تفسير سورة الحجرات

تفسير الثعلبي
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعلبي .
لمؤلفه الثعلبي . المتوفي سنة 427 هـ
مدنية. وهي ألف وأربعمائة وخمسة وسبعون حرفاً، وثلاثمائة وثلاثة وأربعون كلمة، وثماني عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم العبدوي قرأه عليه سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، قال : أخبرنا أبو عمر ومحمّد بن جعفر بن محمّد العدل، قال : حدّثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل، قال : حدّثنا أحمد بن عبدالله بن يونس، قال : حدّثنا سلام بن سليم المدائني، قال : حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة عن أُبي بن كعب، قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) ( من قرأ الحُجرات أُعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله ومَنْ عَصاه ).

سورة الحجرات
مدنية. وهي ألف وأربعمائة وخمسة وسبعون حرفا، وثلاثمائة وثلاثة وأربعون كلمة، وثماني عشرة آية
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن إبراهيم العبدوي قرأه عليه سنة أربع وثمانين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو عمر ومحمّد بن جعفر بن محمّد العدل، قال: حدّثنا إبراهيم بن شريك بن الفضل، قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: حدّثنا سلام بن سليم المدائني، قال: حدّثنا هارون بن كثير، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن أبي أمامة عن أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ الحجرات أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع الله ومن عصاه» [٦٠] «١».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قرأ العامة (تُقَدِّمُوا) بضم (التاء) وكسر (الدال) من التقديم، وقرأ الضحّاك، ويعقوب بفتحهما من التقدّم. واختلف المفسّرون في معنى الآية، فروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عبّاس، قال: لا تقولوا خلاف الكتاب والسنّة.
عطية عنه: لا تتكلّموا بين يدي كلامه.
وأخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أبو الحسين عمر بن الحسن بن مالك الشيباني، قال: حدّثنا أحمد بن الحسن بن سعيد بن عثمان الخزاز. قال: حدّثنا حسين بن محارق أبو جنادة، عن عبد الله بن سلامة، عن السبعي، عن جابر بن عبد الله لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
(١) تفسير مجمع البيان: ٩/ ٢١٤.
69
قال: في الذبح يوم الأضحى، وإليه ذهب الحسن، قال: لا تذبحوا قبل أن يذبح النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن ناسا من المسلمين ذبحوا قبل صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم فأمرهم أن يعيدوا الذبح.
وأخبرنا عبد الخالق، قال: أخبرنا ابن حيي قال: حدّثنا أبو بكر بن أبي العوام الرياحي، قال: حدّثنا أبي. قال: حدّثنا النعمان بن عبد السّلم التيمي، عن زفر بن الهذيل، عن يحيى بن عبد الله التيمي عن حبّال بن رفيدة، عن مسروق، عن عائشة رضي الله عنها في قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قالت: لا تصوموا قبل أن يصوم نبيّكم.
وروي عن مسروق أيضا، قال: دخلت على عائشة في اليوم الذي جئت فيه، فقالت للجارية: اسقيه عسلا، فقلت: إنّي صائم. فقالت: قد نهى الله تعالى عن صوم هذا اليوم، وفيه نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل. قال: حدّثنا إسحاق بن إبراهيم. قال: حدّثني هشام بن يوسف، عن ابن جريح، قال: أخبرني ابن أبي مليكة أنّ عبد الله بن الزبير أخبرهم، قال: قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد زرارة، وقال عمر: بل أمّر الأقرع بن حابس، فقال أبو بكر: ما أردت إلّا خلافي، وقال عمر: ما أردت خلافك، فتماريا حتّى ارتفعت أصواتهما، فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ... الآية [٦١] «١».
وقال قتادة: نزلت في ناس كانوا يقولون: لو أنزل في كذا، لوضع كذا. فكره الله ذلك وقدّم فيه. مجاهد: لا تفتاتوا «٢» على رسول الله بشيء حتّى يقضيه الله على لسانه «٣».
الضحّاك: يعني في القتال وشرائع الدين يقول: لا تقضوا أمرا دون الله ورسوله. حيان، عن الكلبي لا تستبقوا رسول الله بقول، ولا فعل حتّى يكون هو الذي يأمركم. وبه قال السدّي، وقال عطاء الخراساني: نزلت في قصة بئر معونة،
وقيل في الثلاثة الذين نجّوا الرجلين السّلميين، اللذين اعتزما إلى بني عامر وأخذهم مالهما وكانا من أهل العهد، فلمّا أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم وقد سبق الخبر إليه، فقال: «بئس ما صنعتم، هما من أهل ميثاقي وهذا الذي معكم من نسوتي «٤» »، قالا: يا رسول الله إنّهما زعما أنّهما من بني عامر، فقلنا: رجلان ممّن قتل إخواننا.
فقلنا: هما لذلك. وأتاه السّلميون، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا قود لهما لأنّهما اعتزما إلى
(١) مسند أحمد: ٤/ ٦ وصحيح البخاري: ٥/ ١١٦ ط. دار الفكر.
(٢) لا تفتاتوا: لا تبتدعوا الكلام وتفتوا برأيكم.
(٣) تفسير الطبري: ٢٦/ ١٥٠.
(٤) كذا في المخطوط.
70
عدوّنا» [٦٢] «١». ولكنّه أيدهما «٢»، فوادّهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنزل الله سبحانه في ذلك: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ حين قتلوا الرجلين
، وهذه رواية ماذان عن ابن عبّاس.
وقال ابن زيد: لا تقطعوا أمرا دون رسول الله، وقيل: لا تمشوا بين يدي رسول الله، وكذلك بين أيدي العلماء فإنّهم ورثة الأنبياء.
ودليل هذا التأويل ما
أخبرنا أبو الحسن الخبازي، قال: حدّثنا أبو القاسم موسى بن محمّد الدينوري بها، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى، قال: حدّثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال:
حدّثنا رجل بمكّة، عن ابن جريج، عن عطاء، عن أبي الدرداء، قال: رآني النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أمشي أمام أبي بكر، فقال: «تمشي أمام من هو خير منك في الدّنيا والآخرة، ما طلعت الشمس، ولا غربت على أحد بعد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمرسلين خيرا وأفضل من أبي بكر!!» [٦٣] «٣».
وقيل: إنّها نزلت في قوم كانوا يحضرون مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا سئل الرسول عن شيء، خاضوا فيه، وتقدّموا بالقول، والفتوى، فنهوا عن ذلك، وزجروا عن أن يقول أحد في شيء من دين الله سبحانه، قبل أن يقول فيه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وقيل: لا تطلبوا منزلة وراء منزلته. قال الأخفش: تقول العرب: فلان تقدّم بين يدي أبيه، وأمّه، ويتقدّم إذا استبدّ بالأمر دونهما. وَاتَّقُوا اللَّهَ في تضييع حقّه، ومخالفة أمره. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم، وأحوالكم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ الآية نزلت في ثابت بن قيس ابن شماس، كان في أذنه وقر، وكان جهوري الصّوت، فإذا كلّم إنسانا جهر بصوته، فربّما كان يكلّم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فينادي بصوته، فأنزل الله سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي لا تغلظوا له في الخطاب، ولا تنادوه باسمه يا محمّد، يا أحمد، كما ينادي بعضكم بعضا، ولكن فخّموه، واحترموه، وقولوا له قولا ليّنا، وخطابا حسنا، بتعظيم، وتوقير: يا نبي الله، يا رسول الله، نظيره قوله سبحانه: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً «٤».
أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ كي لا تبطل حسناتكم. تقول العرب: أسند الحائط أن يميل وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ
فلمّا نزلت هذه الآية قعد ثابت في الطريق، فمرّ به عاصم بن عدي، فقال: ما
(١) بتفاوت في تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٠١.
(٢) كذا في المخطوط.
(٣) تاريخ بغداد: ١٤/ ٣٧٩.
(٤) سورة النور: ٦٣.
71
يبكيك يا ثابت؟ قال: هذه الآية أتخوّف أن تكون نزلت فيّ، وأنا رفيع الصوت، أخاف أن يحبط عملي، وأن أكون من أهل النار، فمضى عاصم إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغلب ثابتا البكاء، فأتى امرأته جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فقال لها: إذا دخلت بيت فرسي، فشدّي على الضبة بمسمار فضربته بمسمار حتى إذا خرجت عطفه، وقال: لا أخرج حتّى يتوفّاني الله، أو يرضى عنّي رسول الله، فأتى عاصم رسول الله، فأخبره بخبره. فقال: «اذهب، فادعه لي». فجاء عاصم إلى المكان الذي رآه فلم يجده، فجاء إلى أهله، فوجده في بيت الفرس، فقال له: إنّ رسول الله يدعوك، فقال: أكسر الصبّة، فأتيا رسول الله، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما يبكيك يا ثابت؟» فقال: أنا صيّت وأتخوّف أن تكون هذه الآية نزلت فيّ، فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أما ترضى أن تعيش سعيدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنّة» [٦٤] «١»، فقال: رضيت ببشرى الله ورسوله، لا أرفع صوتي أبدا على رسول الله، فأنزل الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ الآية «٢».
قال أنس: فكنّا ننظر إلى رجل من أهل الجنّة، يمشي بين أيدينا، فلمّا كان يوم اليمامة في حرب مسيلمة، رأى ثابت في المسلمين بعض الانكسار، وانهزمت طائفة منهم، فقال: أف لهؤلاء، وما يصنعون. ثمّ قال ثابت لسالم مولى أبي حذيفة: ما كنا نقاتل أعداء الله مع رسول الله مثل هذا، ثمّ ثبتا، ولم يزالا يقاتلان حتّى قتلا. وثابت بن قيس عليه درع، فرآه رجل من الصحابة بعد موته في المنام أنّه قال له: اعلم أنّ فلانا- رجل من المسلمين- نزع درعي، فذهب بها وهي في ناحية من العسكر عنده فرس تستر في طوله، وقد وضع على درعي لرمه «٣»، فأت خالد بن الوليد، فأخبره حتّى يسترد درعي وأت أبا بكر خليفة رسول الله وقل له: إنّ عليّ دينا حتّى يقضي، وفلان من رقيقي عتيق.
فأخبر الرجل خالدا فوجد درعه والفرس على ما وصفه، فاسترد الدرع، وأخبر خالد أبا بكر تلك الرؤيا، فأجاز أبو بكر وصيّته. قال مالك بن أنس: لا أعلم أجيزت بعد موت صاحبها إلّا هذه.
حدّثنا أبو محمّد المخلدي، قال: أخبرنا أبو العبّاس السرّاج، قال: حدّثنا زياد بن أيّوب، قال: حدّثنا عباد بن العوّام، ويزيد بن هارون وسعيد بن عادر، عن محمّد بن عمرو، عن أبي سلمة، قال: حدّثنا سعيد، عن أبي هريرة. قال: لمّا نزلت لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ... الآية، قال أبو بكر: والله لا أرفع صوتي إلّا كأخي السرار «٤».
(١) فتح الباري: ٦/ ٤٥٧.
(٢) تفسير الطبري: ٢٦/ ١٥٣.
(٣) كذا في المخطوط، ولعلها: دمه.
(٤) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٠٨، والسرار بالكسر: المسارة أي كصاحب السرار أو كمثل المسارة بخفض صوته (لسان العرب ٤/ ٣٦٢). [.....]
72
وروى ابن أبي مليكة عن أبي الزبير، قال: لمّا نزلت هذه الآية، ما حدّث عمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك، فيسمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلامه حتّى يستفهمه ممّا يخفض صوته، فأنزل الله سبحانه فيهم:
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إجلالا له أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى
أي اختبرها، فأخلصها، واصطفاها كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج خالصه، وقال ابن عبّاس: أكرمها.
وأخبرنا أبو سعيد محمّد بن موسى بن الفضل النيسابوري، قال: أخبرنا أبو عبد الله محمّد ابن عبد الله بن أحمد الإصبهاني، قال: حدّثنا أبو بكر عبد الله بن محمّد بن عبد القريشي، قال:
حدّثنا محمّد بن يحيى بن أبي خاتم، قال: حدّثني جعفر بن أبي جعفر، عن أحمد بن أبي الخولدي، قال: سمعت أبا سلمان يقول: قال عمر بن الخطّاب في قوله: الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قال: أذهب الشهوات منها لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ويقال: إنّ هذه الآيات الأربع من قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ إلى قوله: وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ نزلت في وفد تميم.
وهو ما
أخبرني أبو القاسم الحسن بن محمّد، قال: حدّثني أبو جعفر محمّد بن صالح بن هاني الورّاق سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، قال: حدّثنا الفضل بن محمّد بن المسيب بن موسى الشعراني، قال: حدّثنا القاسم بن أبي شيبة، قال: حدّثنا معلّى بن عبد الرّحمن، قال: حدّثنا عبد الحميد بن جعفر بن عمر بن الحكم، عن جابر بن عبد الله، قال: جاءت بنو تميم إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فنادوا على الباب: يا محمّد اخرج علينا، فإنّ مدحنا زين وذمّنا شين. قال: فسمعها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فخرج عليهم، وهو يقول: «إنّما ذلكم الله الذي مدحه زين وذمّه شين» «١».
قالوا: نحن ناس من بني تميم، جئنا بشاعرنا وخطيبنا نشاعرك ونفاخرك، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بالشعر بعثت، ولا بالفخار أمرت، ولكن هاتوا» [٦٥] «٢».
فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم فاذكر فضلك، وفضل قومك. فقام، فقال:
الحمد لله الذي جعلنا خير خلقه وآتانا أموالا نفعل فيها ما نشاء، فنحن من خير أهل الأرض، من أكثرهم عدّة، ومالا، وسلاحا، فمن أنكر علينا قولنا، فليأت بقول هو أحسن من قولنا، وفعال هي خير من فعالنا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لثابت بن قيس بن شماس، وكان خطيب رسول الله: «قم فأجبه».
(١) أسباب نزول الآيات: ٢٥٩.
(٢) أسباب نزول الآيات للواحدي: ٢٥٩.
73
فقام، فقال: الحمد لله أحمده، وأستعينه، وأومن به، وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلّا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله، ثمّ دعا المهاجرين من بني عمّه أحسن الناس وجوها وأعظمهم أحلاما. فأجابوه، فقالوا: الحمد لله الذي جعلنا أنصاره، ووزراء رسوله، وعزّا لدينه، فنحن نقاتل الناس، حتّى يشهدوا أن لا إله إلّا الله، فمن قالها منع منّا ماله، ونفسه، ومن أبى قتلناه، وكان زعمه في الله علينا هينا، أقول قولي وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات.
فقال الزبرقان بن بدر لشاب من شبابهم: قم يا فلان، فقل أبياتا تذكر فيها فضلك، وفضل قومك. فقام الشاب، فقال:
نحن الكرام فلا حيّ يعادلنا «١» فينا الرؤوس وفينا يقسم الربع
ونطعم الناس عند القحط كلّهم من السديف إذا لم يؤنس القزع
إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد إنا كذلك عند الفخر نرتفع
قال: فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى حسّان بن ثابت، فانطلق إليه الرّسول، فقال: وما تريد منّي وكنت عنده؟ قال: جاءت بنو تميم بشاعرهم، وخطيبهم، فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثابت بن قيس، فأجابه، وتكلّم شاعرهم، فأرسل إليك لتجيبه.
وذكر له قول شاعرهم. قال: فجاء حسّان، فأمره رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجيبه فقال: يا رسول الله مره، فليسمعني ما قال، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اسمعه ما قلت»، فأنشده ما قال، فقال حسّان:
إنّ الذوائب من فهر وإخوتهم قد شرّعوا سنّة للنّاس تتبّع
يرضى بها كلّ من كانت سريرته تقوى الإله وكلّ الخير يصطنع
ثمّ قال حسّان:
نصرنا رسول الله والدين عنوة على رغم عات من معد وحاضر
بضرب كإيزاغ المخاض مشاشه وطعن كأفواه اللقاح الصوادر
وسل أحدا يوم استقلت شعابه بضرب لنا مثل الليوث الجواذر
ألسنا نخوض الموت في حومة الوغى إذا طاب ورد الموت بين العساكر
ونضرب هام الدارعين وننتمي إلى حسب من جذم غسان قاهر
فلولا حياء الله قلنا تكرّما على النّاس بالخيفين هل من منافر
فأحياؤنا من خير من وطئ الحصى وأمواتنا من خير أهل المقابر
(١) في أسباب النزول: يفاخرنا بدلا من «يعادلنا».
74
قال: فقام الأقرع بن حابس، فقال: إنّي والله لقد جئت لأمر ما جاء له هؤلاء، وإنّي قد قلت شعرا، فاسمعه منّي، فقال: هات، فقال:
أتيناك كيما يعرف الناس فضلنا إذا خالفونا عند ذكر المكارم
وإنّا رؤس الناس من كلّ معشر وأنّ ليس في أرض الحجاز كدارم
وإنّ لنا المرباع في كلّ غارة تكون بنجد أو بأرض التهائم
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قم يا حسّان فأجبه». فقام حسّان، فقال:
بني دارم لا تفخروا إنّ فخركم يعود وبالا عند ذكر المكارم
هبلتم علينا تفخرون وأنتم لنا خول من بين ظئر وخادم
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد كنت غنيا يا أخا دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أنّ الناس قد نسوه».
قال: فكان قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أشدّ عليهم من قول حسّان. ثمّ رجع حسّان إلى شعره.
فقال:
كأفضل ما نلتم من المجد والعلى ردافتنا من بعد ذكر الأكارم
فإن كنتم جئتم لحقن دمائكم وأموالكم أن تقسموا في المقاسم
فلا تجعلوا لله ندّا وأسلموا ولا تفخروا عند النبيّ بدارم
وإلّا وربّ البيت مالت أكفّنا على هامكم بالمرهفات الصوارم
قال: فقام الأقرع بن حابس، فقال: إنّ محمّدا المولى، إنه والله ما أدري ما هذا الأمر، تكلّم خطيبنا، فكان خطيبهم أحسن قولا، وتكلّم شاعرنا، فكان شاعرهم أشعر، وأحسن قولا.
ثمّ دنا من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: أشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسوله.
فقال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «ما يضرّك ما كان قبل هذا». ثمّ أعطاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وكساهم، وقد كان يخلف في ركابهم عمرو بن الأهتم، وكان قيس بن عاصم يبغضه لحداثة سنه، فأعطاه رسول الله مثل ما أعطى القوم، فأزرى به قيس، وقال فيه أبيات شعر وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فأنزل الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ إلى قوله وَأَجْرٌ عَظِيمٌ يعني جزاء وافرا، وهو الجنّة «١».
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ٤ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
(١) بطوله في أسباب النزول: ٢٥٩ وتاريخ دمشق: ٩/ ١٨٨- ١٩١ ط. دار الفكر، وزاد المسير لابن الجوزي:
٧/ ١٧٨.
75
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ يعني أعراب تميم، حيث نادوا: يا محمّد اخرج علينا، فإنّ مدحنا زين وذمّنا شين، قاله قتادة.
قال ابن عبّاس: بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية إلى حي من بني العنبر وأمّر عليهم عيينة بن حصين الفزاري، فلمّا علموا أنّه توجّه نحوهم، هربوا، وتركوا عيالهم، فسباهم عيينة، وقدم بهم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فجاء بعد ذلك رجالهم يفدون الذراري، فقدموا وقت الظهيرة، وواقفوا رسول الله في أهله قائلا، فلمّا رأتهم الذراري جهشوا إلى آبائهم يبكون، وكان لكلّ امرأة من نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيت، وحجرة، فعجلوا أن يخرج إليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وجعلوا ينادون: يا محمّد اخرج إلينا حتّى أيقظوه من نومه، فخرج إليهم، فقالوا: يا محمّد فادنا عيالنا.
فنزل جبريل، فقال: يا محمّد إنّ الله يأمرك أن تجعل بينك، وبينهم رجلا، فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أترضون أن يكون بيني وبينكم سمرة بن عمرو، وهو على دينكم؟».
فقالوا: نعم. قال سمرة: أنا لا أحكم بينهم وعمّي شاهد، وهو الأعور بن شامة فرضوا به.
فقال الأعور: أرى أن يفادي نصفهم، ويعتق نصفهم. فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «قد رضيت».
ففادى نصفهم وأعتق نصفهم، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من كان عليه محرر من ولد إسماعيل، فليعتق منهم» [٦٦] «١». فأنزل الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ... الآية
، وقال زيد بن أرقم: جاء ناس من الغرف إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل، فإن يكن نبيّا فنحن أسعد الناس به، وأن يكن ملكا نعش في جناحه. فجاءوا إلى حجرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فجعلوا ينادونه: يا محمّد، يا محمّد، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ
وهي جمع الحجر، والحجر جمع حجرة، فهو جمع الجمع، وفيه لغتان: فتح (الجيم) وهي قراءة أبي جعفر، كقول الشاعر:
(١) المعجم الكبير ١٠/ ١٨٥- في المصدر الحديث هكذا: «من كان عليه محرر من ولد إسماعيل فلا يعتق من حمير أحدا» مجمع الزوائد: ١٠/ ٤٦.
76
أما كان عباد كفيا لدارم يلي ولأبيات بها الحجرات
يعني يلي ولبني هاشم.
أَكْثَرُهُمْ جهلاء لا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ لأنّك كنت تعتقهم جميعا، وتطلقهم بلا فداء. وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ
أخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن يوسف، قال: حدّثنا أحمد بن عيسى بن السكين البلدي، قال: حدّثني هاشم بن القاسم الحراني، قال: حدّثني يعلى بن الأشدق، قال: حدّثني سعد بن عبد الله، أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سئل عن قول الله سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ قال: «هم الجفاة من بني تميم، لولا أنّهم من أشدّ الناس قتالا للأعور الدجّال، لدعوت الله عزّ وجلّ أن يهلكهم» [٦٧] «١».
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ الآية
نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بني المصطلق بعد الوقعة مصدّقا، وكان بينه، وبينهم عداوة في الجاهلية، فلمّا سمع به القوم تلقوه تعظيما لأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحدّثه الشيطان أنّهم يريدون قتله، فهابهم، فرجع من الطريق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إنّ بني المصطلق، قد منعوا صدقاتهم وأرادوا قتلي، فغضب رسول الله، وهمّ أن يغزوهم، فبلغ القوم رجوعه، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا رسول الله سمعنا برسولك، فخرجنا نتلقّاه، ونكرمه، ونؤدّي إليه ما قبلنا من حقّ الله، فبدا له في الرجوع، فخشينا أن يكون إنّما ردّه من الطريق كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنّا نعوذ بالله من غضبه، وغضب رسوله، فأبهمهم «٢» رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وبعث خالد بن الوليد إليهم خفية في عسكر، وأمره أن يخفي عليهم قدومه «٣».
وقال له: «انظر، فإن رأيت منهم ما يدلّ على إيمانهم، فخذ منهم زكاة أموالهم، وإن لم تر ذلك، فاستعمل فيهم ما يستعمل في الكفّار».
ففعل ذلك خالد ووافاهم، فسمع منهم آذان صلاتي المغرب والعشاء، فأخذ منهم صدقاتهم، ولم ير منهم إلّا الطاعة، والخير، فانصرف خالد إلى رسول الله، وأخبره الخبر، فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ يعني الوليد بن عقبة بن أبي معيط
سمّاه الله فاسقا، نظيره أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ «٤»، قال سهل بن عبد الله وابن زيد: الفاسق الكذّاب. أبو الحسين الورّاق: هو المعلن بالذنب، وقال ابن طاهر وابن زيد: الفاسق الذي لا يستحي من الله سبحانه.
(١) الدر المنثور: ٦/ ٨٧.
(٢) في تفسير ابن كثير (٤/ ٢٢٤) : وإن النبي استغشهم وهمّ بهم فأنزل الله عذرهم.
(٣) تفسير الطبري: ٢٦/ ١٦١.
(٤) سورة السجدة: ١٨.
77
بنبإ: بخبر فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا كي لا تصيبوا بالقتل، والقتال. قَوْماً براء بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ فاتقوا أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإنّ الله سبحانه يخبره أنباءكم، ويعرّفه أحوالكم، فتفتضحوا. لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ فيحكم برأيكم، ويقبل قولكم. لَعَنِتُّمْ لأثمتم وهلكتم. وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ فأنتم تطيعون رسول الله وتأتمّون به، فيقيكم الله بذلك العنت. وَزَيَّنَهُ وحسّنه فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ.
ثمّ انتقل من الخطاب إلى الخبر، فقال عزّ من قائل: أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ نظيرها قوله سبحانه: وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ «١»، قال النابغة:
يا دارميّة بالعلياء فالسند أقوت وطال عليها سالف الأبد «٢»
فَضْلًا أي كان هذا فضلا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
قال أكثر المفسّرين: وقف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم على مجلس من مجالس الأنصار وهو على حماره، فبال حماره، فأمسك عبد الله بن أبي بأنفه وقال: إليك عنّا بحمارك، فقد آذانا نتنه. فقال عبد الله بن رواحة: والله لحمار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أطيب ريحا منك.
فغضب لعبد الله بن أبي رجل من قومه، وغضب لعبد الله بن رواحة رجل من قومه، فغضب لكلّ واحد منهما أصحابه حتّى استسبّوا، وتجالدوا بالأيدي، والجريد، والنعال، ولم يقدر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على إمساكهم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، فلمّا نزلت قرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاصطلحوا، وكفّ بعضهم عن بعض، وأقبل بشير بن النعمان الأنصاري مشتملا على سيفه، فوجدهم قد اصطلحوا، فقال عبد الله بن أبي: أعليّ تشتمل بالسيف يا بشير؟ قال: نعم، والّذي أحلف به لو جئت قبل أن تصطلحوا لضربتك حتّى أقتلك، فأنشأ عبد الله بن أبي يقول:
متى ما يكن مولاك خصمك جاهدا تظلم «٣» ويصرعك الذين تصارع «٤»
قال قتادة: نزلت في رجلين من الأنصار، كانت بينهما مداراة في حقّ بينهما، فقال أحدهما للآخر: لآخذنّ حقّي منك عنوة، لكثرة عشيرته، وإنّ الآخر دعاه ليحاكمه إلى نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، فأبى أن يتبعه، فلم يزل الأمر بينهما، حتّى تدافعوا، وقد تناول بعضهم بعضا بالأيدي، والنعال، ولم يكن قتال بالسيوف.
وروى محمّد بن الفضيل، عن الكلبي أنّها نزلت في حرب
(١) سورة الروم: ٣٩.
(٢) البداية والنهاية: ٢/ ٢٧٩.
(٣) في السيرة: تذل بدل من «تظلم».
(٤) تفسير الطبري: ٢٦/ ١٦٧ وسيرة ابن هشام: ٢/ ٤٢٥ ط. مصر (صبيح وأولاده).
78
سمير وحاطب، وكان سمير قتل حاطبا، فجعل الأوس والخزرج يقتتلون إلى أن أتاهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله سبحانه هذه الآية، وأمر نبيّه، والمؤمنين أن يصلحوا بينهم.
وروى سفيان عن السدّي، قال: كانت امرأة من الأنصار يقال لها: أمّ زيد تحت رجل، وكان بينها، وبين زوجها شيء، فرمى بها إلى علية، وحبسها فيها، فبلغ ذلك قومها فجاءوا، وجاء قومه، فاقتتلوا بالأيدي، والنعال، فأنزل الله سبحانه تعالى: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا الآية.
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالدعاء إلى حكم كتاب الله سبحانه، والرضا بما فيه لهما، وعليهما.
فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ ترجع إِلى أَمْرِ اللَّهِ وأبت الإجابة إلى حكم الله تعالى له، وعليه في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه. فَإِنْ فاءَتْ رجعت إلى الحقّ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بحملهما على الإنصاف والرضى بحكم الله، وهو العدل، وَأَقْسِطُوا واعدلوا. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في الدين، والولاية فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ إذا اختلفا، واقتتلا، وقرأ ابن سيرين، ويعقوب. بين إخوتكم (بالتاء) على الجمع، وقرأ الحسن (إخوانكم) (بالألف) و (النون). وَاتَّقُوا اللَّهَ فلا تعصوه ولا تخالفوا أمره لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
قال أبو عثمان البصري: أخوة الدّين أثبت من أخوّة النسب، فإنّ اخوّة النسب تنقطع لمخالفة الدين، وأخوّة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب. وسئل الجنيد عن الأخ، فقال: هو أنت في الحقيقة إلّا إنّه غيرك في الشخص.
أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال:
حدّثنا محمّد بن إسحاق المسوحي. قال: حدّثنا عمرو بن علي، قال: حدّثنا أبو عاصم. قال:
حدّثنا إسماعيل بن رافع، عن ابن أبي سعيد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «المسلم أخو المسلم لا يظلمه، ولا يعيبه، ولا يخذله، ولا يتطاول عليه في البنيان، فيستر عليه الريح إلّا بإذنه، ولا يؤذيه بقتار قدره إلّا أن يعرف له، ولا يشتري لبنيه الفاكهة، فيخرجون بها إلى صبيان جاره، ولا يطعمونهم منها».
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «احفظوا، ولا يحفظه منكم إلّا قليل» [٦٨] «١».
وفي هاتين الآيتين دليل على انّ البغي لا يزيل اسم الإيمان، لأنّ الله سبحانه وتعالى سمّاهم أخوة مؤمنين مع كونهم باغين، عاصين. يدلّ عليه ما
روى الأعور أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه سئل وهو القدوة في قتال أهل البغي، عن أهل الجمل، وصفّين، أمشركون هم؟
فقال: لا، من الشرك فرّوا. فقيل: أهم منافقون؟ فقال: إنّ المنافقين لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا. قيل: فما حالهم؟ قال: إخواننا بغوا علينا.
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٢٣. [.....]
79
وقد أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن شنبه، قال: حدّثنا أحمد بن الحسين بن عبد الجبّار الصوفي قال: حدّثنا أبو نصر التمّار، قال: حدّثنا كوثر، عن نافع، عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «يا عبد الله هل تدري كيف حكم الله سبحانه فيمن بغى من هذه الأمّة؟».
قال: الله ورسوله أعلم. قال: «لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا يقسم فيئها» [٦٩] «١».
وسئل محمّد بن كعب القرظي عن هاتين الآيتين، فقال:
جعل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أجر المصلح بين الناس، كأجر المجاهد عند الناس
، وقال بكر بن عبد الله: امش ميلا، وعد مريضا، امش ميلين، وأصلح بين اثنين، امش ثلاثة أميال، وزر أخاك في الله.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١١ الى ١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ الآية،
قال ابن عبّاس: نزلت في ثابت بن قيس، وذلك أنّه كان في أذنه وقر، فكان إذا أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد سبقوه بالمجلس، أوسعوا له حتّى يجلس إلى جنبه، فيسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم، وقد فاته من صلاة الفجر ركعة مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا انصرف النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم [منه، فربض] كلّ رجل بمجلسه، فلا يكاد يوسع أحد لأحد، فكان الرجل إذا جاء، فلم يجد مجلسا، قام قائما، كما هو، فلمّا فرغ ثابت من الصلاة، وقام منها، أقبل نحو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجعل يتخطّى رقاب الناس، ويقول: تفسحوا تفسحوا، فجعلوا يتفسحون له حتّى انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وبينه وبينه رجل.
فقال له: تفسح. فقال له الرجل: قد أصبت مجلسا، فاجلس، فجلس ثابت من خلفه مغضبا، فلمّا أبينت الظلمة، غمز ثابت الرجل، وقال: من هذا؟ قال: أنا فلان. فقال له ثابت:
ابن فلانة. ذكر أمّا له كان يعيّر بها في الجاهلية. فنكس الرجل رأسه واستحيا، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
وقال الضحّاك: نزلت في وفد تميم الذين ذكرناهم في صدر السورة، استهزءوا بفقراء أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مثل عمّار، وخباب، وبلال، وصهيب، وسلمان، وسالم مولى أبي حذيفة، لما رأوا من رثاثة حالهم، فأنزل الله سبحانه في الذين آمنوا منهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٢٠.
80
أي رجال من رجال، والقوم اسم يجمع الرجال والنساء «١»، وقد يختص بجمع الرجال، كقول زهير:
وما أدري وسوف إخال أدري أقوم آل حصن أم نساء «٢»
عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ
نزلت في امرأتين من أزواج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم سخرتا من أمّ سلمة، وذلك أنّها ربطت خصريها بسبيبة- وهي ثوب أبيض ومثلها السب- وسدلت طرفيها خلفها. فكانت تجرها.
فقالت عائشة لحفصة: انظري ما تجرّ خلفها كأنّه لسان كلب. فهذا كان سخريتهما «٣».
وقال أنس: نزلت في نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عيّرن أمّ سلمة بالقصر. ويقال: نزلت في عائشة، أشارت بيدها في أمّ سلمة أنّها قصيرة
، وروى عكرمة، عن ابن عبّاس أنّ صفية بنت حي بن أخطب أتت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: إنّ النساء يعيّرني فيقلن: يا يهودية بنت يهوديين، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «هلّا قلت: إنّ أبي هارون، وابن عمّي موسى، وإنّ زوجي محمّد» [٧٠] «٤»، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعيب بعضكم بعضا، ولا يطعن بعضكم على بعض. وقيل:
اللمز العيب في المشهد، والهمز في المغيب، وقال محمّد بن يزيد: اللمز باللسان، والعين، والإشارة، والهمز لا يكون إلّا باللسان، قال الشاعر:
إذا لقيتك عن شحط تكاشرني وإن تغيبت كنت الهامز اللمزة «٥»
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ
قال أبو جبير بن الضحّاك: فينا نزلت هذه الآية في بني سلمة، قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة، وما منّا رجل إلّا له اسمان أو ثلاثة، فكان إذا دعا الرجل الرجل باسم، قلنا: يا رسول الله، إنّه يغضب من هذا. فأنزل الله عزّ وجلّ: وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ.
قال قتادة، وعكرمة: هو قول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق، يا كافر، وقال الحسن:
كان اليهودي، والنصراني يسلم، فيقال له بعد إسلامه: يا يهودي، يا نصراني، فنهوا عن ذلك، وقال ابن عبّاس: التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيّئات، ثمّ تاب منها، وراجع الحقّ، فنهى الله أن يعيّر بما سلف من عمله.
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٢٥ مورد الآية.
(٢) كتاب العين: ٥/ ٢٣١.
(٣) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٢٦.
(٤) أسباب نزول الآيات للواحدي: ٢٦٤ تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٢٦.
(٥) لسان العرب: ٥/ ٤٢٦ تاج العروس: ٤/ ٩٤.
81
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يقول: من فعل ما نهيت عنه من السخرية، واللمز والنبز، فهو فاسق، وبِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ فلا تفعلوا ذلك، فتستحقّوا (اسم الفسوق) وقيل: معناه بئس الاسم الذي تسميه، بقولك فاسق، بعد أن علمت أنّه آمن.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ...
الآية نزلت في رجلين من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم اغتابا رفيقيهما، وذلك
أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا غزا أو سافر، ضمّ الرجل المحتاج إلى رجلين موسورين يخدمهما، ويحقب حوائجهما، ويتقدّم لهما إلى المنزل، فيهيّئ لهما ما يصلحهما من الطعام، والشراب، فضم سلمان الفارسي رضي الله عنه إلى رجلين في بعض أسفاره، فتقدّم سلمان، فغلبته عيناه، فلم يهيّئ لهما شيئا، فلمّا قدما، قالا له: ما صنعت شيئا؟ قال: لا. قالا: ولم؟ قال: غلبتني عيناي، فقالا له: انطلق إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واطلب لنا منه طعاما وإداما، فجاء سلمان إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسأله طعاما، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انطلق إلى أسامة بن زيد وقل له: إن كان عنده فضل من طعام، وإدام، فليعطك».
وكان أسامة خازن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعلى رحله، فأتاه، فقال: ما عندي شيء، فرجع سلمان إليهما، وأخبرهما بذلك، فقالا: كان عند أسامة، ولكن بخل، فبعثا سلمان إلى طائفة من الصحابة، فلم يجد عندهم شيئا، فلمّا رجع سلمان، قالا: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها، ثمّ انطلقا يتجسّسان هل عند أسامة ما أمر لهما به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فلمّا جاءا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهما: «ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما» قالا: يا رسول الله، والله ما تناولنا يومنا هذا لحما، فقال: «ظللتم تأكلون لحم سلمان، وأسامة» [٧١] «١».
فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا
قرأه العامّة (بالجيم) وقرأ ابن عبّاس، وأبو رجاء العطاردي (ولا تحسّسوا) (بالحاء)، قال الأخفش: ليس يبعد أحدهما عن الآخر. إلّا أنّ التجسّس لما يكتم، ويوارى، ومنه الجاسوس، والتحسس (بالحاء) تخبر الأخبار، والبحث عنها، ومعنى الآية خذوا ما ظهر، ودعوا ما ستر الله، ولا تتّبعوا عورات المسلمين.
أخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن شنبه، قال: حدّثنا الفريابي قال: حدّثنا قتيبة بن سعد، عن مالك، عن أبي الزياد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إيّاكم
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٣١.
82
والظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث، وَلا تَجَسَّسُوا، ولا تحسّسوا، ولا تنافسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا» [٧٢] «١».
وأخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن حبش، قال: أخبرنا علي بن زنجويه. قال: حدّثنا سلمة، قال: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن زرارة بن مصعب بن عبد الرّحمن بن عوف، عن المسوّر بن مخرمة، عن عبد الرّحمن بن عوف، أنّه حرس ليلة عمر بن الخطّاب بالمدينة، فبينا هم يمشون شب لهم سراج في بيت، فانطلقوا يؤمّونه، فلمّا دنوا منه، إذا باب يجاف على قوم لهم أصوات مرتفعة، ولغط، فقال عمر، وأخذ بيد عبد الرّحمن: أتدري بيت من هذا؟ قال: قلت: لا.
قال: هذا بيت ربيعة بن أمية بن خلف، وهم الآن بيثرب، فما ترى؟ قال عبد الرّحمن:
أرى أنّا قد أتينا ما قد نهى الله سبحانه، فقال: وَلا تَجَسَّسُوا فقد تجسسنا، فانصرف عمر عنهم، وتركهم.
وبه عن معمر، قال: أخبرني أيّوب، عن أبي قلابة أنّ عمر بن الخطّاب، حدّث أنّ أبا محجن الثقفي شرب الخمر في بيته هو وأصحابه، فانطلق عمر حتّى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلّا رجل، فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين إنّ هذا لا يحلّ لك، فقد نهاك الله عزّ وجلّ عن التجسّس، فقال عمر: ما يقول هذا؟ فقال زيد بن ثابت، وعبد الله بن الأرقم: صدق يا أمير المؤمنين، هذا التجسّس، قال: فخرج عمر رضي الله عنه، وتركه. وروى زيد بن أسلم أنّ عمر بن الخطّاب خرج ذات ليلة، ومعه عبد الرّحمن بن عوف رضي الله عنهما يعسّان إذ شبّ لهما نار، فأتيا الباب، فاستأذنا، ففتح الباب، فدخلا، فإذا رجل، وامرأة تغنّي، وعلى يد الرجل قدح، وقال عمر للرجل: وأنت بهذا يا فلان؟ فقال: وأنت بهذا يا أمير المؤمنين؟ فقال عمر: فمن هذه منك؟
قال: امرأتي. قال: وما في القدح؟ قال: ماء زلال. فقال للمرأة: وما الّذي تغنّين؟ فقالت:
أقول:
تطاول هذا الليل واسودّ جانبه وأرّقني ألّا حبيب ألاعبه «٢»
فو الله لولا خشية الله والتقى لزعزع من هذا السرير جوانبه
ولكن عقلي والحياء يكفني وأكرم بعلي أن تنال مراكبه
ثمّ قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين، قال الله: وَلا تَجَسَّسُوا فقال عمر:
صدقت، وانصرف. وأخبرنا الحسين، قال: حدّثنا موسى بن محمّد بن علي. قال: حدّثنا
(١) مسند أحمد: ٢/ ٤٧٠ بتفاوت يسير. صحيح البخاري: ٧/ ٨٨.
(٢) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٣٤ ولسان العرب: ٨/ ١٤٢، بتفاوت فيهما بالبيت الثاني.
83
الحسين بن علوية. قال: حدّثنا إسماعيل بن عيسى، قال: حدّثنا المسيب، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، قال: قيل لابن مسعود: هل لك في الوليد بن عقبة تقطر لحيته خمرا؟ فقال: إنّا قد نهينا عن التجسّس، فإن يظهر لنا شيئا نأخذه به.
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً
أخبرنا الحسين، قال: حدّثنا عبيد الله بن أحمد بن يعقوب المقري. قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن زيد أبو بكر السطوي، قال: حدّثنا علي بن إشكاب، قال: حدّثنا عمر بن يونس اليمامي، قال: حدّثنا جهضم بن عبد الله، عن العلاء بن عبد الرّحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الغيبة فقال: «أن يذكر أخاك بما يكره، فإمّا إن كان فيه فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهتّه» [٧٣] «١».
وقال معاذ بن جبل: كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر القوم رجلا، فقالوا: ما يأكل إلّا ما أطعم، ولا يرحل إلّا ما رحّل، فما أضعفه، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اغتبتم أخاكم».
قالوا: يا رسول الله وغيبة أن نحدّث بما فيه؟ فقال: «بحسبكم أن تحدّثوا عن أخيكم بما فيه» [٧٤] «٢».
وروى موسى بن وردان عن أبي هريرة أنّ رجلا قام من عند رسول الله، فرأوا في قيامه عجزا، فقالوا: يا رسول الله ما أعجز فلانا. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أكلتم أخاكم واغتبتموه» [٧٥] «٣».
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً، قال قتادة: يقول: كما أنت كاره أن وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها، فكذلك فاكره لحم أخيك وهو حيّ، فَكَرِهْتُمُوهُ قال الكسائي، والفراء: معناه، فقد كرهتموه. وقرأ أبو سعيد الخدري (فَكُرِّهْتُمُوهُ) بالتشديد على غير تسمية الفاعل.
أخبرني الحسن، قال: حدّثنا عمر بن نوح البجلي، قال: حدّثنا أبو صالح عبد الوهاب بن أبي عصمة. قال: حدّثنا إسماعيل بن يزيد الأصفهاني. قال: حدّثنا يحيى بن سليم، عن كهمس، عن ميمون بن سباه، وكان يفضل على الحسن، ويقال: قد لقي من لم يلق، قال: بينما أنا نائم إذا أنا بجيفة زنجي وقائل يقول لي: كل، قلت: يا عبد الله، ولم آكل؟ قال: بما اغتبت عبد فلان، قلت: والله ما ذكرت منه خيرا، ولا شرّا، قال: لكنّك استمعت، ورضيت، فكان
(١) مسند أحمد: ٢/ ٣٨٤ صحيح مسلم: ٨/ ٢١ بتفاوت.
(٢) الدر المنثور: ٦/ ٩٧.
(٣) مجمع الزوائد: ٨/ ٩٤ جامع البيان للطبري: ٢٦/ ١٧٧.
84
ميمون بعد ذلك لا يغتاب أحدا، ولا يدع أن يغتاب عنده أحد، وحكي عن بعض الصالحين أنّه قال: كنت قاعدا في المقبرة الفلانية، فاجتازني شاب جلد، فقلت: هذا، وأمثاله، وبال على الناس، فلمّا كانت تلك الليلة رأيت في المنام أنّه قدّم إليّ جنازة عليها ميّت، وقيل لي كل من لحم هذا، وكشف عن وجهه، فإذا ذلك الشاب، فقلت: أنا لم آكل من لحم الحيوان الحلال منذ سنين، فكيف آكل هذا؟ فقيل: فلم اغتبته إذا؟ فانتبهت حزينا، فكنت آوي إلى تلك المقبرة سنة واحدة، فرأيت الرجل، فقمت إليه لأستحلّ منه، فنظر إليّ من بعيد، فقال: تبت. قلت:
نعم، قال: ارجع إلى مكانك.
وقد أخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عمر بن الخطّاب. قال: حدّثنا عبد الله بن الفضل.
قال: أخبرنا علي بن محمّد. قال: حدّثنا يحيى بن آدم. قال: حدّثنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن ابن عمر، لأبي هريرة، قال: جاء ماعز إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، فقال: إنّه زنى، فأعرض عنه، حتّى أقرّ أربع مرّات، فأمر برجمه، فمرّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم على رجلين يذكران ماعزا، فقال أحدهما: هذا الذي ستر عليه، فلم تدعه نفسه حتّى رجم برجم الكلب.
قال: فسكت عنهما حتّى مرّا معه على جيفة حمار شائل رجله، فقال صلى الله عليه وسلّم لهما: «انزلا فأصيبا منه». فقالا: يا رسول الله غفر الله لك، وتؤكل هذه الجيفة؟
قال: «ما أصبتما من لحم أخيكما آنفا أعظم عليكما، أما إنّه الآن في أنهار الجنّة منغمس فيها» [٧٦].
وأخبرني ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن شيبة قال: حدّثنا الفريابي، قال: حدّثنا محمّد بن المصفى، قال: حدّثنا أبو المغيرة، حدّثنا عبد القدوس بن الحجّاج، قال: حدّثني صفوان بن عمرو، قال: حدّثنا راشد بن سعد، وعبد الرّحمن بن جبير، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لمّا عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم، وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم النّاس، ويقعون في أعراضهم» [٧٧] «١».
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ
أخبرني الحسين، قال: حدّثنا موسى بن محمّد بن علي، قال: حدّثنا أحمد بن يحيى الحلواني، قال: حدّثنا يحيى بن أيّوب، قال: حدّثنا أسباط، عن أبي رجاء الخراساني، عن عبّاد بن كثير، عن الحريري، عن أبي نصرة، عن جابر بن عبد الله، وأبي سعيد الخدري، قالا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الغيبة أشدّ من الزنا». قيل: وكيف؟
قال: «إنّ الرجل يزني، ثمّ يتوب، فيتوب الله عليه، وإنّ صاحب الغيبة لا يغفر له حتّى يغفر له صاحبه» [٧٨] «٢».
(١) مسند أحمد: ٣/ ٢٢٤ وسنن أبي داود: ٢/ ٤٥١.
(٢) الجامع الصغير: ١/ ٤٥٠ العهود المحمدية للشعراني: ٨٥٦ كنز العمال: ٣/ ٥٨٦. [.....]
85
وأخبرني الحسين، قال: حدّثنا الفضل. قال: حدّثنا أبو عيسى حمزة بن الحسين بن عمر البزاز البغدادي، قال: حدّثنا محمّد بن علي الورّاق. قال: حدّثنا هارون بن معروق، قال:
حدّثنا ضمرة، عن ابن شوذي، قال: قال رجل لابن سيرين: إنّي قد اغتبتك، فاجعلني في حلّ، قال: إنّي أكره أن أحلّ ما حرّم الله.
وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا أبو الطيب بن حفصويه، قال: حدّثنا عبد الله بن جامع.
قال: قرأت على أحمد بن سعيد، حدّثنا سعيد، قال: حدّثنا يزيد بن هارون، عن هشام بن حسّان عن خالد الربعي، قال: قال عيسى ابن مريم لأصحابه: أرأيتم لو أنّ أحدكم رأى أخاه المسلم قد كشف الريح عن ثيابه؟ قالوا: سبحان الله إذا كنّا نردّه. قال: لا، بل كنتم تكشفون ما بقي، مثلا ضربه لهم يسمعون للرجل سيئة أو حسنة، فيذكرون أكثر من ذلك.
[سورة الحجرات (٤٩) : الآيات ١٣ الى ١٨]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣) قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ الآية.
قال ابن عبّاس: نزلت في ثابت بن قيس وقوله للرجل الذي لم يفسح له: ابن فلانة، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من الذاكر فلانة؟». فقام ثابت، فقال: أنا يا رسول الله. فقال: «انظر في وجوه القوم». فنظر إليهم، فقال: «ما رأيت يا ثابت؟».
قال: رأيت أبيض وأسود وأحمر. قال: «فإنّك لا تفضلهم إلّا في الدّين والتقوى» [٧٩] «١»، فأنزل الله سبحانه في ثابت هذه الآية وبالّذي لم يفسح له: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ، فَافْسَحُوا... «٢» الآية.
وقال مقاتل: لمّا كان يوم فتح مكّة، أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بلالا حتّى علا على ظهر الكعبة وأذّن، فقال عتاب بن أسد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتّى لم ير هذا اليوم، وقال الحرث بن هاشم: أما وجد محمّد غير هذا الغراب الأسود مؤذّنا؟ وقال سهيل بن عمرو:
(١) أسباب نزول الآيات للواحدي: ٢٦٤.
(٢) سورة المجادلة: ١١.
86
إن يرد الله شيئا يغيره، وقال أبو سفيان بن حرب: إنّي لا أقول شيئا أخاف أن يخبر به ربّ السماء.
فأتى جبريل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بما قالوا، فدعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسألهم عمّا قالوا، فأقرّوا، فأنزل الله سبحانه هذه الآية وزجرهم، عن التفاخر بالأنساب، والتكاثر بالأموال، والازدراء للفقراء
، وقال يزيد بن سخرة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات يوم يمرّ ببعض أسواق المدينة، فإذا غلام أسود قائم، ينادى عليه ليباع، فمن يريد.
وكان الغلام قال: من اشتراني فعلي شرط، قيل: ما هو، قال: ألا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فاشتراه رجل على هذا الشرط، فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يراه عند كلّ صلاة مكتوبة، ففقده ذات يوم، فقال لصاحبه: «أين الغلام؟». فقال: محموم يا رسول الله، فقال لأصحابه: «قوموا بنا نعوده». فقاموا معه فعادوه، فلما كان بعد أيّام قال لصاحبه: «ما حال الغلام؟» [٨٠] «١».
قال: يا رسول الله، إنّ الغلام لما به، فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخل عليه وهو في ذهابه، فقبض على تلك الحال، فتولّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غسله، وتكفينه، ودفنه، فدخل على المهاجرين، والأنصار من ذلك أمر عظيم، فقال المهاجرون: هاجرنا ديارنا، وأموالنا، وأهالينا، فلم ير أحد منّا في حياته ومرضه وموته ما لقي منه هذا الغلام، وقال الأنصار: آويناه، ونصرناه، وواسيناه فآثر علينا عبدا حبشيّا، فعذر الله سبحانه رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فيما تعاطاه من أمر الغلام، وأراهم فضل التقوى، فأنزل الله سبحانه: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً
وهي رؤوس القبائل وجمهورها مثل ربيعة ومضر والأوس والخزرج. واحدها شعب بفتح الشين، سمّوا بذلك لتشعّبهم واجتماعهم، كتشعّب أغصان الشجر، والشعب من الأضداد يقال: شعبته إذا جمعته، وشعبته إذا فرّقته، ومنه قيل للموت: شعوب.
وَقَبائِلَ وهي دون الشعوب، واحدها قبيلة، وهم كندة من ربيعة، وتميم من مضر، ودون القبائل العمائر، واحدها عمارة بفتح العين كشيبان من بكر، ودارم من تميم، ودون العمائر البطون، واحدها بطن، وهم كبني غالب ولؤي من قريش، ودون البطون الأفخاذ، واحدها فخذ، وهم كبني هاشم، وأمية من بني لؤي، ثمّ الفصائل، والعشائر، واحدتها فصيلة، وعشيرة، وقيل: الشعوب من العجم، والقبائل من العرب، والأسباط من بني إسرائيل، وقال أبو رزين وأبو روق: الشعوب الذين لا يصيرون إلى أحد، بل ينسبون إلى المدائن، والقرى، والأرضين، والقبائل العرب الذين ينسبون إلى آبائهم.
(١) أسباب نزول الآيات- الواحدي النيسابوري: ٢٦٥.
87
لِتَعارَفُوا يعرف بعضكم بعضا في قرب النسب، وبعده لا لتفاخروا. وقرأ الأعمش (ليتعارفوا)، وقرأ ابن عبّاس (ليعرفوا) بغير (ألف).
إِنَّ أَكْرَمَكُمْ بفتح (الألف)، وقرأه العامة (إِنَّ) بكسر (الألف) على الاستئناف، والوقوف على قوله لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ قال قتادة: في هذه الآية أكرم الكرم التقوى. وألأم اللوم الفجور،
وقال صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكون أكرم الناس، فليتّق الله» «١».
وقال: «كرم الرجل دينه، وتقواه، وأصله عقله، وحسبه خلقه» «٢»
، وقال ابن عبّاس: كرم الدنيا الغنى، وكرم الآخرة التقوى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ.
أخبرنا الحسن، قال: حدّثنا أبو حذيفة أحمد بن محمّد بن علي، قال: حدّثنا زكريا بن يحيى بن يعقوب المقدسي، قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله المقري، قال: حدّثنا ابن رجاء، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر قال: طاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على راحلته القصواء يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه، فما وجد لها مناخ في المسجد، حتّى أخرجنا إلى بطن الوادي، فأناخت فيه، ثمّ حمد الله وأثنى عليه، ثمّ قال: «أمّا بعد أيّها الناس، قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية، وفخرها بالآباء- وفي بعض الألفاظ: وتعظمها بآبائها- إنّما الناس رجلان، برّ تقي كريم على الله، وفاجر شقيّ هيّن على الله». ثمّ تلا هذه الآية: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ... الآية، وقال: «أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم» [٨١] «٣».
وأخبرني الحسين، قال: حدّثنا محمّد بن علي بن الحسين الصوفي. قال: حدّثنا أبو شعيب الحراني. قال: حدّثنا يحيى بن عبد الله الكابلي. قال: حدّثنا الأوزاعي، قال: حدّثني يحيى بن أبي كثير، إنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنّ الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم، وأعمالكم، وإنّما أنتم بنو آدم أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» [٨٢] «٤».
وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا ابن حفصويه، قال: حدّثنا عبد الله بن جامع المقري، قال: حدّثنا أحمد بن خادم. قال: حدّثنا أبو نعيم، قال: حدّثنا طلحة، عن عطاء، عن أبي هريرة، قال: الله سبحانه يقول يوم القيامة: إنّي جعلت نسبا، وجعلتم نسبا، فجعلت أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فأنتم تقولون: فلان بن فلان، وأنا اليوم أرفع نسبي، وأضع أنسابكم، أين المتّقون؟ أين المتّقون؟ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «٥».
(١) تفسير الثعالبي: ٥/ ٢٧٧.
(٢) تفسير ابن كثير: ١/ ٣١٩ مسند أحمد: ٢/ ٣٦٥ مجمع الزوائد: ١٠/ ٢٥١ بتفاوت.
(٣) تفسير ابن كثير: ٤/ ٢٣٣ ومسند أحمد: ٢/ ٥٢٤.
(٤) مسند أحمد: ٢/ ٢٨٥ صحيح مسلم: ٨/ ١١.
(٥) كنز العمال: ٣/ ٩١ ح ٥٦٤٣ وتفسير الدر المنثور: ٦/ ٩٨.
88
وأخبرنا ابن منجويه، قال: حدّثنا عبد الله بن إبراهيم بن أيّوب. قال: حدّثنا يوسف بن يعقوب. قال: حدّثنا محمّد بن أبي بكر. قال: حدّثني يحيى بن سعيد، عن عبد الله بن عمر، قال: حدّثني سعيد بن أبي سعيد المقري، عن أبي هريرة، قال: قيل: يا رسول الله من أكرم الناس؟ قال: «أتقاهم».
وأنشدني ابن حبيب، قال: أنشدنا ابن رميح، قال: أنشدنا عمر بن الفرحان:
ما يصنع العبد بعزّ الغنى والعزّ كلّ العزّ للمتّقي
من عرف الله فلم تغنه معرفة الله فذاك الشقي «١»
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا الآية
نزلت في نفر من بني أسد بن خزيمة، ثمّ من بني الحلاف بن الحارث بن سعيد، قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المدينة في سنة جدبة، وأظهروا شهادة أن لا إله إلّا الله، ولم يكونوا مؤمنين في السرّ، وأفسدوا طرق المدينة بالعدوان، وأغلوا أسعارها، وكانوا يغدون، ويروحون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، وجئناك بالأفعال، والعيال والذراري، يمنون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، وبنو فلان، ويريدون الصدقة، ويقولون: أعطنا، فأنزل الله سبحانه فيهم هذه الآية.
وقال السدي: نزلت في الأعراب الذين ذكرهم الله في سورة الفتح، وهم أعراب مزينة، وجهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، كانوا يقولون: آمنّا بالله، ليأمنوا على أنفسهم، وأموالهم، فلمّا استنفروا إلى الحديبية تخلّفوا، فأنزل الله سبحانه: قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أي انقدنا واستسلمنا مخافة القتل والسبي. وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ فأخبر أنّ حقيقة الإيمان التصديق بالقلب، وأنّ الإقرار به باللسان، وإظهار شرائعه بالأبدان، لا يكون إيمانا دون الإخلاص الذي محلّه القلب، وأنّ الإسلام غير الإيمان.
يدلّ عليه ما
أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي، قرأه عليه محمّد بن زكريا في شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة، قال: أخبرنا أبو العبّاس محمد بن الدغولي، قال:
حدّثنا محمّد بن الليث المروزي، قال: حدّثنا عبد الله بن عثمان بن عبدان، قال: حدّثنا عبد الله ابن المبارك، قال: أخبرنا يونس، عن الزهري. قال: أخبرني عامر، عن سعد بن أبي وقّاص أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أعطي رهطا، وسعد جالس فيهم، فقال سعد: فترك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم رجلا منهم، فلم يعطه، وهو أعجبهم إليّ. فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فو الله إنّي لأراه مؤمنا، فقال رسول الله: «أو مسلما».
فسكت قليلا، ثمّ غلبني ما أعلم منه، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان، فو الله إنّي لأراه مؤمنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو مسلما».
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٤٦.
89
فسكت قليلا، ثمّ غلبني ما أعلم منه، فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان، فو الله إنّي لأراه مؤمنا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أو مسلما، فإنّي لأعطي الرجل، وغيره أحبّ إليّ منه خشية أن يكبّ في النار على وجهه» [٨٣] «١».
فاعلم أنّ الإسلام الدخول في السلم، وهو الطاعة والانقياد، والمتابعة، يقال: أسلم الرجل إذا دخل في السلم وهو الطاعة والانقياد والمتابعة.
يقال: أسلم الرجل إذا دخل في السلم، كما يقال: أشتى الرجل إذا دخل في الشتاء، وأصاف إذا دخل في الصيف، وأربع إذا دخل في الربيع، وأقحط إذا دخل في القحط، فمن الإسلام ما هو طاعة على الحقيقة باللسان والأبدان فالجنان، كقوله عزّ وجلّ لإبراهيم: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ «٢»، وقوله: فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ «٣».
ومنه ما هو انقياد باللسان دون القلب وذلك قوله: وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا بيانه قوله سبحانه: وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ظاهرا وباطنا، سرّا وعلانيّة لا يَلِتْكُمْ (بالألف) أبو عمر، ويعقوب، واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله: وَما أَلَتْناهُمْ «٤» يقال ألت يألت ألتا، قال الشاعر:
أبلغ بني ثعل عني مغلغلة... جهد الرسالة لا ألتا ولا كذبا «٥»
وقرأ الآخرون (يَلَتْكَمْ) من لات يليت ليتا، كقول رؤبة:
وليلة ذات ندى سريت... ولم يلتني عن سراها ليت «٦»
ومعناهما جميعا لا ينقصكم، ولا يظلمكم. مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ثمّ بيّن حقيقة الإيمان، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكّوا في وحدانية الله، ولا بنبوّة أنبيائه ولا فيما آمنوا به، بل أيقنوا وأخلصوا «٧».
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ في إيمانهم، لا من أسلم خوف السيف ورجاء الكسب،
فلمّا نزلت هاتان الآيتان، أتت الأعراب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
(١) صحيح مسلم: ٣/ ١٠٤.
(٢) سورة البقرة: ١٣١.
(٣) سورة الذاريات: ٣٦٣٥.
(٤) سورة الطور: ٢١.
(٥) لسان العرب: ٢/ ٤ تاج العروس: ١/ ٥٢٢. [.....]
(٦) زاد المسير: ٧/ ١٨٧ وتاج العروس: ١/ ٥٨٢.
(٧) تفسير الطبري: ٢٦/ ١٨٦ بتفاوت.
90
فحلفوا بالله إنّهم مؤمنون في السرّ، والعلانية، وعرف الله غير ذلك منهم «١»، فأنزل الله سبحانه قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ الذي أنتم عليه.
وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي بإسلامكم. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ وفي مصحف عبد الله (إذ هداكم للإيمان) إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّكم مؤمنون. إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قرأ ابن كثير، والأعمش، وطلحة، وعيسى (بالياء)، غيرهم (بالتاء).
(١) تفسير القرطبي: ١٦/ ٣٤٩.
91
Icon