تفسير سورة العنكبوت

تفسير السمرقندي
تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب بحر العلوم المعروف بـتفسير السمرقندي .
لمؤلفه أبو الليث السمرقندي . المتوفي سنة 373 هـ

سورة العنكبوت
مكية وهي ستون وتسع آيات مكية
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣)
قوله سبحانه وتعالى: الم أَحَسِبَ النَّاسُ يعني: أظنّ الناس أَنْ يُتْرَكُوا يعني: أن يمهلوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا أي: صدقنا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ يعني: لا يبتلون. قال في رواية الكلبي:
لما نزلت هذه الآية قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ [الأنعام: ٦٥] فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يَا جِبْرِيلُ ما بَقَاءُ أمَّتِي عَلَى هذا» فقال له جبريل عليه السلام: فادع الله لأمتك، فقام فتوضأ، ثم صلى ركعتين، ثم سأل ربه عز وجل أن لا يبعث عليهم العذاب. قال: فنزل جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد أن الله عزَّ وجلَّ قد أجار أمتك من خصلتين، وألزمهم خصلتين، فعاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتوضأ ثم صلى، فأحسن الصلاة، ثم سأل ربه عز وجل لأمته أن لا يلبسهم شيعاً، ولا يذيق بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ، فنزل جبريل عليه السلام، فقال: يا محمد قد سمع الله عز وجل مقالتك، فإنه يقول: ولقد أرسلنا رسلا من قبلك، فصدقهم مصدقون، وكذبهم مكذبون، ثم لم يمنعنا أن نبتليهم بعد قبض أنبيائهم ببلاء يعرف فيه الصادق من الكاذب، ثم نزل قوله عز وجل الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون الآية.
قال مقاتل: نزلت في مهجع بن عبد الله مولى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أول قتيل قتل من المسلمين يوم بدر، وهو أول من يدعى إلى باب الجنة من هذه الأمة، فجزع أبواه وامرأته وقد كان الله بيّن للمسلمين أنه لا بد لهم من البلاء والمشقة في ذات اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَنَزل الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا.
وقال بعضهم: لما أصيب المسلمون يوم أحد، وكانت الكرة عليهم، فعيرهم اليهود والنصارى والمشركون، فشقّ ذلك على المسلمين، فنزلت هذه الآية. ويقال: نزلت في عياش بن أبي ربيعة، وفي نفر معه أخذهم المشركون وعذبوهم على الإسلام، فنزلت هذه الآية. ويقال: نزلت في جميع المسلمين. ومعناه: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا ثم لا يفرض عليهم الفرائض. وقال الزجاج: هذا اللفظ لفظ الاستخبار، والمعنى به تقرير وتوبيخ،
يعني: أحسب الناس أن يقنع منهم بأن يقولوا: آمنا فقط، ولا يختبروا. ويقال: أن لا يعذبوا في الدنيا.
ثم قال عز وجل: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: اختبرنا الذين كانوا من قبل هذه الأمة وابتليناهم ببلايا فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا يعني: إنما يبتليهم ليبين الذين صدقوا من المؤمنين في إيمانهم وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ منهم فشكوا عند البلاء. ويقال: معناه ليبين صدق الصادق، وكذب الكاذب بوقوع صدقه، ووقوع كذبه. وقال القتبي: يعني: ليميزن الله الذين صدقوا، ويميز الكاذبين.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤ الى ٨]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨)
ثم قال: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ يعني: الشرك والمعاصي أَنْ يَسْبِقُونا يعني: أن يفوتونا. ويقال: يعجزونا. ويقال: يهربوا منا فلا نجازيهم ساءَ مَا يَحْكُمُونَ يعني:
بئس ما يقضون لأنفسهم. قال الكلبي: نزلت في عتبة وشيبة والوليد بن عتبة بارزوا يوم بدر، فبارزهم من المسلمين: علي، وحمزة، وعبيدة بن الحارث، فنزل في شأن مبارزي المسلمين مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ يعني: الآخرة لكائن وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ السَّمِيعُ لمقالتهم الْعَلِيمُ بهم وبأعمالهم.
وقوله عز وجل: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ يعني: علي بن أبي طالب وصاحبيه رضي الله عنهم إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ يعني: عن نصرة العالمين يوم بدر. ويقال: نزلت في جميع المسلمين مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أي: يخاف الآخرة ويقال: يخاف الموت، فيستعد للآخرة والموت بالعمل الصالح فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ يعني: كائن وَهُوَ السَّمِيعُ لدعائهم، الْعَلِيمُ بأمر الخلق.
وَمَنْ جاهَدَ يعني: عمل الخيرات، فإنما يجاهد لِنَفْسِهِ يعني: ثوابه لنفسه إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ يعني: عن أعمالهم، فإنما ثوابهم لأنفسهم.
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ أي: لنمحون عنهم سَيِّئاتِهِمْ يعني: ذنوبهم وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ. يعني: لنثيبنهم أحسن الذي كانوا يعملون، يعني:
أفضل من أعمالهم، ويقال: لَنَجْزِيَنَّهُمْ بأحسن أعمالهم الذي كانوا يَعْمَلُونَ في الدنيا.
قوله عز وجل: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً يعني: ووصينا الإنسان أن يفعل بوالديه ما يحسن، يعني: براً بهما.
وقال الكلبي: نزلت الآية في سعد بن أبي وقاص، لما أسلم قالت له أمه: يا سعد بلغني أنك صبوت إلى دين محمد، فو الله لا يظلني سقف بيت، وإن الطعام والشراب علي حرام حتى تكفر بمحمد، وترجع إلى دينك الذي كنت عليه، فأبى عليها ذلك، فثبتت على حالها لا تطعم ولا تشرب، ولا تسكن بيتاً، فلما خلص إليها الجوع لم تجد بداً من أن تأكل وتشرب، فحثّ عز وجل الله سعدا بالبر إلى أمه، ونهاه أن يطيعها على الشرك فقال: وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي: مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ حجة، يعني: الشرك فَلا تُطِعْهُما في الشرك، ثم حذّره ليثبت على الإسلام فقال: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ يعني: مصيركم في الآخرة فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني: أخبركم بما كنتم تعملون في الدنيا من خير أو شر، وأثيبكم على ذلك.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٩ الى ١١]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا يعني: أقرُّوا وصدَّقوا بوحدانية الله تعالى وبنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وعملوا الطاعات فيما بينهم وبين ربهم لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ أي: مع الأنبياء والرسل عليهم السلام في الجنة. ويقال: لَنُدْخِلَنَّهُمْ في جملة الصالحين، ونحشرهم مع الصالحين.
قوله عز وجل: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ نزلت في عياش بن أبي ربيعة، هاجر إلى المدينة قبل قدوم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إليها، فجزعت أمه جزعاً شديداً. فقالت لأخويه: أبي جهل بن هشام، والحارث بن هشام، وهما أخواه لأمه، وأبناء عمه، فخرجوا في طلبه، فظفروا به وقالوا له: إن برّ الوالدة واجب عليك، فعليك أن ترجع فتبرها فإنها حلفت أن لا تأكل ولا تشرب، وأنت أحب الأولاد إليها، فلم يزالوا به حتى تابعهم. فجاؤوا به إلى أمه، فعمدت أمه فقيدته، وقالت: والله لا أحلك من وثاقك حتى تكفر بمحمد، وضربوه حتى رجع إلى دينهم فنزل وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ يعني: عذب في دين الله عز وجل: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ يعني: عذاب إخوته في الدنيا كَعَذابِ اللَّهِ في الآخرة. ويقال: نزلت في قوم من المسلمين أخذوهم إلى مكة وعذبوهم حتى ارتدوا فنزل مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ يعني: جزع من ذلك كما يجزع من عذاب الله، فينبغي
للمسلم أن يصبر على أذاه في الله، وصارت الآية تنبيها لجميع المسلمين ليصبروا على ما أصابهم في الله عز وجل.
ثم قال: وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ يعني: لو يجيء نصر من الله عز وجل بظهور الإسلام، والغلبة على العدو بمكة وغيرها لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أي: على دينكم أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ
يعني: أو ليس الله عليم بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من التصديق والتكذيب أعلم بمعنى عليم يعني: هو عليم بما في قلوب الخلق. ويقال: معناه هو أعلم بما في صدورهم منهم، أي بما في صدور أنفسهم.
قوله عز وجل: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: ليميزن الله الذين ثبتوا على الإسلام وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ يعني: ليميزن المنافقين الذين لم يكن إيمانهم حقيقة.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٢ الى ١٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاما فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)
قوله عز وجل: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: جحدوا وأنكروا لِلَّذِينَ آمَنُوا وذلك: أن أبا سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبة بن شيبة، قالوا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:
وخباب بن الأرت، وأناس آخرين من المسلمين: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا يعني: ديننا الذي نحن عليه، واكفروا بمحمد عليه السلام ودينه وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ يعني: نحن الكفلاء لكم بكل تبعة من الله عز وجل تصيبكم، وأهل مكة شهداء علينا. يقول الله عز وجل: وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ يعني: لا يقدرون أن يحملوا خطاياهم، يعني: وبال خطاياهم عنهم، ولا يدفعون عنهم، لأنهم لو استطاعوا أن يدفعوا لدفعوا عن أنفسهم إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مقالتهم.
ثم قال عز وجل: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ يعني: أوزار أنفسهم يكون في عنقهم، وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ يعني: يحملون أوزار الذين يضلونهم من غير أن ينقص من أوزار العاملين من شيء، وهذا كقوله عز وجل: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: ٢٥] وهذا كما روي في الخبر «من سن سنة سيئة، كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» ثمّ قال: وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ يعني: عما يقولون من الكذب.
قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً يدعوهم إلى الإسلام، ويحذرهم وينذرهم، فأبوا أن يجيبوه فكذبوه فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ يعني: الغرق وَهُمْ
ظالِمُونَ
وقال القتبي: الطوفان، المطر الشديد، وكذلك الموت إذا كثر. وقال مقاتل: الطوفان يعني: ما طغى فوق كل شيء. وقال بعض أهل اللغة: هذا الاشتقاق غير صحيح، لأنه لو كان هذا لقال: طغوان، لأنه يقال: طغى يطغو. وقال بعضهم: هذا على وجه القلب، كما يقال:
جذب وجبذ. ويقال: أصله من الطوف، يعني: سال وطاف في الأرض. وقال الزجاج:
الطوفان من كل شيء ما كان كثيراً كالقتل الذريع الكثير يسمى طوفانا.
ثم قال عز وجل: فَأَنْجَيْناهُ يعني: نوحاً عليه السلام وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ من الغرق وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ يعني: جعلنا السفينة عبرة لمن بعدهم، وقد بقيت السفينة على الجودي إلى وقت قريب من وقت خروج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فكان ذلك علامة وعبرة لمن رآها، ولمن لم يرها، لأن الخبر قد بلغه. ويقال: رسم السفينة التي بقيت بين الخلق وقت نوح، وتجري في البحر علامة للعالمين.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٦ الى ١٨]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨)
قوله عز وجل: وَإِبْراهِيمَ يعني: وأرسلنا إبراهيم عطفاً على قوله: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً ويقال: معناه واذكر إبراهيم إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ يعني: وحدوا الله عز وجل، وَاتَّقُوهُ يعني: اخشوه ولا تعصوه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ يعني: التوحيد وعبادة الله عز وجل خير من عبادة الأوثان إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.
قوله عز وجل: إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً يعني: أصناما وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً يعني:
تعملونها بأيديكم، ثم تقولون إنها آلهة، ويقال: تتخذونها آلهة كذباً ثم قال: إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وهي الأصنام لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً يعني: لا يقدرون أن يعطوكم مالاً، ولا يقدرون أن يرزقوكم.
ثمّ قال: فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ يعني: الله عزّ وجل هو الذي يملك رزقكم، فاطلبوا الرزق من الله عز وجل: وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ أي: وحدّوه واشكروا له في النعم، فإن مصيركم إليه وإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الممات.
قال الله عزّ وجلّ للنبي صلّى الله عليه وسلّم: قل لأهل مكة وَإِنْ تُكَذِّبُوا بما أخبرتكم من قصة نوح وإبراهيم عليهما السلام فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني: كذبوا رسلهم وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ يعني: إلا أن يبلغ الرسالة، ويبين أمر العذاب. ويقال: إلا أن يبلغ الرسالة، ويبين مراد الرسالة.

[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٩ الى ٢٢]

أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢)
ثم قال الله عزّ وجلّ: أَوَلَمْ يَرَوْا قرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية أبي بكر أَوَلَمْ تَرَوْاْ بالتاء على معنى المخاطبة، يعني: قل لهم يا محمد أولم تروا وقرأ الباقون بالياء، ومعناه: يا محمد أو لم يروا هؤلاء الكفار كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ يعني: يخلقهم في الابتداء ولم يكونوا شيئا، ثم يعيدهم كما خلقهم إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ يعني: إن الذي بدأ الخلق، يقدر أن يعيده، وهو عليه هين.
قوله عز وجل: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ يعني: سافروا في الأرض. يعني: لتعتبروا في أمر البعث. ويقال: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ. يعني: اقرءوا القرآن فَانْظُرُوا يعني: فاعتبروا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ يعني: كيف خلق الخلق ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ يعني: يحييهم بعد الموت للبعث إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ من أمر البعث وغيره.
ثم قال عز وجل: يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ يعني: يخذل من يشاء ولا يهدي من لم يكن أهلاً لذلك. وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ فيهديه إن كان أهلاً كذلك وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ يعني: ترجعون إليه في الآخرة.
قوله عز وجل: وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ يعني: لا تهربون منه ولا تفوتونه وَلا فِي السَّماءِ يعني: إن كنتم في الأرض، ولا في السماء لا يَقدرون أن يهربوا منه وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: من عذاب الله مِنْ وَلِيٍّ يعني: من قريب ينفعكم وَلا نَصِيرٍ يعني: ولا مانع يمنعكم من عذاب الله عز وجل.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٣ الى ٢٥]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥)
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ يعني: بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقرآن وَلِقائِهِ يعني:
كفروا بالبعث بعد الموت أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي يعني: من جنتي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.
ثم رجع إلى قصة إبراهيم. حيث قال لقومه: اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ وفي الآية مضمر ومعناه: فقذفوه في النار، فأنجاه الله من النار فلم تحرقه، وجعلها برداً وسلاماً إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما أنجاه الله من النار بعد ما قذفوه فيها لَآياتٍ يعني: لعبرات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني: يصدقون بتوحيد الله تعالى.
فقال لهم إبراهيم عليه الصلاة والسلام: وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: إنما عبدتم مِّن دُونِ الله أَوْثاناً يعني: أصناماً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ على عبادة أصنامكم. قرأ نافع وابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر، مَوَدَّةَ بنصب الهاء مع التنوين بَيْنِكُمْ بنصب النون.
يعني: اتخذتم أوثاناً آلهة مودة بينكم على عبادتها، صار نصباً لوقوع الفعل عليها. وقرأ حمزة وعاصم في رواية حفص مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ بنصب الهاء بغير التنوين بَيْنِكُمْ بكسر النون على معنى الإضافة، وقرأ الباقون مَوَدَّةَ بالضم بَيْنِكُمْ بالكسر.
وروي عن الفراء أنه قال: إنما صار المودة رفعا بالصفة بقوله عز وجل: فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وينقطع الكلام عند قوله: إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً.
ثم بيّن ضرر مودتهم في الحياة الدنيا فقال تعالى: ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يعني: ليس مودتكم تلك الأصنام بشيء، لأن المودة بَيْنِكُمْ فِى الحياة الدنيا تنقطع، ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ يعني: الأصنام من العابد، والشياطين ممن عبدها. ويقال: يعني، الأتباع والقادة، تتبرأ القادة من الأتباع وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً يعني: الأتباع يلعن القادة، والعابد يلعن المعبود وَمَأْواكُمُ النَّارُ يعني: مصيركم إلى النار وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني:
مانعين من عذاب الله عز وجل.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٦ الى ٣٠]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠)
قوله عز وجل: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ يعني: صدق لوطا إبراهيم عليهما السلام على الهجرة، ويقال: صدقه بالنبوة حين لم تحرقه النار وَقالَ إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي يعني: إلى رضاء ربي وطاعة ربي. ويقال: إلى أرض من أرض ربي، فهجر قومه الكافرين وخرج إلى الأرض المقدسة، ومعه سارة ثم قال: إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ في ملكه الْحَكِيمُ في أمره. ويقال:
630
حكيم حكم أن من لم يقدر في بلدة على طاعة الله عز وجل فليخرج إلى بلدة أخرى.
قوله عز وجل: وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ يعني: لمّا هاجر إلى طاعة الله عز وجل، أكرمه الله في الدنيا وأعطاه ذرية طيبة، وهو ولده إسحاق، وولد ولده يعقوب عليهم السلام، - ووهب له أربعة أولاد: إسحاق من سارة، وإسماعيل من هاجر، ومدين ومداين من غيرهما «١» - وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ يعني: من ذرية إبراهيم النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ يعني أكرم الله عز وجل ذريته بالنبوة، وأعطاهم الصحف. ويقال: أخرج من ذريته ألف نبي عليهم السلام وَالْكِتابَ يعني:
الزبور والتوراة والإنجيل والفرقان وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا يعني: أعطيناه في الدنيا الثناء الحسن وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ يعني: مع النبيين في الجنة.
قوله عز وجل: وَلُوطاً يعني: وأرسلنا لوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص، إِنَّكُمْ على معنى الخبر. وقرأ أبو عمرو ءائنكم بالمد على معنى الاستفهام، لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ يعني: المعصية مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ.
ثم قال: أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ واتفقوا في هذا الحرف على لفظ الاستفهام، واختلفوا في الأول، فقرأ الذين سميناهم على وجه الإخبار عنهم إنكم تفعلون، وتكون على وجه التعيير.
وقرأ الباقون الأول على وجه الاستفهام، فيكون اللفظ لفظ الاستفهام، والمعنى فيه: التوبيخ والتقريع.
ثم قال: وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ يعني: تعترضون الطريق لمن مرّ بكم بعملكم الخبيث.
ويقال: وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ. يعني: تأخذون أموالهم، كانوا يفعلون ذلك لكيلا يدخلوا في بلدهم، ويتناولوا من ثمارهم، ويقال: تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ يعني: النسل وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ يعني: تعملون في مجالسكم المنكر. وقال بعضهم: يعني به اللواطة كانوا يفعلون ذلك في المجالس بالعلانية. ويقال: أراد به المعاصي، وهي: الرمي بالبندق والصّفير، والحذف، ومضغ العلك، وحل إزار القباء، واللعب بالحمام، وشرب الخمر، وضرب العود والمزامير، وغير ذلك من المعاصي. وروت أم هانئ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في قوله: وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال: «كَانُوا يَحْذِفُونَ أهْلَ الطَّرِيقِ وَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ» فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ بالعذاب، وإن العذاب نازل بنا قالَ رَبِّ انْصُرْنِي يعني: أعني عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ يعني: المشركين.
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
631

[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣١ الى ٣٥]

وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)
قوله عز وجل: وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى يعني: بالبشارة بالولد قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ يعني: قريات لوط إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ يعني: كافرين قالَ إبراهيم إِنَّ فِيها لُوطاً يعني: أتهلكهم وفيهم لوط قالُوا يعني: قال جبريل عليه السلام:
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ يعني: من الباقين في الهلاك وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ يعني: ساء مجيئهم وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً يعني: اغتم بقدومهم، فلا يدري أيأمرهم بالخروج أم بالنزول. ويقال: ضاق بهم القلب وَقالُوا لاَ تَخَفْ علينا وَلا تَحْزَنْ من العذاب إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ قرأ حمزة والكسائي لَنُنَجِّيَنَّهُ، وإِنَّا مُنَجُّوكَ كلاهما بالتخفيف. وقرأ أبو عمرو ونافع وابن عامر وحفص عن عاصم كلاهما بالتشديد. وقرأ ابن كثير وأبو بكر عن عاصم الأول بالتشديد، والثاني بالتخفيف، ومعناهما واحد. ويقال: أنجيته ونجيته بمعنى واحد إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ.
ثم قال عز وجل: إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرأ ابن عامر وعاصم في إحدى الروايتين مُنْزِلُونَ بالتشديد. وقرأ الباقون بالتخفيف ومعناهما واحد يعني: أنزلنا ونزّلنا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ هي الحجارة بِما كانُوا يَفْسُقُونَ يعني: يعصون الله عز وجل.
قوله عز وجل: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها يعني: من قريات لوط آيَةً بَيِّنَةً يعني: علامة ظاهرة واضحة يعني: هلاكهم علامة ظاهرة ويقال: قرياتهم علامة ظاهرة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يعني: لمن كان له ذهن الإنسانية- وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً يعني الحجارة التي أنزلها الله تعالى من السماء على كل واحد منها اسم صاحبها «١» -.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧)
قوله تعالى: وَإِلى مَدْيَنَ يعني: وأرسلنا إلى مدين أَخاهُمْ شُعَيْباً يعني: نبيهم شعيباً فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ يعني: وحدوا الله وأطيعوه وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ يعني: خافوا يوم
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
القيامة، لأنه آخر الأيام. ويقال: يوم الموت، وهو آخر أعمارهم وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ يعني: لا تعملوا في الأرض بالمعاصي في نقصان الكيل والوزن فَكَذَّبُوهُ يعني:
أوعدهم بالعذاب على نقصان الكيل والوزن. فكذبوه فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ يعني: العذاب.
ويقال: الزلزلة، وأصله: الحركة فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ يعني: صاروا في دارهم يعني: في محلتهم جاثِمِينَ يعني: ميتين، ويقال: خامدين فصاروا كالرماد. ويقال: جثم بعضهم على بعض بالموت. وقال مقاتل: شبه أرواحهم في أجسادهم وهم أحياء، بالنار إذا اتقدت، ثم طفئت، فبينما هم أحياء إذ صاح بهم جبريل عليه السلام، فصعقوا أمواتا أجمعين.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)
ثم قال عز وجل: وَعاداً وَثَمُودَ وقال بعضهم: انصرف إلى قوله: وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ [العنكبوت: ٣] وفتنّا عادا وثمودا وقال بعضهم: انصرف إلى قوله: فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ [الأعراف: ٧٨] يعني: أخذهم العذاب وأخذ عاداً وثموداً. ويقال: معناه اذكر عاداً وثموداً، أو يقال: صار نصباً لنزع الخافض ومعناه: وأرسلنا الرسل إلى عاد وثمود. وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ يعني: ظهر لَّكُمْ يا أهل مكة من منازلهم آية في إهلاكهم. وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ يعني: ضلالتهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ يعني: صرفهم عن الدين، ويقال: منعهم عن التوحيد. ويقال: صدّ يصدّ صدّاً إذا منعه، وصدّ يصدّ صدوداً إذا امتنع بنفسه وأعرض. وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ في دينهم وهم يرون أنهم على الحق، وهم على الباطل. ويقال: كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ أي: ذوي بصيرة، ومع ذلك جحدوا.
ثم قال عز وجل: وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ يعني: أهلكنا قارون وفرعون وهامان وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ يعني: بالعلامات والآيات فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ يعني: طغوا فيها، وتعظموا عن الإيمان وَما كانُوا سابِقِينَ يعني: بفائتين من عذابنا.
قوله عز وجل: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ يعني: كلهم أهلكناهم بذنوبهم. ويقال: معناه أهلكنا كلّ واحد منهم بذنبه لا بذنب غيره. فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً يعني: الحجارة، وهم قوم لوط وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وهم قوم صالح. وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ يعني:
قارون وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وهم فرعون وقومه. وقال القتبي: الأخذ أصله باليد، ثم يستعار في
مواضع، فيكون بمعنى القبول، كقوله عز وجل وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي [آل عمران: ٨١] أي قبلتم عهدي، والأخذ التعذيب، كقوله وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ وكقوله فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ يعني:
عذبنا، وكقوله وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ [غافر: ٥] يعني: ليعذبوه.
ثم قال: وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ يعني: لم يعذبهم بغير جرم منهم. وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بجرمهم استوجبوا العقوبة.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤)
قوله عز وجل: مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ يعني: مثل عبادتهم الأصنام في الضعف، وقلة نفعهم إياهم. كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ يعني: أضعف البيوت لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لأنه لا يغني من حر ولا من برد ولا من مطر وكذلك آلهتهم لا يدفعون عنهم ضرّاً، ولا يقدرون لهم نفعاً.
ثم قال: لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني: لو كانوا يعلمون أن اتخاذهم الأصنام كذلك، لأنهم قد علموا أن بيت العنكبوت أوهن البيوت، ولكن قوله لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ انصرف إلى قوله:
اتَّخَذُوا، يعني: لا يعلمون أن هذا مثله.
ثم قال عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وهذه كلمة تهديد، يعني:
يعلم بعقوبتهم. ويقال: إن الله يعلم أن الآلهة لا شفاعة لهم ولا قدرة. وَهُوَ الْعَزِيزُ بالنقمة لمن عصاه الْحَكِيمُ حكم بالعقوبة على من عبد غيره، ويقال: حكم أن لا يعبد غيره.
ثم قال: وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ يعني: أمثال آلهتهم نبينها للناس. وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ يعني: لا يفهمها ولا يعلمها إلا الْعالِمُونَ يعني: الموحدون، ويقال: يعني:
العاقلين.
قرأ أبو عمرو وعاصم إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ بالياء على لفظ المغايبة. وقرأ الباقون بالتاء على لفظ المخاطبة، يعني: قل لهم يا محمد أن الله يعلم ما تدعون من دونه.
ثم قال عز وجل: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يعني: بالعدل، ويقال: لبيان الحق، ولم يخلقها باطلاً. إِنَّ فِي ذلِكَ يعني: في خلق السموات والأرض لَآيَةً يعني:
لعبرات لِلْمُؤْمِنِينَ يعني: المصدقين. وإنما أضاف إلى المؤمنين، لأنهم هم الذين ينتفعون بها.

[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]

اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (٤٥) وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦)
قوله عز وجل: اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ يعني: اقرأ عليهم ما أنزل إليك مِنَ الْكِتابِ يعني: من القرآن. ويقال: هو أمره بتلاوة القرآن، يعني: اقرءوا القرآن، واعملوا بما فيه.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ يعني: وأتمّ الصلاة إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ يعني: ما دام العبد يصلي لله عز وجل انتهى عن الفحشاء والمعاصي. ويقال: وَأَقِمِ الصَّلاةَ يعني: وأدِّ الصلاة الفريضة في مواقيتها بركوعها وسجودها والتضرع بعدها إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ يعني:
إذا صلى العبد لله صلاة خاشع يمنعه من المعاصي، لأنه يرق قلبه، فلا يميل إلى المعاصي.
وروى أبو أمامة الباهلي عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاَتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ لَمْ تَزِدْهُ صَلاتُهُ عِنْدَ الله إلاَّ مَقْتاً» وروي عن الحسن البصري رحمه الله عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلاَتَهُ عَن فَحْشَاءَ وَلاَ مُنْكَرٍ لَمْ يَزْدَدْ بِهَا مِنَ الله إلاَّ بُعْداً» «١» وقال الحسن:
«إذا لم تنته بصلاتك عن الفحشاء فلست بمُصَلٍ.
ثم قال: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ يعني: أفضل من سائر العبادات. وروي عن الحسن البصري رحمه الله أنه قال: قراءة القرآن في غير الصلاة أفضل من صلاة لا يكون فيها كثير القراءة، ثم قرأ هذه الآية وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ قال مقاتل:
ولذكر الله إياك أفضل من ذكرك إياه بالصلاة، وقال الكلبي: يقول: ذكره إياكم بالخير أكبر من ذكركم إياه، والله يذكر من ذكره بالخير.
قال أبو الليث رحمه الله: حدثنا الخليل بن أحمد، قال: حدثنا الماسرخسي قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن ربيعة، قال سألني ابن عباس عن قوله: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ فقلت: «هو التسبيح والتهليل والتقديس»
، فقال: «لقد قلت شيئاً عجيباً، وإنما هو ذكر الله العباد أكثر من ذكر العباد إياه». وقال قتادة: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ أي: ليس شيء أفضل من ذكر الله. وسئل سلمان الفارسي: أي العمل أفضل؟ قال: «ذكر الله».
ويقال: ذكر الله أفضل من الاشتغال بغيره. ويقال: ذكر الله حين كتبكم في اللوح المحفوظ من المسلمين أفضل. ويقال: ذِكْرِ الله عَزَّ وَجَلَّ بالمغفرة أفضل من ذكرك إياه. وروى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «مَنْ ذَكَرَ الله فِي نَفْسِهِ ذَكَرَهُ الله في نَفْسِهِ، وَمَنْ ذَكَرَهُ في مَلإٍ ذَكَرَهُ الله عزّ وجلّ
(١) عزاه السيوطي: ٦/ ٤٦٥ إلى عبد بن حميد وابن جرير والبيهقي.
في مَلإٍ أَكْبَرَ مِنَ المَلإِ الَّذِي ذَكَرَهُ فِيهِمْ وَأَطْيَبَ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنَ الله شِبْراً تَقَرَّبَ الله مِنْهُ ذِرَاعاً يعني: بإجابته وتوفيقه ورحمته وَمَنْ تَقَرَّبَ إلى الله تَعَالَى ذِرَاعاً تَقَرَّبَ الله مِنْهُ باعاً، وَمَنْ أتَى الله مَاشِياً الله أتاهُ هَرْوَلةً» «١»، يعني: بإجابته وتوفيقه ورحمته.
ثم قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ من الخير والشر فيجازيكم به.
قوله عز وجل: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ قال مقاتل: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ يعني: مؤمنيهم، ثم استثنى كفارهم، فقال: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يعني: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا فيها تقديم، ثم نسخته آية قتال أهل الكتاب. وقال الكلبي: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إن الله عز وجل أمر المسلمين إذ كانوا بمكة قبل أن يأمرهم بالقتال، فقال: وَلا تُجادِلُوا من أتاكم من أهل الكتاب إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالقرآن تعظونهم به، وتدعونهم إلى الإسلام، وهي التي أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ في الملاعنة، وهم أهل نجران. ويقال: لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ يعني: لا تخاصموهم إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني: إلا بالكلمة التي هي أحسن يعني: كلمة التوحيد إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ يعني: ولا الذين ظلموا منهم. ويقال: إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فلا بأس بأن تجادلوهم بما هو أشد.
ثم بيّن الكلمة التي هي أحسن، فقال: وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني:
القرآن والتوراة. وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ يعني: ربنا وربكم وَاحِدٌ. وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ يعني:
مخلصين بالتوحيد.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤٧ الى ٥٠]
وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠)
ثم قال عز وجل: وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ يعني: القرآن، كما أنزلنا إلى موسى وعيسى عليهما السلام فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وهم مؤمنو أهل الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ يعني:
يصدقون بالقرآن وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ يعني: قريشا وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا يعني:
بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن إِلَّا الْكافِرُونَ من اليهود ومشركي العرب.
ثم قال عز وجل: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ يعني: قبل القرآن وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ
(١) حديث أبي هريرة صحيح سبق تخريجه.
يعني: لم تكن تكتب شيئاً بيدك. إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ يعني: فلو كنت قرأت الكتب أو كنت تكتب بيدك لشكَّ أهل مكة في أمرك، ويقولون إنه قرأ الكتب وأخذ منها، ويقال: معناه لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ يعني: لشك أهل الكتاب في أمرك لأنهم وجدوا في كتبهم نعته وصفته أنه أمي لا يقرأ الكتب، كيلا يشكوا في صفته. بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ يعني: بل هو يقين أنه نبي عند أهل العلم، ويقال: يعني: القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ يعني: واضحات، ويقال: بل إنه لا يقرأ ولا يكتب آيات بينات، لأنه أخبر عن أقاصيص الأولين فى صدور الذين أوتوا العلم، يعني: مؤمني أهل الكتاب وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ يعني: الكافرين.
قوله عز وجل: وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ يعني: علامة من ربه قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ يعني: العلامات عِنْدَ اللَّهِ يعني: من عند الله عز وجل وليس بيدي شيء. وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ يعني: مخوفاً مفقهاً لكم، أنبئكم بلغة تعرفونها. قرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وعاصم في رواية حفص آياتٌ بلفظ الجماعة، يعني: آيات القرآن. وقرأ الباقون آية يعني: آية واحدة، يعني: أنه كان لا يكتب، وكان له في ذلك آية بينة لنبوته، ويجوز أن يكون معناه: الآيات للجنس.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥١ الى ٥٢]
أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢)
ثم قال عز وجل: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يعني: القرآن فيه خبر ما مضى، وخبر ما يكون أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ هذا علامة، ويقال: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أنهم فصحاء فجاءهم بالقرآن الذي أعجزهم عن ذلك. وقال الزجاج: كان قوم من المسلمين كتبوا شيئاً عن اليهود فأتوا به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كفى بهذا حَمَاقَةَ قَوْمٍ أوْ ضَلاَلَةَ قَوْمٍ أَنْ يَرْغَبُوا عَمَّا أتاهُمْ بهِ نَبِيُّهُمْ إلى ما أَتَى بِهِ غَيْرُ نبيّهم» «١» قال الله عزّ وجلّ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً يعني: في هذا القرآن لنعمة لمن آمن به وَذِكْرى أي موعظة ويقال: تفكر لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يعني: يصدقون بالقرآن. فقال له كعب بن الأشرف وَقَدْ كان قدم مكة: من يشهد لك أنك رسول الله إن لم نشهد لك، فنزل قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً بأني رسول الله يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ يعني:
(١) عزاه السيوطي: ٦/ ٤٧١ إلى الدارمي وأبي داود في مراسيله وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن يحيى بن جعدة.
بالصنم ويقال: بالشيطان، ويقال: بالطاغوت، وهو كعب بن الأشرف. وَكَفَرُوا بِاللَّهِ يعني:
جحدوا وحدانية الله عز وجل أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ يعني: المغبونين في العقوبة. ويقال:
خسروا حيث استوجبوا لأنفسهم العقوبة.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٣ الى ٥٦]
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦)
ثم قال عز وجل: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وذلك أنهم قالوا: ائتنا بعذاب الله. يقول الله عز وجل: وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى يقول: لولا الوقت الذي وقّتَ لهم لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً يعني: فجأة وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بنزول العذاب. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ يعني: جعلت لهم النار تحيط بهم.
قوله عز وجل يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ يعني: يعلوهم العَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ قرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو: وَنَقُولُ ذُوقُوا بالنون، يعني: نقول لهم نحن ذوقوا، وهي حكاية عن الله سبحانه وتعالى بلفظ الجماعة، وهو لفظ الملوك. وقرأ الباقون بالياء يعني: يقول الله عز وجل. ويقال: وتقول لهم الخزنة ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ يعني: جربوا عقوبة ما كنتم تعملون في الدنيا.
ثم قال عز وجل: يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا
قرأ حمزة والكسائي وأبو عمرو بسكون الياء، وقرأ الباقون بنصب الياء يا عِبادِيَ
وقرأ ابن عامر وحده إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
بنصب الياء، وقرأ الباقون بسكونها في مثل هذه المواضع، لغتان يجوز كلاهما، ومعناه: إن أرضي واسعة، إذا أُمِرْتُم بالمعصية والبدعة فاهربوا، ولا تطيعوا في المعصية، نزلت في ضعفاء المسلمين إِن كُنتُمْ يعني: إذا كنتم في ضيق من إظهار الإسلام بمكة إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ
يعني: المدينة واسعة بإظهار الإسلام. وروي عن الحسن عن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنه قال: «مَنْ فَرَّ بِدِينهِ مِنْ أَرْضٍ إلى أرضٍ وإنْ كَانَ شِبْراً مِنَ الأَرْضِ اسْتَوْجَبَ الجَنَّةَ وَكَانَ رَفِيقَ إِبْرَاهِيمَ وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلام» وإنما خصَّ إبراهيم لأنه قال إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي [العنكبوت: ٢٦] ففرَّ بدينه إلى الأرض المقدسة، وإنما خصّ محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه هاجر من مكة إلى المدينة. ويقال: إن القوم كانوا في ضيق من العيش فقال: إن كنتم تخافون شدة العيش فإن أرضي واسعة. فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ
يعني فوحّدون بالمدينة علانية.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٥٧ الى ٥٩]
كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩)
ثم خوفهم بالموت ليهاجروا فقال عز وجل: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ لأنهم كانوا يخافون على أنفسهم بالخروج، فقال لهم: لا تخافوا فإنَّ كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ في الآخرة فيجازيكم بأعمالكم. قرأ عاصم في رواية أبي بكر يَرْجِعُونَ بالياء بلفظ المغايبة على معنى الخبر عنهم. وقرأ الباقون بالتاء على معنى الخطاب لهم.
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: صدقوا بالله ورسوله وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعني: الطاعات وهاجروا، فسمى الهجرة من الأعمال الصالحة لأنها كانت فريضة في تلك الأوقات لَنُبَوِّئَنَّهُمْ يعني: لننزلنهم ولنسكننهم. مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً يعني:
غرفاً من الجنة. قرأ حمزة والكسائي: لنثوينهم بالثاء، وقرأ الباقون لَنُبَوِّئَنَّهُمْ بالياء، فمن قرأ بالثاء فهو من ثويت بالمكان، يعني: أقمت به، كقوله وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ [القصص: ٤٥] ومن قرأ بالباء يعني: لننزلنهم، وذكر عن الفراء أنه قال: كلاهما واحد، بوأته منزلاً أي أنزلته، وأثويته منزلاً يعني: أنزلته سواء، كقوله وَما كُنْتَ ثاوِياً.
ثم قال: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ يعني: ثوابهم ثواب الموحدين.
قوله عز وجل: الَّذِينَ صَبَرُوا على الهجرة. ويقال: صبروا على أمر الله تعالى.
وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يعني: يثقون به ولا يهتمون للرزق، لأنهم كانوا يقولون: كيف نهاجر وليس لنا مال ولا معيشة، فوعظهم الله ليعتبروا.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (٦١) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٦٢) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَّآءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (٦٣)
قال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ يعني: وكم من دابة في الأرض أو من طائر في السماء لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا معها ولا يجمع الغذاء إلا النملة والفأرة ويقال لا تخبئ زرقها. ثم قال: اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ يعني: يرزق الدواب حيث ما توجهت، وإياكم إذا هاجرتم إلى المدينة. وَهُوَ السَّمِيعُ لمقالتكم الْعَلِيمُ بكم.
ثم قال عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ يعني: كفار مكة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ يعني: من أين يكذبون بتوحيد الله عز وجل.
ثم رجع إلى أهل الهجرة ورغبهم فيها فقال: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ يعني: يوسع على من يشاء مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ يعني: ويقتر لمن يشاء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ من البسط والتقتير.
قوله عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مَّآءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها يعني:
من بعد يبسها وقحطها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إقرارهم بذلك بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ توحيد ربهم، وهم مقرون بالله عز وجل خالق هذه الأشياء.
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٦٤ الى ٦٩]
وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٦٤) فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (٦٥) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٦٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (٦٧) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (٦٨)
وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
قوله عز وجل: وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ يعني: باطل وَلَعِبٌ كلعب الصبيان، ولهو كلهو الشبان. ويقال: فرح لا يبقى للخلق ولا يبقى فيها إلا العمل الصالح. روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إن الدنيا ملعونة وملعون ما فيها إلا ذكر الله تعالى وما والاها أو عالماً أو متعلماً» وروي عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه مرّ بسخلة ميتة فقال: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ للدُّنْيَا على الله أهْوَنُ مِنْ هذه السَّخْلَةِ عَلَى أَهْلِهَا» وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ يعني: هي دار الحياة لا موت فيها لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يعني: لو كانوا يصدقون بثواب الله عز وجل.
ثم قال: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ يعني: في السفن دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يعني:
موحدين وتركوا دعاء أصنامهم، ويعلمون أنه لا يجيبهم أحد إلا الله تعالى. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ يعني: إلى القرار إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ به.
قوله عز وجل: لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ يعني: ما أعطيناهم من النّعم وَلِيَتَمَتَّعُوا قرأ عاصم وأبو عمرو وابن عامر ونافع في رواية ورش: وَلِيَتَمَتَّعُوا بكسر اللام، وقرأ الباقون بالجزم. فمن قرأ بالكسر، فمعناه: لكي يتمتعوا، لأن الكلام عطف على ما قبله يعني: يشركون لكي يكفروا، ولكي يتمتعوا في الدنيا. ومن قرأ بالجزم فهو على معنى التهديد والتوبيخ بلفظ الأمر، وتشهد له قراءة أبيَّ كان يقرأ تمتعوا فسوف تعلمون ومعناه وليتمتعوا، يعني:
وليعيشوا فسوف يعلمون إذا نزل بهم العذاب.
ثم قال عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا يعني: أو لم يعلموا ليعتبروا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً
640
وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ
يعني: يختلس الناس فيقتلون ويسبون وهم آمنون يأكلون رزقي ويعبدون غيري، فكيف أسلط عليهم إذا أسلموا. أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ يعني: أفبالشيطان يصدقون أن لي شريكاً. ويقال: أفبالأصنام يؤمنون وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ يعني: ويخالق هذه النعمة ورسوله يجحدون.
ثم قال عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن معه شريكاً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ يعني: بالقرآن لَمَّا جاءَهُ أي حين جاءه أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ أي مقاما للكافرين كما قال فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: ٧].
ثم قال عز وجل: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا يعني: رغبوا في طاعتنا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا يعني: لنعرفنهم طريقنا، ويقال: معناه لنرشدنهم طريق الجنة وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ يعني:
في العون لهم ويقال: والذين عملوا بما علموا لنوفقنهم لما لم يعلموا، - والله سبحانه وتعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم «١».
(١) ما بين معقوفتين ساقط من النسخة: «أ».
641
Icon