تفسير سورة الأحزاب

تفسير آيات الأحكام
تفسير سورة سورة الأحزاب من كتاب روائع البيان في تفسير آيات الأحكام المعروف بـتفسير آيات الأحكام .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

سورة الأحزاب
[ ١ ] التبني في الجاهلية والإسلام
التحليل اللفظي
﴿ اتق الله ﴾ : أي أثبت على تقوى الله ودم عليها، والتقوى لفظ جامع يراد منه فعلُ كلّ خير، واجتنابُ كل شر، وأصله من ( الوقاية ) بمعنى الحفظ والصيانة.
قال في « اللسان » : التقوى، والإتّقاء، والتّقاة، والتّقيّة كله واحد، ورجل تقيّ : معناه يقي نفسه من العذاب والمعاصي بالعمل الصالح.
قال ابن الوردي :
واتّقِ اللَّهَ فتقوى اللَّهِ مَا جاورتْ قلبَ امرئٍ إلاّ وصَل
ليس كم يقطعُ طرقاً بطَلاً إنَما مَنْ يَتَّق اللَّهَ البطل
﴿ الكافرين ﴾ : جمع كافر، وهو الجاحد لنعم الله، مشتق من ( الكَفْر ) وهو الستر، وكل من ستر شيئاً فقد كفره، ولهذا يسمّى الزارع ( كافراً ) لأنه يستر الحب في الأرض ومنه قوله تعالى :﴿ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ﴾ [ الحديد : ٢٠ ] أي أعجب الزرّاع. ويسمى الليل كافراً لأنه يستر بظلامه الأشياء.
وفي الصحاح : والكافر : الليلُ المظلم لأنه يستر بظلمته كل شيء، وكفر النعمة جحدها.
وقال الجوهري : ومن ذلك سُمّي الكافر كافراً لأنه ستر نعم الله تعالىّ، ونعمُه آياته الدالة على توحيده.
قال بعض العلماء : الكفر على أربعة أنحاء : كفر إنكار وهو أن لا يعرف الله أصلاً، ولا يعترف به، ويكفر بقلبه ولسانه.
وكفر جحود وهو أن يعترف بقلبه ولا يقرّ بلسانه، ككفر إبليس، وكفر أهل الكتاب ﴿ فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ ﴾ [ البقرة : ٨٩ ].
وكفر عناد وهو : أن يعترف بقلبه، ويقرّ بلسانه ولا يدين به حسداً وبغياً ككفر أبي جهل وأضرابه.
وكفر نفاق وهو : أن يقرّ بلسانه ويكفر بقلبه فلا يعتقد بما يقول وهو فعل المنافقين.
﴿ والمنافقين ﴾ : جمع منافق وهو الذي يظهر الإسلام ويبطن الكفر، مشتق من ( النَّفَق ) وهو سَرَب في الأرض، والنافقاء : جُحْرُ الضبّ واليربوع، قال أبو عبيد : سمّي المنافق منافقاً للنّفق وهو السّرَب في الأرض، وقيل : إنما سُمّي منافقاً لأنه نافق كاليربوع وهو دخوله نافقاءه. فإذا طُلِبَ خرج من القاصعاء، فهو يدخل من ( النافقاء ) ويخرج من ( القاصعاء ) أو بالعكس، وهكذا يفعل المنافق يدخل في الإسلام ثمّ يخرج منه من غير الوجه الذي دخل فيه.
وقال في « اللسان » : وقد تكرر في الحديث ذكر النفاق، وهو اسم اسلاميّ لم تعرفه العرب بالمعنى المخصوص به، وهو الذي يستر كفره ويُظهر إيمانه، وإن كان أصله في اللغة معروفاً.
﴿ وَكِيلاً ﴾ : الوكيل : الحافظ، الكفيل بأرزاق العباد، والمتوكل على الله : الذي يعلم أن الله كافل رزقه وأمره، فيركن إليه وحده، ولا يتوكل على غيره، وفي التنزيل :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ ﴾ [ الفرقان : ٥٨ ] وتوكّلَ بالأمر إذا ضمن القيام به. والتوكل : اللجوء والاعتماد يقال : وكلتُ أمري إلى فلان أن ألجأته إليه، واعتمدت فيه عليه قال تعالى :
419
﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [ الطلاق : ٣ ].
والمعنى : اعتمد على الله والجأ إليه، وكفى به حافظاً وكفيلاً.
قال أبو السعود :﴿ وَتَوَكَّلْ على الله ﴾ أي فوّض جميع أمورك إليه ﴿ وكفى بالله وَكِيلاً ﴾ أي حافظاً موكلاً إليه كل الأمور.
﴿ تظاهرون ﴾ : نزل القرآن الكريم والعرب يعقلون من هذا التركيب ( ظاهر من زوجته ) أنه قال لها : أنتِ عليّ كظهر أمي، وكانت العرب تطلّق نساءها في الجاهلية بهذه الكلمة، وكان الظّهار عندهم طلاقاً، فلما جاء الإسلام نُهوا عنه، وأُوجِبت الكفارة على من ظاهر من امرأته.
قال في « اللسان » : وأصل الظّهار مأخوذ من الظَّهْر، وإنما خصّوا الظهر دون البطن والفخذ، لأنّ الظهر موضع الركوب، فكأنه قال : ركوبك للنكاح عليّ حرام كركوب أمي للنكاح، فأقام الظهر مقام الركوب، وهذا من لطيف الاستعارات للكناية.
﴿ أَدْعِيَآءَكُمْ ﴾ : جمع دَعيّ، وهو الذي يُدعى ابناً وليس بابن، وهو النبي الذي كان في الجاهلية وأبطله الإسلام، وقد تبنّى عليه السلام ( زيد بن حارثة ) قبل النبوة لحكمة جليلة نبينها بعد إن شاء الله.
قال في « اللسان » : والدّعي : المنسوب إلى غير أبيه، والدِّعوة بكسر الدال : أدّعاء الولد الدّعيّ غير أبيه، وقال ابن شُميل : الدَّعوة بالفتح في الطعام، والدِّعوة بالكسر في النسب.
وقد أنكر بعضهم هذه التفرقة.
وقال الشاعر :
دعيّ القوم ينصرُ مدّعيه ليُلحقه بذي النسب الصّميم
أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه إذا افتخروا بقَيْسٍ أو تميم
﴿ أَقْسَطُ ﴾ : بمعنى أعدل أفعل تفضيل، يقال : أقْسَط إذا عدل، وقَسَط إذا جار وظلم، فالرباعي ( أقسط ) يأتي اسم الفاعل منه ( مُقْسِط ) بمعنى عادل ومنه قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين ﴾ [ الحجرات : ٩ ] والثلاثي ( قَسَط ) يأتي اسم الفاعل منه ( قاسط ) بمعنى جائر ومنه قوله تعالى :﴿ وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً ﴾ [ الجن : ١٥ ] فكأن الهمزة في أقسط للسلب، كما يقال : شكا إله فأشكاه، أي أزال شكواه.
والقِسط : العدل قال تعالى :﴿ وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط ﴾ [ الرحمن : ٩ ].
﴿ ومواليكم ﴾ : أي أولياؤكم في الدين، جمع مولى وهو الذي بينه وبين غيره حقوق متبادلة كما بين القريب وقريبه، والمملوك سيّده.
ومعنى الآية : فإن لم تعرفوا آباءهم أيها المؤمنون فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه، فليقل أحدكم : يا أخي، أو يا مولاي، يقصد بذلك الأخوّة والولاية في الدين.
﴿ غَفُوراً ﴾ : يغفر ذنوب عباده، ويكفّر عنهم السيئات إذا تابوا ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ].
﴿ رَّحِيماً ﴾ : بعباده ومن رحمته أنه رفع الإثم عن المخطئ، ولم يؤاخذه على خطئه.
المعنى الإجمالي
أمر الله تبارك وتعالى نبيّه الكريم بالتقوى واجتناب المحارم، وحذّره من طاعة الكفار والمنافقين، لأنهم اعداء الله ورسوله، وأعداء المؤمنين، لا يؤتمنون على شيء، ولا يستشارون في أمر، فظاهرهم غير باطنهم، وصورتُهم غير حقيقتهم، لذلك ينبغي الحذر منهم، وعدم الاستجابة لهم، والإعراض عنهم لأنهم فسقة خارجون عن طاعة الله تعالىّ.
420
والخطاب وإن كان في صورته موجهاً للنبي عليه السلام، لكنّه في الحقيقة تعليم للأمة، وإرشاد لها؛ لتسلك طريق التقوى، وتعمل تهدي القرآن.
وقد استحدث أهل الجاهلية بدعاً غريبة، ومنكراتٍ كثيرة، زعموا أنّها من الدين، فنزل القرآن الكريم مبطلاً لهذه البدع، مغيّراً تلك الخرافات والأباطيل، بالحق الساطع، والبرهان القاطع، مقرراً الأمر على أساس المنطق السليم.
يقول الله تعالى ما معناه :« يا أيها النبي تحل بالتقوى، وتمسّك بطاعة الله، ولا تطع أهل الكفر والنفاق فيما يدعونك إليه من اللين والتساهل وعدم التعرض لآلهتهم بسوء، فإنّ الله عالم بأحوال العباد، لا تخفى عليه خافية، واتّبْع ما يوحيه إليك ربك، من الشرع القويم، والدين الحكيم، ولا تخش وعيد أحدٍ من المشركين، فإنّ الله معك فتوكل عليه، والجأ في جميع أمورك إليه، فهو الحافظ والناصر. ثم ردّ تعالى مزاعم أهل الجاهلية، وما هم عليه من ضلالٍ وعنادٍ، فبيّن أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، فكذلك لا يمكن أن تصبح الزوجة المظاهر منها أماً، ولا الولد المتبنّى ابناً، لأن الأم الحقيقية هي التي ولدته ﴿ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ ﴾ [ المجادلة : ٢ ] والابن الحقيقي هو الذي جاء من صلب ذلك الرجل فلا يمكن لإنسان أن يكون له أبوان، فكيف يزعمون أنّ هؤلاء الزوجات أمهات!! وكيف يجعلون أبناء الآخرين أبناءً لهم، مع أنهم ليسوا من أصلابهم!!
ذلك هو محض الكذب والافتراء على الله، والله يقول الحق ويهدي إلى أقوم طريق.
ثم أمر تعالى بنسبة هؤلاء إلى آبائهم، لأنه أعدل وأقسط فقال : فإن لم تعرفوا - أيها المؤمنون - آباءهم، فهم إخوانكم في الدين، وأولياؤكم فيه، فليقل أحدكم : يا أخي ويا مولاي يقصد أخوّة الدين وولايته، وليس عليكم ذنب فيما أخطأتم به ولكنّ الذنب والإثم فيما تعمدت قلوبكم وكان الله غفوراً رحيماً، يغفر لعباده زلاتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم.
سبب النزول
روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمة أسباباً عديدة نذكر أصحها وأجمعها :
أولاً : رُوي أنّ أبا سفيان بن حرب، وعكرمه بن أبي جهل، وأبا الأعور السّلمي، قدموا على رسول الله ﷺ في الموادعة التي كانت بينهم، فنزلوا على عبد الله بن أبيّ، ومُعتّب بن قُشَيْر، والجدّ بن قيس، فتكلموا فيما بينهم، وأتو رسول الله ﷺ فدعوه إلى أمرهم، وعرضوا عليه أشياء، وطلبوا منه أن يرفض ذكر ( اللاَّت والعُزى ) بسوء. وأن يقول : إنّ لها شفاعة، فكره ﷺ ذلك، ونزلت هذه الآية :﴿ ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ﴾.
ثانياً : وروي أنّ رجلاً من قريش يُدعى ( جميل بن مَعْمَر الفِهْري ) كان لبيباً، حافظاً لما سمع، فقالت قريش : ما حفظ هذه الأشياء إلاّ وله قلبان في جوفه، وكان يقول :»
إن لي قلبين أعقل بكلّ واحدٍ منهما أفضل من عقل محمد «، فلمّا كان يوم بدر، وهُزِم المشركون - وفيهم يومئذٍ جميل بن مَعْمر - تلقَّاه ( أبو سفيان ) وهو معلّق إحدى نعليه بيده، والأخرى في رجله، فقال له : ما حال الناس؟ فقال : انهزموا، قال : فما بال إحدى نعليك في يدك، والأخرى في رجلك؟
قال : ما شعَرْتُ إلاّ أنهما في رجليّ!!
فعرفوا يومئذٍ أنه لو كان له قلبان لما نسيَ نعله في يده فأنزل الله تعالى { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ.
421
.. } الآية.
ثالثاً : وروى السيوطي عن مجاهد رضي الله عنه أن النبي ﷺ تبنّى ( زيد بن حارثة ) وأعتقه قبل الوحي، فلمذا تزوّج رسول الله ﷺ زينب بنت جحش قال اليهود والمنافقون : تزوّج محمد امرأة ابنه وهو ينهى الناس عنها فنزل قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ﴾.
رابعاً : وروى البخاري في « صحيحه » عن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ما كنّا ندعو ( زيد بن حارثة ) إلاّ زيد بن محمد، حتى نزلت الآية الكريمة ﴿ ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله... ﴾.
وجوه القراءات
أولاً : قرأ الجمهور ﴿ إنّ اللَّهَ بما تَعْملون ﴾ بتاء الخطاب، وقرأ أبو عمرو ﴿ يعملون ﴾ بياء الغَيْبة، قال أبو حيّان : وعلى قراءة أبي عمرو يجوز أن يكون من باب الالتفات.
ثانياً : قرأ الجمهور ﴿ اللاّئي تُظَاهرون منهنّ ﴾ بالهمز وياء بعدها، وقرأ ( أبو عمرو ) بياء ساكنة ﴿ واللايْ ﴾ بدلاً من الهمزة، وهي لغة قريش وقرأ ( ورش ) بياء مختلسة الكسرة.
ثالثاً : قرأ الجمهور ﴿ تُظَاهرون منهنّ ﴾ بضم التاء، وفتح الظّاء، من ظاهر وقرأ ( أبو عمرو ) بشدّ الظاهر ﴿ تَظّاهرون ﴾ وقرأ هارون ﴿ تَظْهَرون ﴾ بفتح التاء والهاء، وقد ذكر أبو حيّان في تفسيره « البحر المحيط » أنّ فيها تسع قراءات.
رابعاً : قرأ الجمهور ﴿ وهو يَهْدي السّبيلَ ﴾ بفتح الياء مضارع هدى، وقرأ قتادة ﴿ يُهَدِّي ﴾ بضم الياء وفتح الهاء وتشديد الدال...
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى :﴿ مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ ﴾ جعل هنا بمعنى ( خلق ) فهي تنصب مفعولاً واحداً، بخلاف قوله ﴿ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ﴾ فإنها بمعنى :( صيّر ) تنصب مفعولين، وقوله :( من قلبين ) مِنْ صلة ( أي زائدة ) و ( قلبين ) مفعول جعل، و ( في جوفه ) متعلق بجَعَل.
ثانياً : قوله تعالى :﴿ والله يَقُولُ الحق ﴾... الحقّ : منصوب لوجهين :
أحدهما : أن يكون مفعولاً ل ( يقول ).
والثاني : أن يكون صفة لمصدر محذوف تقديره : والله يقول القول الحق.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ ( ما ) يجوز فيها وجهان : الجرّ بالعطف على ( ما ) في قوله تعالى :﴿ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾.
والرفعُ على الابتداء وتقديره : ولكنْ ما تعمدت قلوبكم يؤاخذكم به.
422
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : نادى الله تعالى نبيّه بلفظ النبوة ﴿ ياأيها النبي ﴾ كما ناداه جلّ ثناؤه بوصف الرسالة ﴿ ياأيها الرسول ﴾ [ المائدة : ٤١ ] ونداءُ اللَّهِ تعالى لنبيّه الكريم بلفظ ( النبوة ) أو وصف ( الرسالة ) فيه تعظيم لمقام الرسول ﷺ وفيه إشارة إلى أفضليته عليه السلام على جميع الأنبياء. كما فيه تعليم لنا الأدب معه، فلا نذكره إلاّ بالإجلال والإكرام، ولا نصفه إلاّ بما يدل على التوقير والتعظيم ﴿ لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً... ﴾ [ النور : ٦٣ ].
قال أبو حيان في تفسيره « البحر المحيط » ما نصُّه :
« نداء النبي ﷺ ب ( يا أيها النبي ) ( يا أيها الرسول ) هو على سبيل التشريف والتكرمة، والتنويه بمحلّه وفضيلته، وجاء نداء غيره باسمه كقوله : يا آدم، يا نوح، يا إبراهيم، يا موسى، يا داود، يا عيسى.. وحيث ذكره على سبيل الإخبار عنه بأنه رسوله، صرّح باسمه فقال :﴿ مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله ﴾ [ الفتح : ٢٩ ] ﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ ﴾ [ آل عمران : ١٤٤ ] أعلم أنّه رسوله، ولقّنهم أن يسمّوه بذلك.
وحيث لم يقصد الإعلام بذلك جاء اسمه كما جاء في النداء - يعني بوصف النبوة أو الرسالة - كقوله تعالى :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] وقوله :﴿ وَقَالَ الرسول يارب ﴾ [ الفرقان : ٣٠ ] وقوله :﴿ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ [ الأحزاب : ٦ ].
اللطيفة الثانية : فإن قيل : ما الفائدة في أمر الله تعالى رسوله بالتقوى، وهو سيّد المتقين؟!
فالجواب أنه أمرٌ بالاستدامة على التقوى كقوله تعالى :﴿ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ ﴾ [ النساء : ١٣٦ ] أي أثبتوا على الإيمان، وقوله :﴿ اهدنا الصراط المستقيم ﴾ [ الفاتحة : ٦ ] بمعنى ثبتنا على الصراط المستقيم.
وقيل : إن الأمر خطاب للرسول ﷺ موجه إليه في الظاهر. والمراد به أمته، بدليل صيغة الجمع التي ختمت بها الآية الكريمة ﴿ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾.
قال الإمام الفخر رحمه الله :»
الأمرُ بالشيء لا يكون إلاّ عند عدم اشتغال المأمور، بالمأمور به، إذ لا يصلُح أن يقال للجالس : اجلس، وللساكت : اسكت، والنبيّ عليه السلام كان متقياً لله فما الوجه فيه؟ فالجواب من وجهين :
أحدهما : أنه أمر بالمداومة، فإنه يصح أن يقول القائلُ للجالس : اجلس هاهنا إلى أن أجيئك، ويقول الفائلُ للساكت : قد أصبتَ فاسكتْ تسلَمْ، أي دمْ على ما أنتَ عليه.
والثاني : أن النبيّ عليه السلام كلّ لحظة كان يزداد علمثه ومرتبتُه، فكان له في كل ساعة تقوى متجدّدة. فقوله :( اتق الله ) يراد منه الترقي الدائم، فحاله فيما مضى كأنه بالنسبة إلى ما هو فيه ترك للأفضل، فناسب الأمر به ﷺ بالتقوى.
اللطيفة الثالثة : السرّ في تقديم القلبين في قوله تعالى :﴿ مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ ﴾ على بقية الأمور التي كان يعتقد بها أهل الجاهلية، هو أنه بمثابة ضرب مثل، والمثلُ ينبغي أن يكون أظهر وأوضح فهناك أمور ثلاثة باطلة هي من مخلّفات الجاهلية، فكونُ الرجل له قلبان أمر لا حقيقة له في الواقع، وجعلُ ( المُظَاهَر ) منها أمّاً أو كالأم في الحرمة المؤبدة من أمر لا حقيقة له في الواقع، وجعلُ ( المُظَاهَر ) منها أمّاً أو كالأم في الحرمة المؤبدة من مخترعات الجاهلية، وجعل ( المتبنّى ) باناً في جميع الأحكام مما لا يقرّه شرع.
423
ولمّا كان أظهرَ هذه الأمور في البعد عن الحقيقة كونث الرجل له قلبان، قدّم الله جلّ ثناؤه ذلك، وضربه مثلاً للظهار، والتبني. فكأنّ الآية تقول : كما لا يكون لرجلٍ قلبان، لا تكون المظاهَرث منها أمّاً، ولا المتبنّى ابناً، والله أعلم بأسرار كتابه.
اللطيفة الرابعة : التنكير في قوله تعالى :﴿ مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ ﴾ وإدخال ( مِنْ ) على الجملة بعده في قوله ( مِنْ قلبين ) يفيد العموم والاستغراق، ومعنى الآية : ما خلقَ اللَّه لرجلٍ إطلاقاً، أي رجلٍ كان قلبين في جوفه. فهو نفي للشيء بطريق ( التأكيد والاستغراق ).
وذكرُ الجوف وإن كان من المعلوم أ ن ّ القلب لا يكون إلا بالجوف لزيادة التصوير في الإنكار، والتكذيب للمدّعى، فهو كقوله تعالى :﴿ ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور ﴾ [ الحج : ٤٦ ].
فإذا سمع الإنسان ذلك، تصوّر لنفسه جوفاً يشتمل على قلبين. فسارع عقله إلى إنكاره.
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ ذلكم قَوْلُكُم بأفواهكم ﴾ فيه إشارة لطيفة إلى أنّ هذا القول مجرّد كلام صادر من الأفواه فقط، وليس له ظلّ من الحقيقة أو مصداق من الواقع. كما نقول :( هذا خبرٌ على ورق ) أي ليس له وجود أو تطبيق.
قال الزمخشري :( من المعلوم أنّ القول لا يكون إلا بالفم. فلماذا ذكر قوله ( بأفواهكم ) ؟ الجواب : أنّ فيه إ شارة إلى أنّ هذا القول. ليس له من الحقيقة والواقع نصيب. إنما هو مجرد إدعاء باللسان. وقول مزعوم باطل نطقت به شفاههم دون أن يكون له نصيب من الصحة ) والله أعلم.
اللطيفة السادسة : قوله تعالى :﴿ والله يَقُولُ الحق ﴾ الآية.
قال الإمام الفخر : فيه إشارة إلى معنى لطيف. وهو أن العاقل ينبغي أن يكون قوله إما عن عقل. وإمّا عن شرع. وفي الدّعي ( الولد المتبنّى ) لم توجد الحقيقة. ولا ورد الشرع. فإنّ قولهم : هذه زوجة الابن المتبنّى فتحرم. والله تعالى يقول : هي لك حلال. فقولهم لا اعتبار به لأنه قول من الأفواه مجرد عن الحقيقة كأصوات البهائم، وقول الله حق فيجب اتباعه. وهو خير من أقوالكم التي عن قلوبكم. فكيف تكون نسبته إلى أقوالكم التي بأفواهكم!؟.
اللطيفة السابعة : صيغة ( فعيل ) في اللغة العربية تفيد المبالغة، فقوله تعالى :﴿ وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً ﴾ [ النساء : ١٧ ] إنما يقصد به المبالغة، لأن الصيغة تقتضي ذلك، ففرق في التعبير بين قولك ( عالم، وعليم، وعلاّم ) فالأولى ليس فيها إلا إثبات العلم، وأما الثانية والثالثة ففيهما المبالغة، لأنّ ( فعّال وفعيل ) من صيغ المبالغة كما قال ابن مالك :
424
فَعَالٌ أو مِفْعَالٌ أو فَعُولُ في كَثْرةٍ عن فَاعِلٍ بديلُ
فيستحقّ مالَهُ منْ عَمَل وفي فَعِيلٍ قلّ ذا وفعِل
فالمراد في الآية الكريمة من لفظه ( عليم ) أنه جلّ جلاله قد أحاط علمه بكل الأشياء، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء. و ( الحكيم ) المبالغ في الحكمة الذي تناهت حكمته فشملت الأمر العظيم والشيء اليسير وكل ما جاء على ذلك الوزن إنما يقصد به المبالغة فتدبره.
اللطيفة الثامنة : كانت العرب تزعم أنّ كل لبيبٍ أريب له في جوفه قلبان، وقد اشتهر ( جميل بن مَعْمر ) عند أهل مكة بذكائه وقوة حفظه، فكانوا يسمونه بذي القلبين، وكانوا يخصونه بالمديح في أشعارهم كما قال بعض الشعراء :
وكيفَ ثَوَائي بالمدينَةِ بعدَما قَضَى وَطْراً منها جميلُ بن مَعْمر
وكان هذا الجهول يقول : أنا أذكى من محمد وأفهم منه. فلمّا بلغته هزيمة بدر طاش لبه، وحدّث أبا سفيان بحديثٍ كان فيه كالمختل. وهو يحمل إحدى نعليه بيده، والأخرى يلبسها في رجله وهو لا يدري، فظهر للناس كذبه. وافتضح على رؤوس الأشهاد أمره.
اللطيفة التاسعة : قوله تعالى :﴿ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ﴾.. أفعل التفضيل ليس ( على بابه ) لأنّ نسبتهم إلى غير آبائهم ظلم وعدوان، فلا يقصد إذن التفضيل وإنما يقصد به الزيادة مطلقاً.
والمعنى : دعاؤهم لآبائهم بالغ في العدل والصدق نهايته. وهو القسط والعدل في حكم الله تعالى وقضائه.. وجوّز بعضهم أن يكون ( على بابه ) جارياً على سبيل التهكّم بهم. والمعنى : دعاؤهم لغير آبائهم إذا كان فيه خير وعدل فهذا أقسط وأعدل ويكون ذلك جارياً مجرى التهكم والله أعلم.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل تقع المعصية من الأنبياء؟
من المعلوم أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم معصومون عن ارتكاب الذنوب والمعاصي. فإنّ ( العصمة ) من صفاتهم. فلا يمكن أن تقع معصية من الأنبياء أو تحصل منهم مخالفة لأوامر الله تعالىّ. لأنهم القدوة للخلق وقد أُمِرْنا باتّباعهم. فلو جاز عليهم الوقوع في المعصية لأصبحت طاعتهم غير واجبة أو أوصبحنا مأمورين باتباعهم في الخير والشر. لذلك عصمهم الله من الذنوب والآثام، فكل ما ورد في القرآن الكريم مما ظاهره يخالف ( عصمة الأنبياء ) فلا بدّ من فهمه على الوجه الصحيح حتى لا يتعارض مع الأصل العام. فقوله تعالى هنا ﴿ وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين ﴾ لا يفهم منه أنه ﷺ مال إلى طاعتهم، أو أحبّ موافقتتهم على ما هم عليه من نفاقٍ وضلال. وإنما هو تحذيرٌ للأمة جاء في صورة خطابٍ للرسول عليه السلام ومما يدل عليه قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ﴾ حيث جاء بصثغة الجمع وقد عرفت ما فيه.
الحكم الثاني : هل الظهارمحرّم في الشريعة الإسلامية؟
دلت الآيات الكريمة على أن الظهار كان من العادات المتّبعة في الجاهلية وكان من أشدّ أنواع الطلاق.
425
حيث تثبت به ( الحرمة المؤبدة ) وتصبح الزوجة المظاهَرُ منها - في اعتقادهم - أماً كالأم من النسب، فأبطل الإسلام ذلك، واعتبره بهتاناً وضلالاً، وحرّم الظهار ولكنه جعل حرمته مؤقتة إلى أن يكفّر عن ظهاره. قال تعالى :﴿ الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ﴾ [ المجادلة : ٢ ] فالظهار في الإسلام منكر ولكن له كفارة يتخلص بها الإنسان من الإثم، وستأتي أحكام الظهار مفصّلة إن شاء الله عند تفسير سورة المجادلة.
الحكم الثالث : هل يجوز التبني في الإسلام؟
كما أبطل الإسلام الظهار أبطل ( التبني ) وجعله محرماً في الشريعة الإسلامية لأن فيه سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« من ادّعى إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله تعالى منه صَرْفاً ولا عدلاً ».
وجاء في الحديث الصحيح :« ليس من رجلٍ ادّعى لغير أبيه وهو يعلم إلاّ كفر ».
وقال ﷺ :« من ادّعى إلى غير أبيه - وهو يعلم أنه غير - فالجنة عليه حرام ».
قال في « تفسير روح المعاني » :« وظاهر الآية حرمة تعمد دعوة الإنسان لغير أبيه، ولعلّ ذلك فيما إذا كانت الدعوة على الوجه الذي كان في الجاهلية.. وأما إذا لم يكن كذلك كما يقول الكبير للصغير على سبيل ( التحنن والشفقة ) يا ابني، وكثيراً ما يقع ذلك فالظاهر عدم الحرمة ».
وقال ( ابن كثير ) في تفسيره :( فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبُّب، فليس مما نهي عنه في هذه الآية بدليل ما روي عن ( ابن عباس ) رضي الله عنهما قال : قدمنا رسول الله ﷺ أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من جمع، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول : أُبَيْنِيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس ).
كما نادى النبي ﷺ أنساً فقال له : يا بنيّ.
الحكم الرابع : ما المراد بالخطأ والعمد في الآية الكريمة؟
نفى الله سبحانه وتعالى الجُناح ( الإثم ) عمن أخطأ، وأثبته لمن تعمّد دعوة الرجل لغير أبيه وقد اختلف المفسرون في المراد من ( الخطأ والعمد ) في الآية الكريمة على قولين :
أ- ذهب ( مجاهد ) إلى أنّ المراد بالخطأ هنا ما كان قبل ورود النهي والبيان، والعمد ما كان بعد النهي والبيان.
ب- وذهب ( قتادة ) إلى أن الخطأ هنا ما كان من غير قصد فقد أخرج ( ابن جرير ) عن قتادة أنه قال في الآية :( لو دعوت رجلاً لغير أبيه، وأنت ترى أي ( تظنّ ) أنه أبوه، لم يكن عليك بأس، ولكن ما تعمّدت وقصدتَ دعاءه لغير أبيه ) أي فعليك فيه الإثم.
426
فعلى الرأي الأول يكون المراد بالخطأ الذي رفع عنهم فيه الإثم هو تسميتهم ( الأدعياء ) أبناء قبل ورود النهي. وأنّ العمد الذي ثبت فيه الإثم هو ما كان بعد ورود النهي، ويصبح معنى الآية : ليس عليكم إثم أو حرج فيما فعلتموه بعد الإسلام، وبيان الأحكام.
وعلى الرأي الثاني يكون المراد بالخطأ ما وقع منهم عن غير قصد أو تعمد، والعمد ما كان عن إصرار وقصح، ويصبح معنى الآية : ولا جناح عليكم فيما سبق إليه اللّسان على سبيل الغلط من نسبة الإنسان إلى غير أبيه بطريق الخطأ أو النسيان، وأمّا ما تقصّدتم نبته إلى غير أبيه مع علمكم بأنّ هذا الولد من غيره فعليكم الإثم والحرج.
وقد رجّح أبو حيّان في تفسيره « البحر المحيط » الرأي الثاني، وضعّف الأول وقال :( قوله تعالى :﴿ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ﴾ قيل : المراد به رفع الحرج عنهم فيما كان قبل النهي، وهذا ضعيف، لا يوصف بالخطأ ما كان قبل النهي.
وقيل : فيما سبق إليه اللسان، إمّا على سبيل الغلط، أو على سبيل التحنّن والشفقة، إذ كثيراً ما يقول الإنسان للصغير : يا بني، كما يقول للكبير : يا أبي على سبيل التوقير والتعظيم ).
الحكم الخامس : ما هو حكم الاستلحاق في الشريعة الإسلامية؟
الاستلحاق الذي أباحه الإسلام، ليس من التبنّي المحرم المنهيّ عنه في شيء، فإنّ من شرط الحلّ في الاستلحاق الشرعي أن يعلم ( المستلحق ) بكسر الحاء أنّ ( المستلحَق ) بفتح الحاء ابنه. أو يظنّ ذلك ظناً قوياً، وحينئذٍ شرع له الإسلام استلحاقه. وأحلّه له. وأثبت نسبه منه. بشروط مبينة في كتب الفقه. أمّا التبنّي المنهيّ عنه فهو دعوى الولد مع القطع بأنه ليس ابنه، وأين هذا من ذاك؟
الحكم السادس : هل يباح قول : يا أخي أو يا مولاي؟
ظاهر الآية الكريمة ﴿ فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فإخوانكم فِي الدين ومواليكم ﴾ أنه يباح أن يقال في دعاء من لم يُعْرف أبوه : يا أخي، أو يا مولاي، إذا قصد الأخوّة في الدين، والولاية فيه، لا أخوّة النسب وقرابته، فإن الله تعالى جعل المؤمنين إخوة ﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ [ الحجرات : ١٠ ] ومعلوم أنه لا يراد بها أخوّة النسب فدلّ على جواز قول المسلم : هذا أخي يقصد بها أخوّة الإسلام وقرابة الدّين.
وخصّ بعض العلماء ذلك بما إذا لم يكن المدعوّ فاسقاً. وكان دعاؤه ب ( يا أخي ) أو ( يا مولاي ) تعظيماً له فإنه يكون حراماً، لأننا نُهينا عن تعظيم الفاسق، فمثل هذا يُدْعى باسمه، أو بقولك : يا عبد الله، أو يا هذا، ففي الحديث الشريف ( لا تقولوا للمنافق يا سيّد، فإنه إن يك سيّداً فقد إغضبتم ربكم ).
427
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - تقوى الله تعالى زاد المؤمن. ووصية الله في الأولين والآخرين.
ثانياً - من شروط الإيمان التوكل على الله، والالتجاء إليه في جميع الأحوال والأوقات.
ثالثاً - الخرافات والأساطير ليس لها وجود في شريعة الإسلام ولذلك حذّر الإسلام منها.
رابعاً - ادعاء أنّ الرجل الأريب اللبيب له في جوفه قلبان دعوى باطلة مخالفة للشرع والعقل.
خامساً - الاعتقاد بأن الزوجة ( المظاهَر منها ) تصبح أماً من مزاعم الجاهلية الجهلاء.
سادساً - حرمة ( التبنّي ) في الإسلام، ووجوب دعوة الأبناء ونسبتهم إلى آبائهم.
سابعاً - جواز قول الإنسان يا ( أخي ) ويا ( مولاي ) إذا قصد أخوّة الدين وولايته.
ثامناً - الله تعالى رحيم لا يؤاخذ العبد على ما صد منه عن خطأ بل يعفو عنه ويغفر.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
« بدعة التبني في الجاهلية »
أشرقت شمس الإسلام على الإنسانية، والمة العربية لا تزال تتخبّط في ظلمات الجاهلية، وتعيش في ضلالات وأوهام، وتعتقد بخرافات وأساطير ما أنزل الله بها من سلطان، هي من بقايا مخلّفات ( العصر الجاهلي ) التي ورثوها عن آبائهم وأجدادهم.
وما كان الإسلام ليتركهم في ضلالهم يتخبَّطون، وفي سَكْرتهم يعمهون دون أن ينقذهم مما هم فيه من سفهٍ، وجهالة، وكفر، وضلالة!!
فكان من رحمة الله تعالى أن أنتشل الأمة العربية، من أوحال الجاهلية. وخلّصها من تلك العقائد الزائغة، والأوهام الباطلة، وغذاها بلَبَان الإيمان، حتى أصبحت خير أُمّة أُخْرجت للناس.
ولقد كانت ( بدعة التبنّي ) من أظهر بدع الجاهلية، وتفشّت هذه البدعة حتى أصبحت ديناً متوارثاً، لا يمكن تعطيله أو تبديله لأنه دين الآباء والأجداد، ﴿ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٢٣ ].
كان العربي في الجاهلية. يتبنّى الرجل منهم ولد غيره، فيقول له :( أنتَ ابني أرثك وترثني ) فيصبح ولده وتجري عليه أحكام البنوّة كلها. من الإرث، والنكاح، والطلاق، ومحرمات المصاهرة، وغير ذلك مما يتعلق بأحوال الابن الصلبي على الوجه الشرعي المعروف.
ولحكمةٍ يريدها الله عزّ وجلّ ألهم نبيّه الكريم - قبل البعثة والنبوة - أن يتبنى أحد الأبناء. جرياً على عادة العرب في التبني. ليكون ذلك تشريعاً للأمة في إنهاء التبني. وإبطال تلك البدعة المنكرة، التي درج عليها العرب ردحاً طويلاً من الزمن.
فتبنى رسول الله ﷺ أحد الأبناء، هو ( زيد بن حارثة ) وأصبح الناس منذ ذلك الحين يدعونه ( زيد بن محمد ) حتى نزل القرآن الكريم بالتحريم فتخلّى الرسول ﷺ عن تبنّيه، وعاد نسبه إلى أبيه فأصبح يدعى زيد بن حارثة بن شرحبيل.
أخرج البخاري ومسلم في « صحيحهما » عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال :« إنّ زيد بن حارثة، مولى رسول الله ﷺ. ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمد، حتى نزل القرآن ﴿ ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ﴾ فقال النبي ﷺ : أنت زيد بن حارثة بن شرحبيل ».
428
أما سبب تبنّيه عليه السلام لزيد قبل البعثة - مع كراهته الشديدة لعادات الجاهلية - فهو لحكمةٍ يريدها الله، ولقصةٍ من أروع القصص حدثت معه ﷺ.
وخلاصة القصة : أنّ زيداً كان مع أمه عند أخواله من بني طي، فأغارت عليهم قبيلة من قبائل العرب، فسلبتهم أموالهم وذراريهم - على عادة أهل الجاهلية في السلب والنهب - فكان زيد من ضمن من سُبي فقدموا به مكة فباعوه، فاشترته السيدة ( خديجة بنت خويلد ) فلما تزوجها رسول الله ﷺ أُعْجِبَ بنبوغه وذكائه، فوهبته له فبقي عند رسول الله عليه السلام يخدمه ويرعى شؤونه.
وكان أبوه ( حارثة بن شرحبيل ) بعد سبيه يبكي عليه الليل والنهار، وينشد فيه الأشعار، وقد ذكر العلامة القرطبي قصيدةً طويلة من شعر حارثة في الحنين لولده مطلعها :
بكيتُ على زيدٍ ولم أدرِ ما فعل أحيٌ يُرَجّى أم أتى دونه الأجلُ
تُذكّرُنِيْهِ الشمسُ عند طُلوعِها وتَعْرضُ ذِكْراه إذا غرْبُها أفل
وبلغ ( حارثةَ ) الخبرُ بأنّ ولده عند محمد ﷺ في مكة، فقدم مع عمه، حتى دخل على رسول الله، فقال يا محمد : إنكم أهل بيت الله، تفكّون العاني وتطعمون الأسير، ابني عندك فامنن علينا فيه، وأحسن إلينا في فدائه، فإنك ابن سيّد قومه، ولك ما أحببت من المال في فدائه!!
فقال رسول الله ﷺ : أعطيكم خيراً من ذلك، قالوا ما هو؟ قال : أخيّره أمامكم، فإن اختاركم فهو لكم بدون فداء، وإن اختارني فما أنا بالذي أرضى على من اختارني فداءً، فقالوا : أحسنتَ فجزاك الله خيراً.
فدعاه رسول الله ﷺ فقال يا زيد : أتعرف هؤلاء؟ قال : نعم، هذا أبي، وهذا عمي، فقال يا زيد : هذا أبوك، وهذا عمك، وأنا من عرفت، فاختر من شئت منا، فدمعت عينا زيد وقال : ما أنا بمختارٍ عليك أحداً أبداً، أنت مني منزلة الوالد والعم.
فقال له أبوه وعمه : ويحك يا زيد، أتختار العبودية على الحرية؟ فقال زيد : لقد رأيت من هذا الرجل من الإحسان، ما يجعلني لا استيطع فرقه وما أنا بمختار عليه أحداً أبداً.
فخرج رسول الله ﷺ إلى الناس وقال : اشهدوا أنّ زيداً ابني أرثه، ويرثني.. فطابت نفس أبيه وعمه لما رأوا من كرامة زيد عليه ﷺ. فلم يزل في الجاهلية يدعى ( زيد بن محمد ) حتى نزل القرآن الكريم. ﴿ ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ﴾ فدُعي زيد بن حارثة. ونزل قوله تعالى :﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين... ﴾ [ الأحزاب : ٤٠ ] الآية.
وانتهى بذلك حكم التبني. وبطلت تلك البدعة المستحدثة بتشريع الإسلام الخالد.
429
[ ٢ ] الإرث بقرابة الرحم
التحليل اللفظي
﴿ النبي أولى ﴾ : الإخبار بلفظ النبوّة مشعر ب ( التعظيم والتكريم ) لمقامه الشريف ﷺ وكلُّ ما ورد من الخطاب، أو الإخبار بلفظ النبوة، أو الرسالة فإنما هو لإظهار شرف النبي ﷺ ورفع مقامه، ومعنى ( أولى ) أي أحق وأجدر وهو ( أفعل تفضيل )، لبيان أن حق الرسول أعظم الحقوق فهو أولى بالمؤمن من نفسه، ومهما كانت ولاية الإنسان على نفسه عظيمة فولايته ﷺ عليها أعظم، وحكمه أنفذ، وحقه ألزم.
﴿ وأزواجه أمهاتهم ﴾ : أي منزّلات منزلة الأمهات في وجوب الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح أما فيما عدا ذلك من الأمور كالنظير إليهن، والخلوة بهن، وإرثهن فهنَّ كالأجنبيات.
قال ( ابن العربي ) : ولسن لهم بأمهات، ولكن أنزلن منزلتهن في الحرمة، وكلّ ذلك تكرمة للنبي ﷺ وحفظاً لقلبه من التأذي بالغيْرة، وذلك من خصوصياته ﷺ.
﴿ وَأُوْلُو الأرحام ﴾ : أي أهل القرابة وأصحاب الأرحام. والأرحام جمع رَحِم وهو في الأصل مكان تكوّن الجنين في بطن أمّه ثم أطلق على القرابة.
ومعنى الآية : أهل القرابة مطلقاً أحق بإرث قريبهم من المؤمنين والمهاجرين لأنّ لهم صلة القرابة به، وقوله تعالى :﴿ مِنَ المؤمنين والمهاجرين ﴾ متعلّق ( بأولى ) أي أحق بالإرث من المؤمنين والمهاجرين، وليست متعلقة ( بأولو الأرحام ) نبَه عليه ابن العربي والقرطبي.
﴿ أولى بِبَعْضٍ ﴾ : أي في التوارث، وقد كان الإرث في صدر الإسلام بالهجرة والمؤاخاة في الدين، فنسخ الله ذلك وجعل التوارث بالنسب والقرابة، روي عن الزبير رضي الله عنه أنه قال : لمّا قدمنا معشرَ قريش المدينة، قدمنا ولا أموال لنا، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فآخيناهم فأورثونا وأورثناهم، فآخى أبو بكر ( خارجة بن زيد ) وآخيتُ ( كعب بن مالك ) فوالله لو قد مات عن الدنيا ما ورثه غيري حتى أنزل الله ﴿ وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله ﴾ فرجعنا إلى موارثنا.
﴿ فِي كتاب الله ﴾ : المراد بالكتاب هنا ( القرآن العظيم ) أي فيما أنزله في القرآن من أحكام المواريث وقيل : المراد به ( اللوح المحفوظ )، والقول الأول أظهر وأرجح.
﴿ أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً ﴾ : المراد بالأولياء هنا هم ( المؤمنون والمهاجرون ) المذكورون في أول الآية والمراد بالمعروف ( الوصية ) والاستثناء في الآية هو ( استثناء منقطع ) على الرأي الراجح، ويصبح معنى الآية : أولو الأرحام أحق بالإرث من غيرهم فلا تورّثوا غير ذي رحم لكن فعلكم إلى أوليائكم من المؤمنين والمهاجرين الأجانب بأن توصوا لهم فإنّ ذلك جائز بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام الوراثين.
﴿ مَسْطُوراً ﴾ : أي مثبتاً بالأسطار في القرآن الكريم، أو حقاً مثبتاً عند الله تعالى لا يُمْحَى.
المعنى الإجمالي
أخبر الباري تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن مقام النبي الرفيع، وشرفه السامي فبيّن أنه أحق بالمؤمنين من أنفسهم، وأن حقه أعظم من حقوق أنفسهم عليهم، وأن أمره ينبغي أن يقدّم على كل أمر، وحبّه ينبغي أن يفوق كل حبّ، فلا يُعصى له أمر، ولا يُخالف في صغيرة أو كبيرة، لأنّ ذلك من مقتضى ولايته العامّة عليهم، فإذا دعاهم إلى الجهاد عليهم أن يلبّوا أمره مسرعين ولا ينتظروا أمر والد أو والدة، فإنه صلوات الله عليه بمنزلة الوالد لهم، لا يريد لهم إلا الخير، ولا يأمرهم إلا بما فيه خيرهم وصلاحهم وسعادتهم.
430
وكما شرّف الله رسوله الكريم فجعل حقه أعظم الحقوق كذلك فقد شرّف زوجات الرسول الطاهرات فجعلهن أمهات للمؤمنين فأوجب احترامهم وتعظيمهن، وحرّم نكاحهن على الرجال، إكراماً لرسول الله ﷺ وحفظاً لحرمته في حياته وبعد وفاته، وذلك من الخصوصيات التي خصّ الله تعالى بها رسوله الكريم، ثم بيّن تعالى أن ذوي الأرحام أحق بإرث بعضهم البعض من الغير، فالقريب النسيب أحق بميراث قريبه من الأجنبي البعيد إلا إذا أراد الإنسان الوصية فإنّ الأجنبي يكون أحق من القريب لأنه لا وصية لوارث، وهذا الحكم ألا وهو توريث القريب دون الأجنبي هو حكم الله العادل الذي أنزله في دستوره وكتابه المبين، وجعله حكماً لازماً مسطّراً لا يُمْحى، والله تعالى أعلم.
وجه الارتباط بالآيات السابقة
في الآيات السابقة أمر الله المؤمنين بالتخلي عن التبني، كما أمر بدعوة الأبناء الأدعياء لآبائهم ونسبتهم إليهم، وقد كان الرسول الكريم متبنياً ( زيد بن حارثة ) فلما أمر بالتخلّي عنه وبدعوته إلى أبيه أصابت زيداً وحشة، فجاءت هذه الآية عقبها تسلية لزيد، ولبيان أن الرسول ﷺ إن تخلّى عن أبوته فإلى الولاية العامة، والرأفة الشاملة التي تعم المسلمين جميعاً دون تفريق بين ابن من الصلب وغيره، لأن ولايته ﷺ باقية دائمة، فالرسول أحق بالمؤمن من نفسه، وهو كذلك أحق من كل قريبٍ، فهو الآمر الناهي بما يحقق للناس السعادة، وهو ( الأب الروحي ) لكل مؤمن ومؤمنة، وزوجاته الطاهرات هن أمهات للمؤمنين، فلا ينبغي للمؤمن أن يحزن إن تخلّى النبي عن أبوّته من التبني لأن أبوّته الروحية باقية، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب على لامؤمنين أن يكون الرسول أحبّ إليهم من أنفسهم، وأن حكمه عليه السلام أنفذ من حكمها، وحقّه آثر لديهم من حقوقها وصدق عليه السلام حين قال :« والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكونَ أحبّ إليه من والده وولده والناس أحمعين ».
اللهم ارزقنا محبته، وارزقنا اتباعه، واجعله شفيعاً لنا يوم الدين.
سبب النزول
١- روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة أن النبي ﷺ لما أراد غزوة تبوك أمر الناس بالتجهيز والخروج، فقال أناسٌ منهم : نستأذن آباءنا وأمهاتنا، فأنزل الله تعالى فيهم ﴿ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾.
431
٢- وروى القرطبي في تفسيره أن النبي ﷺ كان إذا حضرته جنازة سأل هل على صاحبها دين؟ فإن قالوا : لا، صلى عليها، وإن قالوا نعم قال : صلوا على صاحبكم، قال : فلما فتح الله عليه الفتوح قال ﷺ :« ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرءوا إن شئتم ﴿ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ فأيما مؤمن ترك مالاً ضويق العصبة فيه، وإن ترك ديناً، أو ضياعاً ( عيالاً ضياعاً ) فلياتني فأنا مولاه ».
قال ابن العربي : فانقلبت الآن الحالُ بسبب الذنوب. فإن تركوا مالاً ضويق العصبة فيه، وإن تركوا ضياعاً أُسْلِموا إليه.. فهذا تفسير الولاية المذكورة في هذه الآية بتفسير النبي ﷺ وتبيينه، ولا عطر بعد عروس.
ملاحظة : الأول هو السبب والثاني أي ما رواه البخاري هو تفسير لمعنى الولاية فتنبّه.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : لم يذكر في الآية الكريمة ما تكون في الأولوية بل أطلقت إطلاقاً ليفيد ذلك أولويته ﷺ في جميع الأمور، ثم إنه ما دام أولى من النفس فهو أولى من جميع الناس بالطريق الأولى.
اللطيفة الثانية : ذكر الله تعالى أن أزواج النبي هنّ ( أمهات المؤمنين ) فيكون النبي ﷺ على هذا هو الأب للمؤمنين وقد جاء في مصحف أبيّ بن كعب ( وهو أب لهم ) وقد سمع عمر هذه القراءة فأنكرها وقال : حكّها يا غلام ( أي أمحها ) فقال ابن عباس إنها في مصحف أبيّ، فذهب إليه عمر فسأله فقال له أبيّ : إنه كان يلهيني القرآن، ويلهيك الصفق بالأسواق.
وأمّا قوله تعالى :﴿ وأزواجه أمهاتهم ﴾ ففيه تشبيه يسمى ( التشبيه البليغ ) فقد حذف منه وجه الشبه وأداة الشبه وأصل الكلام : أزواجه مثل أمهاتهم في وجوب الاحترام والتعظيم وحرمة النكاح، وهذا كما تقول : محمد بحر أي أنه كالبحر في الجود والعطاء.
اللطيفة الثالثة : في قوله تعالى :﴿ بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ ﴾ مجاز بالحذف تقدير الكلام : أولى بميراث بعضٍ أو بنفع بعض كما قال الألوسي، وإنما يفهم تخصيص الأولوية هنا بالميراث من سياق الكلام إذ المسلمون جميعاً بعضهم أولى ببعض في التناصر والتراحم، يسعى بذمتهم أدناهم وهم يد على من سواهم كما ورد في الحديث الشريف؛ فلا تكون الأولوية بين أولى الأرحام إلا بالإرث إذ لا وجه لتخصيصهم بالنصرة أو الجماعة أو التعاون فإن ذلك واجب لجميع المسلمين.
تنبيه :
جمهور المفسرين على أن ( مِنْ ) في قوله تعالى :﴿ مِنَ المؤمنين والمهاجرين ﴾ هي ( ابتدائية ) وليست ( بيانية ) وأنّ المفضل عليه هم ( المؤمنون والمهاجرون ) والمفضّل هم ﴿ وَأُوْلُو الأرحام ﴾ كما تقول : زيد أفضل من عمرو، فالمفضّل زيد والمفضّل عليه هو عمرو، ويكون المعنى كما أسلفنا ( أولو الأرحام أولى بالإرث من المؤمنين والمهاجرين ).
432
وأجاز الزمخشري أن تكون ( مِنْ ) ( بيانية ) ويكون المعنى : أولو الأرحام أي الأقرباء من المؤمنين والمهاجرين أحق بميراث بعضهم بعضاً من الأجانب، وقد ردّ هذا القول ( ابن العربي ) في كتابه « أحكام القرآن ». وقال ما نصه : إن حرف الجر يتعلق ( بأوْلى ) لما فيه من معنى الفعل لا بقوله ( أولو الأرحام ) بإجماع لأن ذلك كان يوجب تخصيصها ببعض المؤمنين ولا خلاف في عمومها، وهذا حلّ إشكالها.
وجوه القراءات
قرأ الجمهور ﴿ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وأزواجه أمهاتهم ﴾.
قال أبو السعود : وقُرئ :﴿ وأزواجُه أمّهاتُهم وهو أبٌ لهم ﴾ أي في الدين، فإنّ كلّ نبيّ أب لأمته من حيث إنه أصل فيما به الحياة الأبدية، ولذلك صار المؤمنون إخوة.
أقول : هذه القراءة تحمل على أنها تفسير لقوله تعالى :﴿ وأزواجه أمهاتهم ﴾ وهي قراءة عبد الله وكذلك في مصحف ( أبيّ بن كعب ) فإذا كان أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، فهو عليه السلام أبٌ للمؤمنين، ولا شك أن الأب الروحي أعظم قدراً من الأب الجسدي، وقد قال مجاهد : كل نبيِّ أبٌ لأمته، يعني في الدين.
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى :﴿ النبي أولى بالمؤمنين ﴾ النبيّ مبتدأ و ( أولى ) خبر والجار والمجرور متعلق ب ( أولى ) لأن أفعل التفضيل يعمل عمل الفعل.
ثانياً : قوله تعالى :﴿ وأزواجه أمهاتهم ﴾ مبتدأ وخبر، على حدّ قولهم : أبو يوسف أبو حنيفة، أي يقوم مقامه ويسدّ مسدّه، والمعنى : إنهن بمنزلة الأم في التحريم، فلا يجوز لأحدٍ أن يتزوج بهنّ، احتراماً للنبي عليه السلام. أفاده ابن الأنباري.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً ﴾ الاستثناء هنا يحتمل أن يكون متصلاً، ويحتمل أن يكون منقطعاً.
فعلى الأول : يكون استثناءً من أعم الأحوال، ويكون المعنى : إن أولى الأرحام أولى بجميع وجوه النفع من غيرهم من المؤمنين والمهاجرين في جميع الأحوال. إلاّ أن يكون لكم في هؤلاء وصيٌ تريدون أن توصوا إليه فذلك جائز.
وعلى الثاني : يكون تخصيص الأولوية بالميراث، ويكون المعنى : أولو الأرحام أولى بميراث بعضهم بعضاً، لكن إذا أسديتم إلى أوليائكم معروفاً فذلك جائز، بل هم أحق بالوصية من ذوي الأرحام، وهذا الوجه اختاره ابن الأنباري وغيره من العلماء.
قال ابن الجوزي : وهذا الاستثناء ليس من الأول أي أنه ليس متصلاً بل هو منقطع والمعنى : لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً جائز، فالمعروف هاهنا الوصية.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يجب على الإمام قضاء دين الفقراء من المسلمين؟
قال بعض أهل العلم إنه يجب على الإمام أن يقضي من بيت المال ديون الفقراء اقتداءً بالنبي ﷺ فإنه قد قال في الحديث الشريف :« وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه »
433
. أي فعليّ قضاء دينه ورعاية أولاده، والإمام خليفة عن رسول الله يجب عليه قضاء ديون الفقراء من المسلمين. ولا شك أنّ هذا استنباط دقيق فعلى الدولة أن ترعى أمور الفقراء وتكفل مصالح الناس، وترعى شؤونهم وذريتهم.
الحكم الثاني : هل زوجات الرسول أمهات للمؤمنين والمؤمنات؟
قال ( ابن العربي ) : اختلف الناس هل هنّ أمهات الرجال والنساء؟ أم هنّ أمهات الرجال؟ خاصة على قولين :
أ- فقيل إنه عام في الرجال والنساء.
ب- وقيل إنه خاص بالرجال فقط.
قال ابن العربي : وهو الصحيح، لأن المقصود بذلك إنزالهن منزلة أمهاتهم في الحرمة، والحلُّ غير متوقع بين النساء فلا يحجبن بينهن بحرمة، وقد روي أن امرأةً قالت لعائشة : يا أماه، فقالت لها : لستُ لك بأم إنما أنا أمّ رجالكم.
قال القرطبي : قلتُ لا فائدة في اختصاص الحصر في الإباحة للرجال دون النساء، والذي يظهر لي أنهن أمهات الرجال والنساء، تعظيماً لحقهن على الرجال والنساء، يدل على صدر الآية ﴿ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾ وهذا يشمل الرجال والنساء ضرورة، ويدل عليه قراءة أبيّ ( وهو أب لهم ) أقول : لعلّ الأرجح ما ذهب إليه القرطبي والله أعلم.
الحكم الثالث : هل تثبت الحرمة لجميع زوجات الرسول ﷺ ؟
استدل العلماء على حرمة نكاح زوجات الرسول ﷺ بهذه الآية الكريمة وبقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ] واختلف العلماء هل الحرمة ثابتة لكل زوجاته الطاهرات سواءً من طلّقت منهن ومن لم تطلّق؟ وسواءً أكانت مدخولاً بها أو غير مدخول بها؟ على مذهبين :
أ- ذهب الشافعي رحمه الله إلى أن المراد من أزواجه كل من أطلق عليها أنها زوجة له ﷺ سواءً طلَّقها أم لم يطلقها فيثبت الحكم لكلهن، وهذا ظاهر الآية الكريمة.
ب- وصحّح إمام الحرمين قصر التحريم على المدخول بها فقط، واستدل بما روي أنّ ( الأشعث بن قيس ) نكح المستعيذة في زمن عمر رضي الله عنه، فهمّ برجمه فأخبره أنها لم تكن مدخولاً بها، فكفّ عنه، وفي رواية : أنه همّ برجمها فقالت : ولمَ هذا؟ وما ضُرِبَ عليّ حجاب، ولا سُمّيتُ للمسلمين أماً، فكفّ عنها.
الترجيح : والصحيح ما ذهب إليه إمام الحرمين من أنّ الحرمة قاصرة على المدخول بها فقط، فلو طلَّقها بعد الدخول تثبت لها الحرمة كذلك، أمّا مجرد العقد عليها فلا يوجب الحرمة كما هو الحال في شأن « المستعيذة » وهي التي تزوجها رسول الله ﷺ فلما أراد الدخول عليها قالت : أعوذ بالله منك، فقال : قد عذتِ بمَعاذ فألحقها بأهلها، وكانت تقول : أنا الشقية، لأنها حرمت من ذلك الشرف الرفيع، شرف الانتساب إلى النبي ﷺ.
434
الحكم الرابع : هل يورّثُ ذوو الأرحام؟
المراد من قوله تعالى :﴿ وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ ﴾ أنّ أصحاب القرابة مطلقاً أولى بميراث بعض الأجانب، وهذه الآية نسخت التوارث الذي كان بين المسلمين بسبب ( المؤاخاة والنصرة ) أو بسبب الهجرة، فقد كان المهاجريُّ يرث أخاه الأنصاري بعد موته، ثم نسخ الحكم وأصبح التوارث بالقرابة النسبية.
وقد أخذ بعض الفقهاء من هذه الآية الكريمة أن ( ذوي الأرحام ) - وهم الذين ليسوا بأصحاب فروض ولا عصبات - كالخال والعمة وأولاد البنات وغيرهم أحق بالإرث من بيت مال المسلمين، وهذا هو مذهب ( الحنفية ) وجمهور الفقهاء، ودليلهم في ذلك أنّ الآية اقتضت بأنّ ذوي القرابة مطلقاً ( سواء كانوا أصحاب فروض أم عصبات أم أصحاب قرابة رحمية ) أحقُّ بالإرث من الأجانب، فالآية تشمل كل قريب للميت. كما استدلوا بأنّ بيت مال المسلمين تربطه مع الميت رابطة الأخوَّة في الدين، وذوو الأرحام تربطهم معه أخوًّة الدين مع شيء آخر وهو ( قرابة الرحم ) فأصبح لهم قرابتان : قرابة الدين، وقرابة الرحم، وهذا يشبه ما إذا مات إنسان عن أخ شقيق، وأخ لأب فإنّ المال كله يكون للشقيق لأنّ قرابته من جهتين : من جهة الأب ومن جهة الأم فتكون أقوى من قرابة الأخ لأب لأنه من جهة واحدة فكذلك ( ذوو الأرحام ). وذهب الإمام الشافعي رحمه الله إلى عدم توريث ( ذوي الأرحام ) وقال : إن بيت مال المسلمين أحق بالإرث فيما إذا لم يكن للميت عصبة أو أصحاب فروض أو من يردّ عليه منهم فيصبح المال من نصيب المسلمين ويعطى لبيت المال، وحجته في ذلك أن التوريث لا بدّ فيه من نصّ في كتابٍ أو سنّة ولا يمكن أن يكون بالعقل أو الرأي ولم يرد في توريث ( ذوي الأرحام ) نصّ قاطع، فلا يورّثون إذاً ويكون الإرث لبيت المال.
الترجيح : والصحيح هو ما ذهب إليه الحنفية وجمهور الفقهاء من توريث ذووي الأرحام فهو الظاهر من النصوص الشرعية في الكتاب والسنّة. والبحث مفصّل في علم الفرائض فليرجع إليه.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً : ولاية النبي ﷺ العامّة على جميع المؤمنين.
ثانياً : حرمة نكاح زوجات الرسول ﷺ تعظيماً لشأنه.
ثالثاً : تكريم النبي ﷺ وأهل بيته واجب على المسلمين.
رابعاً : نسخ التوارث بالمؤاخاة والنصرة وجعله بالقرابة النسبية.
خامساً : أحكام الشريعة الغراء منزلة من عند الله مسطّرة في القرآن العظيم.
سادساً : توريث ذوي الأرحام مقدم على ميراث بيت مال المسلمين على الصحيح.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
من حكمة الباري جلّ وعلا أن ربط بين أفراد المجتمع الإسلامي برباط ( العقيدة والدين... ) وعزّز تلك الروابط ب ( الأخوّة الإسلامية ) التي هي مظهر القوة والعزة. وسبيل السعادة والنجاح.
435
وقد كان التوارث في صدر الإسلام بسبب تلك الرابطة ( رابطة العقيدة ) و ( رابطة الدين ) وبسبب الهجرة والنصرة، فكان الأنصاري يرث أخاه المهاجري، ويرث المهاجري أخاه الأنصاري دون ذوي قرباه، حتى توثّقت بين المؤمنين روابط العقيدة والإيمان، وتمثّلت فيهم أخوة الإسلام ﴿ إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ ﴾ [ الحجرات : ١٠ ]، وأصبحت لحمة الإسلام أقوى من لحمة النسب، ورابطة الدين أقوى من رابطة الدم، وأصبح المسلمون كالجسد الواحد، وكالبنيان يشدّ بعضُه بعضاً.
ثم نسخ الله تبارك وتعالى التوارث بين المؤمنين بسبب الدين، وبسبب الهجرة والنصرة، وجعل التوارث بسبب القرابة والنسب، وذلك تمشياً مع نظرة الإسلام المثلى، في توطيد دعائم الأسرة، لأنه أساس المجتمع الفاضل. فإذا تمكنت العلاقات الأخوية بين أفراد الأسرة تقوّي بنيان المجتمع. وإذا انحلّت هذه العلاقات، تزعزع المجتمع وانحلت أواصره.
ولكنّ الله جل ثناؤه لم يورث كلّ قريب، بل أوجب أن تكون مع القرابة رابطة الإيمان. فالابن إذا كان كافراً لا يرث أباه، والأخ غير المسلم لا يرث أخاه، وبذلك جمع الإسلام بين ( رابطة الإيمان ) و ( رابطة النسب ) وجعل القرابة غير نافعة إلا مع الإيمان. فحفظ للأسرة كرامتها، وللدين حرمته، وللقريب حقوقه، ونزل القرآن الكريم بحكمه العادل ﴿ وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [ الأنفال : ٧٥ ] وبقوله جل ثناؤه :﴿ وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كتاب الله مِنَ المؤمنين والمهاجرين... ﴾.
وبذلك نُسِخَ الإرث بسبب الهجرة والنصرة، وأصبح بسبب النسب، بعد أن تقوّى الإيمان وتوطّدت دعائمه.
روى الإمام البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال :« ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، اقرؤوا إن شئتم :﴿ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ ﴾... فأيُّما مؤمنٍ ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا. فمن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه ».
436
[ ٣ ] الطلاق قبل المساس
التحليل اللفظي
﴿ نَكَحْتُمُ ﴾ : يطلق النكاح تارة ويراد به العقد، ويطلق تارةً ويراد به الوطء. والمراد به هنا العقد باتفاق العلماء بدليل قوله تعالى :﴿ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾ وأصل النكاح في اللغة : الضمّ والجمع قال الشاعر :
ضممتُ إلى صدري معطّرَ صَدْرها كما نَكَحَتْ أُم الغلام صَبَّيها
قال القرطبي : النكاح حقيقة في الوطء. وتسمية العقد نكاحاً لملابسته له من حيث أنه طريق إليه. ونظيره تسميتهم الخمر إثماً لأنها سبب في اقتراف الإثم، ولم يرد لفظ النكاح في القرآن إلا في معنى العقد لأنه في معنى العقد لأنه في معنى الوطء، وهو من آداب القرآن الكناية عنه بلفظ ( الملامسة، والمماسّة، والقربان، والتغشي، والإتيان ).
﴿ المؤمنات ﴾ : فيه إشارة إلى أنه ينبغي أن يقع اختيار الأزواج على المؤمنات. وليس لفظ الإيمان في قوله :( المؤمنات ) للقيد أو الشرط بل هو لمراعاة الغالب من حال المؤمنين أنهم لا يتزوجون إلا بمؤمنات، وهذا مما اتفق عليه الفقهاء ولو كان للقيد أو الشرط لكان حكم ( الكتابيات ) مختلفاً عن حكم المؤمنات مع أن الحكم واحد.
قال الألوسي :( وتخصيص المؤمنات مع عموم الحكم للكتابيات للتنبيه على أن المؤمن من شأنه أن يتخيّر لنطفته ولا ينكح إلا مؤمنة، وحاصله أنه لبيان الأحرى والأليق ).
﴿ تَمَسُّوهُنَّ ﴾ : المراد بالمسّ هنا ( الجماع ) بإجماع الفقهاء. وقد اشتهرت الكناية به وبلفظ الملامسة والمماسّة ونحوها في لسان الشرع عن الجماع، وهو كما أسلفنا من آداب القرآن لأن القرآن العظيم يتحاشى ذكر الألفاظ الفاحشة فيكني عنها مثل قوله تعالى :﴿ أَوْ لامستم النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً ﴾ [ النساء : ٤٣ ] وقوله تعالى :﴿ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ﴾ [ المجادلة : ٣ ] وهكذا كنّى عن الجماع باللمس أو المماسّة، ولو كان المراد في الآية حقيقة المسّ باليد وهي إلصاق اليد بالجسم للزمت العدّة فيما لو طلّقها بعد أمسّها بيده من غير جماع ولا خلوة، ولم يقل بذلك أحد من الفقهاء.
﴿ عِدَّةٍ ﴾ : العدّة في اللغة مأخوذة من العَدّ لأن المرأة تعدّ الأيام التي تجلسها بعد طلاق زوجها لها أو وفاته، وهي شرعاً : المدة التي تتربص فيها المرأة لمعرفة براءة رحمها، أو للتعبد، أو للتفجع على زوج مات.
﴿ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ : أي تعدّونها عليهن، أو تستوفون عددها عليهن، يقال : عدّ الدراهم فاعتدّها أي استوفى عددها ومثله قولك : كلته فاكنلته، ووزنته فاتّزنته.
﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ ﴾ : أي اعطوهن المُتْعةُ في الأصل ما يَمتّع به من مالٍ أو ثياب، وقد حدّدها بعض الفقهاء بأنها ( قميص وخمار ومِلْحَفةً ) والصحيح أن المتعة لا تختص بالكسوة بل هي في لسان الشرع : كل ما يعطيه الزوج لمطلقته ارضاءً لها وتخفيفاً من شدة وقع الطلاق عليها.
﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ ﴾ : أي طلقوهن، قال القرطبي : التسريح إرسال الشيء ومنه تسريح الشعر ليخلص البعض من البعض، وسرّح الماشية : أرسلها.
437
وقال الألوسي : أصل التسريح أن ترعى الإبل السّرْح وهو شجر له ثمره ثم جعل لكل إرسال في الرعي ثم لكل إرسال وإخراج. والمراد هنا تركهن وعدم حبسهن في منزل الزوجية.
﴿ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ : أي طلاقاً بالمعروف فهو مثل قوله تعالى :﴿ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ ﴾ [ الطلاق : ٢ ] وقوله كذلك ﴿ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان ﴾ [ البقرة : ٢٢٩ ] والسراح الجميل يكون بالتلطف مع المطلقة بالقول، وترك أذاها، وعدم حرمانها مما وجب لها من حقوق، والإحسان إليها.
المعنى الإجمالي
يخاطب الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين فيقول : يا أيها الذين آمنوا إذا عقدتم عقد الزواج على المؤمنات وتزوجتموهن، ثم طلقتموهن من قبل أن تقربوهنّ فليس لكم عليهن حق في العدّة تستوفون عددها عليهنّ لأنكم طلقتموهن قبل المِساس وهذا لا يستلزم احتباس المرأة في البيت وجلوسها في العدّة من أجل صيانة تسبكم لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل، فالواجب عليكم أن تمتعوهن بدفع ما تطيب نفوسكم لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل، فالواجب عليكم أن تمتعوهن بدفع ما تطيب نفوسكم لهن. وتكرموهنّ بشيءٍ من المال أو الكسوة تطييباً لخاطرهن وتخفيفاً لشدة وقع الطلاق عليهن وأن تفارقوهنّ بالمعروف فلا تؤذوهن بقول أو عمل، ولا تحرموهن مما وجب لهن عليكم من حقوق. فإنّ ذلك من مقتضى إيمانكم وطاعتكم لله تعالىّ والله تعالى أعلم.
وجه الارتباط بالآيات السابقة
كان الحديث في الآيات السابقة عن نساء النبي ﷺ وما ينبغي أن يكنّ عليه من طاعة لله ورسوله، وزهدٍ في الدنيا، وطهارة وكمال، لأنهن لسن كبقية النساء، والله تبارك وتعالى يريد لهنّ أن يحافظن على ذلك الشرف الرفيع وهو انتسابهن إلى رسول الله حيث أصبحن أمهاتٍ للمؤمنين وزوجات الرسول الطاهرات، وقد أعقب ذلك بذكر قصة ( زيد بن حارثة ) وتطليقه ( زينب ) رضي الله عنها التي تزوجها الرسول بعد ذلك بأمرٍ من الله سبحانه وتعالى وذلك لحكمة جليلة وهي إبطال ( بدعة التبني ) ثم جاء الخطاب هنا للمؤمنين بحكم الزوجة تطلّق قبل المساس وكيف يجب على المؤمنين أن يفعلوا فيما إذا وقع منهم الطلاق قبل المعاشرة، وما هي الأحكام الشرعية التي ينبغي عليهم أن يتمسكوا بها في مثل هذه الأحوال، فهذا وجه الارتباط والله أعلم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى :﴿ نَكَحْتُمُ المؤمنات ﴾ فيه إشارة إلى أن المؤمن ينبغي أن يتخيّر لنطفته وأن ينكح المؤمنة الطاهرة، لأن إيمانها يجعلها تحافظ على عفتها ويحجزها عن الوقوع في الفاحشة والشرّ. فتصون عرض زوجها وتحفظه في حضرته وغيبته وصدق الله ﴿ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ ﴾ [ البقرة : ٢٢١ ].
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ﴾ التعبير ( بثم ) دون الفاء أو الواو، والعطف بها ( التراخي ) للإشارة إلى أن الطلاق ينبغي أن يكون بعد تريث وتفكير طويل، ولضرورة ملحّة لأن الطلاق من الأمور التي يبغضها الله حيث فيه هدم وتحطيم للحياة الزوجية ولهذا قال بعض الفقهاء : إن الآية ترشد إلى أن الأصل في الطلاق الحظر، وأنه لا يباح إلا إذا فسدت الحياة الزوجية، ولم تفلح وسائل الإصلاح بين الزوجين.
438
والحكم واحد لا يختلف فيمن تزوّج امرأة فطلّقها على الفور، أو طلّقها على التراخي. ( انظر روح المعاني ).
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾ كنّى بالمسّ عن الجماع وهذا - كما أسلفنا - أدب من آداب القرآن، ينبغي على المسلم أن يتأدب به فيكنى عن كل شيء قبيح أو فاحش.
وما أجمل أدب الرسول حين قال للمرأة المطلّقة المبتوتة التي جاءت تستأذنه في العودة إلى زوجها الأول :« أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ». اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ ﴾ في إسناد العدّة إلى الرجال إشارة إلى أنها حقّ للمطلّق، فوجوب العدّة على المرأة من أجل الحفاظ على نسب الإنسان فإنّ الرجل يغار على ولده، ويهمه ألا يُسْقَى زرعُه بماء غيره، ولكنّها على المشهور ليست حقاً خالصاً للعبد، بل تعلّق بها حقّ الشارع أيضاً، فإن منع الفساد باختلاط الانساب من حق الشارع.
والصحيح أنّ وجوب العدة فيها ( حق الله، وحق العبد ) ؛ ولهذا قال الفقهاء العدّةُ تجب لحكم عديدة : لمعرفة ( براءة الرحم، وللتعبد، أو للتفجع ) فتدبره.
وجوه القراءات
١- قرأ الجمهور ﴿ من قبل أن تمسّوهنّ ﴾ أي تقربوهن. وقرأ حمزة والكسائي ﴿ من قبل أن تُمَاسّوهنّ ﴾ بزيادة ألف، والمعنى واحد.
٢- قرأ الجمهور ﴿ من عدّة تَعْتَدّونها ﴾ بتشديد الدال من العدّ أي تستوفون عددها، من قولك : عدّ الدراهم فاعتدّها أي استوفى عددها، وقرأ ابن كثير وغيره بتخفيف الدال ﴿ تَعْتَدُونها ﴾ قال الزمخشري : أي تعتدون فيها كقوله : ويوماً شهدناه. والمراد بالاعتداء ما في قوله تعالى :﴿ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ ﴾ [ البقرة : ٢٣١ ].
قال أبو حيان : المعنى تعتدون عليهن فيها، فلما حذف حرف الجر وصل الفعل إلى ضمير العدّة كقوله : ويوماً شهدناه سليماً وعامراً، أي شهدنا فيه.
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى :﴿ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا ﴾ الآية.
( ما ) نافية حجازية تعمل عمل ليس، و ( لكم ) جار ومجرور خبرها مقدم. و ( من ) صلة تأدباً. و ( عدة ) اسم ليس مؤخر مجرور لفظاً مرفوع محلاً. قال ابن مالك :
وزيد في نفيٍ وشبهه فجّر نكرة كما لباغٍ من مفر
والمعنى : ليس لكم عليهن عدّة توجبونها عليهن.
ثانياً : قوله تعالى :﴿ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾.
( سراحاً ) مفعول مطلق و ( جميلاً ) صفة له منصوب.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يقع الطلاق قبل النكاح؟
أجمع الفقهاء على أن الطلاق لا يقع قبل النكاح استدلالاً بقوله تعالى :﴿ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ﴾ فقد رتّب الطلاق على النكاح وعطفه ( بثمّ ) التي تفيد الترتيب مع التراخي، واستدلالاً بقوله ﷺ :
439
« لا طلاق قبل النكاح » واختلفوا فيمن علّق الطلاق مثل قوله :( إن تزوجت فلانة فهي طالق )، أو قوله :( كل امرأة أتزوجها فهي طالق ) على مذهبين :
أ- مذهب الشافعي وأحمد : أنه لا يقع الطلاق وهو مروي عن ( ابن عباس ) رضي الله عنهما.
ب- مذهب أبي حنيفة ومالك : أنه يقع الطلاق بعد عقد الزواج وهو مروي عن ( ابن مسعود ) رضي الله عنه.
أدلة الشافعية والحنابلة :
أ- استدل الإمامان الشافعي وأحمد رحمهما الله على أن التعليق مثل التنجيز، طلاقٌ قبل النكاح، وإذا طلّق الإنسان امرأة، لا يملكها ( أنت طالق ) فإنه لا يقع باتفاق فكذا المعلّق من الطلاق لا يقع به طلاق.
ب- واستدلوا بحديث « لا نذر لابن آدم فيما لا يملك، ولا عتق له فيما لا يملك، ولا طلاق له فيما لا يملك ».
وهذا الرأي ذهب إليه الجمهور من الصحابة والتابعين وقد عدّ البخاري منهم أربعة وعشرين في باب ( لا طلاق قبل النكاح ) وهو منقول عن ( ابن عباس ) رحمه الله، فقد روي أنه سئل عن ذلك أي ( عن الطلاق المعلَّق ) فقال : هو ليس بشيء. فقيل له إن ( ابن مسعود ) يخالفك يقول : إذا طلّق ما لم ينكح فهو جائز. فقال : رحم الله أبا عبد الرحمن، لو كان كما قال لقال الله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا إذا طلقتم المؤمنات ثم نكحتموهن ) ولكن إنما قال ﴿ إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ ﴾.
أدلة المالكية والحنفية :
واستدل الحنفية والمالكية بأنّ الطلاق يعتمد الملك، أو الإضافة إلى الملك، لكنه في حالة الإضافة إلى الملك يبقى معلّقاً حتى يحصل شرطه، فإذا قال للأجنبية ( إن تزوجتك فأنت طالق ) كان هذا تعليقاً صحيحاً، ولا يقع الطلاق به الآن إنما يقع بعد أن يتزوجها، فهو مثل قوله :( إن دخلتِ الدار فأنت طالق ) لا يقع الطلاق إلا بعد الدخول، فكذا هنا لا يقع الطلاق إلاّ بعد أن يعقد عقد الزواج عليها، فيكون الطلاق واقعاً في الملك بالضرورة فكأنه أوقعه عليها حينذاك، وقالوا : الفرق واضح بين تنجيز الطلاق على الأجنبية وبين تعليق طلاقها على النكاح فإن قول الرجل لامرأةٍ أجنبية ( هي طالق ) كلام لغو، لأنها ليست زوجته وقد طلّق ما لم يملك فهو طلاق قبل النكاح لا يقع أصلاً. أما قوله :( إن تزوجت فلانة فهي طالق ) فهو معلّق على الملك والفرق واضح بينهما. وهذا القول قال به جمع غفير من العلماء منهم ( ابن مسعود ) رضي الله عنه ودليله قوي وهو الأحوط كما نبّه عليه ( ابن العربي ) والجصاص.
والخلاصة فإنَّ الطلاق بعد النكاح يقع باتفاق الفقهاء، والطلاق المنجّز قبل النكاح لا يقع باتفاق، والطلاق المعلّق على النكاح يقع عند الحنفية والمالكية ولا يقع عند الشافعية والحنابلة، ولكل وجهة هو موليها والله تعالى أعلم.
440
الحكم الثاني : هل الخلوة الصحيحة توجب العدّة والمهر؟
ظاهر الآية الكريمة، وهي قوله تعالى :﴿ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ ﴾ الذي هو كناية عن الجماع أنَّ الخلوة ولو كانت صحيحة لا توجب ما يوجبه الجماع من العدّة والمهر، وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، ودليله : أن الله سبحانه وتعالى نفى وجوب العدّة إذا طلقت قبل الجماع، والخلوةُ ليست جماعاً فلا يجب بها العدّة ولا المهر.
وذهب الجمهور ( المالكية والحنفية والحنابلة ) إلى أن الخلوة كالجماع توجب المهر كاملاً، وتوجب العدّة.
١- واستدلوا بما رواه الدارقطني عن ثوبان أن رسول الله ﷺ قال :« من كشف خمار امرأةٍ ونظر إليها وجب الصَدَاق دخل بها أو لم يدخل ».
ب- وروي عن عمر أنه قال :( إذا أغلق باباً وأرخى ستراً ورأى عورة فقد وجب الصَدَاق وعليها العدة ولها الميراث )
ج- وروي عن زُرَاة بن أبي أوفى أنه قال :( قضى الخلفاء الراشدون المهديُّون أنه إذا أرخى الستور، وأغلق الباب، فلها الصداق كاملاً وعليها العدّة دخل بها أو لم يدخل ).
الترجيح : وأنت ترى أن أدلة الجمهور أقوى، وحجتهم أظهر، إذ يحتمل أن يبقى الرجل مع زوجته عاماً كاملاً، يبيت معها في فراش واحد، ولكنَّه لم يجامعها طيلة هذه المدة فلا بدَّ أن نوجب عليه دفع المهر كاملاً، ونلزمها بالعدّة وذلك اعتباراً بالخلوة الصحيحة ودفعاً للنزاع والخلاف.
وقد اختلف القائلون بوجوب العدّة بالخلوة الصحيحة فمنهم من يقول : إنها واجبة ( يانةً، وقضاءً ) ومنهم من يقول بوجوبها قضاءً لا ديانةً لأن القاضي إنما يحكم بالظاهر والرأي الأول أصحّ.
الحكم الثالث : ما هو حكم المطلّقة رجعياً هل تستأنف العدّة إذا راجعها زوجها ثم طلقها قبل المساس؟
اختلف الفقهاء في المرأة المطلّقة رجعياً فيما إذا طلقها زوجها بعد المراجعة قبل أن يمسّها على أقوال :
أ- مذهب الظاهرية : أنه لا عدة عليها جديدة والعدة الأولى قد بطلت بالطلاق الثاني، فلا يجب عليه أن تكمّل العدة الأولى. ( وهذا رأي ضعيف )
ب- مذهب الشافعي : تبني على عدة الطلاق الأول وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة.
ح - مذهب مالك وأبي حنيفة : عليها أن تستأنف عدة جديدة، قال القرطبي : وعلى هذا أكثر أهل العلم.
دليل الظاهرية : استدل داود الظاهري ومن قال بقوله أنّ المطلّقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسّها، أنه ليس عليه أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة، لأنها مطلّقة قبل الدخول بها أخذاً بظاهر الآية.
دليل الشافعي : استدل داود الظاهري ومن قال بقوله أنّ المطلّقة الرجعية إذا راجعها زوجها قبل أن تنقضي عدتها ثم فارقها قبل أن يمسّها، أنه ليس عليها أن تتم عدتها ولا عدة مستقبلة، لأنها مطلّقة قبل الدخول بها أخذاً بظاهر الآية.
441
دليل الشافعي : استدل الشافعي رحمه الله بأن المطلّقة تبني على عدتها الأولى وليس عليها أن تستأنف عدة جديدة، بأنّ الطلاق الثاني لا عدة له لأنه طلاق قبل المساس، ولكن لا ينبغي أن يبطل ما وجب بالطلاق الأول فإنه طلاق بعد دخول يجب أن تراعى فيه حكمة الشارع في إيجاب العدة. فطلاقه لها قبل أن يمسّها في حكم من طلّقها في عدتها قبل أن يراجعها، ومن طلّق امرأته في كل ظهر مرةً بنَتْ ولم تستأنف.
دليل المالكية والحنفية : قالوا إن عليها أن تستأنف عدةً جديدة، لأن الطلاق الثاني وإن كان لم يفصل بينه وبين الرجعة مسّ ولا خلوة، لكنه لا يصدق عليه أنه قد حصل قبل الدخول على الإطلاق، إذا المفروض أن المرأة كان مدخولاً بها من قبل، فيجب عليها أن تستأنف عدةً كاملة لأنها في حكم الموطوءة.
قال القرطبي : نقلاً عن الإمام مالك : إنها تنشئ عدةً مستقبلة، وقد ظلم زوجُها نفسَه وأخطأ إن كان ارتجعها ولا حاجة له بها، وعلى هذا أكثر أهل العلم لأنها في حكم الزوجات المدخول بهنّ في النفقة والسكنى وغير ذلك، وهو قول جمهور فقهاء البصرة والكوفة ومكة والمدينة والشام.
الحكم الرابع : هل تجب المتعة لكل مطلّقة؟
ظاهر قوله تعالى :﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ ﴾ إيجاب المتعة للمطلقة قبل الدخول سواءً فرض لها مهر أو لم يفرض لها مهر، ويقوّي هذا الظاهر قوله تعالى :﴿ وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين ﴾ [ البقرة : ٢٤١ ] فقد أوجبت لكل مطلقة ( المتعة ) وقد اختلف الفقهاء في وجوب المتعة على أقوال :
أ- إنها واجبة لكل مطلّقة فرض لها مهر أم لم يفرض لها مهر عملاً بظاهر الآية وهو مذهب ( الحسن البصري ).
ب- إن المتعة واجبة للمطلّقة قبل الدخول التي لم يفرض لها مهر وهو مذهب ( الحنفية والشافعية ). وبهذا قال ( ابن عباس ) رضي الله عنهما. وأما التي فرض لها مهر فتكون المتعة لها مستحبة.
ح - إن المتعة مستحبة للجميع وليست واجبة لأحدٍ من النساء وهو مذهب ( المالكية ).
وسبب الخلاف بين الفقهاء في ( وجوب لمتعة ) أو استحبابها هو أنه قد ورد في القرآن الكريم آيات كريمة ظاهرها التعارض، فمنها ما يوجب المتعة على الإطلاق، ومنها ما يوجب المتعة عند عدم ذكر المهر المفروض لها، ومنها ما لم ينصّ على المتعة أصلاً فلهذا وقع الخلاف بين الفقهاء. أما الآيات الكريمة فهي آية الأحزاب ﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ وآية البقرة [ ٢٣٦ ] ﴿ وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين ﴾ وآية البقرة [ ٢٣٧ ] كذلك ﴿ وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ ﴾
442
الآية.
فالآية الأولى مطلقة. والثانية مقيّدة بقيدين ( عدم المسّ، وعدم الفرض ) وأول الآية هو قوله تعالى :﴿ لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ ﴾ [ البقرة : ٢٣٦ ] الآية.
والثالثة أوجبت نصف المهر فقط ولم تذكر المتعة، فمن الفقهاء من جعل آية البقرة مخصّصة لآية الأحزاب ويكون المعنى ( فمتعوهن إن لم يكن مفروضاً لهن المهر في النكاح ) وبهذا التفسير قال ( ابن عباس ) ويؤيده أن المتعة إنما وجبت دفعاً لإيحاش الزوج لها بالطلاق، فإذا وجب للمطلّقة قبل الدخول نصف المهر كان ذلك جابراً للوحشة فلا تجبُ لها المتعة.
الترجيح : ويظهر من الأدلة أن حجة الفريق الثاني وهم ( الحنفية والشافعية ) أقوى وأظهر وهو مذهب ابن عباس وفيه جمع بين الأدلة والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
أولاً - على الإنسان أن يختار في الزواج المرأة المؤمنة الطاهرة.
ثانياً - الطلاق هدم للحياة الزوجية فلا يصح أن يقع إلا في الحالات الضرورية.
ثالثاً - لا تجب العدة بالإجماع إذا طلقت المرأة قبل الدخول بها.
رابعاً : على الزوج أن يجبر خاطر زوجته المطلّقة بالمتعة.
خامساً - حرمة إيذاء المطلّقة وتسريحها بالمعروف والإحسان.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
شرع الله تعالى الزواج لبقاء النوع الإنساني، وعزّز من روابطه وأركانه وأحاط الأسرة بسياج مقدس من التكريم والتقدير. وأقام الحياة بين الزوجين على أساس التفاهم والتعاون والمحبّة والمودّة ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [ الروم : ٢١ ].
وقد أباح الإسلام الطلاق في ظروف استثنائية ضرورية، وذلك ليخلّص الإنسان من شقاء محتّم، وينقذه من مشكلةٍ قد تحرمه السعادة، أو تكلفه حياته.
والطلاق : في الإسلام أبغض الحلال إلى الله، لأن فيه خراب البيوت، وضياع الأسرة. وتشريد الأولاد. ولكنّه ضرورة لا بدّ منها عند اللزوم، فلا بدّ أن تكون الأسباب فيه جليَّة. والدوافع قاهرة، وألاّ يكونه ثمة طريق إلى الخلاص من ذلك الشقاء إلاّ بالطلاق، وقد قيل في الأمثال :« آخر الدواء الكيّ ».
وقد أرشد الإسلام إلى الاستعمال الحكيم لهذا العلاج، بألاّ يقدم عليه الإنسان إلاّ بعد درسٍ وتمحيص. وروّية وبصيرة. فإنّ الطلاق ما شرع إلاّ ليحقّق الطمأنينة والسعادة للإنسان. ويدفع عنه مرارة العيش، وقساوة الحياة. وإذا لم يستعمله المرء في الطريق المأمون انقلب إلى إعصارٍ مخرّب مدمّر، فحرم الأسرة الأمن والاستقرار. فهو إذاً سلاح ذو حدين : فإما أن يستعمله الإنسان فيما يجلب إليه الشقاء. أو يستعمله فيما يخلّصه من الشقاء.
وقد حكم الباري جلّ وعلا بأنّ من طلّق زوجه قبل المسيس. فليس له عليها حق أن يمنعها من الزواج. لأنها لا عدّة عليها. والعدّة إنما تجب لمعرفة براءة الرحم. صيانةً لحق الزوج. لئلا يختلط نسبه بنسب غيره، أو يُسقى زرعه بماء غيره... ولمّا كان هذا الطلاق قبل المعاشرة والاتصال الزوجي، إذاً فلا عدة ولا سبيل له عليها. فيجب أن يحسن معاملتها. بمنعها من الزوج ﴿ فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾.
وبذلك صان المولى جلّ وعلا كرامة المرأة، ودفع عنها عدوان الزوج وطغيانه، وحفظ لكلٍ حقّه، فلم يظلم المرأة، ولم يفرّط في حقّ الرجل، وفسح المجال لكل من الزوجين في الحياة السعيدة الكريمة.
فما أسمى تعاليم الإسلام؟ وما أعدل نظمه وأحكامه!!
443
[ ٤ ] أحكام زواج النبي ﷺ
التحليل اللفظي
﴿ أَحْلَلْنَا ﴾ : الإحلال معناه الإباحة، يقال : أحللت له الشيء : أي جعلته له حلالاً، وكل شيء أباحه الله فهو حلال، وما حرّمه فهو حرام. قال في « لسان العرب » : والحِلّ والحلال والحليل : نقيض الحرام. وأحلّه الله وحلّله.
وقوله تعالى في النَّسيء :﴿ يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً ﴾ [ التوبة : ٣٧ ] وهذا لك حلّ أي حلال. وقال ابن عباس عن ماء زمزم : هي حِلّ وبلّ أي حلال محلّل.
﴿ أُجُورَهُنَّ ﴾ : مهورهنّ، والمراد في الآية : الأزواج اللواتي تزوجهنّ عليه السلام بصداق، وسمّي المهر أجراً لأنه مقابل الاستمتاع بالمرأة في الظاهر. وأمّا في الحقيقة فهو بذل وعطيّة، لإظهار ( خطر المحل ) وشرفه، كما قال تعالى :﴿ وَآتُواْ النسآء صدقاتهن نِحْلَةً ﴾ [ النساء : ٤ ] أي هبة وعطيّة عن طيب نفس. فالمهر تكريم للمرأة، وإيناس لها، وتطييب لخاطرها. وليس هو مقابل المنفعة أو الاستمتاع كما نبّه عليه الفقهاء.
﴿ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ ﴾ : يعني الجواري والإماء، لأنهنّ يُتملكْن عن طريق الحرب والجهاد، بالجهد والتضحية، وبذل النفس والمال في سبيل الله، ولذلك أُطلق عليهن ( ملك اليمين ).
﴿ أَفَآءَ الله ﴾ : أي ممّا غنمته منهنّ، وممَّا ردّه الله عليك من الكفار، كصفية وجويرية، فإنه عليه السلام أعتقهما وتزوجهما. وأصل الفيء : الرجوع، وسمّي هذا المال فيئاً لأنه رجع إلى المسلمين من أموال الكفار بدون قتال، فكأنه كان في الأصل للمسلمين فرجع إليهم بدون حرب ولا قتال.
﴿ هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ : المراد بالهجرة هي هجرته عليه السلام إلى المدينة المنورة، والمعية هنا ( معك ) يراد بها الاشتراك في الهجرة، لا في الصحبة، فمن هاجرت حلّت له سواءً هاجرت في صحبته أو لم تهاجر في صحبته. قال أبو حيان : تقول : دخل فلان معي، وخرج معي. أي كان عمله كعملي وإن لم يقترنا في الزمان. وإن قلت : فرجعنا معاً اقتضى المعنيان الاشتراك في الفعل. والاشتراك في الزمان.
﴿ يَسْتَنكِحَهَا ﴾ : الاستنكاح طلب النكاح، لأن السين والتاء للطلب، مثل اسنتصر طلب النصرة، واستعجل طلب العجلة، والمراد من قوله :( إن أراد النبي ) أي إن رغب النبي في نكاحها، فالإرادة هنا بمعنى الرغبة في النكاح.
﴿ خَالِصَةً ﴾ : أي خاصة لك لا يشاركك فيها أحد، يقال : هذا الشيء خالصة لك : أي خالص لك خاصة. قال ابن كثير في قوله :﴿ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين ﴾ أي لا تحل الموهوبة لغيرك. ولو أن امرأة وهبت نفسها لرجل، لم تحلّ له حتى يعطيها شيئاً. وكذا قال مجاهد والشعبي.
﴿ مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ ﴾ : أي ما أوجبنا على المؤمنين من نفقة، ومهر وشهود في العقد، وعدم تحاوز أربع من النساء. وما أبحنا لهم من ملك اليمين مع الأربع الحرائر من غير عدد محصور.
﴿ حَرَجٌ ﴾ : أي ضيق ومضقة، ومعنى قوله تعالى :﴿ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ﴾ أي لكيلا يكون عليك ضيق في دينك.
444
حيث اختصصناك بما هو أولى وأفضل، وأحللنا لك أجناس المنكوحات توسعة لك، وتيسيراً عليك، لتتفرع لشئون الدعوة والرسالة.
﴿ تُرْجِي ﴾ : قال في « لسان العرب » : أرجأ الأمر : أخّره، وتركُ الهمزة لغة، يقال : أرجأتُ الأمر وأرجيتُه إذا أخرتَه، والإرجاء : التأخير ومنه سمّيت المرجئة، وهم صنف من المسلمين يقولون : الإيمان قول بلا عمل، فهم يرون أنهم لم لم يصلّوا ويصوموا لنجّاهم إيمانهم.
قال ابن عباس في معنى الآية : تطلّق من تشاء من نسائك، وتمسك من تشاء منهن، لا حرج عليك. وقال مجاهد والضحاك : المعنى تَقْسم لمن شئت، وتؤخر عنك من شئت. وتقلّل لمن شئت، وتكثر لمن شئت، لا حرج عليك في ذلك، فإذا علمن أنّ هذا حكم الله وقضاؤه زالت الإحنة والغيرة عنهن، ورضين وقرّت أعينهنّ.
﴿ وتؤوي ﴾ : أي تضمّ، يقال أوى وآوى بمعنى واحد قال تعالى :﴿ آوى إِلَيْهِ أَخَاهُ ﴾ [ يوسف : ٦٩ ] أي ضمّه إليه وأنزله معن. وفي حديث البيعة أنه قال للأنصار « أبايعكم على أن نُؤووني وتنصروني » أي تضموني إليكم وتحوطوني بينكم كذا في « اللسان ».
وقال ابن قتيبة : يقال : آويت فلاناً إليّ بمدّ الألف : إذا ضممتَه إليك، وأويت إلى بني فلان، بقصر الألف : إذا لجأت إليهم.
قال ابن الجوزي :( وأكثر العلماء على أن هذه الآية نزلت مبيحة لرسول الله ﷺ مصاحَبة نسائه كيف شاء، من غير إيجاب والقسمة عليه والتسوية بينهنّ، غير أنه كان يسوّي بينهن ).
﴿ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ﴾ : أي تطيب نفوسهن بتلك القسمة ومعنى الآية : ذلك التخيير الذي خيّرناك في ضحبتهن، أقرب إلى رضاهنّ وانتفاء حزنهنّ، لأنهنّ إذا علمن أنّ هذا أمر من الله كان ذلك أطيب لأنفسهن، فلا يشعرن بالحزن والألم.
قال أبو السعود :﴿ ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ﴾ أي أقرب إلى قرّة عيونهن، ورضاهنّ جميعاً، لأنه حكم كلهنّ فيه سواء، ثمّ إن سوّيت بينههن وجدن ذلك تفضلاً منك، وإن رجّحت بعضهن علمن أنه بحكم الله فتطمئن به نفوسهن ).
﴿ وَكَانَ الله عَلِيماً حَلِيماً ﴾ : أي بمالغاً في العلم فيعلم كل ما تبدونه وتخفونهه، حليماً لا يعاجل بالعقوبة فلا تغتروا بتأخيرها، فإنه تعالى يمهل ولا يمهل.
المعنى الإجمالي
أحلّ الله تعالى لنبيّه ﷺ صنوفاً من النساء، صنفاً يدفع له المهر ( المهورات ) وصنفاً يتمتع به بملك اليمين ( المملوكات )، وصنفاً من أقاربه من نساء قريش، ونساء بني زُهرة ( المهاجرات )، وصنفاً رابعاً ينكحه بدون مهر ( الواهبات ) أنفسهنّ... وقد خص الباري جلّ وعلا رسوله الكريم في أحكام الشريعة بخصائص لم يشاركه فيها أحد، وذلك توسعة عليه، وتيسيراً له في نشر الرسالة وتبليغ الدعوة، فتزوجطه ﷺ بأكثر من أربع، واختصاصه بنكاح الواهبات أنفسهن بدون مهر، وعدم وجوب القَسْم عليه بين الأزواج، كل ذلك خاص به صلوات الله عليه تشريفاً له وتكريماص، وإظهاراً لمقامه السامي عند الله تعالى.
445
روى مسلم في « صحيحه » عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :( كنتُ أغار على اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله ﷺ وأقول : أما تستحي امرأة أن تهب نفسها لرجل!! حتى أنزل الله تعالى ﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ ﴾ فقلت : ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك ).
ومعنى الآيات الكريمة : يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك الاتي أعطيتهن مهورهن، وأحللنا لك ما مالكت يدك من السبي في الحرب. وأحللنا لك قريباتك من بنات عمك وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك، اللاتي هاجرن معك، وأحللنا لك النساء المؤمنات الصالحات، اللواتي وهبن أنفسهنّ، حباً في الله وفي رسوله، ورغبة في التقرب لك. إن أردت أن تتزوّج من شئت منهن، بدون مهر خالصة لك من دون المؤمنين، قد علمنا ما فرضنا على المؤمنين في زوجاتهم ورفيقاتهم من شرائط العقد، ووجوب المهر في غير المملوكات، وأمّا أنت فقد خصصناك بخصائص تيسيراً لك، لكيلا يكون عليك ضيق أو حرج، ولك - أيها الرسول - أن تترك من زوجاتك من تشاء، وتضم إليك من تشاء، وتقسم لمن تشاء منهن، وان تراجع بعد الطلاق من تريد، ذلك أقرب أن ترتاح قلوبهن لعلمهنّ أنه بأمر الله وترخيصه لك، فيرضَيْن بكل ما تفعل، ويقبَلْن به عن طيب نفس، وكان الله عليماً بما انطوت عليه القلوب، حليماً لا يعاجل بالعقوبة لمن خالف أمره وعصاه.
سبب النزول
لما نزلت آية التخيير ﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً ﴾ [ الأحزاب : ٢٨ ]. أشفق نشاء النبيّ ﷺ أن يطلقهنّ فقلن : يا نبيّ الله اجعل لنا من مالك ونفسك ما شئت، ودعنا في عصمتك فنزلت هذه الآية ﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ ﴾ الآية.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : الإحلال معناه الإباحة والحلّ، وإسناده إلى الله جل جلاله ﴿ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك ﴾ دال على أن التحليل والتحريم خاص به سبحانه والتشريع لله وحده والرسول ﷺ مبلّغ عن الله ولا يملك أحد سلطة التشريع ﴿ إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ [ يوسف : ٤٠ ].
اللطيفة الثانية : في وصفه تعالى النساء بقوله :﴿ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ تنبيه على أن الله تعالىّ اختار لنبيّه ﷺ الأفضل والأكمل، فإنّ إيتاء المهر أولى وأفضل من تأخيره، والتعجيل كان سنّة السلف لا يعرف منهم غيره، وقد شكا بعض الصحابه عدم القدرة على لاتزوج، فقال له عليه السلام :( فأين درعك الحطمية؟ ).
وليس تأخير بعض المهر وتقسيمه إلى ( معجّل ومؤجّل ) إلا شيء استحدثه العرف، واقتضاه التغالي بالمهور، أو الحذر على مستقبل الفتاة من الطلاق بعد أن فسد حال الناس.
446
فذكرُ الأجور ليس للقيد أو الشرط وغنما هو لبيان الأفضل.
اللطيفة الثالثة : تخصيص ما ملكت يمينه في قوله تعالى :﴿ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ ﴾ للإشارة إلى أنها أحلّ وأطيب مما تشتري من الجلب. فما سُبي من دار الحرب قيل فيه ( سبي طيبة )، وما كان عن طريق العهد قيل ( سبي خبيثة ) والله تعالى لا يرغب لنبيّه إلا في الطيّب، دون الخبيث. أفاده أبو حيان في « البحر المحيط ».
اللطيفة الرابعة : ذُكرَ العم والخال مفرداً، وجُمعَ العمات والخالات في قوله تعالى :﴿ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عماتك وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خالاتك ﴾ قال ابن العربي : والحكمة في ذلك أن العم، والخال في الإطلاق ( اسم جنس ) كالشاعر، والراجز، وليس كذلك في العمة والخالة، وقد جاء الكلام عليه بغاية البيان، على العرف الذي جرى عليه العرب كما قيل :( قالت بنات العم يا سلمى ).
وكقولهم :( إنّ بني عمك فيهم رماح ) وهذا دقيق فتأملوه.
اللطيفة الخامسة : العدول عن الخطاب إلى الغيبة في قوله تعالى :( إن أراد النبيّ ) ثمّ الرجوع إلى الخطاب في قوله ( خالصة لك ) وذكره ﷺ في الموضعين بعنوان ( النبوّة ) للدّلالة على أنّ الاختصاص كان من الله تعالى تكرمةً له لأجل النبوَّة، والتكريرُ للتفخيم من شأنه ﷺ، وبيان استحقاقه الكرامة لنبوته.
قال الزجّاج : وإنما قال :( إن وهبتْ نفسها للنبيّ ) ولم يقل : لك، لأنه لو قال :« لك » جاز أن يتوهّم أن ذلك يجوز لغير رسول الله ﷺ كما جاز في بنات العم وبنات العمات.
وجوه القراءات
أولاً : قوله تعالى :﴿ وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ قرأ الجمهور ﴿ وامرأةً ﴾ بالنصب عطفاً على مفعول ( أحلَلْا ) و ( إنْ وهبت ) بكسر الهمزة شرطية، وقرأ أبو حيْوة ( وامرأةٌ مؤمنةٌ ) بالرفع على الابتداء، والخبر محذوف أي أحللناها لك.
وقرأ الحسن ﴿ أنْ وهبت ﴾ بفتح الهمزة وتقديره : لأن وهبت نفسها للنبيّ.
ثانياً : قرأ نافع وحمزة والكسائي ﴿ تُرجي ﴾ بغير همز، وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر ﴿ تُرْجئ ﴾ مهموزاً والمعنى واحد.
ثالثاً : قرأ ابن محيصن، والجوْني ﴿ أنْ تُقِرّ ﴾ بضم التاء وكسر القاف ﴿ أعينَهُن ﴾ بنصب النون، وقرأ الجمهور ﴿ أنْ تَقَرّ أعينُهنّ ﴾ فالأولى من ( أقرّ ) الرباعي، والثانية من ( قرّ ) الثلاثي فتنبه.
رابعاً : قوله تعالى :﴿ لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء ﴾ قرأ الجمهور ﴿ يحلّ ﴾ بالياء، وقرأ أبو عمرو ( تَحلّ ) بالتاء.
قال ابن الجوزي : والتأنيث ليس بحقيقي، إنما هو تأنيث الجمع، فالقراءتان حسنتان.
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى :﴿ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ اللاتي : اسم موصول للمؤنث في محل نصب صفة لقوله ( أزواجك ) و ( أجورهنّ ) مفعول ثانٍ لآتيت لأنها بمعنى أعطيت، والمفعول الأول محذوف تقديره : آيتتُهنّ.
447
ثانياً : قوله تعالى :﴿ وامرأة مُّؤْمِنَةً ﴾ في نصب ( امرأةً ) وجهان :
أحدهما : أن يكون منصوباً بالعطف على قوله ( أزواجَك ) والعامل فيه ( أحللنا ).
والثاني : أن يكون منصوباً بتقدير فعل، وتقديهر : ونُحلّ امرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي، وليس معطوفاً على المنصوب ب ( أحللنا ) لأن الشرط والجزاء لا يصح في الماضي، ألا ترى انك لو قلت : إن قُمتَ غداً قُمتُ أمسِ، كنت مخطئاً.
قال أبو البركات بن الأنباري : وهذا الوجه أوجه الوجهين.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا ﴾ هنا شرطان، والثاني في معنى الحال، والمعنى : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها وأنت تريد أن تنكحها، وإذا اجتمع شرطان فالثاني شرط في الأول متأخر في اللفظ، متقدّم في الوقوع ما لم تدلّ قرينه على الترتيب، أفاده أبو حيان.
رابعاً : قوله تعالى :﴿ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ ﴾ كلُّهُنَّ : مرفوع لأنه توكيد لنون النسوة في ( يرضين ) وليس توكيداً للضمير في ( آتيتهنّ ) ومعنى الآية : ويرضين كلّهنّ بما آتيتهن.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يجوز النكاح بلفظ الإجارة أو الهبة؟
لا خلاف بين الفقهاء على أن عقد النكاح ينعقد باللفظ الصريح. وهو لفظ ( النكاح أو الزواج ) وبكل لفظ مشتق من هذه الصيغة، إذا لم يقصد به الوعد لقوله تعالى :﴿ فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ ﴾ [ النساء : ٢٥ ] ولقوله ﷺ :« إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه » فصيغة النكاح والتزويج وردت في الكتاب والسنة. وهي من الصيغ الصريحة في النكاح.
وقد اتفق الفقهاء أيضاً على أنّ ألفاظ ( الإباحة، والإحلال، والإعارة، والرهن والتمتع ) لا يجوز بها عقد النكاح. ومثلها لفظ ( الإجارة ) فلا يجوز به عقد النكاح عند جمهور الفقهاء.
وقال أبو الحسن الكرخي : يجوز بلفظ الإجارة لقوله تعالى :﴿ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ وحجته أن الله تعالى سمّى المهر أجراً. والأجر يجب بعقد يتحقق بلفظ الإجارة، فيصح به النكاح.
الرد على الكرخي :
والجواب : أنّ معنى ( الإجارة ) يتنافى مع عقد النكاح. إذ النكاح مبني على التأبيد. والتوقيقُ يبطله. وعقد الإجارة مبنيٌ على التوقيت. حتى لو أطلق كان مؤقتاً ويتجدّد ساعة فساعة. فكيف يصح جعل ما هو موضوع على التوقيت دالاً على ما يبطله التوقيت؟
ومن جهة ثانية فإن الإجارة عقد على لامنافع بعوض، والمهر ليس مقابل العوض. بل هو عطية أوجبها الله تعالى إظهاراً لخطر المحل. ولذلك يصحّ النكاح مع عدم ذكر المهر. ويجب مهر المثل بالدخول. ولا يصح النكاح بلفظ الإجازة حتى لا يلتبس الأمر بعقد المتعة الباطل. ولهذا لم يوافق أحد من فقهاء الحنفية الكرخيَّ فيما ذهب إليه.
أما النكاح بلفظ الهبة فقد أجازه الحنفية. ومنعه جمهور الفقهاء.
أدلة الحنفية :
استدل الحنفية على جواز عقد النكاح بلفظ الهبة بما يلي :
أ- قوله تعالى :﴿ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا ﴾ ووجه الاستدلال أنّ الله تعالى وسمّى العقد بلفظ الهبة نكاحاً فقال :( أن يستنكحها ) فدلّ على جواز النكاح بلفظ الهبة، وإذا جاز هذا للنبي ﷺ فقد جاز لنا أيضاً لأننا أمرنا باتباعه والإقتداء به.
448
ب- وقالوا أيضاً : إن النبي ﷺ وأمتَّه في عقد النكاح بلفظ ( الهبة ) سواء. وخصوصيتُه التي أشارت إليها الآية الكريمة ﴿ خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين ﴾ إنما هي في جواز النكاح بدون مهر بدليل قوله تعالى في آخر الآية ﴿ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ﴾ وذلك يشير إلى أنّ الخصوصية دفعت حرجاً، والحرجُ إنما يكون في إلزام المهر؛ لأنه يلزمه مشقة السعي في تحصيل المال، وهو عليه السلام مشغول بشؤون الرسالة، وليس ثمة حرج أن يكون العقد بلفظ النكاح أو التزويج فتكون الخصوصية له عليه السلام في النكاح بدون مهر.
ح - وقالوا : مما يؤيد هذا ما روي عن عائشة أنها كانت تعيّر النساء اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي ﷺ وتقول :( ألا تستحيي أن تعرض نفسها بغير صداق ) !! فلما نزل قوله تعالى :﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ... ﴾ [ إلى قوله ] ﴿ فَلاَ جُنَاحَ ﴾ قالت : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وقد تقدّم الحديث.
د- واستدلوا بحديث سهل بن سعد « أن امرأة جاءت إلى رسول الله ﷺ فقالت يا رسول الله : جئت لأهب نفسي لك.. وفيه فقام رجل من الصحابة فقال يا رسول الله : إن لم تكن لك بها حاجة فزوِّجْنيها، وذكر الحديث إلى قوله : إذهب فقد مَلّكتكها بما معك من القرآن ».
ففي هذا الحديث أنه عقد له النكاح بلفظ التمليك. والهبة من ألفاظ التمليك. فوجب أن يجوز بها عقد النكاح. فلكُّ ما كان من ألفاظ ( الإباحة ) لم ينعقد به عقد النكاح قياساً على المتعة، وكلُّ ما كان من ألفاظ ( التمليك ) ينعقد به عقد النكاح قياساً على سائر عقود التمليكات.
حجة الجمهور :
واستدل الجمهور ( المالكية والشافعية والحنابلة ) على عدم جواز النكاح بلفظ الهبة بما يأتي :
أ- أنّ الله تعالى خصّ رسوله بهذه الخصوصية، وهي جواز النكاح بلفظ الهبة بدون مهر فقال جل ثناؤه :﴿ وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين ﴾.
فقوله تعالى :﴿ إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ ﴾ وقوله ﴿ خَالِصَةً لَّكَ ﴾ دليل على أنّ إحلال المرأة عن طريق الهبة إنما كان خاصاً بالنبي ﷺ بدليل قوله تعالى ﴿ مِن دُونِ المؤمنين ﴾ فالخصوصية له عليه السلام كانت بالهبة ( لفظاً ومعنى ) لأنّ اللفظ تابع للمعنى.
ب- وقالوا : ما كان من خصوصياته عليه السلام، فلا يجوز أن يشاركه فيها أحد.
449
والآية دلت على أن هذا خاص بالرسول ﷺ أي أن النكاح بدون مهر، وبلفظ الهبة معاً، من خصائصه عليه السلام، فمن أين لكم الخصوصية في المعنى دون اللفظ؟ ومن أين لكم أنه يجوز عقد النكاح لغير النبي ﷺ بلفظ الهبة مع إيجاب المهر؟
ج - وأما استدلال الحنفية بحديث ( سهل بن سعد ) أن النبي عليه السلام زوّج الصحابي بلفظ التمليك بقوله :« اذهب فقد ملّكتُكها بما معك من القرآن » فليس فيه ما يدل لهم، فقد جاء في بعض الروايات « اذهب فقد زوّجتُكها » وليس كل ما يدل على التمليك ينعقد به النكاح. فلفظ الإجارة يدل على التمليك ومع ذلك لا ينعقد به النكاح باتفاق.
الترجيح : أقول : أدلة الحنفية كما بسطها الإمام ( الجصاص ) وإن كانت قوّية، إلاّ أنّ النصّ ورد بالخصوصية للرسول عليه السلام في ( نكاح الهبة ) والظاهر أنّ المراد منه ( اللفظ والمعنى )، وحمله على لامعنى دون اللفظ يحتاج إلى دليل. وصيَغُ النكاح لا يجري فيها القياس، فما ذهب إليه الجمهور هو الأرجح كما قال الإمام مالك رحمه الله : إنّ الهبة لا تحل لأحد بعد النبي ﷺ إن كانت هبة نكاح، والله أعلم.
الحكم الثاني : هل الهجرة شرط في النكاح؟
ظاهر الآية الكريمة يدل على أنّ من لم تهاجر معه من النساء لا يحلّ له نكاحها لقوله تعالى :﴿ اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ الآية وإلى هذا الظاهر ذهب بعض العلماء، قال القاضي أبو يعلى : وهذا يدل على أن من لم تهاجر معه من النساء لم يحلّ له نكاحها، قالت أم هانئ بنت أبي طالب : خطبني رسول الله ﷺ فاعتذرت إليه فعذرني، ثم نزلت هذه الآية ﴿ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أزواجك ﴾ إلى قولك ﴿ اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ ﴾ قالت : فلم أكن لأحلّ له، لأني لم أهاجر معه، كنتُ من الطّلقاء.
وجمهور المفسرين على أن الهجرة ليست بقيد ولا شرط، وإنما هي لبيان الأفضل. كما في قوله تعالى :﴿ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ ﴾ فالآية ذكرت الأصناف التي يباح للرسول ﷺ أن يتزوج منها، وبيّن ما هو أفضل له وأكمل، فكما أنّ ذكر ( الأجور ) ليس للقيد وإنما هو لبيان الأفضل فكذا هنا.
قال أبو حيّان :( والتخصيص باللاتي هاجرن معك، لأنّ من هاجر معه من قرابته غير المحارم أفضل من غير المهاجرات، وقيل : شرط الهجرة في التحليل منسوخ ).
وحكى المارودي في ذلك قولين : أحدهما : أن الهجرة شرط في إحلال النساء له على الإطلاق.
والثاني : أنه شرط في إحلال قراباته المذكورات في الآية دون الأجنبيات.
الترجيح : والصحيح ما ذهب إليه جمهور المفسّرين أن تقييد القريبات بكونهنّ مهاجرات لبيان الأكمل والأفضل.
450
الحكم الثالث : هل كان عند النبي امرأة موهوبة؟
ذهب أكثر العلماء إلى أن الهبة وقعت من كثير من النساء، وقد وردت روايات كثيرة منها القوي ومنها الضعيف في أسماء الواهبات أنفسهنّ، منهنّ ( أم شريك ) و ( خولة بنت حكيم ) و ( ليلى بنت الخطيم ) ولكن لم يكن عند رسول الله ﷺ منهنّ أحد، وقيل ( ميمونة بنت الحارث ) و ( زينب بنت خزيمة ) كذلك من الواهبات أنفسهنّ والصحيح هو الأول.
قال أبو بكر ابن العربي :( وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا : لم يكن عند النبي ﷺ امرأة موهوبة ).
قال ابن كثير :« اللاتي وهبن أنفسهن للنبي ﷺ كثير، كما قال البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهنّ للنبي ﷺ وأقول : أتهب المرأة نفسها؟ فلمّا أنزل الله تعالى :﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ ﴾ قلت : ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك ».
الحكم الرابع : هل كان القسم واجباً على رسول الله ﷺ وأنه كان يقسم بينهن بالعدل ويقول :« اللهمّ هذا قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما لا أملك » يريد بقوله ( ما لا أملك ) ميل القلب نحو بعض نسائه كعائشة رضي الله عنها.
واستدلوا بأنّ القسم كان واجباً عليه بأنه عليه السلام كان يستأذن بعض نسائه فيقول : أتأذنّ لي أن أبيت عند فلانه، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة.
وذهب أكثر العلماء على أن هذه الآية الكريمة نزلت مبيحة لرسول الله ﷺ معاشرة من شاء من نسائه دون أن يكون القسم عليه واجباً، ومع ذلك فقد كان يعدل بينهنّ ويسوّي في القسمة.
قال الجصاص :« وهذه الآية تدل على أن القسم بينهن لم يكن واجباً على النبي ﷺ وأنه كان مخيراً في القسم لمن يشاء، وترك من شاء منهن ».
وقال ابن كثير :« وذهب طائفة من العلماء من الشافعية وغيرهم، إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه ﷺ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة، وقال البخاري عن معاذ عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان النبي ﷺ يستأذننا في يوم المرأة منا، بعد أن نزلت هذه الآية ﴿ تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ﴾ فقلت لها : ما كنت تقولين؟ قالت كنت أقول : إن كان ذلك إليّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً ». والصحيح أن القسم لم يكن واجباً عليه وهو اختيار الجمهور.
شبهة والردُّ عليها
لقد درج أعداء الإسلام منذ القديم، على التشكيك في نبي الإسلام، والطعن في رسالته والنيل من كرامته، ينتحلون الأكاذيب والأباطيل، ليشككوا المؤمنين في دينهم، ويبعدوا الناس عن الإيمان برسالته ﷺ، ولا عجب أن نسمع مثل هذا البهتان والافتراء والتضليل في حق الأنبياء والمرسلين، فتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلاص.
451
وصدق الله حيث يقول :﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً ﴾ [ الفرقان : ٣١ ] وقبل أن نتحدث عن « أمهات المؤمنين الطاهرات »، وحكمة الزواج بهن نحب أن نردّ على شبهة سقيمة، طالما أثارها كثير من الأعداء، من الصليبيين، الحاقدين، والغربيّين المتعصبين.
ردّدوها كثيراً ليفسدوا بها العقائد، ويطمسوا بها الحقائق. ولينالوا من صاحب الرسالة العظمى محمد بن عبد الله، صلوات الله عليه.
إنهم يقولون :« لقد كان محمد رجلاً شهوانياً، يسير وراء شهواته وملذاته، ويمشي مع هواه، لم يكتف بزوجةٍ واحدة أو بأربع، كما أوجب على أبتاعه، بل عدّد الزوجات فتزوّج عشر نسوةٍ أو يزيد، سيراً مع الشهوة، وميلاً مع الهوى!
كما يقولون أيضاً :»
فرقٌ كبير وعظيم بين « عيسى » وبين « محمد »، فرقٌ بين من يغالب هواه، ويجاهد نفسه كعيسى بن مريم، وبين من يسير مع هواه، ويجري وراء شهواته كمحمد ﴿ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً ﴾ [ الكهف : ٥ ].
حقاً إنهم لحاقدون كاذبون، فما كان « محمد » ﷺ، رجلاً شهوانياً، إنما كان نبياً إنسانياً، تزوّج كما يتزوّج البشر، ليكون قدوة لهم في سلوك الطريق السويّ، وليس هو إلهاً، ولا ابن إله - كما يعتقد النصارى في نبيّهم - إنما هو بشر مثلهم، فضّله الله عليهم بالوحي، والرسالة ﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ... ﴾ [ الكهف : ١١٠ ].
ولم يكن صلوات الله وسلامه عليه بدعاً من الرسل، حتى يخاف سنتهم، أو ينقض طربقتهم، فالرسل الكرام قد حكى القرآن الكريم عنهم بقول الله جلّ وعلا :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً... ﴾ [ الرعد : ٣٨ ].
فعلام إذاً يثيرون هذه الزوابع الهوج في حقّ خاتم النبيين ﷺ ؟
ولكن كما يقول القائل :
قد تنكر العين ضوء الشمس من رَمَد وينكر الفم طعم الماء من سقم
وصدق الله حيث يقول :﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور ﴾ [ الحج : ٤٦ ]
« ردُّ الشبهة »
هناك نقطتان جوهريتان، تدفعان الشبهة عن النبي الكريم، وتلقمان الحجر لكل مقتر أثيم، يجب ألاّ يغفل عنهما، وأن نضعهما نَصْبَ أعيننا حين نتحدث عن أمهات المؤمنين، وعن حكمة تعدّد زوجاته الطاهرات، رضوان الله عليهن أجمعين.
هاتان النقطتان هما :
أولاً : لم يعدّد الرسول الكريم ﷺ زوجاته إلا بعد بلوغه سنَّ الشيخوخة أي بعد أن جاوز من العمر الخمسين.
452
ثاناً : جميع زوجاته الطاهرات ثيبات ( أرامل ) ما عدا السيدة عائشة رضي الله عنها فهي بكر، وهي الوحيدة من بين نسائه التي تزوجها ﷺ وهي في حالة الصبا والبكارة.
ومن هاتين النقطتين ندرك - بكل بساطة - تفاهة هذه التهمة، وبطلان ذلك الادعاء، الذي ألصقه به المستشرقون الحاقدون.
فلو كان المراد من الزواج الجريَ وراء الشهوة، أو السيرَ مع الهوى، أو مجرد الاستمتاع بالنساء، لتزوّج في سنّ ( الشباب ) لا في سنّ ( الشيخوخة ) ولتزوج ( الأبكار الشابات )، لا ( الأرامل المسنّات )، وهو القائل لجابر بن عبد الله حين جاءه وعلى وجهه أثر التطيب والنعمة :« هل تزوجت؟ قال : نعم، بكراً أم ثيباً؟ قال : بل ثيباً، فقال له صلوات الله عليه : فهلاَّ بكراً تلاعبها وتلاعبك، وتضاحكها وتضاحكك »؟
فالرسول الكريم أشار عليه بتزوج البكر، وهو عليه السلام يعرف طريق الاستمتاع وسبيل الشهوة، فهل يعقل أن يتزوج الأرامل ويترك الأبكار. ويتزوج في سن الشيخوخة، ويترك سنّ الصّبا، إذا كان غرضه الاستمتاع والشهوة؟!
إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يفدون رسول الله ﷺ بمهجهم وأرواحهم، ولو أنه طلب الزواج لما تأخر أحد منهم عن تزويجه بمن شاء من الفتيات الأبكار الجميلات، فلماذا لم يعدّد الزوجات في مقتبل العمر، وريعان الشباب، ولماذا ترك الزواج بالأبكار، وتزوّج الثيبات؟
إنّ هذا - بلا شك - يدفع كل تقوّل وافتراء، ويدحض كل شبهة وبهتان. ويردّ على كل آفّاك أثيم، يريد أن ينال من قدسية الرسول، أو يشوّه سمعته فما كان زواج الرسول بقصد ( الهوى ) أو ( الشهوة ) وإنما كان لحكم جليلة، وغايات نبيلة، وأهداف سامية، سوف يقر الأعداء بنبلها وجلالها، إذا ما تركوا التعصب الأعمى، وحكّموا منطق العقل والوجدان. وسوف يجدون في هذا الزواج ( المثل الأعلى ) في الإنسان الفاضل الكريم، والرسول النبي الرحيم، الذي يضحّي براحته في سبيل مصلحة غيره، وفي سبيل مصلحة الدعوة والإسلام.
حكمة تعدد زوجات الرسول ﷺ
إن الحكمة من « تعدّد زوجات الرسول » كثيرة ومتشعبة، ويمكننا أن نجملها فيما يلي :
أولاً : الحكمة التعليمية.
ثانياً : الحكمة التشريعية.
ثالثاً : الحكمة الاجتماعية.
رابعاً : الحكمة السياسة.
ولنتحدث باختصار عن كلٍ من هذه الحِكَم الأربع، ثم نعقبها بالحديث عن أمهات المؤمنين الطاهرات، وحكمة الزواج بكل واحدة منهن استقلالاً فنقول ومن الله نستمد العون.
أولاً : الحكمة التعليمية :
لقد كانت الغاية الأساسية من تعدد زوجات الرسول ﷺ هي تخريج بضع معلمات للنساء، يعلمنهن الأحكام الشرعية، فالنساء نصيف المجتمع، وقد فُرِضَ عليهن من التكاليف ما فرض على الرجال.
وقد كان الكثيرات منهن يستحيين من سؤال النبي ﷺ عن بعض الأمور الشرعية وخاصة المتعلقة بهن، كأحكام الحيض، والنفاس، والجنابة، والأمور الزوجية، وغيرها من الأحكام، وقد كانت المرأة تغالب حياءها حينما تريد أن تسأل الرسول الكريم عن بعض هذه المسائل.
453
كما كان من خلق الرسول ﷺ الحياء الكامل، وكان - كما تروي كتب السنّة - أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، فما كان ﷺ يستطيع أن يجيب عن كل سؤالٍ يعرض المرأة عن طريق ( الكناية ) مراده عليه السلام.
تروي السيدة عائشة رضي الله عنها أن امرأة من الأنصار، سألت النبي ﷺ عن غسلها من المحيض، فعلّمها ﷺ كيف تغتسل، ثمّ قال لها : خذي فرصة ممسّكةً ( أي قطعة من القطن بها أثر الطيب ) فتطهّري بها، قالت : كيف أتطهر بها؟ قال : تطهّري بها، قالت : كيف يا رسول الله أتطهر بها؟ فقال لها : سبحان الله تطهّري بها!.
قالت السيدة عائشة : فاجتذبتها من يدها، فقلت : ضعيها في مكان كذا وكذا، وتتبعي بها أثر الدم، وصرحت لها بالمكان الذي تضعها فيه.
فكان صلوات الله عليه يستحيي من مثل هذا التصريح، وهكذا كان القليل أيضاً من النساء من تستيطع أن تتغلّب على نفسها، وعلى حيائها، فتجاهر النبي ﷺ بالسؤال عمّا يقع لها.
نأخذ مثلاً لذلك حديث ( أم سلمة ) المرويّ في « الصحيحين » وفيه تقول :( جاءت أم سُلَيْم ( زوج أبي طلحة ) إلى الرسول الله ﷺ فقالت له : يا رسول الله إن الله لا يستحيي من الحق، هل على المرأة من غُسْل إذا هي احتلمت؟ فقال لها النبي ﷺ : نعم إذا رأت الماء.
فقالت أم سلمة : لقد فضحتِ النساء، ويحك أو تحتلم المرأة؟ فأجابها النبي الكريم بقوله : إذاً فبم يشببها الولد؟ )
مراده عليه السلام أن الجنين يتولد من ماء الرجل، وماءِ المرأة، ولهذا يأتي له شبه بأمه، وهذا كما قال الله تعالى :﴿ إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً ﴾ [ الإنسان : ٢ ].
قال ابن كثير رحمه الله :« أمشاج : أي أخلاط. والمشج والمشيج الشيء المختلط بعضه في بعض، قال ابن عباس : يعني ماءَ الرجل، وماء المرأة، إذا اجتمعا واختلطا... ».
وهكذا مِثْلُ هذه الأسئلة المحرجة، كان يتولى الجواب عنها فيما بعد زوجاتُه الطاهرات. ولهذا تقول السيدة عائشة رضي الله عنها :« رحم الله نساء الأنصار، ما منعهن الحياء أن يتفقهن في الدين ».
وكانت المرأة منهن تأتي إلى السيدة عائشة في الظلام لتسألها عن بعض أمور الدين، وعن أحكام الحيض والنفاس والجنابة وغيرها من الأحكام، فكان نساء الرسول خيرَ معلّمات وموجهات لهن، وعن طريقهن تفقّه النساء في دين الله.
ثمّ إنه من المعلوم أنّ السنّة المطهّرة ليست قاصرة على قول النبي ﷺ فحسب، بل هي تشمل قوله.
454
وفعله، وتقريره، وكل هذا من التشريع الذي يجب على الأمة اتباعه، فمن ينقل لنا أخبارَه وأفعالَه عليه السلام في المنزل غيرُ هؤلاء النسوة اللواتي أكرمهن الله فكنّ أمهات للمؤمنين، وزوجاتٍ لرسوله الكريم في الدنيا والآخرة؟!
لا شك أن لزوجاته الطاهرات رضوان الله عليهن أكبر الفضل في نقل جميع أحواله وأطواره، وأفعاله المنزلية عليه السلام أفضل الصلاة والتسليم.
ولقد أصبح من هؤلاء الزوجات معلّمات ومحدثات نقلن هدية عليه السلام. واشتهرن بقوة الحفظ والنبوغ والذكاء.
ونتحدث الآن عن ( الحكمة التشريعية ) التي هي جزء من حكمة تعدد زوجات الرسول ﷺ. وهذه الحكمة ظاهرة تدرك بكل بساطة، وهي أنها كانت من أجل إبطال بعض العادات الجاهلية المستنكرة، ونضرب لذلك مثلاً ( بدعة التبني ) التي كا ن يفعلها العرب قبل الإسلام، فقد كانت ديناً متوارثاً عندهم، يتبنّى أحدهم ولداً ليس من صلبه، ويجعله في حكم الولد الصلبي، ويتخذه ابناً حقيقياً له حكم الأبناء من النسب، في جميع الأحوال : في الميراث، والطلاق، والزواج، ومحرمات المصاهرة، ومحرمات النكاح، إلى غير ما هنالك مما تعارفوا عليه وكان ديناً تقليدياً متبعاً في الجاهلية.
كان الواحد منهم يتبنَّى ولد غيره فيقول له :« أنت ابني، أرثك وترثني » وما كان الإسلام ليقرّهم على باطل، ولا ليتركهم يتخبّطون في ظلمات الجهالة، فمهّد لذلك بأن ألهم رسوله عليه السلام أن يتبنّى أحد الأبناء - وكان ذلك قبل البعثة النبوية - فتبنّى النبي الكريم ( زيد بن حارثه ) وأصبح الناس يدعونه بعد ذلك اليوم ( زيد بن محمد ).
روى البخاري ومسلم : عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال : إنّ زيد بن حارثة مولى رسول الله ﷺ ما كنّا ندعوه إلاّ زيد بن محمد، حتى نزل القرآن ﴿ ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله ﴾ [ الأحزاب : ٥ ] فقال النبي ﷺ : أنت زيد بن حارثه بن شراحبيل «.
وقد زوّجه عليه السلام بابنة عمته ( زينب بنت جحش الأسدية ) وقد عاشت معه مدةً من الزمن، ولكنها لم تطل فقد ساءت العلاقات بينهما، فكانت تغلظ له القول، وترى أنها أشرفُ منه، لأنه كان عبداً مملوكاً قبل أن يتبناه الرسول، وهي ذات حسبٍ ونسب.
ولحكمة : يريدها الله تعالى طلّق زيد زينب، فأمر الله رسوله أن يتزوجها ليبطل ( بدعة التبني ) ويقيم أسس الإسلام، ويأتي على الجاهلية من قواعدها. ولكنه عليه السلام كان يخشى من ألسنة المنافقين والفجّار، أن يتكلموا فيه ويقولوا : تزوّج محمد امرأة ابنه، فكان يتباطأ حتى نزل العتاب الشديد لرسول الله عليه السلام، وفي قوله جلّ وعلا :
﴿ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً ﴾
455
[ الأحزاب : ٣٧ ].
وهكذا انتهى حكم التبني، وبطلت تلك العادات التي كانت متبعة في الجاهلية. وكانت ديناً تقليدياً لا محيد عنه، ونزل قوله تعالى مؤكداً هذا التشريع الإلهي الجديد :﴿ مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٤٠ ].
وقد كان هذا الزواج بأمرٍ من الله تعالى، ولم يكن بدافع الهوى والشهوة كما يقول بعض الأفّاكين المرجفين من اعداء الله، وكان لغرضٍ نبيل، وغاية شريفة هي إبطال عادات الجاهلية، وقد صرّح الله تعالى بغرض هذا الزواج بقوله :﴿ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً... ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ].
وقد تولى الله عزّ وجل تزويج نبيه الكريم بزينب، امرأة ولده من التبني ولهذا كانت تفخر على نساء النبي بهذا الزواج الذي قضى به رب العزّة من فوق سبع سماواته.
روى البخاري : يسنده أن ( زينب ) رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي ﷺ وتقول : زوجكُنّ أهاليكن، وزوّجني الله من فوق سبع سموات.
وهكذا كان هذا الزواج للتشريع، وكان بأمر الحكيم العليم، فسبحان من دقت حكمته أن تحيط بها العقول والأفهام وصدق الله :﴿ وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإسراء : ٨٥ ].
ثالثاً : الحكمة الاجتماعية :
أما الحكمة الثالثة فهي ( الحكمة الاجتماعية ) وهذه تظهر بوضوح في تزوج النبي ﷺ بابنة الصّديق الأكبر ( أبي بكر ) رضي الله عنه وزيره الأول، ثمّ بابنة وزيره الثاني الفاروق ( عمر ) رضي الله عنه وأرضاه، ثمّ باتصاله عليه السلام بقريش اتصال مصاهرة ونسب. وتزوجه العديد منهن، ممّا ربط بين هذه البطون والقبائل برباط وثيق، وجعل القلوب تلتف حوله، وتلتقي حول دعوته في إيمان، وإكبار، وإجلال.
لقد تزوّج النبي صلوات الله عليه بالسيدة ( عائشة ) بنتِ أحبّ الناس إليه، وأعظمهم قدراً لديه، ألاوهو أبو بكر الصدّيق، الذي كان أسبق الناس إلى الإسلام، وقدّم نفسه وروحه وماله، في سبيل نصرة دين الله، والذود عن رسوله، وتحمّل ضروب الأذى في سبيل الإسلام، حتى قال عليه السلام - كما في الترمذي - مُشيداً بفضل أبي بكر :
« ما لأحد عندنا يدٌ وقد كافيناه بها، ما خلا أبا بكر، فإنّ له عندنا يداً يكافيه الله تعالى بها يوم القيامة، وما نفعني مال أحدٍ قط ما نفعني مال أبي بكر. وما عرضت الإسلام على أحدٍ إلاّ كانت له كبوة ( أي تردد وتلكؤ ) إلا أبا بكر فإنه لم يتعلثم، ولو كنتُ متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، أإلا وإنّ صاحبكم خليل الله تعالى ».
فلم يجد الرسول صلى الله عله وسلم مكافأة لأبي بكر في ادلنيا، أعظم من أن يُقرَّ عينه بهذا الزواج بابنته، ويصبح بينهما ( مصاهرة ) وقرابة، تزيد في صداقتهما وترابطهما الوثيق.
456
كما تزوج صلوات الله عليه بالسيدة ( حفصة بنت عمر ) فكان ذلك قرّة عين لأبيها عمر على إسلامه، وصدقه، وإخلاصه، وتفانيه في سبيل هذا الدين، وعمر هو بطل الإسلام، الذي أعزّ الله به الإسلام والمسلمين، ورفع به منار الدين، فكان اتصاله عليه السلام به عن طريق المصاهرة، خيّرَ مكافأة له على ما قدّم في سبيل الإسلام، وقد ساوى ﷺ بينه وبين وزيره الأول أبي بكر في تشريفه بهذه المصاهرة، فكان زواجه بابنتيهما أعظم شرفٍ لهما، بل أعظم مكافأة ومنّة، ولم يكن بالإمكان أن يكافئهما في هذه الحياة بشرف أعلى من هذا الشرف، فما أجلّ سياسته؟ وما أعظم وفاءه للأوفياء المخلصين!.
كما يقابُل ذلكَ اكرامَه لعثمان وعلي رضي الله عنهما بتزويجهما ببناته، وهؤلاء الأربع هم أعظم أصحابه، وخلفاؤه من بعده في نشر ملته، وإقامة دعوته، فما أجلّها من حكمة، وما أكرمها من نظرة؟
رابعاً : الحكمة السياسية :
لقد تزود النبي ﷺ ببعض النسوة، من أجل تأليف القلوب عليه، وجمع القبائل حوله، فمن المعلوم أنّ الإنسان إذا تزوج من قبيلة، أو عشيرة، يصبح بينه وبينهم قرابة و ( مصاهرة ) وذلك بطبيعته يدعوهم إلى نصرته وحمايته، ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك لتتضّح لنا الحكمة، التي هدف إليها الرسول الكريم من وراء هذا الزواج.
أولاً : تتزوّج صلوات الله عليه بالسيدة ( جويرية بنت الحارث ) سيّد بني المصطلق، وكانت قد أُسِرت مع قومها وعشيرتها، ثمّ بعد أن وقعت تحت الأسر أرادت أن تفتدي نفسها، فجاءت إلى رسول الله ﷺ تستعينه بشيء من المال، فعرض عليها الرسول الكريم أن يدفع عنها الفداء وأن يتزوج بها فقبلت ذلك فتزوجها، فقال المسلمون : أصهار رسول الله ﷺ تحت أيدينا؟ ( أي أنهم في الأسر ) فأعتقوا جميع الأسرى الذين كانوا تحت أيديهم، فلما رأى بنو المصطلق هذا النبل والسمو، وهذه الشهامة والمروءة أسلموا جميعاً، ودخلوا في دين الله، وأصبحوا من المؤمنين.
فكان زواجه ﷺ بها بركة عليها وعلى قومها وعشيرتها، لأنه كان سبباً لإسلامهم وعتقهم، وكانت ( جويرية ) أيمن امرأة على قومها.
أخرج البخاري في « صحيحه » : عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :« أصاب رسول الله ﷺ نساءَ بني المصطلق، فأخرج الخُمُس منه ثمّ قسمه بين الناس، فأعطى الفرس سهمين، والرجل سهماً، فوقعت ( جويرية بنت الحارث ) في سهم ثابت بن قيس، فجاءت إلى الرسول فقالت : يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث سيّدِ قومه، وقد أصابني من الأمر ما قد علمتَ، وقد كاتبني ثابت على تسع أواق، فأعنّي على فَكَاكي، فقال عليه السلام : أو خير من ذلك؟ فقالت : ما هو؟ فقال : أوْدي عنك كتابَتاَك وأتزوجُك. فقالت : نعم يا رسول الله، فقال رسول الله قد فعلت ».
457
وخرج الخبر إلى الناس فقالوا : أصهار رسول الله يُسْترقّون؟ فأعتقوا ما كان في أيديهم من سبي بني المصطلق، فبلغ عتقُهم مائةً بيت، بتزوجه عليه السلام بنتَ سيدِ قومه.
ثانياً :- وكذلك تزوجه ﷺ بالسيدة ( صفية بنت حُيّي بن أخطب ) التي أسرت بعد قتل زوجها في ( غزوة خيبر ) ووقعت في سهم بعض المسلمين فقال أهل الرأي والمشورة : هذه سيّدة بني قريظة، لا تصلح إلاّ لرسول الله ﷺ فعرضوا الأمر على الرسول الكريم، فدعاها وخيّرها بين أمرين :
أ- إمّا أن يعتقها ويتزوجها عليه السلام فتكون زوجة له.
ب- وأمّا أن يُطْلِقَ سراحها فتلحق بأهلها.
فاختارت أن يعتقها وتكون زوجة له، وذلك لما رأته من جلالة قدره، وعظمته وحسن معاملته، وقد اسلمت وأسلم بإسلامها عدد من الناس، روي أن ( صفية ) رضي الله عنها لما دخلت على النبي ﷺ قال لها : لم يزل أبوك من أشدّ اليهود لي عداوة حتى قتله الله، فقالت يا رسول الله : إن الله يقول في كتابه :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ].
فقال لها الرسول الكريم : اختاري، فإن اخترَت الإسلام أمسكتك لنفسي، وإن اخترت اليهودية فعسى أن أعتقك فتلحقي بقومك، فقالت يا رسول الله : لقد هويتُ الإسلام، وصدقتُ بك قبل أن تدعوني إلى رَحْلك، ومالي في اليهودية أرَب، ومالي فيها والد ولا أخ، وخيّرتني الكفرَ والإسلامَ، فاللَّهُ ورسولُه احبّ إليّ من العَتْق، وأن أرجع إلى قومي، فأمسكها رسول الله ﷺ لنفسه.
ثالثاً : وكذلك تزوجه ﷺ بالسيدة أم حبيبة ( رملة بنت أبي سفيان ) الذي كان في ذلك الحين حامل لواء الشرك، وألدّ الأعداء لرسول الله ﷺ وقد أسلمت ابنته في مكة، ثمّ هاجرت مع زوجها إلى الحبشة فراراَ بدينها، وهناك مات زوجها فبقيت وحيدة فريدة، لا معين لها ولا أنيس، فلما علم الرسول الكريم بأمرها أرسل إلى ( النجاشي ) ملكِ الحبشة ليزوجه أيّاها، فأبلغها النجاشي ذلك فسُرّت سروراً لا يعرف مقدراه إلا الله سبحانه، لأنها لو رجعت إلى أبيها أو أهلها لأجبروها على الكفر والردَّة، أو عدبّوها عذاباً شديداً، وقد أصدقها عنه أربعمائة دينار مع هدايا نفيسه، ولما عادت إلى المدينة المنورة تزوجها النبي المصطفى ﷺ.
ولما بلغ ( أبا سفيان ) الخبرُ أقرَ ذلك الزواج وقال :« هوالفحل لا يُقدع أنفُه » فافتخر بالرسول ولم ينكر كفاءته له، إلى أن هداه الله تعالى للإسلام.
ومن هنا تظهر لنا الحكمة الجليلة في تزوجه عليه السلام بابنة أبي سفيان فقد كان هذا الزواج سبباً لتخفيف الأذى عنه وعن أصحابه المسلمين، سيّما بعد أن أصبح بينهما نسب وقرابة، مع أن أبا سفيان كان وقت ذاك من ألدّ بني أمية خصومة لرسول الله، ومن أشدّهم عداء له وللمسلمين، فكان تزوجه بابنته سبباً لتأليف قلبه وقلب قومه وعشيرته، كما أنه ﷺ اختارها لنفسه تكريماً لها على إيمانها لأنها خرجت من ديارها فارة بدينها، فما أكرمها من سياسة، وما أجلها من حكمة؟؟
أمهات المؤمنين الطاهرات
بعد أن تحدثنا عن حكمة تعدد زوجات الرسول ﷺ نتحدث الآن عن ( أمهات المؤمنين ) الطاهرات رضوان الله تعالى عليهن.
458
فقد اختارهنّ الله لحبيبه المصطفى ﷺ وأكرمهن بهذا الشرف العظيم، شرف الانتساب إلى سيِّد المرسلين، واختارهن من صفوة النساء، وجعلهنَّ أمهات المؤمنين، في وجوب الاحترام والتعظيم، وفي حرمة الزواج بهن حتى بعد وفاته عليه السلام تكريماً لرسوله فقال وهو أصدق القائلين :﴿ النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ... ﴾ [ الأحزاب : ٦ ].
وقال تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ].
قال العلامة القرطبي : في تفسيره ( الجامع لأحكام القرآن ) ما نصه :« شرّف الله تعالى أزواج نبيه ﷺ، بأن جعلهن أمهات للمؤمنين، أي في وجوب التعظيم، والمبرّة، والإجلال، وحرمة النكاح على الرجال، فكان ذلك تكريماً لرسوله، وتشريفاً لهن ».
أسماء أمهات المؤمنين
وأمهات المؤمنين اللواتي تزوجهن الرسول الكريم هنَّ كالآتي :
أولاً : السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها.
ثانياً : السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها.
ثالثاً : السيدة عائشة بنت أبي بكر الصّديق رضي الله عنها.
رابعاً : السيدة حفصة بنت عمر رضي الله عنها.
خامساً : السيدة زينب بنت جحش الأسدية رضي الله عنها.
سادساً : السيدة زينب بنت خزيمة رضي الله عنها.
سابعاً : السيدة أم سلمة ( هند بنت أبي أمية المخزومية ) رضي الله عنها.
ثامناً : السيدة أم حبيبة ( رملة بنت أبي سفيان ) رضي الله عنها.
تاسعاً : السيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها.
عاشراً : السيدة جويرية بنت الحارث رضي الله عنها.
وأخيراً : السيدة صفية بنت حُيّي بن أخطب رضي الله عنها.
١- السيدة خديجة بنت خويلد رضي الله عنها
هي أول أزواجه عليه السلام. تزوجها الرسول الكريم قبل البعثة وهو ابن خمس وعشرين سنة، وهي ثيِّب ( أرملة ) بنت أربعين سنة، وقد كانت عند ( أبي هالة ) ابن زرارة أولاً، ثمّ خلف عليها بعد أبي هالة ( عتيق بن عائذ ) ثم خلف عليها رسول الله ﷺ كما في « الإصابة ».
وقد اختارها صلوات الله عليه لسداد رأيها، ووفرة ذكائها، وكان زواجه بها زواجاً حكيماً موفقاً، لأنه كان زواج العقل للعقل، ولم يكن فارق السن بينهما بالأمر الذي يقف عقبة في طريق الزواج، لأنه لم يكن الغرض منه قضاءَ ( الوطر والشهوة ) وإنما كان هدفاً إنسانياً سامياً، فمحمد رسول الله قد هيأه الله لحمل الرسالة، وتحمل أعباء الدعوة، وقد يسّر الله تعالى له هذه المرأة التقيّة النقيّة، العاقلة الذكية، لتعينه على المضي في تبليغ الدعوة، ونشر الرسالة، وهي أول من آمن به من النساء.
459
ومما يشهد لقوة عقلها، وسداد رأيها، أن الرسول عليه السلام حين جاءه جبريل وهو في غار حراء رجع إلى زوجه يرجف فؤاده، فدخل عليها وهو يقول :« زَمِّلوني زَمِّلوني »، حتى ذهب عنه الروع، فحدّث خديجة بالخبر وقال لها : لقد خشيتُ على نفسي، فقالت له :( أبشر، كلا والله ما يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق ). والحديث في « الصحيحين ».
قضى الرسول مع خديجة زهرة شبابه، فلم يتزوج عليها، ولا أحبّ أحداً مثل حبه لها، وكانت السيدة عائشة تغار منها مع أنها لم تجتمع معها ولم ترها، حتى تجرأت مرة عليه عند ذكره ﷺ لها فقالت :
« وهل كانت إلا عجوزاً في غابر الأزمان، قد أبدلك الله خيراً منها »؟ « تعني نفسها » فغضب ﷺ من هذه الكلمة وقال لها :« لا والله ما أبدلني الله خيراً منها، لقد آمنت بي إذ كفر الناس، وصدقتني إذ كذّبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني الله منها الولد دون غيرها من النساء » قالت :« فلم اذكرها بسوءٍ بعده أبداً ».
وروى الشيخان عنها أنها قالت :« ما غرْتُ على أحدٍ من نساء النبي ﷺ ما عرتُ على خديجة، وما رأيتها قطَ، ولكن النبي يكثر ذكرها وربما ذبح الشاة ثم يبعثها في صدائق خديجة، وربما قلت له : كأن لم يكن في الدنيا امرأة إلا خديجة فيقول :» إنها كانت وكانت، وكان لي منها ولد «.
عاشت مع الرسول خمساً وعشرين سنة، خمس عشرة قبل البعثة، وعشراً بعدها، ولم يتزوج الرسول الكريم امرأة عليها، ورُزِق منها جميع أولاده ما عدا إبراهيم. وحين انتقلت إلى رحمة الله راضية مرضية كان الرسول ﷺ قد بلغ الخمسين من العمر، وليس عنده سواها، فلم يعدّد زوجاته إلا بعد وفاتها، لبعض تلك الحكم التي ذكرناها، رضي الله تعالى عنها وأرضاها.
٢- السيدة سودة بنت زمعة رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام بعد وفاة خديجة. وهي أرملة ( السكران بن عمرو الأنصاري )، والحكمة في اختيارها مع أنها أكبر سناً من رسول الله، أنها كانت من المؤمنات المهاجرات، توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، فأصبحت فريدة وحيدة، لا معيل لها ولا معين، ولو عادت إلى أهلها - بعد وفاة زوجها - لأكرهوها على الشرك، أو عذّبوها عذاباً نكراً ليفتنوها عن الإسلام، فاختار ﷺ كفالتها فتزوجها، وهذا هو منتهى الإحسان والتكريم لها على صدق إيمانها وإخلاصها لله ولرسوله.
460
ولو كان غرض الرسول الشهوة - كما زعم المستشرقون الأفاكون - لاستعاض عنها - وهي الأرملة المسنَّة التي بلغت من العمر الخامسة والخمسين - بالنواهد الأبكار، ولكنه عليه السلام كان المثل الأعلى في الشهامة، والنجدة، والمروءة، ولم يكن غرضه إلا حمايتها ورعايتها، لتبقى تحت كفالته عليه أفضل الصلاة والتسليم.
٣- عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام وكانت بكراً، وهي البكر الوحيدة من بين نسائه الطاهرات فلم يتزوج بكراً غيرها، وكانت عائشة أذكى أمهات المؤمنين وأحفظهن، بل كانت أعلم من أكثر الرجال، فقد كان كثير من كبار علماء الصحابة، يسألونها عن بعض الأحكام التي تشكل عليهم فتحلُّها لهم.
روي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال :( ما أشكل علينا أصحابَ رسول الله ﷺ حديث قطُّ، فسألنا عائشة إلاّ وجدنا عندها منه علماً ).
وقال أبو الضحى عن مسروق :( رأيت مشيخة أصحاب رسول الله يسألونها عن الفرائض ).
وقال عروة بن الزبير :( ما رأيتُ امرأة أعلم بطب، ولا فقه، ولا شعر من عائشة ).
ولا عجب فهذه كتب الحديث تشهد بعلمها الغزير، وعقلها الكبير، فلم يَرْو في الصحيح أحد من الرجال أكثر مما روي عنه إلا شخصان هما : أبو هريرة، وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وكان عليه السلام يحب عائشة أكثر من بقية نسائه وكان يعدل بينهن في القسمة ويقول : اللهم هذا قَسْمي فيما أملك، فلا تؤخذني فيما لا أملك.
ولما نزلت آية التخيير بدأ بعائشة فقال لها : إني ذاكر لك أمراً فلا تَعْجلي حتى تستأمري أبويك، قالت : وقد علم أن أبويّ لم يكونا يأمراني بفراقه فقرأ عليها :﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا ﴾ [ الأحزاب : ٢٨ ] الآية، فقالت : أوفي هذا استأمر أبوي!! فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة.
ولقد كانت مصاهرة الرسول للصّديق أبي بكر، أعظم منّة ومكافأة له في هذه الحياة الدنيا، كما كان خير وسيلة لنشر سنته المطهّرة، وفضائله الزوجية، وأحكام شريعته، ولا سيما ما يتعلق منها بالنساء كما بينا عند ذكر الحكمة التعليمية.
٤- السيدة حفصة بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنها
تزوجها النبي ﷺ وهي أرملة، وكان زوجها ( خنيس بن حذافَة ) الأنصاري قد استشهد في غزوة بدر، بعد أن أبلى بلاءً حسناً، فقد كان من الشجعان الأبطال، الذين سجّل لهم التاريخ أنصع الصفحات في البطولة والرجولة، والجهاد.
461
وقد عرضها أبوها ( عمر ) رضي الله عنه على عثمان بعد وفاة زوجته ( رقية ) بنت الرسول، ثم تزوجها الرسول ﷺ فكان ذلك أعظم إكرام ومنّة وإحسان لأبيها عمر بن الخطاب.
أخرج الإمام البخاري عن عبد الله به عمر رضي الله عنهما : أنّ عمر حين تأيمت حفصة من ( خنيس بن حذافة ) - وكان شهد بدراً وتوفي بالمدينة - لقي عثمان فقال : إن شئت أنكحتك حفصة؟ قال : سأنظر في أمري، فلبث ليالي، فقال : قد بدا لي لا أتزوج، قال عمر : فقلت لأبي بكر إن شئتَ أنكحتك حفصة، فصمتَ، فكنت عليه أوجد مني على عثمان، فلبث ليالي ثم خطبها النبي ﷺ فأنكحتها إياه.
فلقيني أبو بكر فقال : لعلك وجدت عليّ حين عرضتَ عليّ حفصة، فلم أرجع إليك شيئاً؟ قلت : نعم، قال : إنه لم يمنعني أن أرجع إليك إلاّ أني علمت أن النبي ﷺ ذكرها. « فلم أكن لأفشي سرّه، ولو تركها لقبلتها ».
أقول : هذه لعَمْرُ الحق هي الشهامة الحقة، بل هذه هي الرجولة الصادقة، تظهر في فعل الفاروق عمر رضي الله عنه وأرضاه فهو يريد أن يصون عرضه، فلا يرى في نفسه غضاضة أن يعرض ابنته على الكفء الصالح، لأنّ الزواج خير وسيلة للمجتمع الفاضل، فأين نحن اليوم من جهل المسلمين بأحكام الإسلام وجماله الناصع؟ يتركون بناتهم عوانس حتى يأتي الخاطب، ذو المال الكثير، والثراء الوفير؟!
٥- السيدة زينب بنت خزيمة رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام بعد حفصة بنت عمر، وهي أرملة البطل المقدام شهيد الإسلام ( عبيدة بن الحارث ) بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه، الذي استشهد في أول المبارزة في غزوة بدر، وقد كانت حين استشهاد زوجها تقوم بواجبها في إسعاف الجرحى، وتضميد جراحهم، لم يشغلها استشهاد زوجها عن القيام بواجبها، حتى كتب الله النصر للمؤمنين في أول معركة خاضوها مع المشركين. ولما علم الرسول ﷺ بصبرها وثباتها وجهادها وأنه لم يعد هناك من يعولها خطبها لنفسه وآواها، وجبر خاطرها بعد أن انقطع عنها الناصر والمعين.
يقول فضيلة الشيخ ( محمد محمود الصواف ) في رسالته القيمة « زوجات النبي الطاهرات » بعد أن ذكر قصة استشهاد زوجها وما فيها من سموّ وعظمة :( وكانت قد بلغت الستين من عمرها حينما تزوج بها النبي ﷺ، ولم تعمّر عند النبي الكريم سوى عامين، ثم توفاها الله إليه راضية مرضية. فما رأي الخراصين بهذا الزواج الشريف، وغايته النبيلة؟ وهل يجدون فيه شيئاً مما يأفك الأفّاكون؟
أيجدون فيه أثراً للهوى والشهوة؟ أم هو النبل، والعفاف، والعظمة والرحمة، والفضل، والإحسان، من رسول الإنسانية الأكبر، الذي جاء رحمة للعالمين.
462
فليتق الله المستشرقون المغرضون، وليؤدوا أمانة العلم ولا يخونوها في سبيل غايات خبيثة استشرقوا ودرسوا العلوم الإسلامية خاصة للدس، والكيد، والنيل من سيد الأنسانية محمد عليه السلام ).
٦- السيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها
تزوجها عليه السلام وهي ثيب وهي ابنة عمته، وكان قد تزوجها ( زيد بن حارثة ) ثمّ طلّقها فتزوجها الرسول ﷺ لحكمة لا تعلوها حكمة في زواج أحدٍ من أزواجه، وهي إبطال ( بدعة التبني ) كما مرّ معنا عند ذكر الحكمة التشريعية.
وهنا يحلو لبعض المغرضين، الحاقدين على الإسلام وعلى نبي الإسلام، من المستشرقين الماكرين، وأذنابهم المارقين، أن يتخذوا من قصة تزوج الرسول الكريم بزينب منفذاً للطعن في النبي الطاهر الزكيّ، ويلِّفقوا الشبه والأباطيل، بسبب بعض الروايات الإسرائيلية، التي ذكرت في بعض كتب التفسير.
فقد زعموا - وبئسما زعموا - أن النبي ﷺ مرّ ببيت زيد وهو غائب، فرأى زينب فأحبها ووقعت في قلبه، فقال : سبحان مقلّب القلوب، فسمعت زينب ذلك فلما جاء زوجها أخبرته بما سمعت من الرسول، فعلم أنها وقعت في نفسه، فأتى الرسول يريد طلاقها فقال له : أمْسك عليك وفي قلبه غير ذلك. فطلّقها زيد من أجل أن يتزوج بها الرسول.
يقول ابن العربي رحمه الله في تفسيره ( أحكام القرآن ) رداً على هذه الدعوى الأثيمة : فأمّا قولهم إن النبي ﷺ رآها فوقعت في قلبه فباطل، فإنه كان معها في كل وقت وموضع، ولم يكن حينئذٍ حجاب، فكيف تنشأ معه وينشأ معها، ويلحظها في كل ساعة، ولا تقع في قلبه إلا إذا كان لها زوج، قد وهبته نفسها، فكيف يتجدّد له هوى لم يكن، حاشا لذلك القلب المطهّر من هذه العلاقة الفاسدة، وقد قال الله له :﴿ وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ﴾ [ طه : ١٣١ ] وقد تعقَّب - عليه رحمة الله - تلك الروايات الإسرائيلية وبيّن أنها كلها ساقطة الأسانيد.
إن نظرة بسيطة إلى تاريخ ( زينب ) وظروفها في زواج ( زيد ) تجعلنا نؤمن بأنّ سوء العشرة التي كانت بين زيد وزينب إنما جاءت من اختلافهما اختلافاً بيناً في الحالة الاجتماعية، فزينب شريفة، وزيد كان بالأمس عبداً وقد أراد الله امتحانها بزواج زيد لتحطيم مبدأ ( العصبيَّة القبليَّة ) والشرف الجاهلي، وجعل الإسلام الشرف في ( الدين والتقوى ) فحين عرض الرسول على ( زينب ) الزواج من ( زيد ) امتنعت واستنكفت اعتزازاً بنسبها وشرفها فنزل قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً ﴾ [ الأحزاب : ٣٦ ].
فخضعت زينب لأمر الرسول، وأسلمت لزيد جسدها دون روحها فكان من وراء ذلك الألم والضيق.
463
ومحمد ﷺ كان يعرف زينب من الصغر، لأنها ابنة عمته فمن كان يمنعها منه؟ وكيف يقدّم إنسان امرأة لشخص وهي ( بكر ) حتى إذا تزوجها وصارت ( ثيباً ) رغب فيها؟!
حقاً إنهم قوم لا يعقلون، فهم يهرفون بما لا يعرفون، ويقولون على الرسول كذباً وزوراً، وبهتاناً وضلالاً، ثم انظر إليهم وهم يقولون : إنّ الذي أخفاه محمد هو حبه لزينب ولهذا عوتب، فهل يعقل مثل هذا البهتان؟ وهل يعاتب الشخص لأنه لم يجاهر بحبه لامرأة جاره؟ ﴿ سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ ﴾ [ النور : ١٦ ].
ثمّ إن الآية صريحة كلّ الصراحة، وواضحة كل الوضوح، في هذا الشأن، فقد ذكرت الآية الكريمة أنّ الله سيظهر ما أخفاه الرسول :﴿ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] فماذا أظهر الله تعالى؟ هل أظهر حبّ الرسول أو عشقه لزينب؟ كلا ثم كلا، إنما الذي أظهره هو رغبته عليه السلام في تنفيذ أمر الله بالزواج بها لإبطال ( حكم التبني )، ولكنه كان يخشى من ألسنة المنافقين أن يقولوا : تزوج محمد حليلة ابنه، ولهذا صرّح الباري جلّ وعلا بهذا الذي أخفاه الرسول :﴿ فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ... ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ]. وهكذا تبطل مزاعم المفترين أمام الحجج الدامغة، والبراهين الساطعة، التي تدل على عصمة سيِّد المرسلين، وعلى نزاهته وطهارته مما ألصقه به الدسّاسون المغرضون.
٧- السيدة هند أم سلمة المخزومية رضي الله عنها
تزوج الرسول الكريم بأم سلمة وهي أرملة ( عبد الله بن عبد الأسد ) وكان زوجها من السابقين الأولين إلى الإسلام، وهاجر إلى الحبشة، وكانت زوجته معه خرجت فراراً بدينها، وولدت له ( سلمة ) في أثناء ذلك، واستشهد زوجها في غزوة أحد، فبقيت هي وأيتامها الأربعة بلا كفيل ولا معيل، فلم ير عليه السلام عزاءً ولا كافلاً لها ولأولادها غير أن يتزوج بها. ولما خطبها لنفسه اعتذرت إليه، وقالت :« إني مسنّة، وإني أم أيتام، وإني شديدة الغيرة ».
فأجابها عليه السلام وأرسل لها يقول : أما الأيتام فأضمهم إليّ، وأدعو الله أن يذهب عن قلبك الغيرة، ولم يعبأ بالسنّ، فتزوجها عليه السلام بعد موافقتها، وقام على تربية أيتامها، ووسعهم قلبه الكبير، حتى أصبحوا لا يشعرون بفقد الأب، إذ عوّضهم أباً أرحم من أبيهم صلوات الله وسلامه عليه.
وقد اجتمع لأم المؤمنين النسب الشريف، والبيت الكريم، والسبق إلى الإسلام، على أنّ لها فضيلة أخرى هي ( جودة الرأي ) ويكفينا دليلاً على ذلك استشارة النبي ﷺ لها في أهم ما حزَنه وأهمّه من أمر المسلمين، وما أشارت به عليه، وذلك في ( صلح الحديبية ) فقد تأثر المسلمون بالغ التأثر من ذلك الصلح مع المشركين، على ترك الحرب عشر سنين بالشروط التي قدَّموها، ورأوا في ذلك هضماً لحقوقهم، مع أنهم كانوا ف يأوج عظمتهم، وكان من أثر هذا الاستياء، أنهم تباطئوا عن تنفيذ أمر الرسول حين أمرهم بالحلق أو التقصير لأجل العودة إلى المدينة المنورة، فلم يمتثل أمره أحد، فدخل الرسول على زوجه ( أم سلمة ) وقال لها هلك الناس، أمرتُهم فلم يمتثلوا فهوّنت عليه الأمر، وأشارت عليه بأن يخرج إليهم ويحلق رأسه أمامهم، وجزمت بأنهم لا يتردّدون حينذاك عن الاقتداء به.
464
لأنهم يعلمون أنه صار أمراً مبرماص لا مرد له، وكذلك كان، فما أن خرج الرسول وأمر الحلاق بحلق رأسه، حتى تسابقوا إلى الاقتداء به صلوات الله عليه فحلقوا وتحلّلوا وكان ذلك بإشارة أم المؤمنين أم سلمة رضي الله عنها وأرضاها.
٨- السيدة أم حبيبة رملة بنت أبي سفيان رضي الله عنها
وفي سنة سبع من الهجرة تزوج الرسول الكريم بالسيدة ( أم حبيبة ) رضي الله عنها وهي أرملة ( عبيد الله بن جحش ) مات زوجها بأرض الحبشة، فزَّوجها النجاشي للنبي ﷺ وأمهرها عنه أربعة آلاف درهم، وبعث بها إليه مع شرحبيل بن حسنة، وقد تقدمت الحكمة من تزوج الرسول الكريم بها فيما سبق.
٩ - ١٠ - السيدة جويرية بنت الحارث والسيدة صفية بنت حيي رضي الله عنهما
وتزوج الرسول الكريم بالسيدة ( جويرية بنت الحارث بن ضرار ) سيَّد بني المصطلق، وهي أرملة ( مُسَافع بن صفوان ) الذي قتل يوم المريسيع، وترك هذه المراة فوقعت في الأسر بيد المسلمين، وكان زوجها من ألدّ أعداء الإسلام وأكثرهم خصومة للرسول، وقد تقدم معنا الحكمة من تزوج الرسول الكريم بها، كما تقدم الحديث عن ( صفية بنت حُيّي بن أخطب ) عند الكلام على الحكمة السياسية.
١١- السيدة ميمونة بنت الحارث الهلالية رضي الله عنها
كان اسمها برّه فسمّاها عليه السلام ( ميمونة ) وهي آخر أزواجه صلوات الله عليه، وقد قالت فيها عائشة : أما إنها كانت من أتقانا لله وأوصلنا للرحم، وهي أرملة ( أبي رهم بن عبد العزى ) وقد ورد أن العباس رضي الله عنه هو الذي رغّبه فيها، ولا يخفى ما زواجه بها من البر وحسن الصلة وإكرام عشيرتها الذين آزروا الرسول ونصروه.
خاتمة البحث :
وبعد :
فهذه لمحة عن أمهات المؤمنين، زوجات الرسول الطاهرات، اللواتي أكرمهن الله بصحبة رسوله، وجعلهن أمهات للمؤمنين، وخاطبهن بقوله جل وعلا :
﴿ يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء إِنِ اتقيتن فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً ﴾ [ الأحزاب : ٣٢ ] وقد كان زواج الرسول بهنَّ لحكم كثيرة، راعى فيها الرسول مصلحة الدين والتشريع، وقصد تأليف القلوب، فجذب إليه كبار القبائل، وكرام العشائر.
وجميع زوجات الرسول ( أرامل ) ما عدا السيدة عائشة، وقد عدّد الرسول زوجاته بعد الهجرة في السنة التي بدأت فيها الحروب بين المسلمين والمشركين، وكثر فيها القتل والقتال، وهي من السنة الثانية للهجرة إلى السنة الثامنة التي تمّ فيها النصر للمسلمين، وفي كل زواج ظهر لنا الدليل الساطع على نبل الرسول، وشهامته، وسموّ غرضه، وجميل إحسانه، خلافاً لما يقوله الأفّاكون الدسّاسون فلو كان للهوى سلطان على قلب النبي لتزوج في حال الشباب، رؤية ضياء الحق الساطع، وصدق الله :﴿ بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الويل مِمَّا تَصِفُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٨ ].
465
[ ٥ ] من آداب الوليمة
التحليل اللفظي
﴿ يُؤْذَنَ لَكُمْ ﴾ : أي تُدْعوا إلى تناول الطعام، والأصل أن يتعدى ب ( في ) تقول : أذنت لك في الدخول، ولا تقول أذنت لك إلى الدخول، ولكنّ اللفظ لما ضُمّن معنى ( الدعوة ) عُدّي ب ( إلى ) بدل ( في ) ومعنى الآية : لا تدخلوا بيوت النبي إلاّ إذا دعيتم إلى تناول الطعام.
قال الزمخشري :( إلا أن يُؤذن ) في معنى الظرف تقديره : وقت أن يُؤذن لكم.
﴿ ناظرين إِنَاهُ ﴾ : أي متظرين نصجه، قال في اللسان : وإنى الشيء : بلوغُه وإدراكه، وفي التنزيل :﴿ غَيْرَ ناظرين إِنَاهُ ﴾ أي غير منتظرين نضجه وإدراكه وبلوغه، تقول : أنى يأني إذا نضِج إنىً أي نضجاً، والإنى بكسر الهمزة والقصر : النضجُ. فهو على هذا مصدر مضاف إلى الضمير.
ويرى بعض المفسّرين أنه ظرف بمعنى ( حين ) وهو مقلوب ( آن ) بمعنى ( حان ) فعلى الأول يكون المعنى : غير منتظرين نضجه، وعلى الثاني يكون المعنى : غير منتظرين وقته أي وقت إدراكه ونضجه، وهما متقاربان.
﴿ فانتشروا ﴾ : أي اخرجوا وفترقوا، يقال انتشر القوم : أي تفرقوا ومنه قوله تعالى :
﴿ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض ﴾ [ الجمعة : ١٠ ] أي تفرقوا في الأرض لطلب الرزق والكسب.
﴿ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ﴾ : معنى الاستئناس : طلب الأنس بالحديث لأن السين والتاء للطلب تقول استأنَسَ بالحديث : أي طلب الأنس والطمأنينة والسرور به. وتقول : ما بالدار أنيس، أي ليس بها أحد يؤانسك أو يسليّك، وقد كان من عادة الناس أنهم يجلسون بعد الأكل فيتحدثون طويلاً، ويأنسون بحديث بعضهم بعضاً فعلّمهم الله الأدب، وهو أن يتفرقوا بعد تناول الطعام، ولا يثقلوا على أهل البيت، لأن المكث بعده فيه نوع من الإثقال.
﴿ إِنَّ ذلكم ﴾ : اسم الإشارة راجع إلى الدخول بغير إذن، والمكث عقب الطعام للاستئناس بالحديث، وقيل : هو راجع إلى الأخير خاصة، ومعنى الآية : إن انتظاركم واستئناسكم يؤذي النبي.
﴿ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ ﴾ : أي يستحي من إخراجكم من بيته، والله لا يستحي من بيان الحق فهو على حذف مضاف.
﴿ متاعا ﴾ : المتاع : الغرض والحاجة كالماعون وغيره، وهو في اللغة : ما يستمتع به حسياً كان كالثوب والقدر والماعون، أو معنوياً كمعرفة الأحكام الشرعية والسؤال عنها، وقد يأتي المتاع بمعنى التمتع بالشيء والانتفاع به كما قال تعالى :﴿ وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور ﴾ [ الحديد : ٢٠ ] وفي الحديث الشريف :« الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة ».
﴿ حِجَابٍ ﴾ : أي ساتر يستره عن النظر، قال في « اللسان » : حجبَ الشيءَ يحجبُه أي ستره، وقد احتجب وتحجّب إذا اكتنّ من وراء حجاب، وامرأة محجوبة قد سترت بستر، والحجاب : اسم ما احتجب به، وكل ما حال بين شيئين فهو حجاب. قال تعالى :﴿ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت : ٥ ].
ومعنى الآية : إذا سألتموهن شيئاً مما يستمتع به وينتفع فاسألوهن من وراء ستر وحجاب.
466
﴿ أَطْهَرُ ﴾ : أي أسلم وأنقى، أفعل تفضيل من الطهارة بمعنى النزاهة والنقاء، والمعنى : سؤالكم للنساء من وراء حجاب أكثر نقاءً وتنزيهاً لقلوبكم وقلوبهن من الهواجس والخواطر التي تتولد فيها عند اختلاط الرجال بالنساء، وأبعد عن الريبة وسوء الظنّ.
المعنى الإجمالي
أمر الله سبحانه عباده المؤمنين أن يتأدبوا بالآداب الإسلامية الكريمة، ويتمسكوا بما شرعه لهم من التوجيهات والإرشادات الحكيمة، التي بها صلاح دينهم ودنياهم وخاصة مع النبي ﷺ، فمقام النبوّة لا يعادله مقام، وإيذاء النبي ﷺ - سواء كان بالقول أو الفعل - منأعظم الكبائر عند الله، وقد ألزمنا الله سبحانه بتلك الآداب الفاضلة، وأمرنا بالتمسك بها، حتى يتحقق المجتمع الفاضل الذي ينشده الإسلام، وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمرين هامين :
الأول : الأدب في أمر الطعام والاستئذان ودخول البيوت ( أدب الوليمة ).
الثاني : الأدب في مخاطبة النساء، وعدم الاختلاط بهن أو الخلوة أدب ( الحجاب الشرعي ).
يقول الله جل ثناؤه ما معناه : اي أيها المؤمنون لا تدخلوا بيوت النبي إلا بعد الإذن، ولا تترقبوا أوقات الطعام فتدخلوا عليه فيها، أو تنتظروا أن يحين وقت نضج الطعام فتستأذنوا عليه في الدخول، إلا إذا كنتم مدعوَّين إلى وليمة قد أعدّها لكم رسول الله ﷺ، ومع ذلك إذا دعيتم وطعمتم فاخرجوا وتفرقوا ولا تثقلوا على الرسول الكريم بالجلوس بعد الطعام، فإن حياءه يمنعه أنيأمركم بالانصراف، أو يظهر لكم الامتعاض من جلوسكم في بيته، فهو ذو الخلق الرفيع، والقلب الرحيم، لا يصدر منه إلا ما يسرّكم، فلا يليق بكم أن تثقلوا عليه، أو تؤذوه في نفسه أو أهله، وإذا أردتم حاجةً من أزواجه الطاهرات، فاسألوهن من وراء حاجز وحجاب، لأن ذلك أزكى لقلوبكم وقلوبهن، وأنفى للريبة، وأبعد عن التهمة، وأطهر لبيت النبوة.
ولا يليق بكم أيها المؤمنون أن تؤذوا رسولكم، الذي هداكم الله به وأخرجكم من الظلمات إلى النور، فهو كالوالد لكم، وأزواجه كالأمهات لكم، وهل يصح لمؤمن أن يتزوج أمه؟ فلا تؤذوه في حياته ولا بعد مماته، ولا تتزوجوا بأزواجه من بعده أبداً، فإن إيذاء الرسول، ونكاح أزواجه من بعد وفاته، ذنب عظيم عند الله لا يغفره الله لكم أبداً، وهو عند الله بالغ الذنب والعقوبة.
سبب النزول
تعرضت الآية الكريمة لأمرين هامين هما « آداب الدعوة » و « مشروعية الحجاب » ولكل منهما سبب نزول.
أما الأول : فقد روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : تزوج رسول الله ﷺ فدخل بأهله فصنعت ( أم سليم ) أمي حَيْساً فجعلته في تَوْر وقالت يا أنس إذهب إلى رسول الله ﷺ فقل بعثت به إليك أمي، وهي تقرئك السلام وتقول لك : إن هاذ منا قليل يا رسول الله!!
قال : فذهبت به إلى رسول الله ﷺ وقلت له : إن أمي تقرئك السلام وتقول لك : إن هذا لك منا قليل يا رسول الله، فقال : ضعه ثم قال : إذهب فادع لي فلاناً وفلاناً، ومن لقيتَ وسمَّى رجالاً، فدعوت من سَمَّى ومن لقيتُ، قيل لأنس : عدد كَمْ كانوا؟ قال : زهاء ثلاثمائة، قال أنس : فقال لي رسول الله ﷺ يا أنس هات التور، قال فدخلوا حتى امتلأت الصُفَّة والحجرة فقال رسول الله ﷺ : ليتحلق عشرة عشرة وليأكل كل إنسان مما يليه، فأكلوا حتى شبعوا، قال : فخرجت طائفة، ودخلت طائفة حتى أكلوا كلهم، فقال لي يا أنس : ارفع، فما أدري حين وضعتكان أكثر أم حين رفعت؟ وجلس منهم طوائف يتحدثون في بيت رسول الله ﷺ وهو جالس وزوجُه موليَّة وجهها إلى الحائط فثقلوا على رسول الله ﷺ فخرج فسلم على نسائه ثم رجع فلما، رأوا رسول الله ﷺ قد رجع ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه فابتَدرُوا الباب وخرجوا كلهم، وجاء رسول الله ﷺ حتى أرخى الستر ودخل وأنا جالس في الحُجْرة فلم يلبث إلا يسيراً حتى خرج عليّ وأنزل الله هذه الآية :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي ﴾ فخرج رسول الله ﷺ فقرأها على الناس.
467
ثانياً : وأما بالنسبة لمشروعية الحجاب فقد كان سبب النزول ما روي في الصحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : قلت يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر، فلو أمرت أمهات المؤمنين أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ متاعا فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ الآية. وهذه إحدى الموافقات الثلاثة التي نزل القرآن الكريم فيها موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه.
وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال :« وافقت ربي في ثلاث : قلت يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى؟ فنزل :﴿ واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ﴾ [ البقرة : ١٢٥ ] وفي الحجاب فنزلت آية الحجاب واجتمع نساء النبي ﷺ في الغيرة فقلت : عسى ربه إن طلقكُنَّ أن يُبْدِلَه أزواجاً خيراً منكن فنزلت كذلك ».
وقد ذكرت روايات أخرى في أسباب النزول ولكنها كما قال ابن العربي كلُّها ضعيفة واهية ما عدا الذي ذكرنا.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى :﴿ بُيُوتَ النبي ﴾ إضافة البيوت إلى النبي ﷺ إضافة تشريف، مثل ﴿ نَاقَةَ الله ﴾ [ الشمس : ١٣ ] و ( بيت الله ) الإضافة فيها للتكريم والتشريف فلبيوت النبي ﷺ من الحرمة ما ليس لغيرها من البيوت، وهذه الأحكام ملذكورة هنا خاصة ببيوت النبي ﷺ تكريماً له عليه السلام وتشريفاً.
468
اللطيفة الثانية : قوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ ﴾ في الكلام باء محذوفة تسمّى ( باء المصاحبة ) أي إلاّ بأن يؤذن لكم. وتضمين ( الإذن ) معنى ( الدعوة ) للإشعار بأنه لا ينبغي أن يدخلوا على الطعام بغير دعوة وإن وجد صريح الإذن بالدخول، حتى لا يكون الإنسان ( طفيلياً ) يحضر الوليمة بدون سابق دعوة.
وممّا يدل على هذا التضمين قوله تعالى بعدها :﴿ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا ﴾ فإنها صريحة في أن المرا د بالإذن ( الدعوة ) فتنبه لهذا السّر فإنه دقيق.
اللطيفة الثالثة : قوله تعالى :﴿ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا ﴾ قال الإمام الرازي :« فيه لطيفة وهي أن في العادة إذا قيل لمن كان يعتاد دخول دار من غير أذن : لا تدخلها إلاّ بإذن، يتأذى وينقطع بحيث لا يدخلها أصلاً ولا بالدعاء، فقال : لا تفعلوا مثل ما يفعله المستنكفون، بل كونوا طائعين سامعين، إذا قيل لكم : لا تدخلوا فلا تدخلوا، وإذا قيل لكم ادخلوا فادخلوا ». وهذا معنى لطيف.
اللطيفة الرابعة : قوله تعالى :﴿ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ﴾ فيه إشارة لطيفة أن المكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق، فالأمر أمر وليمة وقد انتهت، ولم يبق إلاّ أن يفرغ أهل البيت لبعض شأنهم، والبقاء بعد ذلك فيه نوع من الأثقال غير محمود.
قال بعض العلماء : هذه الآية نزلت في الثقلاء، وقرأها بعضهم فقال :« هذا أدب من الله تعالى أدَّب به الثقلاء » ويروى عن عائشة وابن عباس رضي الله عنهما :« حسبُك في الثقلاء أنّ الشرع لم يحتملهم ».
وأنشد بعض الفضلاء :
وثقيلٍ أشدّ من ثِقَل المو ت ومن شدّة العذابِ الأليم
لو عصت ربَّها الجحيمُ لما كا ن سواهُ عقوبةً للجحيم
وقال آخر :
ربّما يثقُل الجليس ولو كا ن خفيفاً في كِفّة الميزان
ولقد قلتُ حين وتّد في البي تِ ثقيل أربى على سهلان
كيف لم تحمل الأمانة أرضٌ حملت فوقها أبا سفيان؟!
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق ﴾ الاستحياء لا يكون من الذات، وإنما يكون من الأفعال، بدليل قوله تعالى :﴿ والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق ﴾ ولم يقل : والله لا يستحيي منكم والكلام فيه حذف تقديره : فيستحيي من إخراجكم أو من أمركم بالانصراف والله لا يستحيي من بيان الحق، وأطلق استحياء الله وأراد منه عدم السكوت عن بيانه، فسمّي السكوت عليه استحياءً على ( طريق المشاكلة ) لوقوعه بجانب استحياء الرسول على حد قول القائل :
قالوا اقترحْ شيئاً نُجد لك طبخه قلتُ اطبخوا لي جُبّة وقميصاً
اللطيفة السادسة : قوله تعالى :﴿ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ فيه إشارة دقيقة إلى ما بين العين والقلب من صلة وثيقة، فالعين طريق الهوى والنظرة بريد الشهوة، فإذا لم تر العين لا يشتهي القلب، وكما قال بعض الأدباء :
469
وما الحبّ إلاّ نظرة إثر نظرةٍ تزيد نمواً إن تزدْه لَجَاجاً
فالقلب عند عدم الرؤية أطهر، وعدم الفتنة حينئذٍ أظهر.
اللطيفة السابعة : قوله تعالى :﴿ إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً ﴾ الإشارة في قوله ﴿ ذلكم ﴾ يعود إلى ما ذُكر من إيذائه ﷺ، ونكاح أزواجه من بعده، وقد جاء التعبير بلفظ ﴿ ذلكم ﴾ ولم يأت بلفظ ( هذا ) للتهويل والتعظيم.
قال أبو السعود :« وما فيه من معنى البعد للإيذان ببعد منزلته في الشرّ والفساد. وقوله :﴿ كَانَ عِندَ الله عَظِيماً ﴾ أي أمراً عظيماً، وخطباً هائلاً، لا يُقادر قدرُه، وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله ﷺ، وإيجاب حرمته حيّاً وميتاً ما لا يخفى، ولذلك بالغ تعالى في الوعيد ».
وجوه القراءات
أولاً : قرأ الجمهور ﴿ غيرَ ناظرين ﴾ بفتح راء ( غيرَ ) نصباً على الحال، وقرأ ( ابن أبي عبلة ) بالكسر صفة لطعام، قال الزمخشري وليس بالوجه لأنه جرى على غير من هوَ له، فمن حق ضمير ما هو له أن يبرز إلى اللفظ فيقال : غير ناظرين إناه أنتم، قال أبو حيان : وحذف هذا الضمير جائز عند الكوفيّين إذا لم يلبس.
ثانياً : قرأ الجمهور ( إناه ) مفرداً، وقرأ الأعمش ( إناءه ) بمدّة بعد النون، وعلى الأول يكون المعنى : غير ناظرين نضجه، وعلى الثاني يكون المعنى غير ناظرين وقته أو حِينه والله أعلم.
وجوه الإعراب
أولاً : قوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ ﴾ الآية.
الاستثناء هنا استثناء مفرّع من عموم الأحوال، أي لا تدخلوها في حال من الأحوال إلاّ حال كونكم مصحوبين بالإذن لكم، وتكون ( باء المصاحبة ) مقدرة في الكلام.
وذهب الزمخشري : إلى عدم تقدير الباء، وإلى أن الاستثناء مفرغ من عموم الأوقات، والمعنى : لا تدخلوها في وقت من الأوقات إلاّ وقت الإذن.
وقد ردّ ( أبو حيان ) هذا فقال : وهذا ليس بصحيح، وقد نصوا على أنّ ( أنْ ) المصدرية لا تكون في معنى الظرف، تقول : أجيئك صياح الديك، وقدوم الحاج، ولا يجوز أجيئك أن يصيح الديك، ولا أن يقدم الحاج.
والمسألة خلافية في خلافيات النحاة : والأشهر أنه لا يجوز، وأجاز الأخفش والكسائي ذلك في الحال، فتقول : ما ذهب القوم إلا يوم الجمعة راحلين عنا.
ثانياً : قوله تعالى :﴿ غَيْرَ ناظرين إِنَاهُ ﴾ الآية.
غيرَ، منصوب على الحال من الواو في ﴿ تَدْخُلُواْ ﴾ وإن أُجري وصفاً لطعامٍ ﴿ غَيْرَ ناظرين ﴾ على القراءة الثانية وجب إبراز الضمير، فكان ينبغي أن يقال : إلى طعامٍ غير ناظرين إناه أنتم، وقد بينا ما فيه عند ذكر وجوه القراءات.
ثالثاً : قوله تعالى :﴿ وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ ﴾ الآية.
470
﴿ مُسْتَأْنِسِينَ ﴾ عطف على ﴿ غَيْرَ ناظرين ﴾ و ( لا ) لتأكيد النفي، وجوّز بعض المفسّرين أن تكون ( لا ) بمعنى غير معطوفة على غير ناظرين إناه ويصبح المعنى : غير ناظرين إناه، وغير مستأنسين لحديث.
ويرى البعض أن ﴿ مُسْتَأْنِسِينَ ﴾ حال من فاعل فعل محذوف دلّ عليه الكلام، أي ولا تمكثوا مستأنسين لحديث، واللام في قوله ( لحديث ) لام التعليل أي لأجل استماع الحديث، أو هي لام التقوية.
رابعاً : قوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله ﴾ الآية.
أنْ وما بعدها في تأويل مصدر اسم كان، والتقدير : وما كان لكم إيذاء رسول الله، وكذلك قوله تعالى :﴿ وَلاَ أَن تنكحوا ﴾ لأنه عطف عليه، أفاده ابن الأنباري.
خامساً : قوله تعالى :﴿ إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً ﴾ اسم الإشارة اسم ( إنَّ ) وجملة ﴿ كَانَ عِندَ الله عَظِيماً ﴾ خبرها والله أعلم.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يجوز تناول الطعام بدون دعوة؟
اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز دخول البيوت إلا بإذن. ولا يجوز تناول طعام الإنسان إلا بإذن صريح أو ضمني، لقوله عليه السلام :« لا يحل مال أمرئ مسلم إلا عن طيب نفسه ».
وقد دلت الآية الكريمة على حرمة دخول بيوت النبي ﷺ إلا بعد الإذن، وعلى حرمة ( التطفل ) وهو أن يحضر إلى الوليمة بدون دعوة، وفاعله يسمى ب ( الطفيلي )، والحكم عام في جميع البيوت، فلا يجوز لإنسان أن يدخل بيت أحد بدون إذنه، ولا أن يتناول الطعام بدون رضى صاحبه، وهذا أدب رفيع من الآداب الاجتماعية التي أرشد إليها الإسلام.
قال ابن عباس : كان ناس يتحيَّنون طعامه ﷺ، فيدخلون عليه قبل الطعام، وينتظرون إلى أن يدرك، ثمّ يأكلون ولا يخرجون، فكان رسول الله ﷺ يتأذى بهم فنزلت هذه الآية.
وقال ابن كثير رحمه الله :« حظر الله تعالى على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله ﷺ بغير إذن، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك، وذلك من إكرامه تعالى لهذه الأمة، ومعنى الآية : أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ، حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول، فإنّ هذا مما يكرهه الله ويذمه.. ثمّ قال : وهذا دليل على تحريم التطفل، وهو الذي تسميه العرب » الضيفن «.
الحكم الثاني : هل الجلوس بعد تناول طعام الوليمة حرام؟
دلّ قوله تعالى :﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا ﴾ على ضرورة الخروج بعد تناول الطعام، وهذا من الآداب الإسلامية التي أدّب الله بها المؤمنين، فالمكث والجلوس بعد تناول الطعام ليس بحرام، ولكنّه مخالف لآداب الإسلام، لما فيه من الإثقال على أهل المنزل سيما إذا كانت الدار ليس فيها سوى بيت واحد، اللهمَّ إلا إذا كان الجلوس بإذن صاحب الدار أو أمره، أو كان جلوساً يسيراً تعارفه الناس، لا يصل إلى حدّ الإثقال المذموم.
471
ومع ذلك فالأفضل الخروج، ولهذا جاء التعبير بالفاء التي تفيد الترتيب والتعقيب ﴿ فانتشروا ﴾.
فالمكث بعد الطعام غير مرغوب فيه على الإطلاق ولم يبق إلا أن يفرغ أهل البيت لبعض شأنهم، والبقاء بعد ذلك نوع من الإثقال غير محمود، يتنافى مع الأدب الرفيع، والذوق السليم.
الحكم الثالث : هل الأمر بالحجاب خاص بأزواج النبي أم هو عام؟
الآيات الكريمة وردت في شأن بيوت النبي ﷺ خاصة، تعظيماً لرسول الله، وتكريماً لشأنه، ولكنّ الأحكام التي فيها عامّة تعمُّ جميع المؤمنين، لأنها آداب اجتماعية، وإرشادات إلهية، يستوي فيها جميع الناس، فالأمر بعدم الاختلاط بالنساء، وبسؤالهن من وراء حجاب، ليس قاصراً على أزواج الرسول، ولكنه عام يشمل جميع نساء المؤمنين، فإذا كان نساء الرسول ﷺ لا يجوز الاختلاط بهن، ولا النظر إليهن، مع أنهن ( أمهات المؤمنين ) يحرم الزواج بهن، ولا يجوزسؤالهن إلا من وراء حجاب، فلا شكَّ أن الاختلاط بغيرهن من النساء، أو التحدث إليهن بدون حجاب، يكون حراماً من باب أولى، لأن الفتنة بالنساء متحققة.
ثمّ إنّ أمر الحجاب ليس خاصاً بأزواج الرسول ﷺ، بل هو عام لجميع نساء المؤمنين، بدليل قوله تعالى في آخر السورة ﴿ ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ﴾ [ الأحزاب : ٥٩ ].
فهل خرجت مؤمنة من هذا الخطاب؟ وهل أمر الحجاب خاص بنساء الرسول حتى يزعم بعض المضِلّين، أن الحجاب مفروض على نساء الرسول ﷺ خاصة دون سائر النساء؟!
وسنتحدث بالتفصيل إن شاء الله عن هذا الموضوع عند بحث ( الحجاب الشرعي ) ونبيّن تلك المزاعم الواهية التي احتج بها بعض المتحللين، ونبطلها بالحجج الدامغة، فارجع إليها هناك واله يتولاّك.
الحكم الرابع : هل الطعام المقدّم للضيف على وجه التمليك أم الإباحة؟
أشارت الآية الكريمة وهي قوله تعالى :﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا ﴾ إلى أنّ الطعام الذي يقدّم للضيف لا يكون على وجه التمليك، وإنما هو على وجه الإباحة، فلو أراد الضيف أن يحمل معه الطعام إلى بيته لا يجوز له ذلك لأن المضيف إنما أباح له الأكل فقط دون التملك له أو أخذه أو إعطائه لأحد.
قال العلامة القرطبي :« في هذه الآية دليل على أن الضيف يأكل على ملك المضيف، لا على ملك نفسه لأنه تعالى قال :﴿ فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا ﴾ فلم يجعل له أكثر من الأكل، ولا أضاف إليه سواه، وبقي الملك على أصله ».
الحكم الخامس : هل زال النكاح عن أمهات المؤمنين بموت النبي ﷺ ؟
قال القرطبي : ف يتفسيره « الجامع لأحكام القرآن » : اختلف العلماء في أزواج النبي ﷺ بعد موته، هل بقين أزواجاً أم زال النكاح بالموت، وإذا زال النكاح بالموت فهل عليهن عدة أم لا؟
فقيل : عليهن العدة، لأنه تُوفي عنهن، والعدة عبادة.
472
وقيل : لا عدة عليهن، لأنها مدة تربص لا ينتظر بها الإباحة.
قال : والقول الثاني هو الصحيح لقوله عليه السلام :« ما تركتُ بعد نفقة عيالي » وروي ( أهلي ) وهذا اسم خاص بالزوجية، فأبقى عليهن النفقة والسكنى مدة حياتهن لكونهن نساءه، وحرمن على غيره، وهذا هو معنى بقاء النكاح. وإنما جعل الموت في حقه عليه السلام بمنزلة المغيب في حق غيره، لكونهن أزواجاً له في الآخرة قطعاً، بخلاف سائر الناس، لأن الرجل لا يعلم كونه مع أهله في دار واحدة، فربما كان أحدهما في الجنة، والآخر في النار، فبهذا انقطع السبب في حق الخلق، وبقي في حق النبي ﷺ وقد قال عليه السلام :« كلُّ سببٍ ونسبٍ ينقطع، إلا سببي ونسبي فإنه باق إلى يوم القيامة ».
فأما زوجاته عليه السلام اللاتي فارقهن في حياته مثل الكَلْبيّة وغيرها، فهل كان حيل لغيره نكاحهن؟ فيه خلاف، والصحيح جواز ذلك، لما روي أن الكلبية التي فارقها رسول الله ﷺ تزوجها ( عكرمة بن أبي جهل ) على ما تقدم، وقيل : إن الذي تزوجها ( الأشعث بن قيس الكندي ).
قال القاضي أبو الطيب : الذي تزوجها ( مهاجر بن أبي أمية ) ولم ينكر ذلك أحد، فدلّ على أنه إجماع.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١- النهي عن دخول بيوت الرسول ﷺ بغير إذن، وبدون سابق دعوة.
٢- لا ينبغي الحضور قبل نضج الطعام، ولا المكث بعد تناول اطعام الوليمة.
٣- وجوب احترام الرسول ﷺ وتعظيمه، وأمتثال أوامره وتقديم طاعته على كل شيء.
٤- حرمة إيذاء الرسول ﷺ بالأقوال أو الأفعال، والتأدب معه في جميع الأحوال.
٥- حرمة نكاح أمهات المؤمنين من بعد وفاته لأنهن أزواج رسول الله ﷺ.
٦- خلق الرسول الرفيع يمنعه من أمر الناس بالخروج من منزلة فينبغي عدم الإثقال عليه.
٧- نساء الرسول ﷺ هنّ القدوة والأسوة الحسنة لسائر النساء فينبغي مخاطبتهن من وراء حجاب.
٨- في عدم الاختلاط بالنساء صفاء النفس، وسلامة القلب، ونقاء السريرة، والبعد عن مظان التهم.
٩- الآداب التي أرشد إليها القرآن ينبغي التمسك بها وتطبيقها تطبيقاً كاملاً.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
حرّم الله تعالى على المؤمنين دخول بيوت النبيّ ﷺ بدون إذن، تكريماً لرسول الله عليه السلام وتعظيماً لشأنه، ومنع الناس من الإثقال على رسول الله ﷺ سواءً بالدخول إلى بيوته دون سابق دعوة، أو المكث فيه بعد تناول طعام الوليمة لأن في ذلك إثقالاً على الرسول الكريم، وإيذاءً له، والتطفلُ والإثقال على أهل الدار ليس من أوصاف المؤمنين، وقد كان رسول الله ﷺ شديد الحياء، وكان - كما تقول السيدة عائشة - أشدّ حياءً من العذراء في خدرها، ولم يكن من خلقة الكريم أن يجابه أحداً بما يكره، مهما أصابه الأذى والضرر، ولا من عادته أن يأمر الزائر بالانصراف مهما طال المكث والبقاء، لأنّ هذا لا يتفق مع خُلُق الداعية، فكيف بخلق النبوة وأوصاف سيد المرسلين!!
473
﴿ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ﴾ [ آل عمران : ١٥٩ ]
وان بعض الناس - ممن لم تتهذب أخلاقهم بعد - يتحينون طعام النبي ﷺ فيدخلون قبل أن يدرك الطعام، ويقعدون إلى أن ينضج، ثم يأكلون ولا يخرجون.. فكان الناس بحاجة إلى أن يتعلموا الآداب الرفيعة، وأن يكون عندهم ( ذوق اجتماعي ) وشعور رقيق، يمنعهم عن ارتكاب النقائض، وفعل ما يخل بالمروءة، لذلك أنزل الله تعالى هذه الآيات الكريمة تعلمياً للأمة وإرشاداً لها إلى سلوك الطريق القويم، وقد قال إسماعيل بن أبي حكيم :« هذا أدبٌ أدّب الله به الثقلاء ».
وقال آخر : هذه الآية نزلت في الثقلاء، وحسبُكَ من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم.
ولقد كان هناك من بعض المنافقين إيذاء لرسول الله ﷺ بالفعل أو القول، حتى قال رجل من المنافقين حين تزوّج رسول الله ﷺ أم سلمة بعد وفاة زوجها أبي سلمة : ما بال محمد يتزوج نساءنا!! والله لو قد مات لأجلنا السّهام على نسائه، يريد اقتسمناهن بالقرعة، فنزلت الآية في هذا، فحرّم الله نكاح أزواجه من بعده، وجعل لهن حكم الأمهات تطييباً لخاطره الشريف وهذا من خصائصه ﷺ أب للمؤمنين، وهل يليق بالإنسان أن يتزوج امرأة أبيه وهي أُمّه بنصّ القرآن الكريم!! وصدق الله :﴿ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أزواجه مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً ﴾.
474
[ ٦ ] الصلاة على النبي ﷺ
التحليل اللفظي
﴿ يُصَلُّونَ ﴾ : الصلاة في اللغة معناها : الدعاء والاستغفار، ومنه قوله تعالى :﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ ﴾ [ التوبة : ١٠٣ ] أي أدع لهم بالمغفرة والرحمة قال الأعشى :
عليكِ مثلَ الذي صلّيتِ فاغتمضي... نوماً فإنّ لجنب المرء مضطجعاً
مضجعاً... أي لك من الدعاء مثل ما دعوتِ لي به.
وسميت الصلاة المفروضة صلاة لما فيها من الدعاء والاستغفار، وتأتي الصلاة بمعنى الرحمة ومنه قوله ﷺ :« اللهمّ صلّ على آل أبي أوفى »، قال الأزهري : هي بمعنى الرحمة، أي ارحم آل أبي أوفى، وقال الشاعر :
صلّى على عزّة الرحمن وابنتِها... ليلى وصلّى على جاراتها الأخر
قال ابن عباس :« أراد أنّ الله تعالى يرحمه، والملائكة يدعون له ويبرّكون ».
وقال أبو العالية :« صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة، وصلاتهم دعاؤهم له ».
﴿ النبي ﴾ : قال الجوهري : والنبي : المخبر عن الله تعالىّ، لأنه أنبأ عنه وجمعه أنبياء، وفي « النهاية » : يجوز فيه تحقيق الهمز وتخفيفه.
قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلاّ ويقول تنبّأ مسيلمة بالهمز، غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرّية والبريّة، إلا أهل مكة فإنهم يهمزون هذه الأحرف، ثم قال : والهمز في ( النبيّ ) لغة رديئة، واشتقاقه من نبأ وأنبأ أي أخبر.
وجمع النبيء : أنْبِئَاء ونُبَآء.
قال ابن مرداس :
يا خاتم النّبَآء إنّك مرسلٌ... بالخبر كلّ هُدى السبيل هُداكا
إنّ الألاه ثَنَى عليك محبةً... في خلقِهِ ومحمّداً أسماكا
أقول : كل ما ورد في القرآن من خطاب للنبي أو الرسول فإنما يقصد به محمد ﷺ، خاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله عليهم أجمعين.
﴿ يُؤْذُونَ الله ﴾ : إيذاء اللَّهَ : وصفُه بما لا يليق به جلّ وعلا كقول اليهود :( يد الله مغلولة )، و ( عزير بن الله )، وقول النصارى : المسيح ابن الله وأن الله ثالث ثلاثة، وقول كفار قريش : الملائكة بنات الله، وسائر ما لا يرضي الله تعالىّ من الكفر والعصيان.
وإيذاء الرسول كقولهم عنه بمجنون، شاعر، ساحر، كذّاب، أو إلحاق الأذى به كشجّ وجهه الشريف وكسر رباعيته في أُحد، وأمثال ذلك من الأذى الحسي أو الأدى المعنوي، الذي كان يحلقه به المنافقون والكفار.
﴿ لَعَنَهُمُ الله ﴾ : اللعن : الطرد والإبعاد من رحمة الله تعالىّ، قال تعالى :﴿ مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً ﴾ [ الأحزاب : ٦١ ].
﴿ بُهْتَاناً ﴾ : البهتان : الافتراء والكذب الواضح، وهو من البهت بمعنى التحيّر.
قال في اللسان : بهت الرجل يبهتُه بهتاناً، وباهته : استقبله بأمرٍ يقذفه به وهو منه برئ، والبهتان : الباطل الذي يتحير من بطلانه.
﴿ مُّبِيناً ﴾ : بيناً ظاهراً لأنه واضح الكذب والبهتان، تقول : بان الشيء، وبان الأمر، وبان الحق، إذا ظهر جلياً واتضح، قال الشاعر :
475
فبان للعقل أن العلم سيِّدُه فقبَّل العقل رأس العلم وانصرفا
وتسمّى البيّنة لأنها تكشف الحق وتظهره.
المعنى الإجمالي
يخبر المولى جلّ وعلا بما ناله الرسول الكريم، من جاهٍ عظيم، ومنزلة سامية، ومكانة رفيعة عند الله اتعالى، وما له من السيادة والمقام المحمود في الملأ الأعلى، وما خصّه الله تعالى به من الثناء العاطر، والذكر الحسن، فيقول الله تعالى ما معناه :
« إن الله تعالى يرحم نبيه، ويعظم شأنه، ويرفع مقامه، وملائكته البرار، وجنده الأطهار، يدعون للنبي عليه السلام ويستغفرون له، ويطلبون من الله أن يبارك ويمجّد عبده ونبيّه محمداً ﷺ، ويُنيله أعلى المراتب، ويُظْهر دينه على جميع الأديان، ويُجْزل له الأجر والثواب، على ما قدّم لأمته من خير عميم، وفضل جسيم... في أيها المؤمنون : صلّوا أنتم عليه، وعظّموا أمره، واتبعوا شرعه، وأكثروا من الصلاة عليه والتسليم، فحقه عليكم عظيم، ومهما فعلتم فلن تؤدوه حقه، فقد كان المنقذ لكم من الضلالة إلى الهدى، وبه أخرجكم الله من الظلمات إلى النور ﴿ هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ الحديد : ٩ ] فقولوا كلما ذكر اسمه الشريف : اللهم صل على محمد وسلّم تسليماً كثيراً، وادعوا الله أن يجزيه عنكم خير الجزاء.
ثمّ أخبر تعالى أن الذين يؤذون الله ورسوله قد استحقوا غضب الله ولعنته عليهم في دنياهم وآخرتهم، وأنّ الله أعدّ لهم عذاباً شديداً لا يُدْرك كنهه ولا يُعْرف هوله، وكذلك الذين آذوا المؤمنين والمؤمنات، فنسبوا إليهم ما لم يفعلوه، واتهموهم بالكذب، والزور، والبهتان، وتقوّلوا على ألسنتهم، ما لم يقولوه، هؤلاء الذين فعلوا ذلك لهم أيضاً عذاب أليم في الدنيا والآخرة جزاء ما اقترفوا من سيِّئ الأعمال.
وجه الارتباط بالآيات الكريمة السابقة
في الآيات الكريمة السابقة كان الحديث عن حرمة دخول بيوت النبي. وعن حرمة نكاح أزواجه الطاهرات، وقد بيّن تعالى فيها أن شأن المؤمنين ألا تكون منهم أذية للرسول ﷺ، لما له عليهم من حق عظيم، وفي هذا توجيه وإرشاد إلى تكريمه ﷺ وحياطة لمقامه الشريف وهنا بيّن تعالى أن الله يكرّم نبيّه ويرحمه ويعلى شأنه، وملائكتُه كذلك، فكيف لايكرّمه المؤمنون مع أن الله يصلّي عليه؟ وهو لا يستحق إلا كلّ تكريم وتمجيد، فكأنه قيل لهم : لا ينبغي لكم أن تؤذوه، فإن الله يصلّي عليه وملائكته، فهذا وجه الارتباط والله تعالى أعلم.
وجوه القراءات
قرأ الجمهور ﴿ إنّ اللَّهَ وملائكتُه ﴾ بالرفع ويكون الخبر محذوفاً تقديره : إنَّ الله يصلي، وملائكته يصلّون.
وجوه الإعراب
١- قوله تعالى :﴿ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ﴾ الجملة الفعلية في محل رفع خبر ( إنّ ).
476
٢- قوله تعالى :﴿ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً ﴾ ( سلّموا ) أمر، و ( تسليماً ) مفعول مطلق منصوب.
٣- قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ ﴾ اسم الموصول اسم ( إنّ ) والخبر جملة ﴿ لَعَنَهُمُ الله ﴾.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : قوله تعالى :﴿ إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ ﴾.
ورد ذكر الثناء على الرسول ﷺ بهذه الصيغة، فجاء الخبر مؤكداً ب ( إنّ ) اهتماماً به، وجيء بالجملة اسمية لإفادة الدوام، وكانت الجملة إسمية في صدرها، ﴿ إِنَّ الله ﴾ فعليه في عجزها ﴿ يُصَلُّونَ ﴾ للإشارة إلى أن هذا الثناء من الله تعالى، والتمجيد الدائم يتجدّد وقتاً فوقتاً على الدوام، فتدبّر هذا السرّ الدقيق.
اللطيفة الثانية : قد يقول قائل : إذا صلّى الله وملائكته عليه فأي حاجة إلى صلاتنا عليه؟
نقول : الصلاة عليه ليس لحاجته إليها، وإلاّ فلا حاجة إلى صلاة الملائكة مع صلاة الله عليه، وإنما هو لإظهار تعظيمه عليه السلام ليثيبنا الله تعالى عليه، ولهذا قال عليه السلام :« من صلّى عليّ مرة صلّى الله عليه بها عشراً » فصلوات ربي وسلامه عليه.
اللطيفة الثالثة : قال الإمام الفخر : الصلاة الدعاء، يقال في اللغة صلّى عليه : أي دعا له، وهذا المعنى غير معقول في حقّ الله تعالى، فإنه لا يدعو له، لأنّ الدعاء للغير طلب نفعه من ثالث، والجوابُ : أن اللفظ المشترك يجوز استعماله في معنييه معاً، وكذلك الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظٍ جائز وهذا مذهب الشافعي رحمه الله، فالصلاة من الله بمعنى الرحمة، ومن الملائكة بمعنى الاستغفار، وهما يشتركان في العناية بحال المرحوم، والمستغفر له، والمراد هو القدر المشترك.
اللطيفة الرابعة : أمرنا الله بالصلاة على نبيه المصطفى ﷺ، وكان يكفي أن نقول صلينا عليه أو يقول الإنسان : أصلي عليه، فلماذا نقول عند الصلاة عليه : اللهم صلِّ على محمد؟
والجواب : أنَّ الله لما أمرنا بالصلاة عليه، ولم نبلغ قدر الواجب من ذلك، أحلناه على الله تعالى، وقلنا : اللهم صلّ أنت على محمد، لأنك أعلم بما يليق به، فنحن عاجزون عن توفيته حقه، وقاصرون عن معرفة الثناء الذي يليق بقدره، وقد أوْكّلْنا الأمر إليك. فتدبر سرّ هذه الجملة ( اللهم صل على محمد ) فإنه نفيس ودقيق.
اللطيفة الخامسة : قال بعض العلماء : معنى قولنا : اللهم صل على محمد أي عظِّمْه في الدنيا بإعلاء ذكره، وإظهار دعوته، وإبقاء شريعته، وفي الآخرة بتشفيعه في أمته، وتضعيف أجره ومثوبته، وإعطائه المقام المحمود.
فضائل الصلاة على النبي ﷺ
١- عن أبي طلحة رضي الله عنه أن النبي ﷺ جاء ذات يوم والبشرى في وجهه، فقلنا إنّا لنرى البشرى في وجهك!! فقال :« إنه أتاني الملك فقال يا محمد : إن ربك يقول : أما يرضيك أنه لا يصل عليك أحد إلا صليت عليه عشراً، ولا يسلّم عليك أحد إلا سلّمت عليه عشراً؟... ».
477
- وقال ﷺ :« إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم عليّ صلاة ».
- وقال ﷺ :« البخيل الذي من ذكرتُ عنده فلم يصلّ عليّ ».
اللهمّ اجعل صلواتك، ورحمتك، وبركاتك، على سيّد المرسلين، وإمام المتقين، سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين، إنك سميع مجيب الدعاء.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : ما هي صيغة الصلاة والتسليم على النبي عليه السلام؟
صيغة الصلاة على النبي ﷺ وردت فيها طرق كثيرة من السنة النبوية المطهَّرة، وقد ذكرت فيها صور مختلفة عن كيفية الصلاة عليه من المؤمنين، واختلافُها يشعر بأن الغرض ليس تحديد ( كيفية خاصة ) وإنما هي ألوان من التعظيم والثناء له عليه السلام، وسنقتصر على بعض ما صحّ من هذه الكيفيات، لأنّ استيعابها يطول، فنقول ومن الله نستمد العون :
أولاً : روى الشيخان عن كعب بن عُجْرة رضي الله عنه قال : قال رجل يا رسول الله : أمّا السلام عليك فقد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال قل :« اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد ».
ثانياً : وروى مالك وأحمد والشيخان عن أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنهم قالوا يا رسول الله : كيف نصلي عليك؟ فقال رسول الله ﷺ قولوا :« اللهمّ صل على محمد وأزواجه وذريته، كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد ».
ثالثاً : وأخرج الجماعة عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : أتانا النبي ﷺ ونحن في مجلس ( سعد بن عُبادة ) فقال له بشير بن سعد : أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله، فكيف نصلي عليك؟ فسكت حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال قولوا :« اللهمّ صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم إنك حميد مجيد، والسلام كما علمتم ».
وفي بعض رواياته :« اللهم صل على محمد النبي الأمي وعلى آل محمد ».
وهناك روايات أخرى دون هذه في الصحة وتخالفها بالزيادة والنقص في مواضع كثيرة.
وما دام المراد تعظيم النبي ﷺ فأي عبارة تكون واردة من طريق صحيح كان لك أن تأخذ بها.
وأما التسليم فصيغته معروفة وهي أن يقول المؤمنون : السلام عليك يا رسول الله.
وفي التشهد يقول المصلي : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته.
ومعنى التسليم : الدعاء بالسلامة من جميع البلايا والآفات والأسقام، وذهب ابن السائب إلى أن معنى التسليم : الانقياد وعدم المخالفة أي سلّموا لما يأمركم به والله أعلم.
478
الحكم الثاني : ما معنى صلاة الله والملائكة على النبي عليه السلام؟
تقدّم معنا أن الصلاة في اللغة تأتي بمعنى ( الدعاء ) وتأتي بمعنى ( الرحمة ) وتأتي بمعنى ( التمجيد والثناء ) ومن الأخير قوله تعالى :﴿ أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ ﴾ [ البقرة : ١٥٧ ].
وقد ذهب بعض العلماء إلى أن الصلاة من الله تعالى على نبيه معناها تمجيده والثناء عليه وإلى هذا ذهب البخاري وطائفة من العلماء وهو أظهر.
وقال آخرون : المراد بالصلاة على النبي رحمته ومغفرته إلى هذا ذهب الحسن البصري وسعيد بن جبير، وقيل : المراد بها البركة والكرامة.
وأما صلاة الملائكة فمعناها : الدعاء له عليه السلام والاستغفار لأمته، وعلى جميع الأقوال فالصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة.
ولما جاء اللفظ مجموعاً مضافاً إلى واو الجماعة ﴿ إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ﴾ وكانت الصلاة من الله غير الصلاة من الملائكة لذلك فقد اختلف المفسّرون في تأويل الآية على أقوال :
أ- فذهب بعضهم إلى أنّ في الآية حذفاً دلّ عليه السياق تقديره : إن الله يصلي على النبي، وملائكته يصلون على النبي، فتكون واو الجماعة راجعة إلى الملائكة خاصة ويؤيد هذا قراءة الرفع ( وملائكتُه ) وليس اللفظ مشتركاً بين الله تعالى وملائكته.
ب- وذهب بعضهم إلى أنه من باب ( الجمع بين الحقيقة والمجاز ) وهو اختيار الفخر الرازي ومذهب الإمام الشافعي رحمه الله، فعنهد يجوز استمال اللفظ المشترك في معنييه معاً كما يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز، فيكون لفظ ( يُصلُّون ) عائداً إلى الله وإلى الملائكة بالمعنيين معاً ويصبح معنى الآية :( إن الله تعالى يرحم نبيّه وملائكته يدعون له ).
ج - وذهب جماعة إلى القول بأنه من باب ( عموم المجاز ) لا من باب ( الجمع بين الحقيقة والمجاز ) فيقدِّرون معنى مجازياً عاماً، ينتظم أفراداً كثيرة يشملها هذا اللفظ، وهذا المعنى العام هو مثلاً ( العناية بشأن النبي ﷺ ) فالاعتناء يكون من الله تعالى على وجه، ويكون من الملائكة على وجه آخر، وهذا اختيار أبي السعود وأبي حيان والزمخشري، وغيرهم من مشاهير المفسرين.
قال أبو السعود : قوله تعالى :﴿ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ﴾ قيل : الصلاة من الله تعالى الرحمة، ومن الملائكة الاستغفار، وقال ابن عباس : أراد أن الله يرحمه، والملائكة يدعون له.. فينبغي أن يراد في ﴿ يُصَلُّونَ ﴾ معنى مجازي عام، يكون كل واحد من المعاني المذكورة فرداً حقيقاً له، أي يعتنون بما فيه خيره وصلاح أمره، ويهتمون بإظهار شرفه وتعظيم شأنه، وذلك من الله سبحانه بالرحمة، ومن الملائكة بالدعاء والاستغفار.
وقال أبو حيان في « البحر المحيط » :« وصلاة الله غير صلاة الملائكة فكيف اشتركا؟ والجواب : اشتركا في قدّرٍ مشترك وهو إرادة وصول الخير إليهم، فالله تعالى يريد برحمته إياهم وصول الخير إليهم، والملائكة يريدون بالاستغفار ذلك ».
479
الحكم الثالث : هل الصلاة على النبي ﷺ على سبيل الندب أو الفرض؟
أمر الله سبحانه المؤمنين بالصلاة على نبيه الكريم، وهذا لأمر للوجوب فتكون الصلاة على النبي ﷺ واجبة، ويكاد العلماء يجمعون على وجوب الصلاة والتسليم عليه مرّة في العمر، بل لقد حكى ( القرطبي ) الإجماع على ذلك، عملاً بما يقتضيه الأمر ( صلّوا ) من الوجوب، وتكون الصلاة والسلام في ذلك كالتلفظ بكلمة التوحيد، حيث لا يصح إسلام الإنسان إلا بالنطق بها.
وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة على النبي ﷺ واجبه، ويكاد العلماء يجمعون على وجوب الصلاة والتسليم عليه مرّة في العمر، بل لقد حكى ( القرطبي ) الإجماع على ذلك، عملاً بما يقتضيه الأمر ( صلّوا ) من الوجوب، وتكون الصلاة والسلام في ذلك كالتلفظ بكلمة التوحيد، حيث لا يصح إسلام الإنسان إلا بالنطق بها.
وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة على النبي ﷺ هل تجب في كل مجلس، وكلما ذكر اسمه الشريف ﷺ ؟ أم هي مندوبة؟ وذلك بعد اتفاقهم على أنها واجبة في العمر مرة.
أ- فقال بعضهم : إنها واجبة كلَّما ذُكر اسم النبي عليه السلام.
ب- وقال آخرون : تجب في المجلس مرة واحدة ولو تكرَّر ذكره عليه السلام في ذلك المجلس مرات.
ج - وقال آخرون : يجب الإكثار منها من غير تقييد بعدد أو مجلس، ولا يكفي أن يكون في العمر مرة.
وحجة القائلين بالوجوب في المجلس، أو كلما ذكر اسم الرسول ﷺ، أن الله تعالىّ أمر بها، والأمر يفيد التكرار، ثمّ ما ورد من الوعيد الشديد لمن لم يصلّ على رسول الله عليه السلام، كقوله :« البخيل الذي من ذُكِرتُ عنده فلم يُصلِّ عليّ » رواه الترمذي. وقوله عليه السلام :« ما من قوم يجلسون في مجلسٍ ثم يقومون منه لا يذكرون الله ولا يصلُّون على نبيه إلاّ كان تِرَةً عليهم يوم القيامة ».
وقول جبريل للنبي عليه السلام :« بَعُدَ من ذكرتَ عنده فلم يصلّ عليك، فقلت آمين ». فهذه تفيد الوجوب عندهم.
وذهب جمهور العلماء إلى أن الصلاة على النبي ﷺ قربة وعبادة، كالذكر والتسبيح والتحميد، وأنها واجبة في العمر مرة، ومندوبة ومسنونة في كل وقت وحين، وأنه ينبغي الإكثار منها لما صحّ عنه ﷺ أنه قال :« من صلى عليّ صلاة واحدة صلّى الله عليه بها عشراً » وغير ذلك من الأحاديث الكثيرة الشهيرة في فضل الصلاة على النبي عليه السلام، فهي مطلوبة ولكن لا على سبيل ( الوجوب ) بل على سبيل ( الندب ) والاستحباب.
480
قال العلامة أبو السعود :« والذي يقتضيه الاحتياط، ويستدعيه معرفة علو شأنه ﷺ، أن يصلي عليه كلما جرى ذكره الرفيع ».
وما ذهب إليه الجمهور هو الصح والأرجح والله تعالى أعلم.
الحكم الرابع : هل تجب الصلاة على النبي عليه السلام في الصلاة؟
اختلف الفقهاء في حكم الصلاة على النبي ﷺ في الصلاة على مذهبين :
أ- مذهب الشافعي وأحمد : أنها واجبة في الصلاة ولا تصح الصلاة بدونها.
ب- مذهب مالك وأبي حنيفة : أنها سنّة مؤكدة في الصلاة وتصح الصلاة بدونها مع الكراهة والإساءة.
أدلة الشافعية والحنابلة :
استدل الشافعية والحنابلة على أن الصلاة على النبي ﷺ واجبة في الصلاة بأدلة نوجزها فيما يلي :
أ- الأمر الوارد في قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ﴾ والأمر يقتضي الوجوب، ولا وجوب في غير التشهد، فتكون الصلاة على النبي واجبة في الصلاة.
ب- حديث كعب بن عجرة :( قلنا يا رسول الله قد عرفنا التسليم عليك، فكيف نصلي عليك؟ فقال : قولوا : اللهم صل على محمد وعلى آل محمد... ) الحديث وقد تقدم.
قال ابن كثير رحمه الله :« ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله ﷺ في التشهد الأخير، فإن تركه لم تصحّ صلاته، وهو ظاهر الآية، ومفسّر بهذا الحديث عن جماعة من الصحابة، وهو مذهب الإمام أحمد، وإليه ذهب ابن مسعود وجابر بن عبد الله ».
أدلة المالكية والأحناف :
واستدل المالكية والأحناف على مذهبهم ببضعة أدلة نوجزها فيما يلي :
أ- قوله تعالى :﴿ ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ ﴾ قالوا : قد تضمنت هذه الآية الأمر بالصلاة على النبي ﷺ وظاهره يقتضي الوجوب، فمتى فعلها الإنسان مرة واحدة في صلاة أو غير صلاة فقد أدّى فرضه، وهو مثل كلمة التوحيد والتصديق بالنبي ﷺ متى فعله الإنسان مرة واحدة في عمره فقد أدى فرضه، والأمر يقتضي الوجوب لا التكرار.
ب- حديث ابن مسعود حين علّمه ﷺ التشهد فقال :« إذا فعلتَ هذا، أو قلتَ هذا، فقد تمت صلاتك، فإن شئت أن تقوم فقم، ثم اختر من أطيب الكلام ما شئت » ولم يأمره بالصلاة على النبي عليه السلام.
ج - حديث معاوية السلمي وفيه أن النبي ﷺ قال :« إن صلاتنا هذه لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هي التسبيح والتهليل وقراءة القرآن » ولم يذكر الصلاة على النبي ﷺ.
د - ما روي عن كثير من الصحابة أنهم كانوا يكتفون بالتشهد في الصلاة وهو ( السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ) ولا يوجبون الصلوات الإبراهيمية.
481
قال أبو بكر الرازي :« وزعم الشافعي أن الصلاة على النبي ﷺ فرض في الصلاة، وهذا قول لم يسبقه إليه أحد من أهل العلم - فبما نعلمه - وهو خلاف الآثار الواردة عن النبي ﷺ لفرضها في الصلاة... ».
ثم ساق بعض الأدلة في تفسيره « أحكام القرآن » - وقد ذكرنا بعضها - ثم قال : وقد استقصينا الكلام في هذه المسألة في « شرح مختصر الطحاوي ».
الحكم الخامس : هل تجوز الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؟
يرى بعض العلماء أن الصلاة تجوز على غير الأنبياء، لأن الصلاة معناها الدعاء، والدعاء يجوز للأنبياء ولغير الأنبياء، واستدلوا بما ورد عنه ﷺ من قوله :« اللهم صلِّ على آل أبي أوفى ».
وذهب الأكثرون إلى أن الصلاة ( شعار ) وهي خاصة بالأنبياء، فلا تجوز لغيرهم فلا يصح أن تقول : اللهم صلّ على الشافعي مثلاً أو على أبي حنيفة، وإنما تترحم عليهما، ويجوز الترضي عن الصحابة والتابعين ولا تجوز الصلاة عليهم لأنها شعار الأنبياء والمرسلين.
قال العلامة أبو السعود :« وأمّا الصلاة على غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فتجوز تبعاً، وتكره استقلالاً، لأنه في العرف شعار ذكر الرسل، ولذلك لا يجوز أن يقال :» محمدٌ عزَّ وجل « مع كونه ﷺ عزيزاً جليلاً ».
والمراد بقوله تبعاً أن تقول مثلاً : اللهم صلّ على محمد وآله وذريته وأتباعه المؤمنين، فلا يصح أن تقول : اللهم صل على ذرية محمد، ولا اللهم صلّ على أزواج محمد، وإنما إذا صليت على الرسول يجوز لك أن تضيف تبعاً من شئت من عباد الله الصالحين، والله أعلم.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١- منصب النبوة منصب عظيم، ومكانة الرسول مكانة عظيمة عند الله تعالى.
٢- ثناء الله تعالى على نبيه الكريم وثناء الملائكة الأطهار مظهر من مظاهر رفعه الرسالة.
٣- احترام الرسول وتعظيم أمره واجب على المؤمنين لأنه من تعظيم أمر الله وطاعته جلّ وعلا.
٤- الصلاة على الرسول ﷺ ينبغي أن تكون بالصيغة الشرعية « اللهم صلي على محمد » الخ.
٥- يندب للمسلم أن يصلي على الرسول كلما ذكر اسمه الشريف ﷺ امتثالاً للأمر الإلهي.
٦- إيذاء الرسول ﷺ إيذاء لله تعالى وهو سبب لسخط الله وغضبه.
٧- إيذاء المؤمنين واتهامهم بما ليس فيهم من الكبائر التي ينبغي أن يبتعد عنها المسلم.
خاتمة البحث :
حكمة التشريع
مجّد الله رسوله ﷺ، وأثنى عليه الثناء العاطر، ورفع مكانته على جميع الأنبياء والمرسلين، وأحله المحل الرفيع الذي يليق بمنزلته السامية، ومرتبته العالية، وأمر المؤمنين بالتأدب مع الرسول الكريم، وبتعظيم أمره، وتمجيد شأنه، وصلى عليه في الملأ الأعلى مع الملائكة الأطهار، وكل ذلك ليعلّم المؤمنين مكانة هذا النبي العظيم، ليجلّوه ويحترموه، ويطيعوا أمره لأنه سبب سعادتهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة
482
﴿ لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً ﴾ [ الفتح : ٩ ].
وقد أمر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بالصلاة على الرسول الكريم، وجعل ذلك فرضاً لازماً لا يتم إيمان بدونه، وحرّم إيذاءه بالقول أو الفعل، ونهى عن كل ما يمسّ مقامه الشريف من إساءة أو عدوان، وجعل ذلك إيذاء له تعالى، لأنّ في تكذيبه ﷺ تكذيباً لله تعالى، وفي الاستهزاء بدعوته استهزاءً بالله تعالى، لأنه رسول رب العالمين. فيجب أن يُطاع في كل أمر، أن يحترم قوله لأنه مبلّغ عن الله وصدق الله حيث يقول ﴿ مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله ﴾ [ النساء : ٨٠ ].
وقد حكم الله جلّ وعلا باللعنة والغضب على من آذى الرسول عليه السلام، لأنه كفرانٌ للنعمة، وجحودٌ للفضل الذي أسداه الرسول ﷺ لأمته، وكيف يليق بالمؤمن أن يؤذي رسول الله مع أنه صلوات الله عليه سبب لإنقاذنا من الضلالة، وإخراجنا من الظلمات إلى النور؟! وهو باب الرحمة الإلهية، ومظهر الفضل والإحسان والجود :﴿ لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [ التوبة : ١٢٨ ] ﷺ وعلى آله وأصحابه والطيبين الطاهرين.
وصدق من قال :
483
[ ٧ ] حجاب المرأة المسلمة
التحليل اللفظي
﴿ لأزواجك ﴾ : المراد بكلمة الأزواج ( أمهات المؤمنين ) الطاهرات رضوان الله عليهن، ولفظ الزوج في اللغة يطلق على الذكر والأنثى، قال تعالى :﴿ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة ﴾ [ البقرة : ٣٥ ]، ﴿ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ].
وإطلاق لفظ ( الزوجة ) صحيح ولكنه خلاف الأفصح. وأنكر الأصمعي لفظ ( زوجة ) بالهاء، وقال : هي زوج لا غير، واحتجّ بأنه لم يرد في القرآن إلا بدون هاء ﴿ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ ﴾ [ الأحزاب : ٣٧ ] والصحيح أنه خلاف الأفصح وليس بخطأ قال الفرزدق :
إذا الله أثنى بالذي هو أهلُه عليه، فما مقدارُ ما تمدح الورى
وإن الذي يسعى يحرّش زوجتي كساعٍ إلى أُسْد الشّرى يستبيلها
وفي حديث عمّار بن ياسر قوله عن السيدة عائشة ( والله إني لأعلم أنها زوجة نبيكم في الدنيا والآخرة، ولكنّ الله ابتلاكم لها ليعلم أتطيعونه أو تطيعونها ).
﴿ يُدْنِينَ ﴾ : أي يسدلن ويرخين. وأصل الإدناء التقريب، يقال للمرأة إذا زلّ الثوب عن وجهها : أدني ثوبك على وجهك، والمراد في الآية الكريمة : يغطين وجوههن وأبدانهن ليميزن عن الإماء والقينات، ولما كان متضمناً معنى الإرخاء والسّدل عدّي بعلى ﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ ﴾.
﴿ جلابيبهن ﴾ : جمع جلباب، وهو الثوب الذي يستر جميع البدن، قال الشهاب : هو إزار يلتحف به، وقيل : هو المِلحفة وكل ما يغطي سائر البدن.
قال في « لسان العرب » : الجلباب ثوب أوسع من الخمار، دون الرداء، تغطي به المرأة رأسها وصدرها، وقيل : هو الملحفة، قالت امرأة من هذيل ترثي قتيلاً لها :
تمشي النُّسوْر إليهِ وهي لا هيةٌ مشيَ العذَارَى عليهنّ الجلابيبُ
وقيل جلباب المرأة : ملاءتها التي تشتمل بها، واحدها جلباب، والجماعة جلابيب، وأنشدوا :
مُجلْببٌ من سوادِ الليل جلباباً... وفي « الجلالين » : الجلابيب جمع جلباب، وهي المِلاءة التي تشتمل بها المرأة.
قال ابن عباس : أُمر نساءُ المؤمنين أن يغطّين رؤوسهن ووجوههن بالجلابيب، إلا عيناً واحدة ليُعْلم أنهنّ حرائر.
والخلاصة : فإن الجلباب هو الذي يستر جميع بدن المرأة، وهو يشبه الملاءة ( الملحفة ) المعروفة في زماننا، نسأله تعالى الستر والسلامة.
﴿ أدنى ﴾ : أفعل تفضيل بمعنى أقرب، من الدّنوّ بمعنى القرب، يقال : أدناني منه أي قرّبني منه، وقوله تعالى :﴿ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ [ الحاقة : ٢٣ ] أي قريبة المنال، وتأتي كلمة ( أدنى ) بمعنى أقل، وقد جُمع المعنيان في قول الشاعر :
لولا العقول لكان أدنى ضيغم أدنى إلى شرفٍ من الإنسان
﴿ غَفُوراً ﴾ : أي ساتراً للذنوب، ماحياً للآثام، يغفر لمن تاب ما فرط منه ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى ﴾ [ طه : ٨٢ ].
﴿ رَّحِيماً ﴾ : يرحم عباده، ويلطف بهم، ومن رحمته تعالى أنه لم يكلفهم ما لا يطيقون.
المعنى الإجمالي
يأمر الله تعالى نبيه الكريم ﷺ، أن يوجه النداء إلى الأمة الإسلامية جمعاء، بأن تعمل على التمسك بآداب الإسلام، وإرشاداته الفاضلة، ونظمه الحكيمة، التي بها صلاح الفرد وسعادة المجتمع، وخاصة في أمر اجتماعي هام، يتعلق بالأسرة المسلمة، ألا وهو ( الحجاب الشرعي ) الذي فرضه الله على المرأة المسلمة، ليصون لها كرامتها، ويحفظ عليها عفافها، ويحميها من النظرات الجارحة، والكلمات اللاذعة، والنفوس المريضة، والنوايا الخبيثة، التي يُكِنّها الفسّاق من الرجال للنساء غير المحتشمات، فيقول الله تعالى ما معناه.
484
يا أيها النبي بلّغ أوامر الله إلى عباده المؤمنين، وابدأ بنفسك فمر زوجاتك أمهات المؤمنين الطاهرات، وبناتك الفضليات الكريمات أن يرتدين الجلباب الشرعي، وأن يحتجبن عن أنظار الرجال، ليكنّ قدوة لسائر النساء، في التعفّف، والتستّر، والاحتشام، حتى لا يطمع فيهن فاسق، أو ينال من كرامتهن فاجر، وأمُر سائر نساء المؤمنين، أن يلبسن الجلباب السابغ، الذي يستر محاسنهنّ وزينتهنّ، ويدفع عنهنّ ألسنة السوء، وأمُرْهنّ كذلك أن يغطين وجوههنّ وأجسامهن بجلابيبهن، ليميّزن عن الإماء والقينات، فلا يكنّ هدفاً للمغرضين، وليكنّ بعيدات عن التشبه بالفواجر، فلا يتعرض لهن إنسان بسوء، فذلك أقرب إلى أن يعرفن بالعفة والتصون، فلا يطمع فيهن من في قلبه مرض، ﴿ وَكَانَ الله غَفُوراً ﴾ يغفر لمن امتثل أمره، رحيماً بعباده حيث لا يشرّع لهم إلا ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة.
سبب النزول
روى المفسّرون في سبب نزول هذه الآية الكريمة، أنّ الحرة والأمة كانتا تخرجان ليلاً لقضاء الحاجة في الغيطان، وبين النخيل، من غير تمييز بين الحرائر والإماء، وكان في المدينة فسّاق، لا يزالون على عاداتهم في الجاهلية يتعرضون للإماء، وربّما تعرضوا للحرائر، فإذا قيل لهم يقولون : حسبناهنّ إماءً. فأمرت الحرائر أن يخالفن الإماء في الزيّ فيتسترن ليحتشمن ويُهَبْن فلا يطمع فيهن ذوو القلوب المريضة، فأنزل الله ﴿ ياأيها النبي قُل لأزواجك... ﴾ الآية.
وقال ابن الجوزي :« سبب نزولها أن الفسّاق كانوا يؤذون النساء إذا خرجن بالليل، فإذا رأوا المرأة عليها قناع تركوها وقالوا : هذه حرّة، وإذا رأوها بغير قناع قالوا : أمة، فآذوها، فنزلت هذه الآية : قاله السدي ».
وجوه الإعراب
١- قوله تعالى :﴿ ياأيها النبي... ﴾ أيّ : منادى، والهاء للتنبيه، و ﴿ النبي ﴾ صفة ل ﴿ أَيُّ ﴾ قال ابن مالك : وأيّها مصحوبَ أل بعدُ صفة.
٢- قوله تعالى :﴿ قُل لأزواجك... ﴾ قلْ : أمر، و ﴿ يُدْنِينَ ﴾ مضارع مبني على السكون لاتصاله بنون النسوة، وجملة ﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ ﴾ مقول القول في محل جزم جواب الطلب.
٣- قوله تعالى :﴿ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ ﴾ أي بأن يُعْرفن مجرور بحرف جر محذوف، واسم الإشارة مبتدأ، وما بعده خبر، والتقدير : ذلك أقرب بمعرفتهنّ أنهنّ حرائر، والله أعلم.
لطائف التفسير
اللطيفة الأولى : بدأ الله تعالى بنساء الرسول ﷺ وبناته في الأمر ب ( الحجاب الشرعي ) وذلك للإشارة إلى أنهنّ قدوة لبقية النساء فعليهن التمسك بالآداب الشرعية ليقتدي بهنّ سائر النساء، والدعوة لا تثمر إلاّ إذا بدأ الداعي بها في نفسه وأهله، ومن أحقّ من ( بيت النبوة ) بالتمسك بالآداب والفضائل؟ وهذا هو السرُّ في تقديمهنَّ في الخطاب في قوله تعالى :﴿ قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ ﴾.
485
اللطيفة الثانية : الأمر بالحجاب إنما جاء بعد أن استقرّ امر الشريعة على وجوب ( ستر العورة )، فلا بدّ أن يكون الستر المأمور به هنا زائداً على ما يجب من ستر العورة، ولهذا اتفقت عبارات المفسّرين على - اختلاف ألفاظها - على أن المراد بالجلباب : الرداء الذي تستر به المرأة جميع بدنها فوق الثياب، وهو ما يسمّى في زماننا ب ( الملاءة ) أي الملحفة، وليس المراد ستر العورة كما ظنّ بعض الناس.
اللطيفة الثالثة : في هذا التفصيل والتوضيح ( أزواجك، بناتك، نساء المؤمنين ) ردّ صريح على الذين يزعمون أن الحجاب إنما فرض على أزواج النبي ﷺ خاصة، فإنّ قوله تعالى ﴿ وَنِسَآءِ المؤمنين ﴾ يدل دلالة قاطعة على أنّ جميع نساء المؤمنين مكلفات بالحجاب، وأنهن داخلات في هذا الخطاب العام الشامل، فكيف يزعمون أن الحجاب لم يفرض على المرأة المسلمة؟!
اللطيفة الرابعة : أمرُ الحرائر بالتستّر ليُميّزن عن الإماء، قد يفهم من أنّ الشارع أهمل أمر الإماء، ولم يبال بما ينالهن من الإيذاء، وتعرّض الفُسّاق لهن، فكيف يتفق هذا مع حرص الإسلام على طهارة المجتمع؟
والجواب : أنّ الإماء بطبيعة عملهن، يكثر خروجهنّ وتردّدهن في الأسواق، لقضاء الحاجات وخدمة سادتهن، فإذا كُلّفن بلبس الجلباب السابغ كلمَّا خرجن، كان في ذلك حرج ومشقة عليهنّ، وليس كذلك الحرائر لأنهن مأمورات بالاستقرار في البيوت ﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ] وعدم الخروج إلاّ عند الحاجة، فلم يكن عليهن من الحرج والمشقة في التستر ما على الإماء، وقد وردت الآية السابقة ﴿ والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات ﴾ [ الأحزاب : ٥٨ ] وهي تتوعد المؤذين بالعذاب الأليم، وهذا يشمل الحرائر والإماء.
اللطيفة الخامسة : قوله تعالى :﴿ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ ﴾ فيه ذكر للعلة أي ( الحكمة ) التي فُرض من أجلها الحجاب، والأحكامُ الشرعية كلها مشروعة لحكمة وجمهورُ المفسّرين موجهاً إلى جميع النساء، سواء منهن ( الحرائر والإماء ) وفسّر قوله تعالى :﴿ أَن يُعْرَفْنَ ﴾ أي يعرفن بالعفة والتستر والصيانة، فلا يطمع فيهنّ أهل السوء والفساد، وإليك نصّ كلامه كما في « البحر المحيط » :
« والظاهر أن قوله تعالى :﴿ وَنِسَآءِ المؤمنين ﴾ يشمل الحرائر والإماء، والفتنةُ بالإماء أكثر لكثرة تصرفهنّ بخلاف الحرائر، فيحتاج إخراجهنّ من عموم النساء إلى دليل واضح. وقوله :﴿ أدنى أَن يُعْرَفْنَ ﴾ أي يعرفن لتسترهنّ بالعفة فلا يُتعرض لهن، ولا يلقين بما يكرهن، لأنّ المرأة إذا كانت في غاية التستّر بالعفة فلا يُتعرض لهن، ولا يلقين بما يكرهن، لأنّ المرأة إذا كانت في غاية التستّر والانضمام لم يقدم عليها، بخلاف المتبرجة فإنها مطموع فيها ».
وهو رأي تبدو عليه مخايل الجودة، والدقة في الاستنباط.
486
وما اختاره ( أبو حيان ) هو الذي نختاره لأنه يحقّق غرض الإسلام في التستّر والصيانة والله أعلم.
الأحكام الشرعية
الحكم الأول : هل يجب الحجاب على جميع النساء؟
يدل ظاهر الآية الكريمة على أنّ الحجاب مفروض على جميع المؤمنات ( المكلفات شرعاً ) وهنّ :( المسلمات، الحرائر، البالغات ) لقوله تعالى :﴿ ياأيها النبي قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين... ﴾ الآية.
فلا يجب الحجاب على الكافرة لأنها لا تكلّف بفروع الإسلام، وقد أمرنا أن نتركهم وما يدينون، ولأنّ ( الحجاب ) عبادة لما فيه من امتثال أمر الله عزّ وجلّ، فهو بالنسبة للمسلمة كفريضة الصلاة والصيام، فإذا تركته المسلمة جحوداً فهي ( كافرة ) مرتدة عن الإسلام، وإذا تركته - تقليداً للمجتمع الفاسد - مع اعتقادها بفرضيته فهي ( عاصية ) مخالفة لتعاليم القرآن ﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ].
وغير المسلمة - وإن لم تُؤمر بالحجاب - لكنّها لا تُترك تفسد في المجتمع، وتتعرّى أمام الرجل، وتخرج بهذه الميوعة والانحلال الذي نراه في زماننا، فإنّ هناك ( آداباً اجتماعية ) يجب أن تُراعى، وتطبّق على الجميع، وتستوي فيها المسلمة وغير المسلمة حماية للمجتمع، وذلك من السياسات الشرعية التي تجب على الحاكم المسلم.
وأمّا الإماء فقد عرفتَ ما فيه من أقوال للعلماء، وقد ترجّح لديك رأي العلاّمة ( أبي حيّان ) : في أنّ الأمر بالستر عام يشمل الحرائر والإماء، وهذا ما يتفق مع روح الشريعة في صيانة الأغراض، وحماية المجتمع، من التفسخ والانحلال الخلقي، وأمّا البلوغ فهو شرط التكليف كما تقدم.
أقول : يطلب من المسلم أن يعوّد بناته منذ سنّ العاشرة على ارتداء الحجاب الشرعي حتى لا يصعب عليهن بعدُ ارتداؤه، وإن لم يكن الأمر على وجه ( التكليف ) وإنما هو على وجه ( التأديب ) قياساً على أمر الصلاة ( مُروا أولادكم بالصلاة وهم أنباء سبع، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع ).
الحكم الثاني : ما هي كيفية الحجاب؟
أمر الله المؤمنات بالحجاب وارتداء الجلباب صيانة لهنّ وحفظاً، وقد اختلف أهل التأويل في كيفية هذا التستر على أقوال :
أ- فأخرج ابن جرير الطبري عن ابن سيرين أنه قال :( سألتُ عَبيدةَ السّلماني ) عن هذه الآية ﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن ﴾ فرفع مِلْحفة كانت عليه فتقنّع بها، وغطّى رأسه كلّه حتى بلغ الحاجبين، وغطّى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شقّ وجهه الأيسر.
ب- وروى ابن جرير وأبو حيّان عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال :( تلوي الجلباب فوق الجبين، وتشدّه ثمّ تعطفه على الأنف، وإن ظهرت عيناها، لكنّه يستر الصدر ومعظم الوجه ).
ج - وروي عن السّدي في كيفيته أنه قال :( تغطّي إحدى عينيها وجبهتها، والشقّ الآخر إلا العين ). قال أبو حيّان :« وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلاّعينها الواحدة.
د- وأخرج عبد الرزاق وجماعة عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت :»
لما نزل هذه الآية ﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن ﴾ خرج نساء الأنصار كأنّ على رؤوسهنّ الغُربان من أكسية سودٍ يلبسنها «.
487
الحكم الثالث : هل يجب على المرأة ستر وجهها؟
تقدّم معنا في سورة النور أنّ المرأة منهية عن إبداء زينتها إلا للمحارم ﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ] الآية ولمّا كان الوجه أصل الزينة، ومصدر الجمال والفتنة، لذلك كان ستره ضرورياً عن الأجانب، والذين قالوا إن الوجه ليس بعورة اشترطوا ألاّ يكون عليه شيء من الزينة كالأصباغ والمساحيق التي توضع عادة للتجمّل، وبشرط أمن الفتنة، فإذا لم تؤمن الفتنة فيحرم كشفه.
وممّا لا شك فيه أن الفتنة في هذا الزمان غير مأمونة، لذا نرى وجوب ستر الوجه حفاظاً على كرامة المسلمة، وقد ذكرنا بعض الحجج الشرعية على وجوب ستره في بحث ( بدعة كشف الوجه ) من سورة النور، ونزيد هنا بعض أقوال المفسّرين في وجوب ستر الوجه.
طائفة من أقوال المفسّرين في وجوب ستر الوجه
أولاً : قال ابن الجوزي في قوله تعالى :﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن ﴾ أي يغطين رؤوسهنّ ووجوههنّ ليعلم أنهن حرائر، والمراد بالجلابيب : الأردية قاله ابن قتيبة.
ثانياً : وقال أبو حيّان في « البحر المحيط » : وقوله تعالى :﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن ﴾ شامل لجميع أجسادهن، أو المراد بقوله ﴿ عَلَيْهِنَّ ﴾ أي على وجوههنّ، لأنّ الذي كان يبدوا منهنّ في الجاهلية هو الوجه.
ثالثاً : وقال أبو السعود : الجلباب : ثوب أوسع من الخمار ودون الرداء، تلويه المرأة على رأسها وتبقي منه ما ترسله على صدرها، ومعنى الآية : أي يغطين بها وجوههنّ وأبدانهنّ إذا برزن لداعية من الدواعي.
وعن السّدي : تغطّي إحدى عينيها وجبهتها والشق الآخر إلا العين.
رابعاً : وقال أبو بكر الرازي : وفي هذه الآية ﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن ﴾ دلالة على أنّ المرأة الشابة مأمورة بستر وجهها عن الأجنبييين. وإظهار الستر والعفاف عند الخروج لئلا يطمع فيهن أهل الريب.
خامساً : وفي « تفسير الجلالين » : الجلابيب جمع جلباب، وهي الملاءة التي تشتمل بها المرأة، قال ابن عباس : أمر نساء المؤمنين أن يغطّين رؤوسهنّ ووجوههنّ بالجلابيب إلاّ عيناً واحدة ليعلم أنهن حرائر.
سادساً : وفي « تفسير الطبري » : عن ابن سيرين أنه قال :« سألت عبيدة السلماني عن قوله تعالى :﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن ﴾ فرفع ملحفة كانت عليه فتقنّع بها وغطّى رأسه كله حتى الحاجبين، وغطّى وجهه وأخرج عينه اليسرى من شق وجهه الأيسر، وروي مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما » وقد تقدّم الحديث سابقاً.
فهذا وأمثاله كثير من أقوال مشاهير المفسّرين، يدل دلالة واضحة على وجوب ستر الوجه وعدم كشفه أمام الأجانب، اللهم إلاّ إذا كان الرجل خاطباً، أو كانت المرأة في حالة إحرام بالحج، فإنه وقت عبادة والفتنة مأمونة، فلا يقاس على هذه الحالة كما يفعل بعض الجهلة اليوم، حيث يقولون : إذا جاز لها أن تكشف عن وجهها في حالة الإحرام فمعناه أنه يجوز لها أن تكشف في غيره من الأوقات لأن الوجه ليس بعورة، فهذا كلام من لم يفقه شريعة الإسلام.
488
ومن درس حياة السلف الصالح، وما كان عليه النساء الفضليات - نساء الصحابة والتابعين - وما كان عليه المجتمع الإسلامي في عصره الذهبي من التستر، والتحفظ، والصيانة عرف خطأ هذا الفريق من الناس، الذين يزعمون أن الوجه لا يجب ستره بل يجب كشفه، ويدعون المرأة المسلمة أن تسفر عن وجهها بحجة أنه ليس بعورة، لأجل أن يتخلصوا من الإثم - بزعمهم - في كتم العلم، وما دروا أنها مكيدة دبّرها لهم أعداء الدين، وفتنة من أجل التدرج بالمرأة المسلمة إلى التخلص من الحجاب الشرعي، الذي عمل له الأعداء زمناً طويلاً، وإنّا لله وإنّا إليه راجعون.
الحكم الرابع : ما هي شروط الحجاب الشرعي؟
يشترط في الحجاب الشرعي بعض الشروط الضرورية وهي كالآتي :
أولاً : أن يكون الحجاب ساتراً لجميع البدن لقوله تعالى :﴿ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن ﴾. وقد عرفت معنى ( الجلباب ) وهو الثوب السابغ الذي يستر البدن كله، ومعنى ( الإدناء ) وهو الإرخاء والسدل فيكون الحجاب الشرعي ما ستر جميع البدن.
ثانياً : أن يكون كثيفاً غير رقيق، لأنّ الغرض من الحجاب السترُ، فإذا لم يكن ساتراً لا يسمّى حجاباً لأنه لا يمنع الرؤية ولا يحجب النظر، وفي حديث عائشة أنّ ( أسماء بنت أبي بكر ) دخلت على رسول الله ﷺ وعليها ثياب رقاق، فأعرض عنها رسول الله ﷺ... الحديث.
ثالثاً : ألاّ يكون زينة في نفسه، أو مبهرجاً ذا ألوان جذابه يلفت الأنظار لقوله تعالى :﴿ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ [ النور : ٣١ ] الآية ومعنى ﴿ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ﴾ أي بدون قصد ولا تعمد، فإذا كان في ذاته زينة فلا يجوز ارتداؤه، ولا يسمى ( حجاباً ) لأن الحجاب هو الذي يمنع ظهور الزينة للأجانب.
رابعاً : أن يكون فضفاضاً غير ضيّق، لا يشفّ عن البدنن ولا يجسّم العورة، ولا يظهر أماكن الفتنة في الجسم، وفي « صحيح مسلم » عن رسول الله ﷺ أنه قال :« صنفان من أهل النار لم أرهما : قومٌ معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات، مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا ». وفي رواية أخرى : وإنّ ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام. « رواه مسلم ».
ومعنى قوله عليه السلام :« كاسيات عاريات »
489
أي كاسيات في الصورة عاريات في الحقيقة، لأنهنّ يلبسن ملابس لا تستر جسداً، ولا تخفي عورة، والغرض من اللباس السترُ، فإذا لم يستر اللباس كان صاحبه عارياً.
ومعنى قوله :« مميلات مائلات » أي مميلات لقلوب الرجال مائلات في مشيتهن، يتبخترن بقصد الفتنة والإغراء، ومعنى قوله :« كأسنمة البخت » أي يصفّفن شعورهن فوق رؤوسن، حتى تصبح مثل سنام الجمل، وهذا من معجزاته عليه السلام.
خامساً : ألاّ يكون الثوب معطّراً فيه إثارة للرجال لقوله ﷺ :« كلّ عينٍ نظرت زانية، وإنّ المرأة استعطرت فمرّت بالمجلس فهي كذا وكذا يعني زانية ».
وفي رواية ( أن المرأة استعطرت فمرّت على القوم ليجدوا ريحها فهي زانية ).
وعن موسى بن يسار قال :« مرّت بأبي هريرة امرأة وريحها تعصف فقال لها : أين تريدين يا أمة الجبار؟ قالت : إلى المسجد، قال : وتطيّبتِ؟ قالت : نعم، قال : فارجعي فاغتسلي فإني سمعت رسول الله ﷺ يقول : لا يقبل الله من امرأة صلاة، خرجت إلى المسجد وريحها تعصف حتى ترجع وتغتسل ».
سادساً : ألاّ يكون الثوب فيه تشبه بالرجال، أو ممّا يلبسه الرجال لحديث أبي هريرة :( لعن النبي ﷺ الرجل يلبس لبسة الرجل ). وفي الحديث « لعن الله المخنثين من الرجال، والمترجلات من النساء » أي المتشبهات بالرجال في أزيائهن وأشكالهنّ كبعض نساء هذا الزمان نسأله تعالى السلامة والحفظ.
ما ترشد إليه الآيات الكريمة
١- الحجاب مفروض على جميع نساء المؤمنين وهو واجب شرعي محتّم.
٢- بنات الرسول ونساؤه الطاهرات هنّ الأسوة والقدوة لسائر النساء.
٣- الجلباب الشرعي يجب أن يكون ساتراً للزينة والثياب ولجميع البدن.
٤- الحجاب لم يفرض على المسلمة تضييقاً عليها، وإنّما بشريفاً لها وتكريماً.
٥- في ارتداء الحجاب الشرعي صيانة للمرأة، وحماية للمجتمع من ظهور الفساد، وانتشار الفاحشة.
٦- على المسلمة أن تتمسّك بأوامر الله، وتتأدب بالآداب الاجتماعية التي فرضها الإسلام.
٧- الله رحيم بعباده يشرع لهم من الأحكام ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدارين.
حكمة التشريع
قد يظن بعض الجهلة أن الحجاب لم يفرضه الإسلام على المرأة المسلمة وأنه من العادات والتقاليد التي ظهرت في العصر العباسي، وهذا الظن ليس له نصيب من الصحة وهو إن دل فإنما يدل على أحد أمرين :
أ- أما الجهل الفاضح بالإسلام وبكتاب الله المبين.
ب- وإما الغرض الدفين في قلوب أولئك المتحللين.
وأحب أن أكشف الستار لتوضيح الحقيقة حتى لا يلتبس الحق بالباطل ولا يختلط الخبيث بالطيب، وحتى يظهر الصبح لذي عينين. فما أكثر هؤلاء المضلين في هذا الزمان الذين يزعمون أنهم أرباب المدنية ودعاة التقدمية!! وما أشد خطرهم على الأخلاق والمجتمع لأنهم يفسدون باسم الإصلاح ويهدمون باسم البناء، ويدجلون باسم الثقافة والعلم، ويزعمون أنهم مصلحون.
490
النصوص الواردة في الحجاب
١- يقول الله سبحانه :﴿ وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ] الآية.
٢- ويقول جلّ شأنه :﴿ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ] الآية.
٣- ويقول سبحانه مخاطباً نبيه العظيم :﴿ ياأيها النبي قُل لأزواجك وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ الآية.
٤- ويقول سبحانه أيضاً :﴿ وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ ﴾ [ النور : ٣١ ] الآية.
فمن هذه النصوص الكريمة نعلم أن الحجاب مفروض على المرأة المسلمة بنصوص في كتاب الله قطعية الدلالة، وليس كما يزعم المتحلّلون أنه من العادات والتقاليد التي أوجبها العصر العباسي... الخ فإن حبل الكذب قصير.
ومن خلال هذه الآيات الكريمة نلمح أن الإسلام إنما قصد من وراء فرض الحجاب أن يقطع طرق الشبهات ونزغات الشيطان أن تطوف بقلوب الرجال والنساء وفي ذلك يقول الله سبحانه :﴿ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ ﴾ [ الأحزاب : ٥٣ ] وهدفه الأول إنما هو صون « الشرف » والمحافظة على « العفة والكرامة » ولا ننسى أن هناك كثيراً من ضعفاء القلوب ومرضى الضمائر يتربصون بالمرأة السوء ليهتكوا عنها ستر الفضيلة والعفاف.
ولا يشك عاقل أن تهتك النساء وخلاعتهن هو الذي أحدث ما يسمونه « أزمة الزواج » ذلك لأن كثيراً من الشباب قد أحجموا عن الزواج لأنهم أصبحوا يجدون الطريق معبَّداً لإشباع غرائزهم من غير تعب ولا نصب، فهم في غنى عن الزواج، وهذا بلا شك يعرَّض البلاد إلى الخراب والدمار، وينذر بكارثه لا تبقي ولا تذر، وليس انتشار الخيانات الزوجية وخراب البيوت إلا أثراً من آثار هذا التبرج الذميم.
يقول ( سيّد سابق ) في كتابه « فقه السُنّة » :
« إنّ أهم ما يتميّز به الإنسان عن الحيوان اتخاذُ الملابس، وأدوات الزينة، يقول الله تعالى :﴿ يابني ءَادَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ﴾ [ الأعراف : ٢٦ ].
والملابسُ والزينةُ هما مظهران من مظاهر المدنيّة والحضارة، والتجرّدُ عنهما إنما هو ردّة إلى الحيوانية، وعودة إلى الحياة البدائية، وإنّ أعزّ ما تملكه المرأة الشرفُ، والحياءُ، والعفافُ، والمحافظةُ على هذه الفضائل محافظةٌ على إنسانية المرأة في أسمى صورها، وليس من صالح المرأة، ولا من صالح المجتمع أن تتخلى المرأة عن الصيانة والاحتشام، ولا سيّما وأن الغريزة الجنسية هي أعنف الغرائز، وأشدّها على الإطلاق »
.
امنعوا الاختلاط... وقيّدوا حرية المرأة
وتحت هذا العنوان نشرت صحيفة ( الجمهورية ) بالقاهرة مقالاً لصحفية أمريكية تدعى ( هيلسيان ستانسبري ) قالت هذه الكاتبة الأمريكية بعد أن مكثت شهراً في الجمهورية العربية ما نصه :« إنّ المجتمع العربي مجتمع كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيّد الفتاة والشاب في حدود المعقول، وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأوروبي والأمريكي، فعندكم تقاليد موروثه تحتّم تقييد المرأة وتحتّم احترام الأب والأم، وتحتّم أكثر من ذلك عدم » الإباحيّة الغربية « التي تهدّد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا.
491
إن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة صالحة ونافعة، لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط، وقيّدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب، فهذا خير لكم من إباحية وانطلاق ومجون أوروبا وأمريكا.
امنعوا الاختلاط فقد عانينا منه في أمريكا الكثير، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً معقداً، مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة، وإنَّ ضحايا الاختلاط والحرية قبل سنّ العشرين، يملأون السجون والأرصفة، والبارات والبيوت السرية؛ إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار، قد جعلت منهم عصابات أحداث، وعصابات ( جميس دين ) وعصابات للمخدّرات والرقيق.
إن الاختلاط، والإباحية، والحرية في المجتمع الأوروبي والأمريكي هدّد الأسر، وزلزل القيم والأخلاق، فالفتاة الصغيرة - تحت سن العشرين - في المجتمع الحديث، تخالط الشبان، وترقص، وتشرب الخمر، وتتعاطى المخدرات باسم المدنية والحرية والإباحية... وهي تلهو وتعاشر من تشاء تحت سمع عائلتها وبصرها، بل وتتحدى والديها، ومدرّسيها، والمشرفين عليها.. تتحدّاهم باسم الحرية والاختلاط، تتحداهم باسم الإباحية والانطلاق، تتزوّج في دقائق، وتطلّق بعد ساعات، ولا يكلّفها أكثر من إمضاء وعشرين قرشاً وعرّيس ليلة.
أقول : هذا رأي الكاتبة الأمريكية والفضل ما شهدت به الأعداء.. ! وصدق الله :﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى... ﴾ [ الأحزاب : ٣٣ ].
492
Icon