تفسير سورة الرّوم

مختصر تفسير ابن كثير
تفسير سورة سورة الروم من كتاب تيسير العلي القدير لاختصار تفسير ابن كثير المعروف بـمختصر تفسير ابن كثير .
لمؤلفه محمد نسيب الرفاعي . المتوفي سنة 1412 هـ

نزلت هذه الآيات حين غالب الفرس على بلاد الشام، وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم، فاضطر ملك الروم حتى لجأ إلى القسطنطينية وحوصر فيها مدة طويلة، ثم عادت الدولة لهرقل كما سيأتي. عن بن عباس رضي الله عنهما قال :« كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب أوثان، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل الكتاب، فذكر لأبي بكر، فذكره أبو بكر لرسول الله ﷺ، فقال رسول الله ﷺ :» إما إنهم سيلغبون «، فذكره أبو بكر لهم، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلاً، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا، فجعل أجل خمس سنين، فلم يظهروا، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله ﷺ فقال :» ألا جعلتها إلى دون العشر؟ « » ثم ظهرت الروم بعد، قال فذلك قوله :﴿ الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ﴾. حديث آخر : عن مسروق قال، قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان، واللزام، والبطشة، والقمر، والروم. وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :« كانت فارس ظاهرة على الروم، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس، لأنهم أهل كتاب، وهم أقر إلى دينهم، فلما نزلت :﴿ الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِين ﴾ قالوا : يا أبا بكر إن صاحبك يقول : إن نقامرك، فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين فمضت السبع، ولم يكن شيء، ففرح المشركون بذلك، فشق على المسلمين فذكر ذلك للنبي ﷺ فقال :» ما بضع سنين عندكم «؟ قالوا : دون العشر، قال :» اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل « قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس، ففرح المؤمنون بذلك » وأنزل الله تعالى :﴿ الم * غُلِبَتِ الروم ﴾ إلى قوله ﴿ وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ ﴾.
وقال عكرمة :« لقي المشركون أصحاب النبي ﷺ إنكم أهل كتاب، والنصارى أهل كتاب، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم، فأنزل الله تعالى :﴿ الم * غُلِبَتِ الروم ﴾ إلى قوله ﴿ يَنصُرُ مَن يَشَآءُ ﴾ فخرج أبو بكر الصدّيق إلى الكفار فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا، فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم، فوالله ليظهرن الله الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا ﷺ، فقام إليه ( أبي بن خلف ) فقال : كذبت يا أبا فضيل، فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله، فقال : أناجيك عشر قلائص من وعشر قلائص منك، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين، ثم جاء أبو بكر إلى النبي ﷺ فأخبره فقال :» ما هكذا ذكر إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر، ومادَّه في الأجل «، فخرج أبو بكر، فلقي أبياً فقال : لعلك ندمت؟ فقال : لا، تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين، قال : قد فعلت، فظهرت الروم على فارس قبل ذلك فغلبهم المسلمون ».
1957
ولنتكلم على كلمات هذه الآيات الكريمات، فقوله تعالى :﴿ الم * غُلِبَتِ الروم ﴾ قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السورة في أول سورة البقرة، وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم، ويقال لهم بنو الأصفر، وكانوا على دين اليونان، واليونان من سلالة بافت بن نوح أبناء عم الترك، وكانوا يعبدون الكواكب السيارة، وهم الذين أسسوا دمشق وبنوا معبدها، فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة، وكان من ملك منهم الشام مع الجزيرة يقال له ( قيصر )، فكان أول من دخل في دين النصارى من الروم ( قسطنطين )، وأمه مريم الهيلانية من أرض حرَّان كانت قد تنصرت قبله فدعته إلى دينها، وكان قبل ذلك فيلسوفاً، فتابعها، واجتمعت به النصارى وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس، واختلفوا اختلافاً كثيراً لا ينضبط، إلاّ أنه اتفق مع جماعتهم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفاً، فوضعوا لقسطنطين العقيدة، وهي التي يسمونها ( الأمانة الكبيرة ) وإنما هي الخيانة الحقيرة، ووضعوا له القوانين يعنون كتب الأحكام من تحريم وتحليل وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وغيّروا دين المسيح عليه السلام، وزادوا فيه ونقصوا منه، فصلوا إلى المشرق، واعتاضوا عن السبت بالأحد، وعبدوا الصليب، وأحلوا الخنزير، واتخذوا أعياداً أحدثوها، كعيد الصليب والقداس، والغطاس وغير ذلك من البواعيث والشعانين، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم، ثم البتاركة، ثم المطارنة، ثم الأساقفة والقساوسة، ثم الشمامسة؛ وابتدعوا الرهبانية، وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية، يقال : إنه بنى في أيامه اثني عشر ألف كنيسة، وبنى بيت لحم بثلاث محاريب، وبينت أمه القمامة، وهؤلاء هم الملكية، يعنون الذين هم على دين الملك؛ ثم حدثت اليعقوبية أتباع يعقوب الأسكاف ثم النسطورية أصحاب نسطورا، وهم فرق وطوائف كثيرة، كما قال رسول الله ﷺ :« إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة » والغرض أنهم استمروا على النصرانية كلما هلك قيصر خلفه آخر بعدهه حتى آخرهم ( هرقل ) وكان من عقلاء الرجال، ومن أحزم الملوك وأدهاهم وأبعدهم غوراً وأقصاهم رأياً، فتملك عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كثيرة، فناوأه كسرى ملك الفرس، وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر، وكانوا مجوساً يعبدون النار، فتقدم عن عكرمة أنه قال : بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكسره وقصره حتى لم يبق معه سوى مدينة القسطنطينية فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه، ولم يقدر كسى على فتح البلد ولا أمكنه ذلك لحصانتها، لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من ناحية البحر، فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هنالك، ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع، فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع.
1958
وقوله تعالى :﴿ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ ﴾ أي من قبل ذلك ومن بعد :﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله ﴾ أي للروم أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى، وهم المجوس، وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قول طائفة كثيرة من العلماء كابن عباس والثوري والسدي وغيرهم، وقد ورد في الحديث عن أبي سعيد قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين ففرحوا به، وأنزل الله :﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم ﴾، وقال الآخرون : بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية، والأمر في هذا سهل قريب، إلاّ أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين، فلما انتصرت الروم على فارس فرح المؤمنون بذلك لأن الروم أهل كتاب في الجملة فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس، كما قال تعالى :﴿ لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى ﴾ [ المائدة : ٨٢ ] إلى قوله :﴿ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين ﴾ [ المائدة : ٨٣ ]. وقال تعلى هاهنا :﴿ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم ﴾، عن العلاء بن الزبير الكلابي عن أبيه قال : رأيت غلبة فارس الروم، ثم رأيت غلبة الروم فارس، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم كل ذلك في خمس عشرة سنة. وقوله تعالى :﴿ وَهُوَ العزيز ﴾ أي في اتصاره وانتقامه من أعدائه، ﴿ الرحيم ﴾ بعباده المؤمنين، وقوله تعلى :﴿ وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ ﴾ أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق، وخبر صدق لا يخلف، ولا بد من كونه ووقوعه، لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلتين إلى الحق ويجعل لها العاقبة، ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي بحكم الله في كونه وأفعاله المحكمة الجارية على وقف العدل، وقوله تعالى :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ ﴾ أي أكثر الناس ليس لهم علم إلاّ بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها، فهم حذاف أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها، وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة، قال الحسن البصري : والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه ثقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي، وقال ابن عباس في قوله تعالى :﴿ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ ﴾ يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال.
1959
يقول تعالى منبهاً على التفكير في مخلوقاته الدالة على وجوده، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه، ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ ﴾ يعني به النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء، من العالم العلوي و السفلي، وما بينهما من المخلوقات المتنوعة، والأجناس المختلفة، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا باطلاً بل بالحق، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ ﴾، ثمن نبههم على صدق رسله فيما جاءوا به عنه، بما أيدهم به من المعجزات والدلالات الواضحات، من إهلاك من كفر بهم، ونجاة من صدقهم، فقال تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض ﴾ أي بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماع أخبار الماضين، ولهذا قال :﴿ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ﴾ أي كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً، ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه، وعمروا فيها أعماراً طوالاً فعمروها أكثر منكم، واستغلوها أكثر من استغلالكم، ومع هذا فلما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا أخذه الله بذنبوبهم وما كان لهم من الله من واق، ولا حالت أموالهم وأولادهم بينهم وبين بأس الله، ولا دفعوا عنه مثقال ذرة، وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال، ﴿ ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ حيث كذبوا بآيات الله واستهزأوا بها، وما ذاك إلاّ بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم ولهذا قال تعالى :﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواءى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ ﴾، كما قال تعالى :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ]، وقال تعالى :﴿ فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ ﴾ [ الصف : ٥ ] أي كانت السوأى عاقبتهم لأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون.
يقول تعالى :﴿ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ أي كما هو قادر على بداءته فهو قادر على إعادته، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله، ثم قال :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون ﴾ قال ابن عباس : ييأس المجرمون، وقال مجاهد : يفتضح المجرمون، وفي رواية يكتئب المجرمون، ﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ ﴾ أي ما شفعت فيهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى وكفروا بهم وخانوهم أحوج ما كانوا إليهم، ثم قال تعالى :﴿ وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ ﴾ قال قتادة : هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها، يعني أنه إذا رفع هذا إلى عليين وخفض هذا إلى أسفل سافلين، فذلك آخر العهد بينهما، ولهذا قال تعالى :﴿ فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ ﴾ قال مجاهد وقتادة : ينعمون.
هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة، الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه، عند المساء وهو إقبال الليل بظلامه، وعند الصباح وهو إسفار النهار بضيائه، ثم اعترض بحمده مناسبة للتسبيح وهو التحميد، فقال تعالى :﴿ وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض ﴾ أي هو المحمود على ما خلق في السماوات والأرض، ثم قال تعالى :﴿ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾ فالعَشاء هو شدة الظلام والإظهار هو قوة الضياء، كما قال تعالى :﴿ والنهار إِذَا جَلاَّهَا * والليل إِذَا يَغْشَاهَا ﴾ [ الشمس : ٣-٤ ]، وقال تعالى :﴿ والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى ﴾ [ الليل : ١-٢ ]، وقال تعالى :﴿ والضحى * والليل إِذَا سجى ﴾ [ الضحى : ١-٢ ] والآيات في هذا كثيرة. وفي الحديث :« ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفَّى، لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون » وقوله تعالى :﴿ يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي ﴾ هو ما نحن فيه من قدرته على خلق الأشياء المتقابلة، فإنه يذكر خلقه الأشياء وأضدادها ليدل على كمال قدرته، فمن ذلك إخراج النبات من الحب، والحب من النبات، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض، والإنسان من النطفة، والنفطة من الإِنسان، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. وقوله تعالى :﴿ وَيُحْي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾، كقوله تعالى :﴿ وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ ﴾ [ يس : ٣٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [ الحج : ٥ ]، ولهذا قال :﴿ وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ﴾.
يقول تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾ الدالة على عظمته وكمال قدرته، أنه خلق أباكم آدم من تراب، ﴿ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾ فأصلكم من تراب، ثم من ماء مهين، ثم تصور فكان علقة، ثم مضغة، ثم صار عظاماً، شكله على شكل الإنسان ثم كسا الله تلك العظام لحماً، ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون، ويدور أقطار الأرض، ويكتسب، ويجمع الأموال، وله فكرة وغور، ودهاء ومكر، ورأي وعلم، واتساع في أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه، فسبحان من أقدرهم وسيّرهم وسخّرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب وفاوت بينهم في العلوم والفكر، والحسن والقبح، والغنى والفقر، والسعادة والشقاوة، ولهذا قال تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ ﴾. عن أبي موسى الأشعري قال، قال رسول الله ﷺ :« إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك، والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك » وقوله تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ أي خلق لكم من جنسكم إناثاً تكون لكم أزواجاً ﴿ لتسكنوا إِلَيْهَا ﴾، كما قال تعالى :﴿ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا ﴾ [ الأعراف : ١٨٩ ] يعني بذلك حواء خلقها الله من آدم من ضلعه الأيسر، ولو أنه تعالى جعل بني آدم كلهم ذكوراً، وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم، إما من جان أو حيوان، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج، بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس، ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم، وجعل بينهم. وبينهن ﴿ مَّوَدَّةً ﴾ وهي المحبة ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ وهي الرأفة ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾.
يقول تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾ الدالة على قدرته العظيمة ﴿ خَلْقُ السماوات والأرض ﴾ أي خلق السماوات في ارتفاعها واتساعها، وشفوف أجرامها وزهارة كواكبها، ونجومها الثوابت والسيارات، وخلق الأرض في انخفاضها وكثافتها، وما فيها من جبال وأودية، وبحار وقفار وحيوان وأشحار، وقوله تعالى :﴿ واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ ﴾ يعني اللغات، فهؤلاء بلغة العرب، وهؤلاء تتر، وهؤلاء كرج، وهؤلاء روم، وهؤلاء فرنج، وهؤلاء بربر، وهؤلاء حبشة، وهؤلاء هنود، وهؤلاء عجم، وهؤلاء صقالية، وهؤلاء أكراد، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلاّ الله من اختلاف لغات بني آدم واختلاف ألوانهم، وهي حلاهم فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة، لك له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان وليس يشبه واحد منهم الآخر، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام، ظاهراً كان أو خفياً يظهر عند التأمل، كل وجه منهم أسلوب بذاته، وهيئة لا تشبه أخرى، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح، لا بد من فارق بن كل واحد منهم وبين الآخر ﴿ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ ﴾ أي ومن الآيات ما جعل الله من صفة النوم في الليل والنهار، فيه تحصل الراحة، وسكون الحركة، وذهاب الكلال والتعب، وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار وهذا ضد النوم، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ أي يعون، روى الطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال :« أصابني أرق من الليل فشكوت ذلك إلى رسول الله ﷺ فقال :» قل : اللهم غارت النجوم، وهدأت العيون، وأنت حي قيوم، يا حي يا قيوم، أنم عيني، وأهدىء ليلي « فقلتها فذهب عني ».
يقول تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ ﴾ الدالة على عظمته أنه ﴿ يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً ﴾ أي تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة، وصواعق متلفة وتارة ترجون وميضه وما يأتي به من المطر المحتاج إليه، ولهذا قال تعالى :﴿ وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ أي بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء، فلما جاءها الماء ﴿ اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ ﴾ [ الحج : ٥ ]، وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة عن المعاد وقيام الساعة، ولهذا قال :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾، ثم قال تعالى :﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ ﴾، كقوله تعالى :﴿ وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ [ الحج : ٦٥ ]، وقوله :﴿ إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ ﴾ [ فاطر : ٤١ ] وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين قال : والذي تقوم السماء والأرض بأمره، أي هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها، ثم إذا كان يوم القيامة بدلت الأرض غير الأرض والسماوات، وخرجت الأموات من قبورها أحياء، بأمره تعالى ودعائه إياهم، ولهذا قال تعالى :﴿ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ ﴾ أي من الأرض، كما قال تعالى :﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ [ الإِسراء : ٥٢ ]، وقال تعالى :﴿ فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ * فَإِذَا هُم بالساهرة ﴾ [ النازعات : ١٣-١٤ ].
يقول تعالى :﴿ وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض ﴾ أي ملكه وعبيده ﴿ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ ﴾ أي خاضعون خاشعون طوعاً وكرهاً، وقوله :﴿ وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ ﴾، قال ابن عباس : يعني أيسر عليه، وقال مجاهد : الإعادة أهون عليه من البداءة، والبداءة عليه هينة، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال، قال رسول الله ﷺ :« يقول الله تعالى كذبني أبن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهونّ عليّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن في كفواً أحد »، وقال آخرون : كلاهما بالنسبة إلى القدرة على السوء، وقال العوفي عن ابن عباس : كلٌّ عليه هيِّن، وقوله :﴿ وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض ﴾، قال ابن عباس : كقوله تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ] وقال قتادة : مثله أنه لا إله إلاّ هو ولا رب غيره، قوله :﴿ وَهُوَ العزيز الحكيم ﴾ وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع، بل قد غلب كل شيء، وقهر كل شيء بقدرته وسلطانه ﴿ الحكيم ﴾ في أقواله وأفعاله، وعن مالك في قوله تعالى :﴿ وَلَهُ المثل الأعلى ﴾ قال : لا إله إلاّ الله.
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين، العابدين معه غيره، وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ملك له، كما كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فقال تعالى :﴿ ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ ﴾ أي تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم ﴿ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ ﴾ أي أيرضى أحدكم أن يكون عبداً شريكاً له في ماله وهو فيه على السواء؟ ﴿ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ أي تخافون أن يقاسموكم الأموال، قال أبو مجلز : إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك وليس له ذاك، كذلك الله لا شريك له، والمعنى : أن أحدكم يأنف من ذلك فيكف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟ وهذا كقوله تعالى :﴿ وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ ﴾ [ النحل : ٦٢ ] فهم يأنفون من البنات، وجعلوا الملائكة بنات الله، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم، فهذا أغلظ الكفر، وهكذا في هذا القمام جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه، وأحدهم يأبى غاية الإباء ويأنف غاية الأنفة، من ذلك أن يكون عبده شريكه في ماله يساويه فيه ولو شاء لقاسمه عليه، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، ولما كان التنبيه بمثل هذا المثل على براءته تعالى ونزاهته عن ذلك بطريق الأوْلى والأحرى، قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ ثم قال تعالى مبيناً أن المشركين إنما عبدوا غيره سفهاً من أنفسهم وجهلاً :﴿ بَلِ اتبع الذين ظلموا ﴾ أي المشركون ﴿ أَهْوَآءَهُمْ ﴾ أي في عبادتهم الأنداد بغير علم، ﴿ فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله ﴾ ؟ أي فلا أحد يهديهم إذا كتب الله ضلالهم، ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ ﴾ أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير.
يقول تعالى : فسدِّدْ وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية، ملة إبراهيم الذي هداك الله لها، وكملها لك غاية الكمال، ولازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده، وأنه لا إله غيره، وقوله تعالى :﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ﴾ قال بعضهم : معناه لا تبدلوا خلق الله، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها، فيكون خبراً بمعنى الطلب، كقوله تعالى :﴿ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً ﴾ [ آل عمران : ٩٧ ] وهو معنى حسن صحيح، وقال آخرون هو خبر على بابه، ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة، ولا تفاوت بين الناس في ذلك، ولهذا قال ابن عباس ﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ﴾ أي لدين الله، وقال رسول الله صلى الله عليه سلم :« ما من مولود يولد إلاّ على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعا » ثم يقول :﴿ فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدين القيم ﴾. وروى الإِمام أحمد عن الأسود بن سريع قال :« أتيت رسول الله ﷺ وعزوت معه، فأصبت ظفراً. فقاتل الناس يومئذٍ حتى قتلوا الولدان، فبلغ ذلك رسول الله ﷺ فقال :» ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية «؟ فقال رجل : يا رسول الله أما هم أبناء المشركين؟ فقال :» لا إنما خياركم أبناء المشركين، ثم قال : لا تقتلوا ذرية، لا تقتلوا ذرية، وقال : كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها « »، وعن جابر عن عبد الله قال، قال رسول الله ﷺ :« كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفرواً ».
وروى الإمام أحمد عن عياض بن حمار : أن رسول الله ﷺ خطب ذات يقوم فقال في خطبته :« إن ربي عزَّ وجلَّ أمرني أن أعلمكم ما جهلتهم مما عملني في يومي هذا : كل مال نحلته عبادي حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، ثم إن الله عزَّ وجلَّ نظر إلى أهل الارض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب، وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان، ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشاً، فقلت : رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال : استخرجهم كما استخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل بمن أطاعك من عصاك، قال : وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم، ورجل عفيف متعفف ذو عيال. قال : وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زِبْر له، الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلاّ خانه، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلاّ وهو يخادعك عن أهلك ومالك »
1968
، وذلك البخيل والكذاب والشنظير الفحَّاش. وقوله تعالى :﴿ ذَلِكَ الدين القيم ﴾ أي التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم ﴿ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي فلهذا لا يعرفه أكثر الناس فهم عنه ناكبون، كما قال تعالى :﴿ وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [ يوسف : ١٠٣ ]، وقال تعالى :﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله ﴾ [ الأَنعام : ١١٦ ] الآية.
وقوله تعالى :﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ﴾ قال ابن جريج : أي راجعين إليه ﴿ واتقوه ﴾ أي خافوه وراقبوه ﴿ وَأَقِيمُواْ الصلاة ﴾ وهي الطاعة العظيمة ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين ﴾ أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة لا يريدون بها سواه، قال ابن جرير : مر عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل، فقال عمر : ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ ثلاث وهو المنجيات : الإِخلاص، وهي الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها، والصلاة وهي الملة، والطاعة وهي العصمة، فقال عمر صدقت. وقوله تعالى :﴿ مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ أي لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم أي بدلوه وغيروه وآمنوا ببعض وكفروا ببعض؛ كاليهود والنصارى والمجوس وعبد الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة مما عدا أهل الإِسلام، كما قال تعالى :﴿ إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى الله ﴾ [ الأَنعام : ١٥٩ ] الآية، فأهل الأديان قبلنا اختلوا فيما بينهم على آراء باطلة، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء، وهذه الأمة أيضاً اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلاّ واحدة، وهم أهل السنّة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنّة رسول الله ﷺ، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه، كما رواه الحاكم في « مستدركه » أنه :« سئل رسول الله ﷺ عن الفرقة الناجية منهم قال :» من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي « ».
1969
يقول تعالى مخبراً عن الناس أنهم في حال الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له، وأنه إذا أسبغ عليهم النعم إذا فريق منهم يشركون بالله ويعبدون معه غيره، وقوله تعالى :﴿ لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ ﴾ هي لام العاقبة عند بعضهم ولام التعليل عند آخرين، ولكنها تعليل لتقييض الله لهم ذلك، ثم توعدهم بقوله :﴿ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾، قال بعضهم : والله لو توعدني حارس لخفت منه، فكيف والمتوعد هاهنا هو الذي يقول للشيء كن فيكون؛ ثم قال تعالى منكراً على المشركين فيما اختلفوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة ولا برهان :﴿ أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً ﴾ أي حجة، ﴿ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ ﴾ أي ينطق ﴿ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ ﴾ ؟ وهذا استفهام إنكاراً، أي لم يكن لهم شيء من ذلك، ثم قال تعالى :﴿ وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾، هذا إنكار على الإنسان من حيث هو إلاّ من عصمه الله ووفقه، فإن الإِنسان إذا أصابته نعمة بطر، وإذا أصابته شدة قنط وأيس، قال تعالى :﴿ إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات ﴾ [ هود : ١١ ] أي صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء، كما ثبت في الصحيح، « عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلاّ كان خيراً له، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له » وقوله تعالى :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ ﴾ أي هو المتصرف الفاعل لذلك بحكمته وعدله فيوسع على قوم ويضيق على آخرين، ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾.
يقول تعالى آمراً بإعطاء ﴿ ذَا القربى حَقَّهُ ﴾ أي من البر والصلة، ﴿ والمسكين ﴾ وهو الذي لا يشء له ينفق عليه أو له شيء لا يقوم بكفايته، ﴿ وابن السبيل ﴾ وهو المسافر المحتاج إلى نفقة وما يحتاج إليه في سفره، ﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله ﴾ أي النظر إليه يوم القيامة وهو الغاية القصوى، ﴿ وأولئك هُمُ المفلحون ﴾ أي في الدنيا والآخرة، ثم قال تعالى :﴿ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله ﴾ أي من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم فهذا لا ثواب له عند الله، بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك، وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه، إلاّ أنه قد نهي عنه بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ ﴾ [ المدثر : ٦ ] أي لا تعط العطاء تريد أكثر منه، قال تعالى :﴿ وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون ﴾ أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء كما جاء في الصحيح :« وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب، إلاّ وأخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى تصير التمرة أعظم من أُحُدٍ »، وقوله عزَّ وجلَّ :﴿ الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ﴾ أي هو الخالق الرازق يخرج الإِنسان من بطن أمه عرياناً لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا قوى، ثم يرزقه جميع ذلك بعد ذلك، والرياش واللباسي والمال والأملاك والمكاسب. وقوله تعالى :﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ﴾ أي بعد هذه الحياة، ﴿ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ أي يوم القيامة، وقوله تعالى :﴿ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ ﴾ أي الذين تعبدونهم من دون الله ﴿ مَّن يَفْعَلُ مِن ذلكم مِّن شَيْءٍ ﴾ ؟ أي لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك، بل الله سبحانه وتعالى هو المستقبل بالخلق والرزق والإحياء والإماتة، ثم يبعث الخلائق يوم القيامة، ولهذا قال بعد هذا كله ﴿ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ أي تعالى وتقدس، وتنزّه وتعاظم عن أن يكون له شريك أو نظير، أو ولد أو والد، بل هو الأحد الفرد الصمد.
قال ابن عباس وعكرمة : المراد بالبر هاهنا الفيافي، وبالبحر الأمصار والقرى، وفي رواية عنه : البحر الأمصار والقرى ما كان منها على جانب نهر، وقال آخرون : بل المراد بالبر هو البر المعروف، وبالبحر هو البحر المعروف، وعن مجاهد ﴿ ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر ﴾ قال : فساد البر قتل ابن آدم، وفساد البحر أخذ السفينة غصباً، وقال عطاء : المراد بالبر ما فيه من المدائن والقرى، وبالبحر جزائره، والقول الأول أظهر وعليه الأكثرون؛ ومعنى قوله تعالى :﴿ ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس ﴾ أي بان النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي، وقال أبو العالية : من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة، ولهذا جاء في الحديث :« لَحَدٍّ يقام في الأَرض أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً » والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت انكف الناس عن تعاطي المحرمات، وإذا تكرت المعاصي كان سبباً في حصول البركات من السماء والأرض؛ ولهذا إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان، قيل للأرض : أخرجي بركتك، فيأكل من الرمانة الفئام من الناس ويستظلون بقحفها، ويكفي لبن اللَّقُحة الجماعمة من الناس، وما ذاك إلاّ ببركة تنفيذ شريعة محمد ﷺ، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير، ولهذا ثبت في « الصحيحين » :« أن الفاجر إذا مات يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب »، وقوله تعالى :﴿ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ ﴾ الآية، أي يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه لهم ومجازاة على صنيعهم ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ أي عن المعاصي، كما قال تعالى :﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٦٨ ]، ثم قال تعالى :﴿ قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلُ ﴾ أي من قبلكم، ﴿ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ ﴾ أي فانظر ما حل بهم من تكذيب الرسل وكفر النعم.
يقول تعالى آمراً عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته والمبادرة إلى الخيرات ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القيم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله ﴾ أي يوم القيامة إذا أراد كونه فلا راد له، ﴿ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ ﴾ أي يتفرقون ففريق في الجنة، وفريق في السعير، ولهذا قال تعالى :﴿ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ ﴾ أي يجازيهم مجازاة الفضل، الحسنة بعشر أمثالها إالى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله ﴿ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين ﴾ ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور.
يذكر تعالى نعمه على خلقه، في إرساله الرياح مبشرات بين يدي رحمته، بمجيء الغيث عقبها، ولهذا قال تعالى :﴿ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ ﴾ أي المطر الذي ينزله فيحيي به العباد والبلاد، ﴿ وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ ﴾ أي في البحر وإنما سيرها بالريح ﴿ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ أي في التجارات والمعايش والسير من قطر إلى قطر، ﴿ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ أي تشكرون الله على ما أنعم به عليكم، من النعم الظاهرة والباطنة الي لا تعد ولا تحصى، ثم قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بالبينات فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ ﴾ هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد ﷺ، بأنه وإن كذبه من قومه، فقد كذبت الرسل المتقدمون، مع ما جاءوا أممهم من الدلائل الواضحات، ولكن انتقم الله ممن كذبهم وخالفهم، وأنجى المؤمنين بهم، ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين ﴾ أي هو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً، كقوله تعالى :﴿ كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة ﴾ [ الأنعام : ٥٤ ]، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ﷺ يقول :« ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلاّ كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة » ثم تلا هذه الآية :﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين ﴾.
يبين تعالى كيف يخلق السحاب، الذي ينزل منه الماء، فقال تعالى :﴿ الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً ﴾ إما من البحر أو مما يشاء الله عزَّ وجلَّ، ﴿ فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ ﴾ أي يمده فيكثره وينميه، ينشىء سحابة ترى في رأي العين مثل الترس، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق، وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالاً مملوءة كما قال تعالى :﴿ وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ ﴾ إلى قوله ﴿ كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ الأعراف : ٥٧ ]، وكذلك قال هنا ﴿ الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً ﴾، قال مجاهد : يعني قطعاً وقال الضحاك : متراكماً، وقال غيره : أسود من كثرة الماء تراه مدلهماً ثقيلاً قريباً من الأرض، وقوله تعالى :﴿ فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ ﴾ أي فترى المطر وهو القطر، يخرج من بين ذلك السحاب ﴿ فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ أي لحاجتهم إليه يفرحون بنزوله عليهم ووصوله إليهم، وقوله تعالى :﴿ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ ﴾ معنى الكلام : أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر، كانوا قانطين من نزول المطر إليهم، فلما جاؤهم، على فاقة فوقع منهم موقعاً عظيماً، فبعدما كانت أرضهم مقشعرة هامدة، أصبحت وقد اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج، ولهذا قال تعالى :﴿ فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله ﴾ يعني المطر ﴿ كَيْفَ يُحْيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ ﴾ ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها، فقال تعالى :﴿ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الموتى ﴾ أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات ﴿ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾.
ثم قال تعالى :﴿ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ ﴾، يقول تعالى :﴿ وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً ﴾ يابسة على الزرع والذي زرعوه، ونبت وشب واستوى على سوقه ﴿ فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً ﴾ أي قد اصفر وشرع في الفساد ﴿ لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي بعد هذا الحال ﴿ يَكْفُرُونَ ﴾ أي يجحدون ما تقدم إليهم من النعم، كقوله تعالى :﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٣ ] إلى قوله ﴿ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ﴾ [ الواقعة : ٦٨ ]، قال ابن أبن أبي حاتم عن عبيد الله بن عمرو قال : الرياح ثمانية : أربعة منها رحمة، وأربعة منها عذاب، فأما الرحمة : فالناشرات، والمبشرات، والمرسلات، والذاريات؛ أما العذاب : فالعقيم، والصرصر وهما في البر والعاصف والقاصف وهما في البحر، فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة، فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحاً للسحاب تلقحه بحمله الماء كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل، وإن شاء حركه بحركة العذاب، فجعله عقيماً وأودعه عذاباً أليماً وجعله نقمة على من يشاء من عباده، فيجعله صرصراً وعاتياً ومفسداً لما يمر عليه؛ والرياح مختلفة في مهابها، صبَا ودَبُور وجَنوب وشَمال، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف، فريح لينة تغذي النبات وأبدان الحيوان، وأخرى تجففه، وأخرى تهلكه وتعطيه، وأخرى تسيره وتصله، وأخرى توهنه وتضعفه.
يقول تعالى : كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها، ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق وردهم عن ضلالتهم، بل ذلك إلى الله فإنه تعالى بقدرته يسمع الأموات إذا شاء، ويهدي من يشاء، ويضل من يشاء، وليس ذلك لأحد سواه، ولهذا قال تعالى :﴿ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ أي خاضعون مستجيبون مطيعون، فأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه، وهذا حال المؤمنين، والأول مثل الكافرين، كما قال تعالى :﴿ إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [ الأَنعام : ٣٦ ]، وقد تواترت الآثار بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر؛ فروى ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها قالت، قال رسول الله ﷺ :« ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به ورد عليه حتى يقوم »، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال :« إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام » وقد شرع السلام على الموتى، والسلام على من لم يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال، وقد علّم النبي ﷺ أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا : سلام عليك أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد وإن لم يسمع المسلِّم الرد، والله أعلم.
ينبه تعالى على تنقل الإِنسان في أطوار الخلق، حالاً بعد حال، فأصله من تراب، ثم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ثم يصير عظاماً، ثم تكسى العظام لحماً، وينفخ فيه الروح، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى، ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يكون صغيراً، ثم حدثاً، ثم مراهقاً، ثم شاباً وهو القوة بعد الضعف ثم يشرع في النقص فيكتهل، ثم يشيخ ثم يهرم وهو الضعف بعد القوة فتضعف الهمة والحركة والبطش، وتشيب اللمة وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة، ولهذا قال تعالى :﴿ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ أي يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد ﴿ وَهُوَ العليم القدير ﴾.
يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضاً، فمنه : إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم، قال الله تعالى :﴿ كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث ﴾ أي فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا، فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة ﴿ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله ﴾ أي في كتاب الأعمال ﴿ إلى يَوْمِ البعث ﴾ أي من يوم خلقتم إلى أن بعثتم، ﴿ ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ ﴾، قال الله تعالى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ ﴾ أي يوم القيامة ﴿ لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ ﴾ أي اعتذارهم عما فعلوا، ﴿ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ ﴾ أي ولا هم يرجعون إلى الدنيا، كما قال تعالى :﴿ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين ﴾ [ فصلت : ٢٤ ].
يقول تعالى :﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ أي قد بينا لهم الحق ووضحناه لهم، وضربنا لهم فيه الأمثال ليستبينوا الحق ويبتعوه، ﴿ وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ ﴾ أي لو رأوا أي آية كانت، سواء كانت باقتراحهم أو غيره لا يؤمنون بها، ويعتقدون أنها سحر وباطل، كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه، ولهذا قال تعالى :﴿ كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ * فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ ﴾ أي اصبر على مخالفتهم وعنادهم، فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك، من نصره إياك عليهم، وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة ﴿ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ ﴾ أي بل اثبت على ما بعثك الله به، فإنه الحق الذي لا مرية فيه، قال ابن أبي حاتم عن أبي يحيى : صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج ﴿ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين ﴾ [ الزمر : ٦٥ ] فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة ﴿ فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ ﴾.
Icon