ﰡ
هى مكية، وآياتها إحدى وعشرون، نزلت بعد سورة الأعلى.
ومناسبتها لما قبلها- أنه ذكر هناك فلاح المطهرين لأنفسهم وخيبة المدسّين لها وهنا ذكر ما يحصل به الفلاح وما تحصل فيه الخيبة، فهى كالتفصيل لسابقتها.
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤)شرح المفردات
يغشى: أي يغطى كل شىء فيواريه بظلامه، تجلى: أي ظهر وانكشف بظهوره كل شىء، وما خلق: أي والذي خلق، وشتى: واحدها شتيت، وهو المتباعد بعضه من بعض.
المعنى الجملي
أقسم سبحانه بما أقسم بأن سعى البشر مختلف، فأقسم:
(١) بالليل الذي يأوى فيه كل حيوان إلى مستقره، ويسكن عن الاضطراب إذ يغشاه النوم الذي فيه راحة لبدنه وجسمه.
(٢) بالنهار الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم، وفيه تغدو الطير من أو كارها وتخرج الهوامّ من أجحارها.
(٣) بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى وميّز بين الجنسين مع أن المادة
الإيضاح
(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي قسما بالليل حين يغشى الأشياء ويواريها فى ظلامه، ويكون فيه مستراح للناس من أعمالهم، بما يشملهم من النوم والهدوء.
(وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) بزوال ظلمة الليل، فيتحرك الإنسان والحيوان، طلبا لمعاشهما، وبهذا يظهر وجه المصلحة فى اختلافهما، إذا لو كان الدهر كله ليلا لتعذر المعاش على الناس، ولو كان كله نهارا لبطلت المصلحة، فكان فى تعاقبهما آية بالغة يستدل بها على علم الصانع وحكمته، اقرأ إن شئت قوله: «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً».
(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي قسما بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من ماء واحد.
وفى هذا دليل على أنه عليم جدّ العلم بدقائق المادة وما فيها، إذ لا يعقل أن يكون هذا التخالف بين الذكر والأنثى فى الحيوان بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل، فإن الأجزاء الأصلية فى المادة متساوية النسبة فيهما، فحدوث هذا التخالف فى الجنين دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل، حكيم فيما يصنع ويضع.
وقصارى ما سلف- إن بعض الماء يكون تارة سببا للحمل، وأخرى يكون غير مستعدّ للتلقيح، والأول يكون من بعضه الذكران، ومن بعضه الإناث.
سبحانه ما أعظم قدرته، وأجلّ حكمته، لا إله إلا هو الفعال لما يريد.
(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي إن أعمالكم أيها الناس لمتباعدة متفرقة، بعضها ضلال وعماية، وبعضها هدى ونور، وبعضها يستحق النعيم، وبعضها يستحق العذاب الأليم كما قال: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ»
وقال: «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ».
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ٥ الى ١١]
فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩)
فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١)
شرح المفردات
أعطى: أي بذل ماله، واتقى: أي ابتعد عن الشر وإيصال الأذى إلى الناس، بالحسنى: أي بالخصلة الحسنى التي هى أفضل من غيرها، لليسرى: أي للخصلة التي تؤدى إلى يسر وراحة بتمتعه بالنعيم، استغنى: أي عدّ نفسه غنيا عما عند الناس بما لديه من مال، فلا يجد فى قلبه راحة لضعفائهم ببذل المال والمعونة لهم، بالحسنى:
أي بالفضيلة وبأنها ركن من أركان الاجتماع، للعسرى: أي الخصلة التي تؤديه إلى العسر، ويقال تردى فلان من الجبل إذا هوى من أعلاه وسقط إلى أسفله.
المعنى الجملي
بعد أن أشار إلى اختلاف أعمال الناس فى أنواعها وصفاتها، والجزاء الذي يعود على فاعلها- أخذ يفصل هذا الاختلاف، ويبين عاقبة كل عمل منها.
(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) أي فأما من أعطى المال وأنفقه فى وجوه الخير، سواء كان واجبا عليه أم لا كالصدقات والنوافل كفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوهم، وابتعد عن كل ما لا ينبغى، فحمى نفسه عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وخاف من إيصال الأذى إلى الناس.
(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي وصدق بثبوت الفضيلة والعمل الطيب، ونحو ذلك مما هو مركوز فى طبيعة الإنسان، وهو مصدر الصالحات وأفعال البر والخير.
ولا يكون تصديقا حقا، ولا ينظر الله إليه إلا إذا صدر عنه الأثر الذي لا ينفك عنه وهو بذل المال، واتقاء مفاسد الأعمال.
وكثير من الناس يظن نفسه مصدّقا بفضل الخير على الشر ولكن هذا التصديق يكون سرابا فى النفس، خيّله الوهم، لأنه لا يصدر عنه ما يليق به من الأثر، فتراه قاسى القلب، بعيدا عن الحق، بخيلا فى الخير، مسرفا فى الشر.
ثم ذكر جزاءه على ذلك فقال:
(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي فسنهيئه لأيسر الخطتين وأسهلهما فى أصل الفطرة، وهو تكميل النفس إلى أن تبلغ المقام الذي تجد فيه سعادتها فالإنسان إنما يمتاز عن غيره من الحيوان بالتفكير فى الأعمال ووزنها بنتائجها.
فإذا حصل ذلك وظهرت آثاره فيها سهل الله له ما هو مسوق إليه بأصل فطرته.
وفاعل الخير للخير يجد أريحيّة فى نفسه، ويذوق لذة لا تعد لها لذة، فتزيد فيه رغبته، وتشتد لفعله عزيمته وهذا هو التيسير الإلهى الذي يوفق الله له الصالحين من عباده.
(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) أي وأما من أمسك ماله أو أنفقه فى شهواته، ولم ينفقه فيما يقرب من ربه، وخدعته ثروته وجاهه، فظن أنه بذلك لا يحتاج إلى أحد ولا يحس
(وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي وكذب بأن الله يخلف على المنفقين فى سبيله، فبخل بماله ولم ينفق إلا فيما يلذ له ويمتّعه فى حاضره ولا يبالى بما عدا ذلك.
ويدخل فى المكذبين بالحسنى أولئك الذين يتكلمون بها تقليدا لغيرهم، ولا يظهر أثرها فى أعمالهم.
(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي ومن مرنت نفسه على الشر وتعودت الخبث فيسهل الله له الخطة العسرى، وهى الخطة التي يحط بها قدر نفسه، وينزل بها إلى حضيض الآثام ويغمسها فى أوحال الخطيئة.
(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي وإذا يسرناه للعسرى فأى شىء يغنى عنه ماله الذي بخل به على الناس ولم ينفقه فى المصالح العامة، وفيما يعود نفعه على الجماعة، ولم يصحب منه شيئا إلى آخرته التي هى موضع حاجته وفقره كما قال: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ».
[سورة الليل (٩٢) : الآيات ١٢ الى ٢١]
إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦)
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١)
شرح المفردات
تلظى: أصله تتلظى، أي تتوقد وتلتهب، يقال: تلظت النار تلظيا بمعنى التهبت التهابا ومنه سميت النار لظى، يصلاها: أي يحترق بها، كذب: أي كذب
أن طلب مثوبته.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه أن سعى الخلائق مختلف فى نفسه وعاقبته، وأرشد إلى أن المحسن فى عمله يوفقه الله إلى أعمال البر، وأن المسيء فيه يسهل له الخذلان- أردفه أنه قد أعذر إلى عباده بتقديم البيان الذي تنكشف معه أعمال الخير والشر جميعا، ووضح السبيل أمام كل سالك، فإن شاء سلك سبيل الخير فسلم وسعد، وإن أراد ذهب فى طريق الشر فتردّى فى الهاوية.
روى أن الآيات نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه. وقد كان من أمره أن بلال ابن رباح عليه الرضوان، وكان مولى لعبد الله بن جدعان- جاء إلى الأصنام وسلح عليها، فشكا كفار مكة إلى مولاه فوهبه لهم، ووهب لهم مائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم فجعلوا يعذبونه ويخرجونه إلى الرمضاء، وكان يقول وهم يعذبونه: أحد أحد وكان رسول الله ﷺ يمر به وهو يعذب فيقول له: ينجيك أحد أحد، ثم أخبر رسول الله ﷺ أبا بكر رضى الله عنه بما يلقى بلال فى الله، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب وابتاعه من المشركين وأعتقه، فقال المشركون:
ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده، فنزل قوله:
«وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى» الآيات.
الإيضاح
(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي إنا خلقنا الإنسان وألهمناه التمييز بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، ثم بعثنا له الكملة من أفراده، وهم الأنبياء وشرعنا لهم الأحكام
وقصارى ذلك- إن الإنسان خلق نوعا ممتازا عن سائر الحيوان بما أوتيه من العقل، وبما وضع له من الشرائع التي تهديه إلى سبيل الرشاد.
ثم زاد الأمر توكيدا فأبان عظيم قدرته فقال:
(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي وإنا لنحن المالكون لكل ما فى الدنيا وكل ما فى الآخرة، فنهب ما نشاء لمن نريد، ولا يضيرنا أن يترك بعض عبادنا الاعتداء بهدينا الذي بيّناه لهم، ولا يزيد فى ملكنا اهتداء من اهتدى منهم، لأن نفع ذلك وضره عائد إليهم، فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه، ومن ضل فإنما يضل عليها، وما ربك بظلام للعبيد.
وإذا كان ملك الحياتين لله كان هديه هو الذي يجب اتباعه فيهما، لأن المالك لأمر عالم بوجوه التصرف فيه.
ثم بين سبيل الهداية الذي أوجبه على نفسه فقال:
(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي لرحمتنا بكم وعلمنا الكامل بمصالحكم أسدينا إليكم الهدى، فأنذرناكم نارا تلتهب يعذب فيها من كذب الرسول ﷺ فيما جاء به عن ربه من الآيات، وأعرض عن اتباع شرائعه، وانصرف عن وجهة الحق ولم يعد إليها تائبا نادما.
(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) أي وسيبعد عنها المبالغ فى اتقاء الكفر والمعاصي، الشديد التحرز منهما بحيث لا يخطرهما له ببال.
ثم وصف الأتقى بأفضل مزاياه فقال:
(الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي إن الأتقى هو الذي ينفق أمواله فى وجوه البر، طالبا بذلك طهارة نفسه وقربها من ربه، لا مريدا بذلك رياء ولا سمعة ولا طالبا مديح الناس له، فإن ذلك ضرب من النفاق الذي يبطل معه العمل، ولا يكون
وقد أكد هذا بقوله:
(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي إنه لا يقصد بإنفاقه المال مكافأة أحد على نعمة كان قد أسلفها، ولا جزاء معروف كان قد تقدم به إليه.
ثم أكده مرة ثانية فقال:
(إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي لكنه يفعل ذلك قاصدا رضا ربه طالبا مثوبته وحده، تقول: فعلت كذا أبتغى وجه فلان، أي لم يحملنى على الفعل إلا إجلاله وقصد مرضاته، وخيفة الوقوع فيما يغضبه.
ثم وعد ذلك الأتقى بالرضا عنه فقال:
(وَلَسَوْفَ يَرْضى) أي ولسوف يرضيه ربه فى الآخرة بثوابه وعظيم جزائه.
وفى قوله: (وَلَسَوْفَ) إيماء إلى أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير، ولا يكفى القليل من المال، لأن يبلغ العبد منزلة الرضا الإلهى.
وقصارى ما سلف: إن الناس أصناف:
(١) الأبرار الذين منحهم الله من قوة العقل وصفاء اليقين ما يجعلهم يبتعدون عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
(٢) الذين يلون هؤلاء، وهم من تغلبهم الشهوة أحيانا فيقعون فى الذنب، ثم يثوب إليهم رشدهم فيتوبون ويندمون، وهذان القسمان يدخلان فى (الْأَتْقَى).
(٣) من يخلط بين الخير والشر فيعتقد وحدانية الله ويقترف بعض السيئات، ويصرّ عليها ولا يتوب منها، فهذا الإصرار منه دليل على أنه غير مصدّق حق التصديق بما جاء فيها من الوعيد.
يرشد إلى ذلك
قوله ﷺ «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن»
والمراد أن صورة الوعيد تذهب عن
(٤) الكافرون الجاحدون بالله وبرسله وبما أنزل عليهم، وهذان القسمان يشملهما (الْأَشْقَى) وقد أعدت النار لكل منهما، إلا أن الفاسقين لا يخلدون فيها، ويدخلها الكافرون وهم فيها خالدون.
اللهم ابعدنا عن هذه النار التي تتلظى، وأدخلنا فسيح جناتك.
مقاصد هذه السورة
(١) بيان أن الناس فى الدنيا فريقان:
(١) فريق يهيئه الله للخصلة اليسرى، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها، وصدقوا بما وعد الله من الإخلاف على من أنفقوا.
(٢) فريق يهيئه الله للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة، وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا بالشهوات، وأنكروا ما وعد الله به من ثواب الجنة.
(ب) الجزاء فى الآخرة لكل منهما وجعله إما جنة ونعيما، وإما نارا وعذابا أليما.