تفسير سورة العاديات

اللباب
تفسير سورة سورة العاديات من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
مكية في قول ابن مسعود، وجابر، والحسن، وعكرمة، وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس، وأنس بن مالك، وقتادة، وهي إحدى عشرة آية، وأربعون كلمة، ومائة وثلاثة وستون حرفا.

مكية، في قول ابن مسعود، وجابر، والحسن، وعكرمة، وعطاء، ومدنية في قول ابن عباس، وأنس بن مالك، وقتادة، وهي إحدى عشرة آية، وأربعون كلمة، ومائة وثلاثة وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿والعاديات﴾، جمع عادية، وهي الجارية بسرعة من العدو، وهو المشي بسرعةٍ، والياء منقلبة عن واو لكسر ما قبلها، نحو: الغازيات، من الغزو، ويقال: عَدا يَعْدُو عَدْواً، فهو عادٍ، وهي عادية. وقد تقدم هذا في سورة «المؤمنين».
قال عامة المفسرين: يريد الأفراس تعدو في سبيل الله تعالى.
قوله: ﴿ضَبْحاً﴾، فيه أوجه:
أحدها: أنه مصدر مؤكد لاسم الفاعل، فإن الضبح نوعٌ من السير والعدو كالضبع، يقال: ضبح وضبع، إذا عدا بشدة، أخذاً من الضبع وهو الذراع، لأنه يمده عند العدو، وكأن الحاء بدل من العين، وإلى هذا ذهب أبو عبيدة والمبردُ.
قال عنترةُ: [مجزوء الكامل]
٥٢٦٨ - والخَيْلُ تَعْلَمُ حِينَ تَضْ بَحُ في حِيَاضِ المَوْتِ ضَبْحَا
الثاني: أنه مصدر في موضع الحال، أي: ضابحات وذوي ضبح والضبح: صوت يسمع من صدور الخيل عند العدو، وليس بصهيل.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه حكاه، فقال: أحٍ أحٍ.
454
وقال قتادة: تضبح إذا عدت، أي: تحمحم.
وقال الفراء: والضبح: أصوات أنفاسها إذا عدون. وقيل: كانت تكمكم لئلا تصهل، فيعلم العدو بهم، فكانت تتنفس في هذه الحال بقوة.
ونقل عن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنه لم يضبح من الحيوان غير الخيل والكلب والثعلب، وهذا ينبغي أن يصحَّ عنه؛ لأنه روي عنه أنه قال: سُئلتُ عنها، ففسرتها بالخيل؛ وكان علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - تحت سقاية زمزم، فسأله، فذكر ما قلت؛ فدعاني، فلما وقفت على رأسه، قال: تفتي الناس بغير علمٍ، والله إنها لأولُ غزوةٍ في الإسلامِ، وهي بدر، ولم يكن معنا إلا فرسان: فرسٌ للمقدادِ، وفرس للزبير، فكيف تكون العاديات ضبحاً؟ إنما العاديات الإبل من «عرفة» إلى «المزدلفة»، ومن «المزدلفة» إلى «منى» يعني إبل الحاج.
قال ابن عباسٍ: فرجعت إلى قول علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وبه قال ابن مسعود، وعبيد بن عمير، ومحمد بن كعب، والسديُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم.
ومنه قول صفية بنت عبد المطلب: [الوافر]
٥٢٦٩ - فَلاَ والعَاديَاتِ غَداةَ جَمْعٍ بأيْديهَا إذا سَطعَ الغُبَارُ
إلا أن الزمخشري، قال بعد ذلك: «فإن صحت الروايةُ، فقد استعير الضبحُ للإبل، كما استعير المشافر والحافر للإنسان، والشفتان للمُهْرِ».
ونقل غيره: أن الضبح، يكون في الإبل، والأسود من الحيَّات، والبُوم، والصدى، والأرنب، والثعلب، والفرس.
وأنشد أبو حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [الرجز]
٥٢٧٠ - حنَّانةٌ من نشَمٍ أو تَألَبِ تَضْبَحُ في الكفِّ ضُباحَ الثَّعْلبِ
قال شهاب الدين: وهذا عندي من الاستعارة، ونقل أهل اللغة أن أصل الضبح في الثعلب فاستعير للخيل، وهو ضبحته النار، إذا غيرت لونه ولم تبالغ وانضبح لونه تغير لسواد قليل، والضبح أيضاً الرماد.
455
الثالث من أوجه النصب: أن يكون منصوباً بفعل مقدر، أي: يضبح ضبحاً، وهذا الفعل حال من «العَاديَاتِ».
الرابع: أنه منصوب ب «العَادِياتَ»، وإن كان المراد به الصوت.
قال الزمخشري: «كأنه قيل: والضابحات، لأن الضبح يكون مع العدو».
قال أبو حيَّان: «وإذا كان الضَّبح مع العدو، فلا يكونُ معنى والعاديات معنى الضابحات فلا ينبغي أن يفسر به» انتهى.
قال شهاب الدين: لم يقل الزمخشري إنه بمعناه، إنما جعله منصوباً، لأنه لازم لا يفارقه، فكأنه ملفوظ به. وقوله: كأنه قيل؛ تفسير التلازم لا أنه هو هو.

فصل في هذا القسم


قال ابن العربي: أقسم الله تعالى بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: ﴿يس والقرآن الحكيم﴾ [يس: ١، ٢]، وأقسم بحياته فقال: ﴿لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾ [الحجر: ٧٢]، وأقسم بخيله وصهيلها وغبارها، وقدح حوافرها النار من الحجر، فقال: ﴿والعاديات ضَبْحاً﴾.
وقال الشعبيُّ: تمارى عليٌّ وابن عباس في «العَادِياتَ» فقال علي: هي الإبل تعدو في الحج.
وقال ابن عباس: هي الخيلُ، ألا تراه يقولُ: «فأثَرْنَ بِهِ نَقْعاً» فهل تثير إلا بحوافرها وهل تضبح الإبل؟.
فقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ليس كما قلت لقد رأيتنا يوم بدر وما معنا إلا فرس أبلق للمقداد، وفرس لمرثد بن أبي مرثد.
وعلى هذا فالقول: ﴿فالموريات قَدْحاً﴾ أي: الحافر يرمي بالحجر من شدة العدو، فيضرب به حجارة أخرى فتوري النار، أو يكون المعنى: الذين يركبون الإبل، وهم الحجيج إذا أوقدوا نيرانهم ب «المزدلفة»، وقوله تعالى: ﴿فالمغيرات صُبْحاً﴾، والإغارة: سرعة السير، وهم يدفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى «منى».
﴿فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً﴾ يعني «مزدلفة»، لأنها تسمى بجمع، لاجتماع الحاجِّ بها، وعلى هذا التقدير، فوجه القسم بها ما تقدم ذكره من المنافع الكثيرة في قوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ [الغاشية: ١٧].
456
وأيضاً: الغرض بذكر إبل الحج: الترغيب في الحج، فإن الكنود: هو الكفور، والذي لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك، كما في قوله تعالى: ﴿وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين﴾ [آل عمران: ٩٧].
ومن قال: هي الخيل، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك وعطاء وأكثر المحققين، قال: إنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث سرية إلى أناس من بني كنانة، فأبطأ عليه خبرها، وكان استعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري، وكان أحد النقباء، فقال المنافقون: إنهم قتلوا فنزلت هذه السورة إخباراً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بسلامتها، وبشارة له بإغارتها على القوم، فالمراد: الخيل التي يغزو عليها المؤمنون.
وفي الخبر:
«مَنْ لمْ يَعرفْ حُرمَةَ فرسِ الغَازي، ففيهِ شُعبةٌ مِنَ النِّفاقِ»، وعلى هذا القول، فالسورة مدنية، لأن الإذن في القتال إنما كان ب «المدينة».
قوله: ﴿فالموريات قَدْحاً﴾، قال عكرمة وعطاء والضحاك: هي الخيلُ حين توري النار بحوافرها وهي سنابكها.
و «قَدْحاً» يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً؛ لأن الإيراء من القدح، يقال: قدح فأورى، وقدح فأصلد.
ويجوز أن يكون حالاً، فالمعنى: «قادحات»، أي: ضابحات بحوافرها ما توري النار، ويقال: قدحت الحجر بالحجر، أي: صككته به.
وقال الزمخشريُّ: انتصب «قدحاً» بما انتصب به «ضبحاً» وكأنه جوّز في نصبه ثلاثة أوجه: النصب بإضمار فعله، والنصب باسم الفاعل قبله لأنه ملازمه، والنصب على الحال، وتسمى تلك النار التي تخرج من الحوافر: نار الحباحب.
قال: [الطويل]
٥٢٧١ - تَقُدُّ السَّلوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجهُ وتُوقِدُ بالصُّفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ

فصل في معنى الموريات


روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أورت بحوافرها غباراً، وهذا يخالف سائر
457
ما روي عنه في قدحِ النارِ، وإنما هذا في الإبل [وروى ابن نجيح عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في قوله تعالى: ﴿فالموريات قَدْحاً﴾ قال هي في القتال وهو في الحج، قاله ابن مسعود هي الإبل تطأ الحصى فيخرج منه النار].
وأصل القدح: الاستخراج، ومنه قدحت العين: إذا أخرجت منها الماء الفاسد، واقتدحت بالزّند، واقتدحت المرق: غرفته. ورَكيٌّ قدوح: يغرف باليد.
والقديح: ما يبقى في أسفل القدر، فيغرف بجهد، والمقدحة: ما تقدح به النار.
والقداحة والقداح: الحجر الذي يُورِي النار.
يقال: وَرَى الزند - بالفتح - يري ورْياً: إذا خرجت ناره، وفيه لغة أخرى، ورِي الزند - بالكسر - يرى فيهما، وقد مضى في سورة «الواقعة».
وقيل: هذه الآيات في الخيل، ولكن إيراءها: أن تهيج الحرب بين أصحابها، وبين عدوهم. ويقال للحرب إذا التحمت: حَمِيَ الوطيس، ومنه قوله تعالى: ﴿كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله﴾ [المائدة: ٦٤].
قال ابن عباس: المراد ب ﴿فالموريات قَدْحاً﴾ مكر الرجال في الحرب، وقاله مجاهد وزيد ين أسلم: والعربُ يقولون إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه: والله لأمكرن بك، ثم لأورين لك.
وعن ابن عباس أيضاً: هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل، لحاجتهم وطعامهم.
وعنه أيضاً أنها نيران المجاهدين إذا كثرت نارها إرهاباً، ليظنها العدو كثيراً.
وقيل: هي أفكار الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به ويظهر بها من إقامة الحججِ، وإقامةِ الدَّلائلِ، وإيضاح الحق، وإبطال الباطلِ.
قال القرطبي: هذه الأقوال مجاز، ومنه قولهم: فلان يُوري بها من إقامة الحججِ، وإقامة الدَّلائلِ، وإيضاح الحق، وإبطال الباطلِ. قال القرطبي: هذه الأقوال مجاز، ومنه قولهم: فلان يُوري زناد الضلالة، والأول: الحقيقة، وأن الخيل من شدة عدوها تقدح النَّار بحوافرها. قال مقاتل: العرب تسمى تلك النَّار نار أبي حُبَاحب، وكان أبو حباحب شيخاً من
458
مضر في الجاهلية، من أبخل الناس، وكان لا يُوقد الخبز ولا غيره حتى تنام العيون، فيوقد نُويْرَة تقد مرة، وتخمد أخرى، فإن استيقظ لها أحد أطفأها، كراهية أن ينتفع بها أحدٌ، فشبهت هذه النار بناره؛ لأنه لا ينتفع بها.
وكذلك إذا وقع السيف على البيضة فاقتدحت ناراً فكذلك يسمونها.
قال النابغة: [الطويل]
٥٢٧٢ - ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلولٌ من قِرَاعِ الكَتائبِ
تَقُدُّ السَّلوقِيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ وتُوقِدُ بالصُّفَّاحِ نَارَ الحُبَاحِبِ
قوله: ﴿فالمغيرات صُبْحاً﴾ ظرف؛ أي: التي تغير وقت الصبح، يقال: أغار يغير إغارة وغارةً: إذا باغت عدواً نهباً وقتلاً وأسراً؛ قال: [البسيط]
٥٢٧٣ - فَليْتَ لِي بِهمُ قَوماً إذَا رَكِبُوا شَنُّوا الإغَارَة فُرْسَاناً ورُكْبَانَا
وأغار وغار أيضاً: نزل الغور، وهو المنهبط من الأرض.
قوله: ﴿فَأَثَرْنَ﴾. عطف الفعل على الاسم، لأن الاسم في تأويل الفعل لوقوعه صلى ل «أل».
قال الزمخشريُّ: «معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، يعني في الأصل؛ إذ الأصل: واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن».
قوله: ﴿بِهِ﴾. في الهاء أوجه:
أحدها: أنه ضمير الصبح، أي: فأثرن في وقت الصبح غباراً. وهذا حسن، لأنه مذكور بالتصريح.
الثاني: أنه عائد على المكان، وإن لم يجر له ذكر؛ لأن الإشارة لا بد لها من مكان، والسياق والعقل لا يدلان عليه، وإذا علم بالمعنى جاز أن يكون عما لم يجري له ذكر بالصريح كقوله تعالى: ﴿حتى تَوَارَتْ بالحجاب﴾ [ص: ٣٢]. وفي عبارة الزمخشري: «وقيل: الضمير لمكان الغارةِ»، وهذا على تلك اللغيَّة وإلا فالفصيح أن تقول: الإغارة.
الثالث: أنه ضمير العدو الذي دل عليه «والعَادِيَاتِ».
وقرأ العامة: بتخفيف الثاء، أثار كذا إذا نشره وفرقه من ارتفاع.
وقرأ أبو حيوة، وابن أبي عبلة: بتشديدها.
459
وخرجه الزمخشري على وجهين:
الأول: بمعنى فأظهرن به غباراً؛ لأن التأثير فيه معنى الإظهار.
الثاني: قلب «ثورن» إلى «وثَرْنَ»، وقلب الواو همزة انتهى.
يعني: الأصل «ثَوّرنَ» من ثور يثور - بالتشديد - عداه بالتضعيف كما يعدى بالهمزة في قولك: أثاره ثم قلب الكلمة بأن جعل العين وهي الواو موضع الفاء وهي الثاء، ووزنها حينئذ «عفلن» ثم قلب الواو همزة، فصار: «أثَرْنَ»، وهذا بعيد جداً، وعلى تقدير التسليم، فقلب الواو المفتوحة همزة لا ينقاس، إنما جاءت منه ألفاظ ك «احد وأناة» والنقع: الغبار.
وأنشد: [البسيط]
٥٢٧٤ - يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتَطَارِ دَائمَةً كَأنَّ آذَانهَا أطْرافُ أقْلامِ
وقال ابن رواحة: [الوافر]
٥٢٧٥ - عَدِمتُ بُنَيَّتِي إنْ لَمْ تَروْهَا تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنفَيْ كَدَاءِ
وقال أبو عبيدة: النقع، رفع الصوت؛ قال لبيدٌ: [الرمل]
٥٢٧٦ - فَمتَى يَنْقَعْ صُراخٌ صَادِقٌ يُحْلبُوهَا ذَاتَ جَرْسٍ وزَجَلْ
يروى: «يجلبوها» أيضاً، يقول: متى سمعوا صراخاً أجلبوا الحرب، أي: جمعوا لها، وقوله: «ينقع صراخ» يعني رفع الصوت.
قال الزمخشري: ويجوز أن يراد بالنَّقع: الصياح، من قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَمْ يكُنْ نَقعٌ ولا لَقلَقةٌ».
460
وقول لبيد: [الرمل]
٥٢٧٧ - فَمتَى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ... أي: فهيجن في المغار عليهم صياحاً وجلبة.
وقال أبو عبيد: وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل العلم، انتهى. فعلى هذا تكون الباء بمعنى «في» ويعود الضمير على المكان الذي فيه الإغارة، كما تقدم.
وقال الكسائيُّ: قوله: «نقْعٌ ولا لقْلقَةٌ» النّقع: صنعة الطعام، يعني في المأتم يقال منه: نقعت أنقع نقعاً. قال أبو عبيد: ذهب بالنقع إلى النقيعة، وإنما النقيعة عند غيره من العلماء: صنعة الطعام عند القدوم من سفر، لا في المأتم.
وقال بعضهم: يريد عمرو بالنقع وضع التراب على الرأس فذهب إلى أن النقع هو التراب.
قال القرطبي: ولا أحسب عمراً ذهب إلى هذا، ولا خافه منهن، وكيف يبلغ خوفه ذا، وهو يكره لهن القيام، فقال: وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه، وليس النقع عندي في هذا الحديث إلا الصوت الشديد، وأما اللَّقلقة: فشدة الصوت، ولم أسمع فيه اختلافاً.
[قال محمد بن كعب القرظي: النقع بين «مزدلفة» إلى «منى».
وقيل: إنه طريق الوادي، ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع.
وفي «الصحاح» النقع الغبار، والجمع: النقاع والنقع محبس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه.
وفي الحديث: أنه نهى أن يمنع نقع البئر.
461
والنقع: الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء، والجمع: نقاع وأنقع، مثل: بحار وبحر وأبحر].
قوله: ﴿فَوَسَطْنَ﴾. العامة على تخفيف السين.
وفي الهاء في «به» أوجه:
أحدها: أنها للصبح.
والثاني: أنها للنَّقع، أي: وسطن النقع الجمع، أي: جعلن الغبار وسط الجمع. والباء للتعدية، وعلى الأول هي ظرفية.
الثالث: الباء للحالية، أي فتوسطن ملتبساً بالنقع، أي: بالغبار، جمعاً من جموع الأعداء.
وقيل: الباء مزيدة نقله أبو البقاء.
و «جَمْعاً» على هذه الأوجه: مفعول به.
الرابع: أن المراد ب «جمع» «المزدلفة» وهي تسمى جمعاً، والمراد: أن الإبل تتوسط جمعاً الذي هو «المزدلفة»، كما مرَّ عن أمير المؤمنين فالمراد بالجمع مكان، لا جماعة الناس، كقول صفية: [الوافر]
٥٢٧٨ - فَلا والعَاديَاتِ غَداةَ جَمْعٍ... وقول بشر بن أبي خازم: [الكامل]
٥٢٧٩ - فَوَسَطْنَ جَمعهُمُ وأفْلتَ حَاجبٌ تَحْتَ العَجاجَةِ في الغُبَارِ الأقْتَمِ
و «جَمْعاً» على هذا منصوب على الظرف، وعلى هذا فيكون الضمير في «به» إما للوقت أي في وقت الصبح، وإما للنقع، وتكون الباء للحال، أي: ملتبسات بالنقع، إلا أنه يشكل نصب الظرف المختص إذ كان حقه أن يتعدى إليه ب «في».
وقال أبو البقاء: إن «جمعاً» حال، وسبقه إليه مكي. وفيه بعد؛ إذ المعنى على أن الخيل توسطت جمع الناس.
وقرأ علي، وزيد بن علي، وقتادة، وابن أبي ليلى: بتشديد السين، وهما لغتان بمعنى واحد.
462
وقال الزمخشري: التشديد للتعدية، والباء مزيدة للتأكيد، كقوله تعالى: ﴿وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً﴾ [البقرة: ٢٥] وهي مبالغة في وسطن «انتهى.
وقوله:»
وهي مبالغة «تناقض قوله أولاً للتعدية، لأن التشديد للمبالغة لا يكسب الفعل مفعولاً آخر، تقول:» ذبحت الغنم «مخففاً، ثم تبالغ فتقول:» ذبَّحتها «- مثقلاً - وهذا على رأيه قد جعله متعدياً بنفسه، بدليل جعله الباء مزيدة، فلا تكون للمبالغة.

فصل في معنى الآية


المعنى: فوسطن بركبانهن العدو، أي: الجمع الذين أغاروا عليهم.
وقال ابن مسعود:»
فوسَطْنَ بِهِ جَمْعاً «يعني» مزدلفة «، وسميت جمعاً لاجتماع الناس فيها.
ويقال: وسطت القوم أسطهم وسطاً وسطة، أي: صرت وسطهم، وقد أكثر الناس في وصف الخيل وهذا الذي ذكره الله أحسن.
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:»
الخَيْلُ معْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ «وقال أيضاً:» ظهرها حرز وبطنها كنز «.
ويروى أن بنت امرئ القيس أتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: يا رسول الله، هل أنزل عليك ربُّك كلاماً في صفةِ الخَيْل كلاماً أفصح مما قاله جدِّي؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:»
وما قال جدّكِ «. ؟ قالت: [الطويل]
٥٢٨٠ - مِكَرٍّ مُقْبلٍ مُدبِرٍ معاً كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَل
فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ﴿والعاديات ضَبْحاً﴾ الآيات فأسلمت.
463
وقوله تعالى :﴿ فالمغيرات صُبْحاً ﴾، والإغارة : سرعة السير، وهم يدفعون صبيحة يوم النحر مسرعين إلى «منى ».
﴿ فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً ﴾ يعني «مزدلفة »، لأنها تسمى بجمع، لاجتماع الحاجِّ بها، وعلى هذا التقدير، فوجه القسم بها ما تقدم ذكره من المنافع الكثيرة في قوله تعالى :﴿ أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ ﴾ [ الغاشية : ١٧ ].
وأيضاً : الغرض بذكر إبل الحج : الترغيب في الحج، فإن الكنود : هو الكفور، والذي لم يحج بعد الوجوب موصوف بذلك، كما في قوله تعالى :﴿ وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ].
ومن قال : هي الخيل، وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، والضحاك، وعطاء، وأكثر المحققين، قال : إنَّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث سرية إلى أناس من بني كنانة، فأبطأ عليه خبرها، وكان استعمل عليها المنذر بن عمرو الأنصاري، وكان أحد النقباء، فقال المنافقون : إنهم قُتلوا، فنزلت هذه السورة إخباراً للنبي صلى الله عليه وسلم بسلامتها، وبشارة له بإغارتها على القوم، فالمراد : الخيل التي يغزوا١ عليها المؤمنون.
وفي الخبر :«مَنْ لمْ يَعرفْ حُرمَةَ فرسِ الغَازي، ففيهِ شُعبةٌ مِنَ النِّفاقِ »، وعلى هذا القول، فالسورة مدنية ؛ لأن الإذن في القتال إنما كان ب «المدينة ».
قوله :﴿ فالموريات قَدْحاً ﴾، قال عكرمة وعطاء والضحاك : هي الخيلُ حين توري النار بحوافرها وهي سنابكها٢.
و «قَدْحاً » يجوز أن يكون مصدراً مؤكداً ؛ لأن الإيراء من القدح، يقال : قدح فأورى، وقدح فأصلد.
ويجوز أن يكون حالاً، فالمعنى :«قادحات »، أي : ضابحات بحوافرها ما توري النار، ويقال : قدحت الحجر بالحجر، أي : صككته به.
وقال الزمخشريُّ٣ : انتصب «قدحاً » بما انتصب به «ضبحاً »، وكأنه جوّز في نصبه ثلاثة أوجه : النصب بإضمار فعله، والنصب باسم الفاعل قبله لأنه ملازمه، والنصب على الحال، وتسمى تلك النار التي تخرج من الحوافر : نار الحباحب.
قال :[ الطويل ]
٥٢٧١- تَقُدُّ السَّلوقِيَّ المُضاعَفَ نَسْجهُ وتُوقِدُ بالصُّفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ٤

فصل في معنى الموريات


روي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أورت بحوافرها غباراً٥، وهذا يخالف سائر ما روي عنه في قدحِ النارِ، وإنما هذا في الإبل، [ وروى ابن نجيح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تعالى :﴿ فالموريات قَدْحاً ﴾ قال : هي في القتال. وهو في الحج، قاله ابن مسعود، هي الإبل تطأ الحصى فيخرج منه النار٦ ]٧.
وأصل القدح : الاستخراج، ومنه قدحت العين : إذا أخرجت منها الماء الفاسد، واقتدحت بالزّند، واقتدحت المرق : غرفته. ورَكيٌّ قدوح : يغرف باليد.
والقديح : ما يبقى في أسفل القدر، فيغرف بجهد، والمقدحة : ما تقدح به النار.
والقداحة والقداح : الحجر الذي يُورِي النار.
يقال : وَرَى الزند - بالفتح - يري ورْياً : إذا خرجت ناره، وفيه لغة أخرى، ورِي الزند - بالكسر - يرى فيهما، وقد مضى في سورة «الواقعة ».
وقيل : هذه الآيات في الخيل، ولكن إيراءها : أن تهيج الحرب بين أصحابها، وبين عدوهم. ويقال للحرب إذا التحمت : حَمِيَ الوطيس، ومنه قوله تعالى :﴿ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله ﴾ [ المائدة : ٦٤ ].
قال ابن عباس : المراد ب ﴿ فالموريات قَدْحاً ﴾ مكر الرجال في الحرب٨، وقاله مجاهد وزيد بن أسلم : والعربُ يقولون إذا أراد الرجل أن يمكر بصاحبه : والله لأمكرن بك، ثم لأورين لك.
وعن ابن عباس أيضاً : هم الذين يغزون فيورون نيرانهم بالليل، لحاجتهم وطعامهم٩.
وعنه أيضاً أنها نيران المجاهدين إذا كثرت نارها إرهاباً، ليظنها العدو كثيراً.
وقيل : هي أفكار الرجال توري النار من عظيم ما تتكلم به، ويظهر بها من إقامة الحججِ، وإقامةِ الدَّلائلِ، وإيضاح الحق، وإبطال الباطلِ.
قال القرطبي١٠ : هذه الأقوال مجاز، ومنه قولهم : فلان يُوري زناد الضلالة، والأول : الحقيقة، وأن الخيل من شدة عدوها تقدح النَّار بحوافرها.
قال مقاتل : العرب تسمي تلك النَّار نار أبي حُبَاحب، وكان أبو حباحب شيخاً من مضر في الجاهلية، من أبخل الناس، وكان لا يُوقد نار الخبز ولا غيره حتى تنام العيون، فيوقد نُويْرَة تقد مرة، وتخمد أخرى، فإن استيقظ لها أحد أطفأها، كراهية أن ينتفع بها أحدٌ، فشبهت هذه النار بناره ؛ لأنه لا ينتفع بها.
وكذلك إذا وقع السيف على البيضة فاقتدحت ناراً فكذلك يسمونها.
قال النابغة :[ الطويل ]
٥٢٧٢- ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ بِهِنَّ فُلولٌ من قِرَاعِ الكَتائبِ
تَقُدُّ السَّلوقِيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ وتُوقِدُ بالصُّفَّاحِ نَارَ الحُبَاحِبِ١١
قوله :﴿ فالمغيرات صُبْحاً ﴾ ظرف ؛ أي : التي تغير وقت الصبح، يقال : أغار يغير إغارة وغارةً : إذا باغت عدواً نهباً وقتلاً وأسراً ؛ قال :[ البسيط ]
٥٢٧٣- فَليْتَ لِي بِهمُ قَوماً إذَا رَكِبُوا شَنُّوا الإغَارَة فُرْسَاناً ورُكْبَانَا١٢
وأغار وغار أيضاً : نزل الغور، وهو المنهبط من الأرض.
١ في ب: يعدو..
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٦٧ -٦٦٨)، عن عكرمة وعطاء والضحاك وقتادة..
٣ ينظر: الكشاف ٤/٧٨٧..
٤ البيت للنابغة ينظر ديوانه (١١)، وابن الشجري ٢/٥٨، والإيضاح الشعري ص ٥٧٤، ومجمع البيان ١٠/٨٠٢، والمعاني الكبير ص ١٠٨٠، واللسان (سلق)، (حبحب). والدر المصون ٦/٥٥٨..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/١٠٧)..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٦٦)، عن ابن مسعود..
٧ سقط من: ب..
٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٦٨)، وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٦٥٢)، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٦٦٨)، عن ابن عباس..
١٠ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/١٠٧..
١١ تقدم..
١٢ تقدم..
قوله :﴿ فَأَثَرْنَ ﴾. عطف الفعل على الاسم، لأن الاسم في تأويل الفعل لوقوعه صلة ل «أل ».
قال الزمخشريُّ١ :«معطوف على الفعل الذي وضع اسم الفاعل موضعه، يعني في الأصل ؛ إذ الأصل : واللاتي عدون فأورين فأغرن فأثرن ».
قوله :﴿ بِهِ ﴾. في الهاء أوجه :
أحدها : أنه ضمير الصبح، أي : فأثرن في وقت الصبح غباراً. وهذا حسن ؛ لأنه مذكور بالتصريح.
الثاني : أنه عائد على المكان، وإن لم يجر له ذكر ؛ لأن الإشارة لا بد لها من مكان، والسياق والعقل لا يدلان عليه، وإذا علم بالمعنى جاز أن يكون عما لم يجر له ذكر بالصريح، كقوله تعالى :﴿ حتى تَوَارَتْ بالحجاب ﴾ [ ص : ٣٢ ]. وفي عبارة الزمخشري :«وقيل : الضمير لمكان الغارةِ »، وهذا على تلك اللغيَّة، وإلا فالفصيح أن تقول : الإغارة.
الثالث : أنه ضمير العدو الذي دل عليه «والعَادِيَاتِ ».
وقرأ العامة : بتخفيف الثاء، أثار كذا إذا نشره وفرقه مع ارتفاع.
وقرأ أبو حيوة، وابن٢ أبي عبلة : بتشديدها.
وخرجه الزمخشري٣ على وجهين :
الأول : بمعنى فأظهرن به غباراً ؛ لأن التأثير فيه معنى الإظهار.
الثاني : قلب «ثورن » إلى «وثَرْنَ »، وقلب الواو همزة انتهى.
يعني : الأصل «ثَوّرنَ » من ثور يثور - بالتشديد - عداه بالتضعيف كما يعدى بالهمزة في قولك : أثاره، ثم قلب الكلمة بأن جعل العين -وهي الواو - موضع الفاء -وهي الثاء-، ووزنها حينئذ «عفلن »، ثم قلب الواو همزة، فصار :«أثَرْنَ »، وهذا بعيد جداً، وعلى تقدير التسليم، فقلب الواو المفتوحة همزة لا ينقاس، إنما جاءت منه ألفاظ ك «أحد وأناة ». والنقع : الغبار.
وأنشد :[ البسيط ]
٥٢٧٤- يَخْرُجْنَ مِنْ مُسْتَطَارِ النقع دَائمَةً كَأنَّ آذَانهَا أطْرافُ أقْلامِ٤
وقال ابن رواحة :[ الوافر ]
٥٢٧٥- عَدِمتُ بُنَيَّتِي إنْ لَمْ تَروْهَا تُثِيرُ النَّقْعَ مِنْ كَنفَيْ كَدَاءِ٥
وقال أبو عبيدة : النقع، رفع الصوت ؛ قال لبيدٌ :[ الرمل ]
٥٢٧٦- فَمتَى يَنْقَعْ صُراخٌ صَادِقٌ يُحْلبُوهَا ذَاتَ جَرْسٍ وزَجَلْ٦
يروى :«يجلبوها » أيضاً، يقول : متى سمعوا صراخاً أجلبوا الحرب، أي : جمعوا لها، وقوله :«ينقع صراخ » يعني رفع الصوت.
قال الزمخشري٧ : ويجوز أن يراد بالنَّقع : الصياح، من قوله عليه الصلاة والسلام :«لَمْ يكُنْ نَقعٌ ولا لَقلَقةٌ »٨.
وقول لبيد :[ الرمل ]
٥٢٧٧- *** فَمتَى يَنْقَعْ صُراخٌ صادِقٌ ***٩
أي : فهيجن في المغار عليهم صياحاً وجلبة.
وقال أبو عبيد : وعلى هذا رأيت قول أكثر أهل العلم، انتهى. فعلى هذا تكون الباء بمعنى «في »، ويعود الضمير على المكان الذي فيه الإغارة، كما تقدم.
وقال الكسائيُّ : قوله :«نقْعٌ ولا لقْلقَةٌ » النّقع : صنعة الطعام، يعني في المأتم، يقال منه : نقعت أنقع نقعاً. قال أبو عبيد : ذهب بالنقع إلى النقيعة، وإنما النقيعة عند غيره من العلماء : صنعة الطعام عند القدوم من سفر، لا في المأتم.
وقال بعضهم : يريد عمرو بالنقع وضع التراب على الرأس، فذهب إلى أن النقع هو التراب.
قال القرطبي١٠ : ولا أحسب عمراً ذهب إلى هذا، ولا خافه منهن، وكيف يبلغ خوفه ذا، وهو يكره لهن القيام، فقال : يسفكن من دموعهن وهن جلوس.
قال بعضهم : النقع : شق الجيوب، قال : وهو الذي لا أدري ما هو من الحديث ولا أعرفه، وليس النقع عندي في هذا الحديث إلا الصوت الشديد، وأما اللَّقلقة : فشدة الصوت، ولم أسمع فيه اختلافاً.
[ قال محمد بن كعب القرظي : النقع بين «مزدلفة » إلى «منى »١١.
وقيل : إنه طريق الوادي، ولعله يرجع إلى الغبار المثار من هذا الموضع.
وفي «الصحاح »١٢ النقع الغبار، والجمع : النقاع، والنقع محبس الماء، وكذلك ما اجتمع في البئر منه.
وفي الحديث : أنه نهى أن يمنع نقع١٣ البئر.
والنقع : الأرض الحرة الطين يستنقع فيها الماء، والجمع : نقاع وأنقع، مثل : بحار وبحر وأبحر ]١٤.
١ الكشاف ٤/٧٨٨..
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٥١٤، والبحر المحيط ٨//٥٠١، والدر المصون ٦/٥٥٩..
٣ ينظر: الكشاف ٤/٧٨٧..
٤ قائله هو عدي بن الرقاع العاملي ينظر سمط اللآلىء ٢/٢٧٦، والاقتضاب ص ٣٢٢، والأمالي ٢/٢٧٤، والبحر ٨/٤٩٩، والدر المصون ٦/٥٥٩..
٥ ينظر القرطبي ٢/١٠٨، والبحر ٨/٤٩٩، والدر المصون ٦/٥٥٩، وفتح القدير ٥/٤٨٢..
٦ ينظر ديوان لبيد ص ١٤٦، والكامل ١/٣٣١، والكشاف ٤/٧٨٧، والاقتضاب ص ٤١٩، والأضداد للأصمعي ص ٥٤، والبحر ٨/٥٠٠، واللسان (نقع)، والدر المصون ٦/٥٥٩..
٧ ينظر: الكشاف ٤/٧٨٧..
٨ ذكره الحافظ ابن حجر في "تخريج الكشاف" (٤/٧٨٧)، وقال: لم أجده مرفوعا، وإنما ذكره البخاري في الجنائز تعليقا عن عمر قال: "دعهن يبكين على أبي سليمان ما لم يكن نقع أو لقلقة"، قال: والنقع التراب على الرأس واللقلقة الصوت. ووصله عبد الرزاق والحاكم وابن سعد وأبو عبيد الحربي في الغريب كلهم من طريق الأعمش عن أبي وائل قال: "وقيل لعمر: إن نسوة من بني المغيرة قد اجتعمن في دار خالد بن الوليد يبكين عليه وإنا نكره أن يؤذينك فلو نهيتهن فقال: ما عليهن أن يهرقن من دموعهن على أبي سليمان سجلا أو سجلين ما لم يكن نقع أو لقلقة" وفي رواية ابن سعد قال وكيع: النقع الشق، واللقلقة الصوت. وقال بعضهم: رفع التراب على الرأس وشق الجيوب. وأما اللقلقة فهي شدة الصوت ولم أسمع فيه خلافا وقال الحربي عن الأصمعي النقع الصياح. وعن أبي سلمة هو وضع التراب على الرأس..
٩ تقدم..
١٠ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/١٠٨..
١١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/١٠٨)، عن محمد بن كعب القرطبي..
١٢ ينظر الصحاح ٣/١٢٩٢..
١٣ أخرجه ابن ماجه (٢/٨٢٨)، كتاب: الرهون، باب: النهي عن منع فضل الماء ليمنع به الكلآ حديث (٢٤٧٩)، من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمنع فضل الماء ولا يمنع نقع البئر..
١٤ سقط من: ب..
قوله :﴿ فَوَسَطْنَ ﴾. العامة على تخفيف السين.
وفي الهاء في «به » أوجه :
أحدها : أنها للصبح.
والثاني : أنها للنَّقع، أي : وسطن النقع الجمع، أي : جعلن الغبار وسط الجمع. والباء للتعدية، وعلى الأول هي ظرفية.
الثالث : الباء للحالية، أي فتوسطن ملتبساً بالنقع، أي : بالغبار، جمعاً من جموع الأعداء.
وقيل : الباء مزيدة، نقله أبو١ البقاء.
و«جَمْعاً » على هذه الأوجه : مفعول به.
الرابع : أن المراد ب «جمع » «المزدلفة » وهي تسمى جمعاً، والمراد : أن الإبل تتوسط جمعاً الذي هو «المزدلفة »، كما مرَّ عن أمير المؤمنين، فالمراد بالجمع مكان، لا جماعة الناس، كقول صفية :[ الوافر ]
٥٢٧٨- *** فَلا والعَاديَاتِ غَداةَ جَمْعٍ***٢
وقول بشر بن أبي خازم :[ الكامل ]
٥٢٧٩- فَوَسَطْنَ جَمعهُمُ وأفْلتَ حَاجبٌ تَحْتَ العَجاجَةِ في الغُبَارِ الأقْتَمِ٣
و«جَمْعاً » على هذا منصوب على الظرف، وعلى هذا فيكون الضمير في «به » إما للوقت، أي في وقت الصبح، وإما للنقع، وتكون الباء للحال، أي : ملتبسات بالنقع، إلا أنه يشكل نصب الظرف المختص إذ كان حقه أن يتعدى إليه ب «في ».
وقال أبو البقاء٤ : إن «جمعاً » حال، وسبقه إليه مكي. وفيه بعد ؛ إذ المعنى على أن الخيل توسطت جمع الناس.
وقرأ علي، وزيد٥ بن علي، وقتادة، وابن أبي ليلى : بتشديد السين، وهما لغتان بمعنى واحد.
وقال الزمخشري٦ :«التشديد للتعدية، والباء مزيدة للتأكيد، كقوله تعالى :﴿ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً ﴾ [ البقرة : ٢٥ ] وهي مبالغة في وسطن » انتهى.
وقوله :«وهي مبالغة » تناقض قوله أولاً للتعدية ؛ لأن التشديد للمبالغة لا يكسب الفعل مفعولاً آخر، تقول :«ذبحت الغنم مخففاً »، ثم تبالغ فتقول :«ذبَّحتها » - مثقلاً - وهذا على رأيه قد جعله متعدياً بنفسه، بدليل جعله الباء مزيدة، فلا تكون للمبالغة.

فصل في معنى الآية


المعنى : فوسطن بركبانهن العدو، أي : الجمع الذين أغاروا عليهم.
وقال ابن مسعود :«فوسَطْنَ بِهِ جَمْعاً » يعني «مزدلفة »، وسميت جمعاً لاجتماع الناس فيها٧.
ويقال : وسطت القوم أسطهم وسطاً وسطة، أي : صرت وسطهم، وقد أكثر الناس في وصف الخيل، وهذا الذي ذكره الله أحسن.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«الخَيْلُ معْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الخَيْرُ »٨ وقال أيضاً :«ظهرها حرز وبطنها كنز ».
ويروى أن بنت امرئ القيس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله، هل أنزل عليك ربُّك كلاماً في صفةِ الخَيْل كلاماً أفصح مما قاله جدِّي ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - :«وما قال جدّكِ ». ؟ قالت :[ الطويل ]
٥٢٨٠-مِكَرٍّ مُقْبلٍ مُدبِرٍ معاً كجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَل٩
فقال -عليه الصلاة والسلام - :﴿ والعاديات ضَبْحاً ﴾ الآيات، فأسلمت.
١ ينظر الإملاء ٢/١٩٢..
٢ تقدم..
٣ ينظر المفضليات ٦٨٢، والجمهرة (٤٠٢)، والبحر ٨/٥١، والدر المصون ٦/٥٦٠..
٤ الإملاء ٢/٢٩٢..
٥ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٥١٤، والدر المصون ٦/٥٦٠..
٦ الكشاف ٤/٧٨٧..
٧ ينظر تفسير الماوردي (٦/٣٢٥)..
٨ تقدم تخريجه..
٩ ينظر ديوان امرىء القيس ص ١٩، وإصلاح المنطق ص ٢٥، وجمهرة اللغة ص ١٢٦، وخزانة الأدب ٢/٣٩٧، ٣/٢٤٢، ٣٤٣، والدرر ٣/١١٥، وشرح أبيات سيبويه ٢/٣٣٩، وشرح التصريح ٢/٥٤، وشرح شواهد المغني ١/٤٥١، والشعر والشعراء ١/١١٦، والكتاب ٤/٢٢٨، والمقاصد النحوية ١/٤٤٩، ورصف المباني ص ٣٢٨، وشرح الأشموني ٢/٣٢٣، وشرح شذور الذهب ص ١٤٠، ومغني اللبيب ١/١٥٤، والمقرب ١/٢١٥، وهمع الهوامع ١/٢١٠..
قوله: ﴿إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾. هذا هو المقسم عليه، و «لرَبِّهِ» متعلق بالخبر، وقدم الفواصل، والكنُود: الجحود.
463
وقيل: الكفور لنعمه، وأنشد: [الطويل]
٥٢٨١ - كَنُودٌ لِنعْمَاءِ الرِّجَالِ ومَنْ يَكُنْ كَنُوداً لِنعْماءِ الرِّجَالِ يُبعَّدِ
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هو بلسان «كندة» و «حضرموت» : العاصي، وبلسان «ربيعة» و «مضر» : الكفور، وبلسان «كنانة» : البخيل.
وأنشد أبو زيد: [الخفيف]
٥٢٨٢ - إنْ تَفُتْنِي فلمْ أطِبْ عَنْكَ نَفْساً غَيْرَ أنِّي أمْسِي بِدهْرٍ كَنُودِ
وقيل: لسان الجاحد للحق. وقيل: إنما سميت كندة لأنها جحدت أباها.
وقيل: الكنود: من كند إذا قطع، كأنه يقطع ما ينبغي أن يواصله من الشكر، ويقال: كند الخيل: إذا قطع؛ قال الأعشى: [المتقارب]
٥٢٨٣ - يُعْطِي عَطاءً بِصُلبِ الفُؤادِ وصُولِ حِبَالٍ وكنَّادِهَا
فهذا يدل على القطع، ويقال: كند يكند كنوداً، أي: كفر النعمة وجحدها، فهو كنود، وامرأة كنود أيضاً، وكند مثله؛ قال الأعشى: [الكامل]
٥٢٨٤ - أحْدِثْ لهَا تُحدِثُ لوصْلِكَ إنَّهَا كُنُدٌ لوِصْلِ الزَّائرِ المُعْتَادِ
أي: كفور للمواصلة، وروى أبو أمامة الباهلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الكنُودُ: هُو الَّذي يَأكلُ وحدهُ، ويمنعُ رفدهُ، ويَضربُ عَبْدَهُ» خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول. وقال الحسن: الكنود اللوام لربه يعد المحن والمصيبات، وينسى النعم
464
والراحات، وهو كقوله تعالى: ﴿وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ﴾ [الفجر: ١٦].
واعلم أن الكنود لا يخرج عن أن يكون كفراً أو فسقاً، وكيفما كان فلان يمكن حمله على كل الناس، فلا بد من صرفه إلى كافر معين، وإن حملناه على الكل فالمعنى أن طبع الإنسان يحمله على ذلك إلا إذا عصمه الله بلطفه وتوفيقه.
قال ابن عباس: الإنسان هنا الكافر، يقول: إنه لكفور، ومنه الأرض الكنود التي لا تنبت شيئاً. وقال الضحاك: نزلت في الوليد بن المغيرة. وقال أبو بكر الواسطي: الكنُود: الذي ينفق نعم اللهِ في معاصي الله.
وقال ذو النون المصري: الهلوع والكنود: هو الذي إذا مسه الشرُّ جزوعٌ، وإذا مسَّه الخيرُ منوع. وقيل: هو الحسود الحقود.
قال القرطبي: «هذه الأقوال كلُّها ترجع إلى معنى الكفران والجحود».
وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - نزلت في قرط بن عبد الله بن عمرو بن نوفل القرشي، لقوله: ﴿أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور﴾ [العاديات: ١٩] ولا يليق إلا بالكافر المنكر لذلك.
قوله: ﴿وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ﴾. أي: وإن الله - تعالى - على ذلك من ابن آدم لشهيد، قاله ابن عباس ومجاهد وأكثر المفسرين.
وقال الحسن وقتادة ومحمد بن كعب: «وإنَّهُ» أي: وإن الإنسان لشاهدٌ على نفسه بما يصنع كقوله تعالى بعد ذلك: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ﴾.
والأول أولى؛ لأنه كالوعيد والزجر له عن المعاصي.
قوله تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير﴾. اللام متعلقة ب «شديد» وفيه وجهان:
أحدهما: أنها المعدية، والمعنى: وإنه لقوي مطيق لحب الخير أي: المال، يقال: هو شديد لهذا الأمر، أي: مطيق له، ويقال: لشديد: أي: بخيل، ويقال للبخيل: شديد ومتشدِّد؛ قال طرفة: [الطويل]
٥٢٨٥ - أرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ ويَصْطَفِي عَقِيلةَ مَالِ الفَاحشِ المُتَشَددِ
يقال: اعتامه واعتماه: أي: اختاره، والفاحش: البخيل أيضاً؛ قال تعالى: ﴿وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء﴾ [البقرة: ٢٦٨] أي: البخل.
465
قال ابن زيد: سمى الله المال خيراً، وعسى أن يكون شراً وخيراً، ولكن الناس يعدونه خيراً، فسماه الله تعالى خيراً لذلك، قال تعالى: ﴿إِن تَرَكَ خَيْراً﴾ [البقرة: ١٨٠] وسمى الجهاد سوءاً، فقال: ﴿فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء﴾ [آل عمران: ١٧٤] على ما يسميه الناس.
الثاني: أن «اللام» للعلة، أي: وإنه لأجل حبِّ المالِ لبخيل.
وقيل: «اللام» بمعنى «على».
وقال الفراءُ: أصل نظم الآية أن يقال: وإنه لشديد الحب للخير، فلما قدم الحب قال: «لشديد» وحذف من آخره ذكر الحب؛ لأنه قد جرى ذكره، لرءوس الآي، كقوله تعالى: ﴿فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ [إبراهيم: ١٨] والعصوف: للريح لا للأيام، فلما جرى ذكرُ الرِّيحِ قبل اليوم، طرح من آخره ذكر الريح، كأنه قال: في يوم عاصف الريح.
466
قوله :﴿ وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ﴾. أي : وإن الله - تعالى - على ذلك من ابن آدم لشهيد، قاله ابن عباس ومجاهد وأكثر المفسرين١.
وقال الحسن وقتادة ومحمد بن كعب :«وإنَّهُ » أي : وإن الإنسان لشاهدٌ على نفسه بما يصنع، كقوله تعالى بعد ذلك :﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ ﴾٢.
والأول أولى ؛ لأنه كالوعيد والزجر له عن المعاصي.
١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٣٠/١١٠)..
٢ ينظر المصدر السابق..
قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير ﴾. اللام متعلقة ب «شديد »، وفيه وجهان :
أحدهما : أنها المعدية، والمعنى : وإنه لقوي مطيق لحب الخير، أي : المال، يقال : هو شديد لهذا الأمر، أي : مطيق له، ويقال : لشديد : أي : بخيل، ويقال للبخيل : شديد ومتشدِّد ؛ قال طرفة :[ الطويل ]
٥٢٨٥- أرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ ويَصْطَفِي*** عَقِيلةَ مَالِ الفَاحشِ المُتَشَددِ١
يقال : اعتامه واعتماه : أي : اختاره، والفاحش : البخيل أيضاً ؛ قال تعالى :﴿ وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء ﴾ [ البقرة : ٢٦٨ ] أي : البخل.
قال ابن زيد : سمى الله المال خيراً، وعسى أن يكون شراً وخيراً، ولكن الناس يعدونه خيراً، فسماه الله تعالى خيراً لذلك، قال تعالى :﴿ إِن تَرَكَ خَيْراً ﴾ [ البقرة : ١٨٠ ] وسمى الجهاد سوءاً، فقال :﴿ فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سوء ﴾ [ آل عمران : ١٧٤ ] على ما يسميه الناس٢.
الثاني : أن «اللام » للعلة، أي : وإنه لأجل حبِّ المالِ لبخيل.
وقيل :«اللام » بمعنى «على ».
وقال الفراءُ : أصل نظم الآية أن يقال : وإنه لشديد الحب للخير، فلما قدم الحب قال :«لشديد »، وحذف من آخره ذكر الحب ؛ لأنه قد جرى ذكره، لرءوس الآي، كقوله تعالى :﴿ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٨ ] والعصوف : للريح لا للأيام، فلما جرى ذكرُ الرِّيحِ قبل اليوم، طرح من آخره ذكر الريح، كأنه قال : في يوم عاصف الريح.
١ ينظر ديوانه ص ٣٤، وابن الشجري ١/١١١، والكشاف ٤/٧٨٨، والكامل ١/٣٦٠، والطبري ٣/١٨٠، ومجمع البيان ١٠/٨٠٥، والبحر ٨/٥٠٢، والدر المصون ٦/٥٦١..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٣٠/١١٠)..
قوله: ﴿أَفَلاَ يَعْلَمُ﴾. لما عد عليه قبائح أفعاله خوّفه، فقال: ﴿أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور﴾.
العامل في «إذَا» أوجه:
أحدهما: «بُعْثِرَ» نقله مكيٌّ عن المبرِّد. وتقدم تحريره في السورة قبلها.
قال القرطبيُّ: العامل في «إذا» :«بعثر» ولا يعمل فيه «يعلمُ» إذ لا يراد به العلم من الإنسان ذلك الوقت؛ إنما يراد في الدنيا، ولا يعمل فيه «خبير» لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبلها، والعامل في «يَوْمئذٍ» :«خَبِيرٌ» وإن فصل اللام بينهما؛ لأن موضع اللام الابتداء، وإنما دخلت في الخبر لدخول «إن» على المبتدأ.
والثاني: ما دل عليه خبر «إن»، أي: إذا بعثر جوزوا.
والثالث: أنه «يَعْلمُ»، وإليه ذهب الحوفي وأبو البقاء، وردّه مكي، قال: «لأن الإنسان لا يراد منه العلم والاعتبار ذلك الوقت، وإنما يعتبر في الدنيا ويعلم».
قال أبو حيان: «وليس بمتضح، لأن المعنى: أفلا يعلم الآن».
وكان قال قبل ذلك: «ومفعول» يعلم «محذوف، وهو العامل في الظرف؛ أي: أفلا يعلم ما مآله إذا بُعثر» انتهى.
466
فجعلها متعدية في ظاهر قوله إلى واحد، وعلى هذا فقد يقال: إنها عاملة في «إذا» على سبيل أن «إذا» مفعول به لا ظرف؛ إذ التقدير: أفلا يعرف وقت بعثرة القبور، يعني أن يقر بالبعث ووقته، و «إذا» قد تصرفت وخرجت عن الظرفية، ولذلك شواهد تقدم ذكرها.
الرابع: أن العامل فيها محذوف، وهو مفعول «يَعْلَمُ»، كما تقدم.
وقرأ العامة: «بُعْثِرَ» - بالعين - مبنيًّا للمفعول، والموصول قائم مقام الفاعل.
وابن مسعود: بالحاء.
قال الفرَّاءُ: سمعت بعض أعراب بني أسد يقرأ «بحثر» بالحاء وحكاه الماوردي عن ابن مسعودٍ.
وقرأ الأسود بن زيد ومحمد بن معدان: «بحث» من البحث.
وقرأ نصر بن عاصم: «بَعْثَرَ» مبنياً للفاعل، وهو اللهُ أو الملك.

فصل في معنى الآية


المعنى «أفَلا يَعْلمُ»، أي: ابن آدم «إذَا بُعْثِرَ» أي: أثير وقلب وبحث، فأخرج ما فيها.
قال أبو عبيدة: بعثرت المتاع، جعله أسفله أعلاه.
قال محمد بن كعب: ذلك حين يبعثون.
فإن قيل: لم قال: «بُعثِرَ ما في القُبُور» ولم يقل: من في القبور؟ ثم إنه - تعالى - لما قال: «مَا فِي القُبورِ» فلم قال: ﴿إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ﴾ ؟.
فالجواب عن الأول: أن ما في الأرض غير المكلفين أكثر، فأخرج الكلام على الأغلب، أو أنهم حال ما يبعثرون لا يكونون أحياء عقلاء، بل يصيرون كذلك بعد البعث، فلذلك كان الضمير الأول غير العقلاء، والضمير الثاني ضمير العقلاء.
قوله: ﴿وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور﴾، قرأ العامة: «حصّل» مبنيًّا للفاعل وروي عن ابن عمر، وعبيد بن عمير، وسعيد بن جبير ونصر أيضاً «حصل» خفيف الصاد مبنياً للفاعل بمعنى جميع ما في الصحف محصلاً، والتحصيل: جمع الشيء، والحصول: اجتماعه، والاسم: الحصيلة.
قال لبيد: [الطويل]
467
والتحصيل: التمييز، ومنه قيل للمنخل: محصل، وحصل الشيء - مخففاً - ظهر واستبان وعليه القراءة الأخيرة.
وقال المفسرون: «وحُصِّل ما في الصُّدورِ» أي: ميز ما فيها من خير وشر، وقال ابن عباس: أبرز. قال ابن الخطيب: وخص أعمال القلوب بالذكر دون أعمال الجوارح؛ لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب؛ لأنه لولا البواعث والإرادات، لما حصلت أعمال الجوارح.
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ﴾. العامة: على كسر الهمزة لوجود اللام في خبرها، والظاهر أنها معلقة ل «يَعْلَمُ» فهي في محل نصب، ولكن لا يعمل في «إذا» خبرها، لما تقدم، بل يقدر له عامل من معناه كما تقدم. ويدل على أنها معلقة للعلم، ولا مستأنفة. وقراءة أبي السمال وغيره: «أنَّ ربَّهم بهم يومئذٍ خبير»، بالفتح وإسقاط اللام، فإنها في هذه القراءة سادة مسد مفعولها.
ويحكى عن الحجاج - الخبيث الروح - أنه لما فتح همزة «أن» استدرك على نفسه، وتعمد سقوط اللام، وهذا إن صح كفر، ولا يقال: إنها قراءة ثابتة، كما نقل عن أبي السمَّال فلا يكفر، لأنه لو قرأها كذلك ناقلاً لها لم يمنع منه، ولكنه أسقط اللام عمداً إصلاحاً للسانه، واجتمعت الأمة على أن من زاد حرفاً، أو نقص حرفاً في القرآن عمداً فهو كافر.
قال شهاب الدين: وإنما قلت ذلك لأني رأيت أبا حيَّان قال: وقرأ أبو السمال والحجاج، ولا يحفظ عن الحجاج إلا هذا الأثر السوء، والناس ينقلونه عنه كذلك، وهو أقل من أن ينقل عنه.
«ربهم، ويومئذ» متعلقان بالخبر، واللام غير مانعة من ذلك، وقدما لأجل الفاصلة، ومعنى «خَبِيرٌ» أي: عالم لا يخفى عليه منهم خافية، وهو عالم بهم في ذلك اليوم، وفي غيره، ولكن المعنى: أنه يجازيهم في ذلك اليوم.
روى الثعلبي عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ ﴿والعاديات﴾ أعطيَ مِنَ الأجْرِ عَشْرَ حسَناتٍ بعددِ مَنْ بَاتَ بالمُزدلفةِ، وشَهِدَ جَمْعاً»، والله أعلم وهو حزبي.
468
سورة القارعة
469
قوله :﴿ وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور ﴾، قرأ العامة :«حصّل » مبنيًّا للفاعل، وروي عن ابن عمر، وعبيد بن عمير، وسعيد بن جبير، ونصر أيضاً «حصل »١ خفيف الصاد مبنياً للفاعل، بمعنى جميع ما في الصحف محصلاً، والتحصيل : جمع الشيء، والحصول : اجتماعه، والاسم : الحصيلة.
قال لبيد :[ الطويل ]
٥٢٨٩ - وكُلُّ امرِئٍ يَوماً سَيعْلَمُ سَعْيهُ إذا حُصِّلتْ عِنْدَ الإلهِ الحَواصِلُ
٥٢٨٩- وكُلُّ امرِئٍ يَوماً سَيعْلَمُ سَعْيهُ إذا حُصِّلتْ عِنْدَ الإلهِ الحَواصِلُ٢
والتحصيل : التمييز، ومنه قيل للمنخل : محصل، وحصل الشيء - مخففاً - ظهر واستبان، وعليه القراءة الأخيرة.
وقال المفسرون :«وحُصِّل ما في الصُّدورِ » أي : ميز ما فيها من خير وشر، وقال ابن عباس : أبرز. قال ابن الخطيب٣ : وخص أعمال القلوب بالذكر دون أعمال الجوارح ؛ لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب ؛ لأنه لولا البواعث والإرادات لما حصلت أعمال الجوارح.
١ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٥١٥، والبحر المحيط ٨/٥٠٢، والدر المصون ٦/٥٦١..
٢ ينظر ديوان ص ١٣٢، واللسان (حصل)، والفخر الرازي ٣٢/٦٨..
٣ الفخر الرازي ٣٢/٦٦..
قوله :﴿ إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ ﴾. العامة على كسر الهمزة لوجود اللام في خبرها، والظاهر أنها معلقة ل «يَعْلَمُ » فهي في محل نصب، ولكن لا يعمل في «إذا » خبرها لما تقدم، بل يقدر له عامل من معناه كما تقدم. ويدل على أنها معلقة للعلم، ولا مستأنفة. وقراءة أبي السمال١ وغيره :«أنَّ ربَّهم بهم يومئذٍ خبير »، بالفتح وإسقاط اللام، فإنها في هذه القراءة سادة مسد مفعولها.
ويحكى عن الحجاج - الخبيث الروح - أنه لما فتح همزة «أن » استدرك على نفسه، وتعمد سقوط اللام، وهذا إن صح كفر، ولا يقال : إنها قراءة ثابتة، كما نقل عن أبي السمَّال فلا يكفر ؛ لأنه لو قرأها كذلك ناقلاً لها لم يمنع منه، ولكنه أسقط اللام عمداً إصلاحاً للسانه، واجتمعت الأمة على أن من زاد حرفاً، أو نقص حرفاً في القرآن عمداً فهو كافر.
قال شهاب الدين٢ : وإنما قلت ذلك لأني رأيت أبا حيَّان قال٣ : وقرأ أبو السمال والحجاج، ولا يحفظ عن الحجاج إلا هذا الأثر السوء، والناس ينقلونه عنه كذلك، وهو أقل من أن ينقل عنه.
«ربهم، ويومئذ » متعلقان بالخبر، واللام غير مانعة من ذلك، وقدما لأجل الفاصلة، ومعنى «خَبِيرٌ » أي : عالم لا يخفى عليه منهم خافية، وهو عالم بهم في ذلك اليوم، وفي غيره، ولكن المعنى : أنه يجازيهم في ذلك اليوم.
١ ينظر الكشاف ٤/٧٨٩، والبحر المحيط ٨/٥٠٢، والدر المصون ٦/٥٦١..
٢ الدر المصون ٦/٥٦١-٥٦٢..
٣ ينظر البحر المحيط ٨/٥٠٢..
Icon