ﰡ
طه: تقرأ هكذا طاها. واختلف المفسرون اختلافا كبيرا في معناها، هل هو اسم من اسماء الله، أم معناها: يا رجلُ، كما قال الطبري: او انها اسمٌ من أسماء النبي ﷺ.
قراءات:
قرأ قالون وابن كثير وابن عامر وحفص ويعقوب: طاها، هكذا. وقرأ حمزة والكسائي وخلَف وابو بكر: طه بالإمالة.
ابتدأ الله تعالى السورةَ بهذه الحروف، لتحدّي المنكِرين والإشارة إلى أن القرآن مكون من هذه الحروف التي تتكلمون بها، ومع ذلك عجزتم عن الإتيان بسورة قصيرةٍ أو آيات مثله.
﴿مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى....﴾.
ما أنزلْنا عليك القرآن لتُتعب نفسك في مكابدة الشدائد، وتتحسَّر على عدم إيمان من تدعوه، بل أنزلْناهُ عليك لتبلِّغَ وتذكِّر، وقد فعلت.
قال الواحدي وغيرُه من المفسرين في أسباب النزول: قال ابو جهل والنضرُ بن الحارث، والوليد بن المغيرة، والمطعِم بن عَدِي للنبي ﷺ: إنك لتَتشقى بتركِ ديننا، لما رأوا من طول عبادته واجتهادهِ، فأنزلَ الله تعالى: ﴿طه مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى﴾.
ولكن أنزلناه تذكيراً لمن يخافُ الله ويطيعه، فحسْبُك ما حملته من متاعب التبليغ والتبشير والانذار.
وفي هذا تسليةٌ للنبي ﷺ على ما كان يعتزّ به من التعب حين كان يدعو أولئك القوم، وهم معاندون جاحدون.
والذي نزّل القرآن عليك هو خالق الأرضِ والسماوات العلى، إنه هو الرحمن، نزّله عليك من الملأ العلى. لق داستوقى على العرش، وبيدِه زمامُ الأمر كله، وله وحدَه سبحانه ملكُ السموات وما فيها والأرض وما فيها وما عيلها. لقد شملت قدرتُه كل شيء، واحاط علمُه بهذا الكون، فان تجهر بالدعاء يعلمه الله، لأنه يعلم حتى ما تحدِّثُ به نفسك، ﴿والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ [آل عمران: ١٥٤].
﴿الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى﴾.
اللهُ هو الإله الواحد، لا إله غيره، وهو المتصف بصفات الكمال، وكلّ أسمائه حَسنة لأنها تُعبِّر عن أحسن المعاني.
بدأ قصة موسى من الآيات التاسعة وتستمر الى نهاءة الآية السابعة والتسعين، والواقع ان ذِكر موسى في القرآن أكثرُ قَصص المرسَلين وروداً فيه. وتأتي القصة على ما يناسب موضوع السورة. وهنا جاءت قصة موسى لتسلية الرسول الكريم، وتقوية قلوب المؤمنين، وإظهار كيف كانت العاقبة لموسىوالنصر حليفه بعد أن شُرِّدَ، وأذاق فرعونُ قومه ألوانَ العذاب. وقد تحمَّل موسى من المكاره ما تنوء به راسياتُ الجبال، وقابل ذلك بعزمٍ لا يفتر.
هل بلغكَ أيها النبيُّ خبرُ موسى وكيف كان بدء الوحي إليه.. لقد أبصر ناراً في مسيره ليلاً من مَدْيَنَ ومعه زوجتُه وبعضُ اهله، فقال لزوجته ومن معها من أهلِه: انتظِروا في مكانكم، إني أبصرتُ نارا، وأرجو ان أَجيئكم بشُعلة منها، أو أجدَ حول النار من يهديني الطريق. وفي سورة القصص ٢٩ ﴿لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ﴾ هذا يدلّ على أنه كان هناك بعضُ البرد، والجذوة: الجمرة.
فلما بلغ المكانَ الذي رأى فيه النار، سمع صوتاً عُلوياً يناديه: يا موسى. فلم ير شيئاً وتحيَّ روهو يتلفّت يميناً ويسارا. فإذا بالصوت يقول له: إني أنا اللهُ ربك، فاخلَعْ نعلَيك احتراماً للبقعة المدَّسة، وتكريماً للموقف، فإنك بالوادي المطهَّر المبارك المسمَّى «طوى»، وقد اصطفيتُك من قومك بالنبوّة والرسالة، فأصغِ لما أُوحيه إليك لتعيَه وتبلِّغه الى قومك، فإن هذا الّذي جاءك أمرٌ عظيم فتأهّبْ له.
ثم بين الله له أهم ما أوحى اليه:
﴿إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكريا﴾.
لقد عرّفه اللهُ بنفسه وأنه إله واحد إلا هو. ثم بعد ذلك أمرَه بعبادته دون غيره، وان يقيم الصلاة على أحسن وجهٍ ليذكره دائما. فهذان أمران من الأصول: توحيدُ الله، وعبادته بالخلاص. ثم بين الأصلَ الثالث المهم الذي ينكره المشركون والملحِدون. فقال:
﴿إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى﴾.
إن يوم القيامة آتٍ لا محالة، وإني أنا أُخفي توقيته ليُجزى كل عمل وتحاسَبَ كل نفس على ما عملتْ. وقد فسّر بعض المفسرين: أكاد أخفيها: أكاد أظهرها. وفي اللغة خَفَيْتُ الشيء اظهرته.
فلا يصرفنّك يا موسى عن الإيمان بالساعة والاستعدادِ لها من لا يؤمن بها، ولا يصدِّق بالبعث، فهو لا يرجو ثوابا، ولا يخاف عقابا، فإن فعلتَ ذلك يا موسى هلكتَ.
قراءات:
قرأ حمزة: فقال لأهلهُ امكثوا، بضم هاء لأهله. والباقون لأهله بكسر الهاء. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: أني انا ربك بفتح همزة اني. والباقون إني بكسر الهمزة. وقرأ حمزة: وأنّا اخترناك، بصيغة الجمع. والباقون: وانا اخترتك كما هو في المصحف.
﴿وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى﴾.
وبينما موسى مستغرقٌ في لحظاتٍ ربَّانية، في نشوة روحانية مما سمع وما تلقّى، قد نسي نفسه وما جاء من اجله، كما نسيَ أهلَه وما هم فيه - إذا بنداءٍ قُدُسي وسؤال يلقى عليه: ماذا تحمل بيمينك يا موسى؛ واللهُ أعلمُ بما في يده. فقال موسى مجيبا: إنها عصايَ، أعتمدُ عليها في سَيري، وتوقفي، واسوق بها غنمي، وأضرب بها ورق الشجر ليسقط وتأكله الغنم، وليَ فيها حاجاتٌ ومنافع اخرى.
وبعد ان ذكر هذه الأجوبة أمره تعالى بإلقائها لتتبين لها فوائدُ لم يعرفها موسى من قبل.
﴿قَالَ أَلْقِهَا ياموسى فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى﴾.
قال الله لموسى: إرمِ بها على الأرض، فألقها فإذا هي ثعبانٌ عظيم ينتقل من مكان الى مكان. وكانت مفاجأةً لموسى جعلتْه يهرب منها كما جاء في قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ﴾ [النمل: ١٠] [القصص: ٣١].
فلما خافَ منها طمأنَهُ الله وأمره بأخذِها وهي على حالها:
﴿قَالَ خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى﴾.
خذها بيمينك ولا تخف منها، إنا سنرجعها الى حالتها الأولى التي كانت عليها من قبل عصا.
﴿واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء آيَةً أخرى﴾.
أدخِل يدك في جيبك ثم أخرجْها تخرجْ بيضاءَ ناصعةً من غير مرضٍ كالبرص وغيره وذلك لأن موسى كان أسمر، وكان خروجُ يده بيضاء تتلألأ ويسطع منها النور - معجزةً ثانيةً جعلَها الله له بعد العصا. وذلك كله لترى يا موسى بعض معجزات الله الكبرى فتكون دليلاً لك أمام قومك على صِدقك في الرسالة.
وبعد ان زوّده بهذه المعجزات أمره بالذهاب الى فرعون الطاغية فقال:
﴿اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى﴾.
اذهبْ الى الطاغية فرعون المتكبر، وادعُه الى الإيمان بالله الواحد الأحَد، فإنه تجاوز الحدَّ في كفره وطغيانه.
بعد هذا سأل موسى ربه بعض الأمور ليستعين على تبليغ رسالته فقال:
﴿قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لي أَمْرِي واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي....﴾.
لقد طلب من ربّه أربعةَ أمور: أن يشرح له صدره فلا يغضبَ بسرعة حتى يؤدي رسالته، ويسهّل له امره بأن يُمده بالعون والتوفيق لأداء ما كلّفه به، وان يطلق حُبْسَة لسانه حتى يستطيع تبليغ رسالته، ويُفهم الناس ما يقول.
ثم قال: ﴿كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً.. إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً﴾.
إننا اذا تعاونّا على أداء الرسالة، بإمدادك لي بأخي، فلسوفَ ننزّهك عما لا يليق بك، ونذكُرك وحدك ابتغاء مرضاتك، لأنك تفضّلتَ علينا وكنت دائماً عليما بأحوالنا، ومتكفلاً بأمرنا.
قراءات:
قرأ ابن عامر: أشدد بهِ أزري بفتح همزة أشدد، وأشركه في أمري: بضم همزة أشركه، والباقون: اشدد بهمزة وصل، فعل امر، وأشركه: بفتح الهمزة.
﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ﴾.
بعد ان سأل موسى ربه فأطال السؤال، وبسط حاجته، وهو لا يزال في ذلك الموقف الكريم في ضيافة ربه - من عليه ربُّه وأجابه على سؤاله، قائلا: قد اعطيتُك ما سألتَ يا موسى. ولقد سبق ان تفضّلنا عليك بمنةٍ أخرى من قبل، وذلك حين ألهمنا أُمَّك إلهاماً كريما كانت فيه حياتك، ألهمناها ان تضعَك في التابوت، (وهو صندوق صغير) ثم تلقي به في النِّيل، حتى تنجو أنتَ من فرعون، لأنه يقتل كُلَّ ذكر يولد في بني اسرائيل. وشاءت إرادتُنا أن يلقي النيل ذلك التابوت في بستانٍ لفرعون، عدوّي وعدّوك. وبينما فرعون جالس في ذلك البستان مع زوجته إذا بالتابوت يجري به الماء، فأمر فرعونُ غلمانه بإخراجه. وفتحوه، فإذا فيه صبي لطيف. فأحبّه فرعون، وأمر ان يكون تحت رعايته.
﴿وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ على عيني﴾.
وجعلتُ كل من رآك يُحبّك، ومن ثم أحبَّك فرعونُ وزوجته حتى قالت: ﴿قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ عسى أَن يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً﴾ [القصص: ٩]. وحتى تتربَّى برعايتي وكما أُحبّ.
ورحمةً بأُمك، هيَّأتُ الظروف حتى جمعتُك بها، وكانت أُختك تمشي متتبّعةً التابوت حتى علمتْ أينَ ذهب. فجاءت متنكَرة الى قصر فرعون حيث وجدتْهم يطلبون لك مرضعا، فقال: هل أدلُّكم على من يرضعه ويحفظه ويربيه؟ قالوا: نعم، فجاءت بأُمك، ورجعتَ إليها حتى تفرحَ وتُسَرَّ وتقر عينُها بك، ويزول عنها الحزن والقلق عليك.
وكنتَ قد قتلتَ نفساً من أهل مصر فنجّيناك مما لحقَكَ من الخوْفِ والغم، كما جاء في سورة القصص ١٥: ﴿فاستغاثه الذي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الذي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ﴾ وهذا كما يأتي في سورة القصص: حين كبر وشبّ في قصر فرعون، ونزل الميدنةَ يوماً فوجد فيها رجلَين يقتتلان: أحدُهما من شيعته والآخر من شيعة فرعون، فاستغاثه الّذي هو من شِيعته، فوكز موسى المصريَّ بيده فسقط ميتاً. ولم يكن موسى ينوي قتله، فاغتمّ لذلك فهربَ الى مَدْيَن، وهذا معنى قوله تعالى:
﴿وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً﴾.
اختبرناك اختباراً شديداً بالغُربة ومفارقة الأهل والوطن. وامتُحن بالخدمة ورعي الغنم، وهو ربيبُ القصور عند الملوك، وجازَ الامتحانَ ونجحَ في كل عمل عمله.
﴿فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى (*) واصطنعتك لِنَفْسِي﴾.
ونجّيناك من الهمّ الذي لحق بك فذهبتَ الى مدين. وهناك لقيتَ شُعَيْب وتزوّجت ابنته على شرط ان ترعى له الغنم مدة، وأمضيتَها على أحسنِ حال، ثم عدتَ من مدين في الموعد الذي قدرناه لإرسالك، وقد اصفيتك لنفسي وحملِ رسالتي. وفي هذا تشريف كبير لموسى عليه السلام.
بعد ان أجاب الله موسى ما سأله، شرع الكتابُ الكريم يذكر الأوامر والنواهي التي طلب اليه الله ان يقوم بتنفيذها ويؤدي الرسالة على اكمل وجه.
اذهبْ انت وأخوك الى رفعون، مؤيدّين بمعجزاتي التي زودتك بها: العصا واليد البيضاء، وغيرها، كما قال تعالى في الآية ١٠١ من سورة الإسراء: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ ولا تتهاونا في تأديه الرسالة التي حمَّلتكم إياها.
إذهبا الى فرعون معاً وبلِّغاه الرسالة، لأنه طغى وتجبرَّ حتى ادّعى الربوبية ﴿فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى﴾ [النازعات: ٢٤]. وكثيراً ما يخُصُّ فرعونَ بالدعوة لأنه كان متجبرا متألِّهاً، فلو أنه استجابَ للدعوة لآمنَ قومُه جميعا.
ثم أرشدهما كيف يتكونُ دعوتُهما لفرعون بقوله:
﴿فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى﴾.
فكِّلماه بكلامٍ رقيق لين، ليكون أوقعَ في نفسه، لعلَّه يجِيب دعوتكما الى الإيمان، ويخشى عاقبة كفره وطغيانه.
قال موسى وهارون متضرّعَين الى الله: يا ربّنا، إننا نعرف هذا الجبّارَ المتكبر، ونخشى ان يبادرَنا بالأذى والعقوبة، او يزدادَ طغياناً وكفرا.
وهنا يشجّعهما الله تعالى، بأنه معهما. لا تخافا من فرعون، إنني معكما بالرعاية والحفظ، أسمعُ لكل ما يجري في هذا الكون، وأُبصر ما يفعل فرعونُ وغيره، فلا يستطيع ان يُلحق بكما أذى.
اذهبا إلى فرعون فقولا له: إننا رسولان إليك من ربك، جئنا ندعوكَ الى الإيمان به، وسنألك ان تُطلق بني إسرائيل من الأسر والعذاب. وقد أتيناكَ بمعجزةٍ من الله تشهد لنا بصدق ما دعوناك اليه، ﴿والسلام على مَنِ اتبع الهدى﴾.
والسلامةُ والأمنُ نم العذاب على من اتبع رسُلَ ربه، واهتدى بآياته التي ترشد الى الحق.
وان الله قد اوحى الينا ان عذابه الشديد واقع على من كذّبنا واعرض عن دعوتنا.
ذهب موسى وهارون إلى فرعون. وتقول الرواية عن ابن عباس أنهما لما جاءا إلى باب فرعون اقاما مدّةً لا يُذون لهما، ثم أُذِن لهما بعد حجاب شديد، فدخلا ودار بينهما من الحوار ما قصَّه ربنا علينا.
قال فرعون وهو جالس في طغيانه وجبروته: مَن ربكمن الذي أرسلكما يا موسى؟ قالا: ربنا الذي منح نعمةَ الوجود لكل موجود، وأودع في كل شيء صفاتِهِ الخاصة، وخلَقَه على الصورة التي اختارها سبحانه له. ﴿ثُمَّ هدى﴾ ثم أرشده ووجَّه لما خُلق له.
فقال فرعون يحتج بالقرون الأولى الذين لم يعبدوا هذه الإله: وماذا جرى لها؟ فاجابه موسى: ﴿قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى﴾.
ان عِلْمَ هذه القرون عند ربّي، وهي من علوم الغيب، وهي مسجَّلة لديه في كتاب لا يغيب عن علمه شيء منه، ولا ينساه.
ثم عاد الى تتميم كلامه بإبراز الدلائل على الوجود فقال:
﴿الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً....﴾.
انه هو الإله المتفضّل على عباده بالوجود والحفظ، مهَّد لكم الأرضَ فبسطها بقدرته وجعلها لكم كالفراش، وشقّ لكم فيها طرقاً تسلكونها. وأنزلَ المطر عليها تجري به الأنهار فيها، فأخرج أنواعَ النبات المختلفة في ألوانها وطعومها ومنافعها.
وقال لخلقه يوجِّههم الى الانتفاع بما أخرج من النبات، كلوا منها، وارعوا أنعامكم. إن في هذا الخلْق والإبداع والإنعام به دلائلَ واضحة، يهتدي بها أصحابُ العقول الى الايمان بالله ورسالاته.
ثم بين سبحانه أن هذه الدنيا ومن عليها دارُ ممر، وان هناك حياةً أخرى هي الحياة الدائمة فقال:
﴿مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى﴾.
من تراب هذه الارض خلقَ الله آدم وذريته، وإليها يردّهم بعد الموت، ومنها يُخرجهم أحياء مرة اخرى للبعث والجزاء.
ولقد أرينا فرعون على يد موسى المعجزاتِ البينة المؤيدةَ لرسالته وصِدقه في كل ما اخبر به عن الله، ومع هذا كله تمادى فرعون في كفره، وكذّب بكل ما رأى ولم يؤمن.
قراءات:
قرأ الكوفيون: مهدا. والباقون: مهادا بالجمع.
فلما رأى فرعونُ ما عند موسى من الحجج والآيات اتهم موسى بالسِّحر وانه يريد بسحره اخراجه وقومه من أرضه، ويجعلها في يد بني اسرائيل، وقال ذلك ليحمِّس شعبه ويحملَهم على السخط على موسى، فلا يتبعه أحد منهم.
ثمقال: فوالله لنأْتينَّك بسحرٍ مثلِ سحرك، فاجعلْ بيننا وبينك موعدا نجتمع فيه نحن وأنتم، فنبطلَ ما ئجتَ به بما عندنا من السِّحر، ولا يتخلَّفَ من اأحد عن ذلك الموعد في مكانٍ مستوٍ مكشوف حتى يحضُرَه اكبرُ عددٍ من الناس.
قال موسى: ميعادُكم للاجتماع يوم عيدكم الذي تسمّونه يوم الزينة، فيجتمع الناس في ضحى ذلك اليوم، ليكون الحف عاماً، وليشهدَ الناس ما يكون بيننا وبينكم.
فانصرف فرعون من ذلك المجلس، وأمر بجمع أعظم السحرة، وأشرفَ بنفسه على جمْعِ كل وسائل السحر وأدوته. ثم أقبل في الموعد المحدد، وجلس على سرير ملكه وحوله اكابر دولته وأعوانه، واجتمع الناس ينتظرو، ز وجاء موسى يتوكأ على عصاه ومعه اخوه هارون وحدَهما لا سند لهما ولا نصير الا الله يسمع ويرى.
ووقف موسى وحذر السّحرة ﴿قَالَ لَهُمْ موسى وَيْلَكُمْ لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى﴾.
لا تختلقوا على الله الكذب، بزعمكم أن فرعون إله، وتكذِّبوا رسلَ الله، فإن فعلتم استأصلكم الله بعذابٍ شديد، وقد خابَ من افترى على الله الكذب.
فلما سمع السحرةُ كلامَ موسى هاجوا وذُعروا، فتشاوروا فيما بينهم ماذا يفعلو، وبالغوا في كتمان ما يقولون عن موسى وأخيه حتى لا يسمعا ما يُقال عنهما.
ثم يبن الله خلاصة ما استقرّت عليه آراؤهم بعد التشاور السّريّ الذي خاضوا فيه.
﴿إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ....﴾.
إن هذا الرجلَ وأخاه ساحران خبيران بصناعة السِحر، وهما يعملان على إخراجكم من أرضكم، حتى تكون الرياسةُ لهم دونكم.
ثم بين السحرة ما يجب لمقابلة هذا الخطر الداهم فقالوا:
﴿فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى﴾.
اجعلوا ما تكيدون به موسى أمراً متفقاً عليه، ثم احضُروا مصطفّين مجتمعين، وألقوا ما في أيديكم دفعةً واحدة، لتكون لكم في نفوس الناسِ الهيبةُ والغلبة، وقد فاز اليومَ من غلب.
قراءات:
قرأ ابن عمر وعاصم وحمزة ويعقوب: يومُ الزينة بضم ميم يوم. والباقون: يوم الزينة بنصب الميم. وقرأ حمزة والكسائي وحفص ويعقوب: فيُسحتكم: بضم الياء وكسر الحاء والباقون: فيَسحَتكم: بفتح الياء والحاء. وقرأ ابو عمرو: ان هذين لساحران، بتشديد ان ونصب هذين. وقرأ نافع وحمزة والكسائي، وابو بكر عن عاصم: ان هذان لساحران.
باسكان نون ان. وقرأ ابو عمرو وحده: فاجمعوا كيدكم، بهمزة الوصف واسكان الجمي. والباقون: فأجمعوا كيدكم: بهمزة القطع.
بعد ان اتفقوا على الموعد وهو يومُ الزينة، جاؤا مصطفين مستعدّين أتم استعداد وسألوا موسى وخيّروه بين أن يبدأ فيُلقي عصاه، او يكونوا هم البادئين.
قال موسى: بل ابتدئوا، ألقوا ما عندكم. فالقوا حِبالهم وعصَّيهم فاذا هي افاعٍ تسعى.
وخُيّل لموسى أنها حقيقة من شدة سحرهم، واحس بالخوف لِما رآه من أثر السحر. فأدركه الله بلطفه فأوحى اليه قائلا: ﴿لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى﴾ لا تخشَ شيئا، إنك انت الغالب المنتصر على باطلهم. ألقِ العصا التي بيمينك فإنها تبتلع ما زوّروا من السحر، فليس الذي فعلوه إلا كيد ساحر. وكانت صنعة السحر هي الغالبة في ذلك الزمان، وكانوا يضعون الزئبق بطريقة خفية في الحبال والعصي، فعندما تتأثر بحرارة الشمس (وجوُّ مصرَ حارٌّ) تضطرب الحبال وتتحرك فيظنُّ من يراها أنها تسعى.
فلا تخفْ يا موسى، فالساحر لا يفلح امتثل موسى أمر ربه، والقى عصاه فاذا هي حيذَة تسعى. بل إنها اخذت تلقف ما زوّروه من حبال وعصي وتبتلعها. فلما رأى السحرة تلك المعجزة آمنوا بموسى وربه وسجدوا لله قائلين: ﴿آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وموسى﴾ وعلموا أن ما جاء به موسى ليس سحرا.
وقال رئيس السحرة: كنا نغلِب الناسَ بالسحر، فلو كان هذا سحرا فأين الذي ألقيناه من حبال وعصي، أي ذهبت؟ ما هذه العصا الصغيرة التي تأكل كل ما عندنا؟ ان هذا ليس سحرا، انما هو شيء آلهي خارق للعادة؟ ولذلك آمنوا وخرّوا ساجدين.
قال صاحب الكشّاف: سبحان الله، ما أعجبَ أمرهم، قد القوا حبالهم وعصيَّهم للكفر الجحود، ثم ألقوا رؤوسَهم ساعةٍ للشكر والسجود!! وقال ابن عباس رضي الله عنهـ: كانوا اول النهار سحَرة، وفي آخره شهداء بررة، لأن فرعون قتلهم.
ولما خاف فرعون أن يصير ايمانهم سبباً لاقتداء الناس بهم في الإيمان.
﴿قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر﴾.
قال فرعون: كيف تؤمنون بهدون إذنٍ مني؟ إنكم تلاميذُ موسى في السحر وهو كبيركم الذي علمكم إياه، وليس عمله معجزةً كما توهمتم.
ثم هددهم بالقتل والتعذيب تحذيراً لغيرهم من الاقتداء بموسى وهارون: فقال:
﴿فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ﴾.
وأقسم إني لأقطعنّ من كل واحدٍ منكم يدَه ورجلَه المتختلفتين، يده اليمنى، ورجله اليسرى.
ثم يزيد استعلاء بقوته وجبروته فيقول: ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى﴾.
وسوف ترون من هو الذي يكون أشدَّ عذاباً، انا، أم آله موسى وهارون؟
لم يكن يعلم أنه فاتَ الاوان، وان الإيمان قد بلغ ذِروتَه في قلوبهم، وهانت عليهم نفوسُهم في الله، فلن يأبهوا لوعيده وتهديده، فأجابوه مطمئين:
﴿قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات والذي فَطَرَنَا﴾.
اراد فرعون من السحرة ان يرجعوا عن إيمانهم، فثبتوا عليه، ودفعوا تهديده بقولهم: لن نختارك على ما جاءنا من الهدى، وعلى خالِقنا الذي فطرنا وانشأَنا من العدم.
﴿فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ...﴾
افعل ما تريد، إن سلطانك وحكمك لا يتجاوز هذه الحياة الدنيا.
آمنّ بربنا الحق، ليغفرَ لنا ما سلف من الخطايا، وعن ممارسة السحر الذي أكرهَتنا على تعلُّمه والعملش به.
﴿والله خَيْرٌ وأبقى﴾
خيرٌ منك يا فرعون ومن ثوابك، وأبقى منك سلطانا وقدرة.
ثم ختم السحرة كلامهم بهذه الآيات التي تبيّن حال المجرمين، وحال المؤمنين يوم القيامة وم ينتظر كلاً منهم.
﴿إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى﴾.
إن من يلقى الله وهو مجرم بكفره يكون مصيره الى جهنم لا يموت فيها فينتهي عذابه، ولا يحيى حياة طيبة ينتفع فيها بالنعيم.
﴿وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى﴾.
أما من يلاقي ربه على الإيمان وصالح الاعمال، فله المنازل الرفيعة، والدرجاتُ العالية.
ثم فسر تلك المنازل والدرجات بقوله:
﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك جَزَآءُ مَن تزكى﴾.
تلك المنازل هي جنات الاقامة الدائمة، في نعيمٍ خالد، تجري بين اشجارها الأنهار، وذلك الفوز الذي أوتوه جزاءٌ لمن طهّر نفسه من الكفر بالايمان الطاعة والاعمال الصالحة.
قراءات:
قرأ حفص: تلقفْ بفتح القاف وسكون الفاء. وقرأ ابن عامر: تلقّفُ: بتشديد القاف ورفع الفاء. والباقون: تلقف: بتشديد القاف وسكون الفاء. وقرأ حمزة: كيد سحر. والباقون كيد ساحر. قرأ حفص وابن كثير وورش: أمنتم، فعل ماض على انه خبر. وقرأ الباقون: أآمنتم بهمزتين.
﴿وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي... الآية﴾.
لم يذكر في هذه السورة ما الذي حصل بعد مواجهة موسى لفرعون وقومه حيث آمن السحرة وبنو اسرائيل (ولقد فصّل ذلك في سورة اخرى) وانما انتقل الكلام هنا الى الهجرة والنصر الكبير الذي حصل عند عبور البحر وغرقِ فرعون وجنوده. ثم أتبع ذلك بتعدادِ نعمه على بني اسرائيل، وذكّره بأن يكونوا معتدلين فلا يأتوا أعمالاً توجب غضبه، وانه غفار لمن تاب وآمن.
وأوحى الله الى موسى ان يخرج ببني إسرائيل ليلا، وان يشقّ لهم طريقا في البحر، وطمأَنه ان لا يخاف من فرعون فإنه لن يدركهم.
وضرب موسى بعصاه البحر، فانشق شقَّين، كل جانب كأنه طودٌ عظيم كما جاء في سورة الشعراء ﴿فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم﴾، واجتازه موسى ومن معه.
وتبعهم فرعونُ وجنوده، ودخلوا الطريق نفسها فانطبق عليهم الماء، وغشيَهم من اليمّ ما غشيَهم، وغرقوا جميعا. هكذا اضل فرعون قومه عن الحق، وغرّر بهم فهلكوا.
ثم عدد الله نعمه عليهم فقال:
﴿يابني إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِّنْ عَدُوِّكُمْ...﴾.
لقد أنجيناكم من عدوّكم فرعونَ وجنودِهِ حين كانوا يسومونكم سوءَ العذاب، وقد أقرّ الله أعينكم بغرقِهم وأنتم تنظرون، كما قال تعالى: ﴿وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ﴾ [البقرة: ٥٠].
﴿وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن﴾.
وواعدناكم جانب الطور الأيمن بمناجاةِ موسى لربه وإنزال التوراة عليهم، ونَزَّل عليكم المنَّ والسلوى رزقاً طيباً من الحلو ولحم الطير الشهي. وقلْنا لكم: كلوا من تلك اللذائذ التي أنعمنا بها عليكم، ولا تطغوا فيه: لا تظلموا وتبطَروا فتركبوا المعاصي ولا تُسرفوا بل عيشوا في هذه النعم، حتى لا ينزل عليكم غضبي، ومن ينزل عليه فقد هلك.
وإني لذو مغفرة عظيمة لمن يتوب عن شِركه، ويقلع عن ذنبه، ويخلص في العمل، ويؤدي فرائضي. فهذه أربعة شروط كاملة تتحقق بها التوبة الحقيقية.
قراءات:
قرأ الجمهور: قد انجيناكم، وواعدناكم بنون الجمع. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: قد أنجيتك من وواعدتكم، وقرأ الجمهور: «ما رزقناكم» بنونالجمع، وقرأ حمزة والكسائي وخلف: «ما رزقتكم» بتاء المفرد.
قرأ حمزة: لا تخف دركا. والقاون: لا تخاف دركا. وقرأ الكسائي: فيحلّ عليكم غضبي: بضم الحاء، ومن يحلل عليه غضبي: بضم اللام. والباقون: بالكسر فيحِل، ومن يحلِل عليه.
﴿وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى﴾.
سأله ربه عن سبب تعجُّله بالمجيء إليه وتركِ قومه خلفه، والله اعلم بما سأل. فقال موسى مجيبا:
﴿قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى﴾. انهم لاحقون بي، وإنما عجِلتُ إليك وتقدمتُهم يا ربي رغبةً في رضاك.
يقول بعض المفسرين: ان موسى ذهب الى الميعاد قبل الوقت المحدد وترك قومه وراءه ليلحقوا به، وهذا سببُ لومِ ربه له على الاستعجال بالمجيء.
والقصة هنا مختصرة، وقد مرت مفصلة في سورة البقرة وسورة الأعراف، وذلك ان موسى لما نجا هو وقومه من فرعون، واستقر في سيناء، واعَدَه ربه، وضرب له ميقاتا كما جاء في سور الاعراف ١٤٢ ﴿وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ.... الآية﴾ فذهب إلى ربه عند الطور، وكلّمه وتلقّى عنه. وكان استخلف أخاه هارون على بني اسرائيل. فجاءهم السامريّ وأضلهم بجعلِه لهم عِجلاً من الذهب له صوتٌ، فعكفوا عليه يعبدونه، ولم يستطع هارون ان يردّهم عن غيّهم وكفرهم. وقد اخبره ربه بأن قومه من بعده قد ضلّوا فقال:
﴿قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري﴾.
لقد أوصلهم الى اتخاذ العجلِ إلهاً والدعاء الى عبادته، وظهر عندهم الاستعداد لذلك، لأنهم حديثو عهد بالوثنية في مصر. وفي سورة الاعراف سألوا موسى ان يجعل لهم إلها كما للقوم الذين مرّوا عليهم آلهة: ﴿فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾.
﴿فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً﴾.
عاد موسى الى قومه بعد ان قضى الميعاد وهو في غضبٍ شديد وحزنٍ لِما أحدثوه بعده، وخاطب قومه منكِرا عليهم عملهم:
﴿قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً﴾.
لقد وعدكم ربكم بالنجاة والهداية بإنزال التوراة، والنصر، فهل تناسيتُم وعدَ ربكم؟.
﴿أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد﴾.
لم يطل عليكم العهدُ حتى تنسوا وعد الله لكم، أم أردتم بسوء صنيعكم ان ينزل بكم غضبُ الله جزاء عبادتكم العجلَ، فأخلفتم عهدَكم لي!!
فاعتذروا بعذرٍ عجيب إذ قالوا: ﴿قَالُواْ مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا﴾.
نحن لم نخلفْ موعدك باختيارنا، ﴿ولكنا حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ القوم فَقَذَفْنَاهَا﴾ وإنّما غَلَبَنا السامريّ وحملنا أثقالاً من حَلي المصريين الذي خرجنا به، فقذفناها في النار بإشارة السامريّن فصاغ لنا عجْلاً جسدا له صوت.
قال السامري ومن تبعه: هذا معبودُكم ومعبود موسى، ونسيَ السامري ربَّه فعمل هذا العمل السّيء وأضلَّ به القوم.
وقال عدد من المفسرين: نسي موسى الطريق الى ربه وضلّ عنه، وهذا غير واضح. وتكلم المفسرون في السامري كلاماً طويلا، عن أصله، واسمه وهل هو من بني اسرائيل او هو قبطي. وهذا كله كلام طويل لا طائل تحته. والسامري يهودي من بني اسرائيل دحّال.
ثم ردّ عليهم الله سبحانه مقبّحاً افعالهم، مسفِّهاً أحلامهم بقوله:
﴿أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً﴾.
افلا يعتبرون ويتفكرون في ان هذا العِجل لا يتكلم ولا يردّ على اقوالهم، وانه لا يستطيع ان يدفع عنهم ضرراً، ولا ان يجلب لهم نفعا، فكيف يتخذونه إلهاً! وتقدير الكلام: أفلا يرون انه لا يرجعُ اليهم قولاً.
وليس اتخاذ العجل من الذهب إلهاً بغريب على اليهود، فإنهم عبيد الذهب والمادة منذ خُلقوا. ومن يقرأ التلمود يجد العجائب في استحلال كل شيء في سبيل المال والحصولِ عليه، فهم يحلّلون كل وسيلة في أخذ المال من غير اليهود لأن كل ما في الارض لهم وحدهم.
قراءات:
قرأ الجمهورك على أثري بفتح الهمزة. وقرأ رويس عن يعقوب: على إثري بكسر الهمزة وسكون الثاء. قرأ نافع وعاصم: بملكنا بفتح الميم. وقرأ ابن كثير وابن عامر وابو عمرو ويعقبو: بملكنا بكسر الميم. وقرأ حمزة والكسائي وخلق: بملكنا بضم الميم وهي ثلاث لغاة. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم، ورويس عن يعقوب: حملنا بضم الحاء وتشديد الميم المكسورة. وقرأ ابو بكر وحمزة وابو عمرو والكسائي: حملنا بفتح الحاء والميم مخففة بدون تشديد.
﴿وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ...﴾.
في هذه الآيات تتمةٌ للقصة، فقد نصح هارونُ لقومه الذين عبدوا العِجل قبل رجوع موسى، فقال لهم: يا قوم، ما الذي غركم من عبادة هذا العجل فوقعتم في فتنة السامري؟ إن إلهكم الحق هو الرحمن، فاتبعوني فيما أنصحكم به واطيوني أهدِكم سبيل الرشاد. فلم يسمعوا نصحة، ولم يطيعوا أمره وأجابوه بعناد:
﴿قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى﴾.
سنبقى مستمرّين على عبادة العجل الى أن يعود إلينا موسى.
وجاء موسى: فالتفت الى أخيه هارون بعد ان فرغ من خطاب قومه وبيان خطأهم. ﴿قَالَ ياهرون مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي﴾.
قال موسى متأثرا مما رآه من عمل قومه: يا هارون، اي سبب منعك ان تلحقني الى الطور بمن آمنَ معك من قومك، حين رأيت الباقين قد ضلّوا بعبادتهم للعجل؟ أخرجتَ عن طاعتي وخالفت امري؟. فقال هارون مجيباً أخاه في رفق ولين:
﴿قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي﴾.
قال هارون لموسى: يا ابن أمي، لا تغضبْ عليّ ولا تجرَّني بلحيتي، ومن شعر رأسي. لقد خفتُ إن شددتُ عليهم ان يتفرقوا، فتقول لي: لقد فرّقت بين بني اسرائيل، ولم تخلُفْني فيهم كما أمرتُك، ولم تحفظ وصيتي كما عهدت اليك. وقد رأيت من الصواب ان أحفظ العامة، وأداريهم على وجه لا يختلّ به نظامهم حتى ترجع فنتداركَ الأمر بحسب ما ترى. ولقد كادوا يقتلونني، كما جاء في سورة الأعراف الآية ٥٠ ﴿إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي.﴾ وبعد ان انتهى موسى من سماع اقوال قومه واسنادهم الفساد الى السامري، ومن سماع اعتذار هارون، التفت الى السامري ووجه الخطاب اليه:
﴿قَالَ: فَمَا خَطْبُكَ ياسامري﴾.
ما هذا المر الخطيب الذي أتيتَ، وأفسدتَ به بني اسرائيل؟. ﴿قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول فَنَبَذْتُهَا وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي﴾.
قال السامري لموسى: إني علمتُ ما لم يعلمه قومك، وصنعتُ لهم العِجل من الذهب فعبدوه. وقد اتّبعتُك مدةً واخذتُ من دينك، ثم تبيّن لي أنه غير صحيح فتركته.
فكأن السامريّ يريد ان يهرب نم ذكر الحقائق ويموّه على موسى.
هذا ما أراه أقرب الى الصواب في تفسير هذه الآية، وبهذا المعنى قال عدد من المفسرين المحديثن، ولكن اكثر المفسّرين القدامى قالوا: إن المراد بالرسول هو جبريل، وان السامريّ رآه راكبا على فرس، واخذ ترابا من أثرِ الفرس، وألقاه على العِجل حتى صار له خوار. وذكروا أقوالا كثيرة، وروايات عديدة.!!
وهناك معركة كبيرة بين المرحوم عبد الوهاب النجار، ولجنة من علماء الأزهر حول السامري والعجل وحقيقتهما، لمن اراد الاطلاع عليها ان يجدها في كتاب «قصص الانبياء» ص ٢٢٠ - ٢٢٣.
﴿قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ....﴾.
قال موسى للسامري: اذهبْ فأنت طريدٌ لا يمسّك أحد، ولا تمس أحداً، بعيداً عن الناس، معزولا عنهم، لا يخالطك احد.
وخرج السامري طريدا في البراري. هذا جزاؤه في الدنيا. أما في الآخرة فله موعدٌ محدد لعذابه لا مفرّ منه. وقد ند موسى به وبالهه قائلا: انظر الى إلهك الذي عبدته، ماذا نصنع به؟ سنحرقه ونلقيه في البحر حتى نتخلّص منه.
ثم يعلنُ بعد ذلك كلّه حقيقة العقيدة، والدين الحق فيقول:
﴿إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً﴾.
وبهذه الآية وما فيها من غعلان عن الاله الحقيقي الذي لا اله الا هو ينتهي هذا القدْر من قصة موسى في هذه السورة، وتتجلى فيه رحمةُ الله ورعايته بحَمَلِة دعوته من عباده.
قراءات:
قرأ الجمهور: يا ابن أمّض بفتح الميم. وقرأ ابن عامر وحمزية والكسائي وابو بكر وخلف: يا ابن أُم بكسر الميم.
وقرأ الجمهور: بصرت بما لم يبصروا: بالياء. وقرأ حمزة والكسائي وخلف: بما لم تبصروا بالتاء، على انه خطاب لموسى وقومه. وقرأ الجمهور: لن تخلفه: بفتح اللام. وقرأ ابن كثير ويعقبوك لن تخلفه: بكسر اللام.
بعد ان ذكر الله تعالى قصص موسى مع فرعون ثم السامريَّ وفتنته، بيّن للرسول الكريم في هذه الآيات ان مثل هذا القصص عن الأمم الماضية يلقيه سبحانه وتعالى إليه تسلية لقلبه وإذهابا لحزنه حتى يعلم ان ما يحدث له قد حدث مثلُه للرسل من قبله.
﴿مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً﴾ ان من كذّب بهذه القرآن واعرض عن اتّباعه، فانه يضل في حياته، ويأتي يوم القيامة حاملاً إثم عناده، ويجازَى بالعذاب الشديد. وسيكون هؤلاء خالدين في ذلك العذاب.
﴿وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً﴾.
بئس الحمل الي حملوه من الأوزار في ذلك اليوم العصيب. ذلك اليوم الذي يُنفخ فيها بالصور، ويُساق المجرمون الى المحشَر زُرق الالوان، يرهق وجوهَهم الذلّ، يتهامسون بينهم من الرعب، ويقول بعضهم لبعض ما لبثتم في الدنيا إلا عشرةَ أيام.
والله يسمع تهامسهم وهو أعلمُ بما يقولون بينهم، كما يعلم ما يقول أعدَلُهم رأياً واكملهم عقلا: ما لبثتم إلا يوما واحدا.
ويسألك المنكرِون للبعث ايها الرسول عن مصير الجبال يوم القيامة، فقل لهم: ان الله تعالى يفتّتها، ثم ينسِفها هباء.
اخرج ابنُ المنذر عن ابن جريرج قال: قالت قريش يا محمد، كيف يفعل ربك بهذه الجبال يوم القيامة؟ فنزلت ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال....﴾.
ثم بعد ذلك يدع أماكنها بعد نسفِها ملساءَ مستوية، ولا تبصِر العين في الأرض انخفاضا ولا ارتفاعا، وكأنها لم تكن معمورة من قبل.
﴿يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ﴾.
يومئذ يرى الناس هذه الاهوال، يتّبعون داعي الله الى المحشر، يجمعهم فيه الى موقف الجزاوء والحساب، ولا يستطيع احد ان يعدل عنه.
﴿وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن...﴾.
بالسكون والرهبةِ لعظَمة الله، فلا تسمع إلا صوتاً خفيّا لا يكاد يبين.
يومئذ لا تنفع الشفاعة من أحد، الا من أكرمه الله فأذِن له بالشفاعة، ورضي قولَه فيها، ولا تنفع الشفاعة في أحد الا من أذِن الرحمن في ان يُشفع له.
والله تعالى يعلم ما تقدّم من امورهم في دنياهم، وما يستقبلونه في الآخرة، ولا يحيطون علماً بتدبيره وحكمته.
وكما ذكر سبحانه وتعالى خشوع الاصوات أتبعَه خضوعَ ذويها فقال:
﴿وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً﴾.
وبعد ان ذكر أهوال يوم القيامة بيّن حال المؤمنين في ذلك اليوم فقال:
﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً﴾.
أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وجاؤا ربَّهم في ذلك اليوم، فإنهم في كَنَفِ الله وضيافته، لا يخافون من ظلمٍ ولا نقصٍ لحقوقهم. ﴿وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧].
قراءات:
قرأ الجمهور: يوم ينفخ في الصور بالياء، وقرأ ابو عمرو وحده: ننفخ بالنون. وقرأ الجمهور: فلا يخاف ظلماً ولا هضما: بالياء. وقرأ ابن كثير: فلا يخف بالجزم.
﴿وكذلك أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً....﴾.
وكما انزلنا ما ذُكر من البيان الحق الذي سلف في هذه السورة، كذلك أنزلنا القرآن كلَّه بأسلوب عربي واضح، وصَرَّفنا فيه القول في أساليب الوعيد ليجتنبوا الشِرك والوقوعَ في المعاصي، او يتذكروه غذا اذنبوا فيتوبوا الى الله ويسألوه العفو.
﴿فتعالى الله الملك الحق...﴾.
تقدّس الله المتصرفُ بالأمر والنهي، المحقُّ في أُلوهيته وعظمته. ولا تَعْجَلْ يا محمد بقراءة القرآن من قبلِ ان يُتمَّ جبريلُ تبليغه اليك. أَنصِتْ حين نزول الوحي بالقرآن عليك، حتى يفرغ المَلَكُ من قراءته، ثم اقرأه بعده.
﴿وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً﴾.
بالقرآنِ ومعانيه وكل شيء. وهذا يدل على فضيلة العلم، فان الله تعالى لم يأمر رسوله بطلب الزيادة في شيء إلا في العلم. ولقد قام الاسلام على العلم والتعلم من بدايته، وبالعلم سيطرت الأمم المسيطِرة في الوقت الحار، ولو أننا اتّبعنا القرآن حق اتباعه لكنّا اليومَ في الذروة من كل شيء.
وسبب نزول هذه الآية ان الرسول الكريم كان اذا لقَّنه جبريلُ الوحي، يتبعه عند تلفظ كل كلمةٍ وكل حرف، لكمالِ اعتنائه بالتلقّي والحفظ، فأرشده الله الى التأني ريثما يسمعه ويفهمه. ونحوه قوله تعالى: ﴿لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٦ - ١٩].
روى الترمذي عن ابي هريرة قال: «كان رسول الله ﷺ يقول:» اللهمّ انفعني بما علّمتني، وعلّمني ما ينفعني، وزِدني علما، والحمدُ لله على كل حال، واعوذ باللهِ من حالِ أهل النار «
قراءات:
قرأ يعقوب: من قبل أن نقضي اليك وحيه. بفتح النون وكسر الضاد ونصب وحيه. والباقون: من قبل ان يُقضَى اليك وحيُه، بضم الياء ورفع وحيه.
﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إلىءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً﴾.
بعد تلك الجولة الطويلة في قصة موسى، والعرضِ الموجز لأحوال القيامة وتذكيرِ الناس بأهوال ذلك اليوم العظيم، ثم ذكرِ القرآن وما فيه من وعيد ومن احكام، والأمر للرسول ان لا يعجل في تلقّيه خوف ان ينسى - يأتي الحديث هنا عن قصة آدم. فقد نسيَ آدمُ ما عهِد الله به اليه، وضَعُفَ أمام الإغراء بالخلود فاستمع لوسوسةِ الشيطان. وكان هذا ابتلاءً من ربّه قبل ان يعهد اليه بخلافة الأرض. ثم تداركت رحمةُ الله آدم فاجتباه وهداه.
ولقد وصينا آدم وقلنا له أن لا يخالف لنا أمرا، فنسي العهدَ وخالف، ولم نجدْ له ثباتا في الرأي، ولا تصميماً قوياً يمنع من ان يتسلل الشيطان الى نفسه بوسوسته.
ثم بين الله تعالى ما عهد اليه به وكيفية نسيانه وفقدان عزمه فقال:
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى....﴾.
اذكر ايها الرسول حين امرنا الملائكةَ ان يسجدوا لآدم سجودَ تعظيم، فامتثلوا ولبّوا الأمر، إلا ابليس الذي امتنع وأبى ان يكون من الساجدين.
فقلنا يا آدم ان هذا الذي رأيتَ منه ما رأيت عدوٌّ لك ولزوجتك، فاحذرا وسوستَه فلا يكونن سبباً إلخراجكما من الجنة فتشقى يا آدم بعد الخروج. إن في هذه الجنة عيشا هينئاً رغداً بلا كلفة ولا مشقة، فلا جوع فيها ولا عُري، ولا ظمأ ولا حر شمس.
﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان....﴾.
بعد ان بين الله أنه عظّم آدم وعرّلإه شدة عداوة ابليس، ذكر هنا أن آدم أطاعَ إبليس، وأكلض من الشجرة المحرّمة عليه، لأن إبليسَ جاءه وقال له: هل أدلّك على شجرةٍ إن اكلتَ منها خلّدت ولم تمتْ أبدا!؟ فنسي آدم العهد وأكل هو وزوجته، وخالفا أمر ربهما، فظهرت لهما عوراتُهما جزاء مخالفتهما الأوامر الربانية، وصارا يقطعان من ورقِ شجر الجنّة، ويستران بها ما بدا منهما.
﴿وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى﴾.
خالف آدم أمر ربه، فحُرِم الخلد، وأفسد على نفسه تلك الحياة الهنيئة التي كان يعيشها.
﴿ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى﴾.
ثم ادركتْ آدمَ وزوجتَه رحمةُ الله بعد ما عصاه، فاصطفاه للرسالة، وقبل توبته، وهداه الى الخير.
قراءات:
قرأ نافع وابو بكر: (وإنك) لا تظمأ فيها، بكسر ان. والباقون: (وأنك) بفتح الهمزة.
أمر الله آدم وزوجته ان يخرجا من الجنة، فقال لهما انزِلا منها الى الأرض، وأخبرَهَما بان العداوة ستكون بين ذريتهما، وان الله تعالى سيمدّهم بالهدى، فمن استقام واتبع الهدى منهم فإنه لا يضِلّ في هذه الحياة، ولا يشقى بالعذاب.
روي عن النبي ﷺ ان قال: «من اتبع كتاب الله هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه سوء الحساب يوم القيامة» ومن أعرضَ عن هدى الله وطاعته، فإن له معيشةً ضيقة شديدة ﴿وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى﴾ أي أعمى البصيرة عاجزاً عن الحُجّة التي عيتذر بهان فيسأل ربَّه في هذا الموقف الحرج:
﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً﴾.
فيقول: يا ربّ، لِمَ حشرتَني أعمى عن حجتي وعن رؤية الاشياء على حقيقتها وقد متُ في الدنيا ذا بصرٍ بذلك؟.
فيجيبه ربه بقوله: ﴿... كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى﴾.
لقد جاءتك آياتنا ورسُلنا في الدنيا فنسيتها، وتعاميتَ عنها، وكذلك اليوم تُترك وتنسى.
وهكذا نعاقِب في الدنيا من أسرفَ فعصى ربه ولم يؤمن به وبرسُله، وان عذاب الآخرة في النار أشدّ أَلما، واكثر بقاء، لأنه لا نهاية له.
﴿أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى﴾.
افلم يرشدْهم الى وجهِ العِبرَ، إهلاكُنا لكثيرٍ من الأمم الماضية قبلهم بسبب كفرهم، ولم يتّعظوا بهم مع أنهم يمشُون في ديارِهم ومساكنهم، ويشهدون آثار ما حلّ بهم من العذاب! ان ما يشاهدون، ويرون من آثار ما حلّ بهم لدلائلَ وعبراً واضحة لأصحاب العقول الراجحة.
ولولا حكمٌ سبقَ من ربك بتأخير العذاب عنهم إلى أجلٍ مسمّى هو يوم القيامة، لكان العذابُ لازماً لهم في الدنيا، كما حل بأصحاب القرون الماضية. وتقدير الكلام: ولوا كلمة واجلٌ مسمى لكان العذابُ لِزَاماً.
فاصبر أيها الرسول على ما يقولون من كفرٍ واستهزاء، واتّجه إلى ربك وسبذِح بحمده قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، ونزهْه واعبدْه في ساعات الليل، وفي أطراف النهار. ﴿لَعَلَّكَ ترضى﴾ فتطمئنَّ الى ما أنتَ عليه.
ولما صبَّر رسوله الكريم على ما يقولون وأمَرَه بالعبادة والتسبيح، أتبع ذلك بنهْيهِ عن مدِّ عينيه إلى ما مُتِّعوا به من زينة الدنيا فقال:
﴿وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ...﴾.
ولا تتعدّ بنظرك الى ما متعنا به أصنافاً من الكفار، لأن هذا المتاع زينةُ الحياة الدنيا وزخرفها، يمتحن الله به عباده في الدنيا. ﴿وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى﴾ يدّخره لك الله في الآخرة، وهو رزق نعمةٍ لا للفتنة، رزقٌ طيب باق، وهو خير من هذا المتاع الزائل.
عن زيد بن ثابت قال: «سمعت رسول الله ﷺ يقول:» من كانت الدنيا همَّه، فرَّق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأتِه من الدنيا الا ما كتبَ له «
وهذه التَّنبيهات ليست دعوةً للزهد في طيبات الحياة، ولكنها دعوة الى الاعتزاز بالقِيم الأصيلة الباقية، وبالصِلة بالله والرضى به.
قراءات:
قرأ ابو بكر والكسائي:» لعلك تُرضى «بضم التاء. والباقون: طلعلك ترضى» بفتح التاء.
﴿وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ والعاقبة للتقوى﴾.
دوامْ على الصلاة ووجِّهْ أهلك أن يؤدوها في اوقاتها، فان أول واجبات المسلم أن يحوِّل بيته الى بيتٍ مسلم. ونحن لا نكلّفك مالا، بل عملاً نؤتيك عليه أجراً عظيما. إننا نعطيك الرزق، والعاقبةُ الصالحة لأهل الخسية والتقوى، والانسان هو الرابح بالعبادة في دنياه وأخراه.
قراءات:
قرأ يعقوب: زَهَرة الحياة. بفتح الزاء والهاء وهي لغة. والباقون: زهرة، بسكون الهاء.
وقال المشركون المتعنتون في عنادهم: لماذا لا يأتينا محمدٌ بمعجزة تدلّ على صدقه في دعوى النبوة؟ ألم يأتِهم القرآنُ؟ وهو اكبر بينةٍ جاء مشتملاً على ما في الكتب السابقة من أنباء الأمم الماضية، وكفى بذلك آية.
وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة البقرة ١١٨، وفي سورة يونس الآية ٢٠.
ولو أهلكنا هؤلاء المكذِّبين قبل ان ننزل عليهم القرآن على يد رسول كريم لقالوا: ربّنا، هلاّ ارسلتَ الينا رسولا قبل ان تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه، من قبل ان ينزل بنا العذابُ واخزي في الآخرة؟! ولكن الله بإرساله النبي الكريم قطع جميع حججهم وأعذارهم.
﴿قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصراط السوي وَمَنِ اهتدى﴾.
قل ايها الرسول لهؤلاء المعاندين: إننا جميعاً منتظِرون فتربَّصوا وارتقبوا، فستعلمون من هم أهلُ الطريق المستقيم، وأيّ الفريقين صاحب الدين الحق والمهتدي بهدى الله.
وهكذا خُتمت سورة طه بأن يؤمر الرسول أن يترك هؤلاء المشركين فلا يشقى بهمن ولا يكرُبُه عدم إيمانهم. وقد بدأت السورة بنفي الشقاء عن النبيّ الكريم من تنزيل القرآن، وحددت وظيفةَ القرآن بأنه تذكرةٌ لمن يخشى. وجاء الخاتم متناسقاً مع المطلع كل التناسق، فهو التذكِرة الأخيرة لمن ينفعه التذكير، وسيندم المخالفُ حيث لا ينفع الندم.