تفسير سورة الأنبياء

أضواء البيان
تفسير سورة سورة الأنبياء من كتاب أضواء البيان المعروف بـأضواء البيان .
لمؤلفه محمد الأمين الشنقيطي . المتوفي سنة 1393 هـ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سُورَةُ الْأَنْبِيَاءِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي أَوَّلِ سُورَةِ «النَّحْلِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ أَخْفَوُا النَّجْوَى فِيمَا بَيْنَهُمْ، قَائِلِينَ: إِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا هُوَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُهُمْ، فَكَيْفَ يَكُونُ رَسُولًا إِلَيْهِمْ؟ وَالنَّجْوَى: الْإِسْرَارُ بِالْكَلَامِ وَإِخْفَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ. وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ دَعْوَاهُمْ أَنَّ بَشَرًا مِثْلَهُمْ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا، وَتَكْذِيبُ اللَّهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ جَاءَ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْ ذَلِكَ، كَقَوْلِهِ: وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا [١٧ ٩٤] وَقَوْلِهِ: فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ الْآيَةَ [٦٤ ٦] وَقَوْلِهِ: أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ [٥٤ ٢٤] وَقَوْلِهِ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ [٢٣ ٣٣ - ٣٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ الْآيَةَ [٢٥ ٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا الْآيَةَ [١٤ ١٠]. وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ جِدًّا، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُ ذَلِكَ.
وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّعْوَى الْكَاذِبَةَ الَّتِي هِيَ مَنْعُ إِرْسَالِ الْبَشَرِ، كَقَوْلِهِ هُنَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [٢١ ٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً الْآيَةَ [١٣ ٣٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ
133
وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ [٢٥ ٢٠] وَقَوْلُهُ هُنَا: وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [٢١ ٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَجُمْلَةُ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ قِيلَ: بَدَلٌ مِنَ «النَّجْوَى». أَيْ: أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّتِي هِيَ هَذَا الْحَدِيثُ الْخَفِيُّ الَّذِي هُوَ قَوْلُهُمْ: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وَصَدَّرَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَقِيلَ: مَفْعُولٌ بِهِ لِلنَّجْوَى. لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْخَفِيِّ. أَيْ: قَالُوا فِي خُفْيَةٍ: هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ. وَقِيلَ: مَعْمُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: قَالُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَهُوَ أَظْهَرُهَا؛ لِاطِّرَادِ حَذْفِ الْقَوْلِ مَعَ بَقَاءِ مَقُولِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ ظَلَمُوا أَوْجُهٌ كَثِيرَةٌ مِنَ الْإِعْرَابِ مَعْرُوفَةٌ، وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي أَنَّهَا بَدَلٌ مِنَ الْوَاوِ فِي قَوْلِهِ: وَأَسَرُّوا بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ بَدَلَ الْبَعْضِ مِنَ الْكُلِّ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ الْمُتَّصِلَةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [٣ ٩٧]، . فَقَوْلُهُ مَنْ بَدَلٌ مِنْ «النَّاسِ» : بَدَلُ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ لِوُجُوبِ الْحَجِّ بِأَنَّهُ لَا يَجِبُ إِلَا عَلَى مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. كَمَا قَدَّمْنَا هَذَا فِي سُورَةِ «الْمَائِدَةِ».
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ.
إِعْرَابُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ جَارٍ مَجْرَى إِعْرَابِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، الَّتِي هِيَ هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ زَعَمُوا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِحْرٌ، وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ الزَّعْمِ الْبَاطِلِ أَنْكَرُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ إِتْيَانَ السِّحْرِ وَهُمْ يُبْصِرُونَ. يَعْنُونَ بِذَلِكَ تَصْدِيقَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْ: لَا يُمْكِنُ أَنْ نُصَدِّقَكَ وَنَتَّبِعَكَ، وَنَحْنُ نُبْصِرُ أَنَّ مَا جِئْتَ بِهِ سِحْرٌ. وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمُ ادَّعَوْا أَنَّ مَا جَاءَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سِحْرٌ، كَقَوْلِهِ عَنْ بَعْضِهِمْ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ [٧٤ ٢٤]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [٥١ ٥٢]. وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَعْوَاهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ سِحْرٌ بِقَوْلِهِ هُنَا: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [٢١ ٤] يَعْنِي أَنَّ الَّذِي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ الَّذِي هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، الْمُحِيطُ عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، وَكَوْنُ مَنْ أَنْزَلَهُ هُوَ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ صِدْقِهِ فِي الْأَخْبَارِ وَعَدْلِهِ فِي الْأَحْكَامِ، وَسَلَامَتِهِ مِنْ جَمِيعِ الْعُيُوبِ، وَالنَّقَائِصِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِسِحْرٍ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْآيَةَ [٢٥ ٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
134
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [٤ ١٦٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ حَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ بِأَلِفٍ بَعْدِ الْقَافِ وَفَتْحِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ الْمَاضِي، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ قُلْ بِضَمِّ الْقَافِ وَإِسْكَانِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ.
الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِضْرَابَ فِي قَوْلِهِ هُنَا: بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ [٢١ ٥] إِلَخْ، إِضْرَابٌ انْتِقَالِيٌّ لَا إِبْطَالِيٌّ، لِأَنَّهُمْ قَالُوا ذَلِكَ كُلَّهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ:
كُلُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي حَكَاهَا اللَّهُ عَنْهُمْ صَدَرَتْ مِنْ طَائِفَةٍ مُتَّفِقَةٍ لَا يَثْبُتُونَ عَلَى قَوْلٍ، بَلْ تَارَةً يَقُولُونَ هُوَ سَاحِرٌ، وَتَارَةً شَاعِرٌ، وَهَكَذَا؛ لِأَنَّ الْمُبْطِلَ لَا يَثْبُتُ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ قَالَتْهُ طَائِفَةٌ، كَمَا قَدَّمْنَا الْإِشَارَةَ إِلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ [١٥ ٩١]، وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الدَّعَاوَى الْبَاطِلَةَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَرَدِّهِ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ شَاعِرٌ أَوْ كَاهِنٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [٦٩ ٤١ - ٤٧]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [٣٦]، وَقَوْلِهِ فِي رَدِّ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ افْتَرَاهُ: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [١٠ ٣٧ - ٣٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [١١ ١٣]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [١٢ ١١١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ فِي رَدِّ دَعْوَاهُمْ أَنَّهُ كَاهِنٌ أَوْ مَجْنُونٌ: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [٥٢ ٢٩]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [٨١ ٢٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ
135
[٣٤ ٤٦] وَقَوْلِهِ: أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [٢٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الْمُبَيِّنَةِ إِبْطَالَ كُلِّ مَا ادَّعَوْهُ فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقُرْآنِ.
وَقَوْلُهُ أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ [٢١ ٥] أَيْ: أَخْلَاطٌ كَالْأَحْلَامِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي يَرَاهَا النَّائِمُ وَلَا حَقِيقَةَ لَهَا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَحَادِيثُ طسم أَوْ سَرَابٌ بِفَدْفَدِ تَرَقْرَقَ لِلسَّارِي وَأَضْغَاثُ حَالِمِ
وَعَنِ الْيَزِيدِيِّ: الْأَضْغَاثُ مَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تَأْوِيلٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ اقْتَرَحُوا عَلَى نَبِيِّنَا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ كَآيَاتِ الرُّسُلِ قَبْلَهُ؛ نَحْوِ نَاقَةِ صَالِحٍ، وَعَصَى مُوسَى، وَرِيحِ سُلَيْمَانَ، وَإِحْيَاءِ عِيسَى لِلْأَمْوَاتِ، وَإِبْرَائِهِ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِيضَاحُ وَجْهِ التَّشْبِيهِ فِي قَوْلِهِ: كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ هُوَ أَنَّهُ فِي مَعْنَى: كَمَا أَتَى الْأَوَّلُونَ بِالْآيَاتِ؛ لِأَنَّ إِرْسَالَ الرُّسُلِ مُتَضَمِّنٌ لِلْإِتْيَانِ بِالْآيَاتِ. فَقَوْلُكَ أَرْسَلَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُعْجِزَةِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا لَوْ جَاءَتْهُمْ مَا آمَنُوا، وَأَنَّهَا لَوْ جَاءَتْهُمْ وَتَمَادَوْا عَلَى كُفْرِهِمْ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مُسْتَأْصِلٍ، كَمَا أَهْلَكَ قَوْمَ صَالِحٍ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا الْآيَةَ [١٧ ٥٩] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ [٦ ١٠٩]. وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا فِي قَوْلِهِ: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ [٢١ ٦] يَعْنِي أَنَّ الْأُمَمَ الَّذِينَ اقْتَرَحُوا الْآيَاتِ مِنْ قَبْلِهِمْ وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِمَا اقْتَرَحُوا لَمْ يُؤْمِنُوا، بَلْ تَمَادَوْا فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ، وَأَنْتُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ عُتُوًّا وَعِنَادًا. فَلَوْ جَاءَكُمْ مَا اقْتَرَحْتُمْ مَا آمَنْتُمْ، فَهَلَكْتُمْ كَمَا هَلَكُوا. وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [١٠ ٩٦ - ٩٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَبَيِّنَ أَنَّهُمْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ هِيَ أَعْظَمُ الْآيَاتِ، فَيَسْتَحِقُّ مَنْ لَمْ يَكْتَفِ بِهَا التَّقْرِيعَ وَالتَّوْبِيخَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ الْآيَةَ [٢٩
- ٥١]. وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ: وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي
136
الصُّحُفِ الْأُولَى [٢٠ ١٣٣] وَقَوْلِهِ: وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا إِلَى قَوْلِهِ: وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ [٢١ ٨]، قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ.
بَيِّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَاتِ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَى الْأُمَمِ فَكَذَّبُوهُمْ، وَأَنَّهُ وَعَدَ الرُّسُلَ بِأَنَّ لَهُمُ النَّصْرَ وَالْعَاقِبَةَ الْحَسَنَةَ، وَأَنَّهُ صَدَقَ رُسُلَهُ ذَلِكَ الْوَعْدَ فَأَنْجَاهُمْ. وَأَنْجَى مَعَهُمْ مَا شَاءَ أَنْ يُنْجِيَهُ. وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ آمَنَ بِهِمْ مِنْ أُمَمِهِمْ، وَأَهْلَكَ الْمُسْرِفِينَ وَهُمُ الْكُفَّارُ الْمُكَذِّبُونَ الرُّسُلَ، وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [١٢ ١١٠] وَقَوْلِهِ: فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [١٤ ٤٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [١٤ ١٣ - ١٤] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ [٣٧ ١٧١ - ١٧٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا الْآيَةَ [١١ ٥٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا الْآيَةَ [١١ ٦٦] وَقَوْلِهِ: وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا [١١ ٩٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ «صَدَقَ» تَتَعَدَّى بِنَفْسِهَا وَبِالْحَرْفِ، تَقُولُ: صَدَقْتُهُ الْوَعْدَ، وَصَدَقْتُهُ فِي الْوَعْدِ، كَقَوْلِهِ هُنَا: ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ [٢١ ٩] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ [٣ ١٥٢] فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: «صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ كَقَوْلِهِ: وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا» - لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَالْإِسْرَافُ: مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ فِي الْمَعَاصِي كَالْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ إِطْلَاقُ الْمُسْرِفِينَ عَلَى الْكُفَّارِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ.
«وَكَمْ» هُنَا لِلْإِخْبَارِ بِعَدَدٍ كَثِيرٍ، وَهِيَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ؛ لِأَنَّهَا مَفْعُولُ «قَصَمْنَا» أَيْ: قَصَمْنَا كَثِيرًا مِنَ الْقُرَى الَّتِي كَانَتْ ظَالِمَةً، وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ. وَهَذَا الْمَعْنَى الْمَذْكُورُ هُنَا جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ
الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا [١٧ ١٧] وَقَوْلِهِ: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا الْآيَةَ [٢٢ ٤٥] وَقَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا [٦٥ ٨ - ٩] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَمْ قَصَمْنَا أَصْلُ الْقَصْمِ: أَفْظَعُ الْكَسْرِ؛ لِأَنَّهُ الْكَسْرُ الَّذِي يُبَيِّنُ تَلَاؤُمَ الْأَجْزَاءِ، بِخِلَافِ الْفَصْمِ - بِالْفَاءِ - فَهُوَ كَسْرٌ لَا يُبَيِّنُ تَلَاؤُمَ الْأَجْزَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَصْمِ فِي الْآيَةِ: الْإِهْلَاكُ الشَّدِيدُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ الْآيَةَ [٢١ ١٨]. قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ»، وَكَذَلِكَ الْآيَاتُ الَّتِي بَعْدَ هَذَا، قَدْ قَدَّمْنَا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مَا يُبَيِّنُهَا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - قَالُوا عَلَيْهِ: إِنَّهُ اتَّخَذَ وَلَدًا. وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى بَيَانًا شَافِيًا فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ. سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُ الظَّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. وَبَيَّنَ هُنَا بُطْلَانَ مَا ادَّعَوْهُ عَلَى رَبِّهِمْ مِنِ اتِّخَاذِ الْأَوْلَادِ - وَهُمْ فِي زَعْمِهِمُ الْمَلَائِكَةُ - بِحَرْفِ الْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ الَّذِي هُوَ «بَلْ» مُبَيِّنًا أَنَّهُمْ عِبَادُهُ الْمُكْرَمُونَ، وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا لِسَيِّدِهِ. ثُمَّ أَثْنَى عَلَى مَلَائِكَتِهِ بِأَنَّهُمْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ، لَا يَسْبِقُونَ رَبَّهُمْ بِالْقَوْلِ، أَيْ: لَا يَقُولُونَ إِلَّا مَا أَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوهُ لِشِدَّةِ طَاعَتِهِمْ لَهُ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ عَبِيدُهُ وَمِلْكُهُ، وَالْعَبْدُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا لِسَيِّدِهِ، أَشَارَ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ؛ كَقَوْلِهِ فِي «الْبَقَرَةِ» : وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ [٢ ١١٦] وَقَوْلِهِ فِي «النِّسَاءِ» : إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا [٤ ١٧١] أَيْ: وَالْمَالِكُ لِكُلِّ شَيْءٍ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ يُنَافِي الْوَلَدِيَّةَ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُوجَدَ شَيْءٌ سِوَاهُ إِلَّا
وَهُوَ مِلْكٌ لَهُ - جَلَّ وَعَلَا -.
وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنَ الثَّنَاءِ الْحَسَنِ عَلَى مَلَائِكَتِهِ - عَلَيْهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ - بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى. عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ [٦٦ ٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ [٨٢ ١٠ - ١٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ [٢١ ١٩ - ٢٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
مَسْأَلَةٌ
أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْقُرْآنِ أَنَّ الْأَبَ إِذَا مَلَكَ ابْنَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ. فَنَفَى اللَّهُ تِلْكَ الدَّعْوَى بِأَنَّهُمْ عِبَادُهُ وَمِلْكُهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى مُنَافَاةِ الْمِلْكِ لِلْوَلَدِيَّةِ، وَأَنَّهُمَا لَا يَصِحُّ اجْتِمَاعُهُمَا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمَلَائِكَةِ الْمَذْكُورِينَ فِي قَوْلِهِ: بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ [٢١ ٢٦] وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ مَعَ كَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ لَوِ ادَّعَى أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّ لَهُ الْحَقَّ فِي صَرْفِ شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ الْخَاصَّةِ بِهِ إِلَيْهِ لَكَانَ مُشْرِكًا، وَكَانَ جَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّعْلِيقَ يَصِحُّ فِيمَا لَا يُمْكِنُ وَلَا يَقَعُ، فَقَوْلُهُ: قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ الْآيَةَ [٤٣ ٨١] وَقَوْلِهِ: لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا [٢١ ٢٢] وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ تَعْظِيمُ أَمْرِ الشِّرْكِ. وَهَذَا الْفَرْضُ وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - هُنَا فِي شَأْنِ الْمَلَائِكَةِ ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي شَأْنِ الرُّسُلِ، عَلَى الْجَمِيعِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ، قَالَ تَعَالَى: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [٣٩ ٦٥] وَلَمَّا ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - مَنْ ذَكَرَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ» فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ [٦ ٨٤] إِلَى آخَرِ مَنْ ذَكَرَ مِنْهُمْ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [٦ ٨٨].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ الْآيَةَ [٢١ ٢٩] دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ الْخَالِصَةَ لَهُ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصْرَفَ شَيْءٌ مِنْهَا لِأَحَدٍ وَلَوْ مَلِكًا مُقَرَّبًا، أَوْ نَبِيًّا مُرْسَلًا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [٣ ٧٩ - ٨٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُخَاطِبًا لِسَيِّدِ الْخَلْقِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ -: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [٣ ٦٤].
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا ابْنَ كَثِيرٍ «أَوَلَمْ يَرَ» بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ «أَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا» بِدُونِ وَاوٍ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مُصْحَفِ مَكَّةَ. وَالِاسْتِفْهَامُ لِتَوْبِيخِ الْكُفَّارِ وَتَقْرِيعِهِمْ، حَيْثُ يُشَاهِدُونَ غَرَائِبَ صُنْعِ اللَّهِ وَعَجَائِبَهُ، وَمَعَ هَذَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ مَا لَا يَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهُ، وَلَا يَضُرُّ مَنْ عَصَاهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ.
وَقَوْلُهُ: كَانَتَا التَّثْنِيَةُ بِاعْتِبَارِ النَّوْعَيْنِ اللَّذَيْنِ هُمَا نَوْعُ السَّمَاءِ وَنَوْعُ الْأَرْضِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا [٣٥ ٤١] وَنَظِيرُهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ شَيْبَةَ:
أَلَمْ يُحْزِنْكَ أَنَّ جِبَالَ قِيسٍ وَتَغْلِبَ قَدْ تَبَايَنَتَا انْقِطَاعًا
وَالرَّتْقُ مَصْدَرُ رَتَقَهُ رَتْقًا: إِذَا سَدَّهُ. وَمِنْهُ الرَّتْقَاءُ، وَهِيَ الَّتِي انْسَدَّ فَرْجُهَا، وَلَكِنَّ الْمَصْدَرَ وُصِفَ بِهِ هُنَا، وَلِذَا أَفْرَدَهُ وَلَمْ يَقُلْ كَانَتَا رَتْقَيْنِ. وَالْفَتْقُ: الْفَصْلُ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ الْمُتَّصِلَيْنِ، فَهُوَ ضِدُّ الرَّتْقِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يَهُونُ عَلَيْهِمْ إِذَا يَغْضَبُو نَ سُخْطُ الْعِدَاةِ وَإِرْغَامُهَا
وَرَتْقُ الْفُتُوقِ وَفَتْقُ الرُّتُوقِ وَنَقْضُ الْأُمُورِ وَإِبْرَامُهَا
وَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَقْوَالٍ، بَعْضُهَا فِي غَايَةِ السُّقُوطِ، وَوَاحِدٌ مِنْهَا تَدُلُّ لَهُ قَرَائِنُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ:
140
الْأَوَّلُ أَنَّ مَعْنَى كَانَتَا رَتْقًا أَيْ: كَانَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ مُتَلَاصِقَةً بَعْضُهَا مَعَ بَعْضٍ، فَفَتَقَهَا اللَّهُ وَفَصَلَ بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَرَفَعَ السَّمَاءَ إِلَى مَكَانِهَا، وَأَقَرَّ الْأَرْضَ فِي مَكَانِهَا، وَفَصَلَ بَيْنَهُمَا بِالْهَوَاءِ الَّذِي بَيْنَهُمَا كَمَا تَرَى.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ كَانَتْ رَتْقًا، أَيْ: مُتَلَاصِقَةً بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، فَفَتَقَهَا اللَّهُ وَجَعَلَهَا سَبْعَ سَمَاوَاتٍ، كُلُّ اثْنَتَيْنِ مِنْهَا بَيْنَهُمَا فَصْلٌ، وَالْأَرَضُونَ كَذَلِكَ كَانَتْ رَتْقًا فَفَتَقَهَا، وَجَعَلَهَا سَبْعًا بَعْضُهَا مُنْفَصِلٌ عَنْ بَعْضٍ.
الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى كَانَتَا رَتْقًا أَنَّ السَّمَاءَ كَانَتْ لَا يَنْزِلُ مِنْهَا مَطَرٌ، وَالْأَرْضُ كَانَتْ لَا يَنْبُتُ فِيهَا نَبَاتٌ، فَفَتَقَ اللَّهُ السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ، وَالْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ.
الْقَوْلُ الرَّابِعُ: كَانَتَا رَتْقًا أَيْ: فِي ظُلْمَةٍ لَا يُرَى مِنْ شِدَّتِهَا شَيْءٌ، فَفَتَقَهُمَا اللَّهُ بِالنُّورِ. وَهَذَا الْقَوْلُ فِي الْحَقِيقَةِ يَرْجِعُ إِلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي.
الْخَامِسُ: - وَهُوَ أَبْعَدُهَا لِظُهُورِ سُقُوطِهِ - أَنَّ الرَّتْقَ يُرَادُ بِهِ الْعَدَمُ، وَالْفَتْقُ يُرَادُ بِهِ الْإِيجَادُ، أَيْ: كَانَتَا عَدَمًا فَأَوْجَدْنَاهُمَا. وَهَذَا الْقَوْلُ كَمَا تَرَى.
فَإِذَا عَرَفْتَ أَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْلَ الثَّالِثَ مِنْهَا - وَهُوَ كَوْنُهُمَا كَانَتَا رَتْقًا بِمَعْنَى أَنَّ السَّمَاءَ لَا يَنْزِلُ مِنْهَا مَطَرٌ، وَالْأَرْضَ لَا تُنْبِتُ شَيْئًا، فَفَتَقَ اللَّهُ السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ، وَالْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ - قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهِ قَرَائِنُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى:
الْأُولَى: أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ [٢١] يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ رَأَوْا ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْأَظْهَرَ فِي «رَأَى» أَنَّهَا بَصَرِيَّةٌ، وَالَّذِي يَرَوْنَهُ بِأَبْصَارِهِمْ هُوَ أَنَّ السَّمَاءَ تَكُونُ لَا يَنْزِلُ مِنْهَا مَطَرٌ، وَالْأَرْضُ مَيِّتَةٌ هَامِدَةٌ لَا نَبَاتَ فِيهَا، فَيُشَاهِدُونَ بِأَبْصَارِهِمْ إِنْزَالَ اللَّهِ الْمَطَرَ وَإِنْبَاتَهُ بِهِ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ.
الْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ [٢١]. وَالظَّاهِرُ اتِّصَالُ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبِلَهُ، أَيْ: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ الَّذِي أَنْزَلْنَاهُ بِفَتِقِنَا السَّمَاءَ، وَأَنْبَتْنَا بِهِ أَنْوَاعَ النَّبَاتِ بِفَتِقِنَا الْأَرْضَ - كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ.
الْقَرِينَةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ [٨٦ ١٢] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّجْعِ نُزُولُ الْمَطَرِ مِنْهَا تَارَةً بَعْدَ أُخْرَى، وَالْمُرَادَ بِالصَّدْعِ انْشِقَاقُ الْأَرْضِ عَنِ النَّبَاتِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا الْآيَةَ
141
[٨٠ ٢٤ - ٢٦].
وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ عَطِيَّةَ، وَغَيْرُهُمَا؛ لِلْقَرَائِنِ الَّتِي ذَكَرْنَا. وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ كَثْرَةُ وُرُودِ الِاسْتِدْلَالِ بِإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَإِنْبَاتِ النَّبَاتِ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَلَى كَمَالِ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعِظَمِ مِنَّتِهِ عَلَى خَلْقِهِ، وَقُدْرَتِهِ عَلَى الْبَعْثِ. وَالَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالرَّتْقِ وَالْفَتْقِ أَنَّهُمَا كَانَتَا مُتَلَاصِقَتَيْنِ، فَفَتَقَهُمَا اللَّهُ وَفَصَلَ بَعْضَهُمَا عَنْ بَعْضٍ - قَالُوا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَ أَنَّهَا مِنْ «رَأَى» الْعِلْمِيَّةِ لَا الْبَصْرِيَّةِ، وَقَالُوا: وَجْهُ تَقْرِيرِهِمْ بِذَلِكَ أَنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، وَمَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ أَمْرٌ قَطْعِيٌّ لَا سَبِيلَ لِلشَّكِّ فِيهِ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَقْرَبُ الْأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا ذَكَرْنَا دَلَالَةَ الْقَرَائِنِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: وَرَجَّحُوا هَذَا الْوَجْهَ عَلَى سَائِرِ الْوُجُوهِ بِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا وَذَلِكَ لَا يَلِيقُ إِلَّا وَلِلْمَاءِ تَعَلُّقٌ بِمَا تَقَدَّمَ، وَلَا يَكُونُ كَذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْوَجْهُ مَرْجُوحٌ؛ لِأَنَّ الْمَطَرَ لَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاوَاتِ بَلْ مِنْ سَمَاءٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ سَمَاءُ الدُّنْيَا.
قُلْنَا: إِنَّمَا أَطْلَقَ عَلَيْهِ لَفْظَ الْجَمْعِ لِأَنَّ كُلَّ قِطْعَةٍ مِنْهَا سَمَاءٌ، كَمَا يُقَالُ: ثَوْبٌ أَخْلَاقٌ، وَبُرْمَةٌ أَعْشَارٌ. اهـ مِنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ.
الظَّاهِرُ أَنَّ «جَعَلَ» هُنَا بِمَعْنَى خَلَقَ؛ لِأَنَّهَا مُتَعَدِّيَةٌ لِمَفْعُولٍ وَاحِدٍ. وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النُّورِ» : وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ [٢٤ ٤٥].
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى خَلْقِ كُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَاءِ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمَاءُ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ كُلُّ شَيْءٍ هُوَ النُّطْفَةُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ جَمِيعَ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تُولَدُ عَنْ طَرِيقِ التَّنَاسُلِ مِنَ النُّطَفِ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْمَاءُ الْمَعْرُوفُ؛ لِأَنَّ الْحَيَوَانَاتِ إِمَّا مَخْلُوقَةً مِنْهُ مُبَاشَرَةً كَبَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي تَتَخَلَّقُ مِنَ الْمَاءِ، وَإِمَّا غَيْرَ مُبَاشِرَةٍ؛ لِأَنَّ النُّطَفَ مِنَ الْأَغْذِيَةِ، وَالْأَغْذِيَةُ كُلُّهَا نَاشِئَةٌ عَنِ الْمَاءِ، وَذَلِكَ فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَنَحْوِهَا ظَاهِرٌ، وَكَذَلِكَ هُوَ فِي اللُّحُومِ، وَالْأَلْبَانِ، وَالْأَسْمَانِ وَنَحْوِهَا؛ لِأَنَّهُ كُلُّهُ نَاشِئٌ بِسَبَبِ الْمَاءِ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى خَلْقِهِ كُلَّ حَيَوَانٍ مِنْ مَاءٍ أَنَّهُ كَأَنَّمَا خَلَقَهُ مِنَ الْمَاءِ
142
لِفَرْطِ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ، وَقِلَّةِ صَبْرِهِ عَنْهُ، كَقَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ [٢١ ٣٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْمَعَانِيَ الْأَرْبَعَةَ الَّتِي تَأْتِي لَهَا لَفْظَةُ «جَعَلَ» وَمَا جَاءَ مِنْهَا فِي الْقُرْآنِ وَمَا لَمْ يَجِئْ فِيهِ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ».
وَقَالَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا نَصُّهُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: كَيْفَ قَالَ: وَخَلَقْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ حَيَوَانٍ؟ وَقَدْ قَالَ: وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ [١٥ ٢٧] وَجَاءَ فِي الْأَخْبَارِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْمَلَائِكَةَ مِنَ النُّورِ، وَقَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي [٥ ١١٠] وَقَالَ فِي حَقِّ آدَمَ: خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ [٣ ٥٩].
وَالْجَوَابُ: اللَّفْظُ وَإِنْ كَانَ عَامًّا إِلَّا أَنَّ الْقَرِينَةَ الْمُخَصِّصَةَ قَائِمَةٌ، فَإِنَّ الدَّلِيلَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مُشَاهَدًا مَحْسُوسًا؛ لِيَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى الْمَقْصُودِ. وَبِهَذَا الطَّرِيقِ تَخْرُجُ عَنْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْجِنُّ، وَآدَمُ، وَقِصَّةُ عِيسَى عَلَيْهِمُ السَّلَامُ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمْ يَرَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. اهـ مِنْهُ.
ثُمَّ قَالَ الرَّازِيُّ أَيْضًا: اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ الْحَيَوَانُ فَقَطْ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ يَدْخُلُ فِيهِ النَّبَاتُ، وَالشَّجَرُ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْمَاءِ صَارَ نَامِيًا، وَصَارَ فِيهِ الرُّطُوبَةُ، وَالْخُضْرَةُ، وَالنُّورُ، وَالثَّمَرُ. وَهَذَا الْقَوْلُ أَلْيَقُ بِالْمَعْنَى الْمَقْصُودِ، كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَفَتَقْنَا السَّمَاءَ لِإِنْزَالِ الْمَطَرِ، وَجَعَلْنَا مِنْهُ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ مِنَ النَّبَاتِ وَغَيْرِهِ حَيًّا. حُجَّةُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: أَنَّ النَّبَاتَ لَا يُسَمَّى حَيًّا. قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا [٣٠ ٥٠] انْتَهَى مِنْهُ أَيْضًا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ.
قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ.
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ثَلَاثَ مَسَائِلَ:
الْأُولَى: أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - جَعَلَ السَّمَاءَ سَقْفًا، أَيْ: لِأَنَّهَا لِلْأَرْضِ كَالسَّقْفِ لِلْبَيْتِ.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ السَّقْفَ مَحْفُوظًا.
الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْكُفَّارَ مُعْرِضُونَ عَمَّا فِيهَا - أَيِ السَّمَاءِ - مِنَ الْآيَاتِ، لَا يَتَّعِظُونَ بِهِ، وَلَا يَتَذَكَّرُونَ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الثَّلَاثَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ
أَمَّا كَوْنُهُ جَعَلَهَا سَقْفًا فَقَدْ ذَكَرَهُ فِي سُورَةِ «الطُّورِ» أَنَّهُ مَرْفُوعٌ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ [٥٢ - ٥].
وَأَمَّا كَوْنُ ذَلِكَ السَّقْفِ مَحْفُوظًا فَقَدْ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، فَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنَ السُّقُوطِ فِي قَوْلِهِ: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [٢٢ ٦٥] وَقَوْلِهِ: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ [٣٠ ٢٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا [٣٥ ٤١] وَقَوْلِهِ: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [٢ ٢٥٥] وَقَوْلِهِ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ [٢٣ ١٧] عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ. إِذْ لَوْ كُنَّا نَغْفُلُ لَسَقَطَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ فَأَهْلَكَتْهُمْ. وَبَيَّنَ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّشَقُّقِ وَالتَّفَطُّرِ، لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَرْمِيمٍ وَلَا إِصْلَاحٍ كَسَائِرِ السُّقُوفِ إِذَا طَالَ زَمَنُهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ [٦٧ ٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ [٥٠ ٦] أَيْ: لَيْسَ فِيهَا مِنْ شُقُوقٍ، وَلَا صُدُوعٍ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ السَّقْفَ الْمَذْكُورَ مَحْفُوظٌ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ، كَقَوْلِهِ: وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ [١٥ ١٧] وَقَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى حِفْظِهَا مِنْ جَمِيعِ الشَّيَاطِينِ فِي سُورَةِ «الْحِجْرِ». وَأَمَّا كَوْنُ الْكُفَّارِ مُعْرِضِينَ عَمَّا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ فَقَدْ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ [١٢ ١٠٥] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا الْآيَةَ [٥٤ ٢] وَقَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ [١٠ ٩٦ - ٩٧] وَقَوْلِهِ: وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ [١٠ ١٠١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَقُولُونَ: هُوَ شَاعِرٌ يُتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، وَلَعَلَّهُ يَمُوتُ كَمَا مَاتَ شَاعِرُ بَنِي فَلَانٍ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: قَدْ مَاتَ
144
الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِكَ، وَتَوَلَّى دِينَهُ بِالنَّصْرِ وَالْحِيَاطَةِ، فَهَكَذَا نَحْفَظُ دِينَكَ وَشَرْعَكَ.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَمَّا نَعَى جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَفْسَهُ قَالَ: «فَمَنْ لِأُمَّتِي» ؟ فَنَزَلَتْ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ [٢١ ٣٤] وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ؛ لِأَنَّ السُّورَةَ مَكِّيَّةٌ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِبَشَرٍ قَبْلَ نَبِيِّهِ الْخُلْدَ أَيْ: دَوَامَ الْبَقَاءِ فِي الدُّنْيَا، بَلْ كُلُّهُمْ يَمُوتُ.
وَقَوْلُهُ: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ مَعْنَاهُ النَّفْيُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّكَ إِنْ مِتَّ فَهُمْ لَنْ يَخْلُدُوا بِعْدَكَ، بَلْ سَيَمُوتُونَ، وَلِذَلِكَ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ [٣ ١٨٥] وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَيَمُوتُ، وَأَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ، وَأَنَّ الْمَوْتَ سَتَذُوقُهُ كُلُّ نَفْسٍ أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [٣٩ ٣] وَكَقَوْلِهِ: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ [٥٢ ٢٦ - ٢٧] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» : كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [٣ ١٨٥] وَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» : يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ [٢٩ ٥٦ - ٥٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ «النِّسَاءِ» : أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ [٤ ٧٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» اسْتِدْلَالَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ عَلَى مَوْتِ الْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي قَوْلِهِ: فَهُمُ الْخَالِدُونَ هُوَ اسْتِفْهَامٌ حُذِفَتْ أَدَاتُهُ. أَيْ: أَفَهُمُ الْخَالِدُونَ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ أَنَّ حَذْفَ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ إِذَا دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهَا جَائِزٌ، وَهُوَ قِيَاسِيٌّ عِنْدَ الْأَخْفَشِ مَعَ «أَمْ»، وَدُونَهَا ذِكْرُ الْجَوَابِ أَمْ لَا، فَمِنْ أَمْثِلَتِهِ دُونَ «أَمْ» وَدُونَ ذِكْرِ الْجَوَابِ قَوْلُ الْكُمَيْتِ:
طَرِبْتُ وَمَا شَوْقًا إِلَى الْبِيضِ أَطْرَبُ وَلَا لَعِبًا مِنِّي وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ
يَعْنِي: أَوْ ذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ. وَقَوْلُ أَبِي خِرَاشٍ الْهُذَلِيِّ وَاسْمُهُ خُوَيْلِدٌ:
رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلِدُ لَمْ تُرَعْ فَقُلْتُ وَأَنْكَرْتُ الْوُجُوهَ هُمُ هُمُ
يَعْنِي: أَهُمْ هُمْ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَمِنْ أَمْثِلَتِهِ دُونَ «أَمْ» مَعَ ذِكْرِ الْجَوَابِ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ:
145
يَعْنِي: أَتَحُبُّهَا عَلَى الصَّحِيحِ. وَهُوَ مَعَ «أَمْ» كَثِيرٌ جِدًّا، وَأَنْشَدَ لَهُ سِيبَوَيْهِ قَوْلَ الْأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ التَّمِيمِيِّ:
ثُمَّ قَالُوا تُحِبُّهَا قُلْتُ بَهْرَا عَدَدَ النَّجْمِ وَالْحَصَى وَالتُّرَابِ
لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِيًا شُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ أَمْ شُعَيْثُ بْنُ مِنْقَرِ
يَعْنِي: أَشُعَيْثُ بْنُ سَهْمٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ الْمَخْزُومِيِّ:
بَدَا لِي مِنْهَا مِعْصَمٌ يَوْمَ جَمَّرَتْ وَكَفٌّ خَضِيبٌ زُيِّنَتْ بِبَنَانِ
فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي وَإِنِّي لَحَاسِبٌ بِسَبْعٍ رَمَيْتُ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانِ
يَعْنِي: أَبِسَبْعٍ. وَقَوْلُ الْأَخْطَلِ:
كِذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالًا
يَعْنِي: أَكْذَبَتْكَ عَيْنُكَ. كَمَا نَصَّ سِيبَوَيْهِ فِي كِتَابِهِ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْأَخْطَلِ هَذَا، وَإِنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ الْخَلِيلَ قَائِلًا: إِنَّ «كَذَبَتْكَ» صِيغَةٌ خَبَرِيَّةٌ لَيْسَ فِيهَا اسْتِفْهَامٌ مَحْذُوفٌ، وَإِنَّ «أَمْ» بِمَعْنَى بَلْ. فَفِي الْبَيْتِ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ نَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ يُسَمَّى «الرُّجُوعَ». وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ وَأَكْثَرْنَا مِنْ شَوَاهِدِهَا الْعَرَبِيَّةِ فِي كِتَابِنَا (دَفْعُ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ عَنْ آيَاتِ الْكِتَابِ) فِي سُورَةِ «آلِ عِمْرَانَ» وَذَكَرْنَا أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي آيَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» هَذِهِ فَهُمُ الْخَالِدُونَ مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَفَإِنْ مِتَّ قَرَأَهُ نَافِعٌ وَحَفْصٌ، عَنْ عَاصِمٍ وَحَمْزَةَ، وَالْكِسَائِيِّ «مِتَّ» بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَالْبَاقُونَ بِضَمِّ الْمِيمِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» وَجْهَ كَسْرِ الْمِيمِ. وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْرَحَ بِمَوْتِ أَحَدٍ لِأَجْلِ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ يَنَالُهُ بِسَبَبِ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ هُوَ لَيْسَ مُخَلَّدًا بَعْدَهُ.
وَرُوِيَ عَنِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ أَنْشَدَ هَذَيْنِ الْبَيْتَيْنِ مُسْتَشْهِدًا بِهِمَا:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ وَإِنْ أَمُتْ فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ
فَقُلْ لِلَّذِي يَبْقَى خِلَافَ الَّذِي مَضَى تَهَيَّأْ لِأُخْرَى مِثْلِهَا فَكَأَنْ قَدِ
وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ الْآخَرِ:
فَقُلْ لِلشَّامِتِينَ بِنَا أَفِيقُوا سَيَلْقَى الشَّامِتُونَ كَمَا لَقِينَا
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ.
146
الْمَعْنَى: وَنَخْتَبِرُكُمْ بِمَا يَجِبُ فِيهِ الصَّبْرُ مِنَ الْبَلَايَا، وَمِمَّا يَجِبُ فِيهِ الشُّكْرُ مِنَ النِّعَمِ، وَإِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُجَازِيكُمْ عَلَى حَسَبِ مَا يُوجَدُ مِنْكُمْ مِنَ الصَّبْرِ أَوِ الشُّكْرِ، وَقَوْلِهِ: فِتْنَةً مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِـ وَنَبْلُوكُمْ مِنْ غَيْرِ لَفْظِهِ.
وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ أَنَّهُ يَبْتَلِي خَلْقَهُ أَيْ: يَخْتَبِرُهُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ - قَدْ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [٧ ١٦٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [٦ ٤٢ - ٤٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [٧ ٩٤ - ٩٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةِ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ «بَلَا يَبْلُو» تُسْتَعْمَلُ فِي الِاخْتِبَارِ بِالنِّعَمِ وَبِالْمَصَائِبِ وَالْبَلَايَا. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّرِّ «بَلَا يَبْلُو»، وَفِي الْخَيْرِ «أَبْلَى يُبْلِي». وَقَدْ جَمَعَ اللُّغَتَيْنِ فِي الْخَيْرِ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى:
جَزَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ مَا فَعَلَا بِكُمْ وَأَبْلَاهُمَا خَيْرَ الْبَلَاءِ الَّذِي يَبْلُو
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي قَوْلِهِ: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ قَالَ: أَيْ نَبْتَلِيكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً بِالشِّدَّةِ، وَالرَّخَاءِ، وَالصِّحَّةِ، وَالسُّقْمِ، وَالْغِنَى، وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ، وَالْحَرَامِ، وَالطَّاعَةِ، وَالْمَعْصِيَةِ، وَالْهُدَى، وَالضَّلَالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا رَأَوُا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَتَّخِذُونَهُ إِلَّا هُزُوًا، أَيْ مُسْتَهْزَأً بِهِ مُسْتَخَفًّا بِهِ. وَالْهُزُؤُ: السُّخْرِيَةُ، فَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ. وَيَقُولُونَ: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أَيْ: يَعِيبُهَا وَيَنْفِي أَنَّهَا تَشْفَعُ لَكُمْ وَتُقَرِّبُكُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى،
147
وَيَقُولُ: إِنَّهَا لَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا، وَلَا تَضُرُّ مَنْ لَمْ يَعْبُدْهَا، وَهُمْ مَعَ هَذَا كُلِّهِ كَافِرُونَ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ، فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا رَآكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَ «إِنْ» فِي قَوْلِهِ: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ نَافِيَةٌ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ قَالَ فِيهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: إِنَّهُ لِلْإِنْكَارِ وَالتَّعْجِيبِ. وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ الْمَذْكُورِ التَّحْقِيرَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ قَرِينَةُ قَوْلِهِ: إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي أَنَّ مِنَ الْأَغْرَاضِ الَّتِي تُؤَدَّى بِالِاسْتِفْهَامِ التَّحْقِيرَ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ جَوَابَ «إِذَا» هُوَ الْقَوْلُ الْمَحْذُوفُ، وَتَقْدِيرُهُ: وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَقُولُونَ أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ. وَقَالَ: إِنَّ جُمْلَةَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ إِذَا وَجَوَابِهَا. وَاخْتَارَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ أَنَّ جَوَابَ «إِذَا» هُوَ جُمْلَةُ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ وَقَالَ: إِنَّ جَوَابَ إِذَا بِجُمْلَةٍ مُصَدَّرَةٍ بِـ «إِنْ» أَوْ «مَا» النَّافِيَتَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى الِاقْتِرَانِ بِالْفَاءِ. وَقَوْلِهِ: يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أَيْ: يَعِيبُهَا. وَمِنْ إِطْلَاقِ الذِّكْرِ بِمَعْنَى الْعَيْبِ قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [٢١ ٦٠] أَيْ: يَعِيبُهُمْ، وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
لَا تَذْكُرِي مُهْرِي وَمَا أَطْعَمْتُهُ فَيَكُونُ جِلْدُكِ مِثْلَ جِلْدِ الْأَجْرَبِ
أَيْ لَا تَعِيبِي مُهْرِي، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الذِّكْرُ يَكُونُ بِخَيْرٍ وَبِخِلَافِهِ، فَإِذَا دَلَّتِ الْحَالُ عَلَى أَحَدِهِمَا أُطْلِقُ وَلَمْ يُقَيَّدْ، كَقَوْلِكَ لِلرَّجُلِ: سَمِعْتُ فُلَانًا يَذْكُرُكَ، فَإِذَا كَانَ الذَّاكِرُ صَدِيقًا فَهُوَ ثَنَاءٌ، وَإِنْ كَانَ عَدُوًّا فَذَمٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [٢١ ٦٠] وَقَوْلِهِ: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [٢١ ٣٦] انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَالْجُمْلَةُ فِي قَوْلِهِ: وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ حَالِيَّةٌ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَعْنَى كُفْرِهِمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُوَ الْمُوَضَّحُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا [٢٥ ٦٠] وَقَوْلُهُمْ: مَا نَعْرِفُ الرَّحْمَنَ إِلَّا رَحِمْنَ الْيَمَامَةَ، يَعْنُونَ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابَ. وَقَدْ بَيَّنَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَنَّ إِنْكَارَهُمْ لِمَعْرِفَتِهِمُ الرَّحْمَنَ تَجَاهُلٌ مِنْهُمْ وَمُعَانَدَةٌ مَعَ أَنَّهُمْ يَعْرِفُونَ أَنَّ الرَّحْمَنَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ شُعَرَاءِ الْجَاهِلِيَّةِ الْجُهَلَاءُ:
أَلَا ضَرَبَتْ تِلْكَ الْفَتَاةُ هَجِينَهَا أَلَا قَطَعَ الرَّحْمَنُ رَبِّي يَمِينَهَا
وَقَالَ سَلَامَةُ بْنُ جَنْدَلٍ الطُّهَوِيُّ:
148
عَجِلْتُمْ عَلَيْنَا عَجَلَتَيْنَا عَلَيْكُمُ وَمَا يَشَأِ الرَّحْمَنُ يَعْقِدُ وَيُطْلِقُ
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى سَخَافَةِ عُقُولِ الْكُفَّارِ؛ لِأَنَّهُمْ عَاكِفُونَ عَلَى ذِكْرِ أَصْنَامٍ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَيَسُوءُهُمْ أَنْ تُذَكَرَ بِسُوءٍ، أَوْ يُقَالَ: إِنَّهَا لَا تَشْفَعُ، وَلَا تُقَرِّبُ إِلَى اللَّهِ. وَأَمَّا ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُذْكَرَ بِهِ مِنَ الْوَحْدَانِيَّةِ فَهُمْ بِهِ كَافِرُونَ لَا يُصَدِّقُونَ بِهِ، فَهُمْ أَحَقُّ بِأَنْ يُتَّخَذُوا هُزُؤًا مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي اتَّخَذُوهُ هُزُؤًا، فَإِنَّهُ مُحِقٌ وَهُمْ مُبْطِلُونَ. فَإِذَا عَرَفْتَ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ جَاءَ أَيْضًا مُبَيَّنًا فِي سُورَةِ «الْفُرْقَانِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [٢٥ ٤١ - ٤٢] فَتَحْقِيرُهُمْ - لَعَنَهُمُ اللَّهُ - لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» فِي قَوْلِهِ: أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ [٢١ ٣٦] هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ فِي «الْفُرْقَانِ» : أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا [٢٥ ٤١] وَذِكْرُهُ لِآلِهَتِهِمْ بِالسُّوءِ الْمَذْكُورِ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» فِي قَوْلِهِ: يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي «الْفُرْقَانِ» فِي قَوْلِهِ: إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا [٢٠ ٤٢] أَيْ: لِمَا يُبَيِّنُ مِنْ مَعَائِبِهَا، وَعَدَمِ فَائِدَتِهَا، وَعِظَمِ ضَرَرِ عِبَادَتِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُورِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ.
قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَذْكُرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَيَكُونَ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مِنْ عَجَلٍ فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ قَوْلَانِ مَعْرُوفَانِ، وَفِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ أَحَدِهِمَا. أَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتِ الْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ فَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: الْعَجَلُ: الطِّينُ، وَهِيَ لُغَةٌ حِمْيَرِيَّةٌ كَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ:
الْبَيْعُ فِي الصَّخْرَةِ الصَّمَّاءِ مَنْبَتُهُ وَالنَّخْلُ يَنْبُتُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْعَجَلِ
يَعْنِي: بَيْنَ الْمَاءِ وَالطِّينِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَمَعْنَى الْآيَةِ: خُلِقَ الْإِنْسَانَ مِنْ طِينٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [١٧ ٦١] وَقَوْلِهِ: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ [٣٢ ٧] وَالْقَرِينَةُ الْمَذْكُورَةُ الدَّالَّةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَجَلِ فِي الْآيَةِ لَيْسَ الطِّينَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ وَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
[٢١ ٣٨] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَجَلِ هُوَ الْعَجَلَةُ الَّتِي هِيَ خِلَافُ التَّأَنِّي، وَالتَّثَبُّتِ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: خُلِقَ مِنْ كَذَا. يَعْنُونَ بِذَلِكَ الْمُبَالِغَةَ فِي الْإِنْصَافِ. كَقَوْلِهِمْ: خُلِقَ فَلَانٌ مِنْ كَرَمٍ، وَخُلِقَتْ فُلَانَةُ مِنَ الْجَمَالِ. وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ [٣٠ ٥٤] عَلَى الْأَظْهَرِ. وَيُوَضِّحُ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا [١٧ ١١] أَيْ: وَمِنْ عَجَلَتِهِ دُعَاؤُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ وَلَدِهِ بِالشَّرِّ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كَانُوا يَسْتَعْجِلُونَ عَذَابَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ الْمُلْجِئَةَ إِلَى الْعِلْمِ وَالْإِقْرَارِ، وَيَقُولُونَ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ. فَنَزَلَ قَوْلُهُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ لِلزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ. كَأَنَّهُ يَقُولُ لَهُمْ: لَيْسَ بِبِدْعٍ مِنْكُمْ أَنْ تَسْتَعْجِلُوا، فَإِنَّكُمْ مَجْبُولُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَهُوَ طَبْعُكُمْ وَسَجِيَّتُكُمْ. ثُمَّ وَعَدَهُمْ بِأَنَّهُ سَيُرِيهِمْ آيَاتِهِ، وَنَهَاهُمْ أَنْ يَسْتَعْجِلُوا بِقَوْلِهِ: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ [٢١ ٣٧] كَمَا قَالَ تَعَالَى: سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [٤١ ٥٣] وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ آدَمُ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالسُّدِّيِّ: لَمَّا دَخَلَ الرُّوحُ فِي عَيْنَيْ آدَمَ نَظَرَ فِي ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَلَمَّا دَخَلَ جَوْفَهُ اشْتَهَى الطَّعَامَ، فَوَثَبَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَبْلُغَ الرُّوحُ رِجْلَيْهِ؛ عَجْلَانَ إِلَى ثِمَارِ الْجَنَّةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالْكَلْبِيِّ، وَغَيْرِهِمَا: خُلِقَ آدَمُ يَوْمَ الْجُمْعَةِ فِي آخِرِ النَّهَارِ، فَلَمَّا أَحْيَا اللَّهُ رَأْسَهُ اسْتَعْجَلَ وَطَلَبَ تَتْمِيمَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَنَحْوَهَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ جِنْسَ الْإِنْسَانِ مِنْ طَبْعِهِ الْعَجَلُ وَعَدَمُ التَّأَنِّي كَمَا بَيَّنَّا، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَالْحِكْمَةُ فِي ذِكْرِ عَجَلَةِ الْإِنْسَانِ هَاهُنَا أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِالرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَعَ فِي النُّفُوسِ سُرْعَةُ الِانْتِقَامِ مِنْهُمْ، وَاسْتَعْجَلَتْ ذَلِكَ فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ لِأَنَّهُ تَعَالَى يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ، يُؤَجِّلُ ثُمَّ يُعَجِّلُ، وَيُنْظِرُ ثُمَّ لَا يُؤَخِّرُ. وَلِهَذَا قَالَ: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي أَيْ: نَقْمِي وَحُكْمِي، وَاقْتِدَارِي عَلَى مَنْ عَصَانِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونَ. انْتَهَى مِنْهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ.
جَوَابُ «لَوْ» فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَحْذُوفٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَدِلَّةَ ذَلِكَ وَشَوَاهِدَهُ مِنَ الْعَرَبِيَّةِ
150
فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ»، وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ فِي سُورَةِ «إِبْرَاهِيمَ» وَسُورَةِ «يُوسُفَ». وَمَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَوْ يَعْلَمُ الْكُفَّارُ الْوَقْتَ الَّذِي يَسْأَلُونَ عَنْهُ بِقَوْلِهِمْ: مَتَى هَذَا الْوَعْدُ؟ وَهُوَ وَقْتٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ، تُحِيطُ بِهِمْ فِيهِ النَّارُ مِنْ وَرَاءَ وَقُدَّامَ. فَلَا يَقْدِرُونَ عَلَى مَنْعِهَا وَدَفْعِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَجِدُونَ نَاصِرًا يَنْصُرُهُمْ؛ لَمَّا كَانُوا بِتِلْكَ الصِّفَةِ مِنَ الْكُفْرِ، وَالِاسْتِهْزَاءِ، وَالِاسْتِعْجَالِ، وَلَكِنَّ جَهْلَهُمْ بِذَلِكَ هُوَ الَّذِي هَوَّنَهُ عَلَيْهِمْ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنَ الْمَعَانِي جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
أَمَّا إِحَاطَةُ النَّارِ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَقَدْ جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [١٨ ٢٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ الْآيَةَ [٧ ٤١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ [٣٩ ١٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [١٤ ٥٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [٢٣ ١٠٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. نَرْجُو اللَّهَ الْكَرِيمَ الْعَظِيمَ أَنْ يُعِيذَنَا مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ مَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لَيْسَ لَهُمْ نَاصِرٌ وَلَا قُوَّةٌ يَدْفَعُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ [٨٦ ١٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ [٣٧ ٢٥ - ٢٦] وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَمَا أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَنَّ الَّذِي هَوَّنَ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ الْيَوْمَ الْعَظِيمَ حَتَّى اسْتَعْجَلُوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِمَنْ يُخَوِّفُهُمْ مِنْهُ إِنَّمَا هُوَ جَهْلُهُمْ بِهِ جَاءَ مُبَيَّنًا أَيْضًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ [٤٢] ١٨، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ [١٠ ٥٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لَوْ يَعْلَمُ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: هُوَ فِعْلٌ مُتَعَدٍّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا عِرْفَانِيَّةٌ، فَهِيَ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
151
وَعَلَى هَذَا فَالْمَفْعُولُ هَذَا قَوْلُهُ: حِينَ أَيْ: لَوْ يَعْرِفُونَ حِينَ وُقُوعِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَمَا فِيهِ مِنَ الْفَظَائِعِ لَمَا اسْتَخَفُّوا بِهِ وَاسْتَعْجَلُوهُ. وَعَلَى هَذَا فَالْحِينُ مَفْعُولٌ بِهِ لَا مَفْعُولٌ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمَعْرِفَةِ وَاقِعٌ عَلَى نَفْسِ الْحِينِ الْمَذْكُورِ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فِعْلُ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، فَلَيْسَ وَاقِعًا عَلَى مَفْعُولٍ. وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: لَوْ كَانَ لَهُمْ عِلْمٌ وَلَمْ يَكُونُوا جَاهِلِينَ لَمَا كَانُوا مُسْتَعْجِلِينَ. وَعَلَى هَذَا فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [٣٩ ٩] وَالْمَعْنَى: لَا يَسْتَوِي مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ وَمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي أَنَّهُ إِذَا كَانَ الْغَرَضُ إِثْبَاتُ الْفِعْلِ لِفَاعِلِهِ فِي الْكَلَامِ الْمُثْبَتِ، أَوْ نَفْيِهِ عَنْهُ فِي الْكَلَامِ الْمَنْفِيِّ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ عَنِ اعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الْفِعْلِ بِمَنْ وَقَعَ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى اللَّازِمِ، كَقَوْلِهِ: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ [٣٩ ٩] لِأَنَّهُ يُرَادُ مِنْهُ أَنَّ مَنْ ثَبَتَتْ لَهُ صِفَةُ الْعِلْمِ لَا يَسْتَوِي هُوَ وَمَنِ انْتَفَتْ عَنْهُ، وَلَمْ يُعْتَبَرْ هُنَا وُقُوعُ الْعِلْمِ عَلَى مَعْلُومَاتِ مَنِ اتَّصَفَ بِذَلِكَ الْعِلْمِ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَقَوْلُهُ: حِينَ لَا يَكُفُّونَ مَنْصُوبٌ بِمُضْمَرٍ. أَيْ: حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وَجْهِهِمُ النَّارَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَانُوا عَلَى الْبَاطِلِ. وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَظْهَرُ. وَاسْتَظْهَرَ أَبُو حَيَّانَ أَنَّ مَفْعُولَ «يَعْلَمُ» مَحْذُوفٌ، وَأَنَّهُ هُوَ الْعَامِلُ فِي الظَّرْفِ الَّذِي هُوَ «حِينَ»، وَالتَّقْدِيرُ: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَجِيءَ الْمَوْعُودِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ حِينَ لَا يَكُفُّونَ لَمَا كَفَرُوا وَاسْتَعْجَلُوا وَاسْتَهْزَءُوا.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِشْكَالَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ مَعَ قَوْلِهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ فَلَا يُقَالُ: كَيْفَ يَقُولُ: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ مِنَ الْعَجَلِ وَجُبِلَ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَنْهَاهُ عَمَّا خُلِقَ مِنْهُ وَجُبِلَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ تَكْلِيفٌ بِمُحَالٍ! ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: نَعَمْ هُوَ جُبِلَ عَلَى الْعَجَلِ، وَلَكِنْ فِي اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِالتَّأَنِّي. كَمَا أَنَّهُ جُبِلَ عَلَى حُبِّ الشَّهَوَاتِ مَعَ أَنَّهُ فِي اسْتِطَاعَتِهِ أَنْ يُلْزِمَ نَفْسَهُ بِالْكَفِّ عَنْهَا. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى. [٧٩ ٤٠ - ٤١].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ.
فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ إِخْوَانَهُ مِنَ الرُّسُلِ الْكِرَامِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمُ - اسْتَهْزَأَ بِهِمُ الْكُفَّارُ، كَمَا اسْتَهْزَءُوا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعْنِي: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرُوا، وَلَكَ
الْعَاقِبَةُ الْحَمِيدَةُ، وَالنَّصْرُ النِّهَائِيُّ كَمَا كَانَ لَهُمْ. وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ ذَلِكَ جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [٤١ ٤٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ [١١ ١٢٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ [٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [٣٥ ٢٥ - ٢٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ [٣٥ ٤] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ أَيْ: أَحَاطَ بِهِمْ. وَمَادَّةُ حَاقَ يَائِيَّةُ الْعَيْنِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْمُضَارِعِ: وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ [٣٥ ٤٣] وَلَا تُسْتَعْمَلُ هَذِهِ الْمَادَّةُ إِلَّا فِي إِحَاطَةِ الْمَكْرُوهِ خَاصَّةً. فَلَا تَقُولُ: حَاقَ بِهِ الْخَيْرُ بِمَعْنَى أَحَاطَ بِهِ. وَالْأَظْهَرُ فِي مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّ الْمُرَادَ: وَحَاقَ بِهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي كَانُوا يُكَذِّبُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ، وَعَلَى هَذَا اقْتَصَرَ ابْنُ كَثِيرٍ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَحَاقَ أَيْ: أَحَاطَ وَدَارَ بِالَّذِينَ كَفَرُوا وَسَخِرُوا مِنْهُمْ وَهَزِئُوا بِهِمْ (مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) [٢١ ٤١] أَيْ جَزَاءُ اسْتِهْزَائِهِمْ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى. وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّخْرِيَةَ مِنَ الِاسْتِهْزَاءِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ.
أَمَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - نَبَيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَقُولَ لِلْمُعْرِضِينَ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أَيْ: مَنْ هُوَ الَّذِي يَحْفَظُكُمْ وَيَحْرُسُكُمْ بِاللَّيْلِ فِي حَالِ نَوْمِكُمْ وَالنَّهَارِ فِي حَالِ تَصَرُّفِكُمْ فِي أُمُورِكُمْ. وَالْكِلَاءَةُ بِالْكَسْرِ: الْحِفْظُ وَالْحِرَاسَةُ. يُقَالُ: اذْهَبْ فِي كِلَاءَةِ اللَّهِ. أَيْ: فِي حِفْظِهِ، وَاكْتَلَأْتُ مِنْهُمْ: احْتَرَسْتُ. وَمِنْهُ قَوْلُ ابْنِ هَرْمَةَ:
لِعِلْمِ عِرْفَانٍ وَظَنِّ تُهَمَةْ تَعْدِيَةٌ لِوَاحِدِ مُلْتَزَمَةْ
إِنَّ سُلَيْمَى وَاللَّهُ يَكْلَؤُهَا ضَنَّتْ بِشَيْءٍ مَا كَانَ يَرْزَؤُهَا
وَقَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
153
وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ مِنَ الرَّحْمَنِ فِيهَا لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ مَعْرُوفَانِ: أَحَدُهُمَا وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ ابْنُ كَثِيرٍ: أَنَّ «مِنْ» هِيَ الَّتِي بِمَعْنَى بَدَلَ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ مِنَ الرَّحْمَنِ أَيْ: بَدَلَ الرَّحْمَنِ، يَعْنِي غَيْرَهُ. وَأَنْشَدَ ابْنُ كَثِيرٍ لِذَلِكَ قَوْلَ الرَّاجِزِ:
أَنَخْتُ بَعِيرِي وَاكْتَلَأْتُ بِعَيْنِهِ وَآمَرْتُ نَفْسِي أَيَّ أَمْرِي أَفْعَلُ
جَارِيَةٌ لَمْ تَلْبَسِ الْمُرَقَّقَا وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا
أَيْ لَمْ تَذُقْ بَدَلَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَ. وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ [٩ ٣٨] أَيْ: بَدَلَهَا. وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفَصِيلِ غُلُبَّةً ظُلْمًا وَيُكْتَبُ لِلْأَمِيرِ أَفِيلَا
يَعْنِي: أَخَذُوا فِي الزَّكَاةِ الْمَخَاضَ بَدَلَ الْفَصِيلِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ يَكْلَؤُكُمْ أَيْ: يَحْفَظُكُمْ مِنَ الرَّحْمَنِ أَيْ: مِنْ عَذَابِهِ وَبَأْسِهِ. وَهَذَا هُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي. وَنَظِيرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ [١١ ٦٣] أَيْ: مَنْ يَنْصُرُنِي مِنْهُ فَيَدْفَعُ عَنِّي عَذَابَهُ. وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ: هُوَ اسْتِفْهَامُ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ، وَهُوَ عِنْدِي يَحْتَمِلُ الْإِنْكَارَ وَالتَّقْرِيرَ. فَوَجْهُ كَوْنِهِ إِنْكَارِيًّا أَنَّ الْمَعْنَى: لَا كَالِئَ لَكُمْ يَحْفَظُكُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَلْبَتَّةَ إِلَّا اللَّهُ تَعَالَى، أَيْ: فَكَيْفَ تَعْبُدُونَ غَيْرَهُ. وُوجْهُ كَوْنِهِ تَقْرِيرِيًّا أَنَّهُمْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ يَكْلَؤُكُمْ؟ اضْطُرُّوا إِلَى أَنْ يُقِرُّوا بِأَنَّ الَّذِي يَكْلَؤُهُمْ هُوَ اللَّهُ؛ لِأَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ لَا نَافِعَ وَلَا ضَارَّ إِلَّا هُوَ تَعَالَى، وَلِذَلِكَ يُخْلِصُونَ لَهُ الدُّعَاءَ عِنْدَ الشَّدَائِدِ وَالْكُرُوبِ، وَلَا يَدْعُونَ مَعَهُ غَيْرَهُ، كَمَا قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْإِسْرَاءِ» وَغَيْرِهَا. فَإِذَا أَقَرُّوا بِذَلِكَ تَوَجَّهَ إِلَيْهِمُ التَّوْبِيخُ وَالتَّقْرِيعُ، كَيْفَ يَصْرِفُونَ حُقُوقَ الَّذِي يَحْفَظُهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِلَى مَا لَا يَنْفَعُ، وَلَا يَضُرُّ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي أَشَارَتْ إِلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ: أَنَّهُ لَا أَحَدَ يَمْنَعُ أَحَدًا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَحْفَظُهُ وَلَا يَحْرُسُهُ مِنَ اللَّهِ، وَأَنَّ الْحَافِظَ لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ اللَّهُ وَحْدَهُ - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [١٣ ١١] عَلَى أَظْهَرِ التَّفْسِيرَاتِ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا الْآيَةَ [٤٨ ١١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا [٣٣ ١٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ
154
ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا [٥ ١٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٣٣ ٨٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ.
قَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَمْ هِيَ الْمُنْقَطِعَةُ، وَهِيَ بِمَعْنَى بَلْ وَالْهَمْزَةِ، فَقَدِ اشْتَمَلَتْ عَلَى مَعْنَى الْإِضْرَابِ وَالْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى: أَلَهَمْ آلِهَةٌ تَجْعَلُهُمْ فِي مَنَعَةٍ وَعِزٍّ حَتَّى لَا يَنَالُهُمْ عَذَابُنَا. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ آلِهَتَهُمُ الَّتِي يَزْعُمُونَ لَا تَسْتَطِيعُ نَفْعَ أَنْفُسِهَا، فَكَيْفَ تَنْفَعُ غَيْرَهَا بِقَوْلِهِ: لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ [٢١ ٤٣] وَقَوْلِهِ: مِنْ دُونِنَا فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُتَعَلِّقُ آلِهَةً أَيْ: أَلَهُمْ آلِهَةٌ مِنْ دُونِنَا أَيْ: سِوَانَا تَمْنَعُهُمْ مِمَّا نُرِيدُ أَنْ نَفْعَلَهُ بِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ كَلَّا لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِـ تَمْنَعُهُمْ لِقَوْلِ الْعَرَبِ: مَنَعْتُ دُونَهُ، أَيْ: كَفَفْتُ أَذَاهُ. وَالْأَظْهَرُ عِنْدِي الْأَوَّلُ، وَنَحْوُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ الْآيَةَ [٢١ ٢٩] وَقَوْلِهِ: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً الْآيَةَ [٢٥ ٣] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ كَوْنِ الْآلِهَةِ الَّتِي اتَّخَذُوهَا لَا تَسْتَطِيعُ نَصْرَ أَنْفُسِهَا، فَكَيْفَ تَنْفَعُ غَيْرَهَا - جَاءَ مُبَيَّنًا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ [٧ ١٩١ - ١٩٥] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ [٧ ١٩٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ الْآيَةَ [٣٥ ١٣ - ١٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ الْآيَةَ [٤٦ ٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ تِلْكَ الْآلِهَةَ الْمَعْبُودَةَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَيْسَ فِيهَا نَفْعٌ أَلْبَتَّةَ.
وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أَيْ: يُجَارُونَ، أَيْ: لَيْسَ لِتِلْكَ الْآلِهَةِ مُجِيرٌ يُجِيرُهُمْ مِنَّا؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ فِي سُورَةِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ [٢٣ ٨٨] فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ [٢٣ ٨٨] وَالْعَرَبُ تَقُولُ: أَنَا جَارٌ لَكَ وَصَاحِبٌ مِنْ فَلَانٍ، أَيْ: مُجِيرٌ لَكَ مِنْهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِهِ مُتَعَوِّذًا لِيُصْحَبَ مِنَّا وَالرِّمَاحُ دَوَانِي
يَعْنِي: لِيُجَارَ وَيُغَاثَ مِنَّا. وَأَغْلَبُ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ رَاجِعَةٌ إِلَى مَا ذَكَرْنَا، كَقَوْلِ بَعْضِهِمْ: يُصْحَبُونَ يُمْنَعُونَ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: يُنْصَرُونَ، وَقَوْلُ بَعْضِهِمْ: وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ أَيْ: لَا يَصْحَبُهُمُ اللَّهُ بِخَيْرٍ، وَلَا يَجْعَلُ الرَّحْمَةَ صَاحِبًا لَهُمْ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ.
الظَّاهِرُ أَنَّ الْإِضْرَابَ بَلْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ انْتِقَالِيٌّ، وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَؤُلَاءِ رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُخَاطَبِينَ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ الْآيَةَ، وَهُمْ كُفَّارُ قُرَيْشٍ، وَمَنِ اتَّخَذَ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ.
وَالْمَعْنَى أَنَّهُ مَتَّعَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ وَآبَاءَهُمْ قَبْلَهُمْ بِمَا رَزَقَهُمْ مِنْ نَعِيمِ الدُّنْيَا حَتَّى طَالَتْ أَعْمَارُهُمْ فِي رَخَاءٍ وَنِعْمَةٍ، فَحَمَلَهُمْ ذَلِكَ عَلَى الطُّغْيَانِ، وَاللَّجَاجِ فِي الْكُفْرِ.
وَمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى يُمْهِلُ الْكُفَّارَ وَيُمْلِي لَهُمْ فِي النِّعْمَةِ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُهُمْ كُفْرًا وَضَلَالًا - جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ: وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [٣ ١٧٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [٧ ١٨٢ - ١٨٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا [٢٥ ١٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [٤٣ ٢٩] وَالْآيَاتُ بِمِثْلِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَالْعُمْرُ يُطْلَقُ عَلَى مُدَّةِ الْعَيْشِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ.
156
فِي مَعْنَى إِتْيَانِ اللَّهِ الْأَرْضَ يَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَقْوَالٌ مَعْرُوفَةٌ لِلْعُلَمَاءِ، وَبَعْضُهَا تَدُلُّ لَهُ قَرِينَةٌ قُرْآنِيَّةٌ:
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: نَقْصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا: مَوْتُ الْعُلَمَاءِ، وَجَاءَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَبُعْدُ هَذَا الْقَوْلِ عَنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِحَسَبِ دَلَالَةِ السِّيَاقِ ظَاهِرٌ كَمَا تَرَى.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَقْصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا خَرَابُهَا عِنْدَ مَوْتِ أَهْلِهَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: نَقْصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا هُوَ نَقْصُ الْأَنْفُسِ، وَالثَّمَرَاتِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَقْوَالِ، وَأَمَّا الْقَوْلُ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْقَرِينَةُ الْقُرْآنِيَّةُ فَهُوَ أَنَّ مَعْنَى نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَيْ: نَنْقُصُ أَرْضَ الْكُفْرِ وَدَارَ الْحَرْبِ، وَنَحْذِفُ أَطْرَافَهَا بِتَسْلِيطِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا وَإِظْهَارِهِمْ عَلَى أَهْلِهَا، وَرَدِّهَا دَارَ إِسْلَامٍ. وَالْقَرِينَةُ الدَّالَّةُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى هِيَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ [٢١ ٤٤] وَالِاسْتِفْهَامُ لِإِنْكَارِ غَلَبَتِهِمْ. وَقِيلَ: لِتَقْرِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مَغْلُوبُونَ لَا غَالِبُونَ، فَقَوْلُهُ: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ نَقْصَ الْأَرْضِ مِنْ أَطْرَافِهَا سَبَبٌ لِغَلَبَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْكُفَّارِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَحْصُلُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ. وَمِمَّا يَدُلُّ لِهَذَا الْوَجْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ [١٣ ٣١] عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقَارِعَةِ الَّتِي تُصِيبُهُمْ سَرَايَا النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَفْتَحُ أَطْرَافَ بِلَادِهِمْ، أَوْ تَحُلُّ أَنْتَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ. وَمِمَّنْ يُرْوَى عَنْهُ هَذَا الْقَوْلُ: ابْنُ عَبَّاسٍ، وَأَبُو سَعِيدٍ، وَعِكْرِمَةُ، وَمُجَاهِدٌ، وَغَيْرُهُمْ. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ هُنَا ذَكَرَهُ فِي آخِرِ سُورَةِ «الرَّعْدِ» أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [١٣ ٤١] وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» هَذِهِ: إِنَّ أَحْسَنَ مَا فُسِّرَ بِهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا هُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [٤٦ ٢٧].
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ صَوَابٌ، وَاسْتِقْرَاءُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: أَفَلَا يَرَى كُفَّارُ مَكَّةَ وَمَنْ سَارَ سَيْرَهُمْ فِي تَكْذِيبِكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ وَالْكَفْرِ بِمَا جِئْتَ بِهِ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَيْ: بِإِهْلَاكِ الَّذِينَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ كَمَا أَهْلَكْنَا قَوْمَ صَالِحٍ وَقَوْمَ لُوطٍ، وَهُمْ يَمُرُّونَ بِدِيَارِهِمْ. وَكَمَا
157
أَهْلَكْنَا قَوْمَ هُودٍ، وَجَعَلْنَا سَبَأً أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ، كُلُّ ذَلِكَ بِسَبَبِ تَكْذِيبِ الرُّسُلِ وَالْكُفْرِ بِمَا جَاءُوا بِهِ. وَهَذَا هُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى [٤٦ ٢٧] كَقَوْمِ صَالِحٍ وَقَوْمِ لُوطٍ وَقَوْمِ هُودٍ وَسَبَأٍ، فَاحْذَرُوا مِنْ تَكْذِيبِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِئَلَّا نُنْزِلَ بِكُمْ مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا بِهِمْ. وَهَذَا الْوَجْهُ لَا يُنَافِي قَوْلَهُ بَعْدَهُ: أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ وَالْمَعْنَى أَنَّ الْغَلَبَةَ لِحِزْبِ اللَّهِ الْقَادِرِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي أَهْلَكَ مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى بِسَبَبِ تَكْذِيبِهِمْ رُسُلَهُمْ، وَأَنْتُمْ لَسْتُمْ بِأَقْوَى مِنْهُمْ، وَلَا أَكْثَرَ أَمْوَالًا وَلَا أَوْلَادًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ الْآيَةَ [٤٤ ٣٧]. وَقَالَ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [٤٠ ٨٢] وَقَالَ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا الْآيَةَ [٣٠ ٩٠] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَإِنْذَارُ الَّذِينَ كَذَّبُوهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا وَقَعَ لِمَنْ كَذَّبَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الرُّسُلِ كَثِيرٌ جِدًّا فِي الْقُرْآنِ. وَبِهِ تَعْلَمُ اتِّجَاهَ مَا اسْتَحْسَنَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ تَفْسِيرِ آيَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» هَذِهِ بِآيَةِ «الْأَحْقَافِ» الْمَذْكُورَةِ كَمَا بَيَّنَّا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَإِنْ قُلْتَ: أَيُّ فَائِدَةٍ فِي قَوْلِهِ: نَأْتِي الْأَرْضَ؟ قُلْتُ: فِيهِ تَصْوِيرُ مَا كَانَ اللَّهُ يُجْرِيهِ عَلَى أَيْدِي الْمُسْلِمِينَ، وَأَنَّ عَسَاكِرَهُمْ وَسَرَايَاهُمْ كَانَتْ تَغْزُو أَرْضَ الْمُشْرِكِينَ، وَتَأْتِيهَا غَالِبَةً عَلَيْهَا نَاقِصَةً مِنْ أَطْرَافِهَا. اهـ مِنْهُ. وَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَتُوزَنُ أَعْمَالُهُمْ وَزْنًا فِي غَايَةِ الْعَدَالَةِ وَالْإِنْصَافِ، فَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ أَحَدًا شَيْئًا، وَأَنَّ عَمَلَهُ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَإِنْ كَانَ فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَالدِّقَّةِ كَمِثْقَالِ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ، فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَكَفَى بِهِ - جَلَّ وَعَلَا - حَاسِبًا؛ لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ بِكُلِّ شَيْءٍ.
وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّ الْمَوَازِينَ عِنْدَ ذَلِكَ الْوَزْنِ مِنْهَا مَا يَخِفُّ، وَمِنْهَا مَا يَثْقُلُ، وَأَنَّ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ هَلَكَ، وَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ نَجَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ
158
الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [٧ ٨ - ٩] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [٢٣ ١٠١ - ١٠٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [١٠١ ٦ - ٩] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَمَا ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ مَوَازِينَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَوَازِينُ قِسْطٍ ذَكَرَهُ فِي «الْأَعْرَافِ» فِي قَوْلِهِ: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ [٧ ٨] لِأَنَّ الْحَقَّ عَدْلٌ وَقِسْطٌ، وَمَا ذَكَرَهُ فِيهَا مِنْ أَنَّهُ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ أُخَرَ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [٤ ٤٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [١٠ ٤٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا [١٨ ٤٩] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى هَذَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ».
وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ كَوْنِ الْعَمَلِ، وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ أَتَى بِهِ - جَلَّ وَعَلَا - أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ عَنْ لُقْمَانَ مُقَرِّرًا لَهُ: يَابُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [٣١ ١٦] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ [٩٩ ٧ - ٨] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ جَمْعُ مِيزَانٍ. وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ تَعَدُّدُ الْمُوَازِينِ لِكُلِّ شَخْصٍ؛ لِقَوْلِهِ: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [٢٣ ١٠٢] وَقَوْلِهِ: وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [٢٣] فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِلْعَامِلِ الْوَاحِدِ مَوَازِينَ يُوزَنُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا صِنْفٌ مِنْ أَعْمَالِهِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
مَلِكٌ تَقُومُ الْحَادِثَاتُ لِعَدْلِهِ فَلِكُلِّ حَادِثَةٍ لَهَا مِيزَانُ
وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ فِي الْأُصُولِ: أَنَّ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا هُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ، وَإِنَّمَا جُمِعَ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْأَعْمَالِ الْمَوْزُونَةِ فِيهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي آخِرِ سُورَةِ «الْكَهْفِ»
159
كَلَامَ الْعُلَمَاءِ فِي كَيْفِيَّةِ وَزْنِ الْأَعْمَالِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: الْقِسْطَ أَيِ الْعَدْلَ، وَهُوَ مَصْدَرٌ وُصِفَ بِهِ، وَلِذَا لَزِمَ إِفْرَادُهُ، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَنَعَتُوا بِمَصْدَرٍ كَثِيرَا فَالْتَزَمُوا الْإِفْرَادَ وَالتَّذْكِيرَا
كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا. وَمَعْلُومٌ أَنَّ النَّعْتَ بِالْمَصْدَرِ يَقُولُ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إِنَّهُ الْمُبَالَغَةُ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ بِنِيَّةِ الْمُضَافِ الْمَحْذُوفِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ بَالَغَ فِي عَدَالَةِ الْمَوَازِينِ حَتَّى سَمَّاهَا الْقِسْطَ الَّذِي هُوَ الْعَدْلُ. وَعَلَى الثَّانِي فَالْمَعْنَى: الْمَوَازِينُ ذَوَاتُ الْقِسْطِ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فِيهَا أَوْجُهٌ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ:
(مِنْهَا) : أَنَّهَا لِلتَّوْقِيتِ، أَيِ الدَّلَالَةِ عَلَى الْوَقْتِ، كَقَوْلِ الْعَرَبِ: جِئْتُ لِخَمْسِ لَيَالٍ بَقِينَ مِنَ الشَّهْرِ، وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ
وَمِنْهَا: أَنَّهَا لَامُ «كَيْ»، أَيْ: نَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِأَجْلِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ: لِحِسَابِ النَّاسِ فِيهِ حِسَابًا فِي غَايَةِ الْعَدَالَةِ، وَالْإِنْصَافِ.
(وَمِنْهَا) : أَنَّهَا بِمَعْنَى فِي، أَيْ: نَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَالْكُوفِيُّونَ يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّامَ تَأْتِي بِمَعْنَى فِي، وَيَقُولُونَ: إِنَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [٢١ ٤٧] أَيْ: فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلَهُ تَعَالَى: لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ [٧ ١٨٧] أَيْ: فِي وَقْتِهَا. وَوَافَقَهُمْ فِي ذَلِكَ ابْنُ قُتَيْبَةَ مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ، وَابْنُ مَالِكٍ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ، وَأَنْشَدَ مُسْتَشْهِدًا لِذَلِكَ قَوْلَ مِسْكِينٍ الدَّارِمِيِّ:
أُولَئِكَ قَوْمِي قَدْ مَضَوْا لِسَبِيلِهِمْ كَمَا قَدْ مَضَى مِنْ قَبْلُ عَادٌ وَتُبَّعُ
يَعْنِي مَضَوْا فِي سَبِيلِهِمْ. وَقَوْلَ الْآخَرِ:
وَكُلُّ أَبٍ وَابْنٍ وَإِنْ عُمِّرَا مَعًا مُقِيمَيْنِ مَفْقُودٌ لِوَقْتٍ وَفَاقِدُ
أَيْ فِي وَقْتٍ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ شَيْئًا هُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِـ تُظْلَمُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ. أَيْ: شَيْئًا مِنَ الظُّلْمِ لَا قَلِيلًا، وَلَا كَثِيرًا.
وَمِثْقَالُ الشَّيْءِ: وَزْنُهُ. وَالْخَرْدَلُ: حَبٌّ فِي غَايَةِ الصِّغَرِ،
160
وَالدِّقَّةِ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُ: هُوَ زَرِيعَةُ الْجِرْجِيرِ. وَأُنِّثَ الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ بِهَا هُوَ رَاجِعٌ إِلَى الْمُضَافِ الَّذِي هُوَ مِثْقَالَ وَهُوَ مُذَكَّرٌ لِاكْتِسَابِهِ التَّأْنِيثَ مِنَ الْمُضَافِ إِلَيْهِ الَّذِي هُوَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ فِي الْخُلَاصَةِ:
وَرُبَّمَا أَكْسَبَ ثَانٍ أَوَّلًا تَأْنِيثًا إِنْ كَانَ لِحَذْفٍ مُؤَهَّلًا
وَنَظِيرُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ عَنْتَرَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
جَادَتْ عَلَيْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارَةٍ كَالدِّرْهَمِ
وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:
طُولُ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي نَقَضْنَ كُلِّي وَنَقَضْنَ بِعْضِي
وَقَوْلُ الْأَعْشَى:
وَتُشْرِقُ بِالْقَوْلِ الَّذِي قَدْ أَذَعْتُهُ كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ الْقَنَاةِ مِنَ الدَّمِ
وَقَوْلُ الْآخَرِ:
مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ أَعَالِيَهَا مَرُّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ
فَقَدْ أَنَّثَ فِي الْبَيْتِ الْأَوَّلِ لَفْظَةَ «كُلُّ» لِإِضَافَتِهَا إِلَى «عَيْنٍ». وَأَنَّثَ فِي الْبَيْتِ الثَّانِي لَفْظَةَ «طُولُ» لِإِضَافَتِهَا إِلَى «اللَّيَالِي» وَأَنَّثَ فِي الْبَيْتِ الثَّالِثِ الصَّدْرَ لِإِضَافَتِهِ إِلَى «الْقَنَاةِ» وَأَنَّثَ فِي الْبَيْتِ الرَّابِعِ «مَرُّ» لِإِضَافَتِهِ إِلَى «الرِّيَاحِ». وَالْمُضَافَاتُ الْمَذْكُورَةُ لَوْ حُذِفَتْ لَبَقِيَ الْكَلَامُ مُسْتَقِيمًا، كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:.
......... إِنْ كَانَ لِحَذْفٍ مُؤَهَّلًا
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ مَا عَدَا نَافِعًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ بِنَصْبِ مِثْقَالَ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ كَانَ أَيْ: وَإِنْ كَانَ الْعَمَلُ الَّذِي يُرَادُ وَزْنُهُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَحْدَهُ وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ بِالرَّفْعِ، فَاعِلُ كَانَ عَلَى أَنَّهَا تَامَّةٌ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَيْ: كَثِيرُ الْبَرَكَاتِ وَالْخَيْرَاتِ؛ لِأَنَّ فِيهِ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. ثُمَّ وَبَّخَ مَنْ يُنْكِرُونَهُ مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّ هَذَا
الْقُرْآنَ مُبَارَكٌ بَيَّنَهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «الْأَنْعَامِ» : وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [٦ ١٥٥] وَقَوْلِهِ فِيهَا أَيْضًا: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [٦ ٩٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي «ص» : كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [٣٨ ٢٩] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، فَنَرْجُو اللَّهَ تَعَالَى الْقَرِيبَ الْمُجِيبَ أَنْ تَغْمُرَنَا بَرَكَاتُ هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ الْمُبَارَكِ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى لَنَا لِتَدَبُّرِ آيَاتِهِ، وَالْعَمَلِ بِمَا فِيهَا مِنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي، وَالْمَكَارِمِ وَالْآدَابِ، امْتِثَالًا وَاجْتِنَابًا، إِنَّهُ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ.
قَدْ قَدَّمْنَا مَا يُوَضِّحُ هَذِهِ الْآيَاتِ إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ مِنَ الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ نَبِيَّهُ إِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا أَفْحَمَ قَوْمَهُ الْكَفَرَةَ بِالْبَرَاهِينِ وَالْحُجَجِ الْقَاطِعَةِ لَجَئُوا إِلَى اسْتِعْمَالِ الْقُوَّةِ، فَقَالُوا: حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ [٢١ ٦٨] أَيْ: بِقَتْلِكُمْ عَدُوَّهَا إِبْرَاهِيمَ شَرَّ قِتْلَةٍ، وَهِيَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ.
وَلَمْ يَذْكُرْ هُنَا أَنَّهُمْ أَرَادُوا قَتْلَهُ بِغَيْرِ التَّحْرِيقِ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي سُورَةِ «الْعَنْكَبُوتِ» أَنَّهُمْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [٢٩ ٢٤] وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ [٢٩ ٢٤].
وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ بِأَنَّ الْمُبْطِلَ إِذَا أُفْحِمَ بِالدَّلِيلِ لَجَأَ إِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْقُوَّةِ لِيَسْتَعْمِلَهَا ضِدَّ الْحَقِّ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ أَيْ: إِنْ كُنْتُمْ نَاصِرِينَ آلِهَتَكُمْ نَصْرًا مُؤَزَّرًا، فَاخْتَارُوا لَهُ أَفْظَعَ قِتْلَةٍ، وَهِيَ الْإِحْرَاقُ بِالنَّارِ، وَإِلَّا فَقَدَ فَرَّطْتُمْ فِي نَصْرِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامَا عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ.
فِي الْكَلَامِ حَذْفٌ دَلَّ الْمَقَامُ عَلَيْهِ، وَتَقْدِيرُهُ: قَالُوا حَرِّقُوهُ فَرَمَوْهُ فِي النَّارِ، فَلَمَّا فَعَلُوا
162
ذَلِكَ قُلْنَا يَانَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا وَقَدْ بَيَّنَ فِي «الصَّافَّاتِ» أَنَّهُمْ لَمَّا أَرَادُوا أَنْ يُلْقُوهُ فِي النَّارِ بَنَوْا لَهُ بُنْيَانًا لِيُلْقُوهُ فِيهِ.
وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّهُمْ أَلْقَوْهُ مِنْ ذَلِكَ الْبُنْيَانِ الْعَالِي بِالْمَنْجَنِيقِ بِإِشَارَةِ رَجُلٍ مِنْ أَعْرَابِ فَارِسٍ (يَعْنُونَ الْأَكْرَادَ) وَأَنَّ اللَّهَ خَسَفَ بِهِ الْأَرْضَ فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِيهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، قَالَ تَعَالَى: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ [٣٧ ٩٧] وَالْمُفَسِّرُونَ يَذْكُرُونَ مِنْ شِدَّةِ هَذِهِ النَّارِ وَارْتِفَاعِ لَهَبِهَا، وَكَثْرَةِ حَطَبِهَا شَيْئًا عَظِيمًا هَائِلًا. وَذَكَرُوا عَنْ نَبِيِّ اللَّهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُمْ لَمَّا كَتَّفُوهُ مُجَرَّدًا وَرَمَوْهُ إِلَى النَّارِ، قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: هَلْ لَكَ حَاجَةٌ؟ قَالَ: أَمَّا إِلَيْكَ فَلَا، وَأَمَّا اللَّهُ فَنِعِمَّا، قَالَ: لِمَ لَا تَسْأَلُهُ؟ قَالَ: عِلْمُهُ بِحَالِي كَافٍ عَنْ سُؤَالِي.
وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ أَمَرَ النَّارَ بِأَمْرِهِ الْكَوْنِيِّ الْقَدَرِيِّ أَنْ تَكُونَ بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ أَنْجَاهُ مِنْ تِلْكَ النَّارِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: كُونِي بَرْدًا [٢١] يَدُلُّ عَلَى سَلَامَتِهِ مِنْ حَرِّهَا، وَقَوْلَهُ: وَسَلَامًا يَدُلُّ عَلَى سَلَامَتِهِ مِنْ شَرِّ بَرْدِهَا الَّذِي انْقَلَبَتِ الْحَرَارَةُ إِلَيْهِ، وَإِنْجَاؤُهُ إِيَّاهُ مِنْهَا الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ أَمْرُهُ الْكَوْنِيُّ الْقَدَرِيُّ هُنَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ [٢٩ ٢٤] وَأَشَارَ إِلَى ذَلِكَ هُنَا بِقَوْلِهِ: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا [٢١ ٧١].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ [٢١ ٧٠] يُوَضِّحُهُ مَا قَبْلَهُ. فَالْكَيْدُ الَّذِي أَرَادُوهُ بِهِ: إِحْرَاقُهُ بِالنَّارِ نَصْرًا مِنْهُمْ لِآلِهَتِهِمْ فِي زَعْمِهِمْ، وَجَعْلِهِ تَعَالَى إِيَّاهُمُ الْأَخْسَرِينَ أَيِ الَّذِينَ هُمْ أَكْثَرُ خُسْرَانًا لِبُطْلَانِ كَيْدِهِمْ وَسَلَامَتِهِ مِنْ نَارِهِمْ.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا فِي سُورَةِ «الصَّافَّاتِ» فِي قَوْلِهِ: فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ [٣٧ ٩٨] وَكَوْنُهُمُ الْأَسْفَلِينَ وَاضِحٌ؛ لِعُلُوِّهِ عَلَيْهِمْ وَسَلَامَتِهِ مِنْ شَرِّهِمْ. وَكَوْنِهُمُ الْأَخْسَرِينَ لِأَنَّهُمْ خَسِرُوا الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ. وَفِي الْقِصَّةِ أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ عَلَيْهِمْ خَلْقًا مِنْ أَضْعَفِ خَلْقِهِ فَأَهْلَكَهُمْ وَهُوَ الْبَعُوضُ. وَفِيهَا أَيْضًا أَنَّ كُلَّ الدَّوَابِّ تُطْفِئُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّارَ، إِلَّا الْوَزَغَ فَإِنَّهُ يَنْفُخُ النَّارَ عَلَيْهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ بِالْأَمْرِ بِقَتْلِ الْأَوْزَاغِ فِي سُورَةِ «الْأَنْعَامِ».
وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ: لَوْ لَمْ يَقُلِ اللَّهُ: وَسَلَامًا لَكَانَ بَرْدُهَا أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ حَرِّهَا، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ: عَلَى إِبْرَاهِيمَ لَكَانَ بَرْدُهَا بَاقِيًا إِلَى الْأَبَدِ. وَعَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
163
عَنْهُمْ - لَوْ لَمْ يَقُلْ: وَسَلَامًا لَمَاتَ إِبَرَاهِيمُ مِنْ بَرْدِهَا. وَعَنِ السُّدِّيُّ: لَمْ تَبْقَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ نَارٌ إِلَّا طَفِئَتْ. وَعَنْ كَعْبٍ وَقَتَادَةَ: لَمْ تُحْرِقِ النَّارُ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا وِثَاقَهُ. وَعَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو: قَالَ إِبْرَاهِيمُ: مَا كُنْتُ أَيَّامًا قَطُّ أَنْعَمَ مِنِّي مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي كُنْتُ فِيهَا فِي النَّارِ. وَعَنْ شُعَيْبٍ الْحِمَّانِيِّ أَنَّهُ أُلْقِيَ فِي النَّارِ وَهُوَ ابْنُ سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً. وَعَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ: أُلْقِيَ فِيهَا وَهُوَ ابْنُ سِتٍّ وَعِشْرِينَ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ: بَرَدَتْ نِيرَانُ الْأَرْضِ جَمِيعًا، فَمَا أَنْضَجَتْ ذَلِكَ الْيَوْمَ كُرَاعًا. وَذَكَرُوا فِي الْقِصَّةِ أَنَّ نَمْرُوذَ أَشْرَفَ عَلَى النَّارِ مِنَ الصَّرْحِ، فَرَأَى إِبْرَاهِيمَ جَالِسًا عَلَى السَّرِيرِ يُؤْنِسُهُ مَلَكُ الظِّلِّ، فَقَالَ: نِعْمَ الرَّبُّ رَبُّكَ، لَأُقَرِّبَنَّ لَهُ أَرْبَعَةَ آلَافِ بَقَرَةٍ، وَكَفَّ عَنْهُ. وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ. وَالْمُفَسِّرُونَ يَذْكُرُونَ كَثِيرًا مِنْهَا فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ قَصَصِ الْأَنْبِيَاءِ.
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ، أُرَاهُ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ قَالُوا: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [٣ ١٧٣] حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي حُصَيْنٍ عَنْ أَبِي الضُّحَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ آخِرُ قَوْلِ إِبْرَاهِيمَ حِينَ أُلْقِي فِي النَّارِ: «حَسْبِيَ اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» انْتَهَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَنَجَّيْنَاهُ عَائِدٌ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، قَالَ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ: وَضُمِّنَ قَوْلُهُ: وَنَجَّيْنَاهُ مَعْنَى أَخْرَجْنَاهُ بِنَجَاتِنَا إِلَى الْأَرْضِ. وَلِذَلِكَ تَعَدَّى «نَجَّيْنَاهُ» بِإِلَى. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ «إِلَى» مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ، أَيْ: مُنْتَهِيًا إِلَى الْأَرْضِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ، وَلَا تَضْمِينَ فِي وَنَجَّيْنَاهُ عَلَى هَذَا. وَالْأَرْضُ الَّتِي خَرَجَا مِنْهَا: هِيَ كُوثَى مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ، وَالْأَرْضُ الَّتِي خَرَجَا إِلَيْهَا هِيَ أَرْضُ الشَّامِ. اهـ مِنْهُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُشِيرُ إِلَى هِجْرَةِ إِبْرَاهِيمَ وَمَعَهُ لُوطٌ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ إِلَى الشَّامِ فِرَارًا بِدِينِهِمَا.
وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «الْعَنْكَبُوتِ» : فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي [٢٩ ٢٦] وَقَوْلِهِ فِي «الصَّافَّاتِ:» وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [٣٧ ٩٩] عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فَارٌّ إِلَى رَبِّهِ بِدِينِهِ مِنَ الْكُفَّارِ. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ: هَذِهِ
الْآيَةُ أَصْلٌ فِي الْهِجْرَةِ وَالْعُزْلَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ حِينَ خَلَّصَهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ قَالَ: إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي أَيْ: مُهَاجِرٌ مِنْ بَلَدِ قَوْمِي وَمَوْلِدِي إِلَى حَيْثُ أَتَمَكَّنُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ فِيمَا نَوَيْتُ إِلَى الصَّوَابِ. وَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ - جَلَّ وَعَلَا - مِنْ أَنَّهُ بَارَكَ لِلْعَالَمِينَ فِي الْأَرْضِ الْمَذْكُورَةِ الَّتِي هِيَ الشَّامُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ [٢١ ٧١] بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ الْمَوْضِعِ. كَقَوْلِهِ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [٢١ ٨١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ [١٧] وَمَعْنَى كَوْنِهِ (بَارَكَ فِيهَا). هُوَ مَا جَعَلَ فِيهَا مِنَ الْخِصْبِ، وَالْأَشْجَارِ، وَالْأَنْهَارِ، وَالثِّمَارِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [٧ ٩٦] وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ بَعَثَ أَكْثَرَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهَا.
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَاءٍ عَذْبٍ أَصْلُ مَنْبَعِهِ مِنْ تَحْتِ الصَّخْرَةِ الَّتِي عِنْدَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَجَاءَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ. وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا أَقْوَالٌ أُخَرُ تَرَكْنَاهَا لِضَعْفِهَا فِي نَظَرِنَا.
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْفِرَارَ بِالدِّينِ مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى بَلَدٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ الْفَارُّ بِدِينِهِ مِنْ إِقَامَةِ دِينِهِ - وَاجِبٌ. وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْهِجْرَةِ وَجُوبُهُ بَاقٍ بِلَا خِلَافٍ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ فِي ذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ وَهَبَ لِإِبْرَاهِيمَ ابْنَهُ إِسْحَاقَ، وَابْنَ ابْنِهِ يَعْقُوبَ بْنَ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّهُ جَعَلَ الْجَمِيعَ صَالِحِينَ. وَقَدْ أَوْضَحَ الْبِشَارَةَ بِهِمَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ [١١ ٧١] وَقَوْلِهِ: وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ [٣٧ ١١٢] وَقَدْ أَشَارَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» إِلَى أَنَّهُ لَمَّا هَجَرَ الْوَطَنَ وَالْأَقَارِبَ عَوَّضَهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ قُرَّةَ الْعَيْنِ بِالذُّرِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا [١٩ ٤٩].
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: نَافِلَةً قَالَ فِيهِ ابْنُ كَثِيرٍ: قَالَ عَطَاءٌ وَمُجَاهِدٌ: نَافِلَةٌ: عَطِيَّةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ: النَّافِلَةُ: وَلَدُ الْوَلَدِ، يَعْنِي أَنَّ
يَعْقُوبَ وَلَدُ إِسْحَاقَ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: أَصْلُ النَّافِلَةِ فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَصْلِ، وَمِنْهُ النَّوَافِلُ فِي الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَاتٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْفَرْضُ، وَوَلَدُ الْوَلَدِ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ وَلَدُ الصُّلْبِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
فَإِنْ تَكُ أُنْثَى مِنْ مَعَدٍّ كَرِيمَةٌ عَلَيْنَا فَقَدْ أَعْطَيْتَ نَافِلَةَ الْفَضْلِ
أَيْ أَعْطَيْتَ الْفَضْلَ عَلَيْهَا، وَالزِّيَادَةُ فِي الْكَرَامَةِ عَلَيْنَا، كَمَا هُوَ التَّحْقِيقُ فِي مَعْنَى بَيْتِ أَبِي ذُؤَيْبٍ هَذَا، وَكَمَا شَرَحَهُ بِهِ أَبُو سَعِيدٍ الْحَسَنُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّكَّرِيُّ فِي شَرْحِهِ لِأَشْعَارِ الْهُذَلِيِّينَ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ إِيرَادَ صَاحِبِ اللِّسَانِ بَيْتَ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْمَذْكُورَ مُسْتَشْهِدًا بِهِ لِأَنَّ النَّافِلَةَ الْغَنِيمَةَ - غَيْرُ صَوَابٍ، بَلْ هُوَ غَلَطٌ. مَعَ أَنَّ الْأَنْفَالَ الَّتِي هِيَ الْغَنَائِمُ رَاجِعَةٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى مَعْنَى الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّهَا زِيَادَةُ تَكْرِيمٍ أَكْرَمَ اللَّهُ بِهَا هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ فَأَحَلَّهَا لَهُ وَلِأُمَّتِهِ. أَوْ لِأَنَّ الْأَمْوَالَ الْمَغْنُومَةَ أَمْوَالٌ أَخَذُوهَا زِيَادَةً عَلَى أَمْوَالِهِمُ الْأَصْلِيَّةِ بِلَا ثَمَنٍ.
وَقَوْلُهُ: نَافِلَةً فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ، فَعَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: النَّافِلَةُ الْعَطِيَّةُ فَهُوَ مَا نَابَ عَنِ الْمُطْلَقِ مِنْ «وَهَبْنَا» أَيْ: وَهَبَنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ هِبَةً. وَعَلَيْهِ النَّافِلَةُ مَصْدَرٌ جَاءَ بِصِيغَةِ اسْمِ الْفَاعِلِ كَالْعَاقِبَةِ وَالْعَافِيَةِ. وَعَلَى أَنَّ النَّافِلَةَ بِمَعْنَى الزِّيَادَةِ فَهُوَ حَالٌ مِنْ «يَعْقُوبَ» أَيْ: وَهَبْنَا لَهُ يَعْقُوبَ فِي حَالِ كَوْنِهِ زِيَادَةً عَلَى إِسْحَاقَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: جَعَلْنَاهُمْ يَشْمَلُ كُلَّ الْمَذْكُورِينَ إِبْرَاهِيمَ، وَلُوطًا، وَإِسْحَاقَ، وَيَعْقُوبَ، كَمَا جَزَمَ بِهِ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ الْمُحِيطِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مِنَ الْأَئِمَّةِ، أَيْ جَعَلَهُمْ رُؤَسَاءَ فِي الدِّينِ يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرَاتِ وَأَعْمَالِ الطَّاعَاتِ. وَقَوْلِهِ بِأَمْرِنَا أَيْ: بِمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ الْوَحْيِ، وَالْأَمْرِ، وَالنَّهْيِ، أَوْ يَهْدُونَ النَّاسَ إِلَى دِينِنَا بِأَمْرِنَا إِيَّاهُمْ، بِإِرْشَادِ الْخَلْقِ وَدُعَائِهِمْ إِلَى التَّوْحِيدِ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ طَلَبَ إِبْرَاهِيمَ الْإِمَامَةَ لِذَرِّيَّتِهِ الْمَذْكُورَ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» أَجَابَهُ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى بَعْضِ ذُرِّيَّتِهِ دُونَ بَعْضِهَا، وَضَابِطُ ذَلِكَ أَنَّ الظَّالِمِينَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ لَا يَنَالُونَ الْإِمَامَةَ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ كَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَإِنَّهُمْ يَنَالُونَهَا كَمَا صَرَّحَ بِهِ تَعَالَى
166
فِي قَوْلِهِ هُنَا: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً [٢١] وَطَلَبُ إِبْرَاهِيمَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ [٢ ١٢٤] فَقَوْلُهُ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِي أَيْ: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَّتِي أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْخَيْرِ. فَأَجَابَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أَيْ: لَا يَنَالُ الظَّالِمِينَ عَهْدِي بِالْإِمَامَةِ، عَلَى الْأَصْوَبِ. وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: الظَّالِمِينَ أَنَّ غَيْرَهُمْ يَنَالُهُ عَهْدُهُ بِالْإِمَامَةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ هُنَا. وَهَذَا التَّفْصِيلُ الْمَذْكُورُ فِي ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ أَشَارَ لَهُ تَعَالَى فِي «الصَّافَّاتِ» بِقَوْلِهِ: وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ [٣٧ ١١٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ [٢١] أَيْ: أَنْ يَفْعَلُوا الطَّاعَاتِ، وَيَأْمُرُوا النَّاسَ بِفِعْلِهَا. وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ مِنْ جُمْلَةِ الْخَيْرَاتِ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا النُّكْتَةَ الْبَلَاغِيَّةَ الْمُسَوِّغَةَ لِلْإِطْنَابِ فِي عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَعَكْسُهُ فِي الْقُرْآنِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ: وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ أَيْ: مُطِيعِينَ بِاجْتِنَابِ النَّوَاهِي وَامْتِثَالِ الْأَوَامِرِ بِإِخْلَاصٍ، فَهُمْ يَفْعَلُونَ مَا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِهِ، وَيَجْتَنِبُونَ مَا يَنْهَوْنَهُمْ عَنْهُ كَمَا قَالَ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ: وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ [١١ ٨٨].
وَقَوْلُهُ: أَئِمَّةً مَعْلُومٌ أَنَّهُ جَمْعُ إِمَامٍ، وَالْإِمَامُ: هُوَ الْمُقْتَدَى بِهِ، وَيُطْلَقُ فِي الْخَيْرِ كَمَا هُنَا، وَفِي الشَّرِّ كَمَا فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [٢٨ ٤١] وَمَا ظَنَّهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ الْإِشْكَالِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَيْسَ بِوَاقِعٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ أَبُو حَيَّانَ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَإِقَامَ الصَّلَاةِ لَمْ تُعَوَّضْ هُنَا تَاءٌ عَنِ الْعَيْنِ السَّاقِطَةِ بِالِاعْتِلَالِ عَلَى الْقَاعِدَةِ التَّصْرِيفِيَّةِ الْمَشْهُورَةِ؛ لِأَنَّ عَدَمَ تَعْوِيضِهَا عَنْهُ جَائِزٌ كَمَا هُنَا، كَمَا أَشَارَ إِلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
.......... وَأَلْفُ الْإِفْعَالِ وَاسْتِفْعَالِ
أَزِلْ لِذَا الْإِعْلَالِ، وَالَتَا الْزَمْ عِوَضْ وَحَذْفُهَا بِالنَّقْلِ رُبَّمَا عَرَضْ
وَقَدْ أَشَارَ فِي أَبْنِيَةِ الْمَصَادِرِ إِلَى أَنَّ تَعْوِيضَ التَّاءِ الْمَذْكُورَةِ مِنَ الْعَيْنِ هُوَ الْغَالِبُ بِقَوْلِهِ:
وَاسْتَعِذِ اسْتِعَاذَةً ثُمَّ أَقِمْ إِقَامَةً وَغَالِبًا ذَا التَّا لَزِمْ
وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ التَّاءَ الْمَذْكُورَةَ عِوَضٌ عَنِ الْعَيْنِ أَجْوَدُ مِنْ قَوْلِ مَنْ قَالَ: إِنَّ الْعَيْنَ
167
بَاقِيَةٌ وَهِيَ الْأَلِفُ الْبَاقِيَةُ، وَأَنَّ التَّاءَ عِوَضٌ عَنْ أَلْفِ الْإِفْعَالِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ.
قَوْلُهُ: وَلُوطًا [٢١] مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وُجُوبًا يُفَسِّرُهُ آتَيْنَاهُ كَمَا قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
فَالسَّابِقُ انْصِبْهُ بِفِعْلٍ أُضْمِرَا حَتْمًا مُوَافِقٍ لِمَا قَدْ أَظْهَرَا قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ: الْحُكْمُ: النُّبُوَّةُ. وَالْعِلْمُ: الْمَعْرِفَةُ بِأَمْرِ الدِّينِ، وَمَا يَقَعُ بِهِ الْحُكْمُ بَيْنَ الْخُصُومِ. وَقِيلَ: عِلْمًا: فَهْمًا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: حُكْمًا: حِكْمَةً، وَهُوَ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ، أَوْ فَصْلًا بَيْنَ الْخُصُومِ، وَقِيلَ: هُوَ النُّبُوَّةُ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ -: أَصْلُ الْحُكْمِ فِي اللُّغَةِ: الْمَنْعُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. فَمَعْنَى الْآيَاتِ أَنَّ اللَّهَ آتَاهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ مَا يَمْنَعُ أَقْوَالَهُ وَأَفْعَالَهُ مِنْ أَنْ يَعْتَرِيَهَا الْخَلَلُ. وَالْقَرْيَةُ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ هِيَ سَدُومُ وَأَعْمَالُهَا، وَالْخَبَائِثُ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُهَا جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ:
مِنْهَا: اللِّوَاطُ، وَأَنَّهُمْ هُمْ أَوَّلُ مَنْ فَعَلَهُ مِنَ النَّاسِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ [٧ ٨٠] وَقَالَ: أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ [٢٦ ١٦٥ - ١٦٦] وَمِنَ الْخَبَائِثِ الْمَذْكُورَةِ إِتْيَانُهُمُ الْمُنْكَرَ فِي نَادِيهِمْ، وَقَطْعُهُمُ الطَّرِيقَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ الْآيَةَ [٢٩ ٢٩]. وَمِنْ أَعْظَمِ خَبَائِثِهِمْ: تَكْذِيبُ نَبِيِّ اللَّهِ لُوطٍ، وَتَهْدِيدُهُمْ لَهُ بِالْإِخْرَاجِ مِنَ الْوَطَنِ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَالُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ [٢٦ ١٦٧] وَقَالَ تَعَالَى: فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ [٢٧ ٥٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ فِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّهُ أَهْلَكَهُمْ فَقَلَبَ بِهِمْ بَلَدَهُمْ، وَأَمْطَرَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [١٥] وَالْآيَاتُ بِنَحْوِ ذَلِكَ كَثِيرَةٌ. وَالْخَبَائِثُ: جَمْعُ خَبِيثَةٍ، وَهِيَ الْفِعْلَةُ السَّيِّئَةُ، كَالْكُفْرِ وَاللِّوَاطِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ.
وَقَوْلِهِ: قَوْمَ سَوْءٍ أَيْ: أَصْحَابَ عَمَلٍ سَيِّئٍ، وَلَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ جَزَاءٌ يَسُوءُهُمْ، وَقَوْلِهِ: فَاسِقِينَ أَيْ: خَارِجِينَ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَوْلِهِ: وَأَدْخَلْنَاهُ يَعْنِي لُوطًا فِي رَحْمَتِنَا شَامِلٌ لِنَجَاتِهِ مِنْ عَذَابِهِمُ الَّذِي أَصَابَهُمْ، وَشَامِلٌ لِإِدْخَالِهِ إِيَّاهُ فِي رَحْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْجَنَّةُ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «تَحَاجَّتِ النَّارُ وَالْجَنَّةُ». الْحَدِيثَ. وَفِيهِ: «فَقَالَ لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِهَا مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي».
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ.
قَوْلُهُ: وَنُوحًا مَنْصُوبٌ بِـ «اذْكُرْ» مُقَدَّرًا، أَيْ: وَاذْكُرْ نُوحًا حِينَ نَادَى مِنْ قَبْلُ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ. وَنِدَاءُ نُوحٍ هَذَا الْمَذْكُورُ هُنَا هُوَ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ [٣٧ - ٧٧] وَقَدْ أَوْضَحَ اللَّهُ هَذَا النِّدَاءَ بِقَوْلِهِ: وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [٧١ ٢٦ - ٢٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ [٥٤ ٩ - ١١] وَالْمُرَادُ بِالْكَرْبِ الْعَظِيمِ فِي الْآيَةِ: الْغَرَقُ بِالطُّوفَانِ الَّذِي تَتَلَاطَمُ أَمْوَاجُهُ كَأَنَّهَا الْجِبَالُ الْعِظَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ [١١ ٤٢] وَقَالَ تَعَالَى: فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ الْآيَةَ [٢٩ ١٥] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَالْكَرْبُ: هُوَ أَقْصَى الْغَمِّ، وَالْأَخْذُ بِالنَّفْسِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ يَعْنِي إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْ أَهْلِهِ بِالْهَلَاكِ مَعَ الْكَفَرَةِ الْهَالِكِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ [١١ ٤٠] وَمَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ: ابْنُهُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ: وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ [١١ ٤٣] وَامْرَأَتُهُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ إِلَى قَوْلِهِ: ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ. [٦٦ ١٠].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا.
169
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَدَاوُدَ [٢١ ٧٨] مَنْصُوبٌ بِـ «اذْكُرْ» مُقَدَّرًا. وَقِيلَ: مَعْطُوفُ قَوْلِهِ: وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ [٢١] أَيْ: وَاذْكُرْ نُوحًا إِذَا نَادَى مِنْ قَبْلُ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ الْآيَةَ
وَقَوْلُهُ: إِذْ بَدَلٌ مِنْ «دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ» بَدَلُ اشْتِمَالٍ كَمَا أَوْضَحْنَا فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ» وَذَكَرْنَا بَعْضَ الْمُنَاقَشَةِ فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا وَيَكُونُ فِي نَفْسِ الْآيَةِ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ الْقَوْلِ. وَذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكِتَابِ مَسَائِلَ كَثِيرَةً مِنْ ذَلِكَ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الْعُلَمَاءِ قَالُوا: إِنَّ حُكْمَ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ فِي الْحَرْثِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانَ بِوَحْيٍ، إِلَّا أَنَّ مَا أُوحِيَ إِلَى سُلَيْمَانَ كَانَ نَاسِخًا لِمَا أُوحِيَ إِلَى دَاوُدَ.
وَفِي الْآيَةِ قَرِينَتَانِ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا كَانَ بِاجْتِهَادٍ لَا بِوَحْيٍ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ أَصَابَ فَاسْتَحَقَّ الثَّنَاءَ بِاجْتِهَادِهِ وَإِصَابَتِهِ، وَأَنَّ دَاوُدَ لَمْ يُصِبْ فَاسْتَحَقَّ الثَّنَاءَ بِاجْتِهَادِهِ، وَلَمْ يَسْتَوْجِبْ لَوْمًا وَلَا ذَمًّا بِعَدَمِ إِصَابَتِهِ. كَمَا أَثْنَى عَلَى سُلَيْمَانَ بِالْإِصَابَةِ فِي قَوْلِهِ: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [٢١ ٧٩] وَأَثْنَى عَلَيْهِمَا فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [٢١ ٧٨] فَدَلَّ قَوْلُهُ: إِذْ يَحْكُمَانِ عَلَى أَنَّهُمَا حَكَمَا فِيهَا مَعًا كُلٌّ مِنْهُمَا بِحُكْمٍ مُخَالِفٍ لِحُكْمِ الْآخَرِ، وَلَوْ كَانَ وَحْيًا لَمَا سَاغَ الْخِلَافُ. ثُمَّ قَالَ: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَفْهَمْهَا دَاوُدُ، وَلَوْ كَانَ حُكْمُهُ فِيهَا بِوَحْيٍ لَكَانَ مُفْهَمًا إِيَّاهَا كَمَا تَرَى. فَقَوْلُهُ: إِذْ يَحْكُمَانِ مَعَ قَوْلِهِ: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ قَرِينَةٌ عَلَى أَنَّ الْحُكْمَ لَمْ يَكُنْ بِوَحْيٍ بَلْ بِاجْتِهَادٍ، وَأَصَابَ فِيهِ سُلَيْمَانُ دُونَ دَاوُدَ بِتَفْهِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ ذَلِكَ.
وَالْقَرِينَةُ الثَّانِيَةُ هِيَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَفَهَّمْنَاهَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ فَهَّمَهُ إِيَّاهَا مِنْ نُصُوصِ مَا كَانَ عِنْدَهُمْ مِنَ الشَّرْعِ. لَا أَنَّهُ أَنْزَلَ عَلَيْهِ فِيهَا وَحْيًا جَدِيدًا نَاسِخًا؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَفَهَّمْنَاهَا أَلْيَقُ بِالْأَوَّلِ مِنَ الثَّانِي كَمَا تَرَى.
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
اعْلَمْ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّهُمَا حَكَمَا فِيهَا بِاجْتِهَادٍ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ أَصَابَ فِي اجْتِهَادِهِ - جَاءَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ بِوُقُوعِ مِثْلِهِ مِنْهُمَا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِمْكَانِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَدْ دَلَّتِ الْقَرِينَةُ الْقُرْآنِيَّةُ عَلَى
170
وُقُوعِهِ، قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ (بَابُ إِذَا ادَّعَتِ الْمَرْأَةُ ابْنًا) حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرْنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «كَانَتِ امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا، جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا، فَقَالَتْ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ. فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِينِ أَشُقُّهُ بَيْنَهُمَا. فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا تَفْعَلْ يَرْحَمُكَ اللَّهُ هُوَ ابْنُهَا. فَقَضَى بِهِ لِلصُّغْرَى. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاللَّهِ إِنْ سَمِعْتُ بِالسِّكِينِ قَطُّ إِلَّا يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنَّا نَقُولُ إِلَّا الْمُدْيَةُ» انْتَهَى مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ. وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنِي شَبَابَةُ، حَدَّثَنِي وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «بَيْنَمَا امْرَأَتَانِ مَعَهُمَا ابْنَاهُمَا جَاءَ الذِّئْبُ فَذَهَبَ بِابْنِ إِحْدَاهُمَا. فَقَالَتْ هَذِهِ لِصَاحِبَتِهَا: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ أَنْتِ. وَقَالَتِ الْأُخْرَى: إِنَّمَا ذَهَبَ بِابْنِكِ، فَتَحَاكَمَتَا إِلَى دَاوُدَ فَقَضَى بِهِ لِلْكُبْرَى، فَخَرَجَتَا عَلَى سُلَيْمَانَ بْنِ دَاوُدَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ فَأَخْبَرَتَاهُ، فَقَالَ: ائْتُونِي بِالسِّكِينِ أَشُقُّهُ بَيْنَكُمَا، فَقَالَتِ الصُّغْرَى: لَا، يَرْحَمُكَ اللَّهُ» انْتَهَى مِنْهُ فَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّهُمَا قَضَيَا مَعًا بِالِاجْتِهَادِ فِي شَأْنِ الْوَلَدِ الْمَذْكُورِ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ أَصَابَ فِي ذَلِكَ، إِذْ لَوْ كَانَ قَضَاءُ دَاوُدَ بِوَحْيٍ لَمَا جَازَ نَقْضُهُ بِحَالٍ. وَقَضَاءُ سُلَيْمَانَ وَاضِحٌ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَحْيٍ؛ لِأَنَّهُ أَوْهَمَ الْمَرْأَتَيْنِ أَنَّهُ يَشُقُّهُ بِالسِّكِّينِ؛ لِيَعْرِفَ أُمَّهُ بِالشَّفَقَةِ عَلَيْهِ، وَيَعْرِفَ الْكَاذِبَةَ بِرِضَاهَا بِشَقِّهِ لِتُشَارِكَهَا أُمُّهُ فِي الْمُصِيبَةِ فَعَرَفَ الْحَقَّ بِذَلِكَ. وَهَذَا شَبِيهٌ جِدًّا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ حَسْبَمَا ذَكَرْنَا وَبَيَّنَّا دَلَالَةَ الْقَرِينَةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ. وَمِمَّا يُشْبِهُ ذَلِكَ مِنْ قَضَائِهِمَا الْقِصَّةُ الَّتِي أَوْرَدَهَا الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ عَسَاكِرَ فِي تَرْجَمَةِ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ تَارِيخِهِ، مِنْ طَرِيقِ الْحَسَنِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ صَالِحٍ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ مُسْلِمٍ، وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ بِشْرٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَ قِصَّةً مُطَوَّلَةً، مُلَخَّصُهَا أَنَّ امْرَأَةً حَسْنَاءَ فِي زَمَانِ بَنِي إِسْرَائِيلَ رَاوَدَهَا عَنْ نَفْسِهَا أَرْبَعَةٌ مِنْ رُؤَسَائِهِمْ، فَامْتَنَعَتْ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمْ، فَاتَّفَقُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ عَلَيْهَا. فَشَهِدُوا عِنْدَ دَاوُدَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهَا مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا كَلْبًا لَهَا، قَدْ عَوَّدَتْهُ ذَلِكَ مِنْهَا، فَأَمَرَ بِرَجْمِهَا، فَلَمَّا كَانَ عَشِيَّةُ ذَلِكَ الْيَوْمِ جَلَسَ سُلَيْمَانُ وَاجْتَمَعَ مَعَهُ وَلْدَانٌ مِثْلُهُ، فَانْتَصَبَ حَاكِمًا وَتَزَيَّا أَرْبَعَةٌ مِنْهُمْ بِزِيٍّ أُولَئِكَ وَآخَرُ بِزِيِّ الْمَرْأَةِ، وَشَهِدُوا عَلَيْهَا بِأَنَّهَا مَكَّنَتْ مِنْ نَفْسِهَا كَلْبًا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: فَرَّقُوا بَيْنَهُمْ. فَسَأَلَ أَوَّلَهُمْ: مَا كَانَ لَوْنُ الْكَلْبِ؟ فَقَالَ: أَسْوَدُ، فَعَزَلَهُ. وَاسْتَدْعَى الْآخَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ لَوْنِهِ؟ فَقَالَ: أَحْمَرُ. وَقَالَ
171
الْآخَرُ: أَغْبَشُ. وَقَالَ الْآخَرُ: أَبْيَضُ، فَأَمَرَ عِنْدَ ذَلِكَ بِقَتْلِهِمْ، فَحُكِيَ ذَلِكَ لِدَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَاسْتَدْعَى مِنْ فَوْرِهِ بِأُولَئِكَ الْأَرْبَعَةِ فَسَأَلَهُمْ مُتَفَرِّقِينَ عَنْ لَوْنِ ذَلِكَ الْكَلْبِ فَاخْتَلَفُوا عَلَيْهِ، فَأَمَرَ بِقَتْلِهِمْ. انْتَهَى بِوَاسِطَةِ نَقْلِ ابْنِ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ. وَكُلُّ هَذَا مِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ مَا فَسَّرْنَا بِهِ الْآيَةَ؛ لِدَلَالَةِ الْقَرِينَةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَيْهِ. وَمِمَّنْ فَسَّرَهَا بِذَلِكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ كَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ. قَالَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي صَحِيحِهِ، بَابُ مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ: وَقَالَ الْحَسَنُ: أَخَذَ اللَّهُ عَلَى الْحُكَّامِ أَنْ لَا يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَلَا يَخْشَوُا النَّاسَ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا [٢ ٤١] إِلَى أَنْ قَالَ - وَقَرَأَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [٢١ ٧٨ - ٧٩] فَحَمِدَ سُلَيْمَانَ وَلَمْ يَلُمْ دَاوُدَ. وَلَوْلَا مَا ذَكَرَهُ اللَّهُ مِنْ أَمْرِ هَذَيْنِ لَرَأَيْتُ أَنَّ الْقُضَاةَ هَلَكُوا، فَإِنَّهُ أَثْنَى عَلَى هَذَا بِعِلْمِهِ، وَعَذَرَ هَذَا بِاجْتِهَادِهِ. انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ. وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ الْحَسَنَ يَرَى أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَيَزِيدُ هَذَا إِيضَاحًا مَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» مِنَ الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
اعْلَمْ أَنَّ الِاجْتِهَادَ فِي الْأَحْكَامِ فِي الشَّرْعِ دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةٌ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، مِنْهَا هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا هُنَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ بَنِي «إِسْرَائِيلَ» طَرَفًا مِنْ ذَلِكَ، وَوَعَدْنَا بِذِكْرِهِ مُسْتَوْفًى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ وَسُورَةِ الْحَشْرِ، وَهَذَا أَوَانُ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْوَعْدِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ. وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا مَرَّ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» أَنَّا ذَكَرْنَا طَرَفًا مِنَ الْأَدِلَّةِ عَلَى الِاجْتِهَادِ فَبَيَّنَّا إِجْمَاعَ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْعَمَلِ بِنَوْعِ الِاجْتِهَادِ الْمَعْرُوفِ بِالْإِلْحَاقِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ الَّذِي يُسَمِّيهِ الشَّافِعِيُّ الْقِيَاسَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَهُوَ تَنْقِيحُ الْمَنَاطِ. وَأَوْضَحْنَا أَنَّهُ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، وَبَيَّنَّا الْإِجْمَاعَ أَيْضًا عَلَى الْعَمَلِ بِنَوْعِ الِاجْتِهَادِ الْمَعْرُوفِ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَأَنَّهُ لَا يُنْكِرُهُ إِلَّا مُكَابِرٌ، وَذَكَرْنَا أَمْثِلَةً لَهُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَكَرْنَا أَحَادِيثَ دَالَّةً عَلَى الِاجْتِهَادِ، مِنْهَا الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ، وَمِنْهَا حَدِيثُ مُعَاذٍ حِينَ بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ، وَقَدْ وَعَدْنَا بِأَنْ نَذْكُرَ طُرُقَهُ هُنَا إِلَى آخَرِ مَا ذَكَرْنَا هُنَاكَ.
172
اعْلَمْ أَنَّ جَمِيعَ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُسْنَدِ وَالسُّنَنِ كُلُّهَا مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرِو ابْنِ أَخِي الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ، عَنْ مُعَاذٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
أَمَّا الرِّوَايَةُ الْمُتَّصِلَةُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا سَابِقًا عَنِ ابْنِ قُدَامَةَ فِي (رَوْضَةِ النَّاظِرِ) أَنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ، فَهَذَا الْإِسْنَادُ وَإِنْ كَانَ مُتَّصِلًا وَرِجَالُهُ مَعْرُوفُونَ بِالثِّقَةِ، فَإِنِّي لَمْ أَقِفْ عَلَى مَنْ خَرَّجَ هَذَا الْحَدِيثَ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ، إِلَّا مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ) عَنْ أَبِي بَكْرٍ الْخَطِيبِ بِلَفْظِ: وَقَدْ قِيلَ إِنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ. اهـ مِنْهُ. وَلَفْظَةُ «قِيلَ» صِيغَةُ تَمْرِيضٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَإِلَّا مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَارِيخِهِ، فَإِنَّهُ لَمَّا ذَكَرَهُ فِيهِ حَدِيثُ مُعَاذٍ الْمَذْكُورُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرْنَا بِالْإِسْنَادِ الَّذِي أَخْرَجَهُ بِهِ الْإِمَامُ أَحْمَدُ قَالَ: وَأَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ بِهِ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَيْسَ إِسْنَادُهُ عِنْدِي بِمُتَّصِلٍ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ، إِلَّا أَنَّهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانَ وَهُوَ الْمَصْلُوبُ أَحَدُ الْكَذَّابِينَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ مُعَاذٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ النُّسْخَةَ الْمَوْجُودَةَ بِأَيْدِينَا مِنْ تَارِيخِ ابْنِ كَثِيرٍ الَّتِي هِيَ مِنَ الطَّبْعَةِ الْأُولَى سَنَةَ (١٣٥١) فِيهَا تَحْرِيفٌ مَطْبَعِيٌّ فِي الْكَلَامِ الَّذِي ذَكَرْنَا؛ فَفِيهَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ حَسَّانَ، وَالصَّوَابُ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ لَا سَعْدٍ. وَفِيهَا: عَنْ عَيَّاذِ بْنِ بِشْرٍ، وَالصَّوَابُ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ.
وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ مِنْ إِخْرَاجِ ابْنِ مَاجَهْ لِحَدِيثِ مُعَاذٍ الْمَذْكُورِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدٍ الْمَصْلُوبِ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ ابْنُ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ - لَمْ أَرَهُ فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ، وَالَّذِي فِي سُنَنِ ابْنِ مَاجَهْ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ غَيْرُ الْمَتْنِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا لَفْظُهُ: حَدَّثْنَا الْحَسَنُ بْنُ حَمَّادٍ سَجَّادَةُ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأُمَوِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ حَسَّانَ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، قَالَ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: «لَا تَقْضِيَنَّ، وَلَا تَفْصِلَنَّ إِلَّا بِمَا تَعْلَمُ، وَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ أَمْرٌ فَقِفْ حَتَّى تَبَيَّنَهُ أَوْ تَكْتُبَ إِلَيَّ فِيهِ» اهـ مِنْهُ. وَمَا أَدْرِي أَوَهِمَ الْحَافِظُ بْنُ كَثِيرٍ فِيمَا ذَكَرَ؟ أَوْ هُوَ يَعْتَقِدُ أَنَّ مَعْنَى «تَبَيَّنَهُ» فِي الْحَدِيثِ أَيْ: تَعْلَمُهُ بِاجْتِهَادِكَ فِي اسْتِخْرَاجِهِ مِنَ الْمَنْصُوصِ، فَيَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ؟ وَعَلَى كُلِّ حَالٍ
173
فَالرِّوَايَةُ الْمَذْكُورَةُ مِنْ طَرِيقِ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ، فِيهَا كَذَّابٌ وَهُوَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَذْكُورُ الَّذِي قَتَلَهُ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ فِي الزَّنْدَقَةِ وَصَلَبَهُ. وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ: وَضَعَ أَرْبَعَةَ آلَافِ حَدِيثٍ. فَإِذَا عَلِمْتَ بِهَذَا انْحِصَارَ طُرُقِ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ الَّذِي فِيهِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّهُ إِنْ لَمْ يَجِدِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اجْتَهَدَ فِيهَا رَأْيَهُ، وَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ فِي الطَّرِيقَتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ - عَلِمْتَ وَجْهَ تَضْعِيفِ الْحَدِيثِ مِمَّنْ ضَعَّفَهُ، وَأَنَّهُ يَقُولُ: طَرِيقُ عُبَادَةَ بْنِ نُسَيٍّ، عَنِ ابْنِ غَنْمٍ لَمْ تُسْنِدُوهَا ثَابِتَةً مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ إِلَيْهِ، وَالطَّرِيقُ الْأُخْرَى الَّتِي فِي الْمُسْنَدِ، وَالسُّنَنِ فِيهَا الْحَارِثُ بْنُ أَخِي الْمُغِيرَةِ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَالرُّوَاةُ فِيهَا أَيْضًا عَنْ مُعَاذٍ مَجَاهِيلُ - فَمِنْ أَيْنَ قُلْتُمْ بِصِحَّتِهَا؟ وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ابْنَ كَثِيرٍ قَالَ فِي مُقَدِّمَةِ تَفْسِيرِهِ: إِنَّ الطَّرِيقَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْمُسْنَدِ، وَالسُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. وَقُلْنَا: لَعَلَّهُ يَرَى أَنَّ الْحَارِثَ الْمَذْكُورَ ثِقَةٌ، وَقَدْ وَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ، وَأَنَّ أَصْحَابَ مُعَاذٍ لَا يُعْرَفُ فِيهِمْ كَذَّابٌ، وَلَا مُتَّهَمٌ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَيُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا عَنْ مُرَادِ ابْنِ كَثِيرٍ بِجَوْدَةِ الْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ مَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقِيَمِ فِي إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ، قَالَ فِيهِ: وَقَدْ أَقَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعَاذًا عَلَى اجْتِهَادِ رَأْيِهِ فِيمَا لَمْ يَجِدْ فِيهِ نَصًّا عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَقَالَ شُعْبَةُ: حَدَّثَنِي أَبُو عَوْنٍ عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ: أَنَّ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ قَالَ: «كَيْفَ تَصْنَعُ إِنْ عَرَضَ لَكَ قَضَاءٌ» ؟ قَالَ: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ» ؟ قَالَ: فَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» ؟ قَالَ: أَجْتَهِدُ رَأْيِي، لَا آلُو. فَضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَدْرِي ثُمَّ قَالَ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ». فَهَذَا حَدِيثٌ إِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ مُسَمَّيْنَ فَهُمْ أَصْحَابُ مُعَاذٍ، فَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى شُهْرَةِ الْحَدِيثِ، وَأَنَّ الَّذِي حَدَّثَ لَهُ الْحَارِثُ بْنُ عَمْرٍو عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مُعَاذٍ، لَا وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَهَذَا أَبْلَغُ فِي الشُّهْرَةِ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ وَلَوْ سُمِّيَ، كَيْفَ وَشُهْرَةُ أَصْحَابِ مُعَاذٍ بِالْعِلْمِ، وَالدِّينِ، وَالْفَضْلِ، وَالصِّدْقِ بِالْمَحَلِّ الَّذِي لَا يَخْفَى، وَلَا يُعْرَفُ فِي أَصْحَابِهِ مُتَّهَمٌ، وَلَا كَذَّابٌ، وَلَا مَجْرُوحٌ، بَلْ أَصْحَابُهُ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُسْلِمِينَ وَخِيَارِهِمْ، وَلَا يَشُكُّ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالنَّقْلِ فِي ذَلِكَ، كَيْفَ وَشُعْبَةُ حَامِلُ لِوَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ؟ وَقَالَ بَعْضُ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ: إِذَا رَأَيْتَ شُعْبَةَ فِي إِسْنَادِ حَدِيثٍ فَاشْدُدْ يَدَيْكَ بِهِ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ: وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ عُبَادَةَ بْنَ نُسَيٍّ رَوَاهُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ، عَنْ مُعَاذٍ، وَهَذَا إِسْنَادٌ مُتَّصِلٌ، وَرِجَالُهُ مَعْرُوفُونَ بِالثِّقَةِ عَلَى أَنَّ أَهْلَ
174
الْعِلْمِ قَدْ نَقَلُوهُ وَاحْتَجُّوا بِهِ. فَوَقَفْنَا بِذَلِكَ عَلَى صِحَّتِهِ عِنْدَهُمْ، كَمَا وَقَفْنَا بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»، وَقَوْلِهِ فِي الْبَحْرِ: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الْحَلُّ مَيْتَتُهُ»، وَقَوْلِهِ: «إِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي الثَّمَنِ، وَالسِّلْعَةُ قَائِمَةٌ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا الْبَيْعَ»، وَقَوْلِهِ: «الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ». وَإِنَّ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ لَا تَثْبُتُ مِنْ جِهَةِ الْإِسْنَادِ وَلَكِنْ لَمَّا تَلَقَّتْهَا الْكَافَّةُ عَنِ الْكَافَّةِ غَنُوا بِصِحَّتِهَا عِنْدَهُمْ عَنْ طَلَبِ الْإِسْنَادِ لَهَا. فَكَذَلِكَ حَدِيثُ مُعَاذٍ لَمَّا احْتَجُّوا بِهِ جَمِيعًا غَنُوا عَنْ طَلَبِ الْإِسْنَادِ لَهُ. انْتَهَى مِنْهُ. وَحَدِيثُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ الثَّابِتُ فِي الصَّحِيحَيْنِ شَاهِدٌ لَهُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَهُ شَوَاهِدُ غَيْرُ ذَلِكَ سَتَرَاهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
اعْلَمْ أَنَّ الِاجْتِهَادَ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ نُصُوصُ الشَّرْعِ أَنْوَاعٌ مُتَعَدِّدَةٌ:
(مِنْهَا) : الِاجْتِهَادُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا كَثِيرًا مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي " الْإِسْرَاءِ ".
(وَمِنْهَا) : الِاجْتِهَادُ فِي تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ، وَمِنْ أَنْوَاعِهِ: السَّبْرُ، وَالتَّقْسِيمُ، وَالْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاجْتِهَادَ بِإِلْحَاقِ الْمَسْكُوتِ عَنْهُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ قِسْمَانِ:
الْأَوَّلُ: الْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَهُوَ قِسْمٌ مِنْ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ آنِفًا. وَيُسَمَّى عِنْدَ الشَّافِعِيِّ الْقِيَاسَ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ، وَهُوَ بِعَيْنِهِ مَفْهُومُ الْمُوَافَقَةِ، وَيُسَمَّى أَيْضًا الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ.
وَالثَّانِي مِنْ نَوْعَيِ الْإِلْحَاقِ: هُوَ الْقِيَاسُ الْمَعْرُوفُ بِهَذَا الِاسْمِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ.
أَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ الَّذِي هُوَ الْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ فَلَا يُحْتَاجُ فِيهِ إِلَى وَصْفٍ جَامِعٍ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ وَهُوَ الْعِلَّةُ. بَلْ يُقَالُ فِيهِ: لَمْ يُوجَدْ بَيْنَ هَذَا الْمَنْطُوقِ بِهِ وَهَذَا الْمَسْكُوتِ عَنْهُ فَرْقٌ فِيهِ يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ أَلْبَتَّةَ، فَهُوَ مِثْلُهُ فِي الْحُكْمِ، وَأَقْسَامُهُ أَرْبَعَةٌ، لِأَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ مُسَاوِيًا لِلْمَنْطِقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ، أَوْ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَفْيُ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا مَقْطُوعًا بِهِ أَوْ مَظْنُونًا. فَالْمَجْمُوعُ أَرْبَعَةٌ:
(الْأَوَّلُ مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ مَعَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ
175
الْفَارِقِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [١٧ ٢٣] فَالضَّرْبُ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ مِنَ التَّأْفِيفِ الْمَنْطُوقِ بِهِ مَعَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ [٦٥ ٢] فَشَهَادَةُ أَرْبَعَةٍ عُدُولٍ الْمَسْكُوتُ عَنْهَا أَوْلَى بِالْحُكْمِ وَهُوَ الْقَبُولُ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَهُوَ شَهَادَةُ الْعَدْلَيْنِ مَعَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ.
(وَالثَّانِي مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ أَوْلَى بِالْحُكْمِ مِنَ الْمَنْطُوقِ بِهِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ قَطْعِيًّا، بَلْ مَظْنُونًا ظَنًّا قَوِيًّا مُزَاحِمًا لِلْيَقِينِ. وَمِثَالُهُ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ. فَالتَّضْحِيَةُ بِالْعَمْيَاءِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا أَوْلَى بِالْحُكْمِ وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ الْمَنْطُوقِ بِهَا، إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا لَيْسَ قَطْعِيًّا بَلْ مَظْنُونًا ظَنًّا قَوِيًّا؛ لِأَنَّ عِلَّةَ النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ كَوْنُهَا نَاقِصَةً ذَاتًا وَثَمَنًا وَقِيمَةً، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ، وَعَلَيْهِ فَالْعَمْيَاءُ أَنْقَصُ مِنْهَا ذَاتًا وَقِيمَةً. وَهُنَاكَ احْتِمَالٌ آخَرُ: هُوَ الَّذِي مَنَعَ مِنَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَهُوَ احْتِمَالُ أَنْ تَكُونَ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ أَنَّ الْعَوَرَ مَظِنَّةُ الْهُزَالِ؛ لِأَنَّ الْعَوْرَاءَ نَاقِصَةُ الْبَصَرِ، وَنَاقِصَةُ الْبَصَرِ تَكُونُ نَاقِصَةَ الرَّعْيِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَرَى إِلَّا مَا يُقَابِلُ عَيْنًا وَاحِدَةً، وَنَقْصُ الرَّعْيِ مَظِنَّةٌ لِلْهُزَالِ. وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْعَمْيَاءُ لَيْسَتْ كَالْعَوْرَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَمْيَاءَ يُخْتَارُ لَهَا أَحْسَنُ الْعَلَفِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ مَظِنَّةً لِسِمَنِهَا.
(وَالثَّالِثُ مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُسَاوِيًا لِلْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ مَعَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ؛ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا الْآيَةَ [٤ ١٠]. فَإِحْرَاقُ أَمْوَالِ الْيَتَامَى وَإِغْرَاقُهَا الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُسَاوٍ لِلْأَكْلِ الْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ التَّحْرِيمُ، وَالْوَعِيدُ بِعَذَابِ النَّارِ مَعَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ. (وَالرَّابِعُ مِنْهَا) : أَنْ يَكُونَ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ مُسَاوِيًا لِلْمَنْطُوقِ بِهِ فِي الْحُكْمِ أَيْضًا، إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا مَظْنُونٌ ظَنًّا قَوِيًّا مُزَاحِمًا لِلْيَقِينِ، وَمِثَالُهُ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ " مَنْ أَعْتَقَ شِرْكًا لَهُ فِي عَبْدٍ.. " الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ فِي " الْإِسْرَاءِ، وَالْكَهْفِ "، فَإِنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ وَهُوَ عِتْقُ بَعْضِ الْأَمَةِ مُسَاوٍ لِلْمَنْطُوقِ بِهِ وَهُوَ عِتْقُ بَعْضِ الْعَبْدِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي هُوَ سَرَايَةُ الْعِتْقِ الْمُبَيَّنَةُ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ مِرَارًا. إِلَّا أَنَّ نَفْيَ الْفَارِقِ بَيْنَهُمَا مَظْنُونٌ ظَنًّا قَوِيًّا؛ لِأَنَّ الذُّكُورَةَ وَالْأُنُوثَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْعِتْقِ وَصْفَانِ طَرْدِيَّانِ لَا يُنَاطُ بِهِمَا حُكْمٌ مِنْ أَحْكَامِ الْعِتْقِ. كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ " مَرْيَمَ " وَهُنَاكَ احْتِمَالٌ آخَرُ هُوَ الَّذِي مَنَعَ مِنَ الْقَطْعِ بِنَفْيِ الْفَارِقِ، وَهُوَ احْتِمَالُ أَنْ يَكُونَ الشَّارِعُ نَصَّ عَلَى سَرَايَةِ الْعِتْقِ فِي خُصُوصِ الْعَبْدِ الذَّكَرِ، مُخَصِّصًا لَهُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ دُونَ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّ عِتْقَ الذَّكَرِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْآثَارِ الشَّرْعِيَّةِ مَا لَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عِتْقِ
176
الْأُنْثَى، كَالْجِهَادِ، وَالْإِمَامَةِ، وَالْقَضَاءِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَاصِبِ الْمُخْتَصَّةِ بِالذُّكُورِ دُونَ الْإِنَاثِ. وَقَدْ أَكْثَرْنَا مِنْ أَمْثِلَةِ هَذَا النَّوْعِ الَّذِي هُوَ الْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ فِي سُورَةِ " بَنِي إِسْرَائِيلَ ".
(وَأَمَّا النَّوْعُ الثَّانِي مِنْ أَنْوَاعِ الْإِلْحَاقِ) : فَهُوَ الْقِيَاسُ الْمَعْرُوفُ فِي الْأُصُولِ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِقِيَاسِ التَّمْثِيلِ. وَسَنُعَرِّفُهُ هُنَا لُغَةً وَاصْطِلَاحًا، وَنَذْكُرُ أَقْسَامَهُ، وَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَمْثِلَتِهِ فِي الْقُرْآنِ:
اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ فِي اللُّغَةِ: التَّقْدِيرُ وَالتَّسْوِيَةُ. يُقَالُ: قَاسَ الثَّوْبَ بِالذِّرَاعِ، وَقَاسَ الْجُرْحَ بِالْمِيلِ (بِالْكَسْرِ) وَهُوَ الْمِرْوَدُ، إِذَا قَدَّرَ عُمْقَهُ بِهِ؛ وَلِهَذَا سُمِّيَ الْمِيلُ مِقْيَاسًا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ الْبُعَيْثِ بْنِ بِشْرٍ يَصِفُ جِرَاحَةً أَوْ شَجَّةً:
إِذَا قَاسَهَا الْآسِي النَّطَاسِيُّ أَدْبَرَتْ غَثِيثَتُهَا وَازْدَادَ وَهْيًا هَزُومُهَا
فَقَوْلُهُ: " قَاسَهَا " يَعْنِي قَدَّرَ عُمْقَهَا بِالْمِيلِ.
وَالْآسِي: الطَّبِيبُ، وَالنِّطَاسِيُّ (بِكَسْرِ النُّونِ وَفَتْحِهَا) : الْمَاهِرُ بِالطِّبِّ، وَالْغَثِيثَةُ (بِثَاءَيْنِ مُثَلَّثَتَيْنِ) : مِدَّةُ الْجُرْحِ وَقَيْحُهُ، وَمَا فِيهِ مِنْ لَحْمٍ مَيِّتٍ، وَالْوَهْيُ: التَّخَرُّقُ وَالتَّشَقُّقُ، وَالْهُزُومُ: غَمْزُ الشَّيْءِ بِالْيَدِ فَيَصِيرُ فِيهِ حُفْرَةٌ كَمَا يَقَعُ فِي الْوَرَمِ الشَّدِيدِ.
وَتَعْرِيفُ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ فِي اصْطِلَاحِ أَهْلِ الْأُصُولِ كَثُرَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ الْأُصُولِيِّينَ مَعَ مُنَاقَشَاتٍ مَعْرُوفَةٍ فِي تَعْرِيفَاتِهِمْ لَهُ. وَاخْتَارَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تَعْرِيفَهُ بِأَنَّهُ حَمْلُ مَعْلُومٍ عَلَى مَعْلُومٍ، أَيْ: إِلْحَاقُهُ بِهِ فِي حُكْمِهِ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ. وَهَذَا التَّعْرِيفُ إِنَّمَا يَشْمَلُ الْقِيَاسَ الصَّحِيحَ دُونَ الْفَاسِدِ. وَالتَّعْرِيفُ الشَّامِلُ لِلْفَاسِدِ هُوَ أَنْ تَزِيدَ عَلَى تَعْرِيفِ الصَّحِيحِ لَفْظَةُ عِنْدَ الْحَامِلِ، فَتَقُولُ: هُوَ إِلْحَاقٌ مَعْلُومٌ فِي حُكْمِهِ لِمُسَاوَاتِهِ لَهُ فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ عِنْدَ الْحَامِلِ، فَيَدْخُلُ الْفَاسِدُ فِي الْحَدِّ مَعَ الصَّحِيحِ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ مُعَرِّفًا لِلْقِيَاسِ:
يُحْمَلُ مَعْلُومٌ عَلَى مَا قَدْ عُلِمْ لِلِاسْتِوَا فِي عِلَّةِ الْحُكْمِ وَسَمْ
وَإِنْ تُرِدْ شُمُولَهُ لِمَا فَسَدْ فَزِدْ لَدَى الْحَامِلِ وَالزَّيْدُ أَسَدْ
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَرْكَانَ الْقِيَاسِ الْمَذْكُورِ أَرْبَعَةٌ: وَهِيَ الْأَصْلُ الْمَقِيسُ عَلَيْهِ، وَالْفَرْعُ الْمَقِيسُ، وَالْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ بَيْنَهُمَا، وَحُكْمُ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ.
فَلَوْ قِسْنَا النَّبِيذَ عَلَى الْخَمْرِ، فَالْأَصْلُ: الْخَمْرُ، وَالْفَرْعُ: النَّبِيذُ، وَالْعِلَّةُ: الْإِسْكَارُ،
177
وَحُكْمُ الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ الْخَمْرُ: التَّحْرِيمُ. وَشُرُوطُ هَذِهِ الْأَرْكَانِ الْأَرْبَعَةِ وَالْبَحْثُ فِيهَا مُسْتَوْفًى فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، فَلَا نُطِيلُ بِهِ الْكَلَامَ هُنَا.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ الْمَذْكُورَ يَنْقَسِمُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْجَامِعِ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ إِلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: قِيَاسُ الْعِلَّةِ.
وَالثَّانِي: قِيَاسُ الدَّلَالَةِ.
وَالثَّالِثُ: قِيَاسُ الشَّبَهِ.
أَمَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ فَضَابِطُهُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِنَفْسِ عِلَّةِ الْحُكْمِ، فَالْجَمْعُ بَيْنَ النَّبِيذِ وَالْخَمْرِ بِنَفْسِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْإِسْكَارُ، وَالْقَصْدُ مُطْلَقُ التَّمْثِيلِ؛ لِأَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قِيَاسَ النَّبِيذِ عَلَى الْخَمْرِ لَا يَصِحُّ؛ لِوُجُودِ النَّصِّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَأَنَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ ". وَالْقِيَاسُ لَا يَصِحُّ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْفَرْعِ الْمَذْكُورِ كَحُكْمِ الْأَصْلِ، إِلَّا أَنَّ الْمِثَالَ يَصِحُّ بِالتَّقْدِيرِ وَالْفَرْضِ، وَمُطْلَقِ الِاحْتِمَالِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَكَالْجَمْعِ بَيْنَ الْبُرِّ وَالذُّرَةِ بِنَفْسِ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْكَيْلُ مَثَلًا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي الْمَرَاقِي بِقَوْلِهِ:
وَمَا بِذَاتِ عِلَّةٍ قَدْ جُمِعَا فِيهِ فَقَيْسُ عِلَّةٍ قَدْ سُمِعَا
وَأَمَّا قِيَاسُ الدَّلَالَةِ فَضَابِطُهُ أَنْ يَكُونَ الْجَمْعُ فِيهِ بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ لَا بِنَفْسِ الْعِلَّةِ، كَأَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِمَلْزُومِ الْعِلَّةِ أَوْ أَثَرِهَا أَوْ حُكْمِهَا. فَمِثَالُ الْجَمْعِ بِمَلْزُومِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ: النَّبِيذُ حَرَامٌ كَالْخَمْرِ بِجَامِعِ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ، وَهِيَ مَلْزُومٌ لِلْإِسْكَارِ، بِمَعْنَى أَنَّهَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِ الْإِسْكَارِ. وَمِثَالُ الْجَمْعِ بِأَثَرِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ: الْقَتْلُ بِالْمُثْقَلِ يُوجِبُ الْقِصَاصَ كَالْقَتْلِ بِمُحَدَّدٍ، بِجَامِعِ الْإِثْمِ وَهُوَ أَثَرُ الْعِلَّةِ وَهِيَ لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ. وَمِثَالُ الْجَمْعِ بِحُكْمِ الْعِلَّةِ أَنْ يُقَالَ: تُقْطَعُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ كَمَا يُقْتَلُونَ بِهِ، بِجَامِعِ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ غَيْرَ عَمْدٍ، وَهُوَ حُكْمُ الْعِلَّةِ الَّتِي هِيَ الْقِطَعُ مِنْهُمْ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَالْقَتْلُ مِنْهُمْ فِي الثَّانِيَةِ. وَإِلَى تَعْرِيفِ قِيَاسِ الدَّلَالَةِ الْمَذْكُورِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
جَامِعُ ذِي الدَّلَالَةِ الَّذِي لَزِمْ فَأَثَّرَ فَحُكْمُهَا كَمَا رُسِمْ
وَقَوْلُهُ: " الَّذِي لَزِمَ " بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ يَعْنِي اللَّازِمَ، وَتَعْبِيرُهُ هُنَا بِاللَّازِمِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ غَلَطٌ مِنْهُ وَمِمَّنْ تَبِعَهُ هُوَ؛ لِأَنَّ وُجُودَ اللَّازِمِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى وُجُودِ الْمَلْزُومِ بِإِطْبَاقِ
178
الْعُقَلَاءِ؛ لِاحْتِمَالِ كَوْنِ اللَّازِمِ أَعَمَّ مِنَ الْمَلْزُومِ، وَوُجُودُ الْأَعَمِّ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْأَخَصِّ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَلِذَا أَجْمَعَ النُّظَّارُ عَلَى أَنَّ اسْتِثْنَاءَ عَيْنِ التَّالِي فِي الشَّرْطِ الْمُتَّصِلِ لَا يُنْتِجُ عَيْنَ الْمُقَدَّمِ؛ لِأَنَّ وُجُودَ اللَّازِمِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَلْزُومِ، وَالصَّوَابُ مَا مَثَّلْنَا بِهِ مِنَ الْجَمْعِ بِمَلْزُومِ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَلْزُومَ هُوَ الَّذِي يَقْتَضِي وُجُودُهُ وُجُودَ اللَّازِمِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، فَالشِّدَّةُ الْمُطْرِبَةُ وَالْإِسْكَارُ مُتَلَازِمَانِ، وَدَلَالَةُ الشِّدَّةِ الْمُطْرِبَةِ عَلَى الْإِسْكَارِ إِنَّمَا هِيَ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَلْزُومٌ لَهُ لَا لَازِمٌ، لِمَا عَرَفْتَ مِنْ أَنَّ وُجُودَ اللَّازِمِ لَا يَقْتَضِي وُجُودَ الْمَلْزُومِ، وَاقْتِضَاؤُهُ لَهُ هُنَا إِنَّمَا هُوَ لِلْمُلَازَمَةِ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا لَازِمٌ لِلْآخَرِ وَمَلْزُومٌ لَهُ لِلْمُلَازِمَةِ بَيْنَهُمَا مِنَ الطَّرَفَيْنِ.
وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَقَدِ اخْتَلَفَتْ فِيهِ عِبَارَاتُ أَهْلِ الْأُصُولِ، فَعَرَفَ بَعْضُهُمُ الشَّبَهَ بِأَنَّهُ مَنْزِلَةٌ بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِ، وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ الْمُنَاسِبُ بِالتَّبَعِ بِالذَّاتِ. وَمَعْنَى هَذَا كَمَعْنَى تَعْرِيفِ مَنْ عَرَّفَهُ بِأَنَّهُ الْمُسْتَلْزِمِ لِلْمُنَاسِبِ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: عِبَارَاتُ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي الشَّبَهِ الَّذِي هُوَ الْمَسْلَكُ السَّادِسُ مِنْ مَسَالِكِ الْعِلَّةِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ كُلُّهَا تَدُورُ حَوْلَ شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنَّ الْوَصْفَ الْجَامِعَ فِي قِيَاسِ الشَّبَهِ يُشْبِهُ الْمُنَاسِبَ مِنْ وَجْهِهِ، وَيُشْبِهُ الْوَصْفَ الطَّرْدِيَّ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى.
وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ " مَرْيَمَ " أَنَّ الْمُنَاسِبَ هُوَ الْوَصْفُ الَّذِي تَتَضَمَّنُ إِنَاطَةُ الْحُكْمِ بِهِ مَصْلَحَةً مِنْ جَلْبِ نَفْعٍ أَوْ دَفْعِ ضُرٍّ، وَالطَّرْدِيُّ هُوَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ، إِمَّا فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ وَإِمَّا فِي بَعْضِهَا، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي أَنَّ مَا يُسَمَّى بِغَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ لَا يَخْرُجُ عَنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ؛ لِأَنَّ بَعْضَهُمْ يَقُولُ: إِنَّهُ دَاخِلٌ فِيهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ بِعَيْنِهِ لَا شَيْءٌ آخَرُ. وَغَلَبَةُ الْأَشْيَاءِ هُوَ إِلْحَاقُ فَرْعٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ أَصْلَيْنِ بِأَكْثَرِهِمَا شَبَهًا بِهِ، كَالْعَبْدِ فَإِنَّهُ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَصْلَيْنِ لِشَبَهِهِ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فَهُوَ يُشْبِهُ الْمَالَ لِكَوْنِهِ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى وَيُوهَبُ وَيُورَثُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَحْوَالِ الْمَالِ، وَيُشْبِهُ الْحُرَّ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ إِنْسَانٌ يَنْكِحُ وَيُطَلِّقُ وَيُثَابُ وَيُعَاقَبُ، وَتَلْزَمُهُ أَوَامِرُ الشَّرْعِ وَنَوَاهِيهِ. وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِنَّ شَبَهَهُ بِالْمَالِ أَكْثَرُ مِنْ شَبَهِهِ بِالْحُرِّ؛ لِأَنَّهُ يُشْبِهُ الْمَالَ فِي الْحُكْمِ وَالصِّفَةِ مَعًا أَكْثَرَ مِمَّا يُشْبِهُ الْحُرَّ فِيهِمَا.
فَمِنْ شَبَهِهِ بِالْمَالِ فِي الْحُكْمِ: كَوْنُهُ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى وَيُورَثُ، وَيُوهَبُ وَيُعَارُ، وَيُدْفَعُ فِي الصَّدَاقِ وَالْخُلْعِ، وَيُرْهَنُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ.
وَمِنْ شَبَهِهِ بِالْمَالِ فِي الصِّفَةِ: كَوْنُهُ تَتَفَاوَتُ قِيمَتُهُ بِحَسَبِ تَفَاوُتِ أَوْصَافِهِ جَوْدَةً
179
وَرَدَاءَةً كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. فَلَوْ قَتَلَ إِنْسَانٌ عَبْدًا لِآخَرَ لَزِمَتْهُ قِيمَتُهُ نَظَرًا إِلَى أَنَّ شَبَهَهُ بِالْمَالِ أَغْلَبُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَلْزَمُهُ دِيَتُهُ كَالْحُرِّ زَعْمًا مِنْهُ أَنَّ شَبَهَهُ بِالْحُرِّ أَغْلَبُ، فَإِنْ قِيلَ: بِأَيِّ طَرِيقٍ يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ الَّذِي هُوَ غَلَبَةُ الْأَشْبَاهِ مِنَ الشَّبَهِ؛ لِأَنَّكُمْ قَرَّرْتُمْ أَنَّهُ مَرْتَبَةٌ بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ، فَمَا وَجْهُ كَوْنِهِ مَرْتَبَةً بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ إِيضَاحَ ذَلِكَ فِيهِ أَنَّ أَوْصَافَهُ الْمُشَابِهَةَ لِلْمَالِ كَكَوْنِهِ يُبَاعُ وَيُشْتَرَى.. إلخ طَرْدِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لُزُومِ الدِّيَةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ كَالْمَالِ لَيْسَ صَالِحًا لِأَنْ يُنَاطَ بِهِ لُزُومُ دِيَتِهِ إِذَا قُتِلَ، وَكَذَلِكَ أَوْصَافُهُ الْمُشَابِهَةُ لِلْحُرِّ كَكَوْنِهِ مُخَاطَبًا يُثَابُ وَيُعَاقَبُ إلخ. فَهِيَ طَرْدِيَّةٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى لُزُومِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ كَالْحُرِّ لَيْسَ صَالِحًا لِأَنْ يُنَاطَ بِهِ لُزُومُ الْقِيمَةِ، فَهُوَ مِنْ هَذِهِ الْحَيْثِيَّةِ يُشْبِهُ الطَّرْدِيَّ كَمَا تَرَى، أَمَّا تَرَتُّبُ الْقَيِّمَةِ عَلَى أَوْصَافِهِ الْمُشَابِهَةِ لِأَوْصَافِ الْمَالِ فَهُوَ مُنَاسِبٌ كَمَا تَرَى، وَكَذَلِكَ تَرَتُّبُ الدِّيَةِ عَلَى أَوْصَافِهِ الْمُشَابِهَةِ لِأَوْصَافِ الْحُرِّ مُنَاسِبٌ، وَبِهَذَيْنِ الِاعْتِبَارَيْنِ يَتَّضِحُ كَوْنُهُ مَرْتَبَةً بَيْنَ الْمُنَاسِبِ وَالطَّرْدِيِّ.
وَمِنْ أَمْثِلَةِ أَنْوَاعِ الشَّبَهِ غَيْرِ غَلَبَةِ الْأَشْبَاهِ: الشَّبَهُ الَّذِي الْوَصْفُ الْجَامِعُ فِيهِ لَا يُنَاسِبُ لِذَاتِهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَلْزِمُ الْمُنَاسِبَ لِذَاتِهِ، وَقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِتَأْثِيرِ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي جِنْسِ الْحُكْمِ الْقَرِيبِ، كَقَوْلِكَ فِي الْخَلِّ: مَائِعٌ لَا تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ، فَلَا يُرْفَعُ بِهِ الْحَدَثُ وَلَا حُكْمُ الْخَبَثِ - قِيَاسًا عَلَى الدُّهْنِ. فَقَوْلُكَ: " لَا تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ " لَيْسَ مُنَاسِبًا فِي ذَاتِهِ؛ لِأَنَّ بِنَاءَ الْقَنْطَرَةِ عَلَى الْمَائِعِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ إِلَّا أَنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُنَاسِبِ، لِأَنَّ الْعَادَةَ الْمُطَّرِدَةَ أَنَّ الْقَنْطَرَةَ لَا تُبْنَى عَلَى الْمَائِعِ الْقَلِيلِ، بَلْ عَلَى الْكَثِيرِ كَالْأَنْهَارِ، وَالْقِلَّةُ مُنَاسِبَةٌ لِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الْمُتَّصِفِ بِهَا مِنَ الْمَائِعَاتِ لِلطَّهَارَةِ الْعَامَّةِ، فَإِنَّ الشَّرْعَ الْعَامَّ يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ أَسْبَابُهُ عَامَّةَ الْوُجُودِ، أَمَّا تَكْلِيفُ الْجَمِيعِ بِمَا لَا يَجِدُهُ إِلَّا الْبَعْضُ فَبَعِيدٌ مِنَ الْقَوَاعِدِ، فَصَارَ قَوْلُكَ: " لَا تُبْنَى الْقَنْطَرَةُ عَلَى جِنْسِهِ " لَيْسَ بِمُنَاسِبٍ، وَهُوَ مُسْتَلْزِمٌ لِلْمُنَاسِبِ. وَقَدْ شَهِدَ الشَّرْعُ بِتَأْثِيرِ جِنْسِ الْقِلَّةِ، وَالتَّعَذُّرِ فِي عَدَمِ مَشْرُوعِيَّةِ الطَّهَارَةِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الْمَاءَ إِذَا قَلَّ وَاشْتَدَّتْ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ الْأَمْرُ بِالطَّهَارَةِ بِهِ وَيَنْتَقِلُ إِلَى التَّيَمُّمِ.
وَأَمَّا الشَّبَهُ الصُّورِيُّ فَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ " النَّحْلِ " فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ [١٦ ٦٦] وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي أَوَّلِ سُورَةِ " بَرَاءَةَ " كَلَامَ ابْنِ الْعَرَبِيِّ الَّذِي قَالَ فِيهِ: أَلَا تَرَى إِلَى عُثْمَانَ وَأَعْيَانِ الصَّحَابَةِ كَيْفَ لَجَئُوا إِلَى قِيَاسِ النِّسْبَةِ عِنْدَ عَدَمِ النَّصِّ، وَرَأَوْا أَنَّ قِصَّةَ " بَرَاءَةَ " شَبِيهَةٌ بِقِصَّةِ " الْأَنْفَالِ " فَأَلْحَقُوهَا بِهَا، فَإِذَا كَانَ الْقِيَاسُ
180
يَدْخُلُ فِي تَأْلِيفِ الْقُرْآنِ، فَمَا ظَنُّكَ بِسَائِرِ الْأَحْكَامِ؟ وَإِلَى الشَّبَهِ الْمَذْكُورِ أَشَارَ فِي مَرَاقِي السُّعُودِ بِقَوْلِهِ:
وَالشَّبَهُ الْمُسْتَلْزِمُ الْمُنَاسَبَا مِثْلُ الْوُضُو يَسْتَلْزِمُ التَّقَرُّبَا
مَعَ اعْتِبَارِ جِنْسِهِ الْقَرِيبِ فِي مِثْلِهِ لِلْحُكْمِ لَا الْغَرِيبِ
صَلَاحُهُ لَمْ يَدْرِ دُونَ الشَّرْعِ وَلَمْ يُنَطْ مُنَاسِبٌ بِالسَّمْعِ
وَحَيْثُمَا أَمْكَنَ قَيْسُ الْعِلَّةِ فَتَرْكُهُ بِالِاتِّفَاقِ أَثْبَتُ
إِلَّا فَفِي قَبُولِهِ تَرَدُّدْ غَلَبَةُ الْأَشْبَاهِ هُوَ الْأَجْوَدْ
فِي الْحُكْمِ وَالصِّفَةِ ثُمَّ الْحُكْمِ فَصِفَةٌ فَقَطْ لَدَى ذِي الْعِلْمِ
وَابْنُ عُلَيَّةَ يَرَى لِلصُّورِي كَالْقَيْسِ لِلْخَيْلِ عَلَى الْحَمِيرِ
وَاعْلَمْ أَنَّ قِيَاسَ الطَّرْدِ يَصْدُقُ بِأَمْرَيْنِ؛ لِأَنَّ الطَّرْدَ يُطْلَقُ إِطْلَاقَيْنِ: يُطْلَقُ عَلَى الْوَصْفِ الطَّرْدِيِّ الَّذِي لَا يَصْلُحُ لِإِنَاطَةِ حُكْمٍ بِهِ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْفَائِدَةِ. كَمَا لَوْ ظَنَّ بَعْضُ الْقَائِلِينَ بِنَقْضِ الْوُضُوءِ بِلَحْمِ الْجَزُورِ أَنَّ عِلَّةَ النَّقْضِ بِهِ الْحَرَارَةُ، فَأَلْحَقَ بِهِ لَحْمَ الظَّبْيِ قَائِلًا: إِنَّهُ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ قِيَاسًا عَلَى لَحْمِ الْجَزُورِ بِجَامِعِ الْحَرَارَةِ، فَهَذَا الْقِيَاسُ بَاطِلٌ ; لِأَنَّ الْوَصْفَ الْجَامِعَ فِيهِ طَرْدِيٌّ. وَمِثْلُهُ كُلُّ مَا كَانَ الْوَصْفُ الْجَامِعُ فِيهِ طَرْدِيًّا وَهُوَ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ لِلَّذِينِ يُطْلَقُ عَلَيْهِمَا قِيَاسُ الطَّرْدِ.
وَالْأَمْرُ الثَّانِي: مِنْهُمَا هُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي الْوَصْفُ الْجَامِعُ فِيهِ مُسْتَنْبَطًا بِالْمَسْلَكِ الثَّامِنِ الْمَعْرُوفِ (بِالطَّرْدِ) وَهُوَ الدَّوْرِيُّ الْوُجُودِيُّ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّهُ مُقَارَنَةُ الْحُكْمِ لِلْوَصْفِ فِي جَمِيعِ صُوَرِهِ غَيْرَ الصُّورَةِ الَّتِي فِيهَا النِّزَاعُ فِي الْوُجُودِ فَقَطْ دُونَ الْعَدَمِ. وَالِاخْتِلَافُ فِي إِفَادَتِهِ الْعِلَّةَ مَعْرُوفٌ فِي الْأُصُولِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ مُوَضَّحٌ فِي فَنِّ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَالْأَدِلَّةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ عِلَّةٌ لِلْحُكْمِ الْمُعَيَّنِ هِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِمَسَالِكِ الْعِلَّةِ، وَهِيَ عَشْرَةٌ عِنْدَ مَنْ يَعُدُّ مِنْهَا إِلْغَاءَ الْفَارِقِ، وَتِسْعَةٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعُدُّهُ مِنْهَا، وَهِيَ: النَّصُّ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْإِيمَاءُ، وَالسَّبْرُ، وَالتَّقْسِيمُ، وَالْمُنَاسَبَةُ، وَالشَّبَهُ، وَالدَّوَرَانُ، وَالطَّرْدُ، وَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ، وَإِلْغَاءُ الْفَارِقِ. وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ نَوْعٌ مِنْ تَنْقِيحِ الْمَنَاطِ كَمَا قَدَّمْنَا.
وَقَدْ نَظَّمَهَا بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ:
181
وَمَحَلُّ إِيضَاحِهَا فَنُّ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ.
وَأَمَّا الْقَوَادِحُ فِي الدَّلِيلِ مِنْ قِيَاسٍ وَغَيْرِهِ فَهِيَ مَعْرُوفَةٌ فِي فَنِّ الْأُصُولِ، وَقَدْ نَظَّمَهَا بِاخْتِصَارٍ الشَّيْخِ عُمَرُ الْفَاسِيُّ بِقَوْلِهِ:
مَسَالِكُ عِلَّةٍ رَتِّبْ فَنَصٌّ فَإِجْمَاعٌ فَإِيمَاءٌ فَسَبْرُ
مُنَاسَبَةٌ كَذَا مُشْبِهٌ فَيَتْلُو لَهُ الدَّوَرَانُ طَرْدٌ يَسْتَمِرُّ
فَتَنْقِيحُ الْمَنَاطِ فَأَلْغِ فَرْقًا وَتِلْكَ لِمَنْ أَرَادَ الْحَصْرَ عَشْرُ
الْقَدْحُ بِالنَّقْضِ وَبِالْكَسْرِ مَعًا تَخْلُفُ الْعَكْسَ وَبِالْقَلْبِ اسْمَعَا
وَعَدَمُ التَّأْثِيرِ بِالْوَصْفِ وَفِي أَصْلٍ وَفَرْعٍ ثُمَّ حُكْمٍ فَاقْتَفِي
وَالْمَنْعُ وَالْفَرْقُ وَبِالتَّقْسِيمِ وَبِاخْتِلَافِ الضَّابِطِ الْمَعْلُومِ
وَفَقْدُ الِانْضِبَاطِ وَالظُّهُورِ وَالْخَدْشُ فِي تَنَاسُبِ الْمَذْكُورِ
وَكَوْنُ ذَاكَ الْحُكْمِ لَا يُفْضِي إِلَى مَقْصُودِ ذِي الشَّرْعِ الْعَزِيزِ فَاقْبَلَا
وَالْخَدْشُ فِي الْوَضْعِ وَالِاعْتِبَارِ وَالْقَوْلُ بِالْمُوجَبِ ذُو اعْتِبَارِ
وَابْدَأْ بِاسْتِفْسَارٍ فِي الْإِجْمَالِ أَوِ الْغَرَابَةِ بِلَا إِشْكَالِ
وَإِنَّمَا لَمْ نُوَضِّحْ هُنَا الْمَسَالِكَ وَالْقَوَادِحَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُفْضِي إِلَى الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ مُوَضَّحٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَقَصْدُنَا هُنَا التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَةِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ. فَإِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَلَّامَةَ ابْنَ الْقَيِّمِ تَعَالَى شَفَى الْغَلِيلَ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي كِتَابِهِ إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينِ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ جُمَلًا وَافِيَةً مُفِيدَةً مِنْ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ. قَالَ فِي كَلَامِهِ عَلَى قَوْلِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي رِسَالَتِهِ الْمَشْهُورَةِ إِلَى أَبِي مُوسَى: (ثُمَّ الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أَدْلَى إِلَيْكَ مِمَّا وَرَدَ عَلَيْكَ مِمَّا لَيْسَ فِي قُرْآنٍ، وَلَا سُنَّةٍ، قَايِسْ بَيْنَ الْأُمُورِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَاعْرِفِ الْأَمْثَالَ، ثُمَّ اعْمَدْ فِيمَا تَرَى إِلَى أَحَبِّهَا إِلَى اللَّهِ، وَأَشْبَهِهَا بِالْحَقِّ) مَا نَصُّهُ:
هَذَا أَحَدُ مَا اعْتَمَدَ عَلَيْهِ الْقِيَاسِيُّونَ فِي الشَّرِيعَةِ، قَالُوا: هَذَا كِتَابُ عُمَرَ إِلَى أَبِي مُوسَى وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، بَلْ كَانُوا مُتَّفِقِينَ عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَحَدُ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ، وَلَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ فَقِيهٌ. وَقَدْ أَرْشَدَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كِتَابِهِ، فَقَاسَ النَّشْأَةَ الثَّانِيَةَ عَلَى النَّشْأَةِ الْأُولَى فِي الْإِمْكَانِ، وَجَعَلَ النَّشْأَةَ الْأُولَى أَصْلًا وَالثَّانِيَةَ فَرْعًا عَلَيْهَا، وَقَاسَ حَيَاةَ الْأَمْوَاتِ عَلَى حَيَاةِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالنَّبَاتِ، وَقَاسَ الْخَلْقَ الْجَدِيدَ الَّذِي أَنْكَرَهُ أَعْدَاؤُهُ عَلَى خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، وَجَعَلَهُ مِنْ قِيَاسِ الْأَوْلَى، كَمَا جَعَلَ قِيَاسَ النَّشْأَةِ الثَّانِيَةِ عَلَى الْأُولَى مِنْ قِيَاسِ الْأَوْلَى، وَقَاسَ الْحَيَاةَ بَعْدَ الْمَوْتِ عَلَى الْيَقَظَةِ بَعْدَ النَّوْمِ، وَضَرَبَ الْأَمْثَالَ وَصَرَّفَهَا فِي الْأَنْوَاعِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَكُلُّهَا أَقْيِسَةٌ عَقْلِيَّةٌ يُنَبِّهُ بِهَا
182
عِبَادَهُ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ، فَإِنَّ الْأَمْثَالَ كُلَّهَا قِيَاسَاتٌ يُعْلَمُ مِنْهَا حُكْمُ الْمُمَثَّلِ مِنَ الْمُمَثَّلِ بِهِ. وَقَدِ اشْتَمَلَ الْقُرْآنُ عَلَى بِضْعَةٍ وَأَرْبَعِينَ مَثَلًا تَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ الشَّيْءِ بِنَظِيرِهِ، وَالتَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْحُكْمِ، وَقَالَ تَعَالَى: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ [٢٩ ٤٣] بِالْقِيَاسِ فِي ضَرْبِ الْأَمْثَالِ مِنْ خَاصَّةِ الْعَقْلِ، وَقَدْ رَكَّزَ اللَّهُ فِي فِطَرِ النَّاسِ وَعُقُولِهِمُ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَإِنْكَارَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمَا، وَالْفَرْقَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ وَإِنْكَارَ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا، قَالُوا: وَمَدَارُ الِاسْتِدْلَالِ جَمْعِيَّةٌ عَلَى التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَالْفَرْقِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ، فَإِنَّهُ إِمَّا اسْتِدْلَالٌ بِمُعَيَّنٍ عَلَى مُعَيَّنٍ، أَوْ بِمُعَيَّنٍ عَلَى عَامٍّ، أَوْ بِعَامٍّ عَلَى مُعَيَّنٍّ، أَوْ بِعَامٍّ عَلَى عَامٍّ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعَةُ هِيَ مَجَامِعُ ضُرُوبِ الِاسْتِدْلَالِ. فَالِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعَيَّنِ عَلَى الْمُعَيَّنِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِالْمَلْزُومِ عَلَى لَازِمِهِ بِكُلِّ مَلْزُومٍ دَلِيلٌ عَلَى لَازِمِهِ، فَإِنْ كَانَ التَّلَازُمُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا دَلِيلًا عَلَى الْآخَرِ وَمَدْلُولًا لَهُ. وَهَذَا النَّوْعُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُؤَثِّرِ عَلَى الْأَثَرِ، وَالثَّانِي: الِاسْتِدْلَالُ بِالْأَثَرِ عَلَى الْمُؤَثِّرِ. وَالثَّالِثُ: الِاسْتِدْلَالُ بِأَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ. فَالْأَوَّلُ كَالِاسْتِدْلَالِ بِالنَّارِ عَلَى الْحَرِيقِ. وَالثَّانِي: كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرِيقِ عَلَى النَّارِ. وَالثَّالِثُ: كَالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَرِيقِ عَلَى الدُّخَانِ. وَمَدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى التَّلَازُمِ، وَالتَّسْوِيَةُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ هُوَ الِاسْتِدْلَالُ بِثُبُوتِ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى الْآخَرِ، وَقِيَاسُ الْفَرْقِ هُوَ اسْتِدْلَالٌ بِانْتِفَاءِ أَحَدِ الْأَثَرَيْنِ عَلَى انْتِفَاءِ الْآخَرِ، أَوْ بِانْتِفَاءِ اللَّازِمِ عَلَى انْتِفَاءِ مَلْزُومِهِ، فَلَوْ جَازَ التَّفْرِيقُ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ لَانْسَدَّتْ طَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُهُ.
قَالُوا: وَأَمَّا الِاسْتِدْلَالُ بِالْمُعَيَّنِ عَلَى الْعَامِّ فَلَا يَتِمُّ إِلَّا بِالتَّسْوِيَةِ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، إِذْ لَوْ جَازَ الْفَرْقُ لَمَا كَانَ هَذَا الْمَعَيَّنُ دَلِيلًا عَلَى الْأَمْرِ الْعَامِّ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْأَفْرَادِ. وَمِنْ هَذَا أَدِلَّةُ الْقُرْآنِ بِتَعْذِيبِ الْمُعَيَّنِينَ الَّذِينَ عَذَّبَهُمْ عَلَى تَكْذِيبِ رُسُلِهِ وَعِصْيَانِ أَمْرِهِ، عَلَى أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَامٌّ شَامِلٌ عَلَى مَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ، وَاتَّصَفَ بِصِفَتِهِمْ، وَهُوَ سُبْحَانُهُ قَدْ نَبَّهَ عِبَادَهُ عَلَى نَفْسِ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ، وَتَعْدِيَةِ هَذَا الْخُصُوصِ إِلَى الْعُمُومِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى عَقِبَ إِخْبَارِهِ عَنْ عُقُوبَاتِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِهِمْ وَمَا حَلَّ بِهِمْ: أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ [٥٤ ٤٣] فَهَذَا مَحْضُ تَعْدِيَةِ الْحُكْمِ إِلَى مَنْ عَدَا الْمَذْكُورِينَ بِعُمُومِ الْعِلَّةِ، وَإِلَّا فَلَوْ لَمْ يَكُنْ حُكْمُ الشَّيْءِ حُكْمَ مِثْلِهِ لَمَا لَزِمَتِ التَّعْدِيَةُ وَلَا تَمَّتِ الْحُجَّةُ. وَمِثْلُ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى عُقَيْبَ إِخْبَارِهِ عَنْ عُقُوبَةِ قَوْمِ هُودٍ حِينَ رَأَوُا الْعَارِضَ فِي السَّمَاءِ: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا [٤٦ ٢٤] فَقَالَ تَعَالَى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ
183
تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [٤٦ ٢٤] ثُمَّ قَالَ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ [٤٦ ٢٦] فَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ تَجِدُ الْمَعْنَى أَنَّ حُكْمَكُمْ كَحُكْمِهِمْ، وَأَنَّا إِذَا كُنَّا قَدْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِمَعْصِيَةِ رَسُولِنَا وَلَمْ يَدْفَعْ عَنْهُمْ مَا مُكِّنُوا فِيهِ مِنْ أَسْبَابِ الْعَيْشِ فَأَنْتُمْ كَذَلِكَ تَسْوِيَةٌ بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَأَنَّ هَذَا مَحْضُ عَدْلِ اللَّهِ بَيْنَ عِبَادِهِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا [٤٧ ١٠] فَأَخْبَرَ أَنَّ حُكْمَ الشَّيْءِ حُكْمُ مِثْلِهِ. وَكَذَلِكَ كَلُّ مَوْضِعٍ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِيهِ بِالْمَسِيرِ فِي الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ السَّيْرَ الْحِسِّيَّ عَلَى الْأَقْدَامِ وَالدَّوَابِّ، أَوِ السَّيْرَ الْمَعْنَوِيَّ بِالتَّفْكِيرِ وَالِاعْتِبَارِ، أَوْ كَانَ اللَّفْظُ يَعُمُّهُمَا، وَهُوَ الصَّوَابُ؛ فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى الِاعْتِبَارِ وَالْحَذَرِ أَنْ يَحِلَّ بِالْمُخَاطَبِينَ مَا حَلَّ بِأُولَئِكَ؛ وَلِهَذَا أَمَرَ سُبْحَانَهُ أُولِي الْأَبْصَارِ بِالِاعْتِبَارِ بِمَا حَلَّ بِالْمُكَذِّبِينَ، وَلَوْلَا أَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ حَتَّى تَعْبُرَ الْعُقُولُ مِنْهُ إِلَيْهِ لَمَا حَصَلَ الِاعْتِبَارُ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَنْ حُكْمِهِ وَحِكْمَتِهِ التَّسْوِيَةَ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي الْحُكْمِ، فَقَالَ تَعَالَى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [٦٨ ٣٥ - ٣٦] وَأَخْبَرَ أَنَّ هَذَا حُكْمٌ بَاطِلٌ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ، لَا تَلِيقُ نِسْبَتُهُ إِلَى سُبْحَانَهُ. وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [٤٥ ٢١] وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [٣٨ ٢٨] أَفَلَا تَرَاهُ كَيْفَ ذَكَرَ الْعُقُولَ، وَنَبَّهَ الْفِطَرَ بِمَا أَوْدَعَ فِيهَا مِنْ إِعْطَاءِ النَّظِيرِ حُكْمَ نَظِيرِهِ، وَعَدَمِ التَّسْوِيَةِ بَيْنَ الشَّيْءِ وَمُخَالِفِهِ فِي الْحُكْمِ. وَكُلُّ هَذَا مِنَ الْمِيزَانِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ كِتَابِهِ، وَجَعَلَهُ قَرِينَهُ وَوَزِيرَهُ، فَقَالَ تَعَالَى: اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ [٤٢ ١٧] وَقَالَ: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ [٥٧ ٢٥] وَقَالَ تَعَالَى: الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ [٥٥ ١ - ٢] فَهَذَا الْكِتَابُ، ثُمَّ قَالَ: وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [٥٥ ٧] وَالْمِيزَانُ يُرَادُ بِهِ الْعَدْلُ، وَالْآلَةُ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا الْعَدْلُ وَمَا يُضَادُّهُ. وَالْقِيَاسُ الصَّحِيحُ هُوَ الْمِيزَانُ، فَالْأَوْلَى تَسْمِيَتُهُ بِالِاسْمِ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بِهِ؛ فَإِنَّهُ
184
يَدُلُّ عَلَى الْعَدْلِ، وَهُوَ اسْمُ مَدْحٍ وَاجِبٍ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ حَالٍ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ، بِخِلَافِ اسْمِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى حَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَمَمْدُوحٍ وَمَذْمُومٍ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَجِئْ فِي الْقُرْآنِ مَدْحُهُ وَلَا ذَمُّهُ، وَلَا الْأَمْرُ بِهِ، وَلَا النَّهْيُ عَنْهُ، فَإِنَّهُ مَوْرِدُ تَقْسِيمٍ إِلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، فَالصَّحِيحُ هُوَ الْمِيزَانُ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ مَعَ كِتَابِهِ، وَالْفَاسِدُ مَا يُضَادُّهُ كَقِيَاسِ الَّذِينَ قَاسُوا الْبَيْعَ عَلَى الرِّبَا بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنَ التَّرَاضِي بِالْمُعَاوَضَةِ الْمَالِيَّةِ، وَقَاسَ الَّذِينَ قَاسُوا الْمَيْتَةَ عَلَى الْمُذَكَّى فِي جَوَازِ أَكْلِهَا بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنْ إِزْهَاقِ الرُّوحِ - هَذَا بِسَبَبٍ مِنَ الْآدَمِيِّينَ وَهَذَا بِفِعْلِ اللَّهِ - وَلِهَذَا تَجِدُ فِي كَلَامِ السَّلَفِ ذَمَّ الْقِيَاسِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَتَجِدُ فِي كَلَامِهِمُ اسْتِعْمَالَهُ، وَالِاسْتِدْلَالَ بِهِ، وَهَذَا حَقٌّ وَهَذَا حَقٌّ، كَمَا سَنُبَيِّنُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَالْأَقْيِسَةُ الْمُسْتَعْمَلَةُ فِي الِاسْتِدْلَالِ ثَلَاثَةٌ: قِيَاسُ عِلَّةٍ، وَقِيَاسُ دَلَالَةٍ، وَقِيَاسُ شَبَهٍ، وَقَدْ وَرَدَتْ كُلُّهَا فِي الْقُرْآنِ. فَأَمَّا قِيَاسُ الْعِلَّةِ فَقَدْ جَاءَ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي مَوَاضِعَ، مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [٣ ٥٩] فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ عِيسَى نَظِيرُ آدَمَ فِي التَّكْوِينِ، بِجَامِعِ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ مِنَ الْمَعْنَى الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ وُجُودُ سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَهُوَ مَجِيئُهَا طَوْعًا لِمَشِيئَتِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَكَيْفَ يَسْتَنْكِرُ وُجُودَ عِيسَى مِنْ غَيْرِ أَبٍ مَنْ يُقِرُّ بِوُجُودِ آدَمَ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمٍّ وَوُجُودِ حَوَّاءَ مِنْ غَيْرِ أَمٍّ، فَآدَمُ وَعِيسَى نَظِيرَانِ يَجْمَعُهُمَا الَّذِي يَصِحُّ تَعْلِيقُ الْإِيجَادِ وَالْخَلْقِ بِهِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ [٣ ١٣٧] أَيْ: قَدْ كَانَ مِنْ قَبْلِكُمْ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ، فَانْظُرُوا إِلَى عَوَاقِبِهِمُ السَّيِّئَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ سَبَبَ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ، وَهُمُ الْأَصْلُ وَأَنْتُمُ الْفَرْعُ، وَالْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ: التَّكْذِيبُ، وَالْحُكْمُ: الْهَلَاكُ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ [٦ ٦] فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ إِهْلَاكَ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ الْقُرُونِ، وَبَيَّنَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ لِمَعْنَى الْقِيَاسِ وَهُوَ ذُنُوبُهُمْ، فَهُمُ الْأَصْلُ وَنَحْنُ الْفَرْعُ، وَالذُّنُوبُ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ، وَالْحُكْمُ: الْهَلَاكُ. فَهَذَا مَحْضُ قِيَاسِ الْعِلَّةِ، وَقَدْ أَكَّدَهُ سُبْحَانَهُ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَوْلَى،
185
وَهُوَ أَنَّ مَنْ قَبْلَنَا كَانُوا أَقْوَى مِنَّا فَلَمْ تَدْفَعْ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ وَشِدَّتُهُمْ مَا حَلَّ بِهِمْ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [٩] وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي مَحَلِّ هَذَا الْكَافِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، فَقِيلَ: هُوَ رَفْعُ خَبَرِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: أَنْتُمْ كَالَّذِينِ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَقِيلَ: نُصِبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَعَلْتُمْ كَفِعْلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ. وَالتَّشْبِيهُ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ فِي أَعْمَالِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ، وَقِيلَ: التَّشْبِيهُ فِي الْعَذَابِ. ثُمَّ قِيلَ: الْعَامِلُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: لَعَنَهُمْ وَعَذَّبَهُمْ كَمَا لَعَنَ [الَّذِينَ] مِنْ قَبْلِهِمْ. وَقِيلَ بَلِ الْعَامِلُ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ: وَعْدُ اللَّهِ الْمُنَافِقِينَ كَوَعْدِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَلَعْنُهُمْ كَلَعْنِهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ كَالْعَذَابِ الَّذِي لَهُمْ.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَلْحَقَهُمْ بِهِمْ فِي الْوَعِيدِ، وَسَوَّى بَيْنَهُمْ فِيهِ كَمَا تَسَاوَوْا فِي الْأَعْمَالِ، وَكَوْنُهُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَرْقٌ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، فَعَلَّقَ الْحُكْمَ بِالْوَصْفِ الْجَامِعِ الْمُؤَثِّرِ، وَأَلْغَى الْوَصْفَ الْفَارِقَ، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى أَنَّ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْأَعْمَالِ اقْتَضَتْ مُشَارَكَتَهُمْ فِي الْجَزَاءِ، فَقَالَ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا [٩] فَهَذِهِ هِيَ الْعِلَّةُ الْمُؤَثِّرَةُ وَالْوَصْفُ الْجَامِعُ، وَقَوْلِهِ: أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هُوَ الْحُكْمُ، وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمُ الْأَصْلُ، وَالْمُخَاطَبُونَ الْفَرْعُ.
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ: أَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ قَالَ بِدِينِهِمْ، وَيُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَمْتَعُوا بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الْآخِرَةِ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ آخَرُونَ: بِنَصِيبِهِمْ مِنَ الدُّنْيَا. وَحَقِيقَةُ الْأَمْرِ أَنَّ الْخَلَاقَ هُوَ النَّصِيبُ وَالْحَظُّ، كَأَنَّهُ الَّذِي خُلِقَ لِلْإِنْسَانِ وَقُدِّرَ لَهُ، كَمَا يُقَالُ: قَسَمُهُ الَّذِي قُسِمَ لَهُ، وَنَصِيبُهُ الَّذِي نُصِبَ لَهُ أَيْ: أُثْبِتَ، وَقِطُّهُ الَّذِي قُطَّ لَهُ أَيْ: قُطِعَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ [٢ ٢٠٠] وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّمَا يَلْبَسُ الْحَرِيرَ فِي الْدُّنْيَا مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ ". وَالْآيَةُ تَتَنَاوَلُ مَا ذِكْرَهُ السَّلَفَ كُلَّهُ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ: كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً [٩] فَبِتِلْكَ الْقُوَّةِ الَّتِي كَانَتْ فِيهِمْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَعْمَلُوا لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَمْوَالُ، وَالْأَوْلَادُ، وَتِلْكَ الْقُوَّةُ،
186
وَالْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ هِيَ الْخَلَاقُ، فَاسْتَمْتَعُوا بِقُوَّتِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فِي الدُّنْيَا، وَنَفْسُ الْأَعْمَالِ الَّتِي عَمِلُوهَا بِهَذِهِ الْقُوَّةِ مِنَ الْخَلَاقِ الَّذِي اسْتَمْتَعُوا بِهِ.
وَلَوْ أَرَادُوا بِذَلِكَ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ لَكَانَ لَهُمْ خَلَاقٌ فِي الْآخِرَةِ، فَتَمَتُّعُهُمْ بِهَا أَخْذُ حُظُوظِهِمُ الْعَاجِلَةِ، وَهَذَا حَالُ مَنْ لَمْ يَعْمَلْ إِلَّا لِدُنْيَاهُ سَوَاءٌ كَانَ عَمَلُهُ مِنْ جِنْسِ الْعِبَادَاتِ أَوْ غَيْرِهَا. ثُمَّ ذَكَرَ سُبْحَانَهُ حَالَ الْفُرُوعِ، فَقَالَ: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمْ حُكْمُهُمْ، وَأَنَّهُمْ يَنَالُهُمْ مَا يَنَالُهُمْ؛ لِأَنَّ حُكْمَ النَّظِيرِ حُكْمُ نَظِيرِهِ. ثُمَّ قَالَ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا. فَقِيلَ " الَّذِي " صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: كَالْمَخُوضِ الَّذِي خَاضُوا، وَقِيلَ: لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ. أَيْ: كَخَوْضِ الْقَوْمِ الَّذِي خَاضُوا وَهُوَ فَاعِلُ الْخَوْضِ.
وَقِيلَ: " الَّذِي " مَصْدَرِيَّةٌ كَـ " مَا " أَيْ: كَخَوْضِهِمْ. وَقِيلَ: هِيَ مَوْضِعُ " الَّذِينَ ". وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ جَمَعَ بَيْنَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْخَلَاقِ وَبَيْنَ الْخَوْضِ بِالْبَاطِلِ؛ لِأَنَّ فَسَادَ الدِّينِ إِمَّا أَنْ يَقَعَ بِالِاعْتِقَادِ بِالْبَاطِلِ وَالتَّكَلُّمِ بِهِ وَهُوَ الْخَوْضُ، أَوْ يَقَعُ بِالْعَمَلِ بِخِلَافِ الْحَقِّ، وَالصَّوَابُ وَهُوَ الِاسْتِمْتَاعُ بِالْخَلَاقِ. فَالْأَوَّلُ الْبِدَعُ. وَالثَّانِي اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهَذَانِ هُمَا أَصْلُ كُلِّ شَرٍّ وَفِتْنَةٍ وَبَلَاءٍ، وَبِهِمَا كُذِّبَتِ الرُّسُلُ وَعُصِيَ الرَّبُّ، وَدُخِلَتِ النَّارُ وَحَلَّتِ الْعُقُوبَاتُ.
فَالْأَوَّلُ مِنْ جِهَةِ الشُّبَهَاتِ، وَالثَّانِي مِنْ جِهَةِ الشَّهَوَاتِ؛ وَلِهَذَا كَانَ السَّلَفُ يَقُولُونَ: احْذَرُوا مِنَ النَّاسِ صِنْفَيْنِ: صَاحِبَ هَوًى فَتَنَهُ هَوَاهُ، وَصَاحِبَ دُنْيَا أَعْجَبَتْهُ دُنْيَاهُ. وَكَانُوا يَقُولُونَ: احْذَرُوا فِتْنَةَ الْعَالِمِ الْفَاجِرِ، وَالْعَابِدِ الْجَاهِلِ؛ فَإِنَّ فِتْنَتَهُمَا فِتْنَةٌ لِكُلِّ مَفْتُونٍ، فَهَذَا يُشْبِهُ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمُ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ الْحَقَّ وَيَعْمَلُونَ بِخِلَافِهِ، وَهَذَا يُشْبِهُ الضَّالِّينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِغَيْرِ عِلْمٍ.
وَفِي صِفَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ عَنِ الدُّنْيَا مَا كَانَ أَصْبَرَهُ، وَبِالْمَاضِينَ مَا كَانَ أَشْبَهَهُ أَتَتْهُ الْبِدَعُ فَنَفَاهَا، وَالدُّنْيَا فَأَبَاهَا. وَهَذِهِ حَالُ أَئِمَّةِ الْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ [٣٢ ٢٤] فَبِالصَّبْرِ تُتْرَكُ الشَّهَوَاتُ، وَبِالْيَقِينِ تُدْفَعُ الشُّبَهَاتُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [١٠٣ ٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ [٣٨ ٤٥].
187
وَفِي بَعْضِ الْمَرَاسِيلِ: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْبَصَرَ النَّافِذَ عِنْدَ وُرُودِ الشُّبَهَاتِ، وَيُحِبُّ الْعَقْلَ الْكَامِلَ عِنْدَ حُلُولِ الشَّهَوَاتِ. فَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى اتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، وَهُوَ دَاءُ الْعُصَاةِ. وَقَوْلِهِ: وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا إِشَارَةٌ إِلَى الشُّبَهَاتِ، وَهُوَ دَاءُ الْمُبْتَدِعَةِ وَأَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْخُصُومَاتِ، وَكَثِيرًا مَا يَجْتَمِعَانِ، فَقَلَّ مَنْ تَجِدُهُ فَاسِدَ الِاعْتِقَادِ إِلَّا وَفَسَادُ اعْتِقَادِهِ يَظْهَرُ فِي عَمَلِهِ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَنَّ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَنْ يَسْتَمْتِعُ بِخَلَاقِهِ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِ بِخَلَاقِهِمْ، وَيَخُوضُ كَخَوْضِهِمْ، وَأَنَّ لَهُمْ مِنَ الذَّمِّ وَالْوَعِيدِ كَمَا لِلَّذِينِ مِنْ قَبْلِهِمْ، ثُمَّ حَضَّهُمْ عَلَى الْقِيَاسِ وَالِاعْتِبَارِ بِمَنْ قَبْلَهُمْ، فَقَالَ: أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [٩ ٧٠] فَتَأَمَّلْ صِحَّةَ هَذَا الْقِيَاسِ وَإِفَادَتَهُ لِمَا عُلِّقَ عَلَيْهِ مِنَ الْحُكْمِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ وَالْفَرْعَ قَدْ تَسَاوَيَا فِي الْمَعْنَى الَّذِي عُلِّقَ بِهِ الْعِقَابُ، وَأَكَّدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ بِضَرْبٍ مِنَ الْأَوْلَى وَهُوَ شِدَّةُ الْقُوَّةِ وَكَثْرَةُ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، فَإِذَا لَمْ يَتَعَذَّرْ عَلَى اللَّهِ عِقَابُ الْأَقْوَى مِنْهُمْ بِذَنْبِهِ فَكَيْفَ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ عِقَابُ مَنْ هُوَ دُونَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ [٦ ١٣٣] فَهَذَا قِيَاسٌ جَلِيٌّ، يَقُولُ سُبْحَانَهُ: إِنْ شِئْتُ أَذْهَبْتُكُمْ وَاسْتَخْلَفْتُ غَيْرَكُمْ، كَمَا أَذْهَبْتُ مَنْ قَبْلَكُمْ وَاسْتَخْلَفْتُكُمْ، بِذِكْرِ أَرْكَانِ الْقِيَاسِ الْأَرْبَعَةِ: عِلَّةُ الْحُكْمِ وَهِيَ عُمُومُ مَشِيئَتِهِ وَكَمَالِهَا، وَالْحُكْمُ وَهُوَ إِذْهَابُهُ إِيَّاهُمْ وَإِتْيَانُهُ بِغَيْرِهِمْ، وَالْأَصْلُ وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ قَبْلُ، وَالْفَرْعُ وَهُمُ الْمُخَاطَبُونَ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [١٠ ٣٩] فَأَخْبَرَ أَنَّ مَنْ قَبْلُ الْمُكَذِّبِينَ أَصْلٌ يُعْتَبَرُ بِهِ، وَالْفَرْعُ نُفُوسُهُمْ، فَإِذَا سَاوَوْهُمْ فِي الْمَعْنَى سَاوَوْهُمْ فِي الْعَاقِبَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [٧٣ ١٥ - ١٦] فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ أَرْسَلَ مُوسَى إِلَى فِرْعَوْنَ، وَأَنَّ فِرْعَوْنَ عَصَى رَسُولَهُ فَأَخَذَهُ أَخْذًا وَبِيلًا. فَهَكَذَا مَنْ عَصَى مِنْكُمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهَذَا فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ جِدًّا فَقَدْ فُتِحَ لَكَ بَابُهُ.
فَصْلٌ
وَأَمَّا قِيَاسُ الدَّلَالَةِ فَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، بِدَلِيلِ الْعِلَّةِ وَمَلْزُومِهَا. وَمِنْهُ
188
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [٤١ ٣٩] فَدَلَّ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِمَا أَرَاهُمْ مِنَ الْإِحْيَاءِ الَّذِي تَحَقَّقُوهُ وَشَاهَدُوهُ، عَلَى الْإِحْيَاءِ الَّذِي اسْتَبْعَدُوهُ، وَذَلِكَ قِيَاسُ إِحْيَاءٍ عَلَى إِحْيَاءٍ، وَاعْتِبَارُ الشَّيْءِ فَنَظِيرُهُ، وَالْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ هِيَ عُمُومُ قُدْرَتِهِ سُبْحَانَهُ وَكَمَالُ حِكْمَتِهِ، وَإِحْيَاءُ الْأَرْضِ دَلِيلُ الْعِلَّةِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ [٣٠ ١٩].
فَدَلَّ بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ، وَقَرَّبَ أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ جِدًّا بِلَفْظِ الْإِخْرَاجِ، أَيْ: يُخْرَجُونَ مِنَ الْأَرْضِ أَحْيَاءً كَمَا يَخْرُجُ الْحَيُّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيَخْرُجُ الْمَيِّتُ مِنَ الْحَيِّ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى [٧٥ ٣٦ - ٤٠] فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ كَيْفِيَّةَ الْخَلْقِ وَاخْتِلَافَ أَحْوَالِ الْمَاءِ فِي الرَّحِمِ إِلَى أَنْ صَارَ مِنْهُ الزَّوْجَانِ: الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَذَلِكَ أَمَارَةُ وُجُودِ صَانِعٍ قَادِرٍ عَلَى مَا يَشَاءُ، وَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ بِمَا أَحْدَثَهُ فِي النُّطْفَةِ الْمَهِينَةِ الْحَقِيرَةِ مِنَ الْأَطْوَارِ، وَسَوْقِهَا فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ، مِنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَرْتَبَةٍ أَعْلَى مِنْهَا، حَتَّى صَارَتْ بَشَرًا سَوِيًّا فِي أَحْسَنِ خِلْقَةٍ وَتَقْوِيمٍ، عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْسُنُ بِهِ أَنْ يَتْرُكَ هَذَا الْبَشَرَ سُدًى مُهْمَلًا مُعَطَّلًا. لَا يَأْمُرُهُ، وَلَا يَنْهَاهُ، وَلَا يُقِيمُهُ فِي عُبُودِيَّتِهِ، وَقَدْ سَاقَهُ فِي مَرَاتِبِ الْكَمَالِ مِنْ حِينِ كَانَ نُطْفَةً إِلَى أَنْ صَارَ بَشَرًا سَوِيًّا، فَكَذَلِكَ يَسُوقُهُ فِي مَرَاتِبِ كَمَالِهِ طَبَقًا بَعْدَ طَبَقٍ، وَحَالًا بَعْدَ حَالٍ، إِلَى أَنْ يَصِيرَ جَارَهُ فِي دَارِهِ يَتَمَتَّعُ بِأَنْوَاعِ النَّعِيمِ، وَيَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ، وَيَسْمَعُ كَلَامَهُ... إِلَى آخِرِ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ، فَإِنَّهُ أَطَالَ فِي ذِكْرِ الْأَمْثِلَةِ عَلَى النَّحْوِ الْمَذْكُورِ، وَلَمْ نَذْكُرْ جَمِيعَ كَلَامِهِ خَوْفًا مِنَ الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ كَلَامِهِ تَنْبِيهٌ عَلَى مَا لَمْ نَذْكُرْهُ، وَقَدْ تَكَلَّمَ عَلَى قِيَاسِ الشَّبَهِ، فَقَالَ فِيهِ:
وَأَمَّا قِيَاسُ الشَّبَهِ فَلَمْ يَحْكِهِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ إِلَّا عَنِ الْمُبْطِلِينَ. فَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ إِخْوَةِ يُوسُفَ أَنَّهُمْ قَالُوا لَمَّا وَجَدُوا الصُّوَاعَ فِي رَحْلِ أَخِيهِمْ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [١٢ ٧٧] فَلَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ الْفَرْعِ وَالْأَصْلِ بِعِلَّةٍ وَلَا دَلِيلِهَا، وَإِنَّمَا أَلْحَقُوا أَحَدَهُمَا بِالْآخَرِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ جَامِعٍ سِوَى مُجَرَّدِ الشَّبَهِ الْجَامِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ يُوسُفَ، فَقَالُوا هَذَا مَقِيسٌ عَلَى أَخِيهِ بَيْنَهُمَا شَبَهٌ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ، وَذَلِكَ قَدْ سَرَقَ فَكَذَلِكَ هَذَا، وَهَذَا هُوَ الْجَمْعُ بِالشَّبَهِ الْفَارِغِ، وَالْقِيَاسُ بِالصُّورَةِ الْمُجَرَّدَةِ عَنِ الْعِلَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلتَّسَاوِي، وَهُوَ قِيَاسٌ فَاسِدٌ، وَالتَّسَاوِي فِي قَرَابَةِ الْأُخُوَّةِ لَيْسَ بِعِلَّةٍ لِلتَّسَاوِي فِي السَّرِقَةِ لَوْ كَانَ حَقًّا، وَلَا دَلِيلَ عَلَى
189
التَّسَاوِي فِيهَا، فَيَكُونُ الْجَمْعُ لِنَوْعٍ شَبَهٍ خَالٍ مِنَ الْعِلَّةِ وَدَلِيلِهَا.
ثُمَّ ذَكَرَ لِقِيَاسِ الشَّبَهِ الْفَاسِدِ أَمْثِلَةً أُخْرَى فِي الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّ الْكُفَّارَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ بِقِيَاسِ الشَّبَهِ حَيْثُ شَبَّهُوهُمْ بِالْبَشَرِ، وَزَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ الشَّبَهَ مَانِعٌ مِنْ رِسَالَتِهِمْ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ أَنَّهُمْ قَالُوا: مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا [١١ ٢٧] وَقَوْلِهِ تَعَالَى عَنْهُمْ: مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ الْآيَةَ [٢٣ ٣٣]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. فَالْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الرُّسُلِ وَغَيْرِهِمْ فِي كَوْنِ الْجَمِيعِ بَشَرًا لَا تَقْتَضِي الْمُسَاوَاةَ بَيْنَهُمْ فِي انْتِقَاءِ الرِّسَالَةِ عَنْهُمْ جَمِيعًا، وَلَمَّا قَالُوا لِلرُّسُلِ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا [٣٦ ١٥] أَجَابُوهُمْ بِقَوْلِهِمْ: إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ [١٤ ١١] وَقِيَاسُ الْكُفَّارِ الرُّسُلَ عَلَى سَائِرِ الْبَشَرِ فِي عَدَمِ الرِّسَالَةِ قِيَاسٌ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ مِنَ التَّخْصِيصِ وَالتَّفْضِيلِ، وَجَعْلِ بَعْضِ الْبَشَرِ شَرِيفًا وَبَعْضِهِ دَنِيًّا، وَبَعْضِهِ مَرْءُوسًا وَبَعْضِهِ رَئِيسًا، وَبَعْضِهِ مَلِكًا وَبَعْضِهِ سُوقًا - يُبْطِلُ هَذَا الْقِيَاسَ. كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ جَوَابُ الرُّسُلِ الْمَذْكُورُ آنِفًا، يُشِيرُ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [٤٣] وَهَذِهِ الْأَمْثِلَةُ مِنْ قِيَاسِ الشَّبَهِ لَيْسَ فِيهَا وَصْفٌ مُنَاسِبٌ بِالذَّاتِ وَلَا بِالتَّبَعِ. فَلِذَلِكَ كَانَتْ بَاطِلَةً.
ثُمَّ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ أَنَّ جَمِيعَ الْأَمْثَالِ فِي الْقُرْآنِ كُلُّهَا قِيَاسَاتُ شَبَهٍ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْمِثْلِ تَشْبِيهُ شَيْءٍ بِشَيْءٍ فِي حُكْمِهِ، وَتَقْرِيبُ الْمَعْقُولِ مِنَ الْمَحْسُوسِ أَوْ أَحَدِ الْمَحْسُوسِينَ مِنَ الْآخَرِ وَاعْتِبَارُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ. ثُمَّ سَرَدَ الْأَمْثَالَ الْقُرْآنِيَّةَ ذَلِكَ فِيهَا وَاحِدًا وَاحِدًا، وَأَطَالَ الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فَأَجَادَ وَأَفَادَ.
وَقَالَ فِي آخِرِ كَلَامِهِ: قَالُوا فَهَذَا بَعْضُ مَا اشْتَمَلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ مِنَ التَّمْثِيلِ، وَالْقِيَاسِ، وَالْجَمْعِ، وَالْفَرْقِ، وَاعْتِبَارِ الْعِلَلِ، وَالْمَعَانِي وَارْتِبَاطِهَا بِأَحْكَامِهَا تَأْثِيرًا وَاسْتِدْلَالًا. قَالُوا: وَقَدْ ضَرَبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْأَمْثَالَ، وَصَرَّفَهَا قَدَرًا وَشَرْعًا، وَيَقَظَةً وَمَنَامًا، وَدَلَّ عِبَادَهُ عَلَى الِاعْتِبَارِ بِذَلِكَ، وَعُبُورُهُمْ مِنَ الشَّيْءِ إِلَى نَظِيرِهِ، وَاسْتِدْلَالُهُمْ بِالنَّظِيرِ عَلَى النَّظِيرِ. بَلْ هَذَا أَصْلُ عِبَارَةِ الرُّؤْيَا الَّتِي هِيَ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ، وَنَوْعٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْوَحْيِ، فَإِنَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَالتَّمْثِيلِ، وَاعْتِبَارِ الْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ.
أَلَا تَرَى أَنَّ الثِّيَابَ فِي التَّأْوِيلِ كَالْقُمُصِ تَدُلُّ عَلَى الدِّينِ فَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ طُولٍ أَوْ
190
قِصَرٍ، أَوْ نَظَافَةٍ أَوْ دَنَسٍ فَهُوَ فِي الدِّينِ. كَمَا أَوَّلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَمِيصَ بِالدِّينِ وَالْعِلْمِ، وَالْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَهُمَا أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا يَسْتُرُ صَاحِبَهُ وَيُجَمِّلُهُ بَيْنَ النَّاسِ.
وَمِنْ هَذَا تَأْوِيلُ اللَّبَنِ بِالْفِطْرَةِ؛ لِمَا فِي كُلٍّ مِنْهُمَا مِنَ التَّغْذِيَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْحَيَاةِ وَكَمَالِ النَّشْأَةِ، وَأَنَّ الطِّفْلَ إِذَا خُلِّيَ وَفِطْرَتَهُ لَمْ يَعْدِلْ عَنِ اللَّبَنِ. فَهُوَ مَفْطُورٌ عَلَى إِيثَارِهِ عَلَى مَا سِوَاهُ، وَكَذَلِكَ فِطْرَةُ الْإِسْلَامِ الَّتِي فَطَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا النَّاسَ.
وَمِنْ هَذَا تَأْوِيلُ الْبَقَرِ بِأَهْلِ الدِّينِ وَالْخَيْرِ الَّذِينَ بِهِمْ عِمَارَةُ الْأَرْضِ، كَمَا أَنَّ الْبَقَرَ كَذَلِكَ مَعَ عَدَمِ شَرِّهَا وَكَثْرَةِ خَيْرِهَا، وَحَاجَةِ الْأَرْضِ وَأَهْلِهَا إِلَيْهَا؛ وَلِهَذَا لَمَّا رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَقَرًا تُنْحَرُ كَانَ ذَلِكَ نَحْرًا فِي أَصْحَابِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الزَّرْعِ وَالْحَرْثِ بِالْعَمَلِ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ زَارِعٌ لِلْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ لَهُ مَا بَذَرَهُ كَمَا يَخْرُجُ لِلْبَاذِرِ زَرْعُ مَا بَذَرَهُ، فَالدُّنْيَا مَزْرَعَةٌ، وَالْأَعْمَالُ الْبَذْرُ، وَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمُ طُلُوعِ الزَّرْعِ وَحَصَادِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَأْوِيلُ الْخَشَبِ الْمَقْطُوعِ الْمُتَسَانِدِ بِالْمُنَافِقِينَ، وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّ الْمُنَافِقَ لَا رُوحَ فِيهِ، وَلَا ظِلَّ، وَلَا ثَمَرَ، فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْخَشَبِ الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ؛ وَلِهَذَا شَبَّهَ تَعَالَى الْمُنَافِقِينَ بِالْخُشُبِ الْمُسَنَّدَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَجْسَامٌ خَالِيَةٌ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْخَيْرِ، وَفِي كَوْنِهَا مُسَنَّدَةً نُكْتَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ الْخَشَبَ إِذَا انْتُفِعَ بِهِ جُعِلَ فِي سَقْفٍ أَوْ جِدَارٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ مَظَانِّ الِانْتِفَاعِ، وَمَا دَامَ مَتْرُوكًا فَارِغًا غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ جُعِلَ مُسَنَّدًا بَعْضُهُ إِلَى بَعْضٍ، فَشَبَّهَ الْمُنَافِقِينَ بِالْخُشُبِ فِي الْحَالَةِ الَّتِي لَا يُنْتَفَعُ فِيهَا بِهَا... إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ. وَقَدْ ذَكَرَ أَشْيَاءَ كَثِيرَةً مِنْ عِبَارَةِ الرُّؤْيَا فَأَجَادَ وَأَفَادَ، وَكُلُّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى اعْتِبَارِ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ، وَذَلِكَ كُلُّهُ يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ نَظِيرَ الْحَقِّ حَقٌّ، وَنَظِيرَ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: فَهَذَا شَرْعُ اللَّهِ وَقَدَرُهُ وَوَحْيُهُ، وَثَوَابُهُ وَعِقَابُهُ، كُلُّهُ قَائِمٌ بِهَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ إِلْحَاقُ النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ، وَاعْتِبَارُ الْمِثْلِ بِالْمِثْلِ؛ وَلِهَذَا يَذْكُرُ الشَّارِعُ الْعِلَلَ وَالْأَوْصَافَ الْمُؤَثِّرَةَ، وَالْمَعَانِيَ الْمُعْتَبَرَةَ فِي الْأَحْكَامِ الْقَدَرِيَّةِ، وَالشَّرْعِيَّةِ، وَالْجَزَائِيَّةِ؛ لِيَدُلَّ بِذَلِكَ عَلَى تَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا أَيْنَ وَجِدَتْ، وَاقْتِضَائِهَا لِأَحْكَامِهَا، وَعَدَمِ تَخَلُّفِهَا عَنْهَا إِلَّا لِمَانِعٍ يُعَارِضُ اقْتِضَاءَهَا وَيُوجِبُ تَخَلُّفَ آثَارِهَا عَنْهَا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ [٥٩ ٤] ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ [٤٠ ١٢] ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا [٤٥ ٣٥] ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا
191
كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ [٤٠] ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [٤٧ ٢٨] ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ [٤٧ ٢٦] وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ [٤١].
وَقَدْ جَاءَ التَّعْلِيلُ فِي الْكِتَابِ الْعَزِيزِ بِالْبَاءِ تَارَةً، وَبِاللَّامِ تَارَةً، وَبِـ «أَنَّ» تَارَةً، وَبِمَجْمُوعِهِمَا تَارَةً، وَبِـ «كَيْ» تَارَةً، وَ «مِنْ أَجْلِ» تَارَةً، وَتَرْتِيبِ الْجَزَاءِ عَلَى الشَّرْطِ تَارَةً، وَبِالْفَاءِ الْمُؤْذِنَةِ بِالسَّبَبِيَّةِ تَارَةً، وَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لَهُ تَارَةً، وَبِـ «لَمَّا» تَارَةً، وَبِـ «أَنَّ» الْمُشَدَّدَةَ تَارَةً، وَبِـ «لَعَلَّ» تَارَةً، وَبِالْمَفْعُولِ لَهُ تَارَةً. فَالْأَوَّلُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَاللَّامُ كَقَوْلِهِ: ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ [٥ ٩٧] وَ «أَنْ» كَقَوْلِهِ: أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا [٦ ١٥٦] ثُمَّ قِيلَ: التَّقْدِيرُ لِئَلَّا تَقُولُوا، وَقِيلَ: كَرَاهَةَ أَنْ تَقُولُوا. وَ «أَنْ وَاللَّامُ» كَقَوْلِهِ: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [٤ ١٦٥] وَغَالِبُ مَا يَكُونُ هَذَا النَّوْعُ فِي النَّفْيِ، فَتَأَمَّلْهُ.
وَ «كَيْ» كَقَوْلِهِ: كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً [٥٩ ٧] وَالشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [٣ ١٢٠] وَالْفَاءِ كَقَوْلِهِ: فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ [٢٦ ١٣٩] فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً [٦٩ ١٠] فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا [٧٣ ١٦] وَتَرْتِيبِ الْحُكْمِ عَلَى الْوَصْفِ كَقَوْلِهِ: يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ [٥ ١٥] وَقَوْلِهِ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [٥٨ ١١] وَقَوْلِهِ: إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [٧ ١٧٠] وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [١٢ ٥٦] وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ [١٢ ٥٢] وَلَمَّا كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [٤٣] فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ [٧ ١٦٦] وَإِنَّ الْمُشَدَّدَةَ كَقَوْلِهِ: إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ [٢١ ٧٧] إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ [٢١] وَلَعَلَّ كَقَوْلِهِ: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [٢٠ ٤٤] لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ [٢] لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [٢٤] وَالْمَفْعُولِ لَهُ كَقَوْلِهِ: وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [٩٢ ١٩ - ٢١] أَيْ: لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ جَزَاءَ نِعْمَةِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ، وَإِنَّمَا فَعَلَهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى. وَ «مِنْ أَجْلِ» كَقَوْلِهِ: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ [٥].
192
وَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِلَلَ الْأَحْكَامِ، وَالْأَوْصَافَ الْمُؤَثِّرَةَ فِيهَا؛ لِيَدُلَّ عَلَى ارْتِبَاطِهَا بِهَا، وَتَعَدِّيهَا بِتَعَدِّي أَوْصَافِهَا وَعِلَلِهَا، كَقَوْلِهِ فِي نَبِيذِ التَّمْرِ: «تَمْرَةٌ طَيِّبَةٌ، وَمَاءٌ طَهُورٌ»، وَقَوْلِهِ: «إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ»، وَقَوْلِهِ: «إِنَّمَا نَهَيْتُكُمْ مِنْ أَجْلِ الدَّافَّةِ»، وَقَوْلِهِ فِي الْهِرَّةِ: «لَيْسَتْ بِنَجَسٍ، إِنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ»، وَنَهْيِهِ عَنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِ الْمُحْرِمِ الَّذِي وَقَصَتْهُ نَاقَتُهُ وَتَقْرِيبِهِ الطِّيبَ، وَقَوْلِهِ: «فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا»، وَقَوْلِهِ: «إِنَّكُمْ إِذَا فَعَلْتُمْ ذَلِكُمْ قَطَّعْتُمْ أَرْحَامَكُمْ» ذَكَرَهُ تَعْلِيلًا لِنَهْيِهِ عَنْ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ [٢ ٢٢٢] وَقَوْلِهِ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [٥ ٩١] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ -: «أَيَنْقُصُ الرُّطَبُ إِذَا جَفَّ» ؟ قَالُوا نَعَمْ. فَنَهَى عَنْهُ. وَقَوْلِهِ: «لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ». وَقَوْلِهِ: «إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَامْقُلُوهُ، فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْآخَرِ دَوَاءً، وَإِنَّهُ يَتَّقِي بِالْجَنَاحِ الَّذِي فِيهِ الدَّاءُ» وَقَوْلِهِ: «إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ؛ فَإِنَّهَا رِجْسٌ» وَقَالَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ مَسِّ الذَّكَرِ هَلْ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ «هَلْ هُوَ إِلَّا بِضْعَةٌ مِنْكَ»، وَقَوْلِهِ فِي ابْنَةِ حَمْزَةَ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِي؛ إِنَّهَا ابْنَةُ أَخِي مِنَ الرَّضَاعَةِ»، وَقَوْلِهِ فِي الصَّدَقَةِ: «إِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ؛ إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ». وَقَدْ قَرَّبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَحْكَامَ لِأُمَّتِهِ بِذِكْرِ نَظَائِرِهَا وَأَسْبَابِهَا، وَضَرَبَ لَهَا الْأَمْثَالَ... إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.
وَقَدْ ذُكِرَ فِيهِ أَقْيِسَةٌ فَعَلَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا قِيَاسُ الْقُبْلَةِ عَلَى الْمَضْمَضَةِ فِي حَدِيثِ عُمَرَ الْمُتَقَدِّمِ، وَقِيَاسُ دَيْنِ اللَّهِ عَلَى دَيْنِ الْآدَمِيِّ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ. وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى كَمَا قَبْلَهُ فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ».
وَمِنْهَا قِيَاسُ الْعَكْسِ فِي حَدِيثِ: أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ وَيَكُونُ لَهُ فِيهَا أَجْرٌ؟ قَالَ: «أَرَأَيْتُمْ وَضْعَهَا فِي حَرَامٍ، أَيَكُونُ عَلَيْهِ وِزْرٌ» وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «التَّوْبَةِ».
وَمِنْهَا قِصَّةُ الَّذِي وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا أَسْوَدَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ».
وَمِنْهَا حَدِيثُ الْمُسْتَحَاضَةِ الَّذِي قَاسَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَمَ الْعِرْقِ الَّذِي هُوَ دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ دِمَاءِ الْعُرُوقِ الَّتِي لَا تَكُونُ حَيْضًا. وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِلْحَاقَ
193
النَّظِيرِ بِالنَّظِيرِ مِنَ الشَّرْعِ، لَا مُخَالِفَ لَهُ كَمَا يَزْعُمُهُ الظَّاهِرِيَّةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ
اعْلَمْ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَجْتَهِدُونَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ فِي حَيَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ، وَبَعْدَ وَفَاتِهِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ. وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى أَمْثِلَةً كَثِيرَةً لِذَلِكَ.
فَمِنْ ذَلِكَ أَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ أَنْ يُصَلُّوا الْعَصْرَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، فَاجْتَهَدَ بَعْضُهُمْ وَصَلَّاهَا فِي الطَّرِيقِ، وَقَالَ: لَمْ يُرِدْ مِنَّا تَأْخِيرَ الْعَصْرِ، وَإِنَّمَا أَرَادَ سُرْعَةَ النُّهُوضِ. فَنَظَرُوا إِلَى الْمَعْنَى. وَاجْتَهَدَ آخَرُونَ وَأَخَّرُوهَا إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ، فَصَلَّوْهَا لَيْلًا. وَقَدْ نَظَرُوا إِلَى اللَّفْظِ، وَهَؤُلَاءِ سَلَفُ أَهْلِ الظَّاهِرِ، وَأُولَئِكَ سَلَفُ أَصْحَابِ الْمَعَانِي وَالْقِيَاسِ.
وَمِنْهَا: أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا كَانَ بِالْيَمَنِ أَتَاهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ يَخْتَصِمُونَ فِي غُلَامٍ، فَقَالَ كُلٌّ مِنْهُمْ: هُوَ ابْنِي. فَأَقْرَعَ بَيْنَهُمْ، فَجَعَلَ الْوَلَدَ لِلْقَارِعِ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ لِلرَّجُلَيْنِ الْآخَرَيْنِ ثُلُثَيِ الدِّيَةِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ مِنْ قَضَاءِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي حُكْمِهِ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ، وَقَدْ صَوَّبَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ».
وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ الصَّالِحَيْنِ اللَّذَيْنِ خَرَجَا فِي سَفَرٍ فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ مَعَهُمَا مَاءٌ، فَصَلَّيَا ثُمَّ وَجَدَا الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ، فَأَعَادَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُعِدِ الْآخَرُ. فَصَوَّبَهُمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لِلَّذِي لَمْ يُعِدْ: «أَصَبْتَ السُّنَّةَ وَأَجْزَأَتْكَ صَلَاتُكَ»، وَقَالَ لِلْآخَرِ: «لَكَ الْأَجْرَ مَرَّتَيْنِ».
وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ مُجَزِّزِ الْمُدْلِجِيِّ بِالْقِيَافَةِ، وَقَالَ: إِنَّ أَقْدَامَ زَيْدٍ وَأُسَامَةَ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ سُرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ حَتَّى بَرَقَتْ أَسَارِيرُ وَجْهِهِ. وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ إِلْحَاقٍ ذَلِكَ الْقَائِفِ الْفَرْعَ بِالْأَصْلِ، مَعَ أَنَّ زَيْدًا أَبْيَضُ وَأَسَامَةَ أَسْوَدُ، فَأَلْحَقَ هَذَا الْقَائِفُ الْفَرْعَ بِنَظِيرِهِ وَأَصْلِهِ، وَأَلْغَى وَصْفَ السَّوَادِ وَالْبَيَاضِ الَّذِي لَا تَأْثِيرَ لَهُ فِي الْحُكْمِ.
وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْكَلَالَةِ، قَالَ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ يَكُنْ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ (أَرَاهُ مَا خَلَا الْوَالِدَ وَالْوَلَدَ) فَلَمَّا اسْتُخْلِفَ عُمَرُ قَالَ: إِنِّي لِأَسْتَحْيِي مِنَ اللَّهِ أَنْ أَرُدَّ شَيْئًا قَالَهُ أَبُو بَكْرٍ.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَمِنْ أَغْرَبِ الْأَشْيَاءِ عِنْدِي مَا جَاءَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَشَارَ لَهُ إِلَى مَعْنَى الْكَلَالَةِ إِشَارَةً وَاضِحَةً ظَاهِرَةً
194
جِدًّا. وَلَمْ يَفْهَمْهَا عَنْهُ مَعَ كَمَالِ فَهْمِهِ وَعِلْمِهِ، وَأَنَّ الْوَحْيَ يَنْزِلُ مُطَابِقًا لِقَوْلِهِ مِرَارًا، وَذَلِكَ أَنَّهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَا سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ أَكْثَرَ مَا سَأَلْتُهُ عَنِ الْكَلَالَةِ حَتَّى طَعَنَ بِأُصْبُعِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: «تَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ الَّتِي فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ». وَهَذَا الْإِرْشَادُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاضِحٌ كُلَّ الْوُضُوحِ فِي أَنَّهُ يُرِيدُ أَنَّ الْكَلَالَةَ هِيَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ؛ لِأَنَّ آيَةَ الصَّيْفِ الْمَذْكُورَةَ الَّتِي أَخْبَرَهُ أَنَّهَا تَكْفِيهِ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً كَافِيَةً وَاضِحَةً فَقَوْلُهُ تَعَالَى فِيهَا: إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ [٤ ١٧٦] صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَلَالَةَ لَا يَكُونُ فِيهَا وَلَدٌ، وَقَوْلِهِ فِيهَا: وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ [٤ ١٢] يَدُلُّ بِالِالْتِزَامِ عَلَى أَنَّهَا لَا أَبَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ، فَظَهَرَ أَنَّ آيَةَ الصَّيْفِ الْمَذْكُورَةَ تَدُلُّ بِكُلِّ وُضُوحٍ عَلَى أَنَّ الْكَلَالَةَ مَا عَدَا الْوَلَدَ وَالْوَالِدَ، وَلَمْ يَفْهَمْ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْإِشَارَةَ النَّبَوِيَّةَ الْمَذْكُورَةَ، فَالْكَمَالُ التَّامُّ لَهُ - جَلَّ وَعَلَا - وَحْدَهُ، سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي تُوُفِّيَ زَوْجُهَا وَلَمْ يَفْرِضْ لَهَا صَدَاقًا وَلَمْ يَدْخُلْ بِهَا، فَقَالَ: أَقُولُ فِيهَا بِرَأْيِي، فَإِنْ كَانَ صَوَابًا فَمِنَ اللَّهِ، لَهَا كَمَهْرِ نِسَائِهَا لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَلَهَا الْمِيرَاثُ وَعَلَيْهَا الْعُدَّةُ. وَقَدْ شَهِدَ لِابْنِ مَسْعُودٍ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى بِنَحْوِ ذَلِكَ فِي بَرْوَعَ بِنْتِ وَاشِقٍ، فَفَرِحَ بِذَلِكَ.
وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ الصَّحَابَةِ فِي أَنَّ أَبَا بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ بِالْإِمَامَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّمَهُ عَلَى غَيْرِهِ فِي إِمَامَةِ الصَّلَاةِ.
وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْعَهْدِ بِالْخِلَافَةِ إِلَى عُمَرَ، سَوَاءٌ قُلْنَا: إِنَّهُ مِنَ الْمَصَالِحِ الْمُرْسَلَةِ أَوْ قُلْنَا: إِنَّهُ قَاسَ الْعَهْدَ بِالْوِلَايَةِ عَلَى الْعَقْدِ لَهَا. وَمِنْ ذَلِكَ اجْتِهَادُهُمْ فِي جَمْعِ الْمُصْحَفِ بِالْكِتَابَةِ. وَمِنْ ذَلِكَ اجْتِهَادُهُمْ فِي الْجَدِّ، وَالْإِخْوَةِ، وَالْمُشْتَرَكَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْحِمَارِيَّةِ، وَالْيَمِّيَّةِ.
وَمِنْهَا: اجْتِهَادُ أَبِي بَكْرٍ فِي التَّسْوِيَةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْعَطَاءِ، وَاجْتِهَادُ عَمَرَ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِيهِ.
وَمِنْهَا: اجْتِهَادُهُمْ فِي جَلْدِ السَّكْرَانِ ثَمَانِينَ، قَالُوا: إِذَا سَكِرَ هَذَى، وَإِذَا هَذَى افْتَرَى فَحَدُّوهُ حَدَّ الْفِرْيَةِ. وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ اجْتِهَادَ الصَّحَابَةِ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ مُتَوَاتِرٌ مَعْنًى، فَإِنَّ الْوَقَائِعَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ وَإِنْ لَمْ تَتَوَاتَرْ آحَادُهَا فَمَجْمُوعُهَا يُفِيدُ الْعِلْمَ
195
الْيَقِينِيَّ لِتَوَاتُرِهَا مَعْنًى، كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ تَعَلَّمَ ذَلِكَ. وَرِسَالَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ إِلَى أَبِي مُوسَى الْمُتَضَمِّنَةُ لِذَلِكَ مَشْهُورَةٌ. وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ) : وَقَالَ الشَّعْبِيُّ عَنْ شُرَيْحٍ، قَالَ لِي عُمَرُ: اقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ كِتَابِ اللَّهِ فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ قَضَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ أَقْضِيَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاقْضِ بِمَا اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُهْتَدِينَ، فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ كُلَّ مَا قَضَتْ بِهِ أَئِمَّةُ الْمُهْتَدِينَ فَاجْتَهِدْ رَأْيَكَ، وَاسْتَشِرْ أَهْلَ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ.. إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَايَسَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ فِي الْمَكَاتِبِ، وَقَايَسَهُ فِي الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَقَاسَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْأَضْرَاسَ بِالْأَصَابِعِ وَقَالَ: عَقْلُهَا سَوَاءٌ، اعْتَبِرُوهَا بِهَا. قَالَ الْمُزَنِيُّ: الْفُقَهَاءُ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى يَوْمِنَا هَذَا - وَهَلُمَّ جَرَّا - اسْتَعْمَلُوا الْمَقَايِيسَ فِي الْفِقْهِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فِي أَمْرِ دِينِهِمْ، وَأَجْمَعُوا بِأَنَّ نَظِيرَ الْحَقِّ حَقٌّ، وَنَظِيرَ الْبَاطِلِ بَاطِلٌ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ إِنْكَارُ الْقِيَاسِ؛ لِأَنَّهُ التَّشْبِيهُ بِالْأُمُورِ وَالتَّمْثِيلُ عَلَيْهَا.
قَالَ أَبُو عُمَرَ بَعْدَ حِكَايَةِ ذَلِكَ عَنْهُ: وَمِنَ الْقِيَاسِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ صَيْدُ مَا عَدَا الْكَلْبَ مِنَ الْجَوَارِحِ قِيَاسًا عَلَى الْكِلَابِ بِقَوْلِهِ: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [٥ ٤] وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ [٢٤ ٤] فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْمُحْصَنُونَ قِيَاسًا. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ فِي الْإِمَاءِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ ٢٥] فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْعَبْدُ قِيَاسًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَّا مَنْ شَذَّ مِمَّنْ لَا يَكَادُ يُعَدُّ قَوْلُهُ خِلَافًا.
وَقَالَ فِي جَزَاءِ الصَّيْدِ الْمَقْتُولِ فِي الْإِحْرَامِ: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا [٥ ٩٥] فَدَخَلَ فِيهِ قَتْلُ الْخَطَأِ قِيَاسًا عِنْدَ الْجُمْهُورِ إِلَّا مَنْ شَذَّ، وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا [٣٣ ٤٩] فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِيَّاتُ قِيَاسًا:
وَقَالَ فِي الشَّهَادَةِ فِي الْمُدَايَنَاتِ: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [٢ ٢٨٢] فَدَخَلَ فِي مَعْنَى إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّى قِيَاسًا لِلْمَوَارِيثِ، وَالْوَدَائِعِ، وَالْغُصُوبِ وَسَائِرِ الْأَمْوَالِ. وَأَجْمَعُوا عَلَى تَوْرِيثِ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ قِيَاسًا عَلَى الْأُخْتَيْنِ. وَقَالَ عَمَّنْ أَعْسَرَ بِمَا عَلَيْهِ مِنَ الرِّبَا: وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ [٢ ٢٨٠] فَدَخَلَ فِي ذَلِكَ كُلُّ مُعْسِرٍ بِدَيْنٍ حَلَالٍ، وَثَبَتَ ذَلِكَ قِيَاسُهُ.
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ تَوْرِيثُ الذَّكَرِ ضِعْفَيْ مِيرَاثِ الْأُنْثَى مُنْفَرِدًا، وَإِنَّمَا وَرَدَ النَّصُّ فِي
196
اجْتِمَاعِهِمَا بِقَوْلِهِ: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [٤ ١١] وَقَالَ: وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [٤ ١٧٦].
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قِيَاسُ التَّظَاهُرِ بِالْبِنْتِ عَلَى التَّظَاهُرِ بِالْأُمِّ فِيمَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ بِنْتِي. وَقِيَاسُ الرَّقَبَةِ فِي الظِّهَارِ عَلَى الرَّقَبَةِ فِي الْقَتْلِ بِشَرْطِ الْإِيمَانِ. وَقِيَاسُ تَحْرِيمِ الْأُخْتَيْنِ وَسَائِرِ الْقِرَابَاتِ مِنَ الْإِمَاءِ عَلَى الْحَرَائِرِ فِي الْجَمْعِ فِي التَّسَرِّي. قَالَ: وَهَذَا لَوْ تَقَصَّيْتُهُ لَطَالَ بِهِ الْكِتَابُ.
قُلْتُ: بَعْضُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِيهَا نِزَاعٌ، وَبَعْضُهَا لَا يُعْرَفُ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ السَّلَفِ. وَقَدْ رَامَ بَعْضُ نُفَاةِ الْقِيَاسِ إِدْخَالَ هَذِهِ الْمَسَائِلَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا فِي الْعُمُومَاتِ اللَّفْظِيَّةِ، فَأُدْخِلَ قَذْفُ الرِّجَالِ فِي قَذْفِ الْمُحْصَنَاتِ، وَجُعِلَ الْمُحْصَنَاتُ صِفَةً لِلْفُرُوجِ لَا لِلنِّسَاءِ. وَأُدْخِلَ صَيْدُ الْجَوَارِحِ كُلِّهَا فِي قَوْلِهِ: وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ [٥ ٤] وَقَوْلِهِ: مُكَلِّبِينَ [٥ ٤] وَإِنْ كَانَ مِنْ لَفْظِ الْكَلْبِ فَمَعْنَاهُ مُغْرِينَ لَهَا عَلَى الصَّيْدِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: مُكَلِّبِينَ مَعْنَاهُ مُعَلِّمِينَ، وَإِنَّمَا قِيلَ لَهُمْ: مُكَلِّبِينَ لِأَنَّ الْغَالِبَ مِنْ صَيْدِهِمْ إِنَّمَا يَكُونُ بِالْكِلَابِ. وَهَؤُلَاءِ وَإِنْ أَمْكَنَهُمْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ، كَمَا جَزَمُوا بِتَحْرِيمِ أَجْزَاءِ الْخِنْزِيرِ لِدُخُولِهِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنَّهُ رِجْسٌ وَأَعَادُوا الضَّمِيرَ إِلَى الْمُضَافِ إِلَيْهِ دُونَ الْمُضَافِ فَلَا يُمْكِنُهُمْ ذَلِكَ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْمَوَاضِعِ، وَهُمْ يُضْطَرُّونَ فِيهَا وَلَا بُدَّ إِلَى الْقِيَاسِ أَوِ الْقَوْلِ بِمَا لَمْ يَقُلْ بِهِ غَيْرُهُمْ مِمَّنْ تَقَدَّمَهُمْ. فَلَا يُعْلَمُ أَحَدٌ مِنْ أَئِمَّةِ الْفَتْوَى يَقُولُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ فَأْرَةٍ وَقَعَتْ بِالسَّمْنِ: «أَلْقُوهَا وَمَا حَوْلَهَا وَكُلُوهُ» -: إِنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالسَّمْنِ دُونَ سَائِرِ الْأَدْهَانِ وَالْمَائِعَاتِ. هَذَا مِمَّا يَقْطَعُ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ وَالتَّابِعِينَ وَأَئِمَّةَ الْفُتْيَا لَا يُفَرِّقُونَ فِيهِ بَيْنَ السَّمْنِ وَالزَّيْتِ وَالشَّيْرَجِ وَالدُّبَّسِ. كَمَا لَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْفَأْرَةِ وَالْهِرَّةِ فِي ذَلِكَ.
وَكَذَلِكَ نَهَىُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، لَا يُفَرِّقُ عَالِمٌ يَفْهَمُ عَنِ اللَّهِ رَسُولِهِ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ الْعِنَبِ بِالزَّبِيبِ. وَمِنْ هَذَا أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَالَ فِي الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا: فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ [٢ ٢٣٠] أَيْ: إِنْ طَلَّقَهَا الثَّانِي فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهَا وَعَلَى الزَّوْجِ الْأَوَّلِ أَنْ يَتَرَاجَعَا.
وَالْمُرَادُ بِهِ تَجْدِيدُ الْعَقْدِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ مُخْتَصًّا بِالصُّورَةِ الَّتِي يُطْلَقُ فِيهَا الثَّانِي فَقَطْ، بَلْ مَتَى تَفَارَقَا بِمَوْتٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ فَسْخٍ أَوْ طَلَاقٍ حَلَّتْ لِلْأَوَّلِ قِيَاسًا عَلَى الطَّلَاقِ.
197
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَأْكُلُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَشْرَبُوا فِي صِحَافِهَا؛ فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ». وَقَوْلِهِ: «الَّذِي يَشْرَبُ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» وَهَذَا التَّحْرِيمُ لَا يَخْتَصُّ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، بَلْ يَعُمُّ سَائِرَ وُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ بِهَا، وَلَا يَتَوَضَّأَ بِهَا، وَلَا يَكْتَحِلَ مِنْهَا، وَهَذَا أَمْرٌ لَا يَشُكُّ فِيهِ عَالِمٌ.
وَمِنْ ذَلِكَ نَهْيُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُحَرِمَ عَنْ لُبْسِ الْقَمِيصِ، وَالسَّرَاوِيلِ، وَالْعِمَامَةِ، وَالْخُفَّيْنِ، وَلَا يَخْتَصُّ ذَلِكَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ فَقَطْ، بَلْ يَتَعَدَّى النَّهْيُ إِلَى الْجِبَابِ، وَالْأَقْبِيَةِ، وَالطَّيْلَسَانِ، وَالْقَلَنْسُوَةِ، وَمَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنَ الْمَلْبُوسَاتِ.
وَمِنْ هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الْغَائِطِ فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ» فَلَوْ ذَهَبَ مَعَهُ بِخِرْقَةِ تَنْظِيفٍ أَكْثَرَ مِنَ الْأَحْجَارِ، أَوْ قُطْنٍ أَوْ صُوفٍ أَوْ خَزٍّ وَنَحْوِ ذَلِكَ جَازَ. وَلَيْسَ لِلشَّارِعِ غَرَضٌ فِي غَيْرِ التَّنْظِيفِ وَالْإِزَالَةِ، فَمَا كَانَ أَبْلَغَ فِي ذَلِكَ كَانَ مِثْلَ الْأَحْجَارِ فِي الْجَوَازِ أَوْ أَوْلَى.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى أَنْ يَبِيعَ الرَّجُلُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ أَوْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَتِهِ». مَعْلُومٌ أَنَّ الْمَفْسَدَةَ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا فِي الْبَيْعِ وَالْخِطْبَةِ مَوْجُودَةٌ فِي الْإِجَارَةِ، فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يُؤَجِّرَ عَلَى إِجَارَتِهِ. وَإِنَّ قُدِّرَ دُخُولُ الْإِجَارَةِ فِي لَفْظِ الْبَيْعِ الْعَامِّ وَهُوَ بَيْعُ الْمَنَافِعِ فَحَقِيقَتُهَا غَيْرُ حَقِيقَةِ الْبَيْعِ، وَأَحْكَامُهَا غَيْرُ أَحْكَامِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آيَةِ التَّيَمُّمِ: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [٥ ٦] فَأَلْحَقَتِ الْأُمَّةُ أَنْوَاعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ عَلَى اخْتِلَافِهَا فِي نَقْضِهَا بِالْغَائِطِ. وَالْآيَةُ لَمْ تَنُصَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ إِلَّا عَلَيْهِ وَعَلَى اللَّمْسِ، عَلَى قَوْلِ مَنْ فَسَّرَهُ بِمَا دُونَ الْجِمَاعِ. وَأَلْحَقَتِ الِاحْتِلَامَ بِمُلَامَسَةِ النِّسَاءِ، وَأَلْحَقَتْ وَاجِدَ ثَمَنِ الْمَاءِ بِوَاجِدِهِ، وَأَلْحَقَتْ مَنْ خَافَ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ بَهَائِمِهِ مِنَ الْعَطَشِ إِذَا تَوَضَّأَ بِعَادِمِ الْمَاءِ، فَجَوَّزَتْ لَهُ التَّيَمُّمَ وَهُوَ وَاجِدٌ لِلْمَاءِ. وَأَلْحَقَتْ مَنْ خَشِيَ الْمَرَضَ مِنْ شِدَّةِ بِرْدِ الْمَاءِ بِالْمَرِيضِ فِي الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى الْبَدَلِ. وَإِدْخَالُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ وَأَمْثَالِهَا فِي الْعُمُومَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ الَّتِي لَا يَسْتَرِيبُ مَنْ لَهُ فَهْمٌ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي قَصْدِ عُمُومِهَا وَتَعْلِيقِ الْحُكْمِ بِهِ، وَكَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَصْلَحَةِ الْعَبْدِ - أَوْلَى مِنْ إِدْخَالِهَا فِي عُمُومَاتٍ لَفْظِيَّةٍ بَعِيدَةِ التَّنَاوُلِ لَهَا لَيْسَتْ بِحَرِيَّةِ الْفَهْمِ
198
مِمَّا لَا يُنْكِرُ تَنَاوُلَ الْعُمُومِيِّينَ لَهَا. فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَنَبَّهُ لِهَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَفَطَّنُ لِتَنَاوُلِ الْعُمُومِيِّينَ لَهَا.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ [٢ ٢٨٣] قَاسَتِ الْأُمَّةُ الرَّهْنَ فِي الْحَضَرِ عَلَى الرَّهْنِ فِي السَّفَرِ مَعَ وُجُودِ الْكَاتِبِ عَلَى الرَّهْنِ مَعَ عَدَمِهِ. فَإِنِ اسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَهَنَ دِرْعَهُ فِي الْحَضَرِ فَلَا عُمُومَ فِي ذَلِكَ؛ فَإِنَّمَا رَهَنَهَا عَلَى شَعِيرٍ اسْتَقْرَضَهُ مِنْ يَهُودِيٍّ، فَلَا بُدَّ مِنَ الْقِيَاسِ إِمَّا عَلَى الْآيَةِ وَإِمَّا عَلَى السُّنَّةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ سَمُرَةَ بْنَ جُنْدُبٍ لَمَّا بَاعَ خَمْرَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَأَخَذَ ثَمَنَهَا فِي الْعُشُورِ الَّتِي عَلَيْهِمْ فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ قَالَ: قَاتَلَ اللَّهُ سَمُرَةَ؟ أَمَا عَلِمَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ؛ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الشُّحُومُ فَجَمَلُوهَا وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَهَا» وَهَذَا مَحْضُ الْقِيَاسِ مِنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
فَإِنَّ تَحْرِيمَ الشُّحُومِ عَلَى الْيَهُودِ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَكَمَا يَحْرُمُ ثَمَنُ الشُّحُومِ الْمُحَرَّمَةِ فَكَذَلِكَ يَحْرُمُ ثَمَنُ الْخَمْرِ الْحَرَامِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - جَعَلُوا الْعَبْدَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ فِي النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقِ، وَالْعِدَّةِ؛ قِيَاسًا عَلَى مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلِهِ: فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [٤ ٢٥] ثُمَّ ذَكَرَ آثَارًا دَالَّةً عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ جَعَلُوا الْعَبْدَ عَلَى النِّصْفِ مِنَ الْحُرِّ فِيمَا ذَكَرَ قِيَاسًا عَلَى مَا نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنْ تَنْصِيفِ الْحَدِّ عَلَى الْأَمَةِ.
وَمِنْ ذَلِكَ تَوْرِيثُ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمَبْتُوتَةَ فِي مَرَضِ الْمَوْتِ بِرَأْيِهِ، وَوَافَقَهُ الصَّحَابَةُ عَلَى ذَلِكَ.
وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، قَالَ: أَحْسَبُ كُلَّ شَيْءٍ بِمَنْزِلَةِ الطَّعَامِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ وَزَيْدًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَمَّا قَالَا: إِنَّ الْأُمَّ تَرِثُ مَا بَقِيَ بَعْدَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي مَسْأَلَةِ زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ مَعَ الْأَبَوَيْنِ، قَاسَا وُجُودَ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَعَ الْأَبَوَيْنِ عَلَى مَا إِذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ زَوْجٌ وَلَا زَوْجَةٌ، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ لِلْأَبِ ضِعْفُ مَا لِلْأُمِّ، فَقَدَّرَا أَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ الزَّوْجِ أَوِ الزَّوْجَةِ كُلُّ الْمَالِ. وَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْقِيَاسِ؛ فَإِنَّ قَاعِدَةَ الْفَرَائِضِ أَنَّ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى إِذَا اجْتَمَعَا وَكَانَا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ، فَإِمَّا أَنْ يَأْخُذَ الذَّكَرُ ضِعْفَ مَا تَأْخُذُهُ الْأُنْثَى
199
كَالْأَوْلَادِ وَبَنِي الْأَبِ، وَإِمَّا أَنْ تُسَاوِيَهُ كَوَلَدِ الْأُمِّ، وَأَمَّا أَنَّ الْأُنْثَى تَأْخُذُ ضِعْفَ مَا يَأْخُذُ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لَهَا فِي دَرَجَتِهِ، فَلَا عَهْدَ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ. فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَخْذُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي الْفَرَائِضِ بِالْعَوْلِ، وَإِدْخَالِ النَّقْصِ عَلَى جَمِيعِ ذَوِي الْفَرَائِضِ قِيَاسًا عَلَى إِدْخَالِ النَّقْصِ عَلَى الْغُرَمَاءِ إِذَا ضَاقَ مَالُ الْمُفْلِسِ عَنْ تَوْفِيَتِهِمْ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعَوْلَ الَّذِي أَخَذَ بِهِ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَعْدَلُ مِنْ تَوْفِيَةِ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ حَقَّهُ كَامِلًا وَنَقْصِ بَعْضِهِمْ بَعْضَ حَقِّهِ، فَهَذَا ظُلْمٌ لَا شَكَّ فِيهِ، وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ، فَلَوْ تَقَصَّيْنَاهَا لَطَالَ الْكَلَامُ جِدًّا. وَهَذِهِ الْوَقَائِعُ الَّتِي ذَكَرْنَا وَأَمْثَالَهَا مِمَّا لَمْ نَذْكُرْ تَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَسْتَعْمِلُونَ الْقِيَاسَ فِي الْأَحْكَامِ، وَيُعَرِّفُونَهَا بِالْأَمْثَالِ وَالْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ، وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى مَنْ يَقْدَحُ فِي كُلِّ سَنَدٍ مِنْ أَسَانِيدِهَا، فَإِنَّهَا فِي كَثْرَةِ طُرُقِهَا وَاخْتِلَافِ مَخَارِجِهَا وَأَنْوَاعِهَا جَارِيَةٌ مَجْرَى التَّوَاتُرِ الْمَعْنَوِيِّ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ كُلُّ فَرْدٍ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهَا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ وَعِلْمِ الْحَدِيثِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ
اعْلَمْ أَنَّ الْقِيَاسَ جَاءَتْ عَلَى مَنْعِهِ فِي الْجُمْلَةِ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ، وَبِهَا تَمَسَّكَ الظَّاهِرِيَّةُ وَمَنْ تَبِعَهُمْ، وَسَنَذْكُرُ هُنَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ جُمَلًا وَافِيَةً مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ نُبَيِّنُ الصَّوَابَ فِيهِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
قَالُوا: فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [٤ ٥٩] وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى أَنَّ الرَّدَّ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ، وَالرَّدُّ إِلَى الرَّسُولِ - صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ - هُوَ الرَّدُّ إِلَيْهِ فِي حُضُورِهِ وَحَيَاتِهِ، وَإِلَى سُنَّتِهِ فِي غَيْبَتِهِ وَبَعْدَ مَمَاتِهِ، وَالْقِيَاسُ لَيْسَ بِهَذَا وَلَا هَذَا، وَلَا يُقَالُ: الرَّدُّ إِلَى الْقِيَاسِ هُوَ مِنَ الرَّدِّ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ لِدَلَالَةِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا رَدَّنَا إِلَى كِتَابِهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ، وَلَمْ يَرُدَّنَا إِلَى قِيَاسِ عُقُولِنَا وَآرَائِنَا فَقَطْ، بَلْ قَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ [٥ ٤٩] وَقَالَ: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [٤ ١٠٥] وَلَمْ يَقُلْ بِمَا رَأَيْتَ أَنْتَ. وَقَالَ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [٥ ٤٤] وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٥ ٤٥]
200
وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ [٥ ٤٧] وَقَالَ تَعَالَى: اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [٧ ٣] وَقَالَ تَعَالَى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [١٦ ٨٩] وَقَالَ: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٢٩ ٥١] وَقَالَ: قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي [٣٤ ٥٠] فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ هُدًى لَمْ يَنْحَصِرِ الْهُدَى فِي الْوَحْيِ. وَقَالَ: فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ [٤ ٦٥] فَنَفَى الْإِيمَانَ حَتَّى يُوجَدَ تَحْكِيمُهُ وَحْدَهُ، وَهُوَ تَحْكِيمُهُ فِي حَالِ حَيَاتِهِ وَتَحْكِيمُ سُنَّتِهِ فَقَطْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [٤٩] أَيْ: لَا تَقُولُوا حَتَّى يَقُولَ. قَالَ نُفَاةُ الْقِيَاسِ: وَالْإِخْبَارُ عَنْهُ بِأَنَّهُ حَرَّمَ مَا سَكَتَ عَنْهُ، أَوْ أَوْجَبَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا تَكَلَّمَ بِتَحْرِيمِهِ أَوْ إِيجَابِهِ تَقَدَّمَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ إِذَا قَالَ: حَرَّمْتُ عَلَيْكُمُ الرِّبَا فِي الْبُرِّ، فَقُلْنَا: وَنَحْنُ نَقِيسُ عَلَى قَوْلِكَ الْبَلُّوطَ، فَهَذَا مَحْضُ التَّقَدُّمِ، قَالُوا: وَقَدْ حَرَّمَ سُبْحَانَهُ أَنْ نَقُولَ عَلَيْهِ مَا لَا نَعْلَمُ، فَإِذَا قُلْنَا ذَلِكَ فَقَدْ وَاقَعْنَا هَذَا الْمُحَرَّمَ يَقِينًا، فَإِنَّا غَيْرُ عَالِمِينَ بِأَنَّهُ أَرَادَ مِنْ تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ تَحْرِيمَهُ فِي الْقَدِيدِ مِنَ اللُّحُومِ، وَهَذَا قَفْوٌ مِنَّا مَا لَيْسَ لَنَا بِهِ عِلْمٌ، وَتَعَدٍّ لِمَا حُدَّ لَنَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَالْوَاجِبُ أَنْ نَقِفَ عِنْدَ حُدُودِهِ، وَلَا نَتَجَاوَزُهَا، وَلَا نُقَصِّرَ بِهَا. وَلَا يُقَالُ: فَإِبْطَالُ الْقِيَاسِ وَتَحْرِيمُهُ وَالنَّهْيُ عَنْهُ تَقَدُّمٌ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَتَحْرِيمٌ لِمَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ، وَقَفْوٌ مِنْكُمْ لِمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَخْرَجَنَا مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِنَا لَا نَعْلَمُ شَيْئًا، وَأَنْزَلَ عَلَيْنَا كِتَابَهُ، وَأَرْسَلَ إِلَيْنَا رَسُولَهُ يُعَلِّمُنَا الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ. فَمَا عَلِمْنَاهُ وَبَيَّنَهُ لَنَا فَهُوَ مِنَ الدِّينِ، وَمَا لَمْ يَعْلِّمْنَاهُ وَلَا بَيَّنَ لَنَا أَنَّهُ مِنَ الدِّينِ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ ضَرُورَةً، وَكُلُّ مَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ فَهُوَ بَاطِلٌ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ. وَقَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [٥ ٣] فَالَّذِي أَكْمَلَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَبَيَّنَهُ هُوَ دِينُنَا لَا دِينَ لَنَا سِوَاهُ، فَأَيْنَ فِيمَا أَكْمَلَهُ لَنَا، قِيسُوا مَا سَكَتُّ عَنْهُ عَلَى مَا تَكَلَّمْتُ بِإِيجَابِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ أَوْ إِبَاحَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا عِلَّةً أَوْ دَلِيلً عِلَّةٍ، أَوْ وَصْفًا شَبِيهًا، فَاسْتَعْمِلُوا ذَلِكَ كُلَّهُ، وَانْسُبُوهُ إِلَيَّ وَإِلَى رَسُولِي وَإِلَى دِينِي، وَأَحْكَمُوا بِهِ عَلَيَّ.
قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، وَأَخْبَرَ رَسُولَهُ أَنَّ " الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ " وَنَهَى عَنْهُ، وَمِنْ أَعْظَمِ الظَّنِّ ظَنُّ الْقِيَاسِيِّينَ؛ فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى يَقِينٍ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ بَيْعَ السِّمْسِمِ بِالشَّيْرَجِ، وَالْحَلْوَى بِالْعِنَبِ، وَالنِّشَا بِالْبُرِّ، وَإِنَّمَا هِيَ
201
ظُنُونٌ مُجَرَّدَةٌ لَا تُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا.
قَالُوا: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ الضُّرَاطِ عَلَى " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " مِنَ الظَّنِّ الَّذِي نُهِينَا عَنِ اتِّبَاعِهِ وَتَحْكِيمِهِ، وَأَخْبَرَنَا أَنَّهُ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا ظَنٌّ بَاطِلٌ. فَأَيْنَ الضُّرَاطُ مِنَ " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ". وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ الْمَاءِ الَّذِي لَاقَى الْأَعْضَاءَ الطَّاهِرَةَ الطَّيِّبَةَ عِنْدَ اللَّهِ فِي إِزَالَةِ الْحَدَثِ عَلَى الْمَاءِ الَّذِي لَاقَى أَخْبَثَ الْعَذِرَاتِ، وَالْمَيْتَاتِ، وَالنَّجَاسَاتِ ظَنًّا. فَلَا نَدْرِي مَا الظَّنُّ الَّذِي حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقَوْلَ بِهِ، وَذَمَّهُ فِي كِتَابِهِ، وَسَلَخَهُ مِنَ الْحَقِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قِيَاسُ أَعْدَاءِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ عُبَّادِ الصُّلْبَانِ وَالْيَهُودِ الَّذِينَ هُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَوْلِيَائِهِ وَخِيَارِ خَلْقِهِ، وَسَادَاتِ الْأَمَةِ وَعُلَمَائِهَا وَصُلَحَائِهَا فِي تَكَاثُرِ دِمَائِهِمْ وَجَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ ظَنًّا، فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا ظَنٌّ يُذَمُّ اتِّبَاعُهُ.
قَالُوا: مِنَ الْعَجَبِ أَنَّكُمْ قِسْتُمْ أَعْدَاءَ اللَّهِ عَلَى أَوْلِيَائِهِ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَهُمْ، فَقَتَلْتُمْ أَلْفَ وَلِيٍّ لِلَّهِ تَعَالَى قَتَلُوا نَصْرَانِيًّا وَاحِدًا، وَلَمْ تَقِيسُوا مَنْ ضَرَبَ رَجُلًا بِدَبُّوسٍ فَنَثَرَ دِمَاغَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى مَنْ طَعَنَهُ بِمِسَلَّةٍ فَقَتَلَهُ.
قَالُوا: وَسَنُبَيِّنُ لَكُمْ مِنْ تُنَاقِضُ أَقْيِسَتِكُمْ وَاخْتِلَافِهَا وَشِدَّةِ اضْطِرَابِهَا مَا يُبَيِّنُ أَنَّهَا مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ. قَالُوا: وَاللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكِلْ بَيَانَ شَرِيعَتِهِ إِلَى آرَائِنَا وَأَقْيِسَتِنَا وَاسْتِنْبَاطِنَا، وَإِنَّمَا وَكَلَهَا إِلَى رَسُولِهِ الْمُبَيِّنِ عَنْهُ، فَمَا بَيَّنَهُ عَنْهُ وَجَبَ اتِّبَاعُهُ، وَمَا لَمْ يُبَيِّنْهُ فَلَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَنَحْنُ نُنَاشِدُكُمُ اللَّهَ هَلِ اعْتِمَادُكُمْ فِي هَذِهِ الْأَقْيِسَةِ الشَّبِيهَةِ وَالْأَوْصَافِ الْحَدْسِيَّةِ التَّخْمِينِيَّةِ عَلَى بَيَانِ الرَّسُولِ، أَوْ عَلَى آرَاءِ الرِّجَالِ وَظُنُونِهِمْ وَحَدْسِهِمْ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [١٦ ٤٤] فَأَيْنَ بَيَّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي إِذَا حَرَّمْتُ شَيْئًا أَوْ أَوْجَبْتُهُ أَوْ أَبَحْتُهُ فَاسْتَخْرِجُوا وَصْفًا مَا شَبِيهًا جَامِعًا بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ جَمِيعِ مَا سَكَتُّ عَنْهُ فَأَلْحِقُوهُ بِهِ وَقِيسُوهُ عَلَيْهِ.
قَالُوا: وَاللَّهُ تَعَالَى قَدْ نَهَى عَنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ لَهُ، فَكَمَا لَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ لَا تُضْرَبُ لِدِينِهِ، وَتَمْثِيلُ مَا لَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِهِ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ لِشَبَهٍ مَا ضَرْبُ الْأَمْثَالِ لِدِينِهِ.
قَالُوا: وَمَا ضَرَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنَ الْأَمْثَالِ فَهُوَ حَقٌّ خَارِجٌ عَمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ إِثْبَاتِكُمُ الْأَحْكَامَ بِالرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ وَلَا سُنَّةٍ. وَذَكَرُوا شَيْئًا كَثِيرًا مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْتَرِفِينَ بِأَنَّهَا حَقٌّ. قَالُوا: وَلَا تُفِيدُكُمْ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، قَالُوا: فَالْأَمْثَالُ الَّتِي ضَرَبَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا هِيَ لِتَقْرِيبِ الْمُرَادِ، وَتَفْهِيمِ الْمَعْنَى وَإِيصَالِهِ إِلَى ذِهْنِ السَّامِعِ، وَإِحْضَارِهِ فِي نَفْسِهِ بِصُورَةِ الْمِثَالِ الَّذِي مُثَّلَ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى
202
تَعَقُّلِهِ وَفَهْمِهِ وَضَبْطِهِ وَاسْتِحْضَارِهِ لَهُ بِاسْتِحْضَارِ نَظِيرِهِ. فَإِنَّ النَّفْسَ تَأْنَسُ بِالنَّظَائِرِ وَالْأَشْبَاهِ الْأُنْسَ التَّامَّ، وَتَنْفِرُ مِنَ الْغُرْبَةِ وَالْوَحْدَةِ وَعَدَمِ النَّظِيرِ. فَفِي الْأَمْثَالِ مِنْ تَأْنِيسِ النَّفْسِ وَسُرْعَةِ قَبُولِهَا وَانْقِيَادِهَا لِمَا ضُرِبَ لَهَا مَثَلُهُ مِنَ الْحَقِّ أَمْرٌ لَا يَجْحَدُهُ أَحَدٌ وَلَا يُنْكِرُهُ. وَكُلَّمَا ظَهَرَتْ لَهَا الْأَمْثَالُ ازْدَادَ الْمَعْنَى ظُهُورًا وَوُضُوحًا. فَالْأَمْثَالُ شَوَاهِدُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ وَتَزْكِيَةٌ لَهُ، وَهِيَ: كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ [٤٨ ٢٩]، وَهِيَ خَاصَّةُ الْعَقْلِ وَلُبُّهُ وَثَمَرَتُهُ، وَلَكِنْ أَيْنَ فِي الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؟ فَهِمْنَا أَنَّ الصَّدَاقَ لَا يَكُونُ أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ عَشَرَةٍ، قِيَاسًا وَتَمْثِيلًا عَلَى أَقَلِّ مَا يُقْطَعُ فِيهِ السَّارِقُ. هَذَا بِالْأَلْغَازِ وَالْأَحَاجِي أَشْبَهُ مِنْهُ بِالْأَمْثَالِ الْمَضْرُوبَةِ لِلْفَهْمِ. كَمَا قَالَ إِمَامُ الْحَدِيثِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ فِي جَامِعِهِ الصَّحِيحِ: (بَابُ مَنْ شَبَّهَ أَصْلًا مَعْلُومًا بِأَصْلٍ مُبَيَّنٍ قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ حُكْمَهُمَا لِيَفْهَمَ السَّامِعُ).
قَالُوا: فَنَحْنُ لَا نُنْكِرُ هَذِهِ الْأَمْثَالَ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا نَجْهَلُ مَا أُرِيدَ بِهَا، وَإِنَّمَا نُنْكِرُ أَنْ يُسْتَفَادَ وُجُوبُ الدَّمِ عَلَى مَنْ قَطَعَ مِنْ جَسَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ ثَلَاثَ شَعَرَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ [٢ ١٩٦] وَأَنَّ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ: " صَاعٌ مَنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ شَعِيرٍ أَوْ صَاعٌ مَنْ أَقِطٍ أَوْ صَاعٌ مِنْ بُرٍّ أَوْ صَاعٌ مِنْ زَبِيبٍ " يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ أَعْطَى صَاعًا مِنْ إِهْلِيجٍ جَازِ، وَأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّمْثِيلِ وَالِاعْتِبَارِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ " يُسْتَفَادُ مِنْهُ وَمِنْ دَلَالَتِهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ الْوَلِيُّ بِحَضْرَةِ الْحَاكِمِ: زَوَّجْتُكَ ابْنَتِي وَهُوَ بِأَقْصَى الشَّرْقِ وَهِيَ بِأَقْصَى الْغَرْبِ، فَقَالَ: قَبِلْتُ هَذَا التَّزْوِيجَ وَهِيَ طَالِقٌ ثَلَاثًا، ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَ ذَلِكَ بِوَلَدٍ لِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَنَّهُ ابْنُهُ، وَقَدْ صَارَتْ فِرَاشًا بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ: قَبِلْتُ هَذَا التَّزْوِيجَ، وَمَعَ هَذَا لَوْ كَانَتْ لَهُ سُرِّيَّةٌ يَطَؤُهَا لَيْلًا وَنَهَارًا لَمْ تَكُنْ فِرَاشًا لَهُ، وَلَوْ أَتَتْ بِوَلَدٍ لَمْ يَلْحَقْهُ نَسَبُهُ إِلَّا أَنْ يَدَّعِيَهُ وَيَسْتَلْحِقَهُ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَلْحِقْهُ فَلَيْسَ بِوَلَدِهِ؟.
وَأَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ شِبْهِ الْعَمْدِ مَا كَانَ بِالسَّوْطِ وَالْعَصَا مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ " أَنَّهُ لَوْ ضَرَبَهُ بِحَجَرِ الْمَنْجَنِيقِ أَوْ بِكُورِ الْحَدَّادِ أَوْ بِمَرَازِبِ الْحَدِيدِ الْعِظَامِ، حَتَّى خَلَطَ دِمَاغَهُ بِلَحْمِهِ وَعَظْمِهِ - أَنَّ هَذَا خَطَأٌ شِبْهُ عَمْدٍ لَا يُوجِبُ قَوْدًا.
وَأَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ إِنْ يُخْطِئْ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ "
203
- أَنَّ مَنْ عَقَدَ عَلَى أُمِّهِ أَوِ ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ وَوَطِئَهَا فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ. وَأَنَّ هَذَا الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ: " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ " فَهَذَا فِي مَعْنَى الشُّبْهَةِ الَّتِي تُدْرَأُ بِهَا الْحُدُودُ، وَهِيَ الشُّبْهَةُ فِي الْمَحَلِّ أَوْ فِي الْفَاعِلِ أَوْ فِي الِاعْتِقَادِ. وَلَوْ عُرِضَ هَذَا عَلَى فَهْمِ مَنْ فَرَضَ مِنَ الْعَالَمِينَ لَمْ يَفْهَمْهُ مِنْ هَذَا اللَّفْظِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ. وَأَنَّ مَنْ يَطَأُ خَالَتَهُ أَوْ عَمَّتَهُ بِمِلْكِ الْيَمِينِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا خَالَتُهُ أَوْ عَمَّتُهُ وَتَحْرِيمِ اللَّهِ لِذَلِكَ، وَيُفْهَمُ هَذَا مِنْ " ادْرَءُوا الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ "، وَأَضْعَافُ أَضْعَافِ هَذَا مِمَّا لَا يَكَادُ يَنْحَصِرُ.
قَالُوا: فَهَذَا التَّمْثِيلُ وَالتَّشْبِيهُ هُوَ الَّذِي نُنْكِرُهُ، وَنُنْكِرُ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ دَلَالَةٌ عَلَى فَهْمِهِ بِوَجْهٍ مَا.
قَالُوا: وَمِنْ أَيْنَ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً [١٦ ٦٦] وَمِنْ قَوْلِهِ: فَاعْتَبِرُوا تَحْرِيمُ بَيْعِ الْكِشْكِ بِاللَّبَنِ، وَبِيعِ الْخَلِّ بِالْعِنَبِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ. قَالُوا: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ [٤٢ ١٠] وَلَمْ يَقُلْ إِلَى قِيَاسَاتِكُمْ وَآرَائِكُمْ. وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ آرَاءَ الرِّجَالِ وَأَقْيِسَتَهَا حَاكِمَةً بَيْنَ الْأُمَّةِ أَبَدًا.
قَالُوا: وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [٣٣ ٣٦] فَإِنَّمَا مَنْعُهُمْ مِنَ الْخِيَرَةِ عِنْدَ حُكْمِهِ وَحُكْمِ رَسُولِهِ، لَا عِنْدَ آرَاءِ الرِّجَالِ وَأَقْيِسَتِهِمْ وَظُنُونِهِمْ.
وَقَدْ أَمَرَ سُبْحَانَهُ رَسُولَهُ بِاتِّبَاعِ مَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ خَاصَّةً، وَقَالَ: إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَقَالَ: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَقَالَ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ قَالُوا: فَدَلَّ هَذَا النَّصُّ عَلَى أَنَّ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ مِنَ الدِّينِ فَهُوَ شَرْعُ غَيْرِهِ بِالْبَاطِلِ.
قَالُوا: وَقَدْ أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَّ كُلَّ مَا سَكَتَ عَنْ إِيجَابِهِ أَوْ تَحْرِيمِهِ فَهُوَ عَفْوٌ عَفَا عَنْهُ لِعِبَادِهِ، مُبَاحٌ إِبَاحَةَ الْعَفْوِ، فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُهُ وَلَا إِيجَابُهُ قِيَاسًا عَلَى مَا أَوْجَبَهُ أَوْ حَرَّمَهُ بِجَامِعٍ بَيْنَهُمَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ رَفْعَ هَذَا الْقِسْمَ بِالْكُلِّيَّةِ وَإِلْغَاءَهُ، إِذِ الْمَسْكُوتُ عَنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُحَرَّمِ شَبَهٌ وَوَصْفٌ جَامِعٌ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوَاجِبِ. فَلَوْ جَازَ إِلْحَاقُهُ بِهِ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ قِسْمٌ قَدْ عَفَا عَنْهُ. وَلَمْ يَكُنْ مَا سَكَتَ عَنْهُ قَدْ عَفَا عَنْهُ بَلْ يَكُونُ مَا سَكَتَ عَنْهُ قَدْ حَرَّمَهُ قِيَاسًا عَلَى مَا حَرَّمَهُ، وَهَذَا لَا سَبِيلَ إِلَى دَفْعِهِ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ
204
تَحْرِيمُ مَا سَكَتَ عَنْهُ تَبْدِيلًا لِحُكْمِهِ. وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ بَدَّلَ غَيْرَ الْقَوْلِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ، فَمَنْ بَدَّلَ غَيْرَ الْحُكْمِ الَّذِي شُرِعَ لَهُ فَهُوَ أَوْلَى بِالذَّمِّ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمُسْلِمِينَ جُرْمًا مَنْ سَأَلَ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يُحَرَّمْ فَحُرِّمَ عَلَى النَّاسِ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ " فَإِذَا كَانَ هَذَا فِيمَنْ تَسَبَّبَ إِلَى تَحْرِيمِ الشَّارِعِ صَرِيحًا بِمَسْأَلَتِهِ عَنْ حُكْمِ مَا سَكَتَ عَنْهُ، فَكَيْفَ بِمَنْ حَرَّمَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ بِقِيَاسِهِ وَرَأْيِهِ! يُوَضِّحُهُ أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ لَمَّا كَانَ عَفْوًا عَفَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَنْهُ، وَكَانَ الْبَحْثُ عَنْهُ سَبَبًا لِتَحْرِيمِ اللَّهِ إِيَّاهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مُقْتَضَى التَّحْرِيمِ لَا لِمُجَرَّدِ السُّؤَالِ عَنْ حُكْمِهِ، وَكَانَ اللَّهُ قَدْ عَفَا عَنْ ذَلِكَ وَسَامَحَ بِهِ عِبَادَهُ كَمَا يَعْفُو عَمَّا فِيهِ مَفْسَدَةٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ. فَمِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ سُكُوتَهُ عَنْ ذِكْرِ لَفْظٍ عَامٍّ يُحْرِّمُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ عَفْوٌ مِنْهُ، فَمَنْ حَرَّمَهُ بِسُؤَالِهِ عَنْ عِلَّةِ التَّحْرِيمِ وَقِيَاسِهِ عَلَى الْمُحَرَّمِ بِالنَّصِّ كَانَ أَدْخَلَ فِي الذَّمِّ مِمَّنْ سَأَلَهُ عَنْ حُكْمِهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهِ، فَحَرُمَ مِنْ أَجْلِ مَسْأَلَتِهِ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَلَّا يَبْحَثَ عَنْهُ، وَلَا يَسْأَلَ عَنْ حُكْمِهِ اكْتِفَاءً بِسُكُوتِ اللَّهِ عَنْ عَفْوِهِ عَنْهُ. فَهَكَذَا الْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَلَّا يُحَرِّمَ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ بِغَيْرِ النَّصِّ الَّذِي حَرَّمَ أَصْلَهُ الَّذِي يُلْحَقُ بِهِ.
قَالُوا: وَقَدْ دَلَّ عَلَى هَذَا كِتَابُ اللَّهِ حَيْثُ يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [٥ ١٠١ - ١٠٢] وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ " فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَتْرُكُوهُ مِنَ السُّؤَالِ مَا تَرَكَهُمْ. وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ حَيَاتِهِ وَبَيْنَ مَمَاتِهِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ أَنْ نَتْرُكَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَا نَصَّ عَلَيْهِ، فَلَا نَقُولُ لَهُ: لِمَ حَرَّمْتَ كَذَا لِنُلْحِقَ بِهِ مَا سَكَتَ عَنْهُ، بَلْ هَذَا أَبْلَغُ فِي الْمَعْصِيَةِ مِنْ أَنْ نَسْأَلَهُ عَنْ حُكْمِ شَيْءٍ لَمْ يَحْكُمْ فِيهِ فَتَأَمَّلْهُ فَإِنَّهُ وَاضِحٌ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي نَفْسِ الْحَدِيثِ: " وَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وَإِذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ " فَجَعَلَ الْأُمُورَ ثَلَاثَةً لَا رَابِعَ لَهَا: (مَأْمُورٌ بِهِ) فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ (وَمَنْهِيٌّ عَنْهُ) فَالْفَرْضُ عَلَيْهِمُ اجْتِنَابُهُ بِالْكُلِّيَّةِ (وَمَسْكُوتٌ عَنْهُ) فَلَا يَتَعَرَّضُ لِلسُّؤَالِ وَالتَّفْتِيشِ عَلَيْهِ.
وَهَذَا حُكْمٌ لَا يَخْتَصُّ بِحَيَاتِهِ فَقَطْ، وَلَا يَخُصُّ الصَّحَابَةَ دُونَ مَنْ بَعْدَهُمْ، بَلْ فَرَضَ عَلَيْنَا نَحْنُ امْتِثَالَ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابَ نَهْيِهِ، وَتَرْكَ الْبَحْثِ وَالتَّفْتِيشِ عَمَّا سَكَتَ عَنْهُ. وَلَيْسَ ذَلِكَ التَّرْكُ جَهْلًا وَتَجْهِيلًا لِحُكْمِهِ، بَلْ إِثْبَاتٌ لِحُكْمِ الْعَفْوِ وَهِيَ الْإِبَاحَةُ الْعَامَّةُ، وَرَفْعُ الْحَرَجِ عَنْ فَاعِلِهِ.
205
فَقَدِ اسْتَوْعَبَ الْحَدِيثُ أَقْسَامَ الدِّينِ كُلَّهَا، فَإِنَّهَا: إِمَّا وَاجِبٌ، وَإِمَّا حَرَامٌ، وَإِمَّا مُبَاحٌ. وَالْمَكْرُوهُ وَالْمُسْتَحَبُّ فَرْعَانِ عَلَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ خَارِجِينَ عَنِ الْمُبَاحِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [٧٥ ١٨ - ١٩] فَوَكَلَ بَيَانَهُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ لَا إِلَى الْقِيَاسِيِّينِ وَالْآرَائِيِّينَ.
وَقَالَ تَعَالَى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ [١٠ ٥٩] فَقَسَّمَ الْحُكْمَ إِلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ أَذِنَ فِيهِ وَهُوَ الْحَقُّ، وَقِسْمٌ افْتُرِيَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَا لَمْ يَأْذَنْ فِيهِ، فَأَيْنَ إِذًا لَنَا أَنْ نَقِيسَ الْبَلُّوطَ عَلَى التَّمْرِ فِي جَرَيَانِ الرِّبَا فِيهِ، وَأَنْ نَقِيسَ الْقِزْدِيرَ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَالْخَرْدَلَ عَلَى الْبُرِّ، فَإِنْ كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَّانَا بِهَذَا فَسَمْعًا وَطَاعَةً لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِلَّا فَإِنَّا قَائِلُونَ لِمُنَازِعِينَا أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا [٦ ١٤٤] فَمَا لَمْ تَأْتُونَا بِهِ وَصِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ عَيْنُ الْبَاطِلِ، وَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ بِرَدِّ مَا تَنَازَعْنَا فِيهِ إِلَيْهِ وَإِلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمْ يُبِحْ لَنَا قَطُّ أَنْ نَرُدَّ ذَلِكَ إِلَى رَأْيٍ، وَلَا قِيَاسٍ، وَلَا تَقْلِيدِ إِمَامٍ، وَلَا مَنَامٍ، وَلَا كُشُوفٍ، وَلَا إِلْهَامٍ، وَلَا حَدِيثِ قَلْبٍ، وَلَا اسْتِحْسَانٍ، وَلَا مَعْقُولٍ، وَلَا شَرِيعَةِ الدِّيوَانِ، وَلَا سِيَاسَةِ الْمُلُوكِ، وَلَا عَوَائِدِ النَّاسِ الَّتِي لَيْسَ عَلَى شَرَائِعِ الْمُرْسَلِينَ أَضَرُّ مِنْهَا. فَكُلُّ هَذِهِ طَوَاغِيتُ! مَنْ تَحَاكَمَ إِلَيْهَا أَوْ دَعَا مُنَازِعَهُ إِلَى التَّحَاكُمِ إِلَيْهَا فَقَدْ حَاكَمَ إِلَى الطَّاغُوتِ! وَقَالَ تَعَالَى: فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ [١٦].
قَالُوا: وَمَنْ تَأْمَّلَ هَذِهِ الْآيَةَ حَقَّ التَّأَمُّلِ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهَا نَصٌّ عَلَى إِبْطَالِ الْقِيَاسِ وَتَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ كُلَّهُ ضَرْبُ الْأَمْثَالِ لِلدِّينِ، وَتَمْثِيلُ مَا لَا نَصَّ فِيهِ بِمَا فِيهِ نَصٌّ. وَمَنْ مَثَّلَ مَا لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ إِيجَابِهِ بِمَا حَرَّمَهُ أَوْ أَوْجَبَهُ فَقَدْ ضَرَبَ لِلَّهِ الْأَمْثَالَ، وَلَوْ عَلِمَ سُبْحَانَهُ أَنَّ الَّذِي سَكَتَ عَنْهُ مِثْلَ الَّذِي نَصَّ عَلَيْهِ لِأَعْلَمَنَا بِذَلِكَ، وَلَمَا أَغْفَلَهُ سُبْحَانَهُ، وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا وَلِيُبَيِّنَ لَنَا مَا نَتَّقِي كَمَا أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ بِذَلِكَ إِذْ يَقُولُ سُبْحَانَهُ: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ [٩ ١١٥] وَلَمَا وَكَّلَهُ إِلَى آرَائِنَا وَمَقَايِيسِنَا الَّتِي يَنْقَضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، فَهَذَا يَقِيسُ مَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ عَلَى مَا يَزْعُمُ أَنَّهُ نَظِيرُهُ، فَيَجِيءُ مُنَازِعُهُ فَيَقِيسُ ضِدَّ قِيَاسِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَيُبْدِي مِنَ الْوَصْفِ الْجَامِعِ مِثْلَ مَا أَبْدَاهُ مُنَازِعُهُ أَوْ أَظْهَرَ مِنْهُ، وَمُحَالٌ أَنْ يَكُونَ الْقِيَاسَانِ مَعًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَوْلَى مِنَ الْآخَرِ، فَلَيْسَا مِنْ عِنْدِهِ، وَهَذَا وَحْدَهُ كَافٍ فِي إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، وَقَدْ قَالَ
206
تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [١٤ ٤] وَقَالَ: لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [١٦ ٤٤] فَكُلُّ مَا بَيَّنَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَعَنْ رَبِّهِ سُبْحَانَهُ، بَيَّنَهُ بِأَمْرِهِ وَإِذْنِهِ. وَقَدْ عَلِمْنَا يَقِينًا وُقُوعَ كُلِّ اسْمٍ فِي اللُّغَةِ عَلَى مُسَمَّاهُ فِيهَا، وَأَنَّ اسْمَ الْبُرِّ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَرْدَلَ، وَاسْمَ التَّمْرِ لَا يَتَنَاوَلُ الْبَلُّوطَ، وَاسْمَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ لَا يَتَنَاوَلُ الْقِزْدِيرَ، وَأَنَّ تَقْدِيرَ نِصَابِ السَّرِقَةِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ تَقْدِيرُ الْمَهْرِ، وَأَنَّ تَحْرِيمَ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُؤْمِنَ الطَّيِّبَ عِنْدَ اللَّهِ حَيًّا وَمَيِّتًا إِذَا مَاتَ صَارَ نَجِسًا خَبِيثًا. وَأَنَّ هَذَا عَنِ الْبَيَانِ الَّذِي وَلَّاهُ اللَّهُ رَسُولَهُ وَبَعَثَهُ بِهِ أَبْعَدُ شَيْءٍ وَأَشَدُّهُ مُنَافَاةً لَهُ. فَلَيْسَ هُوَ مِمَّا بُعِثَ بِهِ الرَّسُولُ قَطْعًا، فَلَيْسَ إِذًا مِنَ الدِّينِ. وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ وَيَنْهَاهُمْ عَنْ شَرِّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ " وَلَوْ كَانَ الرَّأْيُ وَالْقِيَاسُ خَيْرًا لَهُمْ لَدَلَّهُمْ عَلَيْهِ، وَأَرْشَدَهُمْ إِلَيْهِ " وَلَقَالَ لَهُمْ: إِذَا أَوْجَبْتُ عَلَيْكُمْ شَيْئًا أَوْ حَرَّمْتُهُ فَقِيسُوا عَلَيْهِ مَا كَانَ بَيْنَهُ وَصْفٌ جَامِعٌ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ. أَوْ قَالَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَوْ يَسْتَلْزِمُهُ، وَلَمَا حَذَّرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ أَشَدَّ الْحَذَرِ. وَقَدْ أَحْكَمَ اللِّسَانُ كُلَّ اسْمٍ عَلَى مُسَمَّاهُ لَا عَلَى غَيْرِهِ. وَإِنَّمَا بَعَثَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَرَبِيَّةِ الَّتِي يَفْهَمُهَا الْعَرَبُ مِنْ لِسَانِهَا، فَإِذَا نَصَّ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ نَصَّ رَسُولُهُ عَلَى اسْمٍ مِنَ الْأَسْمَاءِ، وَعَلَّقَ عَلَيْهِ حُكْمًا مِنَ الْأَحْكَامِ - وَجَبَ أَلَّا يُوَقَّعَ ذَلِكَ الْحُكْمُ إِلَّا عَلَى مَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ الِاسْمُ، وَلَا يُتَعَدَّى بِهِ الْوَضْعَ الَّذِي وَضَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِيهِ، وَلَا يُخْرَجَ عَنْ ذَلِكَ الْحُكْمِ شَيْءٌ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الِاسْمُ، فَالزِّيَادَةُ عَلَيْهِ زِيَادَةٌ فِي الدِّينِ، وَالنَّقْصُ مِنْهُ نَقْصٌ فِي الدِّينِ. فَالْأَوَّلُ الْقِيَاسُ، وَالثَّانِي التَّخْصِيصُ الْبَاطِلُ، وَكِلَاهُمَا لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَمَنْ لَمْ يَقِفْ مَعَ النُّصُوصِ فَإِنَّهُ تَارَةً يَزِيدُ فِي النَّصِّ مَا لَيْسَ مِنْهُ، وَيَقُولُ هَذَا قِيَاسٌ. وَمَرَّةً يَنْقُصُ مِنْهُ بَعْضَ مَا يَقْتَضِيهِ وَيُخْرِجُهُ عَنْ حُكْمِهِ وَيَقُولُ هَذَا تَخْصِيصٌ. وَمَرَّةً يَتْرُكُ النَّصَّ جُمْلَةً وَيَقُولُ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ. أَوْ يَقُولُ: هَذَا خِلَافُ الْقِيَاسِ، أَوْ خِلَافُ الْأُصُولِ.
قَالُوا: وَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنَ الدِّينِ لَكَانَ أَهْلُهُ أَتْبَعَ النَّاسِ لِلْأَحَادِيثِ، وَكَانَ كُلَّمَا تَوَغَّلَ فِيهِ الرَّجُلُ كَانَ أَشَدَّ اتِّبَاعًا لِلْأَحَادِيثِ وَالْآثَارِ. قَالُوا: وَنَحْنُ نَرَى أَنَّ كُلَّمَا اشْتَدَّ تَوَغُّلُ الرَّجُلِ فِيهِ اشْتَدَّتْ مُخَالَفَتُهُ لِلسُّنَنِ، وَلَا تَرَى خِلَافَ السُّنَنِ وَالْآثَارِ إِلَّا عِنْدَ أَصْحَابِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ. فَلِلَّهِ كَمْ مِنْ سُنَّةٍ صَحِيحَةٍ صَرِيحَةٍ قَدْ عُطِّلَتْ بِهِ، وَكَمْ مِنْ أَثَرٍ دَرَسَ حُكْمُهُ بِسَبَبِهِ، فَالسُّنَنُ وَالْآثَارُ عِنْدَ الْآرَائِيِّينَ وَالْقِيَاسِيِّينَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، مُعَطَّلَةٌ أَحْكَامُهَا، مَعْزُولَةٌ عَنْ سُلْطَانِهَا وَوِلَايَتِهَا، لَهَا الِاسْمُ وَلِغَيْرِهَا الْحُكْمُ، لَهَا السِّكَّةُ وَالْخُطْبَةُ وَلِغَيْرِهَا الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ. وَإِلَّا فَلِمَاذَا تُرِكَ حَدِيثُ الْعَرَايَا، وَحَدِيثُ قِسْمِ الِابْتِدَاءِ، وَأَنَّ لِلزَّوْجَةِ حَقَّ الْعَقْدِ سَبْعَ لَيَالٍ إِنْ
207
كَانَتْ بِكْرًا، أَوْ ثَلَاثًا إِنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، ثُمَّ يُقَسَّمُ بِالسَّوِيَّةِ، وَحَدِيثُ تَغْرِيبِ الزَّانِي غَيْرِ الْمُحْصَنِ، وَحَدِيثُ الِاشْتِرَاطِ فِي الْحَجِّ وَجَوَازِ التَّحَلُّلِ بِالشَّرْطِ، وَحَدِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْجَوْرَبَيْنِ، وَحَدِيثُ عُمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فِي أَنَّ كَلَامَ النَّاسِ وَالْجَاهِلِ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَحَدِيثُ دَفْعِ اللُّقَطَةِ إِلَى مَنْ جَاءَ فَوَصَفَ وِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا وَعِفَاصَهَا، وَحَدِيثُ الْمُصَرَّاةِ، وَحَدِيثُ الْقُرْعَةِ بَيْنَ الْعَبِيدِ إِذَا أُعْتِقُوا فِي الْمَرَضِ وَلَمْ يَحْمِلْهُمُ الثُّلُثُ. وَحَدِيثُ خِيَارِ الْمَجْلِسِ، وَحَدِيثُ إِتْمَامِ الصَّوْمِ لِمَنْ أَكَلَ نَاسِيًا، وَحَدِيثُ إِتْمَامِ الصُّبْحِ لِمَنْ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَقَدْ صَلَّى مِنْهَا رَكْعَةً، وَحَدِيثُ الصَّوْمِ عَنِ الْمَيِّتِ، وَحَدِيثُ الْحَجِّ عَنِ الْمَرِيضِ الْمَيْئُوسِ مِنْ بُرْئِهِ، وَحَدِيثُ الْحُكْمِ بِالْقَافَةِ، وَحَدِيثُ " مَنْ وَجَدَ مَتَاعَهُ عِنْدَ رَجُلٍ قَدْ أَفْلَسَ "، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالتَّمْرِ، وَحَدِيثُ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ، وَحَدِيثُ الْقَضَاءِ بِالشَّاهِدِ مَعَ الْيَمِينِ، وَحَدِيثُ " الْوَلَدِ لِلْفِرَاشِ إِذَا كَانَ مِنْ أَمَةٍ " وَهُوَ سَبَبُ الْحَدِيثِ تَخْيِيرُ الْغُلَامِ بَيْنَ أَبَوَيْهِ إِذَا افْتَرَقَا، وَحَدِيثُ قَطْعِ السَّارِقِ فِي رُبْعِ دِينَارٍ، وَحَدِيثُ رَجْمِ الْكِتَابِيِّينَ فِي الزِّنَى، وَحَدِيثُ " مَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ أَمَرَ بِضَرْبِ عُنُقِهِ وَأَخْذِ مَالِهِ "، وَحَدِيثُ " لَا يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ "، وَحَدِيثُ " لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ "، وَحَدِيثُ " لَا نِكَاحَ إِلَّا بِوَلِيٍّ "، وَحَدِيثُ " الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثًا لَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ "، وَحَدِيثُ عِتْقِ صَفِيَّةَ وَجَعْلِ عِتْقِهَا صَدَاقَهَا، وَحَدِيثُ " اصْدُقُوا وَلَوْ خَاتَمًا مِنْ حَدِيدٍ "، وَحَدِيثُ " إِبَاحَةِ لُحُومِ الْخَيْلِ "، وَحَدِيثُ " كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ "، وَحَدِيثُ " لَيْسَ فِيهَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ "، وَحَدِيثُ الْمُزَارَعَةِ وَالْمُسَاقَاةِ، وَحَدِيثُ " ذَكَاةِ الْجَنِينِ ذَكَاةِ أُمِّهِ " وَحَدِيثُ " الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحْلُوبٌ "، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ تَخْلِيلِ الْخَمْرِ، وَحَدِيثُ قِسْمَةِ الْغَنِيمَةِ " لِلرَّاجِلِ سَهْمٌ وَلِلْفَارِسِ ثَلَاثَةٌ "، وَحَدِيثُ " لَا تُحَرِّمُ الْمَصَّةُ وَالْمَصَّتَانِ "، وَأَحَادِيثُ حُرْمَةِ الْمَدِينَةِ، وَحَدِيثُ إِشْعَارِ الْهَدْيِ، وَحَدِيثُ " إِذَا لَمْ يَجِدِ الْمُحْرِمُ الْإِزَارَ فَلْيَلْبَسِ السَّرَاوِيلَ "، وَحَدِيثُ الْوُضُوءِ مِنْ لُحُومِ الْإِبِلِ، وَأَحَادِيثُ الْمَسْحِ عَلَى الْعِمَامَةِ، وَحَدِيثُ الْأَمْرِ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ لِمَنْ صَلَّى خَلْفَ الصَّفِّ وَحْدَهُ، وَحَدِيثُ السَّرَاوِيلِ، وَحَدِيثُ مَنْعِ الرَّجُلِ مِنْ تَفْضِيلِ بَعْضِ وَلَدِهِ عَلَى بَعْضٍ، وَأَنَّهُ جَوْرٌ لَا تَجُوزُ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ، وَحَدِيثُ " أَنْتَ وَمَالُكَ لِأَبِيكَ " وَحَدِيثُ " مَنْ دَخَلَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يُصَلِّي تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ "، وَحَدِيثُ الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ، وَحَدِيثُ الْجَهْرِ بِـ " آمِينَ " فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ جَوَازِ رُجُوعِ الْأَبِ فِيمَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ، وَلَا يَرْجِعُ غَيْرُهُ، وَحَدِيثُ " الْكَلْبُ الْأَسْوَدُ يَقْطَعُ الصَّلَاةَ " وَحَدِيثُ الْخُرُوجِ إِلَى الْعِيدِ مِنَ الْغَدِ إِذَا عُلِمَ بِالْعِيدِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَحَدِيثُ نَضْحِ بَوْلِ الْغُلَامِ الَّذِي لَمْ يَأْكُلِ الطَّعَامَ، وَحَدِيثُ الصَّلَاةِ عَلَى
208
الْقَبْرِ، وَحَدِيثُ " مَنْ زَرَعَ فِي أَرْضِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ مِنَ الزَّرْعِ شَيْءٌ وَلَهُ نَفَقَتُهُ "، وَحَدِيثُ بَيْعِ جَابِرٍ بِعِيرَهُ وَاشْتِرَاطِ ظَهْرِهِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَحَدِيثُ " لَا يَمْنَعْ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ "، وَحَدِيثُ " إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ "، وَحَدِيثُ " مَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ " وَحَدِيثُ " إِذَا أَسْلَمَ وَتَحْتَهُ أُخْتَانِ اخْتَارَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ "، وَحَدِيثُ الْوِتْرِ عَلَى الرَّاحِلَةِ، وَحَدِيثُ " كُلُّ ذِي نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ حَرَامٌ "، وَحَدِيثُ " مِنَ السُّنَّةِ وَضْعُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ " لَا تُجْزِئُ صَلَاةٌ لَا يُقِيمُ الرَّجُلُ فِيهَا صُلْبَهُ مِنْ رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ "، وَأَحَادِيثُ رَفْعِ الْيَدَيْنِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ الرُّكُوعِ وَالرَّفْعِ مِنْهُ، وَأَحَادِيثُ الِاسْتِفْتَاحِ، وَحَدِيثُ: كَانَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَكْتَتَانِ فِي الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ " تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرُ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمُ "، وَحَدِيثُ حَمْلِ الصَّبِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَحَادِيثُ الْقُرْعَةِ، وَأَحَادِيثُ الْعَقِيقَةِ، وَحَدِيثُ " لَوْ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنِكَ "، وَحَدِيثُ " أَيَدَعُ يَدَهُ فِي فِيكَ تَقْضَمُهَا كَمَا يَقْضَمُ الْفَحْلُ "، وَحَدِيثُ " إِنَّ بِلَالًا يُؤَذِّنُ بِلَيْلٍ "، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ الذَّبْحِ بِالسَّنِّ وَالظُّفُرِ، وَحَدِيثُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنْ عَسِيبِ الْفَحْلِ، وَحَدِيثُ " الْمُحْرِمُ إِذَا مَاتَ لَمْ يُخَمَّرْ رَأْسُهُ، وَلَمْ يُقَرَّبْ طِيبًا " إِلَى أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي كَانَ تَرْكُهَا مِنْ أَجْلِ الْقَوْلِ بِالْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ.
فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ حَقًّا لَكَانَ أَهْلُهُ أَتْبَعَ الْأُمَّةِ لِلْأَحَادِيثِ، وَلَا حُفِظَ لَهُمْ تَرْكُ حَدِيثٍ وَاحِدٍ إِلَّا لِنَصٍّ نَاسِخٍ لَهُ، فَحَيْثُ رَأَيْنَا كُلَّ مَنْ كَانَ أَشَدَّ تَوَغُّلًا فِي الْقِيَاسِ وَالرَّأْيِ كَانَ أَشَدَّ مُخَالَفَةً لِلْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الصَّرِيحَةِ عَلِمْنَا أَنَّ الْقِيَاسَ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ، وَأَنَّ شَيْئًا تُتْرَكُ لَهُ السُّنَنُ لَأَبْيَنُ شَيْءٍ مُنَافَاةً لِلدِّينِ ; فَلَوْ كَانَ الْقِيَاسُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لَطَابَقَ السُّنَّةَ أَعْظَمَ مُطَابَقَةً، وَلَمْ يُخَالِفْ أَصْحَابُهُ حَدِيثًا وَاحِدًا مِنْهَا، وَلَكَانُوا أَسْعَدَ بِهَا مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ، فَلْيُرُوا أَهْلَ الْحَدِيثِ وَالْأَثَرِ حَدِيثًا وَاحِدًا صَحِيحًا قَدْ خَالَفُوهُ، كَمَا أَرَيْنَاهُمْ آنِفًا مَا خَالَفُوهُ مِنَ السُّنَّةِ بِجَرِيرَةِ الْقِيَاسِ.
قَالُوا: وَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ عَلَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَعَلَيْنَا بَعْدَهُمْ أَلَّا نَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا بِالْحَقِّ، فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَقْيِسَةُ الْمُتَعَارِضَةُ الْمُتَنَاقِضَةُ الَّتِي يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا بِحَيْثُ لَا يَدْرِي النَّاظِرُ فِيهَا أَيُّهَا الصَّوَابُ حَقًّا لَكَانَتْ مُتَّفِقَةً يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَالسُّنَّةِ الَّتِي يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَقَالَ تَعَالَى: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ [١٠ ٨٢] لَا بِآرَائِنَا، وَلَا مَقَايِيسِنَا، وَقَالَ: وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ [٣٣ ٤] فَمَا لَمْ يَقُلْهُ سُبْحَانَهُ
209
وَلَا هَدَى إِلَيْهِ فَلَيْسَ مِنَ الْحَقِّ، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ [٢٨ ٥٠] فَقَسَّمَ الْأُمُورَ إِلَى قِسْمَيْنِ لَا ثَالِثَ لَهُمَا: اتِّبَاعٌ لِمَا دَعَا إِلَيْهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاتِّبَاعُ الْهَوَى.
قَالُوا: وَالرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَدْعُ أُمَّتَهُ إِلَى الْقِيَاسِ قَطُّ، بَلْ قَدْ صَحَّ عَنْهُ بِأَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى عُمَرَ وَأُسَامَةَ مَحْضَ الْقِيَاسِ فِي شَأْنِ الْحُلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ أَرْسَلَ بِهِمَا إِلَيْهِمَا فَلَبِسَهَا أُسَامَةُ قِيَاسًا لِلُّبْسِ عَلَى التَّمَلُّكِ وَالِانْتِفَاعِ وَالْبَيْعِ وَكُسْوَتِهَا لِغَيْرِهِ، وَرَدَّهَا عُمَرُ قِيَاسًا لِتَمَلُّكِهَا عَلَى لُبْسِهَا، فَأُسَامَةُ أَبَاحَ، وَعُمَرُ حَرَّمَ قِيَاسًا. فَأَبْطَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِيَاسَيْنِ، وَقَالَ لِعُمَرَ: " إِنَّمَا بَعَثْتُ بِهَا إِلَيْكَ لِتَسْتَمْتِعَ بِهَا "، وَقَالَ لِأُسَامَةَ: " إِنِّي لَمْ أَبْعَثْ إِلَيْكَ بِهَا لِتَلْبِسَهَا، وَلَكِنْ بَعَثْتُهَا إِلَيْكَ لِتَشُقَّهَا خُمُرًا لِنِسَائِكَ "، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ فِي الْحَرِيرِ بِالنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِهِ فَقَطْ، فَقَاسَا قِيَاسًا أَخْطَآ فِيهِ، فَأَحَدُهُمَا قَاسَ اللُّبْسَ عَلَى الْمِلْكِ، وَعُمَرُ قَاسَ التَّمَلُّكَ عَلَى اللُّبْسِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيَّنَ أَنَّ مَا حَرَّمَهُ مِنَ اللُّبْسِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى غَيْرِهِ، وَمَا أَبَاحَهُ مِنَ التَّمَلُّكِ لَا يَتَعَدَّى إِلَى اللُّبْسِ.
قَالُوا: وَهَذَا عَيْنُ إِبْطَالِ الْقِيَاسِ، وَقَالُوا: وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّ اللَّهَ فَرَضَ فَرَائِضَ فَلَا تُضَيِّعُوهَا، وَحَدَّ حُدُودًا فَلَا تَعْتَدُوهَا، وَنَهَى عَنْ أَشْيَاءَ فَلَا تَنْتَهِكُوهَا، وَسَكَتَ عَنْ أَشْيَاءَ رَحْمَةً لَكُمْ غَيْرَ نِسْيَانٍ فَلَا تَبْحَثُوا عَنْهَا "، قَالُوا: وَهَذَا الْخِطَابُ عَامٌّ لِجَمِيعِ الْأُمَّةِ أَوَّلِهَا وَآخِرِهَا.
قَالُوا: وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ مِنْ حَدِيثِ سَلْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَشْيَاءَ فَقَالَ: " الْحَلَالُ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، وَالْحَرَامُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ مِمَّا عَفَا عَنْهُ ". قَالُوا: وَكُلُّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَسْكُوتَ عَنْهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ. فَلَا يَجُوزُ تَحْرِيمُهُ، وَلَا إِيجَابِهِ بِإِلْحَاقِهِ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ.
قَالُوا: وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ: ثِنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عُثْمَانَ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً عَلَى أُمَّتِي قَوْمٌ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ. فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ ". قَالَ قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التِّرْمِذِيُّ، ثَنَا نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ.. فَذَكَرَهُ، وَهَؤُلَاءِ كُلُّهُمْ أَئِمَّةٌ ثِقَاتٌ حُفَّاظٌ، إِلَّا جَرِيرَ بْنَ عُثْمَانَ؛ فَإِنَّهُ كَانَ مُنْحَرِفًا عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَعَ ذَلِكَ فَقَدِ احْتَجَّ بِهِ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ تَبَرَّأَ مِمَّا نُسِبَ إِلَيْهِ مِنَ الِانْحِرَافِ
210
عَنْ عَلِيٍّ، وَنُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ إِمَامٌ جَلِيلٌ، وَكَانَ سَيْفًا عَلَى الْجَهْمِيَّةِ، رَوَى عَنْهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ.
قَالُوا: وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صِحَّةً تَقْرُبُ مِنَ التَّوَاتُرِ أَنَّهُ قَالَ: " ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، مَا نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ فَاجْتَنِبُوهُ، وَمَا أَمَرْتُكُمْ بِهِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ". وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَ مُرَادِهِمْ بِالِاسْتِدْلَالِ بِالْحَدِيثِ.
وَقَدْ ذَكَرُوا عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ آثَارًا كَثِيرَةً فِي ذَمِّ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ ذَلِكَ. وَذَلِكَ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ عَنِ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ. وَذَكَرُوا كَثِيرًا مِنْ أَقْيِسَةِ الْفُقَهَاءِ الَّتِي يَزْعُمُونَ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ، وَعَارَضُوهَا بِأَقْيِسَةٍ تُمَاثِلُهَا فِي زَعْمِهِمْ. وَذَكَرُوا أَشْيَاءَ كَثِيرَةً يَزْعُمُونَ أَنَّ الْفُقَهَاءَ فَرَّقُوا فِيهَا بَيْنَ الْمُجْتَمِعِ وَجَمَعُوا فِيهَا بَيْنَ الْمُفْتَرِقِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَدِلَّتِهِمُ الْكَثِيرَةِ عَلَى إِبْطَالِ الرَّأْيِ وَالْقِيَاسِ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي هَذَا الْكَلَامِ جُمَلًا وَافِيَةً مِنْ أَدِلَّتِهِمْ عَلَى ذَلِكَ بِوَاسِطَةِ نَقْلِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) وَلَمْ نَتَتَبَّعْ جَمِيعَ أَدِلَّتِهِمْ لِئَلَّا يُؤَدِّي ذَلِكَ إِلَى الْإِطَالَةِ الْمُمِلَّةِ. وَقَدْ رَأَيْتَ فِيمَا ذَكَرْنَا حُجَجَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ وَالِاجْتِهَادِ فِيمَا لَا نَصَّ فِيهِ، وَحُجَجَ الْمَانِعِينَ لِذَلِكَ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ
اعْلَمْ أَنَّ تَحْقِيقَ الْمَقَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَ فِيهَا مِنَ الِاخْتِلَافِ مَا رَأَيْتَ أَنَّ الْقِيَاسَ قِسْمَانِ: قِيَاسٌ صَحِيحٌ، وَقِيَاسٌ فَاسِدٌ.
أَمَّا الْقِيَاسُ الْفَاسِدُ فَهُوَ الَّذِي تَرُدُّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الظَّاهِرِيَّةُ وَتَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بَاطِلٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الدِّينِ كَمَا قَالُوا وَكَمَا هُوَ الْحَقُّ.
وَأَمَّا الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ فَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ، وَلَا يُنَاقِضُ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَلَا يُنَاقِضُ أَلْبَتَّةَ نَصًّا صَحِيحًا مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ. فَكَمَا لَا تَتَنَاقَضُ دَلَالَةُ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، فَإِنَّهُ لَا تَتَنَاقَضُ دَلَالَةُ الْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ وَلَا دَلَالَةُ النَّصِّ الصَّرِيحِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، بَلْ كُلُّهَا مُتَصَادِقَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ مُتَنَاصِرَةٌ، يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ. فَلَا يُنَاقِضُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ النَّصَّ الصَّحِيحَ أَبَدًا.
وَضَابِطُ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ هُوَ أَنْ تَكُونَ الْعِلَّةُ الَّتِي عَلَّقَ الشَّارِعُ بِهَا الْحُكْمَ وَشَرَعَهُ
211
مِنْ أَجْلِهَا مَوْجُودَةً بِتَمَامِهَا فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ فِي الْفَرْعِ يَمْنَعُ حُكْمَهَا فِيهِ. وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ الْمَعْرُوفُ بِـ " الْقِيَاسِ فِي مَعْنَى الْأَصْلِ " الَّذِي هُوَ الْإِلْحَاقُ بِنَفْيِ الْفَارِقِ الْمُؤَثِّرِ فِي الْحُكْمِ.
فَمِثْلُ ذَلِكَ لَا تَأْتِي الشَّرِيعَةُ بِخِلَافِهِ، وَلَا يُعَارِضُ نَصًّا، وَلَا يَتَعَارَضُ هُوَ فِي نَفْسِهِ، وَسَنَضْرِبُ لَكَ أَمْثِلَةً مِنْ ذَلِكَ تَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى جَهْلِ الظَّاهِرِيَّةِ الْقَادِحِ الْفَاضِحِ، وَقَوْلِهِمْ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى دِينِهِ أَبْطَلَ الْبَاطِلِ الَّذِي لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ فِي بُطْلَانِهِ وَعِظَمِ ضَرَرِهِ عَلَى الدِّينِ بِدَعْوَى أَنَّهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ النُّصُوصِ، وَأَنَّ كُلَّ مَا لَمْ يُصَرَّحْ بِلَفْظِهِ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ فَهُوَ مَعْفُوٌّ عَنْهُ، وَلَوْ صَرَّحَ بِعِلَّةِ الْحُكْمِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ مِنْ حِكْمَةِ التَّشْرِيعِ، فَأَهْدَرُوا الْمَصَالِحَ الْمَقْصُودَةَ مِنَ التَّشْرِيعِ.
وَقَالُوا عَلَى اللَّهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَشْرَعُ الْمَضَارَّ الظَّاهِرَةَ لِخَلْقِهِ. فَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ " فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ نَهَى عَنِ الْحُكْمِ فِي وَقْتِ الْغَضَبِ، وَلَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّهُ خَصَّ وَقْتَ الْغَضَبِ بِالنَّهْيِ دُونَ وَقْتِ الرِّضَا؛ لِأَنَّ الْغَضَبَ يُشَوِّشُ الْفِكْرَ فَيَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْحُكْمِ. فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِضَيَاعِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ أَنَّ النَّهْيَ يَخْتَصُّ بِحَالَةِ الْغَضَبِ، وَلَا يَتَعَدَّاهَا إِلَى غَيْرِهَا مِنْ حَالَاتِ تَشْوِيشِ الْفِكْرِ الْمَانِعَةِ مِنِ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْحُكْمِ. فَلَوْ كَانَ الْقَاضِي فِي حُزْنٍ مُفْرِطٍ يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ تَأْثِيرًا أَشَدَّ مِنْ تَأْثِيرِ الْغَضَبِ بِأَضْعَافٍ، أَوْ كَانَ فِي جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ مُفْرِطٍ يُؤَثِّرُ عَلَيْهِ أَعْظَمُ مِنْ تَأْثِيرِ الْغَضَبِ، فَعَلَى قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ فَحُكْمُهُ بَيْنَ النَّاسِ فِي تِلْكَ الْحَالَاتِ الْمَانِعَةِ مِنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْحُكْمِ عَفْوٌ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَكَتَ عَنْهُ فِي زَعْمِهِمْ، فَيَكُونُ اللَّهُ قَدْ عَفَا لِلْقَاضِي عَنِ التَّسَبُّبِ فِي إِضَاعَةِ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي نَصَّبَهُ الْإِمَامُ مِنْ أَجْلِ صِيَانَتِهَا وَحِفْظِهَا مِنَ الضَّيَاعِ، مَعَ أَنَّ تَنْصِيصَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النَّهْيِ عَنِ الْحُكْمِ فِي حَالَةِ الْغَضَبِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى الْمَنْعِ مِنَ الْحُكْمِ فِي حَالَةِ تَشْوِيشِ الْفِكْرِ تَشْوِيشًا كَتَشْوِيشِ الْغَضَبِ أَوْ أَشَدَّ مِنْهُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ، فَانْظُرْ عُقُولَ الظَّاهِرِيَّةِ وَقَوْلَهُمْ عَلَى اللَّهِ مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ أَبَاحَ لِلْقُضَاةِ الْحُكْمَ فِي حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَحْوَالِ الْمَانِعَةِ مِنَ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْأَحْكَامِ، مَعَ نَهْيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصَّرِيحِ عَنْ ذَلِكَ فِي صُورَةٍ مِنْ صُوَرِهِ وَهِيَ الْغَضَبُ - بِزَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ وَاقِفُونَ مَعَ النُّصُوصِ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ
212
[٢٤ ٤ - ٥] فَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ نَصَّ عَلَى أَنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ يُجْلَدُونَ ثَمَانِينَ جَلْدَةً، وَتُرَدُّ شَهَادَتُهُمْ وَيُحْكَمُ بِفِسْقِهِمْ. ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ تَابَ مِنَ الْقَاذِفِينَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحَ. وَلَمْ يَتَعَرَّضْ فِي هَذَا النَّصِّ لِحُكْمِ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنِينَ الذُّكُورَ.
فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّ مَنْ قَذَفَ مُحْصَنًا ذَكَرًا لَيْسَ عَلَى أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ جَلْدُهُ وَلَا رَدُّ شَهَادَتِهِ وَلَا الْحُكْمُ بِفِسْقِهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَكَتَ عَنْ ذَلِكَ فِي زَعْمِهِمْ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ!
فَانْظُرْ عُقُولَ الظَّاهِرِيَّةِ وَمَا يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ، بِدَعْوَى الْوُقُوفِ مَعَ النَّصِّ! وَدَعْوَى بَعْضِ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّ آيَةَ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ شَامِلَةٌ لِلذُّكُورِ بِلَفْظِهَا، بِدَعْوَى أَنَّ الْمَعْنَى: يَرْمُونَ الْفُرُوجَ الْمُحْصَنَاتِ مِنْ فُرُوجِ الْإِنَاثِ وَالذُّكُورِ - مِنْ تُلَاعُبِهِمْ وَجَهْلِهِمْ بِنُصُوصِ الشَّرْعِ؟ وَهَلْ تُمْكِنُ تِلْكَ الدَّعْوَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْآيَةَ [٢٤ ٢٣] فَهَلْ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا إِنَّ الْفُرُوجَ هِيَ الْغَافِلَاتُ الْمُؤْمِنَاتُ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ الْآيَةَ [٤ ٢٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ [٤ ٢٥] كَمَا هُوَ وَاضِحٌ؟
وَمِنْ ذَلِكَ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْبَوْلِ فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ، فَإِنَّهُ لَا يَشُكُّ عَاقِلٌ أَنَّ عِلَّةَ نَهْيِهِ عَنْهُ أَنَّ الْبَوْلَ يَسْتَقِرُّ فِيهِ لِرُكُودِهِ فَيُقَذِّرَهُ، فَيَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ أَنَّهُ لَوْ مَلَأَ آنِيَةً كَثِيرَةً مِنَ الْبَوْلِ ثُمَّ صَبَّهَا فِي الْمَاءِ الرَّاكِدِ أَوْ تَغَوَّطَ فِيهِ أَنَّ كُلَّ ذَلِكَ عَفْوٌ؛ لِأَنَّهُ مَسْكُوتٌ عَنْهُ. فَيَكُونُ اللَّهُ عَلَى قَوْلِهِمْ يَنْهَى عَنْ جَعْلِ قَلِيلٍ مِنَ الْبَوْلِ فِيهِ إِذَا بَاشَرَ الْبَوْلَ فِيهِ، وَيَأْذَنُ فِي جَعْلِ أَضْعَافِ ذَلِكَ مِنَ الْبَوْلِ فِيهِ بِصَبِّهِ فِيهِ مِنَ الْآنِيَةِ، وَكَذَلِكَ يَأْذَنُ فِي التَّغَوُّطِ فِيهِ!.
وَهَذَا لَوْ صَدَرَ مِنْ أَدْنَى عَاقِلٍ لَكَانَ تَنَاقُضًا مَعِيبًا عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ، فَكَيْفَ بِمَنْ يَنْسِبُ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ عِيَاذًا بِاللَّهِ تَعَالَى بِدَعْوَى الْوُقُوفِ مَعَ النُّصُوصِ! وَرُبَّمَا ظَنَّ الْإِنْسَانُ الْأَجْرَ وَالْقُرْبَةَ فِيمَا هُوَ إِلَى الْإِثْمِ وَالْمَعْصِيَةِ أَقْرَبُ. كَمَا قِيلَ:
أَمُنْفِقَةُ الْأَيْتَامِ مِنْ كَدِّ فَرْجِهَا لَكِ الْوَيْلُ لَا تَزْنِي وَلَا تَتَصَدَّقِي
وَمِنْ ذَلِكَ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَوْرَاءِ مَعَ سُكُوتِهِ عَنْ حُكْمِ التَّضْحِيَةِ بِالْعَمْيَاءِ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ أَنْ يُنَاطَ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِخُصُوصِ لَفْظِ الْعَوَرِ خَاصَّةً، فَتَكُونُ
213
الْعَمْيَاءُ مِمَّا سَكَتَ اللَّهُ عَنْ حُكْمِ التَّضْحِيَةِ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَفْوًا. وَإِدْخَالُ الْعَمْيَاءِ فِي اسْمِ الْعَوْرَاءِ لُغَةً غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْعَوَرِ غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنَ الْعَمَى؛ لِأَنَّ الْعَوَرَ لَا يُطْلَقُ إِلَّا فِي صُورَةٍ فِيهَا عَيْنٌ تُبْصِرُ، بِخِلَافِ الْعَمَى فَلَا يُطْلَقُ فِي ذَلِكَ. وَتَفْسِيرُ الْعَوَرِ بِأَنَّهُ عَمَى إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ لَا يُنَافِي الْمُغَايِرَةَ؛ لِأَنَّ الْعَمَى الْمُقَيَّدَ بِإِحْدَى الْعَيْنَيْنِ غَيْرُ الْعَمَى الشَّامِلِ لِلْعَيْنَيْنِ مَعًا. وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ لَفْظِ الْعَوَرِ غَيْرُ الْمَعْنَى الْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الْعَمَى، فَوُقُوفُ الظَّاهِرِيَّةِ مَعَ لَفْظِ النَّصِّ يَلْزَمُهُ جَوَازُ التَّضْحِيَةِ بِالْعَمْيَاءِ؛ لِأَنَّهَا مَسْكُوتٌ عَنْهَا، وَأَمْثَالُ هَذَا مِنْهُمْ كَثِيرَةٌ جِدًّا. وَقَصَدْنَا التَّنْبِيهَ عَلَى بُطْلَانِ أَسَاسِ دَعْوَاهُمْ، وَهُوَ الْوُقُوفُ مَعَ اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إِلَى مَعَانِي التَّشْرِيعِ وَالْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْأَحْكَامِ، وَإِلْحَاقُ النَّظِيرِ بِنَظِيرِهِ الَّذِي لَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ يُؤَثِّرُ فِي الْحُكْمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّحْقِيقَ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَشْرَعُ الْأَحْكَامَ لِمَصَالِحِ الْخَلْقِ، فَأَفْعَالُهُ وَتَشْرِيعَاتُهُ كُلُّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ مِنْ جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ. فَمَا يَزْعُمُهُ كَثِيرٌ مِنْ مُتَأَخِّرِي الْمُتَكَلِّمِينَ - تَقْلِيدًا لِمَنْ تَقَدَّمَهُمْ - مِنْ أَنَّ أَفْعَالَهُ - جَلَّ وَعَلَا - لَا تُعَلَّلُ بِالْعِلَلِ الْغَائِيَّةِ، زَاعِمِينَ أَنَّ التَّعْلِيلَ بِالْأَغْرَاضِ يَسْتَلْزِمُ الْكَمَالَ بِحُصُولِ الْغَرَضِ الْمُعَلَّلِ بِهِ، وَأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - مُنَزَّهٌ مِنْ ذَلِكَ لِاسْتِلْزَامِهِ النَّقْصَ - كُلُّهُ كَلَامٌ بَاطِلٌ، وَلَا حَاجَةَ إِلَيْهِ أَلْبَتَّةَ ; لِأَنَّهُ مِنَ الْمَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ أَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - غَنِيٌّ لِذَاتِهِ الْغِنَى الْمُطْلَقَ، وَجَمِيعُ الْخَلْقِ فُقَرَاءُ إِلَيْهِ غَايَةَ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [٣٥ ١٥] وَلَكِنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَشْرَعُ وَيَفْعَلُ لِأَجْلِ مَصَالِحِ الْخَلْقِ الْمُحْتَاجِينَ الْفُقَرَاءِ إِلَيْهِ، لَا لِأَجْلِ مَصْلَحَةٍ تَعُودُ إِلَيْهِ هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
وَادِّعَاءُ كَثِيرٍ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ مُطْلَقُ أَمَارَاتٍ وَعَلَامَاتٍ لِلْأَحْكَامِ نَاشِئٌ عَنْ ذَلِكَ الظَّنِّ الْبَاطِلِ. فَاللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - يَشْرَعُ الْأَحْكَامَ لِأَجْلِ الْعِلَلِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى الْمَصَالِحِ الَّتِي يَعُودُ نَفْعُهَا إِلَى خَلْقِهِ الْفُقَرَاءِ إِلَيْهِ لَا إِلَى اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [١٤ ٨] وَقَدْ صَرَّحَ تَعَالَى وَصَرَّحَ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّهُ يَشْرَعُ الْأَحْكَامَ مِنْ أَجْلِ الْحِكَمِ الْمَنُوطَةِ بِذَلِكَ التَّشْرِيعِ.
وَأَصْرَحُ لِفْظٍ فِي ذَلِكَ لَفْظَةُ (مِنْ أَجْلِ) وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [٥] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ ".
وَقَدْ قَدَّمْنَا أَمْثِلَةً مُتَعَدِّدَةً لِحُرُوفِ التَّعْلِيلِ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعِلَلِ الْغَائِيَّةِ الْمُشْتَمِلَةِ عَلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْلُومٌ عِنْدَ مَنْ لَهُ عِلْمٌ بِحُكْمِ التَّشْرِيعِ الْإِسْلَامِيِّ.
214
وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي (إِعْلَامِ الْمُوَقِّعِينَ عَنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ قَوْلَ مَنْ مَنَعَ الْقِيَاسَ مُطْلَقًا وَقَوْلَ مَنْ غَلَا فِيهِ، وَذَكَرَ أَدِلَّةَ الْفَرِيقَيْنِ مَا نَصُّهُ:
وَقَالَ الْمُتَوَسِّطُونَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ: قَدْ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ، فَكِلَاهُمَا فِي الْإِنْزَالِ أَخَوَانِ، وَفِي مَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ شَقِيقَانِ، وَكَمَا لَا يَتَنَاقَضُ الْكِتَابُ فِي نَفْسِهِ، فَالْمِيزَانُ الصَّحِيحُ لَا يَتَنَاقَضُ فِي نَفْسِهِ، وَلَا يَتَنَاقَضُ الْكِتَابُ وَالْمِيزَانُ، فَلَا تَتَنَاقَضُ دَلَالَةُ النُّصُوصِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا دَلَالَةُ الْأَقْيِسَةِ الصَّحِيحَةِ، وَلَا دَلَالَةُ النَّصِّ الصَّرِيحِ وَالْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، بَلْ كُلُّهَا مُتَصَادِقَةٌ مُتَعَاضِدَةٌ مُتَنَاصِرَةٌ، يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا وَيَشْهَدُ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ، فَلَا يُنَاقِضُ الْقِيَاسُ الصَّحِيحُ النَّصَّ الصَّحِيحَ أَبَدًا.
وَنُصُوصُ الشَّارِعِ نَوْعَانِ: أَخْبَارٌ، وَأَوَامِرُ، فَكَمَا أَنَّ أَخْبَارَهُ لَا تُخَالِفُ الْعَقْلَ الصَّحِيحَ، بَلْ هِيَ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يُوَافِقُهُ وَيَشْهَدُ عَلَى مَا يَشْهَدُ بِهِ جُمْلَةً، أَوْ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا، وَنَوْعٌ يَعْجِزُ عَنِ الِاسْتِقْلَالِ بِإِدْرَاكِ تَفْصِيلِهِ وَإِنْ أَدْرَكَهُ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ، فَهَكَذَا أَوَامِرُهُ سُبْحَانَهُ نَوْعَانِ: نَوْعٌ يَشْهَدُ بِهِ الْقِيَاسُ وَالْمِيزَانُ، وَنَوْعٌ لَا يَسْتَقِلُّ بِالشَّهَادَةِ بِهِ وَلَكِنْ لَا يُخَالِفُهُ، وَكَمَا أَنَّ الْقِسْمَ الثَّالِثَ فِي الْأَخْبَارِ مُحَالٌ وَهُوَ وُرُودُهَا بِمَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ الصَّحِيحُ، فَكَذَلِكَ الْأَوَامِرُ لَيْسَ فِيهَا مَا يُخَالِفُ الْقِيَاسَ وَالْمِيزَانَ الصَّحِيحَ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ إِنَّمَا تَنْفَصِلُ بِتَمْهِيدِ قَاعِدَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ:
إِحْدَاهُمَا: أَنَّ الذِّكْرَ الْأَمْرِيَّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ أَمْرًا وَنَهْيًا، وَإِذْنًا وَعَفْوًا. كَمَا أَنَّ الذِّكْرَ الْقَدَرِيَّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِهَا عِلْمًا وَكِتَابَةً وَقَدَرًا، فَعِلْمُهُ وَكِتَابَتُهُ وَقَدَرُهُ قَدْ أَحْصَى جَمِيعَ أَفْعَالِ عِبَادِهِ الْوَاقِعَةِ تَحْتَ التَّكْلِيفِ وَغَيْرِهَا، وَأَمْرُهُ نَهْيُهُ وَإِبَاحَتُهُ وَعَفْوُهُ قَدْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ أَفْعَالِهِمُ التَّكْلِيفِيَّةِ. فَلَا يَخْرُجُ فِعْلٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ عَنْ أَحَدِ الْحُكْمَيْنِ: إِمَّا الْكَوْنِيَّ، وَإِمَّا الشَّرْعِيَّ الْأَمْرِيَّ، فَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَلَامِهِ وَكَلَامِ رَسُولِهِ جَمِيعَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَجَمِيعَ مَا نَهَى عَنْهُ، وَجَمِيعَ مَا أَحَلَّهُ، وَجَمِيعَ مَا حَرَّمَهُ، وَجَمِيعَ مَا عَفَا عَنْهُ. وَبِهَذَا يَكُونُ دِينُهُ كَامِلًا كَمَا قَالَ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [٥ ٣] وَلَكِنْ قَدْ يَقْصُرُ فَهُمْ أَكْثَرِ النَّاسِ عَنْ فَهْمِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصُ، وَعَنْ وَجْهِ الدَّلَالَةِ وَمَوْقِعِهَا، وَتَفَاوُتُ الْأُمَّةِ فِي مَرَاتِبِ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَا يُحْصِيهِ إِلَّا اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا -. وَلَوْ كَانَتِ الْأَفْهَامُ مُتَسَاوِيَةً لَتَسَاوَتْ أَقْسَامُ الْعُلَمَاءِ فِي الْعِلْمِ، وَلَمَا خَصَّ سُبْحَانَهُ سُلَيْمَانَ بِفَهْمِ الْحُكُومَةِ فِي الْحَرْثِ، وَقَدْ أَثْنَى عَلَيْهِ وَعَلَى دَاوُدَ بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ لِأَبِي
215
مُوسَى فِي كِتَابِهِ إِلَيْهِ: الْفَهْمَ الْفَهْمَ فِيمَا أُدْلِيَ إِلَيْكَ. وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِلَّا فَهْمًا يُؤْتِيهُ اللَّهُ عَبْدًا فِي كِتَابِهِ. وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَعْلَمَنَا بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَدَعَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنْ يُفَقِّهَهُ فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمَهُ التَّأْوِيلَ "، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْفِقْهِ وَالتَّأْوِيلِ أَنَّ الْفِقْهَ هُوَ فَهْمُ الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَالتَّأْوِيلُ إِدْرَاكُ الْحَقِيقَةِ الَّتِي يُؤَوَّلُ إِلَيْهَا الْمَعْنَى الَّتِي هِيَ آخَيَتُهُ وَأَصْلُهُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَنْ فَقِهَ فِي الدِّينِ عَرَفَ التَّأْوِيلَ؛ فَمَعْرِفَةُ التَّأْوِيلِ يَخْتَصُّ بِهَا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ تَأْوِيلَ التَّحْرِيفِ وَتَبْدِيلِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ يَعْلَمُونَ بُطْلَانَهُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ بُطْلَانَهُ إِلَى أَنْ قَالَ:
وَكُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ الثَّلَاثِ: يَعْنِي نُفَاةَ الْقِيَاسِ بِالْكُلِّيَّةِ وَالْغَالِينَ فِيهِ، وَالْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعِلَلَ الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَاتٌ وَعَلَامَاتٌ فَقَطْ لَا مَصَالِحَ أُنِيطَتْ بِهَا الْأَحْكَامُ وَشُرِعَتْ مِنْ أَجْلِهَا - سَدُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ طَرِيقًا مَنْ طُرُقِ الْحَقِّ، فَاضْطَرُّوا إِلَى تَوْسِعَةِ طَرِيقٍ أُخْرَى أَكْثَرَ مِمَّا تَحْتَمِلُهُ. فَنُفَاةُ الْقِيَاسِ لَمَّا سَدُّوا عَلَى نُفُوسِهِمْ بَابَ التَّمْثِيلِ وَالتَّعْلِيلِ، وَاعْتِبَارِ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ وَهُوَ مِنَ الْمِيزَانِ وَالْقِسْطِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ - احْتَاجُوا إِلَى تَوْسِعَةِ الظَّاهِرِ وَالِاسْتِصْحَابِ، فَحَمَلُوهُمَا فَوْقَ الْحَاجَةِ، وَوَسَّعُوهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا يَسَعَانِهِ. فَحَيْثُ فَهِمُوا مِنَ النَّصِّ حُكْمًا أَثْبَتُوهُ وَلَمْ يُبَالُوا مِمَّا وَرَاءَهُ، وَحَيْثُ لَمْ يَفْهَمُوهُ مِنْهُ نَفَوْهُ وَحَمَلُوا الِاسْتِصْحَابَ، وَأَحْسَنُوا فِي اعْتِنَائِهِمْ بِالنُّصُوصِ وَنَصْرِهَا وَالْمُحَافَظَةِ عَلَيْهَا، وَعَدَمِ تَقْدِيمِ غَيْرِهَا عَلَيْهَا مِنْ رَأْيٍ أَوْ قِيَاسٍ أَوْ تَقْلِيدٍ، وَأَحْسَنُوا فِي رَدِّ الْأَقْيِسَةِ الْبَاطِلَةِ، وَبَيَانِهِمْ تُنَاقُضَ أَهْلِهَا فِي نَفْسِ الْقِيَاسِ وَتَرْكِهِمْ لَهُ، وَأَخَذُوا بِقِيَاسِ تَرْكِهِمْ وَمَا هُوَ أَوْلَى مِنْهُ. وَلَكِنْ أَخْطَئُوا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ:
أَحَدُهَا رَدُّ الْقِيَاسِ الصَّحِيحِ، وَلَا سِيَّمَا الْمَنْصُوصُ عَلَى عِلَّتِهِ الَّتِي يَجْرِي النَّصُّ عَلَيْهَا مَجْرَى التَّنْصِيصِ عَلَى التَّعْمِيمِ بِاللَّفْظِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ قَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لَعَنَ عَبْدُ اللَّهِ خَمَّارًا عَلَى كَثْرَةِ شُرْبِهِ لِلْخَمْرِ: " لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: لَا تَلْعَنُوا كُلَّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولِهِ. وَفِي قَوْلِهِ: " إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ؛ فَإِنَّهَا رِجْسٌ " بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: يَنْهَيَانِكُمْ عَنْ كُلِّ رِجْسٍ. وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ [٦ ١٤٥] : نَهْيٌ عَنْ كُلِّ رِجْسٍ. وَفِي أَنَّ قَوْلَهُ فِي الْهِرَّةِ: " لَيْسَتْ بِنَجِسٍ؛ لِأَنَّهَا مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ "، بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: كُلُّ مَا هُوَ مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ وَالطَّوَّافَاتِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِنَجِسٍ، وَلَا يَسْتَرِيبُ أَحَدٌ فِي أَنَّ مَنْ قَالَ لِغَيْرِهِ: لَا تَأْكُلْ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ فَإِنَّهُ مَسْمُومٌ نَهْيٌ لَهُ عَنْ كُلِّ طَعَامٍ كَذَلِكَ، وَإِذَا
216
قَالَ: لَا تَشْرَبْ هَذَا الشَّرَابَ فَإِنَّهُ مُسْكِرٌ فَهُوَ نَهْيٌ لَهُ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ. وَلَا تَتَزَوَّجْ هَذِهِ الْمَرْأَةَ فَإِنَّهَا فَاجِرَةٌ، وَأَمْثَالُ ذَلِكَ الْخَطَأِ.
الثَّانِي: تَقْصِيرُهُمْ فِي فَهْمِ النُّصُوصِ، فَكَمْ مِنْ حُكْمٍ دَلَّ عَلَيْهِ النَّصُّ وَلَمْ يَفْهَمُوا دَلَالَتَهُ عَلَيْهِ. وَسَبَبُ هَذَا الْخَطَأِ حَصْرُهُمُ الدَّلَالَةَ فِي مُجَرَّدِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ دُونَ إِيمَائِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَإِشَارَتِهِ وَعُرْفِهِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِينَ، فَلَمْ يَفْهَمُوا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [١٧ ٢٣] ضَرْبًا، وَلَا سَبًّا، وَلَا إِهَانَةً غَيْرَ لَفْظَةِ: " أُفٍّ " فَقَصَّرُوا فِي فَهْمِ الْكِتَابِ كَمَا قَصَّرُوا فِي اعْتِبَارِ الْمِيزَانِ الْخَطَأِ.
الثَّالِثُ: تَحْمِيلُ الِاسْتِصْحَابِ فَوْقَ مَا يَسْتَحِقُّهُ، وَجَزْمُهُمْ بِمُوجِبِهِ لِعَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالنَّاقِلِ، وَلَيْسَ عَدَمُ الْعِلْمِ عِلْمًا بِالْعَدَمِ.
وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي الِاسْتِصْحَابِ، وَنَحْنُ نَذْكُرُ أَقْسَامَهُ. ثُمَّ شَرَعَ يُبَيِّنُ أَقْسَامَ الِاسْتِصْحَابِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا بَعْضَهَا فِي سُورَةِ «بَرَاءَةَ» وَجَعَلَهَا هُوَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ وَأَطَالَ فِيهَا الْكَلَامَ.
وَالْمَعْرُوفُ فِي الْأُصُولِ أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ:
الْأَوَّلُ: اسْتِصْحَابُ الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى يَرِدَ النَّافِلُ عَنْهُ وَهُوَ الْبَرَاءَةُ الْأَصْلِيَّةُ وَالْإِبَاحَةُ الْعَقْلِيَّةُ. كَقَوْلِنَا: الْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنَ الدَّيْنِ فَلَا تُغْمَزُ بِدَيْنٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ نَافِلٍ عَنِ الْأَصْلِ يُثْبِتُ ذَلِكَ. وَالْأَصْلُ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْ وُجُوبِ صَوْمِ شَهْرٍ آخَرَ غَيْرِ رَمَضَانَ، فَيَلْزَمُ اسْتِصْحَابُ هَذَا الْعَدَمِ حَتَّى يَرِدَ نَافِلٌ عَنْهُ، وَهَكَذَا.
النَّوْعُ الثَّانِي: اسْتِصْحَابُ الْوَصْفِ الْمُثْبِتِ لِلْحُكْمِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ، كَاسْتِصْحَابِ بَقَاءِ النِّكَاحِ وَبَقَاءِ الْمِلْكِ وَبَقَاءِ شُغْلِ الذِّمَّةِ حَتَّى يَثْبُتَ خِلَافُهُ.
الثَّالِثُ: اسْتِصْحَابُ حُكْمِ الْإِجْمَاعِ فِي مَحَلِّ النِّزَاعِ، وَالْأَكْثَرُ عَلَى أَنَّ هَذَا الْأَخِيرَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ. وَهُوَ يَرَى أَنَّهُ حُجَّةٌ، وَكِلَا الْأَوَّلَيْنِ حُجَّةٌ بِلَا خِلَافٍ فِي الْجُمْلَةِ.
الرَّابِعُ: الِاسْتِصْحَابُ الْمَقْلُوبُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ وَأَمْثِلَتَهُ فِي سُورَةِ «التَّوْبَةِ».
الْخَطَأُ الرَّابِعُ لَهُمْ: هُوَ اعْتِقَادُهُمْ أَنَّ عُقُودَ الْمُسْلِمِينَ وَشُرُوطَهُمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ كُلُّهَا عَلَى الْبَاطِلِ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ، فَإِذَا لَمْ يَقُمْ عِنْدَهُمْ دَلِيلٌ عَلَى صِحَّةِ شَرْطٍ أَوْ عَقْدٍ أَوْ مُعَامَلَةٍ اسْتَصْحَبُوا بُطْلَانَهُ، فَأَفْسَدُوا بِذَلِكَ كَثِيرًا مِنْ مُعَامَلَاتِ النَّاسِ وَعُقُودِهِمْ وَشُرُوطِهِمْ بِلَا بُرْهَانٍ مِنَ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ، وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَأَنَّ
217
الْأَصْلَ فِي الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ الصِّحَّةُ إِلَّا مَا أَبْطَلَهُ الشَّارِعُ أَوْ نَهَى عَنْهُ. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الصَّحِيحُ؛ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِبُطْلَانِهَا حُكْمٌ بِالتَّحْرِيمِ وَالتَّأْثِيمِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ، وَلَا تَأْثِيمَ إِلَّا مَا أَثَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ بِهِ فَاعِلَهُ، كَمَا أَنَّهُ لَا وَاجِبَ إِلَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ، وَلَا حَرَامَ إِلَّا مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَلَا دِينَ إِلَّا مَا شَرَّعَهُ اللَّهُ، فَالْأَصْلُ فِي الْعِبَادَاتِ الْبُطْلَانُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْأَمْرِ، وَالْأَصْلُ فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ الصِّحَّةُ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى الْبُطْلَانِ وَالتَّحْرِيمِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ لَا يُعْبَدُ إِلَّا بِمَا شَرَّعَهُ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ حَقُّهُ عَلَى عِبَادِهِ وَحَقُّهُ الَّذِي أَحَقَّهُ هُوَ وَرَضِيَ بِهِ وَشَرَّعَهُ. وَأَمَّا الْعُقُودُ وَالشُّرُوطُ وَالْمُعَامَلَاتُ فَهِيَ عَفْوٌ حَتَّى يَحَرِّمَهَا، وَلِذَا نَعَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مُخَالَفَةَ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ: وَهُوَ تَحْرِيمُ مَا لَمْ يُحَرِّمْهُ، وَالتَّقَرُّبُ إِلَيْهِ بِمَا لَمْ يُشَرِّعْهُ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ لَوْ سَكَتَ عَنْ إِبَاحَةِ ذَلِكَ وَتَحْرِيمِهِ لَكَانَ ذَلِكَ عَفْوًا لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ بِتَحْرِيمِهِ وَإِبْطَالِهِ؛ فَإِنَّ الْحَلَالَ مَا أَحَلَّ اللَّهُ، وَالْحَرَامَ مَا حَرَّمَهُ اللَّهُ، وَمَا سَكَتَ عَنْهُ فَهُوَ عَفْوٌ، فَكُلُّ شَرْطٍ وَعَقْدٍ وَمُعَامَلَةٍ سَكَتَ عَنْهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْقَوْلُ بِتَحْرِيمِهَا؛ فَإِنَّهُ سَكَتَ عَنْهَا رَحْمَةً مِنْهُ مِنْ غَيْرِ نِسْيَانٍ وَإِهْمَالٍ. فَكَيْفَ وَقَدْ صَرَّحَتِ النُّصُوصُ بِأَنَّهَا عَلَى الْإِبَاحَةِ فِيمَا عَدَا مَا حَرَّمَهُ؟ ! وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ وَالْعُهُودِ كُلِّهَا، فَقَالَ: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ [١٧ ٣٤] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [٥ ١] وَقَالَ: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ [٢٣ ٨] وَقَالَ تَعَالَى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا [٢ ١٧٧] وَقَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [٦١ - ٢ - ٣] وَقَالَ: بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ [٣ ٧٦] وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ [٨ ٥٨] وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ، عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَرْبَعٌ، مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ». وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ عَلَامَاتِ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُرْفَعُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
218
بِقَدْرِ غَدْرَتِهِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فَلَانِ بْنِ فُلَانٍ» وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ أَحَقَّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ». وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ، قَالَ: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَأَيْتُهُ أُلْقِيَ فِي قَلْبِيَ الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَاللَّهِ إِنِّي لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ، وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ، وَلَكِنِ ارْجِعْ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ» قَالَ: فَذَهَبْتُ ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، عَنْ حُذَيْفَةَ، قَالَ: مَا مَنَعَنِي أَنْ أَشْهَدَ بَدْرًا إِلَّا أَنِّي خَرَجْتُ أَنَا وَأَبِي حُسَيْلٍ، وَقَالَ: فَأَخَذَنَا كُفَّارُ قُرَيْشٍ قَالُوا: إِنَّكُمْ تُرِيدُونَ مُحَمَّدًا؟ فَقُلْنَا: مَا نُرِيدُهُ، مَا نُرِيدُ إِلَّا الْمَدِينَةَ، فَأَخَذُوا مِنَّا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَنَنْصَرِفَنَّ إِلَى الْمَدِينَةِ وَلَا نُقَاتِلْ مَعَهُ. فَأَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ: «انْصَرِفَا، نَفِي لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَنَسْتَعِينُ اللَّهَ عَلَيْهِمْ» إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ فِي هَذَا الْمَبْحَثِ. وَالْمَقْصُودُ عِنْدَهُ دَلَالَةُ النُّصُوصِ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ، وَمَنْعِ الْإِخْلَافِ فِي ذَلِكَ، إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ خَاصٌّ، وَذَلِكَ وَاضِحٌ مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي سَاقَهَا كَمَا تَرَى.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الْمُخَالِفِينَ فِي ذَلِكَ يُجِيبُونَ عَنِ الْحُجَجِ الْمَذْكُورَةِ تَارَةً بِنَسْخِهَا، وَتَارَةً بِتَخْصِيصِهَا بِبَعْضِ الْعُهُودِ وَالشُّرُوطِ، وَتَارَةً بِالْقَدْحِ فِي سَنَدِ مَا يُمْكِنُهُمُ الْقَدْحُ فِيهِ، وَتَارَةً بِمُعَارَضَتِهَا بِنُصُوصٍ أُخَرَ كَقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، مَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، كِتَابُ اللَّهِ أَحَقُّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ». وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ».
وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ [٢ ٢٢٩] وَأَمْثَالُ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ: وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ دَعْوَى النَّسْخِ وَالتَّخْصِيصِ تَحْتَاجُ إِلَى دَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهَا، وَبِأَنَّ الْقَدْحَ فِي بَعْضِهَا لَا يَقْدَحُ فِي سَائِرِهَا، وَلَا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِشْهَادِ بِالضَّعِيفِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عُمْدَةً لِاعْتِضَادِهِ بِالصَّحِيحِ، وَبِأَنَّهَا لَا تَعَارُضَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَا عَارَضُوهَا بِهِ مِنَ النُّصُوصِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَا كَانَ مِنْ شَرْطٍ لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ» أَيْ: فِي حُكْمِهِ وَشَرْعِهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [٤ ٢٤] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كِتَابُ اللَّهِ الْقِصَاصُ فِي كَسْرِ السِّنِّ». قَالَ: فَكِتَابُهُ سُبْحَانَهُ يُطْلَقُ عَلَى كَلَامِهِ وَعَلَى حُكْمِهِ الَّذِي حَكَمَ بِهِ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمَعْلُومٌ أَنَّ كُلَّ شَرْطٍ لَيْسَ فِي حُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ، فَيَكُونُ
219
بَاطِلًا. فَإِذَا كَانَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَكَمَ بِأَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ، فَشُرِطَ خِلَافُ ذَلِكَ يَكُونُ شَرْطًا مُخَالِفًا لِحُكْمِ اللَّهِ. وَلَكِنْ أَيْنَ فِي هَذَا أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْ تَحْرِيمِهِ مِنَ الْعُقُودِ وَالشُّرُوطِ يَكُونُ بَاطِلًا حَرَامًا، وَتَعَدِّي حُدُودِ اللَّهِ هُوَ تَحْرِيمُ مَا أَحَلَّهُ، أَوْ إِبَاحَةُ مَا حَرَّمَهُ، أَوْ إِسْقَاطُ مَا أَوْجَبَهُ، لَا إِبَاحَةُ مَا سَكَتَ عَنْهُ، وَعَفَا عَنْهُ، بَلْ تَحْرِيمُهُ هُوَ نَفْسُ تَعَدِّي حُدُودِهِ. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ دَلَالَةَ النُّصُوصِ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ، إِلَّا أَنَّ النَّاسَ يَتَفَاوَتُونَ فِي ذَلِكَ تَفَاوُتًا كَثِيرًا. وَبَيَّنَ مَسَائِلَ كَثِيرَةً مِمَّا فَهِمَ فِيهِ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنَ النُّصُوصِ خِلَافَ الْمُرَادِ.
قَالَ: وَقَدْ أَنْكَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُمَرَ فَهْمَهُ إِتْيَانَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ إِطْلَاقِ قَوْلِهِ: «فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ» فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِي هَذَا اللَّفْظِ عَلَى تَعْيِينِ الْعَامِ الَّذِي يَأْتُونَهُ فِيهِ.
وَأَنْكَرَ عَلَى عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ فَهْمَهُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَبْيَضِ وَالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ نَفْسَ الْعِقَالَيْنِ.
وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلَةٍ مِنْ كِبْرٍ» شُمُولَ لَفْظِهِ لِحَسَنِ الثَّوْبِ وَحَسَنِ النَّعْلِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ «بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ». وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ» أَنَّهُ كَرَاهَةُ الْمَوْتِ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا لِلْكَافِرِ إِذَا احْتُضِرَ وَبُشِّرَ بِالْعَذَابِ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكْرَهُ لِقَاءَ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَكْرَهُ لِقَاءَهُ. وَأَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا احْتُضِرَ وَبُشِّرَ بِكَرَامَةِ اللَّهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ.
وَأَنْكَرَ عَلَى عَائِشَةَ إِذْ فَهِمَتْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا [٨٤ ٨] مُعَارَضَتَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ عُذِّبَ». وَبَيَّنَ لَهَا أَنَّ الْحِسَابَ الْيَسِيرَ هُوَ الْعَرْضُ، أَيْ: حِسَابُ الْعَرْضِ لَا حِسَابَ الْمُنَاقَشَةِ.
وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [٤ ١٢٣] أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْآخِرَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَسْلَمُ أَحَدٌ مِنْ عَمَلِ السُّوءِ. وَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا الْجَزَاءَ قَدْ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا بِالْهَمِّ، وَالْحُزْنِ، وَالْمَرَضِ، وَالنَّصَبِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَصَائِبِهَا، وَلَيْسَ فِي اللَّفْظِ تَقْيِيدُ الْجَزَاءِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَأَنْكَرَ عَلَى مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [٦ ٨٢] أَنَّهُ ظُلْمُ النَّفْسِ بِالْمَعَاصِي، وَبَيَّنَ أَنَّهُ الشِّرْكُ، وَذَكَرَ
220
قَوْلَ لُقْمَانَ لِابْنِهِ: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [٣١ ١٣] وَأَوْضَحَ وَجْهَ ذَلِكَ بِسِيَاقِ الْقُرْآنِ.
قَالَ: ثُمَّ سَأَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ عَنِ الْكَلَالَةِ وَرَاجَعَهُ فِيهَا مِرَارًا، فَقَالَ: «يَكْفِيكَ آيَةُ الصَّيْفِ» وَاعْتَرَفَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِأَنَّهُ خَفِيَ عَلَيْهِ فَهْمُهَا، وَفَهِمَهَا الصِّدِّيقُ.
وَقَدْ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، فَفَهِمَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ مِنْ نَهْيِهِ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا لَمْ تُخَمَّسْ. وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّهْيَ لِكَوْنِهَا كَانَتْ حَمُولَةَ الْقَوْمِ وَظَهْرَهُمْ. وَفَهِمَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ لِكَوْنِهَا كَانَتْ جَوَّالَ الْقَرْيَةِ. وَفَهِمَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَكِبَارُ الصَّحَابَةِ مَا قَصَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّهْيِ وَصَرَّحَ بِعِلَّتِهِ لِكَوْنِهَا رِجْسًا.
وَفَهِمَتِ الْمَرْأَةُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا [٤ ٢٠] جَوَازَ الْمُغَالَاةِ فِي الصَّدَاقِ، فَذَكَرَتْهُ لِعُمَرَ فَاعْتَرَفَ بِهِ.
وَفَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [٤٦ ١٥] مَعَ قَوْلِهِ: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [٢ ٢٣٣] أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَمْ يَفْهَمْهُ عُثْمَانُ، فَهَمَّ بِرَجْمِ امْرَأَةٍ وَلَدَتْ لَهَا، حَتَّى ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فَأَقَرَّ بِهِ.
وَلَمْ يَفْهَمْ عُمَرُ مِنْ قَوْلِهِ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّهِمْ» قِتَالَ مَانِعِي الزَّكَاةِ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُ الصِّدِّيقُ فَأَقَرَّ بِهِ.
وَفَهِمَ قُدَامَةُ بْنُ مَظْعُونٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا [٥ ٩٣] رَفْعَ الْجُنَاحِ عَنِ الْخَمْرِ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُ عُمَرُ أَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ الْخَمْرَ، وَلَوْ تَأَمَّلَ سِيَاقَ الْآيَةِ لِفَهِمَ الْمُرَادَ مِنْهَا، فَإِنَّهُ إِنَّمَا رُفِعَ الْجُنَاحُ عَنْهُمْ فِيمَا طَعِمُوهُ مُتَّقِينَ لَهُ فِيهِ، وَذَلِكَ إِنَّمَا يَكُونُ بِاجْتِنَابِ مَا حَرَّمَهُ مِنَ الْمَطَاعِمِ. فَالْآيَةُ لَا تَتَنَاوَلُ الْمُحَرَّمَ بِوَجْهٍ.
وَقَدْ فَهِمَ مَنْ فَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [٢ ١٩٥] انْغِمَاسَ الرَّجُلِ فِي الْعَدْوِ، حَتَّى بَيَّنَ لَهُ أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الْإِلْقَاءِ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ، بَلْ هُوَ مِنْ بَيْعِ الرَّجُلِ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ، وَأَنَّ الْإِلْقَاءَ بِيَدِهِ إِلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ وَالْإِقْبَالُ عَلَى الدُّنْيَا وَعِمَارَتِهَا.
وَقَالَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْآيَةَ وَتَضَعُونَهَا عَلَى
221
غَيْرِ مَوَاضِعِهَا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ [٥ ١٠٥] وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوُا الْمُنْكِرَ فَلَمْ يُغَيِّرُوهُ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِالْعِقَابِ مِنْ عِنْدِهِ» فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُمْ يَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا فِي فَهْمِهِمْ مِنْهَا خِلَافَ مَا أُرِيدَ بِهَا.
وَأُشْكِلَ عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ أَمْرُ الْفِرْقَةِ السَّاكِتَةِ الَّتِي لَمَّ تَرْتَكِبْ مَا نُهِيَتْ عَنْهُ مِنَ الْيَهُودِ، هَلْ عُذِّبُوا أَوْ نَجَوْا حَتَّى بَيَّنَ لَهُ مَوْلَاهُ عِكْرِمَةُ دُخُولَهُمْ فِي النَّاجِينَ دُونَ الْمُعَذَّبِينَ، وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ؛ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ عَنِ السَّاكِتِينَ: وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا [٧ ١٦٤] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ أَنْكَرُوا فِعْلَهُمْ وَغَضِبُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُوَاجِهُوهُمْ بِالنَّهْيِ، فَقَدْ وَاجَهَهُمْ بِهِ مَنْ أَدَّى الْوَاجِبَ عَنْهُمْ، فَإِنَّ الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيَ عَنِ الْمُنْكَرِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَلَمَّا قَامَ بِهِ أُولَئِكَ سَقَطَ عَنِ الْبَاقِينَ فَلَمْ يَكُونُوا ظَالِمِينَ بِسُكُوتِهِمْ.
وَأَيْضًا فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ إِنَّمَا عَذَّبَ الَّذِينَ نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ، وَعَتَوْا عَمَّا نُهُوا عَنْهُ، وَهَذَا لَا يَتَنَاوَلُ السَّاكِتِينَ قَطْعًا، فَلَمَّا بَيَّنَ عِكْرِمَةُ لِابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الظَّالِمِينَ الْمُعَذَّبِينَ كَسَاهُ بُرْدَهُ وَفَرِحَ بِهِ.
وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لِلصَّحَابَةِ: مَا تَقُولُونَ فِي إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [١١٠ ١] السُّورَةَ؟ قَالُوا: أَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إِذَا فَتَحَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ. فَقَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: مَا تَقُولُ أَنْتَ؟ قَالَ: هُوَ أَجَلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْلَمَهُ إِيَّاهُ. فَقَالَ: مَا أَعْلَمُ مِنْهَا غَيْرَ مَا تَعْلَمُ.
إِلَى أَنْ قَالَ: وَالْمَقْصُودُ تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي مَرَاتِبِ الْفَهْمِ فِي النُّصُوصِ، وَأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ فِي الْآيَةِ حُكْمًا أَوْ حُكْمَيْنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَفْهَمُ مِنْهَا عَشَرَةَ أَحْكَامٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْتَصِرُ فِي الْفَهْمِ عَلَى مُجَرَّدِ اللَّفْظِ دُونَ سِيَاقِهِ وَدُونَ إِيمَائِهِ وَإِشَارَتِهِ وَتَنْبِيهِهِ وَاعْتِبَارِهِ. وَأَخَصُّ مِنْ هَذَا وَأَلْطَفُ ضَمُّهُ إِلَى نَصٍّ آخَرَ مُتَعَلِّقٍ بِهِ، فَيَفْهَمُ مِنِ اقْتِرَانِهِ بِهِ قَدْرًا زَائِدًا عَلَى ذَلِكَ اللَّفْظِ بِمُفْرَدِهِ.
وَهَذَا بَابٌ عَجِيبٌ مِنْ فَهْمِ الْقُرْآنِ، لَا يَتَنَبَّهُ لَهُ إِلَّا النَّادِرُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ الذِّهْنَ قَدْ لَا يَشْعُرُ بِارْتِبَاطِ هَذَا بِهَذَا وَتَعَلُّقِهِ بِهِ، كَمَا فَهِمَ ابْنُ عَبَّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا [٤٦ ١٥] مَعَ قَوْلِهِ: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ [٢ ٢٣٣] أَنَّ الْمَرْأَةَ قَدْ تَلِدُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ.. إِلَى آخِرِ كَلَامِهِ.
وَإِنَّمَا أَكْثَرْنَا فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ مِنْ نَقْلِ كَلَامِ ابْنِ الْقَيِّمِ كَمَا رَأَيْتَ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ فِيهَا بِمَا
222
لَمْ يَأْتِ بِهِ مَنْ تَقَدَّمَهُ وَلَا مَنْ تَأَخَّرَ. وَقَدْ تَرَكْنَا كَثِيرًا مِنْ نَفَائِسِ كَلَامِهِ فِي هَذِهِ الْمَوَاضِيعِ خَشْيَةَ الْإِطَالَةِ الْكَثِيرَةِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ
اعْلَمْ أَنَّ اسْتِهْزَاءَ الظَّاهِرِيَّةِ وَسُخْرِيَّتَهُمْ بِالْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - وَدَعْوَاهُمْ أَنَّ قِيَاسَاتِهِمْ مُتَنَاقِضَةٌ يَنْقُضُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَأَنَّ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهَا كُلَّهَا بَاطِلَةٌ وَلَيْسَتْ مِنَ الدِّينِ فِي شَيْءٍ - إِذَا تَأَمَّلَ فِيهِ الْمُنْصِفُ الْعَارِفُ وَجَدَ الْأَئِمَّةَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - أَقْرَبَ فِي أَغْلَبِ ذَلِكَ إِلَى الصَّوَابِ وَالْعَمَلِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ النُّصُوصِ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ السَّاخِرِينَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَسَنَضْرِبُ لَكَ بَعْضَ الْأَمْثِلَةِ لِذَلِكَ لِتَسْتَدِلَّ بِهِ عَلَى غَيْرِهِ.
اعْلَمْ أَنَّ مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَائِلِ الَّتِي قَالَ فِيهَا الظَّاهِرِيَّةُ بِتَنَاقُضِ أَقْيِسَةِ الْأَئِمَّةِ وَتَكْذِيبِ بَعْضِهَا لِبَعْضٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ كُلِّ قِيَاسٍ مِنْ أَقْيِسَتِهِمْ - هِيَ مَسْأَلَةُ الرِّبَا الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الذَّهَبُ بِالذَّهَبُ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، وَالْبُرِّ بِالْبُرِّ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالتَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْمِلْحُ بِالْمِلْحِ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، فَمَنْ زَادَ أَوِ اسْتَزَادَ فَقَدْ أَرْبَى».
قَالَ الظَّاهِرِيَّةُ: فَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّمَا حَرَّمَ الرِّبَا فِي السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ، فَتَحْرِيمُهُ فِي شَيْءٍ غَيْرِهَا قَوْلٌ عَلَى اللَّهِ وَعَلَى رَسُولِهِ، وَتَشْرِيعٌ زَائِدٌ عَلَى مَا شَرَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: وَالَّذِينَ زَادُوا عَلَى النَّصِّ أَشْيَاءَ يُحَرَّمُ فِيهَا الرِّبَا اخْتَلَفَتْ أَقْوَالُهُمْ، وَتَنَاقَضَتْ أَقْيِسَتُهُمْ، فَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: التَّمْرُ وَالْبَلُّوطُ ثَمَرُ شَجَرٍ يُؤْكَلُ وَيُدْبَغُ بِقِشْرِهِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ هِيَ الْكَيْلُ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ هِيَ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ... إلخ.
فَهَذِهِ أَقْيِسَةٌ مُتَضَارِبَةٌ مُتَنَاقِضَةٌ فَلَيْسَتْ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَإِذَا تَأَمَّلْتَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الَّتِي سَخِرُوا بِسَبَبِهَا مِنَ الْأَئِمَّةِ، وَادَّعَوْا عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ حَرَّمُوا الرِّبَا فِي أَشْيَاءَ لَا دَلِيلَ عَلَى تَحْرِيمِهِ فِيهَا كَالتُّفَّاحِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ الطَّعْمُ كَالشَّافِعِيِّ، وَكَالْأُشْنَانِ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ: الْعِلَّةُ الْكَيْلُ - عَلِمْتَ أَنَّ الْأَئِمَّةَ أَقْرَبُ إِلَى الْعَمَلِ بِالنَّصِّ فِي ذَلِكَ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ الْمُدَّعِينَ الْوُقُوفَ مَعَ ظَاهِرِ النَّصِّ. أَمَّا الشَّافِعِيُّ الَّذِي قَالَ: الْعِلَّةُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا الطَّعْمُ فَقَدِ اسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي عَمْرٌو (ح) وَحَدَّثَنِي أَبُو الطَّاهِرِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أَنَّ أَبَا النَّضْرِ حَدَّثَهُ، أَنَّ بُسْرَ بْنَ سَعِيدٍ حَدَّثَهُ عَنْ مَعْمَرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، أَنَّهُ أَرْسَلَ غُلَامَهُ بِصَاعِ قَمْحٍ. الْحَدِيثَ، وَفِيهِ: فَإِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ» وَكَانَ طَعَامُنَا
223
يَوْمَئِذٍ الشَّعِيرَ. فَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ صَرَّحَ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَنَّ الطَّعَامَ إِذَا بِيعَ بِالطَّعَامِ بِيعَ مِثْلًا بِمِثْلٍ. وَالطَّعَامُ فِي اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ: اسْمٌ لِكُلِّ مَا يُؤْكَلُ، قَالَ تَعَالَى: كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْآيَةَ [٣ ٩٣] وَقَالَ: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا وَعِنَبًا [٨٠ ٢٤ - ٢٨] وَقَالَ تَعَالَى: وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ [٥ ٥] وَلَا خِلَافَ فِي ذَبَائِحِهِمْ فِي ذَلِكَ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي زَمْزَمَ: «إِنَّهَا طَعَامُ طُعْمٍ» وَقَالَ لَبِيدٌ فِي مُعَلَّقَتِهِ:
لِمُعَفَّرٍ قَهْدٍ تَنَازَعَ شِلْوَهُ غُبْسٌ كَوَاسِبُ لَا يُمَنُّ طَعَامُهَا
يَعْنِي بِطَعَامِهَا: فَرِيسَتَهَا، كَمَا قَدَّمْنَا هَذَا مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ».
فَالشَّافِعِيُّ وَإِنْ سَخِرَ الظَّاهِرِيَّةُ مِنْهُ فِي تَحْرِيمِهِ الرِّبَا فِي التُّفَّاحِ فَهُوَ مُتَمَسِّكٌ فِي ذَلِكَ بِظَاهِرِ حَدِيثٍ صَحِيحٍ، يَقُولُ فِيهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطَّعَامُ بِالطَّعَامِ مِثْلًا بِمِثْلٍ». فَمَا الْمَانِعُ لِلظَّاهِرِيَّةِ مِنَ الْقَوْلِ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَلَى عَادَتِهِمُ الَّتِي يَزْعُمُونَ فَيَحْكُمُونَ عَلَى الطَّعَامِ بِأَنَّهُ مِثْلٌ بِمِثْلٍ؟ وَمَا مُسْتَنَدُهُمْ فِي مُخَالَفَةِ ظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، وَحُكْمُهُمْ بِالرِّبَا فِي الْبُرِّ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالْمِلْحِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ سَائِرِ الْمَطْعُومَاتِ؟ مَعَ أَنَّ لَفْظَ الطَّعَامِ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَامٌّ لِلْأَرْبَعَةِ الْمَذْكُورَةِ وَغَيْرِهَا كَمَا تَرَى، فَهَلِ الشَّافِعِيُّ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا فِي التُّفَّاحِ أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ أَوِ الظَّاهِرِيَّةُ؟ وَكَذَلِكَ سُخْرِيَتُهُمْ مِنَ الْإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - فِي قَوْلِهِمَا بِدُخُولِ الرِّبَا فِي كُلِّ مَكِيلٍ وَمَوْزُونٍ، مُسْتَهْزِئِينَ بِمَنْ يَقُولُ بِالرِّبَا فِي الْأُشْنَانِ قِيَاسًا عَلَى التَّمْرِ - إِذَا تَأَمَّلْتَ فِيهِ وَجَدْتَ الْإِمَامَيْنِ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - أَقْرَبَ فِي ذَلِكَ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ.
قَالَ الْحَاكِمُ فِي (الْمُسْتَدْرَكِ) : حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْفَقِيهُ، ثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُكَرَّمٍ، ثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، ثَنَا حَيَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ الْعَدَوِيُّ، قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا مِجْلَزٍ عَنِ الصَّرْفِ، فَقَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - لَا يَرَى بِهِ بَأْسًا زَمَانًا مِنْ عُمْرِهِ مَا كَانَ مِنْهُ عَيْنًا، يَعْنِي يَدًا بِيَدٍ، فَكَانَ يَقُولُ: إِنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ. فَلَقِيَهُ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ إِلَى مَتَى تُؤَكِّلُ النَّاسَ الرِّبَا؟ أَمَا بَلَغَكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ عِنْدَ زَوْجَتِهِ أُمِّ سَلَمَةَ: «إِنِّي لَأَشْتَهِي تَمْرَ عَجْوَةٍ» فَبَعَثَتْ صَاعَيْنِ مَنْ تَمْرٍ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَجَاءَ بَدَلَ صَاعَيْنِ صَاعٌ مِنْ تَمْرِ عَجْوَةٍ، فَقَامَتْ فَقَدَّمَتْهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا رَآهُ أَعْجَبَهُ، فَتَنَاوَلَ تَمْرَةً، ثُمَّ أَمْسَكَ فَقَالَ: «مِنْ أَيْنَ لَكُمْ هَذَا؟»
224
فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: بَعَثْتُ صَاعَيْنِ مِنْ تَمْرٍ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَأَتَانَا بَدَلَ صَاعَيْنِ هَذَا الصَّاعَ الْوَاحِدَ، وَهَا هُوَ، كُلْ، فَأَلْقَى التَّمْرَةَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَقَالَ: «رَدُّوهُ لَا حَاجَةَ لِي فِيهِ، التَّمْرُ بِالتَّمْرِ، وَالْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ، وَالشَّعِيرُ بِالشَّعِيرِ، وَالذَّهَبُ بِالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةُ بِالْفِضَّةِ، يَدًا بِيَدٍ، عَيْنًا بِعَيْنٍ، مِثْلًا بِمِثْلٍ، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ رِبَا» ثُمَّ قَالَ «كَذَلِكَ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ أَيْضًا» إِلَى آخِرِهِ.
ثُمَّ قَالَ الْحَاكِمُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُخْرِجَاهُ بِهَذِهِ السِّيَاقَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ الْحَاكِمُ: إِنَّهُ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ، فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ يُبَاعُ مِثْلًا بِمِثْلٍ، يَدًا بِيَدٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْمَوْصُولَاتِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ لِعُمُومِهَا فِي كُلِّ مَا تَشْمَلُهُ صِلَاتُهَا. فَأَبُو حَنِيفَةَ مَثَلًا الْقَائِلُ بِالرِّبَا فِي الْأُشْنَانِ مُتَمَسِّكٌ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ مِنَ الظَّاهِرِيَّةِ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِهِ، الزَّاعِمِينَ أَنَّهُ بَعِيدٌ فِي ذَلِكَ عَنِ النَّصِّ.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا الْحَدَثُ لَا يُحْتَجُّ بِهِ لِضَعْفِهِ، وَقَدْ قَالَ الذَّهَبِيُّ مُتَعَقِّبًا عَلَى الْحَاكِمِ تَصْحِيحَهُ لِلْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَا نَصُّهُ: قُلْتُ: حَيَّانُ فِيهِ ضَعْفٌ وَلَيْسَ بِالْحُجَّةِ، وَقَدْ أَشَارَ الْبَيْهَقِيُّ إِلَى تَضْعِيفِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَعَلَّهُ ابْنُ حَزْمٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: زَعْمُهُ أَنَّهُ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ أَبَا مِجْلَزٍ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي سَعِيدٍ وَلَا مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. الثَّانِي: أَنَّ فِي الْحَدِيثِ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ عَنِ الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ رِبَا الْفَضْلِ. وَاعْتِقَادُ ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ ذَلِكَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ حَيَّانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَذْكُورَ فِي سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ مَجْهُولٌ.
فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ هُوَ مَا سَتَرَاهُ الْآنَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهُوَ رَاجِعٌ إِلَى شَيْئَيْنِ: الْأَوَّلُ: مُنَاقَشَةُ مَنْ ضَعَّفَ الْحَدِيثَ، وَبَيَانُ أَنَّهُ لَيْسَ بِضَعِيفٍ. وَالثَّانِي: أَنَّا لَوْ سَلَّمْنَا ضَعْفَهُ تَسْلِيمًا جَدَلِيًّا فَهُوَ مُعْتَضِدٌ بِمَا يَثْبُتُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ مِنَ الشَّوَاهِدِ.
أَمَّا الْمُنَاقَشَةُ فِي تَضْعِيفِهِ، فَقَوْلُ الذَّهَبِيِّ: إِنَّ حَيَّانَ فِيهِ ضَعْفٌ وَلَيْسَ بِالْحُجَّةِ - مُعَارَضٌ بِقَوْلِ أَبِي حَاتِمٍ فِيمَا ذَكَرَهُ عَنِ ابْنِهِ فِي كِتَابِ «الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ» : إِنَّهُ صَدُوقٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّ التَّعْدِيلَ يُقْبَلُ مُجْمَلًا، وَالتَّجْرِيحَ لَا يُقْبَلُ إِلَّا مُبَيَّنًا مُفَصَّلًا كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي عُلُومِ الْحَدِيثِ. وَقَدْ تَرْجَمَ لَهُ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ جَرْحًا. وَإِعْلَالُ ابْنِ حَزْمٍ لَهُ بِأَنَّهُ مُنْقَطِعٌ وَأَنَّ حَيَّانَ مَجْهُولٌ قَدْ قَدَّمْنَا مُنَاقَشَتَهُ فِيهِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» ؛ لِأَنَّ أَبَا مِجْلَزٍ أَدْرَكَ ابْنَ عَبَّاسٍ، وَسَمِعَ عَنْهُ.
قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ فِي «الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ» فِي أَبِي مِجْلَزٍ الْمَذْكُورِ: وَهُوَ لَاحِقُ بْنُ حُمَيْدٍ
225
السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ، تُوُفِّيَ أَيَّامَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَرَوَى عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ وَجُنْدُبٍ... إلخ، وَتَصْرِيحُهُ بِرِوَايَتِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِ ابْنِ حَزْمٍ: إِنَّهُ لَمْ يَسْمَعْ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ الْكَبِيرِ فِي لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ الْمَذْكُورِ: أَبُو مِجْلَزٍ السَّدُوسِيُّ الْبَصْرِيُّ، مَاتَ قَبْلَ الْحَسَنِ بِقَلِيلٍ، وَمَاتَ الْحَسَنُ سَنَةَ عَشْرٍ وَمِائَةٍ، سَمِعَ ابْنَ عُمَرَ، وَابْنَ عَبَّاسٍ، وَأَنَسَ بْنَ مَالِكٍ... إلخ. وَفِيهِ تَصْرِيحُ الْبُخَارِيِّ بِسَمَاعِ أَبِي مِجْلَزٍ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمَعَ هَذَا فَابْنُ حَزْمٍ يَقُولُ: هُوَ مُنْقَطِعٌ لِعَدَمِ سَمَاعِهِ مِنْهُ. وَأَمَّا أَبُو سَعِيدٍ فَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَدْرَكَهُ أَبُو مِجْلَزٍ الْمَذْكُورُ، وَالْمُعَاصَرَةُ تَكْفِي، وَلَا يُشْتَرَطُ ثُبُوتُ اللُّقِيِّ عَلَى التَّحْقِيقِ، كَمَا أَوْضَحَهُ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ.
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي تَهْذِيبِ التَّهْذِيبِ فِي أَبِي مِجْلَزٍ الْمَذْكُورِ: رَوَى عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ، وَالْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ، وَمُعَاوِيَةَ، وَعِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، وَسَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، وَحَفْصَةَ، وَأُمِّ سَلَمَةَ، وَأَنَسٍ، وَجُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَسَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، وَقَيْسِ بْنِ عَبَّادٍ، وَغَيْرِهِمْ. وَأَرْسَلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَحُذَيْفَةَ... إلخ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ مُعَاصَرَةَ أَبِي مِجْلَزٍ لِأَبِي سَعِيدٍ أَنَّ جَمَاعَةً مِنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ ذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ رَوَى عَنْهُمْ مَاتُوا قَبْلَ أَبِي سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. فَأَبُو سَعِيدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُوُفِّيَ سَنَةَ ثَلَاثٍ أَوْ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ بَعْدَ السِّتِّينَ، وَقَدْ مَاتَ قَبْلَهُ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ، وَأَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ، وَعِمْرَانُ بْنُ حُصَيْنٍ، وَمُعَاوِيَةُ، وَسُمْرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَأَمَّا قَوْلُ ابْنِ حَزْمٍ: إِنَّهُ مَجْهُولٌ فَقَدْ قَدَّمْنَا مُنَاقَشَةَ السُّبْكِيِّ لَهُ فِي تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ، وَأَنَّهُ قَالَ: فَإِنْ أَرَادَ ابْنُ حَزْمٍ أَنَّهُ مَجْهُولُ الْعَيْنِ فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، بَلْ هُوَ رَجُلٌ مَشْهُورٌ، رَوَى عَنْهُ حَدِيثَ الصَّرْفِ هَذَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، وَمِنْ جِهَتِهِ أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ، وَذَكَرَهُ ابْنُ حَزْمٍ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الشَّامِيُّ، وَمِنْ جِهَتِهِ رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَيُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، وَمِنْ جِهَتِهِ رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ ' وَهُوَ حَيَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ حَيَّانَ بْنِ بِشْرِ بْنِ عَدِيٍّ بَصْرِيٌّ، سَمِعَ أَبَا مِجْلَزٍ لَاحِقَ بْنَ حُمَيْدٍ، وَالضَّحَّاكَ وَعَنْ أَبِيهِ، وَرَوَى عَنْ عَطَاءٍ، وَابْنِ بُرَيْدَةَ، رَوَى عَنْهُ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ وَمُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَعُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى، عَقَدَ لَهُ الْبُخَارِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ تَرْجَمَةً فَذَكَرَ كُلٌّ مِنْهُمَا بَعْضَ مَا ذَكَرْتُهُ. وَلَهُ تَرْجَمَةٌ فِي كِتَابِ ابْنِ عَدِيٍّ كَمَا أَشَرْتُ إِلَيْهِ، فَزَالَ عَنْهُ جَهَالَةُ الْعَيْنِ. وَإِنْ أَرَادَ جَهَالَةَ الْحَالِ فَهُوَ قَدْ رَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ، فَقَالَ فِي إِسْنَادِهِ: أَخْبَرْنَا رَوْحٌ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَانَ رَجُلَ صِدْقٍ. فَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ لَهُ بِالصِّدْقِ مِنْ رَوْحِ بْنِ عُبَادَةَ، فَرَوْحٌ مُحَدِّثٌ نَشَأَ فِي الْحَدِيثِ، عَارِفٌ بِهِ، مُصَنِّفٌ
226
مُتَّفَقٌ عَلَى الِاحْتِجَاجِ بِهِ، بَصْرِيٌّ بَلَدِيٌّ لِلْمَشْهُودِ لَهُ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ لَهُ. وَإِنْ كَانَ هَذَا الْقَوْلُ مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ رَاهْوَيْهِ فَنَاهِيكَ بِهِ، وَمَنْ يُثْنِي عَلَيْهِ إِسْحَاقُ! وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ حَيَّانَ بْنَ عُبَيْدِ اللَّهِ هَذَا، وَذَكَرَ جَمَاعَةً مِنَ الْمَشَاهِيرِ مِمَّنْ رَوَوْا عَنْهُ وَمِمَّنْ رُوِيَ عَنْهُمْ، قَالَ: إِنَّهُ سَأَلَ أَبَاهُ عَنْهُ، فَقَالَ: صَدُوقٌ. اهـ مِنْ تَكْمِلَةِ الْمَجْمُوعِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ». وَالَّذِي رَأَيْتُ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ الْكُبْرَى أَنَّ الرَّاوِيَ عَنْ حَيَّانَ الْمَذْكُورِ فِي إِسْنَادِهِ لَهُ إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، وَقَالَ صَاحِبُ «الْجَوْهَرِ النَّقِيِّ» : وَحَيَّانُ هَذَا ذَكَرَهُ ابْنُ حِبَّانَ فِي الثِّقَاتِ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ. وَقَالَ الذَّهَبِيُّ فِي الضُّعَفَاءِ: جَائِزُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ: قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ: حَيَّانُ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ مَشْهُورٌ وَلَيْسَ بِهِ بَأْسٌ. وَقَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ: صَدُوقٌ. وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِيهِ: مَجْهُولٌ. وَلَعَلَّهُ اخْتَلَطَ عَلَيْهِ بِحَيَّانَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ الْمَرْوِيِّ، وَبِمَا ذُكِرَ تَعْلَمُ أَنَّ دَعْوَى ابْنِ حَزْمٍ أَنَّ الْحَدِيثَ مُنْقَطِعٌ، وَأَنَّ حَيَّانَ الْمَذْكُورَ مَجْهُولٌ لَيْسَتْ بِصَحِيحَةٍ.
وَأَمَّا دَعْوَاهُ عَدَمَ رُجُوعِ ابْنِ عَبَّاسٍ لِقَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ عَنِ الْقَوْلِ بِإِبَاحَةِ رِبَا الْفَضْلِ، فَقَدْ قَدَّمْنَا الرِّوَايَاتِ الْوَارِدَةَ بِرُجُوعِهِ مُسْتَوْفَاةً فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ؛ لِأَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ وَهُوَ وَاحِدٌ؛ وَلِأَنَّهُمْ مُثْبِتُونَ رُجُوعَهُ وَهُوَ نَافِيهِ، وَالْمُثْبِتُ مُقَدَّمٌ عَلَى النَّافِي. وَأَمَّا شَوَاهِدُ حَدِيثِ حَيَّانَ الْمَذْكُورِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الرِّبَا فِي كُلِّ مَا يُكَالُ وَيُوزَنُ؛ فَمِنْهَا مَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَعُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا وُزِنَ مِثْلٌ بِمِثْلٍ إِذَا كَانَ نَوْعًا وَاحِدًا، وَمَا كِيلَ فَمِثْلُ ذَلِكَ. فَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَلَا بَأْسَ بِهِ» وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ» قَوْلَ الشَّوْكَانِيِّ: إِنَّ حَدِيثَ أَنَسٍ وَعُبَادَةَ هَذَا أَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي «التَّلْخِيصِ» وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ الرَّبِيعُ بْنُ صُبَيْحٍ، وَثَّقَهُ أَبُو زُرْعَةَ، وَغَيْرُهُ، وَضَعَّفَهُ جَمَاعَةٌ، وَقَدْ أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْبَزَّارُ أَيْضًا. وَيَشْهَدُ لِصِحَّتِهِ حَدِيثُ عُبَادَةَ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا، وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَحَادِيثِ. انْتَهَى مِنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ فِيهِ الرِّبَا وَإِنْ سَخِرَ الظَّاهِرِيَّةُ مِمَّنْ يَقُولُ بِذَلِكَ، وَمِنْ شَوَاهِدِ حَدِيثِ حَيَّانَ الْمَذْكُورِ الْحَدِيثُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ. قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ فِي (كِتَابِ الْوِكَالَةِ) : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى خَيْبَرَ، فَجَاءَهُمْ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا» ؟ فَقَالَ: إِنَّا
227
لَنَأْخُذُ الصَّاعَ مِنْ هَذَا بِالصَّاعَيْنِ، وَالصَّاعَيْنِ بِالثَّلَاثَةِ. فَقَالَ: «لَا تَفْعَلْ، بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جِنِيبًا»، وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: وَقَالَ فِي الْمِيزَانِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَمَعْنَاهُ ظَاهِرٌ جِدًّا فِي أَنَّ مَا يُوزَنُ بِالْمِيزَانِ مِثْلُ ذَلِكَ فِي مَنْعِ الرِّبَا. وَقَدْ قَدَّمْنَا أَقْوَالَ مَنْ أَوَّلَ هَذَا الْحَدِيثَ وَصَرَفَهُ عَنِ الْمَعْنَى الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ». وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ فِي صَحِيحِهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ بْنِ قَعْنَبٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ - يَعْنِي ابْنَ بِلَالٍ - عَنْ عَبْدِ الْمَجِيدِ بْنِ سُهَيْلِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَمِعَ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يُحَدِّثُ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ وَأَبَا سَعِيدٍ حَدَّثَاهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَ أَخَا بَنِي عَدِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ فَاسْتَعْمَلَهُ عَلَى خَيْبَرَ، فَقَدِمَ بِتَمْرٍ جَنِيبٍ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟». قَالَ: لَا، وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا لَنَشْتَرِي الصَّاعَ بِالصَّاعَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَفْعَلُوا، وَلَكِنْ مِثْلًا بِمِثْلٍ، أَوْ بِيعُوا هَذَا وَاشْتَرُوا بِثَمَنِهِ مِنْ هَذَا، وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ» انْتَهَى مِنْهُ. وَقَوْلِهِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ «وَكَذَلِكَ الْمِيزَانُ» ظَاهِرٌ جِدًّا فِي أَنَّ مَا يُوزَنُ كَمَا يُكَالُ، وَأَنَّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ الرِّبَا. وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي عَمِلَ بِهَا بَعْضُ الْأَئِمَّةِ وَإِنِ اسْتَهْزَأَ بِهِمُ الظَّاهِرِيَّةُ فِي ذَلِكَ أَقْرَبُ إِلَى ظَاهِرِ النَّصِّ مِنْ قَوْلِ الظَّاهِرِيَّةِ: إِنَّهُ لَا رِبَا إِلَّا فِي السِّتَّةِ الْمَذْكُورَةِ قَبْلُ. وَالْمَقْصُودُ التَّمْثِيلُ لِأَحْوَالِهِمْ مَعَ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّا نَقُولُ بِمُوجِبِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي اسْتَدَلَّ بِهَا الظَّاهِرِيَّةُ عَلَى أَنَّ مَا سَكَتَ عَنْهُ الشَّارِعُ فَهُوَ عَفْوٌ، وَنَقُولُ مَثَلًا: إِنَّ صَوْمَ شَهْرٍ آخَرَ غَيْرِ رَمَضَانَ لَمْ يُوجَبْ عَلَيْنَا فَهُوَ عَفْوٌ. وَلَكِنْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ آيَةَ: فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ [١٧ ٢٣] سَاكِتَةٌ عَنْ تَحْرِيمِ ضَرْبِ الْوَالِدَيْنِ، بَلْ نَقُولُ هِيَ دَالَّةٌ عَلَيْهِ، وَادِّعَاءُ أَنَّهَا لَمْ تَتَعَرَّضْ لِذَلِكَ بَاطِلٌ كَمَا تَرَى. وَلَا نَقُولُ: إِنَّ آيَةَ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ الْآيَةَ [٩٩ ٧] سَاكِتَةٌ عَنْ مُؤَاخَذَةِ مَنْ عَمِلَ مِثْقَالَ جَبَلٍ، بَلْ هِيَ دَالَّةٌ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِذَلِكَ. وَهَكَذَا إِلَى آخِرِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْمَبَاحِثِ وَفِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ». وَمَا ذَكَرْنَا سَابِقًا مِنْ أَنَّ الصَّوَابَ فِي مَسْأَلَةِ الْقِيَاسِ أَنَّهُ قِسْمَانِ؛ صَحِيحٌ وَفَاسِدٌ، كَمَا بَيَّنَّا وَكَمَا أَوْضَحَهُ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي كَلَامِهِ الَّذِي نَقَلْنَا - اعْتَمَدَهُ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» فِي قَوْلِهِ فِي الْقِيَاسِ:
228
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ
اعْلَمْ أَنَّ جَمَاهِيرَ الْقَائِلِينَ بِالْقِيَاسِ يَقُولُونَ: إِنَّهُ إِنْ خَالَفَ النَّصَّ فَهُوَ بَاطِلٌ، وَيُسَمُّونَ الْقَدْحَ فِيهِ بِمُخَالَفَتِهِ لِلنَّصِّ فَسَادَ الِاعْتِبَارِ. كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ صَاحِبُ «مَرَاقِي السُّعُودِ» بِقَوْلِهِ:
وَمَا رُوِيَ مِنْ ذِمَّةٍ فَقَدْ عُنِيَ بِهِ الَّذِي عَلَى الْفَسَادِ قَدْ بُنِيَ
وَالْخُلْفُ لِلنَّصِّ أَوْ إِجْمَاعٍ دَعَا فَسَادُ الِاعْتِبَارِ كُلُّ مَنْ وَعَى
كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي سُورَةِ «الْبَقَرَةِ».
وَاعْلَمْ أَنَّ مَا يَذْكُرُهُ بَعْضُ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ عَنِ الْإِمَامِ مَالِكٍ مِنْ أَنَّهُ يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ عَلَى أَخْبَارِ الْآحَادِ خِلَافُ التَّحْقِيقِ. وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّهُ يُقَدِّمُ أَخْبَارَ الْآحَادِ عَلَى الْقِيَاسِ، وَاسْتِقْرَاءُ مَذْهَبِهِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ دَلَالَةً وَاضِحَةً، وَلِذَلِكَ أَخَذَ بِحَدِيثِ الْمُصَرَّاةِ فِي دَفْعِ صَاعِ التَّمْرِ عِوَضَ اللَّبَنِ. وَمِنْ أَصْرِحِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي لَا نِزَاعَ بَعْدَهَا فِي ذَلِكَ أَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ فِي ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِ الْمَرْأَةِ ثَلَاثِينَ مِنَ الْإِبِلِ، وَفِي أَرْبَعَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَصَابِعِهَا عِشْرِينَ مِنَ الْإِبِلِ. كَمَا قَدَّمْنَاهُ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ». وَلَا شَيْءَ أَشَدُّ مُخَالَفَةً لِلْقِيَاسِ مِنْ هَذَا كَمَا قَالَ رَبِيعَةُ بْنُ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ لِسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ حِينَ عَظُمَ جَرْحُهَا، وَاشْتَدَّتْ مُصِيبَتُهَا: نَقَصَ عَقْلُهَا. وَمَالِكٌ خَالَفَ الْقِيَاسَ فِي هَذَا الْقَوْلِ، سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّهُ السُّنَّةُ، كَمَا تَقَدَّمَ. وَبَعْدَ هَذَا فَلَا يُمْكِنُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ مَالِكًا يُقَدِّمُ الْقِيَاسَ عَلَى النَّصِّ، وَمَسَائِلُ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ مُدَوَّنَةٌ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ نَكْتَفِي بِمَا ذَكَرْنَا مِنْ ذَلِكَ هُنَا.
الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ
اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالُوا: إِنَّ الْحَرْثَ الَّذِي حَكَمَ فِيهِ سُلَيْمَانُ وَدَاوُدُ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ بُسْتَانُ عِنَبٍ، وَالنَّفْشُ: رَعْيُ الْغَنَمِ لَيْلًا خَاصَّةً، وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
بَدَّلْنَ بَعْدَ النَّفْشِ الْوَجِيفَا وَبَعْدَ طُولِ الْجَرَّةِ الصَّرِيفَا
وَقِيلَ: كَانَ الْحَرْثُ الْمَذْكُورُ زَرْعًا، وَذَكَرُوا أَنَّ دَاوُدَ حَكَمَ بِدَفْعِ الْغَنَمِ لِأَهْلِ الْحَرْثِ عِوَضًا مِنْ حَرْثِهِمُ الَّذِي نَفَشَتْ فِيهِ فَأَكَلَتْهُ. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: اعْتَبَرَ قِيمَةَ الْحَرْثِ فَوَجَدَ الْغَنَمَ بِقَدْرِ الْقِيمَةِ فَدَفَعَهَا إِلَى أَصْحَابِ الْحَرْثِ، إِمَّا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ دَرَاهِمُ أَوْ تَعَذَّرَ بَيْعُهَا، وَرَضُوا بِدَفْعِهَا وَرَضِيَ أُولَئِكَ بِأَخْذِهَا بَدَلًا مِنَ الْقِيمَةِ. وَأَمَّا سُلَيْمَانُ فَحَكَمَ بِالضَّمَانِ عَلَى
229
أَصْحَابِ الْغَنَمِ، وَأَنْ يَضْمَنُوا ذَلِكَ بِالْمِثْلِ بِأَنْ يُعَمِّرُوا الْبُسْتَانَ حَتَّى يَعُودَ كَمَا كَانَ حِينَ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُهُمْ. وَلَمْ يُضَيِّعْ عَلَيْهِمْ غَلَّتَهُ مِنْ حِينِ الْإِتْلَافِ إِلَى حِينِ الْعَوْدِ، بَلْ أَعْطَى أَصْحَابَ الْبُسْتَانِ مَاشِيَةَ أُولَئِكَ لِيَأْخُذُوا مِنْ نَمَائِهَا بِقَدْرِ نَمَاءِ الْبُسْتَانِ فَيَسْتَوْفُوا مِنْ نَمَاءِ غَنَمِهِمْ نَظِيرَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ نَمَاءِ حَرْثِهِمْ. وَقَدِ اعْتَبَرَ النَّمَاءَيْنِ فَوَجَدَهُمَا سَوَاءً، قَالُوا: وَهَذَا هُوَ الْعِلْمُ الَّذِي خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ، وَأَثْنَى عَلَيْهِ بِإِدْرَاكِهِ. هَكَذَا يَقُولُونَ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ
اعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي مِثْلِ هَذِهِ الْقِصَّةِ. فَلَوْ نَفَشَتْ غَنَمُ قَوْمٍ فِي حَرْثِ آخَرِينَ فَتَحَاكَمُوا إِلَى حَاكِمٍ مِنْ حُكَّامِ الْمُسْلِمِينَ فَمَاذَا يَفْعَلُ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ، فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ مَا أَفْسَدَتْهُ الْبَهَائِمُ لَيْلًا يَضْمَنُهُ أَرْبَابُ الْمَاشِيَةِ بِقِيمَتِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدَ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ. وَقِيلَ: يَضْمَنُونَهُ بِمِثْلِهِ كَقَضِيَّةِ سُلَيْمَانَ. قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ، وَهُوَ أَحَدُ الْقَوْلَيْنِ فِي مَذْهَبِ أَحْمَدَ، وَوَجْهٍ لِلشَّافِعِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُمْ خِلَافُهُ. وَالْآيَةُ تُشِيرُ إِلَى اخْتِصَاصِ الضَّمَانِ بِاللَّيْلِ؛ لِأَنَّ النَّفْشَ لَا يُطْلَقُ لُغَةً إِلَّا عَلَى الرَّعْيِ بِاللَّيْلِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ لِضَمَانِ أَصْحَابِ الْبَهَائِمِ مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا بِحَدِيثِ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، أَنَّ نَاقَةَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ، فَقَضَى نَبِيُّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظَهَا بِالنَّهَارِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتِ الْمَوَاشِي بِاللَّيْلِ ضَامِنٌ عَلَى أَهْلِهَا» رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ: مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ حِبَّانَ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، فَقَالَ بَعْدَ أَنْ سَاقَ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ: هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ بَيْنَ مَعْمَرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، فَإِنَّ مَعْمَرًا قَالَ: عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ حَرَامِ بْنِ مُحَيِّصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ عَلَى تَصْحِيحِهِ وَلَمْ يَتَعَقَّبْهُ.
وَقَالَ الشَّوْكَانِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي (نَيْلِ الْأَوْطَارِ) فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ: صَحَّحَهُ الْحَاكِمُ، وَالْبَيْهَقِيُّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَخَذْنَا بِهِ لِثُبُوتِهِ وَاتِّصَالِهِ وَمَعْرِفَةِ رِجَالِهِ. اهـ مِنْهُ. وَالِاخْتِلَافُ عَلَى الزُّهْرِيِّ فِي رِوَايَةِ هَذَا الْحَدِيثِ كَثِيرٌ مَعْرُوفٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ مُرْسَلًا فَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ، أَرْسَلَهُ الْأَئِمَّةُ، وَحَدَّثَ بِهِ الثِّقَاتُ، وَاسْتَعْمَلَهُ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ وَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ، وَجَرَى فِي الْمَدِينَةِ الْعَمَلُ بِهِ، وَحَسْبُكَ بِاسْتِعْمَالِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَسَائِرِ أَهْلِ الْحِجَازِ لِهَذَا الْحَدِيثِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ احْتَجَّ بِهِ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ، مِنْهُمُ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورُونَ عَلَى أَنَّ
230
مَا أَفْسَدَتْهُ الْبَهَائِمُ بِاللَّيْلِ عَلَى أَرْبَابِهَا، وَفِي النَّهَارِ عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ حِفْظُهَا. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالشَّافِعِيِّ أَنَّهُ يُضْمَنُ بِقِيمَتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: لَا ضَمَانَ مُطْلَقًا فِي جِنَايَةِ الْبَهَائِمِ، وَيَسْتَدِلُّ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «الْعَجْمَاءُ جُبَارٌ» أَيْ: جَرْحُهَا هَدْرٌ. وَالْجُمْهُورُ يَقُولُونَ: إِنَّ الْحَدِيثَ الْمَذْكُورَ عَامٌّ، وَضَمَانَ مَا أَفْسَدَتْهُ لَيْلًا مُخَصِّصٌ لَهُ. وَذَهَبَ دَاوُدُ وَمَنْ وَافَقَهُ إِلَى أَنَّ مَا أَتْلَفَتْهُ الْبَهَائِمُ بِغَيْرِ عِلْمِ مَالِكِهَا وَلَوْ لَيْلًا ضَمَانٌ فِيهِ، وَأَمَّا إِذَا رَعَاهَا صَاحِبُهَا بِاخْتِيَارِهِ فِي حَرْثِ غَيْرِهِ فَهُوَ ضَامِنٌ بِالْمِثْلِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِلُزُومِ قِيمَةِ مَا أَفْسَدَتْهُ الْبَهَائِمُ لَيْلًا يَقُولُونَ: يَضْمَنُهُ أَصْحَابُهَا وَلَوْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهَا، خِلَافًا لِلَّيْثٍ الْقَائِلِ: لَا يَضْمَنُونَ مَا زَادَ عَلَى قِيمَتِهَا، وَفِي الْمَسْأَلَةِ تَفَاصِيلُ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَصِيغَةُ الْجَمْعِ فِي الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: لِحُكْمِهِمْ [٢١ ٧٨] الظَّاهِرُ أَنَّهَا مُرَادٌ بِهَا سُلَيْمَانُ، وَدَاوُدُ، وَأَصْحَابُ الْحَرْثِ، وَأَصْحَابُ الْغَنَمِ، وَأَضَافَ الْحُكْمَ إِلَيْهِمْ لِأَنَّ مِنْهُمْ حَاكِمًا وَمَحْكُومًا لَهُ وَمَحْكُومًا عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: فَفَهَّمْنَاهَا أَيْ: الْقَضِيَّةَ أَوِ الْحُكُومَةَ الْمَفْهُومَةَ مِنْ قَوْلِهِ: إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ [٢١ ٧٨] وَقَوْلِهِ: وَكُلًّا آتَيْنَا [٢١ ٧٩] أَيْ: أَعْطَيْنَا كُلًّا مِنْ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ حُكْمًا وَعِلْمًا. وَالتَّنْوِينُ فِي قَوْلِهِ: وَكُلًّا عِوَضٌ عَنْ كَلِمَةٍ، أَيْ: كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ سَخَّرَ الْجِبَالَ، أَيْ: ذَلَّلَهَا، وَسَخَّرَ الطَّيْرَ تُسَبِّحُ مَعَ دَاوُدَ. وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ تَسْخِيرِهِ الطَّيْرَ وَالْجِبَالَ تُسْبِّحُ مَعَ نَبِيِّهِ دَاوُدَ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَاجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ الْآيَةَ [٣٤ ١٠]. وَقَوْلِهِ: أَوِّبِي مَعَهُ أَيْ: رَجِّعِي مَعَهُ التَّسْبِيحَ. وَالطَّيْرَ أَيْ: وَنَادَيْنَا الطَّيْرَ بِمِثْلِ ذَلِكَ مِنْ تَرْجِيعِ التَّسْبِيحِ مَعَهُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ أَوِّبِي مَعَهُ: أَيْ: سِيرِي مَعَهُ، وَأَنَّ التَّأْوِيبَ سَيْرُ النَّهَارِ - سَاقِطٌ كَمَا تَرَى. وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [٣٨ ١٧ - ١٨].
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ تَسْبِيحَ الْجِبَالِ وَالطَّيْرِ مَعَ دَاوُدَ الْمَذْكُورَ تَسْبِيحٌ حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - جَلَّ وَعَلَا - يَجْعَلُ لَهَا إِدْرَاكَاتٍ تُسَبِّحُ بِهَا، يَعْلَمُهَا هُوَ - جَلَّ وَعَلَا - وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُهَا. كَمَا قَالَ:
231
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ [٧ ٤٤] وَقَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الْآيَةَ [٢ ٧٤] وَقَالَ تَعَالَى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا الْآيَةَ [٣٣ ٧٢]. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ الْجِذْعَ الَّذِي كَانَ يَخْطُبُ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا انْتَقَلَ عَنْهُ بِالْخُطْبَةِ إِلَى الْمِنْبَرِ سُمِعَ لَهُ حَنِينٌ. وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إِنِّي لَأَعْرِفُ حَجْرًا بِمَكَّةَ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ أُبْعَثَ، إِنِّي لَأَعْرِفُهُ الْآنَ» وَأَمْثَالُ هَذَا كَثِيرَةٌ. وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ، وَالسُّنَّةِ لَا يَجُوزُ صَرْفُهَا عَنْ ظَاهِرِهَا الْمُتَبَادِرِ مِنْهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ. وَالتَّسْبِيحُ فِي اللُّغَةِ: الْإِبْعَادُ عَنِ السُّوءِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الشَّرْعِ: تَنْزِيهُ اللَّهِ - جَلَّ وَعَلَا - عَنْ كُلِّ مَا لَا يَلِيقُ بِكَمَالِهِ وَجَلَالِهِ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ [٢١ ٧٩] أَيْ: جَعَلْنَاهَا بِحَيْثُ تُطِيعُهُ إِذَا أَمَرَهَا بِالتَّسْبِيحِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَكُنَّا فَاعِلِينَ مُؤَكِّدٌ لِقَوْلِهِ: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ [٢١ ٧٩] وَالْمُوجِبُ لِهَذَا التَّأْكِيدِ أَنَّ تَسْخِيرَ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحَهَا أَمْرٌ عَجَبٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ، مَظِنَّةٌ لِأَنْ يُكَذِّبَ بِهِ الْكَفَرَةُ الْجَهَلَةُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَكُنَّا فَاعِلِينَ أَيْ: قَادِرِينَ عَلَى أَنَّ نَفْعَلَ هَذَا. وَقِيلَ: كُنَّا نَفْعَلُ بِالْأَنْبِيَاءِ مِثْلَ ذَلِكَ. وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ قَالَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ؛ لِأَنَّ تَأْوِيلَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ بِمَعْنَى كُنَّا قَادِرِينَ بَعِيدٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ كَمَا لَا دَلِيلَ عَلَى الْآخَرِ كَمَا تَرَى.
وَقَالَ أَبُو حَيَّانَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ أَيْ: فَاعِلِينَ هَذِهِ الْأَعَاجِيبَ مِنْ تَسْخِيرِ الْجِبَالِ وَتَسْبِيحِهِنَّ وَالطَّيْرِ لِمَنْ نَخُصُّهُ بِكَرَامَتِنَا. اهـ. وَأَظْهَرُهَا عِنْدِي هُوَ مَا تَقَدَّمَ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ.
الضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ: وَعَلَّمْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى دَاوُدَ، وَالْمُرَادُ بِصِيغَةِ اللَّبُوسِ: صَنْعَةُ الدُّرُوعِ وَنَسْجُهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِاللَّبُوسِ فِي الْآيَةِ الدُّرُوعُ أَنَّهُ أَتْبَعَهُ بِقَوْلِهِ: لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ [٢١ ٨٠] أَيْ: لِتَحْرِزَ وَتَقِيَ بَعْضَكُمْ مِنْ بَأْسِ بَعْضٍ؛ لِأَنَّ الدِّرْعَ تَقِيهِ ضَرَرَ الضَّرْبِ بِالسَّيْفِ، وَالرَّمْيِ بِالرُّمْحِ وَالسَّهْمِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ. وَقَدْ أَوْضَحَ
232
هَذَا الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ [٣٤ ١٠ - ١١] فَقَوْلُهُ: أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ أَيْ: أَنِ اصْنَعْ دُرُوعًا سَابِغَاتٍ مِنَ الْحَدِيدِ الَّذِي أَلَنَّاهُ لَكَ.
وَالسَّرْدُ: نَسْجُ الدِّرْعِ. وَيُقَالُ فِيهِ: الزَّرَدُ، وَمِنَ الْأَوَّلِ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا دَاوُدُ أَوْ صَنَعَ السَّوَابِغَ تُبَّعُ
وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُ الْآخَرِ:
نُقْرِيهُمُ لَهْذِمِيَّاتٍ نَقُدُّ بِهَا مَا كَانَ خَاطَ عَلَيْهِمْ كُلُّ زَرَّادِ
وَمُرَادُهُ بِالزَّرَّادِ: نَاسِجُ الدِّرْعِ. وَقَوْلِهِ: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ أَيْ: اجْعَلِ الْحَلَقَ وَالْمَسَامِيرَ فِي نَسْجِكَ الدِّرْعَ بِأَقْدَارٍ مُتَنَاسِبَةٍ، فَلَا تَجْعَلِ الْمِسْمَارَ دَقِيقًا لِئَلَّا يَنْكَسِرَ وَلَا يُشَدَّ بَعْضَ الْحَلَقِ بِبَعْضٍ، وَلَا تَجْعَلْهُ غَلِيظًا غِلَظًا زَائِدًا فَيَفْصِمَ الْحَلْقَةَ. وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ اللَّبُوسَ فِي الْآيَةِ الدُّرُوعُ فَاعْلَمْ أَنَّ الْعَرَبَ تُطْلِقُ اللَّبُوسَ عَلَى الدُّرُوعِ كَمَا فِي الْآيَةِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
عَلَيْهَا أُسُودٌ ضَاوِيَاتٌ لَبُوسُهُمْ سَوَابِغُ بَيْضٍ لَا يُخَرِّقُهَا النَّبْلُ
فَقَوْلُهُ: «سَوَابِغُ» أَيْ: دُرُوعٌ سَوَابِغُ، وَقَوْلُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ
وَمُرَادُهُ بِاللَّبُوسِ الَّتِي عَبَّرَ عَنْهَا بِالسَّرَابِيلِ: الدُّرُوعُ. وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ اللَّبُوسَ أَيْضًا عَلَى جَمِيعِ السِّلَاحِ، دِرْعًا كَانَ أَوْ جَوْشَنًا أَوْ سَيْفًا أَوْ رُمْحًا. وَمِنْ إِطْلَاقِهِ عَلَى الرُّمْحِ قَوْلُ أَبِي كَبِيرٍ الْهُذَلِيِّ يَصِفُ رُمْحًا:
وَمَعِي لَبُوسٌ لِلْبَئِيسِ كَأَنَّهُ رَوْقٌ بِجَبْهَةِ ذِي نِعَاجٍ مُجْفِلِ
وَتُطْلِقُ اللَّبُوسَ أَيْضًا عَلَى كُلِّ مَا يُلْبَسُ، وَمِنْهُ قَوْلُ بَيْهَسٍ:
الْبَسْ لِكُلِّ حَالَةٍ لَبُوسَهَا إِمَّا نَعِيمَهَا وَإِمَّا بُوسَهَا
وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنَ الِامْتِنَانِ عَلَى الْخَلْقِ بِتَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ لِيَقِيَهُمْ بِهَا مِنْ بَأْسِ السِّلَاحِ تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي سُورَةِ «النَّحْلِ» فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ [١٦ ٨١].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ [٢١ ٨٠] الظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِفْهَامِ هُنَا يُرَادُ بِهَا الْأَمْرُ، وَمِنْ إِطْلَاقِ الِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى الْأَمْرِ فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ
233
تَعَالَى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [٥ ٩١] أَيِ: انْتَهُوا. وَلِذَا قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: انْتَهَيْنَا يَا رَبُّ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ الْآيَةَ [٣ ٢٠] أَيْ: أَسْلِمُوا. وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي فَنِّ الْمَعَانِي أَنَّ فِي الْمَعَانِي الَّتِي تُؤَدَّى بِصِيغَةِ الِاسْتِفْهَامِ: الْأَمْرُ، كَمَا ذَكَرْنَا.
وَقَوْلُهُ: شَاكِرُونَ شُكْرُ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ: هُوَ أَنْ يَسْتَعِينَ بِنِعَمِهِ عَلَى طَاعَتِهِ، وَشُكْرُ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ: هُوَ أَنْ يُثِيبَهُ الثَّوَابَ الْجَزِيلَ مِنْ عَمَلِهِ الْقَلِيلِ. وَمَادَّةُ «شَكَرَ» لَا تَتَعَدَّى غَالِبًا إِلَّا بِاللَّامِ، وَتَعْدِيَتُهَا بِنَفْسِهَا دُونَ اللَّامِ قَلِيلَةٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي نُخَيْلَةَ:
شَكَرْتُكَ إِنَّ الشُّكْرَ حَبْلٌ مَنِ الْتُّقَى وَمَا كُلُّ مَنْ أَوْلَيْتَهُ نِعْمَةً يَقْضِي
وَفِي قَوْلِهِ: لِتُحْصِنَكُمْ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ سَبْعِيَّةٌ: قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ مَا عَدَا ابْنَ عَامِرٍ وَعَاصِمًا لِيُحْصِنَكُمْ بِالْيَاءِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَضَمِيرُ الْفَاعِلِ عَائِدٌ إِلَى دَاوُدَ أَوْ إِلَى اللَّبُوسِ؛ لِأَنَّ تَذْكِيرَهَا بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَا يُلْبَسُ مِنَ الدُّرُوعِ جَائِزٌ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ لِتُحْصِنَكُمْ بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ، وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَضَمِيرُ الْفَاعِلِ رَاجِعٌ إِلَى اللَّبُوسِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ، أَوْ إِلَى الصَّنْعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: صَنْعَةَ لَبُوسٍ وَقَرَأَهُ شُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ لِنُحْصِنَكُمْ بِالنُّونِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعَظَمَةِ وَعَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ.
قَوْلُهُ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ [٢١ ٨١] مَعْطُوفٌ عَلَى مَعْمُولِ «وَسَخَّرْنَا»، فِي قَوْلِهِ: وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ [٢١ ٧٩] أَيْ: وَسَخَّرْنَا لِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ فِي حَالِ كَوْنِهَا عَاصِفَةً، أَيْ: شَدِيدَةَ الْهُبُوبِ. يُقَالُ: عَصَفَتِ الرِّيحُ أَيِ: اشْتَدَّتْ، فَهِيَ رِيحٌ عَاصِفٌ وَعَصُوفٌ، وَفِي لُغَةِ بَنِي أَسَدٍ (أَعْصَفَتْ) فَهِيَ مُعْصِفٌ وَمُعْصِفَةٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ شَوَاهِدِهِ الْعَرَبِيَّةِ فِي سُورَةِ (الْإِسْرَاءِ).
وَقَوْلُهُ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ أَيْ: تُطِيعُهُ وَتَجْرِي إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي يَأْمُرُهَا بِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ تَسْخِيرِ الرِّيحِ لِسُلَيْمَانَ، وَأَنَّهَا تَجْرِي بِأَمْرِهِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، وَزَادَ بَيَانَ قَدْرِ سُرْعَتِهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ
234
[٣٤ ١٢] وَقَوْلِهِ: فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [٣٨ ٣٦].
تَنْبِيهٌ
اعْلَمْ أَنَّ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرْنَا سُؤَالَيْنِ مَعْرُوفَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يُقَالَ: إِنَّ اللَّهَ وَصَفَ الرِّيحَ الْمَذْكُورَةَ هُنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» بِأَنَّهَا عَاصِفَةٌ، أَيْ: شَدِيدَةُ الْهُبُوبِ، وَوَصَفَهَا فِي سُورَةِ «ص» بِأَنَّهَا تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً، وَالْعَاصِفَةُ غَيْرُ الَّتِي تَجْرِي رُخَاءً.
وَالسُّؤَالُ الثَّانِي: هُوَ أَنَّهُ هُنَا فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» خَصَّ جَرْيَهَا بِهِ بِكَوْنِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكَ فِيهَا لِلْعَالَمِينَ، وَفِي سُورَةِ «ص» قَالَ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ [٣٨ ٣٦] وَقَوْلِهِ: حَيْثُ أَصَابَ يَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي الْأَمْكِنَةِ الَّتِي يُرِيدُ الذَّهَابَ إِلَيْهَا عَلَى الرِّيحِ. فَقَوْلُهُ: حَيْثُ أَصَابَ أَيْ: حَيْثُ أَرَادَ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَصَابَ الصَّوَابَ، وَأَخْطَأَ الْجَوَابَ، أَيْ: أَرَادَ الصَّوَابَ وَأَخْطَأَ الْجَوَابَ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَصَابَ الْكَلَامَ فَلَمْ يَسْتَطِعْ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ لَدَى الْمَفْصِلِ
قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ. وَعَنْ رُؤْبَةَ أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَصَدَاهُ لِيَسْأَلَاهُ عَنْ مَعْنَى «أَصَابَ»، فَخَرَجَ إِلَيْهِمَا فَقَالَ: أَيْنَ تُصِيبَانِ؟ فَقَالَا: هَذِهِ طِلْبَتُنَا، وَرَجَعَا.
أَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الْأَوَّلِ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهَا عَاصِفَةٌ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَلَيِّنَةٌ رُخَاءٌ فِي بَعْضِهَا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ، كَأَنْ تَعْصِفَ وَيَشْتَدَّ هُبُوبُهَا فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ حَتَّى تَرْفَعَ الْبِسَاطَ الَّذِي عَلَيْهِ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ، فَإِذَا ارْتَفَعَ سَارَتْ بِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ.
الْجَوَابُ الثَّانِي: هُوَ مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: فَإِنْ قُلْتَ: وُصِفَتْ هَذِهِ الرِّيحُ بِالْعَصْفِ تَارَةً وَبِالرُّخَاءِ أُخْرَى، فَمَا التَّوْفِيقُ بَيْنَهُمَا؟ قُلْتُ: كَانَتْ فِي نَفْسِهَا رَخِيَّةً طَيِّبَةً كَالنَّسِيمِ، فَإِذَا مَرَّتْ بِكُرْسِيِّهِ أَبْعَدَتْ بِهِ فِي مُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، عَلَى مَا قَالَ: غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ، فَكَانَ جَمْعُهَا بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ: أَنْ تَكُونَ رُخَاءً فِي نَفْسِهَا، وَعَاصِفَةً فِي عَمَلِهَا، مَعَ طَاعَتِهَا لِسُلَيْمَانَ، وَهُبُوبِهَا عَلَى حَسَبِ مَا يُرِيدُ وَيَحْتَكِمُ. اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ السُّؤَالِ الثَّانِي: فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: حَيْثُ أَصَابَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَجْرِي بِأَمْرِهِ حَيْثُ أَرَادَ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ. وَقَوْلِهِ: تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا
235
[٣٨ ٣٦] لِأَنَّ مَسْكَنَهُ فِيهَا وَهِيَ الشَّامُ، فَتَرُدُّهُ إِلَى الشَّامِ. وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ: حَيْثُ أَصَابَ فِي حَالَةِ الذَّهَابِ. وَقَوْلِهِ: إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا فِي حَالَةِ الْإِيَابِ إِلَى مَحَلِّ السُّكْنَى. فَانْفَكَّتِ الْجِهَةُ فَزَالَ الْإِشْكَالُ. وَقَدْ قَالَ نَابِغَةُ ذُبْيَانَ:
إِلَّا سُلَيْمَانُ إِذْ قَالَ الْإِلَهُ لَهُ قُمْ فِي الْبَرِّيَّةِ فَاحْدُدْهَا عَنِ الْفَنَدِ
وَخَيِّسِ الْجِنَّ إِنِّي قَدْ أَذِنْتُ لَهُمْ يَبْنُونَ تَدْمُرَ بِالصِّفَاحِ وَالْعَمَدِ
وَتَدْمُرُ: بَلَدٌ بِالشَّامِ. وَذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الشَّامَ هُوَ مَحَلُّ سُكْنَاهُ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ أَنَّهُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَطْفًا عَلَى مَعْمُولِ سَخَّرْنَا أَيْ: وَسَخَّرْنَا لَهُ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ. وَقِيلَ: «مِنْ» مُبْتَدَأٌ، وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ قَبْلَهُ خَبَرُهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّهُ سَخَّرَ لِسُلَيْمَانَ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ، أَيْ: يَغُوصُونَ لَهُ فِي الْبِحَارِ فَيَسْتَخْرِجُونَ لَهُ مِنْهَا الْجَوَاهِرَ النَّفِيسَةَ، كَاللُّؤْلُؤِ وَالْمَرْجَانِ. وَالْغَوْصُ: النُّزُولُ تَحْتَ الْمَاءِ، وَالْغَوَّاصُ: الَّذِي يَغُوصُ الْبَحْرَ لِيَسْتَخْرِجَ مِنْهُ اللُّؤْلُؤَ وَنَحْوَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
أَوْ دُرَّةٌ صَدَفِيَّةٌ غَوَّاصُهَا بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ
وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَيْضًا أَنَّ الشَّيَاطِينَ الْمُسَخَّرِينَ لَهُ يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ، أَيْ: سِوَى ذَلِكَ الْغَوْصِ الْمَذْكُورِ، أَيْ: كَبِنَاءِ الْمَدَائِنِ، وَالْقُصُورِ، وَعَمَلِ الْمَحَارِيبِ، وَالتَّمَاثِيلِ، وَالْجِفَانِ، وَالْقُدُورِ الرَّاسِيَاتِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنِ اخْتِرَاعِ الصَّنَائِعِ الْعَجِيبَةِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ أَيْ: مِنْ أَنْ يَزِيغُوا عَنْ أَمْرِهِ، أَوْ يُبَدِّلُوا أَوْ يُغَيِّرُوا، أَوْ يُوجَدَ مِنْهُمْ فَسَادٌ فِيمَا هُمْ مُسَخَّرُونَ فِيهِ. وَهَذِهِ الْمَسَائِلُ الثَّلَاثُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ جَاءَتْ مُبَيَّنَةً فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي الْغَوْصِ وَالْعَمَلِ سَوَاءً: وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ الْآيَةَ [٣٨ ٣٧] وَقَوْلِهِ فِي الْعَمَلِ غَيْرِ الْغَوْصِ: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ [٣٤ ١٢] وَقَوْلِهِ: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ [٣٤ ١٣] وَكَقَوْلِهِ فِي حِفْظِهِمْ مِنْ أَنْ يَزِيغُوا عَنْ أَمْرِهِ: وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ [٣٤ ١٢]
وَقَوْلِهِ: وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ [٣٨ ٣٨].
وَصِفَةُ الْبِسَاطِ، وَصِفَةُ حَمْلِ الرِّيحِ لَهُ، وَصِفَةُ جُنُودِ سُلَيْمَانَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ كُلُّ ذَلِكَ مَذْكُورٌ بِكَثْرَةٍ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ، وَنَحْنُ لَمْ نُطِلْ بِهِ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْكَلَامِ الْمُبَارَكِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ.
الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَيُّوبَ مَنْصُوبٌ بِـ «اذْكُرْ» مُقَدَّرًا، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي «ص» : وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ [٣٨ ٤١].
وَقَدْ أَمَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَذْكُرَ أَيُّوبَ حِينَ نَادَى رَبَّهُ قَائِلًا: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [٢١ ٨٣] وَأَنَّ رَبَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ فَكَشَفَ عَنْهُ جَمِيعَ مَا بِهِ مِنَ الضُّرِّ، وَأَنَّهُ آتَاهُ أَهْلَهُ، وَآتَاهُ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ - جَلَّ وَعَلَا - بِهِ وَتَذْكِيرًا لِلْعَابِدِينَ، أَيِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ؛ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِالذِّكْرَى.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ هُنَا ذَكَرَهُ أَيْضًا فِي سُورَةِ «ص» فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ إِلَى قَوْلِهِ: لِأُولِي الْأَلْبَابِ [٣٨ ٤١ - ٤٣] وَالضُّرُّ الَّذِي مَسَّ أَيُّوبَ، وَنَادَى رَبَّهُ لِيَكْشِفَهُ عَنْهُ كَانَ بَلَاءً أَصَابَهُ فِي بَدَنِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ. وَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِذْهَابَ الضُّرِّ عَنْهُ أَمَرَهُ أَنْ يَرْكُضَ بِرِجْلِهِ فَفَعَلَ، فَنَبَعَتْ لَهُ عَيْنُ مَاءٍ، فَاغْتَسَلَ مِنْهَا، فَزَالَ كُلُّ مَا بِظَاهِرِ بَدَنِهِ مِنَ الضُّرِّ، وَشَرِبَ مِنْهَا فَزَالَ كُلُّ مَا بِبَاطِنِهِ. كَمَا أَشَارَ تَعَالَى إِلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ [٣٨ ٤٢].
وَمَا ذَكَرَهُ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» مِنْ أَنَّهُ آتَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْهُ وَذِكْرَى لِمَنْ يَعْبُدُهُ بَيَّنَهُ فِي «ص» فِي قَوْلِهِ: وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [٣٨ ٤٣] وَقَوْلِهِ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» : وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ [٢١ ٨٤] مَعَ قَوْلِهِ فِي «ص»، وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ [٣٨ ٤٣] فِيهِ الدَّلَالَةُ الْوَاضِحَةُ عَلَى أَنَّ أَصْحَابَ الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ مِنْ شَوَائِبِ الِاخْتِلَالِ هُمُ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَيُطِيعُونَهُ. وَهَذَا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ مَنْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِأَعْقَلِ النَّاسِ أَنَّ تِلْكَ الْوَصِيَّةَ تُصْرَفُ لِأَتْقَى النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ طَاعَةً لِلَّهِ تَعَالَى؛ لِأَنَّهُمْ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ، أَيِ الْعُقُولِ
237
الصَّحِيحَةِ السَّالِمَةِ مِنَ الِاخْتِلَالِ.
تَنْبِيهٌ
فِي هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ سُؤَالٌ مَعْرُوفٌ، وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ قَوْلَ أَيُّوبَ الْمَذْكُورَ فِي «الْأَنْبِيَاءِ» فِي قَوْلِهِ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَفِي «ص» فِي قَوْلِهِ: إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ ضَجِرَ مِنَ الْمَرَضِ فَشَكَا مِنْهُ، مَعَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ [٣٨ ٤٤] يَدُلُّ عَلَى كَمَالِ صَبْرِهِ
وَالْجَوَابُ أَنَّ مَا صَدَرَ مِنْ أَيُّوبَ دُعَاءٌ وَإِظْهَارُ فَقْرٍ وَحَاجَةٍ إِلَى رَبِّهِ، لَا شَكْوَى وَلَا جَزَعٌ.
قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَلَمْ يَكُنْ قَوْلُهُ: مَسَّنِيَ الضُّرُّ جَزَعًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا بَلْ كَانَ ذَلِكَ دُعَاءً مِنْهُ. وَالْجَزَعُ فِي الشَّكْوَى إِلَى الْخَلْقِ لَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالدُّعَاءُ لَا يُنَافِي الرِّضَا. قَالَ الثَّعْلَبِيُّ: سَمِعْتُ أُسْتَاذَنَا أَبَا الْقَاسِمِ بْنَ حَبِيبٍ يَقُولُ: حَضَرْتُ مَجْلِسًا غَاصًّا بِالْفُقَهَاءِ وَالْأُدَبَاءِ فِي دَارِ السُّلْطَانِ، فَسُئِلْتُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْدَ اجْتِمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ قَوْلَ أَيُّوبَ كَانَ شِكَايَةً وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا فَقُلْتُ: لَيْسَ هَذَا شِكَايَةً، وَإِنَّمَا كَانَ دُعَاءً، بَيَانُهُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَالْإِجَابَةُ تَتَعَقَّبُ الدُّعَاءَ لَا الِاشْتِكَاءَ. فَاسْتَحْسَنُوهُ وَارْتَضَوْهُ. وَسُئِلَ الْجُنَيْدُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَقَالَ: عَرَّفَهُ فَاقَةَ السُّؤَالِ لِيَمُنَّ عَلَيْهِ بِكَرَمِ النَّوَالِ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَدُعَاءُ أَيُّوبَ الْمَذْكُورُ ذَكَرَهُ اللَّهُ فِي سُورَةِ «الْأَنْبِيَاءِ» مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْنَدَ مَسُّ الضُّرِّ أَيُّوبَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ وَذَكَرَهُ فِي سُورَةِ «ص» وَأَسْنَدَ ذَلِكَ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي قَوْلِهِ: أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ وَالنُّصْبُ عَلَى جَمِيعِ الْقِرَاءَاتِ مَعْنَاهُ: التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ، وَالْعَذَابُ: الْأَلَمُ. وَفِي نِسْبَةِ مَا أَصَابَهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْأَلَمِ إِلَى الشَّيْطَانِ فِي سُورَةِ «ص» هَذِهِ إِشْكَالٌ قَوِيٌّ مَعْرُوفٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ فِي آيَاتٍ مِنْ كِتَابِهِ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى مِثْلِ أَيُّوبَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ الْكِرَامِ، كَقَوْلِهِ: إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [١٦ ٩٩ - ١٠٠] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَا كَانَ لَهُ
238
عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ الْآيَةَ [٣٤ ٢١] وَقَوْلِهِ تَعَالَى مُقَرِّرًا لَهُ: وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [١٤ ٢٢] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ [١٥ ٤٢].
وَلِلْعُلَمَاءِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَجْوِبَةٌ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ:
فَإِنْ قُلْتَ: لِمَ نَسَبَهُ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَلِّطَهُ عَلَى أَنْبِيَائِهِ لِيَقْضِيَ مِنْ إِتْعَابِهِمْ وَتَعْذِيبِهِمْ وَطَرَهُ، وَلَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَدَعْ صَالِحًا إِلَّا وَقَدْ نَكَبَهُ وَأَهْلَكَهُ، وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ لَا سُلْطَانَ لَهُ إِلَّا الْوَسْوَسَةَ فَحَسْبُ؟
قُلْتُ: لَمَّا كَانَتْ وَسْوَسَتُهُ إِلَيْهِ وَطَاعَتُهُ لَهُ فِيمَا وَسْوَسَ سَبَبًا فِيمَا مَسَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنَ النُّصْبِ وَالْعَذَابِ نَسَبَهُ إِلَيْهِ، وَقَدْ رَاعَى الْأَدَبَ فِي ذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَنْسُبْهُ إِلَى اللَّهِ فِي دُعَائِهِ، مَعَ أَنَّهُ فَاعِلُهُ، وَلَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا هُوَ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَا كَانَ يُوَسْوِسُ بِهِ إِلَيْهِ فِي مَرَضِهِ مِنْ تَعْظِيمِ مَا نَزَلَ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَيُغْرِيهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَالْجَزَعِ، فَالْتَجَأَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي أَنْ يَكْفِيَهُ ذَلِكَ بِكَشْفِ الْبَلَاءِ، أَوْ بِالتَّوْفِيقِ فِي دَفْعِهِ وَرَدِّهِ بِالصَّبْرِ الْجَمِيلِ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ كَانَ يَعُودُهُ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَارْتَدَّ أَحَدُهُمْ فَسَأَلَ عَنْهُ، فَقِيلَ: أَلْقَى إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ أَنَّ اللَّهَ لَا يَبْتَلِي الْأَنْبِيَاءَ الصَّالِحِينَ. وَذُكِرَ فِي سَبَبِ بَلَائِهِ أَنَّ رَجُلًا اسْتَغَاثَهُ عَلَى ظَالِمٍ فَلَمْ يُغِثْهُ. وَقِيلَ: كَانَتْ مَوَاشِيهِ فِي نَاحِيَةِ مَلِكٍ كَافِرٍ فَدَاهَنَهُ وَلَمْ يَغْزُهُ. وَقِيلَ. أُعْجِبَ بِكَثْرَةِ مَالِهِ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَمِنْهَا مَا ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ أَنَّ اللَّهَ سَلَّطَ الشَّيْطَانَ عَلَى مَالِهِ وَأَهْلِهِ ابْتِلَاءً لِأَيُّوبَ، فَأَهْلَكَ الشَّيْطَانُ مَالَهُ وَوَلَدَهُ، ثُمَّ سَلَّطَهُ عَلَى بَدَنِهِ ابْتِلَاءً لَهُ، فَنَفَخَ فِي جَسَدِهِ نَفْخَةً اشْتَعَلَ مِنْهَا، فَصَارَ فِي جَسَدِهِ ثَآلِيلُ، فَحَكَّهَا بِأَظَافِرِهِ حَتَّى دَمِيَتْ، ثُمَّ بِالْفَخَّارِ حَتَّى تَسَاقَطَ لَحْمُهُ، وَعَصَمَ اللَّهُ قَلْبَهُ وَلِسَانَهُ (وَغَالِبُ ذَلِكَ مِنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ) وَتَسْلِيطُهُ لِلِابْتِلَاءِ عَلَى جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ مُمْكِنٌ، وَهُوَ أَقْرَبُ مِنْ تَسْلِيطِهِ عَلَيْهِ بِحَمْلِهِ عَلَى أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَنْبَغِي، كَمُدَاهَنَةِ الْمَلِكِ الْمَذْكُورِ، وَعَدَمِ إِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُفَسِّرُونَ. وَقَدْ ذَكَرُوا هُنَا قِصَّةً طَوِيلَةً تَتَضَمَّنُ الْبَلَاءَ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ، وَقَدْرَ مُدَّتَهُ (وَكُلُّ ذَلِكَ مِنِ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ) وَقَدْ ذَكَرْنَا هُنَا قَلِيلًا.
وَغَايَةُ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أَنَّ اللَّهَ ابْتَلَى نَبِيَّهُ أَيُّوبَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنَّهُ نَادَاهُ فَاسْتَجَابَ لَهُ وَكَشَفَ عَنْهُ كُلَّ ضُرٍّ، وَوَهَبَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ، وَأَنَّ أَيُّوبَ نَسَبَ
239
ذَلِكَ فِي «ص» إِلَى الشَّيْطَانِ. وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ سَلَّطَهُ اللَّهُ عَلَى جَسَدِهِ وَمَالِهِ وَأَهْلِهِ ابْتِلَاءً لِيَظْهَرَ صَبْرُهُ الْجَمِيلُ، وَتَكُونَ لَهُ الْعَافِيَةُ الْحَمِيدَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَيَرْجِعَ لَهُ كُلُّ مَا أُصِيبَ فِيهِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ الشَّيْطَانَ لَا سُلْطَانَ لَهُ عَلَى مِثْلِ أَيُّوبَ؛ لِأَنَّ التَّسْلِيطَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْجَسَدِ مَنْ جِنْسِ الْأَسْبَابِ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْهَا الْأَعْرَاضُ الْبَشَرِيَّةُ كَالْمَرَضِ، وَذَلِكَ يَقَعُ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَإِنَّهُمْ يُصِيبُهُمُ الْمَرَضُ، وَمَوْتُ الْأَهْلِ، وَهَلَاكُ الْمَالِ لِأَسْبَابٍ مُتَنَوِّعَةٍ. وَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةُ تِلْكَ الْأَسْبَابِ تَسْلِيطَ الشَّيْطَانِ عَلَى ذَلِكَ لِلِابْتِلَاءِ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا جَوَازَ وُقُوعِ الْأَمْرَاضِ، وَالتَّأْثِيرَاتِ الْبَشَرِيَّةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي سُورَةِ «طه» وَقَوْلُ اللَّهِ لِنَبِيِّهِ أَيُّوبَ فِي سُورَةِ «ص» : وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ [٣٨ ٤٤] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهِ: إِنَّهُ حَلَفَ فِي مَرَضِهِ لَيَضْرِبَنَّ زَوْجَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا فَيَضْرِبَهَا بِهِ لِيَخْرُجَ مِنْ يَمِينِهِ، وَالضِّغْثُ: الْحُزْمَةُ الصَّغِيرَةُ مِنْ حَشِيشٍ أَوْ رَيْحَانٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَأْخُذُ حُزْمَةً فِيهَا مِائَةُ عُودٍ، فَيَضْرِبُهَا بِهَا ضَرْبَةً وَاحِدَةً، فَيَخْرُجُ بِذَلِكَ مِنْ يَمِينِهِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» الِاسْتِدْلَالَ بِآيَةِ وَلَا تَحْنَثْ [٣٨ ٤٤] عَلَى أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الْمُتَأَخِّرَ لَا يُفِيدُ؛ إِذْ لَوْ كَانَ يُفِيدُ لِقَالَ اللَّهُ لِأَيُّوبَ: قُلْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ لِيَكُونَ ذَلِكَ اسْتِثْنَاءً فِي يَمِينِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ.
أَيْ: وَاذْكُرْ ذَا النُّونِ. وَالنُّونُ: الْحُوتُ. «وَذَا» بِمَعْنَى صَاحِبٍ. فَقَوْلُهُ: وَذَا النُّونِ مَعْنَاهُ: صَاحِبُ الْحُوتِ. كَمَا صَرَّحَ اللَّهُ بِذَلِكَ فِي «الْقَلَمِ» فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ الْآيَةَ [٦٨ ٤٨]. وَإِنَّمَا أَضَافَهُ إِلَى الْحُوتِ لِأَنَّهُ الْتَقَمَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ [٣٧ ١٤٢].
وَقَوْلُهُ: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [٢١ ٨٧] فِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لَا يَكْذِّبُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَعْنَى لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ أَيْ: لَنْ نُضَيِّقَ عَلَيْهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَمِنْ إِطْلَاقِ «قَدَرَ» بِمَعْنَى «ضَيَّقَ» فِي الْقُرْآنِ قَوْلُهُ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ [١٣ ٢٦] أَيْ: وَيُضَيِّقُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ
240
وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ الْآيَةَ [٦٥ ٧]. فَقَوْلُهُ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ [٦٥ ٧] أَيْ: وَمَنْ ضُيِّقَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [٢١ ٨٧] لَنْ نَقْضِيَ عَلَيْهِ ذَلِكَ. وَعَلَيْهِ فَهُوَ مِنَ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ. «وَقَدَرَ» بِالتَّخْفِيفِ تَأْتِي بِمَعْنَى «قَدَّرَ» الْمُضَعَّفَةِ: وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ [٥٤ ١٢] أَيْ: قَدَّرَهُ اللَّهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ - وَأَنْشَدَهُ ثَعْلَبٌ شَاهِدًا لِذَلِكَ -:
فَلَيْسَتْ عَشِيَاتُ الْحِمَى بِرَوَاجِعٍ لَنَا أَبَدًا مَا أَوْرَقَ السَّلِمُ النَّضِرُ
وَلَا عَائِدٌ ذَاكَ الزَّمَانُ الَّذِي مَضَى تَبَارَكْتَ مَا تَقْدِرُ يَقَعُ لَكَ الشُّكْرُ
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: قَدَرَ اللَّهُ لَكَ الْخَيْرَ يَقْدِرُهُ قَدْرًا، كَضَرَبَ يَضْرِبُ، وَنَصَرَ يَنْصُرُ، بِمَعْنَى قَدَّرَهُ لَكَ تَقْدِيرًا. وَمِنْهُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ «لَيْلَةُ الْقَدْرِ» ؛ لِأَنَّ اللَّهَ يُقَدِّرُ فِيهَا الْأَشْيَاءَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [٤٤ ٤] وَالْقَدَرُ بِالْفَتْحِ، وَالْقَدْرُ بِالسُّكُونِ: مَا يُقَدِّرُهُ اللَّهُ مِنَ الْقَضَاءِ. وَمِنْهُ قَوْلُ هُدْبَةَ بْنِ الْخَشْرَمِ:
أَلَا يَا لَقَوْمِي لِلنَّوَائِبِ وَالْقَدَرِ وَلِلْأَمْرِ يَأْتِي الْمَرْءُ مِنْ حَيْثُ لَا يَدْرِي
أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ [٢١ ٨٧] مِنَ الْقُدْرَةِ فَهُوَ قَوْلٌ بَاطِلٌ بِلَا شَكٍّ؛ لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُونُسَ لَا يَشُكُّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، كَمَا لَا يَخْفَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مُغَاضِبًا أَيْ: فِي حَالِ كَوْنِهِ مُغَاضِبًا لِقَوْمِهِ. وَمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ فِيهِ: أَنَّهُ أَغْضَبَهُمْ بِمُفَارَقَتِهِ وَتَخَوُّفِهِمْ حُلُولَ الْعَذَابِ بِهِمْ، وَأَغْضَبُوهُ حِينَ دَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ مُدَّةً فَلَمْ يُجِيبُوهُ، فَأَوْعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ. ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِهِمْ عَلَى عَادَةِ الْأَنْبِيَاءِ عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ فِي الْخُرُوجِ. قَالَهُ أَبُو حَيَّانَ فِي الْبَحْرِ. وَقَالَ أَيْضًا: وَقِيلَ مَعْنَى «مُغَاضِبًا» غَضْبَانُ، وَهُوَ مِنَ الْمُفَاعَلَةِ الَّتِي لَا تَقْتَضِي اشْتِرَاكًا نَحْوَ عَاقَبْتُ اللِّصَّ، وَسَافَرْتُ. اهـ.
وَاعْلَمْ أَنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ مُغَاضِبًا أَيْ: مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَاخْتَارَهُ الطَّبَرِيُّ، وَالْقُتْبِيُّ، وَاسْتَحْسَنَهُ الْمَهْدَوِيُّ - يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَعْنَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، أَيْ: مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا: وَقَالَ النَّحَّاسُ: وَرُبَّمَا أَنْكَرَ هَذَا مَنْ لَا يَعْرِفُ اللُّغَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ صَحِيحٌ، وَالْمَعْنَى: مُغَاضِبًا مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ كَمَا تَقُولُ: غَضِبْتُ لَكَ أَيْ: مِنْ
241
أَجْلِكَ، وَالْمُؤْمِنُ يَغْضَبُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا عُصِيَ. انْتَهَى مِنْهُ. وَالْمَعْنَى عَلَى مَا ذَكَرَ: مُغَاضِبًا قَوْمَهُ مِنْ أَجْلِ رَبِّهِ، أَيْ: مِنْ أَجْلِ كُفْرِهِمْ بِهِ وَعِصْيَانِهِمْ لَهُ. وَغَيْرُ هَذَا لَا يَصِحُّ فِي الْآيَةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ. أَيْ: ظُلْمَةِ الْبَحْرِ، وَظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَظُلْمَةِ بَطْنِ الْحُوتِ. «وَأَنْ» فِي قَوْلِهِ: أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ [٢١ ٨٧] مُفَسِّرَةٌ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ مَعْنَى «أَنْ لَا إِلَهَ»، وَمَعْنَى «سُبْحَانَكَ»، وَمَعْنَى الظُّلْمِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
وَقَوْلُهُ: فَاسْتَجَبْنَا لَهُ أَيْ: أَجَبْنَاهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ الَّذِي هُوَ فِيهِ فِي بَطْنِ الْحُوتِ، وَإِطْلَاقُ «اسْتَجَابَ» بِمَعْنَى أَجَابَ مَعْرُوفٌ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَوْلُ كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
وَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ نِدَاءِ نَبِيِّهِ يُونُسَ فِي تِلْكَ الظُّلُمَاتِ هَذَا النِّدَاءَ الْعَظِيمَ، وَأَنَّ اللَّهَ اسْتَجَابَ لَهُ وَنَجَّاهُ مِنَ الْغَمِّ - أَوْضَحَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ.
وَبَيَّنَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُسَبِّحْ هَذَا التَّسْبِيحَ الْعَظِيمَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِ الْحُوتِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ. وَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ طَرَحَهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ.
وَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ خَرَجَ بِغَيْرِ إِذْنٍ كَخُرُوجِ الْعَبْدِ الْآبِقِ، وَأَنَّهُمُ اقْتَرَعُوا عَلَى مَنْ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُلْقَى فِيهِ.
وَبَيَّنَ فِي بَعْضِهَا أَنَّ اللَّهَ تَدَارَكَهُ بِرَحْمَتِهِ. وَلَوْ لَمْ يَتَدَارَكْهُ بِهَا لِنُبِذَ بِالْعَرَاءِ فِي حَالِ كَوْنِهِ مَذْمُومًا، وَلَكِنَّهُ تَدَارَكَهُ بِهَا فَنُبِذَ غَيْرَ مَذْمُومٍ، قَالَ تَعَالَى فِي «الصَّافَّاتِ» : وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ الْآيَةَ [٣٧ ١٣٩ - ١٤٨]. فَقَوْلُهُ فِي آيَاتِ «الصَّافَّاتِ» الْمَذْكُورَةِ: إِذْ أَبَقَ [٣٧ ١٤٠] أَيْ: حِينَ أَبَقَ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: عَبْدٌ آبِقٌ؛ لِأَنَّ يُونُسَ خَرَجَ قَبْلَ أَنْ يَأْذَنَ لَهُ رَبُّهُ، وَلِذَلِكَ أُطْلِقَ عَلَيْهِ اسْمُ الْإِبَاقِ وَاسْتِحْقَاقِ الْمَلَامَةِ فِي قَوْلِهِ: وَهُوَ مُلِيمٌ [٣٧ ١٤٢] لِأَنَّ الْمُلِيمَ اسْمُ فَاعِلِ «أَلَامَ» إِذَا فَعَلَ مَا يَسْتَوْجِبُ
242
الْمَلَامَ. وَقَوْلِهِ: فَسَاهَمَ أَيْ: قَارَعَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ وَضَعَ مَعَ أَصْحَابِ السَّفِينَةِ سِهَامَ الْقُرْعَةِ لِيَخْرُجَ سَهْمُ مَنْ يُلْقَى فِي الْبَحْرِ. وَقَوْلِهِ: فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ أَيِ الْمَغْلُوبِينَ فِي الْقُرْعَةِ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ لَهُ السَّهْمُ الَّذِي يُلْقَى صَاحِبُهُ فِي الْبَحْرِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
قَتَلْنَا الْمُدْحَضِينَ بِكُلِّ فَجٍّ فَقَدْ قَرَّتْ بِقَتْلِهِمُ الْعُيُونُ
وَقَوْلُهُ: فَنَبَذْنَاهُ أَيْ: طَرَحْنَاهُ، بِأَنْ أَمَرْنَا الْحُوتَ أَنْ يُلْقِيَهُ بِالسَّاحِلِ. وَالْعَرَاءُ: الصَّحْرَاءُ. وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الْعَرَاءُ: الْفَضَاءُ أَوِ الْمُتَّسَعُ مِنَ الْأَرْضِ، أَوِ الْمَكَانُ الْخَالِي، أَوْ وَجْهُ الْأَرْضِ - رَاجِعٌ إِلَى ذَلِكَ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ خُزَاعَةَ:
وَرَفَعْتُ رِجْلًا لَا أَخَافُ عِثَارَهَا وَنَبَذْتُ بِالْبَلَدِ الْعَرَاءِ ثِيَابِي
وَشَجَرَةُ الْيَقْطِينِ: هِيَ الدُّبَّاءُ. وَقَوْلِهِ: وَهُوَ سَقِيمٌ أَيْ: مَرِيضٌ لِمَا أَصَابَهُ مِنِ الْتِقَامِ الْحُوتِ إِيَّاهُ، وَقَالَ تَعَالَى فِي «الْقَلَمِ» : وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [٦٨ ٤٨ - ٥٠] فَقَوْلُهُ فِي آيَةِ «الْقَلَمِ» هَذِهِ: إِذْ نَادَى [٦٨ ٤٨] أَيْ: نَادَى أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، وَقَوْلِهِ: وَهُوَ مَكْظُومٌ [٦ ٤٨] أَيْ: مَمْلُوءٌ غَمًّا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ [٢١ ٨٨] وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. وَعَنْ عَطَاءٍ وَأَبِي مَالِكٍ مَكْظُومٌ: مَمْلُوءٌ كَرْبًا، قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ أَنَّ الْغَمَّ فِي الْقَلْبِ، وَالْكَرْبَ فِي الْأَنْفَاسِ. وَقِيلَ مَكْظُومٌ مَحْبُوسٌ. وَالْكَظْمُ: الْحَبْسُ. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: كَظَمَ غَيْظَهُ، أَيْ: حَبَسَ غَضَبَهُ، قَالَهُ ابْنُ بَحْرٍ. وَقِيلَ: الْمَكْظُومُ الْمَأْخُوذُ بِكَظْمِهِ، وَهُوَ مَجْرَى النَّفَسِ، قَالَهُ الْمُبَرِّدُ. انْتَهَى مِنَ الْقُرْطُبِيِّ.
وَآيَةُ «الْقَلَمِ» الْمَذْكُورَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ يُونُسَ - عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَجَّلَ بِالذَّهَابِ وَمُغَاضَبَةِ قَوْمِهِ، وَلَمْ يَصْبِرِ الصَّبْرَ اللَّازِمَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ مُخَاطِبًا نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ الْآيَةَ [٦٨ ٤٨]. فَإِنَّ أَمْرَهُ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالصَّبْرِ وَنَهْيَهُ إِيَّاهُ أَنْ يَكُونَ كَصَاحِبِ الْحُوتِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ صَاحِبَ الْحُوتِ لَمْ يَصْبِرْ كَمَا يَنْبَغِي. وَقِصَّةُ يُونُسَ وَسَبَبُ ذَهَابِهِ وَمُغَاضَبَتِهِ قَوْمَهُ مَشْهُورَةٌ مَذْكُورَةٌ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ. وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «يُونُسَ» أَنَّ قَوْمَ يُونُسَ آمَنُوا فَنَفَعَهُمْ إِيمَانُهُمْ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ سَائِرِ الْقُرَى الَّتِي بُعِثَتْ إِلَيْهِمُ الرُّسُلُ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا
243
قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [١٠ ٩٨].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُصِيبُهُ الْكَرْبُ وَالْغَمُّ فَيَبْتَهِلُ إِلَى اللَّهِ دَاعِيًا بِإِخْلَاصٍ إِلَّا نَجَّاهُ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ الْغَمِّ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا دَعَا بِدُعَاءِ يُونُسَ هَذَا. وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي دُعَاءِ يُونُسَ الْمَذْكُورِ: «لَمْ يَدْعُ بِهِ مُسْلِمٌ رَبَّهُ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ لَهُ» رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَغَيْرُهُمْ. وَالْآيَةُ الْكَرِيمَةُ شَاهِدَةٌ لِهَذَا الْحَدِيثِ شَهَادَةً قَوِيَّةً كَمَا تَرَى؛ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ أَنْجَى يُونُسَ شَبَّهَ بِذَلِكَ إِنْجَاءَهُ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَوْلِهِ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ صِيغَةٌ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ كَمَا تَرَى. وَقَرَأَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ عَنْ عَاصِمٍ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ بِنُونَيْنِ أُولَاهُمَا مَضْمُومَةٌ، وَالثَّانِيَةُ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا جِيمٌ مَكْسُورَةٌ مُخَفِّفَةٌ فَيَاءٌ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ مُضَارِعُ «أَنْجَى» الرُّبَاعِيِّ عَلَى صِيغَةِ أَفْعَلَ، وَالنُّونُ الْأُولَى دَالَّةٌ عَلَى الْعَظَمَةِ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَشُعْبَةُ عَنْ عَاصِمٍ «وَكَذَلِكَ نُجِّي الْمُؤْمِنِينَ» بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مَضْمُومَةٍ بَعْدَهَا جِيمٌ مَكْسُورَةٌ مُشَدَّدَةٌ فَيَاءٌ سَاكِنَةٌ. وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِصِيغَةِ فِعْلٍ مَاضٍ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ مَنْ نَجَّى الْمُضَعَّفَةِ عَلَى وَزْنِ «فَعَّلَ» بِالتَّضْعِيفِ. وَفِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ إِشْكَالٌ مَعْرُوفٌ. أَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَهِيَ مِنْ جِهَةِ الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ وَاضِحَةٌ لَا إِشْكَالَ فِيهَا، وَلَكِنْ فِيهَا إِشْكَالٌ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ: أَنَّ هَذَا الْحَرْفَ إِنَّمَا كَتَبَهُ الصَّحَابَةُ فِي الْمَصَاحِفِ الْعُثْمَانِيَّةِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ، فَيُقَالُ: كَيْفَ تُقْرَأُ بِنُونَيْنِ وَهِيَ فِي الْمَصَاحِفِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ؟ وَأَمَّا عَلَى قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ بِالْإِشْكَالِ مِنْ جِهَةِ الْقَوَاعِدِ الْعَرَبِيَّةِ؛ لِأَنَّ نَجَّى عَلَى قِرَاءَتِهِمَا بِصِيغَةِ مَاضٍ مَبْنِيٍّ لِلْمَفْعُولِ، فَالْقِيَاسُ رَفْعُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَهُ عَلَى أَنَّهُ نَائِبُ الْفَاعِلِ، وَكَذَلِكَ الْقِيَاسُ فَتْحُ يَاءِ «نَجَّى» لَا إِسْكَانُهَا.
وَأَجَابَ الْعُلَمَاءُ عَنْ هَذَا بِأَجْوِبَةٍ، مِنْهَا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَأَشَارَ إِلَيْهِ ابْنُ هِشَامٍ فِي بَابِ الْإِدْغَامِ مِنْ تَوْضِيحِهِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ «نُنَجِّي» بِفَتْحِ النُّونِ الثَّانِيَةِ مُضَارِعُ نَجَّى مُضَعَّفًا، فَحُذِفَتِ النُّونُ الثَّانِيَةُ تَخْفِيفًا. أَوْ نُنْجِي بِسُكُونِهَا مُضَارِعُ «أَنْجَى» وَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِي الْجِيمِ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْجَهْرِ، وَالِانْفِتَاحِ، وَالتَّوَسُّطِ بَيْنَ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، كَمَا أُدْغِمَتْ فِي «إِجَّاصَةِ وَإِجَّانَةِ» بِتَشْدِيدِ الْجِيمِ فِيهِمَا، وَالْأَصْلُ «إِنْجَاصَةٌ وَإِنْجَانَةٌ» فَأُدْغِمَتِ النُّونُ فِيهِمَا. وَالْإِجَّاصَةُ: وَاحِدَةُ الْإِجَّاصِ، قَالَ فِي الْقَامُوسِ: الْإِجَّاصُ بِالْكَسْرِ مُشَدَّدًا: ثَمَرٌ مَعْرُوفٌ، دَخِيلٌ لِأَنَّ الْجِيمَ وَالصَّادَ لَا يَجْتَمِعَانِ فِي كَلِمَةٍ، الْوَاحِدَةُ بِهَاءٍ. وَلَا
244
تَقُلْ إِنْجَاصٌ، أَوْ لُغَيَّةٌ. اهـ. وَالْإِجَّانَةُ وَاحِدَةُ الْأَجَاجِينِ. قَالَ فِي التَّصْرِيحِ: وَهِيَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا. قَالَ صَاحِبُ الْفَصِيحِ: قَصْرِيَّةٌ يُعْجَنُ فِيهَا وَيُغْسَلُ فِيهَا. وَيُقَالُ: إِنْجَانَةٌ كَمَا يُقَالُ إِنْجَاصَةٌ، وَهِيَ لُغَةٌ يَمَانِيَةٌ فِيهِمَا أَنْكَرَهَا الْأَكْثَرُونَ. اهـ. فَهَذَانِ وَجْهَانِ فِي تَوْجِيهِ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ، وَعَلَيْهِمَا فَلَفْظَةُ «الْمُؤْمِنِينَ» مَفْعُولٌ بِهِ لِـ «نُنَجِّي».
وَمِنْ أَجْوِبَةِ الْعُلَمَاءِ عَنْ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ: أَنَّ «نُجِّيَ» عَلَى قِرَاءَتِهِمَا فِعْلُ مَاضٍ مَبْنِيٌّ لِلْمَفْعُولِ، وَالنَّائِبُ عَنِ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ، أَيْ: نَجَّى هُوَ، أَيِ الْإِنْجَاءُ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالْآيَةُ كَقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ لِيُجْزَى قَوْمًا الْآيَةَ [٤٥ ١٤] بِبِنَاءِ «يُجْزَى» لِلْمَفْعُولِ، وَالنَّائِبُ ضَمِيرُ الْمَصْدَرِ، أَيْ: لِيَجْزِيَ هُوَ، أَيِ الْجَزَاءَ وَنِيَابَةُ الْمَصْدَرِ عَنِ الْفَاعِلِ فِي حَالِ كَوْنِ الْفِعْلِ مُتَعَدِّيًا لِلْمَفْعُولِ تَرِدُ بِقِلَّةٍ، كَمَا أَشَارَ لَهُ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ:
وَقَابِلْ مِنْ ظُرُوفٍ أَوْ مِنْ مَصْدَرِ أَوْ حَرْفِ جَرٍّ بِنِيَابَةٍ حَرِي
وَلَا يَنُوبُ بَعْضُ هَذَا إِنْ وُجِدْ فِي اللَّفْظِ مَفْعُولٌ بِهِ وَقَدْ يَرِدْ
وَمَحَلُّ الشَّاهِدِ مِنْهُ قَوْلُهُ: «وَقَدْ يَرِدُ» وَمِمَّنْ قَالَ بِجَوَازِ ذَلِكَ الْأَخْفَشُ وَالْكُوفِيُّونَ وَأَبُو عُبَيْدٍ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ قَوْلُ جَرِيرٍ يَهْجُو أُمَّ الْفَرَزْدَقِ:
وَلَوْ وَلَدَتْ قُفَيْرَةُ جَرْوَ كَلْبٍ لَسُبَّ بِذَلِكَ الْجَرْوِ الْكِلَابَا
٦٩ يَعْنِي لَسُبَّ هُوَ، أَيْ: السَّبُّ. وَقَوْلُ الرَّاجِزِ:
لَمْ يَعْنِ بِالْعَلْيَاءِ إِلَّا سَيِّدًا وَلَا شَفَى ذَا الْغَيِّ إِلَّا ذُو هُدَى
وَأَمَّا إِسْكَانُ يَاءِ «نُجِّي» عَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَهُوَ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَقُولُ مِنَ الْعَرَبِ: رَضِي، وَبَقِي بِإِسْكَانِ الْيَاءِ تَخْفِيفًا. وَمِنْهُ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا [٢ ٢٧٨] بِإِسْكَانِ يَاءِ «بَقِيَ» وَمِنْ شَوَاهِدِ تِلْكَ اللُّغَةِ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
خَمَّرَ الشَّيْبُ لُمَّتِي تَخْمِيرًا وَحَدَا بِي إِلَى الْقُبُورِ الْبَعِيرَا
لَيْتَ شِعْرِي إِذِ الْقِيَامَةُ قَامَتْ وَدُعِي بِالْحِسَابِ أَيْنَ الْمَصِيرَا
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَالظَّاهِرُ فِيهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ حَذَفُوا النُّونَ فِي الْمَصَاحِفِ؛ لِتُمْكِنَ مُوَافَقَةُ قِرَاءَةِ ابْنِ عَامِرٍ وَشُعْبَةَ لِلْمَصَاحِفِ لِخَفَائِهَا، أَمَّا قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ فَوَجْهُهَا ظَاهِرٌ وَلَا إِشْكَالَ فِيهَا، فَغَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ حَذَفُوا حَرْفًا مِنَ الْكَلِمَةِ لِمَصْلَحَةٍ مَعَ تَوَاتُرِ الرِّوَايَةِ لَفْظًا بِذِكْرِ الْحَرْفِ الْمَحْذُوفِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ.
245
قَدْ قَدَّمْنَا مَعَانِيَ «الْأُمَّةِ» فِي الْقُرْآنِ فِي سُورَةِ «هُودٍ». وَالْمُرَادُ بِالْأُمَّةِ هُنَا: الشَّرِيعَةُ وَالْمِلَّةُ، وَالْمَعْنَى: وَأَنَّ هَذِهِ شَرِيعَتُكُمْ شَرِيعَةً وَاحِدَةً، وَهِيَ تَوْحِيدُ اللَّهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ، وَامْتِثَالِ أَمْرِهِ، وَاجْتِنَابِ نَهْيِهِ بِإِخْلَاصٍ فِي ذَلِكَ، عَلَى حَسَبِ مَا شَرَعَهُ لِخَلْقِهِ وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [٢١ ٩٢] أَيْ: وَحْدِي، وَالْمَعْنَى دِينُكُمْ وَاحِدٌ وَرَبُّكُمْ وَاحِدٌ، فَلِمَ تَخْتَلِفُونَ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [٢١ ٩٣] أَيْ: تَفَرَّقُوا فِي الدِّينِ وَكَانُوا شِيَعًا؛ فَمِنْهُمْ يَهُودِيٌّ، وَمِنْهُمْ نَصْرَانِيٌّ، وَمِنْهُمْ عَابِدُ وَثَنٍ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفِرَقِ الْمُخْتَلِفَةِ.
ثُمَّ بَيَّنَ بِقَوْلِهِ: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ أَنَّهُمْ جَمِيعُهُمْ رَاجِعُونَ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَسَيُجَازِيهِمْ بِمَا فَعَلُوا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ الْمَعْنَى: جَعَلُوا أَمْرَ دِينِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ قِطَعًا كَمَا يَتَوَزَّعُ الْجَمَاعَةُ الشَّيْءَ وَيَقْتَسِمُونَهُ، فَيَصِيرُ لِهَذَا نَصِيبٌ وَلِذَلِكَ نُصِيبٌ؛ تَمْثِيلًا لِاخْتِلَافِهِمْ فِيهِ، وَصَيْرُورَتِهِمْ فِرَقًا شَتَّى. اهـ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ «تَقَطَّعَ» مُتَعَدِّيَةٌ إِلَى الْمَفْعُولِ وَمَفْعُولُهَا «أَمْرَهُمْ» وَمَعْنَى تَقَطَّعُوهُ أَنَّهُمْ جَعَلُوهُ قِطَعًا كَمَا ذَكَرْنَا. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أَيْ: تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِهِمْ، فَنَصَبَ «أَمْرَهُمْ» بِحَذْفِ «فِي» وَمِنْ إِطْلَاقِ الْأُمَّةِ بِمَعْنَى الشَّرِيعَةِ وَالدِّينِ كَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: قَوْلُهُ تَعَالَى عَنِ الْكُفَّارِ: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ [٤٣ ٢٣] أَيْ: عَلَى شَرِيعَةٍ وَمِلَّةٍ وَدِينٍ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ نَابِغَةِ ذُبْيَانَ:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهُوَ طَائِعُ
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: «وَهَلْ يَأْثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ.. إلخ» أَنَّ صَاحِبَ الدِّينِ لَا يَرْتَكِبُ الْإِثْمَ طَائِعًا.
وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ الْكَرِيمَتَيْنِ: مِنْ أَنَّ الدِّينَ وَاحِدٌ، وَالرَّبَّ وَاحِدٌ فَلَا دَاعِيَ لِلِاخْتِلَافِ. وَأَنَّهُمْ مَعَ ذَلِكَ اخْتَلَفُوا أَوْ صَارُوا فِرَقًا أَوْضَحَهُ فِي سُورَةِ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» وَزَادَ أَنَّ كُلَّ حِزْبٍ مِنَ الْأَحْزَابِ الْمُخْتَلِفَةِ فَرِحُونَ بِمَا عِنْدَهُمْ. وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ، وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ [٢٣ ٥١ - ٥٤]
وَقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: زُبُرًا أَيْ: قِطَعًا كَزُبَرِ الْحَدِيدِ وَالْفِضَّةِ أَيْ: قِطَعِهَا. وَقَوْلُهُ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ أَيْ: كُلُّ فِرْقَةٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ الضَّالِّينَ الْمُخْتَلِفِينَ الْمُتَقَطِّعِينَ دِينَهُمْ قِطَعًا فَرِحُونَ بِبَاطِلِهِمْ، مُطْمَئِنُّونَ إِلَيْهِ، مُعْتَقِدُونَ أَنَّهُ هُوَ الْحَقُّ.
وَقَدْ بَيَّنَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ: أَنَّ مَا فَرِحُوا بِهِ وَاطْمَأَنُّوا إِلَيْهِ بَاطِلٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ «الْمُؤْمِنِ» : فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ [٤٠ ٨٣ - ٨٤] وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [٦ ١٥٩].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: إِنَّ هَذِهِ «هَذِهِ» اسْمُ «إِنَّ» وَخَبَرُهَا أُمَّتُكُمْ. وَقَوْلِهِ أُمَّةً وَاحِدَةً حَالٌ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ تَعَالَى. وَأَظْهَرُ الْأَقْوَالِ فِي الزَّفِيرِ أَنَّهُ كَأَوَّلِ صَوْتِ الْحِمَارِ، وَأَنَّ الشَّهِيقَ كَآخِرِهِ وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ وَزَادَ عَلَى ذَلِكَ الشَّهِيقَ، وَالْخُلُودَ، كَقَوْلِهِ فِي «هُودٍ» : فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خَالِدِينَ فِيهَا. [الْآيَةَ ١٠٦].
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ أَهْلَ النَّارِ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا، وَبَيَّنَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَنَّهُمْ لَا يَتَكَلَّمُونَ، وَلَا يُبْصِرُونَ، كَقَوْلِهِ فِي «الْإِسْرَاءِ» : وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا [١٧ ٩٧] وَقَوْلِهِ: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [٢٠ ١٢٤] وَقَوْلِهِ: وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ [٢٧ ٨٥] مَعَ أَنَّهُ - جَلَّ وَعَلَا - ذَكَرَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمْ يَسْمَعُونَ وَيُبْصِرُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا الْآيَةَ [١٩ ٣٨] وَقَوْلِهِ: رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا الْآيَةَ [٣٢ ١٢] وَقَوْلِهِ: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ الْآيَةَ [١٨ ٥٣]. وَقَدْ بَيَّنَّا أَوْجُهَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي «طه» فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ فِي عِلْمِهِ الْحُسْنَى وَهِيَ تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَهِيَ الْجَنَّةُ أَوِ السَّعَادَةُ - مُبْعَدُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنِ النَّارِ. وَقَدْ أَشَارَ إِلَى نَحْوِ ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [١٠ ٢٦] وَقَوْلِهِ: هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ [٥٥ ٦٠] وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنْهُ الْحُسْنَى وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ [٢١] أَيْ: تَسْتَقْبِلُهُمْ بِالْبِشَارَةِ، وَتَقُولُ لَهُمْ: هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ أَيْ: تُوعَدُونَ فِيهِ أَنْوَاعَ الْكَرَامَةِ وَالنَّعِيمِ. قِيلَ: تَسْتَقْبِلُهُمْ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ بِذَلِكَ. وَقِيلَ: عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنَ الْقُبُورِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - مِنِ اسْتِقْبَالِ الْمَلَائِكَةِ لَهُمْ بِذَلِكَ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ فِي «فُصِّلَتْ» : إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [٤١ - ٣٣] وَقَوْلِهِ فِي «النَّحْلِ» : الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [١٦] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ.
قَوْلُهُ: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ [٢١ ١٠٤] مَنْصُوبٌ بِقَوْلِهِ: لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ [٢١] أَوْ بِقَوْلِهِ تَتَلَقَّاهُمُ. وَقَدْ ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ الْكُتُبَ. وَصَرَّحَ فِي «الزُّمَرِ» بِأَنَّ الْأَرْضَ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ السَّمَاوَاتِ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [٣٩ ٦٧] وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ كَوْنِ السَّمَاوَاتِ مَطْوِيَّاتٍ بِيَمِينِهِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ جَاءَ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا أَنَّ الْوَاجِبَ فِي ذَلِكَ إِمْرَارُهُ كَمَا جَاءَ، وَالتَّصْدِيقُ بِهِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ صِفَةَ الْخَالِقِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُمَاثِلَ صِفَةَ الْمَخْلُوقِ.
وَأَقْوَالُ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ:
كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ رَاجِعَةٌ إِلَى أَمْرَيْنِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ السِّجِلَّ: الصَّحِيفَةُ، وَالْمُرَادُ بِالْكُتُبِ: مَا كُتِبَ فِيهَا، وَاللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى، أَيْ: كَطَيِّ السِّجِلِّ عَلَى الْكُتُبِ، أَيْ: كَطَيِّ الصَّحِيفَةِ عَلَى مَا كُتِبَ فِيهَا، وَعَلَى هَذَا فَطَيُّ السِّجِلِّ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إِلَى مَفْعُولِهِ؛ لِأَنَّ السِّجِلَّ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَفْعُولُ الطَّيِّ.
الثَّانِي: أَنَّ السِّجِلَّ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُوَ الَّذِي يَطْوِي كُتُبَ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ إِذَا رُفِعَتْ إِلَيْهِ، وَيُقَالُ: إِنَّهُ فِي السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ، تَرْفَعُ إِلَيْهِ الْحَفَظَةُ الْمُوَكَّلُونَ بِالْخَلْقِ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ فِي كُلِّ خَمِيسٍ وَاثْنَيْنِ، وَكَانَ مِنْ أَعْوَانِهِ (فِيمَا ذَكَرُوا) هَارُوتُ وَمَارُوتُ، وَقِيلَ: إِنَّهُ لَا يَطْوِي الصَّحِيفَةَ حَتَّى يَمُوتَ صَاحِبُهَا، فَيَرْفَعَهَا وَيَطْوِيَهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ السِّجِلَّ صَحَابِيٌّ كَاتِبٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ظَاهِرُ السُّقُوطِ كَمَا تَرَى.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ «لِلْكِتَابِ» قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَمْزَةَ وَالْكِسَائِيِّ وَحَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ «لِلْكِتَابِ» بِكَسْرِ الْكَافِ وَفَتْحِ التَّاءِ بَعْدَهَا أَلْفٌ بِصِيغَةِ الْإِفْرَادِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفَصٌ عَنْ عَاصِمٍ «لِلْكُتُبِ» بِضَمِّ الْكَافِ وَالتَّاءِ بِصِيغَةِ الْجَمْعِ. وَمَعْنَى الْقِرَاءَتَيْنِ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْكِتَابِ عَلَى قِرَاءَةِ الْإِفْرَادِ جِنْسُ الْكِتَابِ، فَيَشْمَلُ كُلَّ الْكُتُبِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ. أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ عِنْدِي فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الزَّبُورَ الَّذِي هُوَ الْكِتَابُ يُرَادُ بِهِ جِنْسُ الْكِتَابِ فَيَشْمَلُ الْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ، كَالتَّوْرَاةِ، وَالْإِنْجِيلِ، وَزَبُورِ دَاوُدَ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ: أُمُّ الْكِتَابِ، وَعَلَيْهِ فَالْمَعْنَى: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ بَعْدَ أَنْ كَتَبْنَا ذَلِكَ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَهَذَا الْمَعْنَى وَاضِحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقِيلَ: الزَّبُورُ فِي الْآيَةِ زَبُورُ دَاوُدَ، وَالذِّكْرُ: التَّوْرَاةُ. وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. وَأَظْهَرُهَا هُوَ مَا ذَكَرْنَا وَاخْتَارَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّا قَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ أَنَّ الْآيَةَ قَدْ يَكُونُ فِيهَا قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ، وَكَلَاهُمَا حَقٌّ وَيَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ فَنَذْكُرُ الْجَمِيعَ؛ لِأَنَّهُ كُلُّهُ حَقُّ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ فِي قَوْلِهِ هُنَا: أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [٢١ ١٠٥] فِيهِ لِلْعُلَمَاءِ وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا أَرْضُ الْجَنَّةِ يُورِثُهَا اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ. وَهَذَا الْقَوْلُ يَدُلُّ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ [٣٩] وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى إِيرَاثِهِمُ الْجَنَّةَ مُسْتَوْفًى فِي سُورَةِ «مَرْيَمَ».
الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ أَرْضُ الْعَدُوِّ، يُورِثُهَا اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدُّنْيَا، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا [٣٣ ٢٧] وَقَوْلُهُ: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الْآيَةَ [٧ ١٣٧] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [٧ ١٢٨] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الْآيَةَ [٢٤] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ [١٤ ١٣ - ١٤] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
وَقَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ غَيْرَ حَمْزَةَ فِي الزَّبُورِ بِفَتْحِ الزَّايِ وَمَعْنَاهُ الْكِتَابُ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحْدَهُ (فِي الزُّبُورِ) بِضَمِّ الزَّايِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَعَلَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ فَهُوَ جَمْعُ زُبُرٍ. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُرِيدُ الزِّبِرَ - بِالْكَسْرِ - بِمَعْنَى الزَّبُورِ أَيِ: الْمَكْتُوبِ. وَعَلَيْهِ فَمَعْنَى قِرَاءَةِ حَمْزَةَ: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الْكُتُبِ، وَهِيَ تُؤَيِّدُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالزَّبُورِ عَلَى قِرَاءَةِ الْفَتْحِ جِنْسُ الْكُتُبِ لَا خُصُوصُ زَبُورِ دَاوُدَ كَمَا بَيَّنَّا. وَقَرَأَ حَمْزَةُ «يَرِثُهَا عِبَادِي» بِإِسْكَانِ الْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ.
الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هَذَا [٢١ ١٠٦] لِلْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الَّذِي مِنْهُ هَذِهِ السُّورَةُ الْكَرِيمَةُ. وَالْبَلَاغُ: الْكِفَايَةُ، وَمَا تُبْلَغُ بِهِ الْبُغْيَةُ. وَمَا ذَكَرَهُ هُنَا مِنْ أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ فِيهِ الْكِفَايَةُ لِلْعَابِدِينَ، وَمَا يَبْلُغُونَ بِهِ بُغْيَتَهُمْ، أَيْ: مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ذَكَرَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، كَقَوْلِهِ: هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [١٤ ٥٢] وَخَصَّ الْقَوْمَ الْعَابِدِينَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الْمُنْتَفِعُونَ بِهِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ مَا أَرْسَلَ هَذَا النَّبِيَّ الْكَرِيمَ - صَلَوَاتُ اللَّهِ
وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ - إِلَى الْخَلَائِقِ إِلَّا رَحْمَةً لَهُمْ؛ لِأَنَّهُ جَاءَهُمْ بِمَا يُسْعِدُهُمْ وَيَنَالُونَ بِهِ كُلَّ خَيْرٍ مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنِ اتَّبَعُوهُ. وَمَنْ خَالَفَ وَلَمْ يَتَّبِعْ فَهُوَ الَّذِي ضَيَّعَ عَلَى نَفْسِهِ نَصِيبَهُ مِنْ تِلْكَ الرَّحْمَةِ الْعُظْمَى. وَضَرَبَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِهَذَا مَثَلًا، قَالَ: لَوْ فَجَّرَ اللَّهُ عَيْنًا لِلْخَلْقِ غَزِيرَةَ الْمَاءِ، سَهْلَةَ التَّنَاوُلِ، فَسَقَى النَّاسُ زُرُوعَهُمْ وَمَوَاشِيَهُمْ بِمَائِهَا، فَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِمُ النِّعَمُ بِذَلِكَ، وَبَقِيَ أُنَاسٌ مُفَرِّطُونَ كُسَالَى عَنِ الْعَمَلِ، فَضَيَّعُوا نَصِيبَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْعَيْنِ - فَالْعَيْنُ الْمُفَجَّرَةُ فِي نَفْسِهَا رَحْمَةٌ مِنَ اللَّهِ، وَنِعْمَةٌ لِلْفَرِيقَيْنِ. وَلَكِنَّ الْكَسْلَانَ مِحْنَةٌ عَلَى نَفْسِهِ حَيْثُ حَرَمَهَا مَا يَنْفَعُهَا. وَيُوَضِّحُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ [١٤ ٢٨] وَقِيلَ: كَوْنُهُ رَحْمَةً لِلْكُفَّارِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ عُقُوبَتَهُمْ أُخِّرَتْ بِسَبَبِهِ، وَأَمِنُوا بِهِ عَذَابَ الِاسْتِئْصَالِ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ.
وَمَا ذَكَرَهُ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ أَنَّهُ مَا أَرْسَلَهُ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ جَاءَ بِالرَّحْمَةِ لِلْخَلْقِ فِيمَا تَضَمَّنَهُ هَذَا الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ. وَهَذَا الْمَعْنَى جَاءَ مُوَضَّحًا فِي مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [٢٩ ٥١] وَقَوْلِهِ: وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الْآيَةَ [٢٨ ٨٦].
وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَلِكَ فِي سُورَةِ «الْكَهْفِ» فِي مَوْضِعَيْنِ مِنْهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. قَالَ: «إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً».
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ.
قَوْلُهُ فَإِنْ تَوَلَّوْا [٢١ ١٠٩] أَيْ: أَعْرَضُوا وَصَدُّوا عَمَّا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ أَيْ: أَعْلَمْتُكُمْ أَنِّي حَرْبٌ لَكُمْ كَمَا أَنَّكُمْ حَرْبٌ لِي، بَرِيءٌ مِنْكُمْ كَمَا أَنْتُمْ بَرَاءٌ مِنِّي. وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَيْهِ آيَاتٌ أُخَرُ، كَقَوْلِهِ: وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ [٨ ٥٨] أَيْ: لِيَكُنْ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِنَبْذِ الْعُهُودِ عَلَى السَّوَاءِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ [١٠ ٤١] وَقَوْلِهِ: آذَنْتُكُمْ الْأَذَانُ: الْإِعْلَامُ. وَمِنْهُ الْأَذَانُ لِلصَّلَاةِ. وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ [٩ ٣] أَيْ: إِعْلَامٌ مِنْهُ، قَوْلُهُ: فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ الْآيَةَ [٢ ٢٧٩] أَيِ: اعْلَمُوا. وَمِنْهُ قَوْلُ
الْحَارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ:
آذَنَتْنَا بِبَيْنِهَا أَسْمَاءُ رُبَّ ثَاوٍ يُمَلُّ مِنْهُ الثَّوَاءُ
يَعْنِي أَعْلَمَتْنَا بِبَيْنِهَا.
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ.
ذَكَرَ - جَلَّ وَعَلَا - فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ عَلِمَ مَا يَجْهَرُ بِهِ خَلْقُهُ مِنَ الْقَوْلِ، وَيَعْلَمُ مَا يَكْتُمُونَهُ. وَقَدْ أَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [٦٧ ١٣] وَقَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ [٢٤ ٢٩] فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَقَوْلِهِ: قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ [٢ ٣٣] وَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [٥٠ ١٦] وَقَوْلِهِ: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [٢٠ ٧] إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ.
قَرَأَ هَذَا الْحَرْفَ عَامَّةُ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ قُلْ رَبِّ بِضَمِّ الْقَافِ وَسُكُونِ اللَّامِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ. وَقَرَأَهُ حَفْصٌ وَحْدَهُ قَالَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَاللَّامِ بَيْنَهُمَا أَلِفٌ بِصِيغَةِ الْمَاضِي. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ. وَقِرَاءَةُ حَفْصٍ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ امْتَثَلَ الْأَمْرَ بِالْفِعْلِ. وَمَا أَمَرَهُ أَنْ يَقُولَهُ هُنَا قَالَهُ نَبِيُّ اللَّهِ شُعَيْبٌ كَمَا ذَكَرَهُ اللَّهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [٧ ٨٩] وَقَوْلِهِ: افْتَحْ أَيْ: احْكُمْ كَمَا تَقَدَّمَ.
قَوْلُهُ: وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [٢١ ١١٢] أَيْ: تَصِفُونَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ بِادِّعَاءِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَوْلَادِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ الْآيَةَ [١٦ ٦٢] وَقَالَ: وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ الْآيَةَ [١٦ ١١٦]. وَمَا قَالَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَهُ يَعْقُوبُ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ أَوْلَادَهُ فَعَلُوا بِأَخِيهِمْ يُوسُفَ شَيْئًا غَيْرَ مَا أَخْبَرُوهُ بِهِ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ [١٢ ١٨] وَالْمُسْتَعَانُ: الْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْعَوْنُ. وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى.
252
وَهَذَا آخِرُ الْجُزْءِ الرَّابِعِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ الْمُبَارَكِ، وَيَلِيهِ الْجُزْءُ الْخَامِسُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَأَوَّلُهُ سُورَةُ الْحَجِّ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ.
253
Icon