تفسير سورة الأحزاب

التبيان في إعراب القرآن
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب التبيان في إعراب القرآن .
لمؤلفه أبو البقاء العكبري . المتوفي سنة 616 هـ

سُورَةُ الْأَحْزَابِ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

قَالَ تَعَالَى: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِمَا تَعْمَلُونَ) : إِنَّمَا جَاءَ بِالْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ عَنَى بِقَوْلِهِ تَعَالَى: اتَّبِعْ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ.
وَيُقْرَأُ بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤)).
قَوْلُهُ
تَعَالَى
: (اللَّاتِي
) : هُوَ جَمْعُ الَّتِي وَالْأَصْلُ إِثْبَاتُ الْيَاءِ؛ وَيَجُوزُ حَذْفُهَا اجْتِزَاءً بِالْكَسْرَةِ. وَيَجُوزُ تَلْيِينُ الْهَمْزَةِ وَقَلْبُهَا يَاءً.
(تُظَاهِرُونَ) : قَدْ ذُكِرَ فِي الْبَقَرَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (هُوَ أَقْسَطُ) : أَيْ دُعَاؤُكُمْ، فَأَضْمَرَ الْمَصْدَرَ لِدَلَالَةِ الْفِعْلِ عَلَيْهِ.
(فَإِخْوَانُكُمْ) بِالرَّفْعِ؛ أَيْ فَهُمْ إِخْوَانُكُمْ. وَبِالنَّصْبِ؛ أَيْ فَادْعُوهُمْ إِخْوَانَكُمْ.
(وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ) :«مَا» فِي مَوْضِعِ جَرٍّ عَطْفًا عَلَى «مَا» الْأُولَى؛ وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ تُؤَاخَذُونَ بِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٦)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ) : أَيْ مِثْلُ أُمَّهَاتِهِمْ. قَوْلُهُ تَعَالَى: (بَعْضُهُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا، وَأَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً. وَ (فِي كِتَابِ اللَّهِ) : يَتَعَلَّقُ بِأَوْلَى. وَأَفْعَلُ يَعْمَلُ فِي الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا؛ وَالْعَامِلُ فِيهِ مَعْنَى أَوْلَى، وَلَا يَكُونُ حَالًا مَنْ «أُولُوا الْأَرْحَامِ» لِلْفَصْلِ بَيْنَهُمَا بِالْخَبَرِ؛ وَلِأَنَّهُ عَامِلُ إِذَا.
وَ (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِأُولُوا الْأَرْحَامِ، فَيَنْتَصِبَ عَلَى التَّبْيِينِ؛ أَيْ أَعْنِي؛ وَأَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَوْلَى، فَمَعْنَى الْأَوَّلِ: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِالْمِيرَاثِ مِنَ الْأَجَانِبِ. وَعَلَى الثَّانِي: وَأُولُوا الْأَرْحَامِ أَوْلَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ الْأَجَانِبِ.
(إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا) : اسْتِثْنَاءٌ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِذْ أَخَذْنَا) : أَيْ وَاذْكُرْ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِذْ جَاءَتْكُمْ) : هُوَ مِثْلُ: (إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً) [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٣]. وَقَدْ ذُكِرَ فِي آلِ عِمْرَانَ.
قَالَ تَعَالَى: (إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (١١)).
(إِذْ جَاءُوكُمْ) : بَدَلٌ مِنْ إِذِ الْأُولَى.
وَ (الظَّنُونَا) : بِالْأَلِفِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَوَجْهُهُ أَنَّهُ رَأْسُ آيَةٍ فَشُبِّهَ بِأَوَاخِرِ الْآيَاتِ الْمُطْلَقَةِ لِتَتَآخَى رُءُوسُ الْآيِ وَمِثْلُهُ: الرَّسُولَا، وَالسَّبِيلَا، عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْقِرَاءَاتِ.
وَيُقْرَأُ بِغَيْرِ أَلِفٍ عَلَى الْأَصْلِ.
وَالزِّلْزَالُ - بِالْكَسْرِ: الْمَصْدَرُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (١٣)).
وَ (يَثْرِبَ) : لَا يَنْصَرِفُ لِلتَّعْرِيفِ وَوَزْنِ الْفِعْلِ، وَفِيهِ التَّأْنِيثُ.
وَ (يَقُولُونَ) : حَالٌ، أَوْ تَفْسِيرٌ لِيَسْتَأْذِنُ.
وَ (عَوْرَةً) : أَيْ ذَاتِ عَوْرَةٍ.
وَيُقْرَأُ بِكَسْرِ الْوَاوِ، وَالْفِعْلُ مِنْهُ عَوِرَ، فَهُوَ اسْمُ فَاعِلٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَأَتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (١٤)).
وَ (لَأَتَوْهَا) بِالْقَصْرِ: جَاءُوهَا، وَبِالْمَدِّ أَيْ أَعْطَوْهَا مَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْبَقَاءِ.
وَ (إِلَّا يَسِيرًا) : أَيْ إِلَّا لُبْثًا، أَوْ إِلَّا زَمَنًا، وَمِثْلُهُ: (إِلَّا قَلِيلًا).
قَالَ تَعَالَى: (وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (١٥)).
(لَا يُوَلُّونَ) : جَوَابُ الْقَسَمِ؛ لِأَنَّ عَاهَدُوا فِي مَعْنَى أَقْسَمُوا.
وَيُقْرَأُ بِتَشْدِيدِ النُّونِ وَحَذْفِ الْوَاوِ عَلَى تَأْكِيدِ جَوَابِ الْقَسَمِ.
قَالَ تَعَالَى: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (١٨)).
وَ (هَلُمَّ) قَدْ ذُكِرَ فِي الْأَنْعَامِ إِلَّا أَنَّ ذَاكَ مُتَعَدٍّ، وَهَذَا لَازِمٌ.
قَالَ تَعَالَى: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (١٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَشِحَّةً) : هُوَ جَمْعُ شَحِيحٍ، وَانْتِصَابُهُ عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ فِي (يَأْتُونَ)
وَ (أَشِحَّةً) الثَّانِي حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي سَلَقُوكُمْ.
وَ (يَنْظُرُونَ) : حَالٌ؛ لِأَنَّ رَأَيْتَهُمْ: أَبْصَرْتَهُمْ.
وَ (تَدُورُ) حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَنْظُرُونَ.
(كَالَّذِي) : أَيْ دَوَرَانًا كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَافُ حَالًا مِنْ أَعْيُنِهِمْ؛ أَيْ مُشْبِهَةً عَيْنَ الَّذِي.
قَالَ تَعَالَى: (يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (٢٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يَحْسَبُونَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنْ أَحَدِ الضَّمَائِرِ الْمُتَقَدِّمَةِ إِذَا صَحَّ الْمَعْنَى وَتَبَاعَدَ الْعَامِلُ فِيهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْتَأْنَفًا.
وَ (بَادُونَ) : جَمْعُ بَادٍ. وَقُرِئَ «بُدًّا» مِثْلُ غَازٍ وَغُزًّى.
وَ (يَسْأَلُونَ) : حَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (٢١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أُسْوَةٌ) : الْكَسْرُ وَالضَّمُّ لُغَتَانِ، وَهُوَ اسْمٌ لِلتَّأَسِّي، وَهُوَ الْمَصْدَرُ، وَهُوَ اسْمُ كَانَ، وَالْخَبَرُ: «لَكُمْ».
وَ (فِي رَسُولِ اللَّهِ) : حَالٌ، أَوْ ظَرْفٌ يَتَعَلَّقُ بِالِاسْتِقْرَارِ، لَا بِأُسْوَةٌ، أَوْ بَكَانَ عَلَى قَوْلِ مَنْ أَجَازَهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ «فِي رَسُولِ اللَّهِ» الْخَبَرَ، وَ «لَكُمْ» تَخْصِيصٌ وَتَبْيِينٌ.
(لِمَنْ كَانَ) : قِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ. وَمَنَعَ مِنْهُ الْأَكْثَرُونَ؛ لِأَنَّ ضَمِيرَ الْمُخَاطَبِ لَا يُبْدَلُ مِنْهُ؛ فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِحَسَنَةٍ، أَوْ يَكُونَ نَعْتًا لَهَا؛ وَلَا تَتَعَلَّقُ بِأُسْوَةٌ لِأَنَّهَا قَدْ وُصِفَتْ.
وَ (كَثِيرًا) : نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ.
قَالَ تَعَالَى: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (٢٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) : إِنَّمَا أَظْهَرَ الِاسْمَيْنِ هُنَا مَعَ تَقَدُّمِ ذِكْرِهِمَا؛ لِئَلَّا يَكُونَ الضَّمِيرُ الْوَاحِدُ عَنِ اللَّهِ وَغَيْرِهِ.
قَالَ تَعَالَى: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (٢٤)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيَجْزِيَ اللَّهُ) : يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ لَامَ الْعَاقِبَةِ، وَأَنْ يَتَعَلَّقَ بِصِدْقٍ؛ أَوْ بِزَادِهِمْ، أَوْ بِمَا بَدَّلُوا.
قَالَ تَعَالَى: (وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (٢٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (بِغَيْظِهِمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا، وَأَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ.
وَ (لَمْ يَنَالُوا) : حَالٌ.
قَالَ تَعَالَى: (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (٢٦)).
وَ (مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) : حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ الْفَاعِلِ فِي ظَاهَرُوهُمْ.
وَ (مِنْ صَيَاصِيهِمْ) : مُتَعَلِّقَةٌ بِأَنْزَلَ.
وَ (فَرِيقًا) : مَنْصُوبٌ بِـ «تَقْتُلُونَ».
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (٣٠)).
وَ (يُضَاعَفْ) وَيُضَعَّفْ: قَدْ ذُكِرَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (٣١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ يَقْنُتْ) : يُقْرَأُ بِالْيَاءِ حَمْلًا عَلَى لَفْظِ «مَنْ» وَبِالتَّاءِ عَلَى مَعْنَاهَا؛ وَمَثَلُهُ: وَ (تَعْمَلْ صَالِحًا).
وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ الْأُولَى بِالتَّاءِ، وَالثَّانِيَةَ بِالْيَاءِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ: هَذَا ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ التَّذْكِيرَ أَصْلٌ؛ فَلَا يُجْعَلُ تَبَعًا لِلتَّأْنِيثِ، وَمَا عَلَّلُوا بِهِ قَدْ جَاءَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: (خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) [الْأَنْعَامِ: ١٣٩].
قَالَ تَعَالَى: (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (٣٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (فَيَطْمَعَ الَّذِي) : يُقْرَأُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى جَوَابِ النَّهْيِ، وَبِالْكَسْرِ عَلَى نِيَّةِ الْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى تَخْضَعْنَ.
قَالَ تَعَالَى: (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (٣٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَقَرْنَ) : يُقْرَأُ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: هُوَ مِنْ وَقَرَ يَقِرُ إِذَا ثَبَتَ، وَمِنْهُ الْوَقَارُ، وَالْفَاءُ مَحْذُوفَةٌ.
وَالثَّانِي: هُوَ مِنْ قَرَّ يَقِرُّ، وَلَكِنْ حُذِفَتْ إِحْدَى الرَّاءَيْنِ، كَمَا حُذِفَتْ إِحْدَى اللَّامَيْنِ فِي «ظَلْتَ» فِرَارًا مِنَ التَّكْرِيرِ.
وَيُقْرَأُ بِالْفَتْحِ؛ وَهُوَ مِنْ قَرَّ لَا غَيْرَ، وَحُذِفَتْ إِحْدَى الرَّاءَيْنِ؛ وَإِنَّمَا فُتِحَتِ الْقَافُ عَلَى لُغَةٍ فِي: قَرَرْتُ أَقَرُّ فِي الْمَكَانِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَهْلَ الْبَيْتِ) : أَيْ يَا أَهْلَ الْبَيْتِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى التَّخْصِيصِ وَالْمَدْحِ؛ أَيْ أَعْنِي، أَوْ أَخُصُّ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (٣٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالْحَافِظَاتِ) : أَيِ الْحَافِظَاتِ فُرُوجَهُنَّ، وَكَذَلِكَ «وَالذَّاكِرَاتِ» أَيْ وَالذَّاكِرَاتِ اللَّهَ، وَأَغْنَى الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ عَنِ الْإِعَادَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) : إِنَّمَا جَمَعَ لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ يُرَادُ بِهِ الْعُمُومُ.
قَالَ تَعَالَى: (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (٣٧)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) : قَدْ ذُكِرَ مِثْلُهُ فِي التَّوْبَةِ.
قَالَ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٣٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ) : هُوَ نَعْتٌ لِلَّذِينِ خَلَوْا. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي، وَأَنْ يَرْتَفِعَ عَلَى إِضْمَارِ «هُمْ».
قَالَ تَعَالَى: (مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٤٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ) : أَيْ وَلَكِنْ كَانَ رَسُولَ اللَّهِ وَكَذَلِكَ (وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ).
وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى مَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَذَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الْأَعَارِيبِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ فِعْلٌ مِثْلُ فَاعَلَ بِمَعْنَى خَتَمَهُمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اسْمٌ بِمَعْنَى آخِرِهِمْ؛ وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الْمَخْتُومِ بِهِ النَّبِيُّونَ، كَمَا يُخْتَمُ بِالطَّابَعِ. وَبِكَسْرِهَا: أَيْ آخِرَهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (٤٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (تَعْتَدُّونَهَا) : تَفْتَعِلُونَهَا مِنَ الْعَدَدِ؛ أَيْ تَعُدُّونَهَا عَلَيْهِنَّ، أَوْ تَحْسِبُونَ بِهَا عَلَيْهِنَّ. وَمَوْضِعُهُ جَرٌّ عَلَى اللَّفْظِ، أَوْ رَفْعٌ عَلَى الْمَوْضِعِ.
وَالسَّرَاحُ: اسْمٌ لِلتَّسْرِيحِ، وَلَيْسَ بِالْمَصْدَرِ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥٠)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) : فِي النَّاصِبِ وَجْهَانِ؛ أَحَدُهُمَا: أَحْلَلْنَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ؛ وَقَدْ رَدَّ هَذَا قَوَّمٌ وَقَالُوا: أَحْلَلْنَا مَاضٍ، وَ «إِنْ وَهَبَتْ» هُوَ صِفَةٌ لِلْمَرْأَةِ مُسْتَقْبَلٌ، وَ «أَحْلَلْنَا» فِي مَوْضِعِ جَوَابِهِ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ لَا يَكُونُ مَاضِيًا فِي الْمَعْنَى. وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِحْلَالِ هَاهُنَا الْإِعْلَامُ بِالْحِلِّ إِذَا وَقَعَ الْفِعْلُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: أَبَحْتُ لَكَ أَنْ تُكَلِّمَ فُلَانًا إِنْ سَلَّمَ عَلَيْكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَنْتَصِبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ وَنُحِلُّ لَكَ امْرَأَةً.
وَيُقْرَأُ «أَنْ وَهَبَتْ» بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ امْرَأَةٍ بَدَلَ الِاشْتِمَالِ وَقِيلَ: التَّقْدِيرُ: لِأَنْ وَهَبَتْ.
وَ (خَالِصَةً) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي وَهَبَتْ، وَأَنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ؛ أَيْ هِبَةً خَالِصَةً.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا؛ أَيْ أَخْلَصَتْ ذَلِكَ لَكَ إِخْلَاصًا. وَقَدْ جَاءَتْ فَاعِلَةً مَصْدَرًا مِثْلَ الْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ.
وَ (لِكَيْلَا) : يَتَعَلَّقُ بِأَحْلَلْنَا.
قَالَ تَعَالَى: (تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (٥١)).
(وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) :«مَنْ» فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِابْتَغَيْتَ، وَهِيَ شَرْطِيَّةٌ، وَالْجَوَابُ: «فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً، وَالْعَائِدُ مَحْذُوفٌ؛ أَيْ وَالَّتِي ابْتَغَيْتَهَا، وَالْخَبَرُ «فَلَا جُنَاحَ»
. قَوْلُهُ تَعَالَى: (كُلُّهُنَّ) : الرَّفْعُ عَلَى تَوْكِيدِ الضَّمِيرِ فِي (يَرْضَيْنَ) وَالنَّصْبُ عَلَى تَوْكِيدِ الْمَنْصُوبِ فِي (آتَيْتَهُنَّ).
قَالَ تَعَالَى: (لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (٥٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بَدَلًا مِنَ النِّسَاءِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى أَصْلِ الِاسْتِثْنَاءِ وَهُوَ مِنَ الْجِنْسِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: (مِنْ أَزْوَاجٍ) : فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَ (مِنْ) : زَائِدَةٌ.
«إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ نصب على الِاسْتِثْنَاء من النِّسَاء وَفِي مَوضِع رفع على الْبَدَل وَيجوز أَن يكون فِي مَوضِع نَصْبٍ بَدَلًا مِنْ أَزْوَاجٍ؛ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مُنْقَطِعًا.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (٣٥)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) : هُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ؛ أَيْ لَا تَدْخُلُوا إِلَّا مَأْذُونًا لَكُمْ.
وَ (إِلَى) : تَتَعَلَّقُ بِيُؤْذَنَ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهَا تُدْعَوْنَ.
وَ (غَيْرَ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ فِي «تَدْخُلُوا» أَوْ مِنَ الْمَجْرُورِ فِي «لَكُمْ».
وَيُقْرَأُ بِالْجَرِّ عَلَى الصِّفَةِ لِلطَّعَامِ، وَهَذَا عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ خَطَأٌ؛ لِأَنَّهُ جَرَى عَلَى غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ؛ فَيَجِبُ أَنْ يَبْرُزَ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ، فَيَكُونَ غَيْرَ نَاظِرِينَ أَنْتُمْ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ) : هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى نَاظِرِينَ.
قَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٥٩)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (يُدْنِينَ) : هُوَ مِثْلُ قَوْلِهِ تَعَالَى: (قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ) [إِبْرَاهِيمَ: ٣١] فِي إِبْرَاهِيمَ.
قَالَ تَعَالَى: (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (٦٠) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (٦١)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (مَلْعُونِينَ) : هُوَ حَالٌ مِنَ الْفَاعِلِ فِي «يُجَاوِرُونَكَ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِمَّا بَعْدَ «أَيْنَ» لِأَنَّهَا شَرْطٌ، وَمَا بَعْدَ الشَّرْطِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ.
قَالَ تَعَالَى: (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (٦٢)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (سُنَّةَ اللَّهِ) : هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ؛ أَيْ سَنَّ ذَلِكَ سُنَّةً.
قَالَ تَعَالَى: (يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (٦٦)).
(يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ) : يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِـ «لَا يَجِدُونَ» وَلِنَصِيرًا، أَوْ لِـ «يَقُولُونَ».
وَ «يَقُولُونَ» عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ: حَالٌ مِنَ الْوُجُوهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَصْحَابُهَا؛ وَيَضْعُفُ أَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَجْرُورِ، لِأَنَّهُ مُضَافٌ إِلَيْهِ.
وَيُقْرَأُ «تُقَلِّبُ» - يَعْنِي السَّعِيرَ - وُجُوهَهُمْ بِالنَّصْبِ.
قَالَ تَعَالَى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (٧٢) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (٧٣)).
قَوْلُهُ تَعَالَى: (لِيُعَذِّبَ اللَّهُ) : اللَّامُ تَتَعَلَّقُ بِحَمْلِهَا. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
Icon