تفسير سورة الليل

حاشية الصاوي على تفسير الجلالين
تفسير سورة سورة الليل من كتاب حاشية الصاوي على تفسير الجلالين .
لمؤلفه الصاوي . المتوفي سنة 1241 هـ

قوله: ﴿ وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ ﴾ أقسم به تعالى، لكونه جليلاً عظيماً، تسكن الخلق فيه عن التحرك، ويغشاهم النوم الذي هو راحة لأبدانهم. قوله: (كل ما بين السماء والأرض) أشار به إلى أن مفعول ﴿ يَغْشَىٰ ﴾ محذوف تقديره (كل ما بين السماء والأرض) وقيل: تقديره النهار أو الشمس، وكل صحيح. قوله: ﴿ وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ ﴾ أقسم به لأنه مظهر جمال الله، إذ به ينكشف ما كان مستوراً بظلمة الليل، وفيه تتحرك الناس لمعايشهم، والطيور من أوكارها، والهوام من مكانها، فلو كان الدهر كله ليلاً لتعذر المعاش، ولو كان كله نهاراً لعدمت الراحة، فكانت المصلحة في تعقابهما. قوله: (لمجرد الظرفية) أي الظرفية المجردة عن الشرط. قوله: (والعامل فيها فعل القسم) أي المقدر، ويأتي هنا ما تقدم من الأشكال والجواب. قوله: (بمعنى من) أي فهي اسم موصول، ويكون تعالى أقسم بنفسه، أي القادر على خلق الذكر والأنثى. قوله: أو (مصدرية) أي وخلق الله الذكر والأنثى، أي تعلقت قدرته بخلقهما. قوله: (آدم وحواء) أي فتكون أل للعهد. قوله: (أو كل ذكر وكل أنثى) أي من جميع المخلوقات، فأل للاستغراق، وقيل: كل ذكر وكل أنثى من الآدميين، فتكون أل استغراقية استغراقاً عرفياً. قوله: (والخنثى المشكل) مبتدأ، وقوله: (عندنا) ظرف لقوله: (المشكل) وقوله: (ذكر) الخ خبر، وقوله: (عند الله) ظرف لقوله: (ذكر) الخ، وهو جواب عن سؤال مقدر تقديره: لم لم يدخل الخنثى المشكل في عموم الذكر ولا في عموم الأنثى؟ فأجاب بما ذكر. قوله: (فيحنث بتكليمه) أي لأن الله تعالى لم يخلق من ذوي الأرواح، من ليس ذكراً ولا أنثى، والخنثى إنما هو مشكل بالنسبة إلينا، خلافاً لمن قال: هو نوع ثالث، ويرده قوله تعالى:﴿ يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً ﴾[الشورى: ٤٩] الآية. قوله: ﴿ إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ ﴾ جواب القسم، وسعيكم مصدر مضاف يفيد العموم، فهو جمع في المعنى، وإن كان لفظه مفرداً، ولذا أخبر عنه بالجمع وهو شتى، فهو بمعنى مساعيكم. قوله: (مختلف) أي متباعد الأبعاض، لأنه منقسم إلى ضلال وهدى، والضلال أنواع، والهدى أنواع، ويصح أن المعنى مختلف الجزاء، فمنكم مثاب بالجنة، ومعاقب بالنار.
قوله: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ ﴾ تفصيل لتلك المساعي المختلفة وتبيين لأحكامها. قوله: (حق الله) الخ، أشار بذلك إلى أن مفعول ﴿ أَعْطَىٰ ﴾ ﴿ وَٱتَّقَىٰ ﴾ محذوفان لإفادة العموم، فيشمل إعطاء حقوق الله في المال بإنفاقه في وجوه البر، والنفس ببذلها في طاعة الله تعالى، وتقوى الله تعالى هي امتثال مأموراته واجتناب منهياته. قوله: (أي بلا إله إلا الله) أي مع محمد رسول الله، وقيل: المراد بالحسنى الجنة لقوله تعالى:﴿ لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ ﴾[يونس: ٢٦] ومعنى تصديقه بها إيمانه بالبعث والجزاء. قوله: ﴿ فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ﴾ التنفيس ليس مراداً، لأن التيسير حاصل في الحال، وإنما الإتيان بالسين لتحسين الكلام وترقيقه. قوله: (الجنة) أي لما رود:" ما من نفس منفوسة إلا كتب الله مكانها من الجنة أو النار، فقال القوم: يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل اعلموا فكل ميسر لما خلق له، أما من كان من أهل السعادة، فإنه ميسر لعمل أهل السعادة، وأما من كان من أهل الشقاوة، فإنه ميسر لعمل أهل الشقاوة "ثم قرا: ﴿ فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ ﴾ وقيل: معنى اليسرى أسباب الخير والصلاح. قوله: ﴿ وَٱسْتَغْنَىٰ ﴾ (عن ثوابه) أي تكبراً وعناداً. قوله: ﴿ بِٱلْحُسْنَىٰ ﴾ أي بالتوحيد أو الجنة. قوله: (نهيئه) دفع بذلك ما يقال: إن العسرى لا تيسير فيها، فأجاب: بأن المراد بالتيسير التهيئة، وهي كما تكون في اليسر، تكون في العسرى، والمعنى: تجري على يديه عملاً يوصله إلى النار. قوله: ﴿ وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ ﴾ بالشق الثاني، والمعنى: إذا هيأناه لعمل الناس سقط فيها وهلك، ولا ينفعه ماله الذي بخل به وتركه لورثته. قوله: ﴿ إِذَا تَرَدَّىٰ ﴾ أي سقط.
قوله: ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَىٰ ﴾ أي بمقتضى حكمتنا وتعلق قدرتنا، وإلا فلا يجب على الله تعالى شيء. قوله: (لتبين طريق الهدى) الخ، دفع بذلك ما يقال: إن في الآية اكتفاء، والتقدير: إن علينا للهدى والضلال أي تبيين كل منهما، وإيضاح جواب المفسر، أن المراد بالهدى التبيين ومعموله محذوف، والتقدير: إن علينا لتبيين طريق الحق من طريق الباطل. قوله: (فمن طلبهما من غيرنا فقد أخطأ) أي فهذه الآية بمعنى قوله تعالى:﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ ٱلدُّنْيَا فَعِندَ ٱللَّهِ ثَوَابُ ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ ﴾[النساء: ١٣٤].
قوله: ﴿ تَلَظَّىٰ ﴾ مرفوع بضمة مقدرة على الألف للتعذر صفة لناراً. قوله: (وقرئ) أي شذوذاً. قوله: ﴿ لاَ يَصْلَٰهَآ ﴾ مضارع صلى بكسر اللام، والمصدر صلياً بضم فكسر مع تشديد الياء. قوله: (وهذا الحصر مؤول) أي مصروف عن ظاهره، وقصد المفسر بهذا الكلام، الرد على المرجئة القائلين: لا يضر مع الإيمان ذنب، مستدلين بظاهر هذه الآية، حيث حصر دخول النار في الكفار، فمقتضاها: أن المؤمن لا يدخلها ولو فعل الكبائر، ووجه الرد: أن الآية محمولة على الدخول المؤيد، فلا ينافي أن عصاة المؤمنين يدخلونها، ثم يخرجون منها بالشفاعة. إذا علمت ذلك تعلم أن كلام المفسر لا يلاقي كل المرجئة، فكان عليه أن يقول: مؤول بحمل الصلي على التأبيد والخلود، وأما قوله: (لقوله تعالى:﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ ﴾[النساء: ٤٨]) فلا مدخل له في رد كلام المرجئة إلا أن يقال له مدخل من حيث مفهومه، إذا مفهوم (لمن يشاء) أن من لم يشأ الغفران له لم يغفر له، بل يدخله النار. قوله: ﴿ يَتَزَكَّىٰ ﴾ بدل من يؤتى أو حال من فاعله، ومشى المفسر على الثاني حيث قال (متزكياً). قوله: (وهذا نزل في الصديق) الإشارة لقوله: ﴿ وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ ﴾.
قوله: (لما اشترى بلالاً) أي من سيده وهو أمية بن خلف، وكان الصديق رضي الله عنه يبتاع الضعفة فيعتقهم، فقال له أبوه: أي بني لو كنت تبتاع من يمنع ظهرك، فقال: منع ظهري أريد، فنزلت الآية، ورد أنه كان بلال لبعض بني جمح، وهو بلال بن رباح، واسم أمه حمامة، وكان صادق الإسلام ظاهر القلب، وكان أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الشمس، فيطرحه على ظهره ببطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد، فيقول وهو في ذلك: أحد أحد، فمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أحد ينجيك، يعني الله تعالى، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: إن بلالاً يعذب في الله، فعرف أبو بكر الذي يريده رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانصرف إلى منزله فأخذ رطلاً من ذهب ومضى إلى أمية بن خلف فقال: ألا تتقي الله في هذا المسكين؟ قال: أنت أفسدته فأنقذه بما ترى، ففي رواية أنه فداه برطل من ذهب، وفي رواية أنه قال له عندي غلام أسود أجلد منه وأقوى، وهو على دينك، فأعطاه له وأخذ بلالاً فأعتقه.
Icon