ من الإحياءِ والإمَاتَةِ قادرٌ. قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو والحسنُ: (النَّشَاءَةَ) بالمدِّ، وقرأ الباقون: (النَّشْأَةََ) بإسكانِ الشِّين والقصْرِ وهما لُغتان.
﴿ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ ﴾؛ يتولَّى أمرَكم وحِفظَكم.
﴿ وَلاَ نَصِيرٍ ﴾؛ يَمنعُ العذابَ عنكم.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي ﴾؛ أي مِن جَنَّتِي في الآخرةِ باعتقادِهم أنَّها لا يقعُ بهم.
﴿ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾.
﴿ فَأَنْجَاهُ ٱللَّهُ مِنَ ٱلنَّارِ ﴾؛ سَالِماً، وجعلَها عليه بَرْداً وسَلاماً ولَم تحرِقْ منه إلاَّ وثاقه.
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ بالله ورسُلهِ.
﴿ وَقَالَ ﴾؛ إبراهيم: ﴿ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَىٰ رَبِّيۤ ﴾؛ أي إلى الموضعِ الذي أمرَنِي رَبي بالهجرةِ إليه، وكان مأْمُوراً بالهجرةِ من كوثى وهو سوادُ العراقِ إلى الشَّام. وَقِيْلَ: إن كوثى من سوادِ الكوفة، فهاجرَ إبراهيمُ ومعه لوطُ وهو ابنُ أخيهِ ومعه سَارَةُ. قال مقاتلُ: (هَاجَرَ إبْرَاهِيْمُ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِيْنَ سَنةً). وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّهُ هُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾؛ أي الْمُنْتَقِمُ مِمَّنْ عَصَاهُ، الْحَكِيْمُ فيما حَكَمَ علينا من الهجرةِ.
﴿ إِسْحَاقَ ﴾؛ من امرأتهِ سارَةَ.
﴿ وَيَعْقُوبَ ﴾؛ ابنُ ابنهِ، وقولهُ تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ ٱلنُّبُوَّةَ وَٱلْكِتَابَ ﴾؛ وذلك أنَّ الله لَم يَبْعَثْ نبيّاً مِن بعد إبراهيمَ إلاّ من صُلْبهِ، وقولهُ تعالى ﴿ وَٱلْكِتَابَ ﴾ أي وجعلنَا التَّوراةَ والإنجيلَ والقُرْآنَ في وَلَدِهِ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي ٱلدُّنْيَا ﴾؛ أرادَ به الثَّناءَ الحسنَ، وموالاةَ جميعِ الأُمَمِ إيَّاهُ؛ لأن جميعَ أهلِ الأديان يُحِبُّونَهُ. وقال السديُّ: (إنَّهُ أُريَ مَكَانَهُ فِي الْجَنَّةِ) ثُمَّ أعْلَمَهُ اللهُ أنَّ لَهُ مَعَ مَا أعْطَاهُ فِي الدُّنْيَا الدَّرَجَاتِ الْعُلَى لقولهِ: ﴿ وَإِنَّهُ فِي ٱلآخِرَةِ لَمِنَ ٱلصَّالِحِينَ ﴾؛ أي إنهُ في الآخرةِ مع آبائه الْمُرسَلين في الجنَّة مثلَ آدمَ ونوحٍ.
﴿ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ ٱلْعَالَمِينَ * أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ ﴾؛ يعني عمَلَهم الخبيثَ الذي لَم يكن يَعْمَلُهُ أحدٌ قبلَهم. وقولهُ تعالى: ﴿ وَتَقْطَعُونَ ٱلسَّبِيلَ ﴾؛ وذلك أنَّهم كانوا يفعلونَ الفاحشةَ بمن يَمُرُّ بهم مِن المسافرين، فلما فَعَلُوا ذلك شَاعَ الخبرُ، فتركَ الناسُ المرورَ بهم وانقطعَ السبيلُ. وقولهُ تعالى: ﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ ﴾؛ النادِي الْمَجْلِسُ وَالْْمُتَحَدَّثُ؛ أي تأتُونَ في مجالسِكم الفسقَ، قِيْلَ: إنَّهم كانوا يفعلُ بعضُهم ببعضٍ الفاحشةَ في الْمَجَالِسِ. وَقِيْلَ: إنَّهم كانوا يصَفِّقون بأيديهم ويصَفِّرُونَ بأفواهِهم، وقال القاسمُ بن محمَّدٍ: (هُوَ أنَّهُمْ كَانُواْ يَتَضَارَطُونَ فِي مَجَالِسِهِمْ) وَيَضْرِبُونَ بالْعُودِ وَالْمَزَامِيْرِ (وَيَلْعَبُونَ بالْحَمَامِ). وقِيْلَ: في معنَى قولهِ تعالى ﴿ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ ٱلْمُنْكَرَ ﴾ قال مجاهدُ: (كَانَ يُجَامِعُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً فِي الْمَجَالِسِ). وسُئِلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي كَانُواْ يَأْتُونَهُ قَوْمُ لُوطٍ، فَقَالَ:" كَانُواْ يَجْلِسُونَ وَعِنْدَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ قِصْعَةُ حَصَى، فَإذا مَرَّ بهِمْ عَابرُ سَبيْلٍ خَذفُوهُ، فَأَيُّهُمْ أصََابَهُ كَانَ أوْلَى بهِ "، قال صلى الله عليه وسلم:" إيَّاكُمْ وَالْخَذْفَ، فَإنَّهُ لاَ يَنْكَأُ الْعَدُوَّ وَلاَ يُصِيْبُ الصَّيْدَ، وَلَكِنْ يَفْقَأَُ الْعَيْنَ وَيَكْسِرُ السِّنَّ ".
﴿ قَالُوۤاْ إِنَّا مُهْلِكُوۤ أَهْلِ هَـٰذِهِ ٱلْقَرْيَةِ ﴾؛ يعني سدوم قريةُ لوطٍ.
﴿ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُواْ ظَالِمِينَ ﴾؛ بالشِّركِ والعملِ الخبيثِ.
﴿ قَالَ ﴾؛ إبراهيمُ: ﴿ إِنَّ فِيهَا لُوطاً ﴾؛ فكيفَ تُهلِكُونَهم؟! ﴿ قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ ﴾؛ وأهلَ دِينه وابنَتَيْهِ زَعُورا وزَنْبَا.
﴿ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ ﴾ واعِلَةَ.
﴿ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرِينَ ﴾؛ أي مِن الباقينَ في الْمُهْلَكِيْنَ.
﴿ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ﴾؛ أي ضَاقَ عليهم بسَبَبهم.
﴿ وَقَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ ٱمْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرينَ ﴾ وَمُنَجُّوا؛ قال المبَرِّدُ: (الْكَافُ فِي (مُنَجُّوكَ) مَخْفُوضَةٌ وَلَمْ يَجُزْ عَطْفُ الظَّاهِرِ عَلَى الْمُضْمَرِ الْمَخْفُوضِ، فَمَا جُعِلَ الثَّانِي عَلَى الْمَعْنَى، فََصَارَ التَّقْدِيْرُ: وَنُنَجِي أهْلَكَ، أو مُنْجُونَ أهْلَكَ).
﴿ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ ﴾؛ أي بسَبَب فِسقِهم، يروى أنَّ تلكَ القريةِ كانت مشتملةً على سبعمائةِ ألفِ رجُلٍ.
﴿ فَقَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ وَٱرْجُواْ ٱلْيَوْمَ ٱلأَخِرَ ﴾؛ أي وَاخْشَوا البعثَ الذي فيه جزاءُ الأعمال.
﴿ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾؛ أي لا تَعْثُوا في الأرضِ بالفسادِ.
﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾؛ بالرِّسالةِ.
﴿ فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ ﴾؛ أي الزَّلزَلَةُ.
﴿ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾؛ أي مَيِّتِيْنَ بَاركِينَ على رُكَبهم.
﴿ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ ﴾؛ أي ظَهَرَ لكم يا أهلَ مكَّة مِن منازلِهم والحجر واليمن في هلاكِهم حيث تَمرُّون بها.
﴿ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ﴾؛ القبيحةَ.
﴿ فَصَدَّهُمْ عَنِ ٱلسَّبِيلِ ﴾؛ أي فصَرَفَهم عن طريقِ الحقِّ.
﴿ وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ ﴾؛ أي عُقلاءَ يُمكِنُهم تَمييزُ الحقِّ من الباطلِ، ويقالُ كانوا مُعجَبين بضَلالِهم يَرَونَ أنَّهم على الحقِّ، ولَم يكونوا كذلكَ، والمعنى: أنَّهم كانوا عندَ أنفُسِهم مستَبْصِرين فيما عَمِلُوا من الضَّلالةِ، يحسَبُون أنَّهم على هُدَى.
﴿ وَمَا كَانُواْ سَابِقِينَ ﴾؛ أي لَم يكونوا فَائِتين من عذاب الله.
﴿ فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً ﴾؛ يعني الحجارةَ وهم قومُ لُوطٍ، وَقِيْلَ: الحاصِبُ الريِّحُ التي تأتِي بالْحَصْبَاءِ، وهي الْحَصَى الصِّغار.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ ٱلصَّيْحَةُ ﴾؛ وهم قومُ صالح وشُعيب.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ ٱلأَرْضَ ﴾؛ يعني قارونَ وأصحابَهُ.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا ﴾؛ يعني قومَ نوحٍ وفرعونَ.
﴿ وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ﴾؛ بإهلاكهِ إيَّاهم.
﴿ وَلَـٰكِن كَانُوۤاْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾؛ بالكُفرِ والمعاصِي.
﴿ كَمَثَلِ ٱلْعَنكَبُوتِ ٱتَّخَذَتْ بَيْتاً ﴾، وبيتُها لا يُغنِيها عن الحرِّ والبردِ والمطر، كذلكَ آلِهتُهم لا تَرزُقهم شيئاً، ولا تَملِكُ لَهم ضَرّاً ولا نفعاً.
﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾؛ إنَّ اتِّخاذهم الأولياءَ سِوَى اللهِ كاتِّخاذِ العنكبوتِ بيتاً في قلَّة النفعِ ما اتَّخذُوهم أولياءَ. وقولهُ تعالى: ﴿ إِنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ ﴾؛ قرأ أبو عمرٍو (يَدْعُونَ) بالياءِ لذِكْرِ الأُممِ قبلَها، وقرأ الباقون بالتاء، ومعنى الآيةِ، أنهُ عالِمٌ بما عبدتُموه من دونهِ فهو يُجازيكم على كُفرِكم.
﴿ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ ﴾.
﴿ نَضْرِبُهَا ﴾، نبيِّنُها.
﴿ لِلنَّاسِ ﴾.
قال مقاتلُ: (يَعْنِي لِكُفَّار مَكَّةَ) ﴿ وَمَا يَعْقِلُهَآ ﴾؛ الأمثالُ.
﴿ إِلاَّ ٱلْعَالِمُونَ ﴾؛ أي العلماءُ.
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾؛ أي لدلالةً على قُدرةِ الله وتوحيدهِ.
قالتِ الحكماءُ: ذِكْرُ اللهِ للعبدِ أكبرُ من ذكرِ العبد للهِ؛ لأنَّ ذِكْرَ اللهِ للعبدِ على حدِّ الاستغناءِ، وذِكرُ العبدِ إياه على حدِّ الافتقار، ولأنَّ ذِكْرَ العبدِ بجَرِّ نَفْعٍ أو دَفْعَ ضُرِّ، وذِكرُ اللهِ للعبدِ للفَضْلِ والكَرَمِ، ولأنَّ ذكرَ العبدِ مخلوقٌ، وذكرَ اللهِ غيرُ مخلوقٍ. وقال صلى الله عليه وسلم فِي قولهِ تعالى ﴿ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ﴾:" أيْ ذِكْرُ اللهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ أحْسَنُ وَأَفْضَلُ، وَالذِّكْرُ أنْ تَذْكُرَهُ عِنْدَ مَا حَرَّمَ، فَتَدَعُ مَا حَرَّمَ، وَعِنْدَمَا أحَلَّ فَتَأْخُذُ مَا أَحََلَّ "وقال صلى الله عليه وسلم:" مَنْ أحَبَّ أنْ يَرْتَعَ فِي ريَاضِ الْجَنَّةِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ". وقال أبُو الدَّردَاءِ رضي الله عنه: (ألاَ أُخْبرُكُمْ بخَيْرِ أعْمَالِكُمْ وَأحَبهَا إلَى مَلِيْكِكُمْ وَأَتَمِّهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أنْ تَغْزُوا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُواْ رقَابَهُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إعْطَاءِ الدَّنَانِيْرِ وَالدَّرَاهِمِ؟) قَالُواْ: وَمَا هُوَ؟! قَالَ: (ذِكْرُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَلَذِكْرُ ٱللَّهِ أَكْبَرُ ﴾.
وقال معاذُ بنُ جَبَلٍ:" سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أيُّ الأَعْمَالِ أحَبُّ إلَى اللهِ تَعَالَى؟ قَالَ: " أنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطِبٌ مِنْ ذِكْرِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ "وقال صلى الله عليه وسلم:" مَا مِنْ قَوْمٍ جَلَسُواْ فِي مَجْلِسٍ يَذْكُرُونَ اللهَ فِيْهِ؛ إلاَّ حَفَّتْ بهِمُ الْمَلاَئِكَةُ؛ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ؛ وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيْمَنْ عِنْدَهُ ". ورُويَ أنَّ رجُلاً أعتقَ أربَعَ رقابٍ، وآخَرَ قالَ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالْحَمْدُ للهِ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ وَاللهُ أكْبَرُ، ثُم إنَّ الذي لَم يعتِقْ سألَ حبيبَ سرّاً وفي أصحابه فقالَ: ما تقولونَ فيمَن أعتقَ أربعَ رقابٍ وأنَا قُلْتُ: سُبْحَانَ اللهِ؛ وَالْحَمْدُ للهِ؛ وَلاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ؛ وَاللهُ أكْبَرُ، فأيُّهما أفضلُ؟ فنظَرُوا هُنَيْهَةً وقالوا: ما نعلمُ شيئاً أفضلَ مِن ذكرِ الله. قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾؛ أي ما تعملونَ من الخيرِ والشرِّ، لا يخفَى عليه شيءٌ.
﴿ إِلاَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ ﴾؛ أي إلاَّ مَن ظَلَمَ من أهلِ الكتاب فمَنَعَ الجزيةَ أو نَقَضَ العهدَ، وعادَ حَرْباً لكم، فجادِِلُوهم باللِّسان والسَِّنَانِ، وأغْلِظُوا عليهم حتى يُسلِِمُوا.
﴿ وَقُولُوۤاْ ﴾؛ لِمن قَبلَ الجزيةَ منهم إذا أخبَرُوكم بشيءٍ من كُتبهم: ﴿ آمَنَّا بِٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ ﴾؛ أي آمَنَّا بالقُرْآنِ والتوراةِ والإنجيل والزبور.
﴿ وَإِلَـٰهُنَا وَإِلَـٰهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾؛ أي مُخلِصُونَ بالعبادةِ والتوحيد، وهذه صفةُ الْمُجادَلةِ الحسَنةِ.
﴿ فَٱلَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ ٱلْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ﴾ أي الذين أكْرَمْنَاهم بعلمِ التَّوراة وهم عبدُاللهِ بن سلام وأصحابهُ يؤمنونَ بالقُرْآنِ بدلالةِ التَّوراةِ. وقولهُ: ﴿ وَمِنْ هَـٰؤُلاۤءِ مَن يُؤْمِنُ بِهِ ﴾؛ أرادَ به من كُفَّارِ مكَّةَ من يؤمنُ به، يعني يُسْلِمُ منهم. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ ٱلْكَافِرونَ ﴾؛ أي مَا يجحدُ بمُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وبالقُرْآنِ بعدَ المعرفةِ إلاَّ الكافرونَ من اليهودِ، وذلك أنَّهم عَرَفُوا أنَّ مُحَمَّداً نَبيٌّ والقُرْآنَ حَقٌّ فجَحَدوا وأنكَرُوا.
﴿ وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾؛ أي رسولٌ مُخَوِّفٌ لكم بلُغَةٍ تعرِفونَها، وليس إنزالُ الآياتِ بيدهِ.
﴿ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لَرَحْمَةً ﴾؛ أي في إنْزَالِ القُرْآنِ لَرَحْمَةً لِمن آمَنَ به وعَمِلَ بما فيهِ.
﴿ وَذِكْرَىٰ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾، أي وذكرى وموعظة لهم.
﴿ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ﴾.
وقولهُ تعالى: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِٱللَّهِ ﴾؛ أي صدَّقُوا بالأصنامِ وجَحَدوا وحدَانيَّةَ اللهِ.
﴿ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ ﴾؛ بالعقوبةِ وفَوْتِ الْمَثُوبَةِ.
﴿ وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ ٱلْعَذَابُ ﴾؛ أي لَولاَ أنَّ الله جعلَ لعذابهِ أجَلاً مسمَّى قد سَمَّاهُ وهو يومُ القيامةِ. وقيل يعنِي مدَّة أعمارهم؛ لأنَّهم إذا ماتُوا صارُوا إلى العذاب لعَجَّلَ لَهم العذابَ في الحالِ.
﴿ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ ﴾؛ بإتيانهِ.
﴿ يَوْمَ يَغْشَاهُمُ ٱلْعَذَابُ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ ﴾؛ فلاَ يبقَى جزءٌ منهم إلاَّ وهو مُعَذبٌ في النار جزاءً، ويقالُ لهم: ﴿ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾.
قرأ الكوفِيُّون ونافع: (وَيَقُولُ) بالياء، يعني الموَكَّلُ بعذابهم يقولُ لَهم ذلكَ، وقرأ الباقون بالنُّونِ؛ لأنه لَمَّا كان بأمرهِ سُبْحَانَهُ جازَ أن يُنسَبَ إليهِ.
﴿ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ﴾، بعدَ الموتِ فيجزِيَكم بأعمَالِكم. وقال سعيدُ بن جبير: (مَعْنَى الآيَةِ: إذا عُمِلَ فِي أرْضٍ بالْمَعَاصِي فَاخْرُجُواْ مِنْهَا، فَإنَّ أرْضِي وَاسِعَةٌ)، وقال عطاءُ: (إذا أُمِرْتُمْ بالْمَعَاصِي فَاهْرُبُواْ مِنْهَا، فَإنَّ أرْضَ اللهِ وَاسِعَةٌ)، وقال مجاهدُ: (إنَّ أرْضِي وَاسِعَةٌ فَهَاجِرُواْ وَجَاهِدُواْ). وقال الكلبيُّ: (نَزَلَتْ فِي الْمُسْتَضْعَفِيْنَ مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ الَّذِيْنَ كَانُواْ بمَكَّةَ لاَ يَقْدِرُونَ عَلَى إظْهَار الإيْمَانِ وَعِبَادَةِ الرَّحْمَنِ، فَحَثَّهُمْ عَلَى الْهِجْرَةِ إلَى الْمَدِيْنَةِ، فَشُقَّ عَلَيْهِمْ وَقَالُواْ: كَيْفَ يَكُونُ حَالُنَا إذا انْتَقَلْنَا إلَى دَار الْغُرْبَةِ وَلَيْسَ بهَا أحَدٌ يَعْرِفُنَا فَيُوَاسِيْنَا، وَلاَ نَعْرِفُ وُجُوهَ الاكْتِسَاب فِيْهَا، فَقَطَعَ اللهُ عُذْرَهُمْ بهَذِهِ الآيَاتِ). ومعناها: إنَّ أرضِي واسعةٌ آمِنَةٌ، وَقِيْلَ: ﴿ وَاسِعَةٌ ﴾ أي رزْقِي لكم واسعٌ، فاخرجُوا من هذه الأرضِ التي أنتم فيها. وعن الحسنِ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:" مَنْ فَرَّ بدِيْنِهِ مِنْ أرْضٍ إلَى أرْضٍ وَإنْ كَانَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ اسْتَوْجَبَ الْجَنَّةَ، وَكَانَ رَفِيْقَ إبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ ". ثُم ذكرَ ثوابَ مَن هاجرَ، فقال: ﴿ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ ﴾؛ يعني الْمُهَاجِرِيْنَ.
﴿ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللهُ عََنْهُمَا: (لَنُسْكِنَنَّهُمْ غُرَفَ الدُّرَّةِ وَالزُّبُرْجَدِ وَالْيَاقُوتِ، وَلَنُنْزِلَنَّهُمْ قُصُورَ الْجَنَّةِ)، وقرأ حمزةُ والكسائيُّ: (لَنُثْوِيَنَّهُمْ) يقالُ: ثَوَى الرجلُ إذا أقامَ، وأثْوَيْتُهُ إذا أنزلتهُ منْزِلاً يقيمُ فيهِ، والمعنى: والذينَ آمَنُوا لنُنْزِلنَّهُمْ من الجنَّة غُرَفاً عَوالِي تَجرِي من تحتِ قصورها وأشجارها الأنَهارَ.
﴿ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَامِلِينَ ﴾؛ للهِ. ثُم وصَفَهم فقالَ: ﴿ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ ﴾؛ أي على دِينِهم فلم يتركوهُ لشدَّةِ لَحِقَتهُمْ.
﴿ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾؛ قال ابنُ عبَّاس: (وَذلِكَ أنَّ الْمُهَاجِرِيْنَ تَوَكَّلُواْ عَلَى اللهِ وَتَرَكُواْ دُورَهُمْ وَأمْوَالَهُمْ). وَقِيْلَ: معناهُ: ﴿ وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ في أرزاقِهم وجهادِ أعدائهم ومهمَّات أُمورهم. قال مقاتلُ: (إنَّ أحَدَهُمْ كَانَ يَقُولُ بمَكَّةَ: كَيْفَ أُهَاجِرُ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَلَيْسَ لِي بهَا مَالٌ وَلاَ مَعِيْشَةٌ). فقالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ﴾؛ أي وَكَمْ من دابَّةٍ في الأرضِ؛ وهي كلُّ حيوان يدبُّ على الأرضِ مما يعقل ومما لا يعقلُ. والمعنى: كَم مِن نفسٍ دابَّةٍ لا تحملُ رزقَها؛ أي لا ترفعُ رزقَها معها ولا تَدَّخِرُ شيئاً لِغَدٍ.
﴿ ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا ﴾؛ حيثُ توجَّهت.
﴿ وَإِيَّاكُمْ ﴾؛ يرزقُكم إن أُخرِجتُم إلى المدينةِ، وإنْ لَم يكن لكم زادٌ ولا نفقةٌ. قال سفيانُ: (وَلَيْسَ شَيْءٌ مِمَّا يُخَبئُ وَيَدَّخِرُ إلاَّ الإنْسَانُ وَالْفَأْرُ وَالنَّمْلَةُ وَالْغُرَابُ عَلَى مَا قِيْلَ). وَقِيْلََ:" إنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِلْمُؤْمِنِيْنَ الَّذِيْنَ كَانُوا بمَكَّةَ وَقَدْ آذاهُمُ الْمُشْرِكُونَ: " أُخْرُجُوا إلَى الْمَدِيْنَةِ وَهَاجِرُواْ، وَلاَ تُجَاورُواْ الظَّلَمَةَ فِيْهَا " فَقَالُواْ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ نَخْرُجُ إلَى الْمَدِيْنَةِ وَلَيْسَ لَنَا بهَا عَقَارٌ وَلاَ مَالٌ، فَمَنْ يُطْعِمُنَا وَيَسْقِيْنَا؟ "فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَةَ ﴿ وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا ٱللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ ﴾ يُوماً بيومٍ؛ أي يرزقُ مَن يحملُ ومَن لا يحملُ، فكم مِن دابَّةٍ لا تجمعُ رزقَها لغدٍ، ولا يقدرُ على حملِ رزقِها لضَعْفِها، اللهُ يرزقها وإيَّاكم.
﴿ وَهُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ ﴾؛ أي السَّميعُ لأقوالِهم: نَخشَى إنْ فارَقْنا أوطَاننا العِيْلَةَ، الْعَلِيْمُ بما في قُلوبهم ونُفوسِهم، فلا يتركُوا عبادةَ الله بسبب الرِّزق، ولا يهتَمُّوا لأجلِ ذلك.
﴿ وَسَخَّرَ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ فَأَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ ﴾؛ أي يُصْرَفونَ عن عبادةِ الله الذي هذه صفتهُ إلى عبادةِ جَماداتٍ لا تنفعُ ولا تضرُّ.
﴿ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.
﴿ قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ﴾؛ أي الحمدُ للهِ على إقرارهم؛ لأن ذلكَ يُلْزِمُهُمُ الْحُجَّةَ، ويوجبُ عليهم التوحيدَ. وَقِيْلَ: معناهُ: الحمدُ للهِ على هذه النِّعَمِ، وعلى ما تَفَضَّلَ به جَلَّ ذِكْرُهُ من الإنعَامِ على العبادِ.
﴿ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾؛ بتوحيدِ ربهِم مع إقرارهم بأنه خَلَقَ السَّماواتِ والأرضَ وأنزلَ المطرَ.
﴿ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلآخِرَةَ لَهِيَ ٱلْحَيَوَانُ ﴾؛ يعني الْجَنَّةَ هي الْحَيَوَانُ؛ أي الحياةُ والدَّوامُ والبقاءُ الذي لا نَفَاذَ له، والْحَيَوَانُ والحياةُ واحدٌ. وقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ﴾؛ أي لو كانوا يَعْلَمُونَ الفرقَ بين الحياةِ الدَّائمةِ والحياة الفَانِيَةِ لرَغِبُوا في الباقِي الدائمِ عن الفانِي الزَّائلِ، ولكنَّهم لا يعلمونَ.
﴿ دَعَوُاْ ٱللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ ٱلدِّينَ ﴾ أي دَعَوُا اللهَ مُُفْرِدِيْنَ له بالدُّعاءِ، وتَرَكُوا شُركاءَهم وأصنامَهم فلا يدعُونَهم لإنجائِهم.
﴿ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى ٱلْبَرِّ ﴾؛ أي فلمَّا خَلَّصَهُمْ من تلك الأهوالِ، وأخرجَهم إلى البرِّ؛ ﴿ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾؛ أي عَادُوا إلى شُركائِهم لكي يَكْفُرُوا بما أعطينَاهُم.
﴿ وَلِيَتَمَتَّعُواْ ﴾؛ فِي كُفرِهم.
﴿ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ ﴾؛ جزاءَ فِعْلَتِهِمْ. قال عكرمةُ: (كَانَ أهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ إذا رَكِبُواْ فِي الْبَحْرِ حَمَلُواْ مَعَهُمُ الأَصْنَامَ، فَإذا اشْتَدَّتْ بهِمُ الرِّيْحُ ألْقَواْ تِلْكَ الأَصْنَامَ فِي الْبَحْرِ، وَصَاحُواْ: يَا اللهَ يَا اللهَ). وَقِيْلَ: إنَّ (اللام) في قوله (لِيَكْفُرُوا) لامُ الأمرِ، ومعناها: التهديدُ والوعيدُ، كقولهِ﴿ ٱعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ﴾[فصلت: ٤٠]﴿ وَٱسْتَفْزِزْ مَنِ ٱسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ﴾[الإسراء: ٦٤]، وكذلك عَقَّبَهُ بقولهِ.
﴿ فَسَوْفَ يَعلَمُونَ ﴾.
﴿ أَفَبِٱلْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ﴾؛ أي فيقرُّون ويصدِّقون بالباطلِ وهي الأصنامُ بعد قيامِ الْحُجَّةِ.
﴿ وَبِنِعْمَةِ ٱللَّهِ يَكْفُرُونَ ﴾؛ أي بمُحَمَّدٍ والإسلامِ يَجْحَدُونَ. والتَّخَطُّفُ: هو تناولُ الشيءِ بسُرعَةٍ.
﴿ أَوْ كَذَّبَ بِٱلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُ ﴾؛ يعني مُحَمَّداً والقُرْآن.
﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ﴾؛ أي أمَا لِهذا الكافرٍِ المكذِّب مأوًى في جهنَّم، وهو استفهامٌ، ومعناهُ: التقريرُ.