تفسير سورة البينة

تفسير المراغي
تفسير سورة سورة البينة من كتاب تفسير المراغي المعروف بـتفسير المراغي .
لمؤلفه أحمد بن مصطفى المراغي . المتوفي سنة 1371 هـ

سورة البينة
هى مدنية، وآياتها ثمان، نزلت بعد سورة الطلاق.
ووجه مناسبتها لما قبلها- أن قوله: «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» إلخ كالعلة لإنزال القرآن، كأنه قيل: إنا أنزلناه لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة.
[سورة البينة (٩٨) : الآيات ١ الى ٨]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤)
وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨)
شرح المفردات
أهل الكتاب: اليهود والنصارى، المشركون: عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم، منفكين: أي مفارقين ما هم عليه، والبينة: الحجة الواضحة، والمراد
211
بها النبي صلى الله عليه وسلم، والصحف: واحدها صحيفة: وهى ما يكتب فيه، مطهرة: أي مبرأة من الزور والضلال، والقيمة: المستقيمة التي لا عوج فيها لاشتمالها على الحق، والبينة: الثابتة الدليل، والإخلاص: أن يأتى بالعمل خالصا له تعالى، لا يشرك به سواه، الدين: العبادة، وإخلاص الدين لله: تنقيته من أدران الشرك، حنفاء: واحدهم حنيف، وهو فى الأصل المائل المنحرف والمراد به المنحرف عن الزيغ إلى إسلام الوجه لله، والبرية: الخليقة، خشى الله: أي خاف عقابه.
المعنى الجملي
كان اليهود والنصارى من أهل الكتاب فى ظلام دامس من الجهل بما يجب الاعتقاد به والسير عليه من شرائع أنبيائهم، إلا من عصم الله، لأن أسلافهم غيروا وبدّلوا فى شرائعهم، وأدخلوا فيها ما ليس منها، إما لسوء فهمهم لما أنزل على أنبيائهم، وإما لاستحسانهم ضروبا من البدع توهموها مؤيدة للدين، وهى هادمة لأركانه، وإما لإفحام خصومهم، والرغبة فى الظفر بهم.
وقد توالت على ذلك الأزمان، وكلما جاء جيل زاد على ما وضعه من قبلهم حتى خفيت معالم الحق، وطمست أنوار اليقين.
وكان إلى جوار هؤلاء عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ممن مرنت نفوسهم على عبادتها، والخنوع لها، وأصبح من العسير تحويلهم عنها، زعما منهم أن هذا دين الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
وكان الجدل ينشب حينا بين المشركين واليهود، وحينا آخر بين المشركين والنصارى، وكان اليهود يقولون للمشركين: إن الله سيبعث نبيا من العرب من أهل مكة، وينعتونه لهم ويتوعدونهم بأنه متى جاء نصروه، وآزروه، واستنصروا به عليهم حتى يبيدهم.
قد كان هذا وذاك، فلما بعث محمد ﷺ قام المشركون يناوئونه
212
ويرفعون راية العصيان فى وجهه، وألّبوا الناس عليه، وآذوا كل من اتبعه وسلك سبيله ممن أنار الله بصائرهم، وشرح صدورهم لمعرفة الحق.
كذلك قلب له اليهود ظهر المجنّ بعد أن كانوا من قبل يستفتحون به، إذا وجدوا نعته عندهم فى التوراة، فزعموا أن ما جاء به من الدين ليس بالبدع الجديد، بل هو معروف فى كتبهم التي جاءت على لسان أنبيائهم، فلا ينبغى أن يتركوا ما هم عليه من الحق، ليتبعوا رجلا ما جاء بأفضل مما بين أيديهم، بل قد بلغ الأمر بهم أن كانوا عليه مع المشركين الذين كانوا يعاندونهم ويتهددونهم بأنهم سيتبعون هذا النبي وينصرونه.
ففى الرد على مزاعم هؤلاء الكافرين الذين يجحدون واضح الحق، ويغمضون أعينهم عن النظر فيه- نزلت هذه السورة.
الإيضاح
(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لم يكن الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وأنكروا نبوته من اليهود والنصارى والمشركين بمفارقين لكفرهم، تاركين لما هم عليه من الغفلة عن الحق، والوقوف عند ما كان عليه آباؤهم ولو كانوا لا يعقلون شيئا، حتى يأتيهم الرسول صلى الله عليه وسلم، فيحدث مجيئه رجّة فيما رسخ من عقائدهم، وتمكن من عاداتهم، ومن ثم أخذوا يحتجون لعنادهم بأن ما جاء به هو ما كان بين أيديهم وليس بمستحسن أن يتبع، والبقاء على ما هم عليه أجدر وأجمل، والسير على نهج الآباء أشهى إلى النفس وأسلم.
ثم فسر البينة التي تعرّفهم وجه الحق فقال:
(رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي هذه البينة هى محمد ﷺ يتلو لهم صحف القرآن المطهرة من الخلط والزيغ والتدليس، والتي
213
تنبعث منها أشعة الحق كما قال: «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» وفيها الصحيح القويم من كتب الأنبياء السابقين كموسى وعيسى وإبراهيم كما قال «وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ»، وقال: «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى».
وقد يكون المراد بالكتب سور القرآن وآياته فإن كل سورة منه كتاب قويم، أو الأحكام والشرائع التي تضمنها كلام الله، والتي بها يتبين الحق من الباطل كما قال: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ».
وقصارى ذلك- إن حال الكافرين من اليهود والنصارى والمشركين بعد محى الرسول تخالف حالهم قبلها، فقد كانوا قبل مجيئه كفارا يتيهون فى عماية من الأهواء والجهالات، فلما بعث آمن به قوم منهم، فلم تبق حالهم كما كانت قبل، إلى أنهم قبل بعثته ﷺ كانوا جازمين بما هم عليه، واثقين بصحته، فلما بعث إليهم تغيرت حال جميعهم، فمنهم من آمن به، واعتقد أن ما كان فيه ضلال وباطل، ومنهم من لم يؤمن ولكنه صار مترددا فى صحة ما هو عليه، أو هو واثق بعدم صحته، ولكن يمنعه العناد والتكبر والاقتداء بالآباء من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثم سلّى رسوله ﷺ عن تفرق القوم فى شأنه فقال:
(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لا تبخع نفسك عليهم حسرات، ولا يكوننّ فى صدرك حرج منهم، فإن هذا شأنهم الذي درجوا عليه، وديدنهم وديدن أسلافهم الذين بدلوا وافتروا على أنبيائهم، وتفرقوا طرائق قددا حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند غيره بغيا وعدوانا وقولا بالتشهى والهوى، ولم يكن تفرقهم لقصور حجتك أو خفاء شأنك عليهم، فهم إن يجحدوا
214
ييّنتك فقد جحدوا بينة من قبلك، وإن أنكروا نبوتك فقد أنكروا آيات الله بعد ما استيقنتها أنفسهم.
وإذا كانت هذه حال أهل الكتاب فما ظنك بالمشركين وهم أعرق فى الجهالة وأسلس مقادة للهوى.
ثم أنّبهم ووبخهم على ما صاروا إليه من الأفعال، وعلى ما بلغوه من فساد العقل والضلال فقال:
(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أي إنهم تفرقوا واختلفوا وهم لم يؤمروا إلا بما يصلح دينهم ودنياهم، وما يجلب لهم سعادة فى معاشهم ومعادهم من إخلاص لله فى السر والعلن، وتخليص أعمالهم من الشرك به، واتباع ملة إبراهيم الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة له كما قال: «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» وقال:
«ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً».
والمراد من إقامة الصلاة الإتيان بها مع إحضار القلب لهيبة المعبود، ليعتاد الخضوع له، وإيتاء الزكاة إنفاقها فيما عين لها فى الكتاب الكريم من المصارف.
(وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي هذا الذي ذكر من إخلاص العبادة للخالق، والميل عن الشرك مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، هو الدين الذي جاء فى الكتب القيمة.
وقصارى ما سلف- إن أهل الكتاب افترقوا فى أصول الدين وفروعه، مع أنهم ما أمروا إلا بأن يعبدوا الله ويخلصوا له فى عقائدهم وأعمالهم، وألا يقلدوا فيها أبا ولا رئيسا، وأن يردوا إلى ربهم وحده كل ما يعرض لهم من خلاف.
وهذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب فى افتراقهم فى دينهم، فما بالنا نحن المسلمين وقد ملأنا ديننا بدعا ومحدثات، وتفرقنا فيه شيعا، أفليس ما نحن فيه من ذلّ وهوان، وضعف بين الأمم جزاء من ربنا لما صرنا إليه من انحراف عن منهج الشرع القويم، والسير على الصراط المستقيم؟.
215
ثم بين جزاء الذين جحدوا رسالة رسوله ﷺ فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي إن هؤلاء الذين دسّوا أنفسهم بقبيح الشرك واجتراح المعاصي، وإنكار الحق الواضح بعد أن عرفوه كما يعرفون أبناءهم، يجازيهم ربهم بالعقاب الذي لا يخلصون منه أبدا، فيدخلهم نارا تلظى جزاء ما كسبت أيديهم، وجزاء إعراضهم عما دعا إليه الداعي، وهدت إليه الفطرة.
ثم حكم عليهم بحكم آخر فقال:
(أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي هم شر الخليقة على الإطلاق، إذ منكر الحق بعد معرفته، وقيام الدليل عليه منكر لعقله، جالب لنفسه الدمار والوبال.
وبعد أن ذكر جزاء الجاحدين الكافرين، أردفه جزاء المؤمنين المخبتين فقال:
(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي إن الذين سطع نور الدليل فى قلوبهم، فاهتدوا به وصدقوا بما جاء به النبي ﷺ وعملوا صالح الأعمال، فبذلوا النفس فى سبيل الله وجهاد أعدائه، وبذلوا نفيس المال فى أعمال البر، وأحسنوا معاملة خلقه، أولئك هم خير الخليقة، لأنهم بمتابعة الهدى أدّوا حق العقل الذي شرفهم الله به، وبعملهم للصالحات حفظوا الفضيلة التي جعلها الله قوام الوجود الإنسانى.
ثم بين ما سيلقون من جزاء عند ربهم فقال:
(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي هؤلاء يجازيهم ربهم بجنات يقيمون فيها أبدا، وفيها من اللذائذ ما هو أكمل وأوفر من لذات الدنيا.
وعلينا أن نؤمن بالجنة ولا نبحث عن حقيقتها، ولا أين موضعها، ولا كيف نتمتع فيها، فإن علم ذلك عند ربنا لا يعلمه إلا هو، فهو من علم الغيب الذي استأثر بعلمه.
216
Icon