مكية كما روى عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم بل قال ابن عطية : وغيره : لا خلاف في مكيتها ولم يستثنوا منها شيئا وقال الحسن : هي مكية إلا قوله تعالى :( فسبحان الله حين تمسون ) الآية وهو خلاف مذهب الجمهور والتفسير المرضى كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه وآيها ستون وعند بعض تسع وخمسون ووجه اتصالها بالسورة السابقة على ما قاله الجلال السيوطي إنها ختمت بقوله تعالى :( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ) وافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر وفرح المؤمنين بذلك وأن الدولة لأهل الجهاد فيه ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة هذا مع توخيها لما قبلها في الافتتاح بالم ولا يخفى أن قتال أهل الكتاب ليس من المجاهدة في الله عز وجل وبذلك تضعف المناسبة ومن وقف على أخبار سبب النزول ظهر له أن ما افتتحت به هذه السورة متضمنا نصرة المؤمنين بدفع شماتة أعدائهم المشركين وهم لم يزالوا مجاهدين في الله تعالى ولأجله ولوجهه عز وجل ولا يضر عدم جهادهم بالسيف عند النزول وهذا في المناسبة أوجه فيما أرى من الوجه الذي ذكره الجلال فتأمل
ﰡ
مكية كما روي عن ابن عباس، وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم بل قال ابن عطية، وغيره: لا خلاف في مكيتها ولم يستثنوا منها شيئا، وقال الحسن: هي مكية إلا قوله تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ [الروم: ١٧] الآية وهو خلاف مذهب الجمهور والتفسير المرضي كما سيأتي إن شاء الله تعالى بيانه، وآيها ستون وعند بعض تسع وخمسون، ووجه اتصالها بالسورة السابقة على ما قاله الجلال السيوطي أنها ختمت بقوله تعالى: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا [العنكبوت: ٦٩] وافتتحت هذه بوعد من غلب من أهل الكتاب بالغلبة والنصر وفرح المؤمنين بذلك وأن الدولة لأهل الجهاد فيه ولا يضرهم ما وقع لهم قبل ذلك من هزيمة، هذا مع تواخيها لما قبلها في الافتتاح- بالم- ولا يخفى أن قتال أهل الكتاب ليس من المجاهدة في الله عزّ وجلّ وبذلك تضعف المناسبة، ومن وقف على أخبار سبب النزول ظهر له أن ما افتتحت به هذه السورة متضمنا نصرة المؤمنين بدفع شماتة أعدائهم المشركين وهم لم يزالوا مجاهدين في الله تعالى ولأجله ولوجهه عزّ وجلّ ولا يضر عدم جهادهم بالسيف عند النزول، وهذا في المناسبة أوجه فيما أرى من الوجه الذي ذكره الجلال فتأمل.
والمراد بالأرض أرض الروم على أن (أل) نائبة مناب الضمير المضاف إليه والأقربية بالنظر إلى أهل مكة لأن الكلام معهم أو المراد بها أرض مكة ونواحيها لأنها الأرض المعهودة عندهم والأقربية بالنظر إلى الروم أو المراد بالأرض أرض الروم لذكرهم والأقربية بالنظر إلى عدوهم أعني فارس لحديث المغلوبية، وقد جاء من طرق عديدة أن الحرب وقع بين أذرعات وبصرى، وقال ابن عباس، والسدي: بالأردن وفلسطين، وقال مجاهد: بالجزيرة يعني الجزيرة العمرية لا جزيرة العرب، وجعل كل قول موافقا لوجه من الأوجه الثلاثة على الترتيب، وصحح ابن حجر القول الأول.
وقرأ الكلبي «في أداني الأرض» وَهُمْ أي الروم مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ أي غلب فارس إياهم على أنه مصدر مضاف إلى مفعوله أو إلى نائب فاعله إن كان مصدر المجهول ورجحه بعضهم بموافقته للنظم الجليل.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عمر رضي الله تعالى عنهما، ومعاوية بن قرة «غلبهم» بسكون اللام، وعن أبي عمرو أنه قرأ «غلابهم» على وزن كتاب والكل مصادر غلب، والجار والمجرور متعلق بقوله تعالى: سَيَغْلِبُونَ وفي ذلك تأكيد لما يفهم من السين ولكون مغلوبهم من كان غالبهم، وفي بناء الجملة على الضمير تقوية للحكم أي سيغلبون فارس البتة، وقوله تعالى: فِي بِضْعِ سِنِينَ متعلق بسيغلبون أيضا.
والبضع ما بين الثلاث إلى العشرة عن الأصمعي، وفي المجمل ما بين الواحد: إلى التسعة، وقيل: «هو ما فوق
روي أن فارس غزوا الروم فوافوهم بأذرعات وبصرى فغلبوا عليهم فبلغ ذلك النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان صلى الله تعالى عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم وفرح الكفار بمكة وشمتوا فلقوا أصحاب النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقالوا: إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب وأنكم قاتلتمونا لنظهرن عليكم الله فأنزل الله تعالى الم غُلِبَتِ الرُّومُ الآيات فخرج أبو بكر رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال: أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا فلا تفرحوا ولا يفرسنّ الله تعالى عينكم فو الله ليظهرنّ الروم على فارس أخبرنا بذلك نبينا صلى الله تعالى عليه وسلم فقام إليه أبيّ بن خلف فقال:
كذبت فقال له: أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أنت أكذب يا عدو الله تعالى أنا حبك (١) عشر قلائص مني وعشر قلائص منك فإن ظهرت الروم على فارس غرمت وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين فناحبه ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فأخبره فقال عليه الصلاة والسلام: ما هكذا ذكرت إنما البعض ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل فخرج أبو بكر فلقي أبيا فقال: لعلك ندمت؟ قال: لا تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين قال: قد فعلت فلما أراد أبو بكر الهجرة طلب منه أبيّ كفيلا بالخطر إن غلب فكفل به ابنه عبد الرحمن فلما أراد أبي الخروج إلى أحد طلبه عبد الرحمن بالكفيل فأعطاه كفيلا ومات أبي من جرح جرحه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وظهرت الروم على فارس لما دخلت السنة السابعة.
وجاء في الروايات أنهم ظهروا عليهم يوم الحديبية
وأخرج الترمذي وحسنه أنه لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأخذ أبو بكر رضي الله تعالى عنه الخطر من ورثة أبي وجاء به إلى النبي صلّى الله عليه وسلم فقال عليه الصلاة والسلام:
تصدق به
وفي رواية أبي يعلى، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر عن البراء بن عازب أنه عليه الصلاة والسلام قال: «هذا السحت تصدق به».
واستشكل بأنه إن كان ذلك قبل تحريم القمار كما أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والبيهقي عن قتادة، والترمذي وصححه عن نيار بن مكرم السلمي وهو الظاهر لأن السورة مكية وتحريم الخمر والميسر من آخر القرآن نزولا فما وجه كونه سحتا؟ وإن كان بعد التحريم فكيف يؤمر بالتصدق بالحرام الغير المختلط بغيره وصاحبه معلوم وفي مثل ذلك يجب رد المال عليه، فإن قيل: إنه مال حربي والحادثة وقعت بمكة وهي قبل الفتح دار حرب والعقود الفاسدة تجوز فيها عند أبي حنيفة ومحمد عليهما الرحمة لم يظهر قوله سحتا، وكأني بك تمنع صحة هذه الرواية وإذا لم تثبت صحتها يبقى الأمر بالتصدق، وحينئذ يجوز أن يكون لمصلحة رآها رسول الله صلّى الله عليه وسلم وهو تصدق بحلال أما إذا كان ذلك قبل تحريم القمار كما هو المعول عليه فظاهر، وأما إن كان بعد التحريم فلأن أبا حنيفة، ومحمدا قالا بجواز العقود الفاسدة في دار الحرب بين المسلمين والكفار واحتجا على صحة ذلك بما وقع من أبي بكر في هذه القصة، وقد تظافرت الروايات أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لم ينكر عليه المناحبة وإنما أنكر عليه التأجيل بثلاث سنين وأرشده إلى أن يزايدهم، وربما يقال على تقدير الصحة: إن السحت ليس بمعنى الحرام بل بمعنى ما يكون سببا للعار والنقص في المروءة حتى كأنه يسحتها أي يستأصلها كما في
قوله صلّى الله عليه وسلم: «كسب الحجام سحت»
فقد قال الراغب:
إن هذا لكونه ساحتا للمروءة لا للدين فكأنه صلّى الله عليه وسلم رأى أن تمول ذلك وإن كان حلالا مخل بمروءة أبي بكر رضي الله
فقال: تصدق به
، وهو كما ترى، وقيل: إن السحت كما في النهاية يرد في الكلام بمعنى الحرام مرة وبمعنى المكروه أخرى ويستدل على ذلك بالقرائن فيجوز أن يكون في الخبر إذا صح فيه بمعنى المكروه إذ الأمر بالتصدق يمنع أن يكون بمعنى الحرام فيتعين كونه بمعنى المكروه، وفيه نظر، وأما تفسير السحت بالحرام والتزام القول بجواز التصدق بالحرام لهذا الخبر فمما لا يلتفت إليه أصلا فتأمل. وكانت كلتا الغلبتين في سلطنة خسرو برويز، قال في روضة الصفا ما ترجمته: إنه لما مضى من سلطنة خسرو أربعة عشر سنة غدر الروميون بملكهم وقتلوه مع ابنه بناطوس وهرب ابنه الآخر إلى خسرو فجهز معه ثلاثة رؤساء أولى قدر رفيع مع عسكر عظيم فدخلوا بلاد الشام وفلسطين وبيت المقدس وأسروا من فيها من الأساقفة وغيرهم وأرسلوا إلى خسرو الصليب الذي كان مدفونا عندهم في تابوت من ذهب وكذلك استولوا على الإسكندرية وبلاد النوبة إلى أن وصلوا إلى نواحي القسطنطينية وأكثروا الخراب وجهدوا على إطاعة الروميين لابن قيصر فلم تحصل، قيل: إن الروميين جعلوا عليهم حاكما شخصا اسمه هرقل وكان سلطانا عادلا يخاف الله تعالى فلما رأى تخريب فارس قد شاع في بلاد الروم من النهب والقتل تضرع وبكى وسأل الله تعالى تخليص الروميين فصادف دعاؤه هدف الإجابة فرأى في ليالي متعددة في منامه أنه قد جيء إليه بخسرو في عنقه سلسلة، وقيل له: عجل بمحاربة برويز لأنه يكون لك الظفر والنصرة فجمع هرقل عسكره بسبب تلك الرؤيا وتوجه من قسطنطينية إلى نصيبين فسمع خسرو فجهز اثني عشر ألفا مع أمير من أمرائه فقابلهم هرقل فكسرهم وقتل منهم تسعة آلاف مع رؤسائهم.
وفي بعض الروايات أنهم ربطوا خيولهم بالمدائن، ورأيت في بعض الكتب أن سبب ظهور الروم على فارس أن كسرى بعث إلى أميره شهريار وهو الذي ولاه على محاربة الروم أن اقتل أخاك فرخان لمقالة قالها وهو قوله: لقد رأيتني جالسا على سرير كسرى فلم يقتله فبعث إلى فارس إني قد عزلت شهريار ووليت أخاه فرخان فاطلع فرخان على حقيقة الحال فرد الملك إلى أخيه وكتب شهريار إلى قيصر ملك الروم فتعاونا على كسرى فغلبت الروم فارس وجاء الخبر ففرح المسلمون وكان ذلك من الآيات البينات الباهرة الشاهدة بصحة النبوة وكون القرآن من عند الله عزّ وجلّ لما في ذلك من الإخبار عن الغيب الذي لا يعلمه الله تعالى العليم الخبير، وقد صح أنه أسلم عند ذلك ناس كثير. وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، وابن عباس، وابن عمر، وأبو سعيد الخدري، والحسن، ومعاوية بن قرة «غلبت الروم» على البناء للفاعل وسَيَغْلِبُونَ على البناء للمفعول، والمعنى على ما قيل: إن الروم غلبوا على ريف الشام وسيغلبهم المسلمون وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزول الآية ففتحوا بعض بلادهم، وإضافة «غلب» عليه من إضافة المصدر إلى الفاعل، ووفق بين القراءتين بأن الآية نزلت مرتين مرة بمكة على قراءة الجمهور ومرة يوم بدر كما رواه الترمذي وحسنه عن أبي سعيد على هذه القراءة.
وقال بعض الأجلة: الصواب أن يبقى نزولها على ظاهره ويراد بغلب المسلمين إياهم ما كان في غزوة مؤتة وكانت في جمادى الأولى سنة ثمان وذلك قريب من التاريخ الذي ذكروه لنزول الآية أولا ولا حاجة إلى تعدد النزول
ولا يخفى على من سبر السبر أن هذا مما لا يكاد يتسنى لأن الروم لم يغلبهم المسلمون في تلك الغزوة بل انصرفوا عنهم بعد أن أصيبوا بجعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وعباد بن قيس في آخرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين كالمغلوبين، بل
ذكر ابن هشام أنهم لما أتوا المدينة جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله تعالى وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى»
وروي أن أم سلمة قالت لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومع المسلمين؟ فقالت: والله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يا فرار ففررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته ولم يخرج، وذكر أبياتا لقيس اليعمري يعتذر فيها مما صنع يومئذ وصنع الناس وقد تضمنت كما قال بيان أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وأن خالد بن الوليد انحاز بمن معه، على أن فيما ذكر أنه الصواب بحثا بعد: فلعل الأول في التوفيق إذا صحت هذه القراءة ما ذكر أولا فتأمل..
وفي البحر كان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى:
الم غُلِبَتِ الرُّومُ- إلى- سِنِينَ افتتاح المسلمين بيت المقدس معينا زمانه ويومه وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى وإن ابن برجان مات قبل الوقت الذي عينه للفتح وإنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم وكان أبو جعفر يعتقد في أبو الحكم هذا أنه كان يتطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله تعالى انتهى، واستخرج بعض العارفين كمحيي الدين قدس سره، والعراقي، وغيرهم المغيبات من القرآن العظيم أمر شهير وهو مبني على قواعد حسابية وأعمال حرفية لم يرد شيء منها عن سلف الأمة ولا حجر على فضل الله عزّ وجلّ وكتاب الله تعالى فوق ما يخطر للبشر،
وقد سئل علي كرم الله تعالى وجهه هل أسر إليكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا كتمه عن غيركم فقال: لا إلّا أن يؤتي الله تعالى عبدا فهما في كتابه،
هذا ونسأل الله سبحتانه أن يوفقنا لفهم أسرار كتابه بحرمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل هذه الحالة ومن بعدها وهو حاصل ما قيل أي من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين، وتقديم الخبر للتخصيص، والمعنى أن كلا من كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ليس إلا بأمر الله تعالى شأنه وقضائه عزّ وجلّ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: ١٤٠] وقرأ أبو السمال، والجحدري عن العقيلي «من قبل ومن بعد» بالكسر والتنوين فيهما فليس هناك مضاف إليه مقدر أصلا على المشهور كأنه قيل: لله الأمر قبلا وبعدا أي في زمان متقدم وفي زمان متأخر، وحذف بعضهم الموصوف، وذكر السكاكي أن المضاف إليه مقدر في مثل ذلك أيضا والتنوين عوض عنه، وجوز الفراء الكسر من غير تنوين، وقال الزجاج: إنه خطأ لأنه إما أن لا يقدر فيه الإضافة فينون أو يقدر فيبنى على الضم، وأما تقدير لفظه قياسا على قوله: بين ذراعي وجبهة الأسد فقياس مع الفارق لذكره فيه بعد وما نحن فيه ليس كذلك، وقال النحاس للفراء في كتابه: في القرآن أشياء كثيرة الغلط، منها أنه زعم أنه يجوز «من قبل ومن بعد» بالكسر بلا تنوين وإنما يجوز «من قبل ومن بعد» على أنهما نكرتان أي من متقدم ومن متأخر، وذهب إلى قول الفراء بن هشام في بعض كتبه، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد «لله الأمر من قبل ومن بعد» على أن الأول مخفوض منون والثاني مضموم بلا تنوين.
وَيَوْمَئِذٍ أي ويوم إذ يغلب الروم فارسا يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ وتغليبه من له كتاب على من لا
وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكد لمضمون الجملة المتقدمة من قوله تعالى: سَيَغْلِبُونَ وقوله سبحانه: يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ويقال له المؤكد لنفسه لأن ذلك في معنى الوعد وعامله محذوف وجوبا كأنه قيل: وعد الله تعالى ذلك وعدا لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ أي وعد كان مما يتعلق بالدنيا والآخرة لما في خلفه من النقص المستحيل عليه عزّ وجلّ، وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار للتعليل الحكمي وتفخيمه، والجملة استئناف مقرر لمعنى المصدر، وجوز أن يكون حالا منه فيكون كالمصدر الموصوف كأنه سبحانه يقول: وعد الله تعالى وعدا غير مخلف وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنه تعالى لا يخلف وعده لجهلهم بشؤونه عزّ وجلّ وعدم تفكرهم فيما يجب له جلّ شأنه وما يستحيل عليه سبحانه أو لا يعلمون ما سبق من شؤونه جلّ وعلا، وقيل: لا يعلمون شيئا أو ليسوا من أولي العلم حتى يعلموا ذلك يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وهو ما يحسون به من زخارفها وملاذها وسائر أحوالها الموافقة لشهواتهم الملائمة لأهوائهم المستدعية لانهماكهم فيها وعكوفهم عليها.
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يعلمون منافعها ومضارها ومتى يزرعون ومتى يحصدون وكيف يجمعون وكيف يبنون أي ونحو ذلك مما لا يكون لهم منه أثر في الآخرة، وروي نحوه عن قتادة، وعكرمة.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في الآية: بلغ من حذق أحدهم بأمر دنياه أنه يقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن يصلي، وقال الكرماني: كل ما يعلم بأوائل الروية فهو الظاهر وما يعلم بدليل العقل فهو الباطن وقيل: هو هنا التمتع بزخارفها والتنعم بملاذها، وتعقب بأنهما ليسا مما علموه منها بل من أفعالهم المرتبة على علمهم، وعن ابن جبير أن الظاهر هو ما علموه من قبل الكهنة مما تسترقه الشياطين، وليس بشيء كما لا يخفى، وأيا ما كان فالظاهر أن المراد بالظاهر مقابل الباطن، وتنويه للتحقير والتخسيس أي يعلمون ظاهرا حقيرا خسيسا وقيل: هو بمعنى الزائل الذاهب كما في قول الهذلي:
وعيرها الواشون أني أحبها | وتلك شكاة ظاهر عنك عارها |
بقوله: «أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله تعالى وأسرع في طاعة الله عزّ وجلّ».
وقوله سبحانه: وَأَجَلٍ مُسَمًّى عطف على الحق أي وبأجل معين قدره الله تعالى لبقائها لا بد لها من أن تنتهي إليه لا محالة وهو وقت قيام الساعة وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات، هذا وجوز أن يكون قوله تعالى:
فِي أَنْفُسِهِمْ متعلقا بيتفكروا ومفعولا له بالواسطة على معنى أولم يتفكروا في ذواتهم وأنفسهم التي هي أقرب المخلوقات إليهم وهم أعلم بشؤونها وأخبر بأحوالها منهم بأحوال ما عداها فيتدبروا ما أودعها الله تعالى ظاهر أو باطنا من غرائب الحكم الدالة على التدبير دون الإهمال وأنه لا بد لها من انتهاء إلى وقت يجازيها الحكيم الذي دبر أمرها على الإحسان إحسانا وعلى الإساءة مثلها حتى يعلموا عند ذلك أن سائر الخلائق كذلك أمرها جار على الحكمة والتدبير وأنه لا بد لها من الانتهاء إلى ذلك الوقت. وتعقب بأن أمر معاد الإنسان ومجازاته بما عمل من الإساءة
وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ تذييل مقرر لما قبله ببيان أن أكثرهم غير مقتصرين على ما ذكره من الغفلة من أحوال الآخرة والأعراض عن التفكر فيما يرشدهم إلى معرفتها من خلق السماوات والأرض وما بينهما من المصنوعات بل هم منكرون جاحدون لقاء حسابه تعالى وجزائه عزّ وجلّ بالبعث، وهم القائلون بأبدية الدنيا كالفلاسفة على المشهور أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ توبيخ لهم بعدم اتعاظهم بمشاهدة أحوال أمثالهم الدالة على عاقبتهم ومآلهم والهمزة للإنكار التوبيخي أو الإبطالي وحيث دخلت على النفي وإنكار النفي إثبات قيل: إنها لتقرير المنفي والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام أي أقعدوا في أماكنهم ولم يسيروا في الأرض، وقوله تعالى:
فَيَنْظُرُوا عطف على يسيروا داخل في حكمه والمعنى أنهم قد ساروا في أقطار الأرض وشاهدوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم المهلكة كعاد، وثمود، وقوله تعالى: كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً إلخ بيان لمبدأ أحوالهم ومآلها يعني أنهم كانوا أقدر منهم على التمتع بالحياة الدنيا حيث كانوا أشد منهم قوة وَأَثارُوا الْأَرْضَ أي قلبوها للحرث والزراعة كما قال الفراء، وقيل: لاستنباط المياه واستخراج المعادن وغير ذلك.
وقرأ أبو جعفر «وآثاروا» بمدة بعد الهمزة، وقال ابن مجاهد: ليس بشيء وخرج ذلك أبو الفتح على الإشباع كقوله.
ومن ذم الزمان بمنتزاح وذكر أن هذا من ضرورة الشعر ولا يجيء في القرآن، وقرأ أبو حيوة وأثروا من الأثرة وهو الاستبداد بالشيء وآثروا الأرض أي أبقوا فيها آثارا وَعَمَرُوها أي وعمرها أولئك الذين كانوا قبلهم بفنون العمارات من الزراعة والغرس والبناء وغيرها، وقيل: أي أقاموا بها، يقال عمرت بمكان كذا وعمرته أي أقمت به أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها أي عمارة أكثر من عمارة هؤلاء إياها والظاهر أن الأكثرية اعتبارا لكم وعممه بعضهم فقال: أكثر كما وكيفا وزمانا، وإذا أريد العمارة بمعنى الإقامة فالمعنى أقاموا بها إقامة أكثر زمانا من إقامة هؤلاء بها، وفي ذكر أفعل تهكم بهم إذ لا مناسبة بن كفار مكة وأولئك الأمم المهلكة فإنهم كانوا معروفين بالنهاية في القوة وكثرة العمارة وأهل مكة ضعفا ملجؤون إلى واد غير ذي زرع يخافون أن يتخطفهم الناس، ونحو هذا يقال إذا سرت العمارة بالإقامة فإن أولئك كانوا مشهورين بطول الأعمار جدا وأعمار أهل مكة قليلة بحيث لا مناسبة يعتد بها بينها وبين أعمال أولئك المهلكين.
وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو الآيات الواضحات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي فكذبوهم فأهلكهم فما كان الله تعالى شأنه ليهلكهم من غير جرم يستدعيه من قبلهم، وفي التعبير عن ذلك بالظلم اظهار لكمال نزاهته تعالى عنه وإلا فقد قال أهل السنة: إن إهلاكه تعالى من غير جرم ليس من الظلم في شيء لأنه عزّ وجلّ مالك والمالك يفعل بملكه ما يشاء والنزاع في المسألة شهير وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث ارتكبوا باختيارهم من المعاصي ما أوجب بمقتضى الحكمة ذلك، وتقديم أَنْفُسَهُمْ على يَظْلِمُونَ للفاصلة وجوز أن يكون للحصر بالنسبة إلى الرسل الذين يدعونهم ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا أي عملوا السيئات، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بالإساءة والإشعار بعلة الحكم، وثُمَّ للتراخي الحقيقي أو للاستبعاد والتفاوت في الرتبة السُّواى أي العقوبة السوأى وهي العقوبة بالنار فإنها تأنيث الأسوأ كالحسنى تأنيث الأحسن أو مصدر كالبشرى وصف به العقوبة مبالغة كأنها نفس السوء، وهي مرفوعة على أنها اسم وكان خبرها عاقِبَةَ.
وقوله تعالى: وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ عطف على كَذَّبُوا داخل معه في حكم العلية وإيراد الاستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على استمراره وتجدده، وجوز أن يكون السُّواى مفعولا مطلقا لأساؤوا من غير لفظه أو مفعولا به له لأن أساؤوا بمعنى اقترفوا واكتسبوا، والسوأى بمعنى الخطيئة لأنه صفة أو مصدره مؤول بها وكونه صفة مصدر أساؤوا من لفظه أي الإساءة السوأى بعيد لفظا مستدرك معنى وأَنْ كَذَّبُوا اسم كان. وكون التكذيب عاقبتهم مع أنهم لم يخلوا عنه إما باعتبار استمراره أو باعتبار أنه عبارة عن الطبع، وجوز أن يكون أن كذبوا بدلا من السُّواى الواقع اسما لكان أو عطف بيان لها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أن كذبوا، وأن تكون أَنْ تفسيرية بمعنى أي والمفسر إما أساؤوا أو السُّواى فإن الإساءة تكون قولية كما تكون فعلية فإذن قبلها مضمن معنى القول دون حروفه ويظهر ذلك التضمن بالتفسير، وإذا جاز وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: ٦] فهذا أجوز فليس هذا الوجه متكلفا خلافا لأبي حيان. وجوز في قراءة الحرميين، وأبي عمرو وأن تكون السُّواى صلة الفعل وأَنْ كَذَّبُوا تابعا له أو خبر مبتدأ محذوف أو على تقدير حرف التعليل وخبر كان محذوفا تقديره وخيمة ونحوه وتعقب ذلك في البحر فقال: هو فهم أعجمي لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف وقد تكلف له محذوف لا يدل عليه دليل، وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئهم.
وقرأ عبد الله وطلحة «يبدىء» بضم الياء وكسر الدال، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر فما بالعهد من قدم.
ثُمَّ يُعِيدُهُ بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء، وتقديم المعمول للتخصيص، وكان الظاهر يرجعون بياء الغيبة إلا أنه عدل عنه إلى خطاب المشركين لمكافحتهم بالوعيد ومواجهتهم بالتهديد وإيهام إن ذلك مخصوص بهم فهو التفات للمبالغة في الوعيد والترهيب. وقرأ أبو عمرو، وروح «يرجعون» بياء الغيبة كما هو الظاهر وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ التي هي وقت إعادة الخلق ومرجعهم إليه عزّ وجلّ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ أي يسكتون وتنقطع حجتهم، قال الراغب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل، ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قبل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته وأبلست الناقة فهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة (١) وقال ابن ثابت: يقال أبلس الرجل إذا يئس من كل خير،
وفي الحديث «وأنا مبشرهم إذا أبلسوا»
والمراد بالمجرمين على ما أفاده الطيبي أولئك الذين أساؤوا والسوأى لكنه وضع الظاهر موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بهذا الوصف الشنيع والإشعار بعلة الحكم.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، والسلمي «يبلس» بفتح اللام
وخرج على أن الفعل من أبلسه إذا أسكته، وظاهره أنه يكون متعديا وقد أنكره أبو البقاء، والسمين، وغيرهما حتى تكلفوا وقالوا: أصله يبلس إبلاس المجرمين على إقامة المصدر مقام الفاعل ثم حذفه وإقامة المضاف إليه مقامه. وتعقبه الخفاجي عليه الرحمة فقال: لا يخفى عدم صحته لأن إبلاس المجرمين مصدر مضاف لفاعله وفاعله هو فاعل الفعل بعينه فكيف يكون نائب الفاعل فتأمل.
وأنت تعلم أنه متى صحت القراءة لا تسمع دعوى عدم سماع استعمال أبلس متعديا.
وقرأ خارجة عن نافع، وابن سنان عن أبي جعفر، والأنطاكي عن شيبة «ولم تكن» بالتاء الفوقية.
وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ أي بإلهيتهم وشركتهم كما يشير إليه العدول عن وكانوا بهم كافِرِينَ حيث يئسوا منهم ووقفوا على كنه أمرهم، وَكانُوا للدلالة على الاستمرار لا للمحافظة على رؤوس الفواصل كما توهم.
وقيل: إنها للمضي كما هو الظاهر، والباء في بِشُرَكائِهِمْ سببية أي وكانوا في الدنيا كافرين بالله تعالى بسببهم ولم يرتضه بعض الأجلة إذ ليس في الأخبار بذلك فائدة يعتد بها، ولأن المتبادر أن يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ ظرف للإبلاس وما عطف عليه ولذا قيل: إن المناسب عليه جعل الواو حالية ليكون المعنى أنهم لم يشفعوا لهم مع أنهم سبب كفرهم في الدنيا وهو أحسن من جعله معطوفا على مجموع الجملة مع الظرف، مع أنه عليه ينبغي القطع للاحتياط إلّا أن يقال: إنه ترك تعويلا على القرينة العقلية، وهو خلاف الظاهر، وكتب «شفعواء» في المصحف بواو بعدها ألف وهو خلاف القياس والقياس ترك الواو أو تأخيرها عن الألف لكن الأول أحسن كما ذكر في الرسم، وكذا خولف القياس في كتابة السُّواى حيث كتبت بالألف قبل الياء والقياس كما في الكشف الحذف لأن الهمز يكتب على نحو ما يسهل وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أعيد لتهويله وتفظيع ما يقع فيه وهو ظرف للفعل بعده، وقوله تعالى:
يَوْمَئِذٍ على ما ذكره الطبرسي بدل منه.
وفي البحر التنوين في «يومئذ» تنوين عوض من الجملة المحذوفة أي ويوم تقوم الساعة يوم إذ يبلس المجرمون يَتَفَرَّقُونَ وظاهره أن «يومئذ» ظرف لتقوم، ولا يخفى ما في جعل الجملة المعوض عنها التنوين حينئذ ما ذكره من النظر.
وفي إرشاد العقل السليم أن قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ تهويل ليوم قيام الساعة إثر تهويل وفيه رمز إلى أن التفرق يقع في بعض منه، وفي وجه الرمز إلى ذلك بما ذكر خفاء، وضمير يَتَفَرَّقُونَ للمسلمين والكافرين الدال عليهما، ما قبل من عموم الخلق وما بعد من التفصيل، وذهب إلى ذلك الزمخشري، وجماعة.
وقال في الإرشاد: هو لجميع الخلق المدلول عليهم بما تقدم من مبدئهم ومرجعهم وإعادتهم لا المجرمون خاصة، وقال أبو حيان: يظهر أنه عائد على الخلق قبله وهو المذكور في قوله تعالى: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ والمراد بتفرقهم اختلافهم في المحال والأحوال كما يؤذن به التفصيل، وليس ذلك باعتبار كل فرد بل باعتبار كل فريق، فقد أخرج ابن أبي حاتم عن الحسن أنه قال في ذلك هؤلاء في عليين وهؤلاء في أسفل سافلين، والتفصيل يؤذن بذلك أيضا، وهذا التفرق بعد تمام الحساب.
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ الروضة الأرض ذات النبات والماء، وفي المثل أحسن من بيضة في روضة يريدون بيضة النعامة، وباعتبار الماء قيل: أرض الوادي واستراض أي كثر ماؤه وأراضهم أرواهم بعض الري من أراضي الحوض إذا صب فيه من الماء ما يوارى أرضه، ويقال: شربوا حتى أراضوا أي شربوا عللا بعد نهل. وقيل: معنى أراضوا صبوا اللبن على اللبن، وظاهر تفسير الكثير للروضة اعتبار النبات والماء فيها، وأظن أن ابن قتيبة صرح بأنه لا يقال الأرض ذات نبات بلا ماء روضة.
وقيل: هي البستان الحسن، وقيل: موضع الخضرة، وقال الخفاجي: الروضة البستان وتخصيصها بذات الأنهار
وأخرج جماعة عن مجاهد يحبرون ينعمون، وقال أبو بكر بن عياش: يتوجهون على رؤوسهم.
وقال ابن كيسان: يحلون، وقال الأوزاعي، ووكيع، ويحيى بن أبي كثير: يسمعون الأغاني،
وأخرج عبد بن حميد عن الأخير أنه قال: قيل يا رسول الله ما الحبر؟ فقال عليه الصلاة والسلام: اللذة والسماع.
وذكر بعضهم أن الظاهر يسرون ولم يذكر ما يسرون به إيذانا بكثرة المسار وما جاء في الخبر فمن باب الاقتصار على البعض، ولعل السائل كان يحب السماع فذكره صلى الله تعالى عليه وسلم له لذلك، والتعبير بالمضارع للإيذان بتجدد السرور لهم ففي كل ساعة يأتيهم ما يسرون به من متجددات الملاذ وأنواعها المختلفة.
وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا التي من جملتها الآيات الناطقة بما فصل وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي وكذبوا بالبعث، وصرح بذلك مع اندراجه في تكذيب الآيات للاعتناء به، وقوله تعالى: فَأُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الكفر والتكذيب بآياته تعالى وبلقاء الآخرة للإيذان بكمال تميزهم بذلك عن غيرهم وانتظامهم في سلك المشاهدات، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه للإشعار ببعد منزلتهم في الشر أي فأولئك الموصوفون بما ذكر من القبائح فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ على الدوام لا يغيبون عنه أبدا، والظاهر أن الفسقة من أهل الإيمان غير داخلين في أحد الفريقين أما عدم دخولهم في الذين كفروا وكذبوا بالآيات والبعث فظاهر وأما عدم دخولهم في الذين آمنوا وعملوا الصالحات فإما لأن ذلك لا يقال في العرف إلّا على المؤمنين المجتنبين المفسقات على ما قيل، وإما لأن المؤمن الفاسق يصدق على المؤمن الذي لم يعمل شيئا من الصالحات أصلا فهم غير داخلين في ذلك باعتبار جميع الأفراد وحكمهم معلوم من آيات أخر فلا تغفل.
فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ أثر ما بين حال فريقي المؤمنين العاملين بالصالحات والكافرين المكذبين بالآيات وما لهما من الثواب والعقاب أرشد سبحانه إلى ما ينجي من الثاني ويفضي إلى الأول من تنزيه الله عزّ وجلّ عن كل ما لا يليق بشأنه جلّ شأنه ومن حمده تعالى والثناء عليه ووصفه بما هو أهله من الصفات الجميلة والشؤون الجليلة، وتقديم الأول على الثاني لما أن التخلية متقدمة على التحلية مع أنه أول ما يدعي إليه الذين كفروا المذكورون قبل بلا فصل، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، وظاهر كلامهم أن (سبحان) هنا منصوب بفعل أمر محذوف فكأنه قيل: إذا علمتم ذلك أو إذا صح واتضح حال الفريقين، ومآلهما فسبحوا سبحان الله إلخ أي نزهوه تعالى تنزيهه اللائق به عزّ وجلّ في هذه الأوقات، قال في الكشف: وفيه إشكال لأن سبحان الله لزم طريقة واحدة لا ينصبه فعل الأمر لأنه إنشاء من نوع آخر، والجواب أن ذلك توضيح للمعنى وأن وقوعه جواب الشرط على منوال إن فعلت كذا فنعم ما فعلت فإنه إنشاء أيضا لكنه ناب مناب الخبر وأبلغ، كذلك هو لإنشاء تنزيهه تعالى في الأوقات هربا من وبيل عقابه وطلبا لجزيل ثوابه، والشرط والجواب مقول على ألسنة العباد انتهى، وفي حواشي شيخ زاده أن الأمر بل الجملة الإنشائية مطلقا لا يصح تعليقها بالشرط لأن الإنشاء إيقاع المعنى بلفظ يقارنه ولو جاز تعليقه للزم تأخره عن زمان التلفظ وأنه غير جائز وإنما المعلق بالشرط هو الإخبار عن إنشاء التمني والترجي وإنشاء المدح والذم والاستفهام ونحوها فإذا قلت: إن فعلت كذا غفر الله تعالى لك
ولعله أظهر مما في الكشف بل لا يظهر ما ذكر فيه من دعوى أن الشرط والجواب مقول على ألسنة العباد.
ويوهم كلام بعضهم أن الكلام بتقدير القول حيث قال: كأنه قيل إذا صح واتضح عاقبة المطيعين والعاصين فقولوا: نسبح سبحان إلخ، والمعنى فسبحوه تسبيحا في الأوقات، ولا يخفى ما فيه، وكأني بك تمنع لزوم سبحان طريقة واحدة وهي التي ذكرت أولا، ويجوز نصب فعل الأمر لها إذا اقتضاه المقام وأشعر به الكلام، ولكن كأنك تميل إلى اعتبار كون الجملة خبرية لفظا إنشائية معنى بأن يراد بها الأمر لتوافق جملة لَهُ الْحَمْدُ فإنها وإن كانت خبرية إلّا أن الأخبار بثبوت الحمد له تعالى ووجوبه على المميزين من أهل السماوات والأرض كما يشعر به اتباع ذلك. ذكر الوعد والوعيد وتفريعه عليه بالفاء في معنى الأمر به على أبلغ وجه على ما صرح به بعض الأجلة فكأنه حينئذ قد قيل:
فسبحوا الله تعالى تسبيحه اللائق به سبحانه في هذه الأوقات واحمدوه، وظاهر كلام الأكثرين أن جملة لَهُ الْحَمْدُ إلخ معطوفة على الجملة التي قبلها وأن عَشِيًّا معطوف على حِينَ تُمْسُونَ بل هم صرحوا بهذا، وعلى ما ذكر يكون جملة لَهُ الْحَمْدُ فاصلة بين المعطوف والمعطوف عليه، وما أشبه الآية حينئذ بآية الوضوء على ماذهب إليه أهل السنة. وفي الكشاف أن عَشِيًّا متصل بقوله تعالى: حِينَ تُمْسُونَ وقوله تعالى: وَلَهُ الْحَمْدُ إلخ اعتراض بينهما، ومعناه أن على المميزين كلهم من أهل السماوات والأرض أن يحمدوه.
وإلى كون الجملة معترضة ذهب أبو البقاء أيضا، وجعل قوله تعالى: فِي السَّماواتِ حالا من الحمد، وفي جواز مجيء الحال منه على احتمال كونه مبتدأ وهو الظاهر خلاف، ولعل من لا يجوّز ذلك يجعل الجار متعلقا بالثبوت الذي تقتضيه النسبة، والمراد بالتسبيح والحمد ظاهرهما على ما ذهب إليه جمع من الأجلة، وقيل: المراد بالتسبيح الصلاة وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم وصححه عن أبي رزين قال: جاء نافع بن الأزرق إلى ابن عباس فقال: هل تجد الصلوات الخمس في القرآن؟ فقال: نعم فقرأ فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ صلاة المغرب وَحِينَ تُصْبِحُونَ صلاة الصبح وَعَشِيًّا صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الظهر، وقرأ «ومن بعد صلاة العشاء» وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر عنه قال: جمعت هذه الآية مواقيت الصلاة فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ الفجر وَعَشِيًّا العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ الظهر، وذهب الحسن إلى ذلك حتى أنه ذهب إلى أن الآية مدنية لما أنه يرى فرضية الخمس بالمدينة وأنه كان الواجب بمكة ركعتين في أي وقت اتفقت الصلاة فيه، والصحيح أنها فرضت بمكة ويدل عليه حديث المعراج دلالة بينة.
واختار الإمام الرازي حمل التسبيح على التنزيه فقال: إنه أقوى والمصير إليه أولى لأنه يتضمن الصلاة وذلك لأن التنزيه المأمور به يتناول التنزيه بالقلب وهو الاعتقاد الجازم وباللسان مع ذلك وهو الذكر الحسن وبالأركان معهما جميعا وهو العمل الصالح، والأول هو الأصل والثاني ثمرة الأول والثالث ثمرة الثاني، وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد شيئا ظهر من قلبه على لسانه وإذا قال ظهر صدقه في مقاله من أحوال أفعاله واللسان ترجمان الجنان والأركان برهان اللسان لكن الصلاة أفضل أعمال الأركان وهي مشتملة على الذكر باللسان والقصد بالجنان فهو تنزيه في التحقيق، فإذا قال سبحانه نزهوني وهذا نوع من أنواع التنزيه والأمر المطلق لا يختص بنوع دون نوع فيجب حمله على كل ما هو تنزيه
وذكر الإمام أن في هذا الاعتراض لطيفة وهو أن الله تعالى لما أمر العباد بالتسبيح كأنه قال جلّ وعلا: بين لهم أن تسبيحهم الله تعالى لنفعهم لا لنفع يعود إلى الله عزّ وجلّ فعليهم أن يحمدوا الله تعالى إذا سبحوه جلّ شأنه، وهذا كما في قوله تعالى: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [الحجرات: ١٧].
وجوز بعضهم كون عَشِيًّا معطوفا على قوله تعالى: فِي السَّماواتِ ورد بأنه لا يعطف ظرف الزمان على المكان ولا عكسه، وقيل: يحتمل أن يكون معطوفا على مقدر أي وله الحمد في السماوات والأرض دائما وعشيا على أنه تخصيص بعد تعميم والجملة اعتراضية أو حالية وهو كما ترى، وتخصيص الأوقات المذكورة بالذكر لظهور آثار القدرة والعظمة والرحمة فيها، وقدم الإمساء على الإصباح لتقدم الليل والظلمة، وقدم العشي على الإظهار لأنه بالنسبة إلى الإظهار كالإمساء بالنسبة إلى الإصباح. وفي البحر قوبل بالعشي الإمساء وبالإظهار الإصباح لأن كلا منهما يعقب بما قابله فالعشي يعقبه الإمساء والإصباح يعقبه الإظهار، وقال العلامة أبو السعود: إن تقديم عَشِيًّا على حِينَ تُظْهِرُونَ لمراعاة الفواصل وليس بذاك وذكر الإمام أنه قدم الإمساء على الإصباح هاهنا وأخر في قوله تعالى:
سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا [الأحزاب: ٤٢] لأن أول الكلام هاهنا ذكر الحشر والإعادة وكذا آخره والإمساء آخر فذكر الآخر أولا لتذكر الآخرة، وتغيير الأسلوب في عَشِيًّا لما أنه لا يجيء منه الفعل بمعنى الدخول في العشي كالمساء والصباح والظهيرة، ولعل السر في ذلك على ما قيل: إنه ليس من الأوقات التي تختلف فيها أحوال الناس وتتغير تغيرا ظاهرا مصححا لوصفهم بالخروج عما قبلها والدخول فيها كالأوقات المذكورة فإن كلا منها وقت يتغير فيه الأحوال تغيرا ظاهرا، أما في المساء والصباح فظاهر. وأما في الظهيرة فلأنها وقت يعاد فيه التجرد عن الثياب للقيلولة كما مرت إليه الإشارة في سورة النور، هذا وفضل التسبيح والتحميد أظهر من أن يستدل عليه، وذكروا في فضل ما تضمنته الآية عدة أخبار،
فأخرج الإمام أحمد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن السني في عمل اليوم والليلة والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في الدعوات عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قال: «ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفى لأنه يقول كلما أصبح وأمسى سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشيا وحين تظهرون»
إلى غير ذلك من الأخبار، ولعل فيه تأييدا لكون فَسُبْحانَ إلخ مقولا على ألسنة العباد فتأمل. وقرأ عكرمة «حين تمسون وحينا تصبحون» بتنوين حين فالجملة صفة حذف منها العائد والتقدير تمسون فيه وتصبحون فيه، وعلى قراءة الجمهور الجملة مضاف إليها ولا تقدير للضمير أصلا يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الإنسان من النطفة وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ النطفة من الإنسان وهو التفسير المأثور عن ابن عباس، وابن مسعود، ولعل مرادهما التمثيل، وعن مجاهد يخرج المؤمن من الكافر ويخرج الكافر من المؤمن، وقيل:
أي يعقب الحياة بالموت وبالعكس وَيُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها فالإحياء والموت مجازان وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإخراج البديع الشأن تُخْرَجُونَ من قبوركم. وقرأ ابن وثاب، وطلحة، والأعمش «تخرجون» بفتح التاء وضم الراء، وهذا على ما قيل نوع تفصيل لقوله تعالى: يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ [الروم: ١١] وَمِنْ آياتِهِ الباهرة الدالة على أنكم تبعثون دلالة أوضح من دلالة ما سبق فإن دلالة بدأ خلقهم على إعادتهم أظهر من دلالة إخراج الحي من الميت وإخراج الميت من الحي ومن دلالة إحياء الأرض بعد موتها عليها أَنْ خَلَقَكُمْ أي في ضمن خلق آدم عليه السلام لما مر مرارا من أن خلقه عليه السلام منطو على خلق ذرياته انطواء إجماليا مِنْ تُرابٍ لم يشم رائحة الحياة قط ولا مناسبة بينه وبين ما أنتم عليه في ذاتكم وصفاتكم، وقيل: خلقهم من تراب لأنه تعالى خلق مادتهم منه فهو مجاز أو على تقدير مضاف ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ أي في الأرض تتصرفون في أغراضكم وأسفاركم، وإِذا فجائية وثُمَّ على ما ذهب إليه أبو حيان للتراخي الحقيقي لما بين الخلق والانتشار من المدة، وقال العلامة الطيبي: إنها للتراخي الرتبي لأن المفاجأة تأبى الحقيقي. ورد بأنه لا مانع من أن يفاجىء أحدا أمر بعد مضي مدة من أمر آخر أو أحدهما حقيقي والآخر عرفي. وتعقب بأنه على تسليم صحته يأباه الذوق فإنه كالجمع بين الضب والنون فما ذكره الطيبي أنسب بالنظم القرآني، والظاهر أن الجملة معطوفة على المبتدأ قبلها وهي بتأويل مفرد كأنه قيل: ومن آياته خلقكم من تراب ثم مفاجأتكم وقت كونكم بشرا منتشرين كذا قيل، وفي وقوع الجملة مبتدأ بمثل هذا التأويل نظر إلا أن يقال: إنه يغتفر في التابع ما لا يغتفر في المتبوع ويتخيل من كلام بعضهم أن العطف على خَلَقَكُمْ بحسب المعنى حيث قال: أي ثم فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين، ويفهم من كلام صاحب الكشف في نظير الآية أعني قوله تعالى الآتي: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ أنه أقيمت الجملة مقام المفرد من حيث المعنى لأنها تفيد فائدته، والكلام على أسلوب مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: ٩٧] لأنه في معنى وأمن داخله، وأما من حيث الصورة فهي جملة معطوفة على قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ وفائدة هذا الأسلوب الإشعار بأن ذلك آية خارجة من جنس الآيات مستقلة بشأنها مقصودة بذاتها فتأمل وَمِنْ آياتِهِ الدالة على البعث أيضا أَنْ خَلَقَ لَكُمْ أي لأجلكم مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً فإن خلق أصل أزواجكم حواء من ضلع آدم عليه السلام متضمن لخلقهن من أنفسكم على ما عرفت من التحقيق- فمن- تبعيضية والأنفس بمعناها الحقيقي، ويجوز أن تكون مِنْ ابتدائية والأنفس مجاز عن الجنس أي خلق لكم من جنسكم لا من جنس آخر، قيل: وهو الأوفق بقوله تعالى: لِتَسْكُنُوا إِلَيْها أي لتميلوا إليها يقال: سكن إليه إذا مال فإن المجانسة من دواعي النظام والتعارف كما أن المخالفة من أسباب التفرق والتنافر وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ أي بين الأزواج إما على تغليب الرجال على النساء في الخطاب أو على حذف ظرف معطوف على الظرف المذكور أي جعل بينكم وبينهن كما في قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ
[البقرة: ٢٨٥] وقيل: بين أفراد الجنس أو بين الرجال والنساء، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: مَوَدَّةً وَرَحْمَةً فإن المراد بهما ما كان منهما بعصمة الزواج قطعا أي جعل بينكم بالزواج الذي شرعه لكم توادا وترحما من غير أن يكون بينكم سابقة معرفة ولا مرابطة مصححة للتعاطف من قرابة أو رحم. قيل: المودة والرحمة من الله تعالى والفرك وهو بغض أحد الزوجين الآخر من الشيطان.
وقال الحسن ومجاهد وعكرمة المودة كناية عن النكاح والرحمة كناية عن الولد، وكون المودة بمعنى المحبة كناية عن النكاح أي الجماع للزومها له ظاهر، وأما كون الرحمة كناية عن الولد للزومها له فلا يخلو عن بعد، وقيل:
مودة للشابة ورحمة للعجوز، وقيل: مودة للكبير ورحمة للصغير، وقيل: هما اشتباك الرحم والكل كما ترى إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من خلقهم من تراب وخلق أزواجهم من أنفسهم وإلقاء المودة والرحمة فهو إشارة إلى جميع ما تقدم، وقيل: إلى ما قبله وليس بذاك، وما فيه من معنى البعد مع قرب المشار إليه للإشعار ببعد منزلته لَآياتٍ عظيمة لا يكتنه كنهها كثيرة لا يقادر قدرها لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في تضاعيف تلك الأفاعيل المبنية على الحكم، والجملة تذييل مقرر لمضمون ما قبله مع التنبيه على أن ما ذكر ليس بآية فذة بل هي مشتملة على آيات شتى وإنها تحتاج إلى تفكر كما تؤذن بذلك الفاصلة. وذكر الطيبي أنه لما كان القصد من خلق الأزواج والسكون إليها وإلقاء المحبة بين الزوجين ليس مجرد قضاء الشهوة التي يشترك بها البهائم بل تكثير النسل وبقاء نوع المتفكرين الذين يؤديهم الفكر إلى المعرفة والعبادة التي ما خلقت السماوات والأرض إلا لها ناسب كون المتفكرين فاصلة هنا وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ أي لغاتكم بأن علم سبحانه كل صنف لغته أو ألهمه جلّ وعلا وضعها وأقدره عليها فصار بعض يتكلم بالعربية وبعض بالفارسية وبعض بالرومية إلى غير ذلك مما الله تعالى أعلم بكميته. وعن وهب أن الألسنة اثنان وسبعون لسانا في ولد حام سبعة عشر وفي ولد سام تسعة عشر، وفي ولد يافث ستة وثلاثون، وجوز أن يراد بالألسنة أجناس النطق وأشكاله فقد اختلف ذلك اختلافا كثيرا فلا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفية من كل وجه، ولعل هذا أولى مما تقدم. والإمام حكى الوجه الأول وقدم عليه ما هو ظاهر في أن المراد بالأسنة الأصوات والنغم ونص على أنه أصح من المحكي وَأَلْوانِكُمْ بياض الجلد وسواده وتوسط فيما بينهما أو تصوير الأعضاء وهيئاتها وألوانها وحلاها بحيث وقع التمايز بين الأشخاص حتى أن التوأمين مع توافق موادهما وأسبابهما والأمور الملاقية لهما في التخليق يختلفان في شيء من ذلك لا محالة وإن كانا في غاية التشابه، فالألوان بمعنى الضروب والأنواع كما يقال: ألوان الحديث وألوان الطعام، وهذا التفسير أعم من الأول، وإنما نظم اختلاف الألسنة والألوان في سلك الآيات الآفاقية من خلق السماوات والأرض مع كونه من الآيات الأنفسية الحقيقة بالانتظام في سلك ما سبق من خلق أنفسهم وأزواجهم للإيذان باستقلاله والاحتراز عن توهم كونه من متممات خلقهم إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من خلق السماوات والأرض واختلاف الألسنة والألوان لَآياتٍ عظيمة كثيرة لِلْعالِمِينَ أي المتصفين بالعلم كما في قوله تعالى: وَما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ [العنكبوت: ٤٣] وقرأ الكثير «العالمين» بفتح اللام، وفيه دلالة على وضوح الآيات وعدم خفائها على أحد من الخلق كافة وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ أي نومكم بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ لاستراحة القوى النفسانية وتقوي القوى الطبيعية وَابْتِغاؤُكُمْ أي طلبكم مِنْ فَضْلِهِ أي بالليل والنهار، وحذف ذلك لدلالة ما قبل عليه، ونظيره قوله:
عجبت لهم إذ يقتلون نفوسهم | ومقتلهم عند الوغى كان أغدرا |
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ أي شأنهم أن يسمعوا الكلام سماع تفهم واستبصار، وفيه إشارة إلى ظهور الأمر بحيث يكفي فيه مجرد السماع لمن له فهم وبصيرة ولا يحتاج إلى مشاهدة وإن كان مشاهدا.
وقال الطيبي: جيء بالفاصلة هكذا لأن أكثر الناس منسدحون بالليل كالأموات ومتردّدون بالنهار كالبهائم لا يدرون فيم هم ولم ذلك لكن من ألقى السمع وهو شهيد يتنبه لوعظ الله تعالى ويصغي إليه لأن مر الليالي وكر النهار ينادينان بلسان الحال الرحيل الرحيل من دار الغرور إلى دار القرار كما قال تعالى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الفرقان: ٦٢] وذكر الإمام أن من الأشياء ما يحتاج في معرفته إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهم إذا سمع من ذلك المرشد، ولما كان المنام والابتغاء قد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد فيحتاج معرفة أنهما من آياته تعالى إلى مرشد يعين الفكر قيل: لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ فكأنه قيل: لقوم يسمعون ويجعلون بالهم إلى كلام المرشد انتهى ولعل الاحتياج إلى مرشد يعين الفكر في أن الليل والنهار من الآيات بناء على ما سمعت في بيان نكتة التوسيط أظهر فتأمل وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ ذهب أبو علي إلى أنه بتقدير أن المصدرية والأصل أن يريكم فحذف أن وارتفع الفعل وهو الشائع بعد الحذف في مثل ذلك، وشذ بقاؤه منصوبا بعده وقد روي بالوجهين قول طرفة:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى | وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي |
فقالوا ما تشاء فقلت ألهو | إلى الإصباح آثر ذي أثير |
وما الدهر إلا تارتان فمنهما | أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح |
وفي الكشف لعل الأوجه أن يكون من آياته خبر مبتدأ محذوف أي من آياته ما يذكر أو ما يتلى عليكم ثم قيل:
يُرِيكُمُ الْبَرْقَ بيانا لذلك ثم قال: وهذا أقل تكلفا من الكل، وأنت تعلم أن الأوجه ما توافق الآية به نظائرها.
خَوْفاً أي من الصواعق وَطَمَعاً في المطر قاله الضحاك، وقال قتادة: خوفا للمسافر لأنه علامة المطر وهو يضره لعدم ما يكنه ولا نفع له فيه وطمعا للمقيم، وقيل: خوفا أن يكون خلبا وطمعا أن يكون ماطرا وقال ابن سلام: خوفا من البرد أن يهلك الزرع وطمعا في المطر، ونصبهما على العلة عند الزجاج، وهو على مذهب من لا يشترط في نصب المفعول له اتحاد المصدر والفعل المعلل في الفاعل ظاهر وأما على مذهب الأكثرين المشترطين لذلك فقيل في توجيهه: إن ذلك على تقدير مضاف أي إرادة خوف وطمع أو على تأويل الخوف والطمع بالإخافة والأطماع إما بأن يجعل أصلهما ذلك على حذف الزوائد أو بأن يجعلا مجازين عن سببيهما.
وقيل: إن ذلك لأن إراءتهم تستلزم رؤيتهم فالمفعولون فاعلون في المعنى فكأنه قيل: لجعلكم رائين خوفا وطمعا.
واعترض بأن الخوف والطمع ليسا غرضين للرؤية ولا داعيين لها بل يتبعانها فكيف يكونان علة على فرض الاكتفاء بمثل ذلك عند المشترطين، ووجه بأنه ليس المراد بالرؤية مجرد وقوع البصر بل الرؤية القصدية بالتوجه والالتفات فهو مثل قعدت عن الحرب جبنا ولم يرتض ذلك أبو حيان أيضا ثم قال: لو قيل على مذهب المشترطين أن التقدير يريكم البرق فترونه خوفا وطمعا فحذف العامل للدلالة عليه لكان إعرابا سائغا، وقيل: لعل الأظهر نصبهما على العلة للإراءة لوجود المقارنة والاتحاد في الفاعل فإن الله تعالى هو خالق الخوف والطمع، وكون معنى قول النحاة لا بد أن يكون المفعول له فعل الفاعل أنه لا بد من كونه متصفا به كالإكرام في قولك: جئتك إكراما لك أن سلم فلا حجر من الانتصاب على التشبيه في المقارنة والاتحاد المذكور.
وتعقب بأن كون المعنى ما ذكر مما لا شبهة فيه وقد ذكره صاحب الانتصاف وغيره فإن الفاعل اللغوي غير الفاعل الحقيقي فالتوقف فيه وادعاء أنه لا حجر من الانتصاب على التشبيه مما لا وجه له، وأنا أميل إلى عدم اشتراط الاتحاد في الفاعل لكثرة النصب مع عدم الاتحاد كما يشهد بذلك التتبع والرجوع إلى شرح الكافية للرضى، والتأويل مع الكثرة مما لا موجب له، وجوز أن يكون النصب هنا على المصدر أي تخافون خوفا وتطمعون طمعا على أن تكون الجملة حالا، وأولى منه أن يكونا نصبا على الحال أي خائفين وطامعين.
وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً وقرأ غير واحد بالتخفيف فَيُحْيِي بِهِ أي بسبب الماء الْأَرْضَ بأن يخرج سبحانه به النبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكونها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع جلّ شأنه وحكمته سبحانه، وقال الطيبي: لما كان ما ذكر تمثيلا لإحياء
ولما كان البقاء مستقبلا باعتبار أواخره وما بعد نزول هذه الآية أظهرت هنا كلمة أَنْ التي هي علم في الاستقبال. والإمام ذهب إلى أن القيام بمعنى الوقوف وعدم النزول ثم قال على ما لخصه بعضهم: ذكرت أَنْ هاهنا دون قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ لأن القيام لما كان غير متغير أخرج الفعل- بأن- العلم في الاستقبال وجعل مصدرا ليدل على الثبوت، وإراءة البرق لما كانت من الأمور المتجددة جيء بلفظ المستقبل ولم يذكر معه ما يدل على المصدر اهـ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ إِذا الأولى شرطية والثانية فجائية نائية مناسب الفاء في الجزاء لاشتراكهما في التعقيب. والجملة الشرطية قيل: معطوفة على أَنْ تَقُومَ على تأويل مفرد كأنه قيل: ومن آياته قيام السماء والأرض بأمره ثم خروجكم من قبوركم بسرعة إذا دعاكم، وصاحب الكشف يقول: إنها أقيمت مقام المفرد من حيث المعنى وأما من حيث الصورة فهي جملة معطوفة على قوله تعالى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ وذلك على أسلوب مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً [آل عمران: ٩٧] وفائدته ما سمعته قريبا، وظاهر كلام بعض الأفاضل أن العطف عليه ظاهر في عدم قصد عد ما ذكر آية. واختار أبو السعود عليه الرحمة كون العطف من عطف الجمل وأن المذكور ليس من الآيات قال: حيث كانت آية قيام السماء والأرض بأمره تعالى متأخرة عن سائر الآيات المعدودة متصلة بالبعث في الوجود أخرت عنهن وجعلت متصلة به في الذكر أيضا فقيل: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ الآية، والكلام مسوق للأخبار بوقوع البعث ووجوده بعد انقضاء أجل قيامهما مترتب على تعدد آياته تعدد آياته تعالى الدالة عليه غير منتظم في سلكها كما قيل كأنه قيل: ومن آياته قيام السماء والأرض على هيئتهما بأمره عزّ وجلّ إلى أجل مسمى قدره الله تعالى لقيامهما ثم إذا دعاكم أي بعد انقضاء الأجل في الأرض وأنتم في قبوركم دعوة واحدة بأن قال سبحانه: أيها الموتى أخرجوا فجأتم الخروج منها، ولعل ما أشار إليه صاحب الكشف أدق وأبعد مغزى فتأمل، وَمِنَ الْأَرْضِ متعلق بدعا ومِنْ لابتداء الغاية ويكفي في ذلك إذا كان الداعي هو الله تعالى نفسه لا الملك بأمره سبحانه كون المدعو فيها يقال دعوته من أسفل الوادي فطلع إلي لا بدعوة فإنه إذا جاء نهر الله جلّ وعلا بطل نهر معقل. نعم جوز كون ذلك صفة لها وأن يكون حالا من الضمير المنصوب ولا يتخرجون لأن ما بعد إذا لا يعمل فيما قبلها، وقال ابن عطية: إن مِنْ عندي لانتهاء الغاية وأثبت ذلك سيبويه، وقال أبو حيان: إنه قول مردود عند أصحابنا، وظواهر الأخبار أن الموتى يدعون حقيقة للخروج من القبور، وقيل: المراد تشبيه ترتب حصول الخروج على تعلق إرادته بلا توقف واحتياج إلى تجشم عمل بسرعة ترتب إجابة الداعي المطاع على دعائه، ففي الكلام استعارة تمثيلية أو تخييلية ومكنية بتشبيه الموتى بقوم يريدون الذهاب إلى محل ملك عظيم متهيئين لذلك وإثبات الدعوة لهم قرينتها أو هي تصريحية تبعية في قوله تعالى: دَعاكُمْ إلى آخرها، وثم إما للتراخي الزماني أو للتراخي الرتبي، والمراد عظم ما في المعطوف من إحياء الموتى في نفسه وبالنسبة إلى المعطوف عليه فلا ينافي قوله تعالى الآتي: وَهُوَ
وكونه أعظم من قيام السماء والأرض لأنه المقصود من الإيجاد والإنشاء وبه استقرار السعداء والأشقياء في الدرجات والدركات وهو المقصود من خلق الأرض والسماوات، فاندفع ما قاله ابن المنير من أن مرتبة المعطوف عليه هنا هي العليا مع إن كون المعطوف في مثله ارفع درجة أكثري لا كلي كما صرح به الطيبي فلا مانع من اعتبار التراخي الرتبي لو لم يكن المعطوف أرفع درجة، ويجوز حمل التراخي على مطلق البعد الشامل للزماني والرتبي.
وقرأ السبعة ما عدا حمزة والكسائي «تخرجون» بضم التاء وفتح الراء، وهذه الآية ذكر أنها مما تقرأ على المصاب، أخرج ابن أبي حاتم عن الأزهر بن عبد الله الجرازي قال: يقرأ على المصاب إذا أخذ.
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ وذكر الإمام.
وأبو حيان في وجه ترتيب الآيات وتذييل كل منهما بما ذيل كلاما طويلا أن احتجته فارجع إليه.
وَلَهُ عزّ وجلّ خاصة كل مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من الملائكة والثقلين خلقا وملكا وتصرفا ليس لغيره سبحانه شركة في ذلك بوجه من الوجوه كُلٌّ لَهُ لا لغيره جلّ وعلا قانِتُونَ منقادون لفعله لا يمتنعون عليه
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه واحد
وقال ابن جبير: قانِتُونَ مخلصون، وقيل: مقرون بالعبودية، وعليهما ليس العموم على ظاهره وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد الموت والتكرير لزيادة التقرير لشدة إنكارهم البعث والتمهيد لما بعده من قوله تعالى:
وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ الضمير المرفوع للإعادة وتذكيره لرعاية الخبر أو لأنها مؤولة بأن والفعل وهو في حكم المصدر المذكر أو لتأويلها بالبعث ونحوه، وكونه راجعا إلى مصدر مفهوم من يُعِيدُهُ وهو لم يذكر بلفظ الإعادة لا يفيد على ما قيل لأنه اشتهر به فكأنه إذا فهم منه يلاحظ فيه خصوص لفظه والضمير المجرور لله تعالى شأنه، وأَهْوَنُ للتفضيل أي والإعادة أسهل على الله تعالى من المبدأ، والأسهلية على طريقة التمثيل بالنسبة لما يفعله البشر مما يقدرون عليه، فإن إعادة شيء من مادته الأولى أهون عليهم من إيجاده ابتداء، والمراد التقريب لعقول الجهلة المنكرين للبعث وإلا فكل الممكنات بالنسبة إلى قدرته تعالى عزّ وجلّ سواء فكأنه قيل: وهو أهون عليه بالإضافة إلى قدركم والقياس على أصولكم.
وذكر الزمخشري وجها آخر للتفضيل وهو أن الإنشاء من قبيل التفضل الذي يتخير فيه الفاعل بين أن يفعله وأن لا يفعله والإعادة من قبيل الواجب الذي لا بد من فعله لأنها لجزاء الأعمال وجزاؤها واجب والأفعال أما محال والمحال ممتنع أصلا خارج عن المقدور، وأما ما يصرف الحكيم عن فعله صارف وهو القبيح وهو رديف المحال لأن الصارف يمنع وجود الفعل كما تمنعه الإحالة، وأما تفضل والتفضل حاله بين بين للفاعل أن يفعله وأن لا يفعله، وأما واجب لا بد من فعله ولا سبيل إلى الإخلال به فكان الواجب أبعد الأفعال من الامتناع وأقربها من الحصول فلما كانت الإعادة من قبيل الواجب كانت أبعد الأفعال من الامتناع وإذا كانت أبعدها منه كانت أدخلها في التأتي والتسهل فكانت أهون منها وإذا كانت كذلك كانت أهون من الإنشاء اهـ. قال في التقريب: وفيه نظر لأنه مبني على الوجوب العقلي ولأن الوجوب إذا كان بالذات نافي القدرة كالامتناع وإلا كان ممكنا فتساوى الفعلان لاشتراكهما في مصحح المقدورية وهو الإمكان.
وتعقبه في الكشف بقوله أقول: أنه غير واجب بالذات ولا يلزم منه المساواة مع التفضل في سهولة التأتي وأما المساواة في مصحح المقدورية فلا مدخل لها فيما نحن فيه، والحاصل منه أنه لو سلم منه أن الداعي إلى فعله أقوى فلا شك أنه أقرب إلى الوجود مما لا يكون الداعي كذلك. نعم إذا خلص الداعي إلى القسمين صارا سواء، وليس البحث على ذلك التقدير اهـ.
والحق ما قاله أبو السعود من أنه ليس المراد بأهونية الفعل أقربيته إلى الوجود باعتبار كثرة الأمور الداعية للفاعل إلى إيجاده وقوة اقتضائها لتعلق قدرته به بل أسهلية تأتيه وصدوره عنه عند تعلق قدرته بوجوده وكونه واجبا بالغير، ولا تفاوت في ذلك بين أن يكون ذلك التعلق بطريق الإيجاب أو بطريق الاختيار. وروى الزجاج عن أبي عبيدة وكثير من أهل اللغة أن أَهْوَنُ هاهنا بمعنى هين، وروي ذلك عن ابن عباس، والربيع، وكذا هو في مصحف عبد الله، وهذا كما يقال: الله تعالى أكبر أي كبير وأنت أوحد الناس أي واحدهم وإني لأوجل أي وجل. وفي الكشف التحقيق أنه من باب الزيادة المطلقة، وإنما قيل بمعنى الهين لأنه يؤدي مؤداه، وقيل: أفعل على ظاهره وضمير عليه عائد على الخلق على معنى أن الإعادة أيسر على المخلوق لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنسانا والإعادة لا
ما ذكر لتفهيم العقول القاصرة لأنه تعالى لا يشاركه أحد في ذاته تعالى وصفاته عزّ وجلّ، وقيل: مرتبط بما بعده من قوله تعالى: ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ وقال الزجاج: المثل قوله تعالى: هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ قد ضربه الله تعالى مثلا فيما يسهل ويصعب عندكم وينقاس على أصولكم فاللام في المثل للعهد وهو محمول على ظاهره غير مستعار للوصف العجيب الشأن فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ متعلق بمضمون الجملة المتقدمة على معنى أنه سبحانه قد وصف بذلك وعرف به فيهما على ألسنة الخلائق وألسنة الدلائل، وقيل: بالأعلى، وقيل: بمحذوف هو حال منه أو من الْمَثَلُ أو من ضميره في الْأَعْلى وقيل: متعلق بما تعلق به لَهُ أي له في السماوات والأرض المثل الأعلى، والمراد أن دلالة خلقهما على عظيم القدرة أتم من دلالة الإنشاء فهو أدل على جواز الإعادة ولهذا جعل أعلى من الإنشاء فتأمل وَهُوَ الْعَزِيزُ القادر الذي لا يعجز عن بدء ممكن وإعادته الْحَكِيمُ الذي يجري الأفعال على سنن الحكمة والمصلحة ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا يتبين به بطلان الشرك مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي منتزعا من أحوالها التي هي أقرب الأمور إليكم وأعرفها عندكم وأظهرها دلالة على ما ذكر من بطلان الشرك لكونها بطريق الأولوية، ومِنْ لابتداء الغاية وقوله تعالى: هَلْ لَكُمْ إلى آخره تصوير للمثل، والاستفهام إنكاري بمعنى النفي ولَكُمْ خبر مقدم وقوله تعالى: مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ في موضع الحال من شُرَكاءَ بعد لأنه نعت نكرة تقدم عليها والعامل فيها كان في البحر هو العالم في الجار والمجرور الواقع خبرا ومِنْ للتبعيض وما واقعة على النوع، وقوله تعالى: مِنْ شُرَكاءَ مبتدأ ومِنْ مزيدة لتأكيد النفي المستفاد من الاستفهام، وقوله تعالى: فِي ما رَزَقْناكُمْ متعلق بشركاء أي هل شركاء فيما رزقناكم من الأموال وما يجري مجراها مما تنصرفون فيه كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم من نوع العبيد والإماء كائنون لكم.
وجوز أن يكون لَكُمْ متعلقا بشركاء ويكون فِي ما رَزَقْناكُمْ في موضع الخبر كما تقول: لزيد في المدينة مبغض فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ وفي المدينة الخبر أي هل شركاء لكم كائنون مما ملكته إيمانكم كائنون فيما رزقناكم، وقوله تعالى: فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ جملة في موضع الجواب للاستفهام الإنكاري وَفِيهِ متعلق بسواء، وفي الكلام محذوف معطوف على (أنتم) أي فأنتم وهم أي المماليك مستوون فيه لا فرق بينكم وبينهم في التصرف فيه، وقيل: لا حذف و (أنتم) شامل للمماليك بطريق التغليب، وقوله تعالى: تَخافُونَهُمْ
وقرأ ابن أبي عبلة «أنفسكم» بالرفع على أن المصدر مضاف للمفعول وأَنْفُسِكُمْ فاعلة، قال أبو حيان: وهو وجه حسن ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل كَذلِكَ أي مثل ذلك التفصيل الواضح نُفَصِّلُ الْآياتِ أي نبينها ونوضحها لا تفصيلا أدنى منه فإن التمثيل تصوير للمعاني المعقولة بصورة المحسوس وإبراز لأوابد المدركات على هيئة المأنوس فيكون في غاية الإيضاح والبيان.
لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أي يستعملون عقولهم في تدبير الأمثال، وقيل: في تدبير الأمور مطلقا ويدخل في ذلك الأمثال دخولا أوليا، وخصهم بالذكر مع عموم تفصيل الآيات للكل لأنهم المنتفعون بها، وذكر العرمة الطيبي أنه لما كان ضرب الأمثال لإدناء المتوهم إلى المعقول وإراءة المتخيل في صورة المحقق ناسب أن تكون الفاصلة لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ وهذه النكتة هنا أظهر منها فيما تقدم فتذكر.
وقرأ عباس عن أبي عمرو «يفصّل» بياء الغيبة رعيا لضرب إذ هو مسند لما يعود للغائب وقراءة الجمهور بالنون للحمل على رَزَقْناكُمْ وذكر بعض العلماء أن في هذه الآية دليلا على صحة أصل الشركة بين المخلوقين لافتقار بعضهم إلى بعض كأنه قيل: الممتنع المستقبح شركة العبيد لساداتهم أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا تمتنع ولا تستقبح بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أعراض عن مخاطبتهم ومحاولة إرشادهم إلى الحق بضرب المثل وتفصيل الآيات واستعمال المقدمات الحقة المعقولة وبيان لإستحالة تبعيتهم للحق كأنه قيل: لم يعقلوا شيئا من الآيات المفصلة بل اتبعوا أَهْواءَهُمْ الزائغة، ووضع الموصول موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بأنهم في ذلك الاتباع ظالمون واضعون للشيء في غير موضعه أو ظالمون لأنفسهم بتعريضها للعذاب الخالد بِغَيْرِ عِلْمٍ أي جاهلين ببطلان ما أتوا منكبين عليه لا يصرفهم عنه صارف حسبما يصرف العالم إذا اتبع الباطل علمه ببطلانه فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ أي خلق فيه الضلال وجعله كاسبا له باختياره وَما لَهُمْ أي لمن أضله الله تعالى، والجمع باعتبار المعنى مِنْ ناصِرِينَ يخلصونهم من الضلال ويحفظونهم من تبعاته وآفاته على معنى ليس لواحد منهم ناصر واحد على ما هو المشهور في مقابلة الجمع بالجمع، ومَنْ مزيدة لتأكيد النفي، والكلام مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم وتوطئة لأمره عليه الصلاة والسلام بقوله سبحانه: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً قال العلامة الطيبي: إنه تعالى عقيب ما عدد الآيات البينات والشواهد الدالة على الوحدانية ونفي الشرك وإثبات القول بالمعاد وضرب سبحانه المثل وقال سبحانه: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ أراد جلّ شأنه أن يسلي حبيبه صلوات الله تعالى وسلامه عليه ويوطنه على اليأس من إيمانهم فأضرب تعالى عن ذلك وقال سبحانه: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ وجعل السبب في ذلك أنه عزّ وجلّ ما أراد هدايتهم وأنه مختوم على قلوبهم ولذلك رتب عليه قوله تعالى: فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ على التقريع والإنكار ثم ذيل سبحانه الكل بقوله تعالى: وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يعني إذا أراد الله تعالى منهم ذلك فلا مخلص لهم منه ولا أحد ينقذهم لا أنت ولا غيرك فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فاهتم بخاصة نفسك ومن
و «أقم» من أقام العود ويقال قوم العود أيضا إذا عدله، والمراد الأمر بالإقبال على دين الإسلام والاستقامة والثبات عليه والاهتمام بترتيب أسبابه على أن الكلام تمثيل لذلك فإن من اهتم بشيء محسوس بالبصر عقد إليه طرفة وسدد إليه نظره وأقبل عليه بوجه غير ملتفت عنه فكأنه قيل: فعدل وجهك للدين وأقبل عليه إقبالا كاملا غير ملتفت يمينا وشمالا، وقال بعض الأجلة: إن إقامة الوجه للشيء كناية عن كمال الاهتمام به، ولعله أراد بالكناية المجاز المتفرع على الكناية فإنه لا يشترط فيه إمكان إرادة المعنى الحقيقي، ونصب حَنِيفاً على الحال من الضمير في (أقم) أو من الدين، وجوز أبو حيان كونه حالا من الوجه، وأصل الحنف الميل من الضلال إلى الاستقامة وضده الجنف بالجيم فِطْرَتَ اللَّهِ نصب على الإغراء أي الزموا فطرة الله تعالى، ومن أجاز إضمار أسماء الأفعال جوز أن يقدر هنا عليكم اسم فعل، وقال مكي: هو نصب بإضمار فعل أي اتبع فطرة الله ودل عليه قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ لأن معناه اتبع الدين، واختاره الطيبي وقال: أنه أقرب في تأليف النظم لأنه موافق لقوله تعالى: بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ ولترتب قوله تعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ عليه بالفاء.
وجوز أن يكون نصبا بإضمار أعني وأن يكون مفعولا مطلقا لفعل محذوف دل عليه ما بعد أي فطركم فطرة الله، ولا يصح عمل فطر المذكور بعد فيه لأنه من صفته، وأن يكون منصوبا بما دل عليه الجملة السابقة على أنه مصدر مؤكد لنفسه. وأن يكون بدلا من حَنِيفاً والمتبادر إلى الذهن النصب على الإغراء، وإضمار الفعل على خطاب الجماعة مع أن المتقدم فَأَقِمْ هو ما اختاره الزمخشري ليطابق قوله تعالى: مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وجعله حالا من ضمير الجماعة المسند إليه الفعل، وجعل قوله تعالى: وَاتقوا وَأَقِيمُوا وَلا تَكُونُوا معطوفا على ذلك الفعل.
وقال الطيبي: بعد ما اختار تقرير اتبع ورجحه بما سمعت: وأما قوله تعالى: مُنِيبِينَ فهو حال من الضمير في (أقم) وإنما جمع لأنه مردد على المعنى لأن الخطاب للنبي صلّى الله تعالى عليه وسلم وهو خطاب لأمته فكأنه قيل: أقيموا وجوهكم منيبين.
وقال الفراء: أي أقم وجهك ومن تبعك كقوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ [هود: ١١٢] فلذلك قال سبحانه: مُنِيبِينَ وفي المرشد أن مُنِيبِينَ متعلق بمضمر أي كونوا منيبين لقوله تعالى بعد: وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ اهـ. ولا يخفى على المنصف حسن كلام الزمخشري، وما أن ذكر من خطابه صلّى الله تعالى عليه وسلم خطاب الأمة يؤكد الدلالة وعلى ذلك المضمر لا أنه يجوز أن يكون مُنِيبِينَ حالا من الضمير في (أقم) وظاهر كلام الفراء يقتضي كون الحال من مذكور ومحذوف وهو قليل في الكلام، وإضمار كونوا مع إضمار فعل ناصب لفطرة الله موجب لكثرة الإضمار، وإضماره دون إضمار فيما قيل موجب لارتكاب خلاف المتبادر هناك، والفطرة على ما قال ابن الأثير للحالة كالجلسة والركبة من الفطر بمعنى الابتداء والاختراع، وفسرها الكثير هنا بقابلية الحق والتهيؤ لإدراكه، وقالوا: معنى لزومها الجريان على موجبها وعدم الإخلال به باتباع الهوى وتسويل شياطين الأنس والجن، ووصفها بقوله تعالى: الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لتأكيد وجوب امتثال الأمر، وعن عكرمة تفسيرها بدين الإسلام.
وفي الخبر ما يدل عليه،
أخرج ابن مردويه عن حماد بن عمر الصفار قال: سألت عن قتادة عن قوله تعالى:
فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها فقال: حدثني أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلى الله
والمراد بفطرهم على دين الإسلام خلقهم قابلين له غير نابين عنه ولا منكرين له مجاوبا للعقل مساوقا للنظر الصحيح حتى لو تركوا لما اختاروا عليه دينا آخر،
ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: «قال رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ما من مولود يولد إلّا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء»
والمراد بالناس على التفسيرين جميعهم.
وزعم بعضهم أن المراد بهم على التفسير الثاني المؤمنون وليس بشيء. واستشكل الاستغراق بأنه ورد في الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام أنه طبع على الكفر. وأجيب بأن معنى ذلك أنه قدر أنه لو عاش يصير كافرا بإضلال غيره له أو بآفة من الآفات البشرية، وهذا على ما قيل هو المراد من
قوله عليه الصلاة والسلام: «الشقي شقي في بطن أمه»
وذلك لا ينافي الفطر على دين الإسلام بمعنى خلقه متهيأ له مستعدا لقبوله فتأمل فالمقام محتاج بعد إلى تحقيق، وقيل:
فطرة الله العهد المأخوذ على بني آدم، ومعنى فطرهم على ذلك على ما قيل خلقهم مركوزا فيهم معرفته تعالى كما أشير إليه بقوله سبحانه: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان: ٢٥، الزمر: ٣٨] وقوله سبحانه: لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ تعليل للأمر بلزوم فطرته تعالى أو لوجوب الامتثال به فالمراد بخلق الله فطرته المذكورة أولا ففيه إقامة المظهر مقام المضمر من غير لفظه السابق، والمعنى لا صحة ولا استقامة لتبديل فطرة الله تعالى بالإخلال بموجبها وعدم ترتيب مقتضاها عليها باتباع الهوى وقبول وسوسة الشياطين، وقيل: المعنى لا يقدر أحد على أن يغير خلق الله سبحانه وفطرته عزّ وجلّ فلا بد من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأسا ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق والتمكن من إدراكه ضرورة، فإن التبديل بالمعنى الأول مقدور بل واقع قطعا فالتعليل حينئذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة في كل أحد فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الإخلال به بما ذكر من اتباع الهوى ووسوسة الشياطين، وقال الإمام: يحتمل أن يقال: إن الله تعالى خلق خلقه للعبادة وهم كلهم عبيده لا تبديل لخلق الله أي ليس كونهم عبيدا مثل كون المملوك عبدا للإنسان فإنه ينتقل عنه إلى غيره ويخرج عن ملكه بالعتق بل لا خروج للخلق عن العبادة والعبودية، وهذا لبيان فساد قول من يقول: العبادة لتحصيل الكمال وإذا كمل للعبد بها لا يبقى عليه تكليف.
وقول المشركين: إن الناقض لا يصلح لعبادة الله تعالى وإنما يعبد نحو الكواكب وهي عبيد الله تعالى، وقول النصارى: إن عيسى عليه السلام كمل بحلول الله تعالى فيه وصار إلها اهـ وفيه ما فيه، ومما يستغرب ما روي عن ابن عباس من أن معنى لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ النهي عن خصاء الفحول من الحيوان، وقيل: إن الكلام متعلق بالكفرة كأنه قيل: فأقم وجهك للدين حنيفا والزم فطرة الله التي فطر الناس عليها فإن هؤلاء الكفرة خلق الله تعالى لهم الكفر ولا تبديل لخلق الله أي أنهم لا يفلحون. وأنت تعلم أنه لا ينبغي حمل كلام الله تعالى على نحو هذا ذلِكَ إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له أو إلى لزوم فطرة الله تعالى المستفاد من الإغراء أو إلى الفطرة والتذكير باعتبار الخبر أو بتأويل المشار إليه بمذكر الدِّينُ الْقَيِّمُ المستوي الذي لا عوج فيه ولا انحراف عن الحق بوجه من الوجوه كما ينبىء عنه صيغة المبالغة، وأصله قيوم على وزن فيعل اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت الياء فيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ذلك فيصدون عنه صدودا.
وقيل: أي لا علم لهم أصلا ولو علموا لعلموا ذلك على أن الفعل منزل منزلة اللازم مُنِيبِينَ إِلَيْهِ أي راجعين إليه تعالى بالتوبة وإخلاص العمل من ناب نوبة ونوبا إذا رجع مرة بعد أخرى، ومن النواب أي النحل سميت
وقرأ حمزة، والكسائي «فارقوا» أي تركوا دينهم الذي أمروا به أو الذي اقتضته فطرتهم وَكانُوا شِيَعاً أي فرقا تشايع كل فرقة أمامها الذي مهد لها دينها وقرره ووضع أصوله كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ من الدين المعوج المؤسس على الرأي الزائغ والزعم الباطل فَرِحُونَ مسرورون ظنا منهم أنه حق، والجملة قيل اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من تفريق دينهم وكونهم شيعا، وقيل: في موضع نصب على أنها صفة شِيَعاً بتقدير العائد أي كل حزب منهم، وزعم بعضهم كونها حالا. وجوز أن يكون فَرِحُونَ صفة لكل كقول الشماخ:
وكل خليل غير هاضم نفسه... لوصل خليل صارم أو معارز
والخبر هو الظرف المتقدم أعني قوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ فيكون منقطعا عما قبله، وضعف بأنه يوصف المضاف إليه في نحوه صرح به الشيخ ابن الحاجب في قوله:
وكل أخ مفارقه أخوه... لعمر أبيك إلا الفرقدان
وفي البحر أن وصف المضاف إليه في نحوه هو الأكثر وأنشد قوله:
جادت عليه كل عين ترة... فتركن كل حديقة كالدرهم
وما قيل: إنه إذا وصف به كُلُّ دل على أن الفرح شامل للكل وهو أبلغ ليس بشيء بل العكس أبلغ لو تؤمل أدنى تأمل وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ أي شدة دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه تعالى من دعاء غيره عزّ وجلّ من الأصنام وغيرها ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً خلاصا من تلك الشدة إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ الذي كانوا دعوه منيبين إليه يُشْرِكُونَ أي فاجأ فريق منهم الإشراك وذلك بنسبة خلاصهم إلى غيره تعالى من صنم أو كوكب أو نحو ذلك من المخلوقات وتخصيص هذا الفعل ببعضهم لما أن بعضهم ليسوا كذلك، وتنكير ضُرٌّ ورَحْمَةً للتعليل إشارة إلى أنهم لعدم صبرهم يجزعون لأدنى مصيبة ويطغون لأدنى نعمة، و «ثم» للتراخي الرتبي أو الزماني لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه للعاقبة وكونها تقتضي المهلة ولذا سميت لام المآل والشرك والكفر متقاربان لا مهلة بينهما كما قيل لا وجه له، وقيل: للأمر وهو للتهديد كما يقال عند الغضب اعصني ما استطعت وهو مناسب لقوله سبحانه: فَتَمَتَّعُوا فإنه أمر تهديدي، واحتمال كونه ماضيا معطوفا على يُشْرِكُونَ لا يخفى حاله، والفاء للسببية، والتمتع التلذذ، وفيه التفات من الغيبة إلى الخطاب فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال تمتعكم. وقرأ أبو العالية «فيمتعوا» بالياء التحتية مبنيا للمفعول وهو معطوف على (يكفروا) فسوف يعلمون بالياء التحتية أيضا، وعن أبي العالية أيضا «فيتمتعوا» بياء تحتية قبل التاء وهو معطوف على (يكفروا) أيضا، وعن ابن مسعود «وليتمتعوا» باللام والياء
وجملة هو يَتَكَلَّمُ جواب للاستفهام الذي تضمنته أَمْ إذ المعنى بل أأنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي بإشراكهم بالله عزّ وجلّ، وصحته على أن (ما) مصدرية وضمير بِهِ له تعالى أو بالأمر الذي يشركون بسببه وألوهيته على أن (ما) موصولة وضمير بِهِ لها والباء سببية، والمراد نفي أن يكون لهم مستمسك يعول عليه في شركهم وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً أي نعمة من صحة وسعة ونحوهما فَرِحُوا بِها بطرا وأشرا فإنه الفرح المذموم دون الفرح حمدا وشكرا، وهو المراد في قوله تعالى: «قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا» وقال الامام: المذموم الفرح بنفس الرحمة والممدوح الفرح برحمة الله تعالى من حيث إنها مضافة إلى الله تعالى وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بشؤم معاصيهم إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ أي فاجؤوا القنوط من رحمته عزّ وجلّ، والتعبير بإذا أولا لتحقق الرحمة وكثرتها دون المقابل، وفي نسبة الرحمة إليه تعالى دون السيئة تعليم للعباد أن لا يضاف إليه سبحانه الشر وهو كثير كقوله تعالى: أَنْعَمْتَ والْمَغْضُوبِ في [الفاتحة: ٧]، وعدم بيان سبب إذاقة الرحمة وبيان سبب إصابة السيئة إشارة إلى أن الأول تفضل والثاني عدل، والتعبير بالمضارع في إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ لرعاية الفاصلة والدلالة على الاستمرار في القنوط، والمراد بالناس إما فريق آخر غير الأول على أن التعريف للعهد أو للجنس وإما الفريق الأول لكن الحكم الأول ثابت لهم في حال تدهشهم كمشاهدة العرق وهذا الحكم في حال آخر لهم فلا مخالفة بين قوله تعالى: «وإذا مس الناس ضر دعوا ربهم منيبين إليه» وقوله سبحانه: «وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم ينقطون» فلا يحتاج إلى تكلف التوفيق بأن الدعاء اللساني جار على العادة فلا ينافي القنوط القلبي ولذا سمع بعض الخائضين في دم عثمان رضي الله تعالى عنه يدعو في طوافه ويقول: اللهم اغفر لي ولا أظنك تفعل، أو المراد يفعلون فعل القانطين كالاهتمام بجمع الذخائر أيام الغلاء، ولا يخفى أن في المفاجأة نبوة ما عن هذا فتأمل.
وقرىء «يقنطون» بكسر النون أَوَلَمْ يَرَوْا أي ألم ينظروا ولم يشاهدوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ أن يبسطه تعالى له وَيَقْدِرُ أي ويضيقه على من يشاء أن يضيقه عليه، وهذا إما باعتبار شخصين أو باعتبار شخص واحد في زمانين، والمراد إنكار فرحهم وقنوطهم في حالتي الرخاء والشدة أي أو لم يروا ذلك فما لهم لم يشكروا ولم يحتسبوا في السراء والضراء كالمؤمنين إِنَّ فِي ذلِكَ المذكور أي البسط وضده أو جميع ما ذكر لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيستدلون بها على كمال القدرة والحكمة ولله تعالى در من قال:
نكد الأريب وطيب عيش الجاهل... قد أرشداك إلى حكيم كامل
قال الطيبي: كانت الفاصلة قوله تعالى: لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إيذانا بأنه تعالى يفعل ذلك بمحض مشيئته سبحانه وليس الغنى بفعل العبد وجهده ولا العدم بعجزه وتقاعده ولا يعرف ذلك إلا من آمن بأن ذلك تقدير العزيز العليم كما قال:
كم من أريب فهم قلبه... مستكمل العقل مقلّ عديم
ومن جهول مكثر ماله... ذلك تقدير العزيز العليم
إذ جادت الدنيا عليك فجد بها | على الناس طرّا إنها تتقلب |
فلا الجود يفنيها إذا هي أقبلت | ولا البخل يبقيها إذا هي تذهب |
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لتتميم الإنكار على من فرح بالنعمة عن شكر المنعم ويئس عند زوالها عنه، والظاهر على ما ذكره الإمام أن المراد بالحق الحق المالي وكذا المراد به في جانب المسكين وابن السبيل، وحمل ذلك بعضهم على الزكاة المفروضة. وتعقب بأن السورة مكية والزكاة إنما فرضت بالمدينة واستثناء هذه الآية ودعوى أنها مدنية يحتاج إلى نقل صحيح، وسبق النزول على الحكم بعيد ولذا لم يذكر هنا بقية الأصناف، وحكي أن أبا حنيفة استدل بالآية على وجوب النفقة لكل ذي رحم محرم ذكرا كان أو أنثى إذا كان فقيرا أو عاجزا عن الكسب، ووجه بأن (آت) أمر للوجوب، والظاهر من الحق بقرينة ما قبله أنه مالي ولو كان المراد الزكاة لم يقدم حق ذوي القربى إذ الظاهر من تقديمه المغايرة، والشافعية أنكروا وجوب النفقة على من ذكر وقالوا: لا نفقة بالقرابة إلّا على الولد والوالدين على ما بين في الفقه، والمراد بالحق المصرح به في ذي القربى صلة الرحم بأنواعها وبالحق المعتبر في جانب المسكين وابن السبيل صدقة كانت مفروضة قبل فرض الزكاة أو الزكاة المفروضة والآية مدنية أو مكية والنزول سابق على الحكم. واعترض على هذا بأنه إذا فسر حق الأخيرين بالزكاة وجب تفسير الأول بالنفقة الواجبة لئلا يكون لفظ الأمر للوجوب والندب، ولذا استدل أبو حنيفة عليه الرحمة بالآية على ما تقدم، وفيه بحث.
وقال بعض أجلّة الشافعية رادا على الاستدلال: إنه كيف يتم مع احتمال أن يكون الأمر بإيتاء الصدقة أيضا بدليل ما تلاه، ثم إن ذَا الْقُرْبى مجمل عند المستدل ومن أين له أنه بين بذي الرحم المحرم، وكذلك قوله تعالى:
حَقَّهُ ثم قال: والحق أنه أمر بتوفير حقه من الصلة لا خصوص النفقة وصلة الرحم من الواجبات المؤكدة انتهى، والحق أحق بالاتباع، ودليل الإمام عليه الرحمة ليس هذا وحده كما لا يخفى على علماء مذهبه.
وخص بعض الخطاب به صلّى الله تعالى عليه وسلّم وقال: المراد بذي القربى بنو هاشم وبنو المطلب أمر صلى الله تعالى عليه وسلم أن يؤتيهم حقهم من الغنيمة والفيء، وفي مجمع البيان للطبرسي من الشيعة المعنى وآت يا محمد ذوي قرابتك حقوقهم التي جعلها الله تعالى لهم من الأخماس.
وروى أبو سعيد الخدري وغيره أنه لما نزلت هذه الآية أعطى عليه الصلاة والسلام فاطمة رضي الله تعالى عنها فدكا وسلمه إليها، وهو المروي عن أبي جعفر، وأبي عبد الله
انتهى وفيه أن هذا ينافي ما اشتهر عند الطائفتين من أنها رضي الله تعالى عنها ادعت فدكا بطريق
وَأُولئِكَ المتصفون بالإيتاء هُمُ الْمُفْلِحُونَ حيث حصلوا بإنفاق ما يفنى النعيم المقيم، والحصر إضافي على ما قيل: أي أولئك هم المفلحون لا الذين بخلوا بما لهم ولم ينفقوا منه شيئا.
وقيل: هو حقيقي على أن المتصفين بالإيتاء المذكور هم الذين آمنوا وأقاموا الصلاة وأنابوا إليه تعالى واتقوه عزّ وجلّ فلا منافاة بين هذا الحصر والحصر المذكور في أول سورة البقرة فتأمل وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً الظاهر أنه أريد به الزيادة المعروفة في المعاملة التي حرمها الشارع إليه ذهب الجبائي وروي ذلك عن الحسن ويشهد له ما روي عن السدي من أن الآية نزلت في ربا ثقيف كانوا يرون وكذا كانت قريش، وعن ابن عباس ومجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، وطاوس وغيرهم أنه أريد به العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة وعليه فتسميتها ربا مجاز لأنها سبب للزيادة، وقيل: لأنها فضل لا يجب على المعطي.
وعن النخعي أن الآية نزلت في قوم يعطون قراباتهم وإخوانهم على معنى نفعهم وتمويلهم والتفضيل عليهم وليزيدوا في أموالهم على جهة النفع لهم وهي رواية عن ابن عباس فالمراد بالربا العطية التي تعطى للأقارب للزيادة في أموالهم، ووجه تسميتها بما ذكر معلوم مما ذكرنا، وأيا ما كان- فمن- بيان- لما- لا للتعليل.
وقرأ ابن كثير «أتيتم» بالقصر ومعناه على قراءة الجمهور أعطيتم وعلى هذه القراءة جئتم أي ما جئتم به من عطاء ربا لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ أي ليزيد ذلك الربا ويزكو في أموال الناس الذين آتيتموهم إياه، وقال ابن الشيخ:
المعنى على تفسير الربا بالعطية ليزيد ذلك الربا في جذب أموال الناس وجلبها، وفي معناه ما قيل ليزيد ذلك بسبب أموال الناس وحصول شيء منها لكم بواسطة العطية، وعن ابن عباس، والحسن، وقتادة، وأبي رجاء، والشعبي، ونافع، ويعقوب، وأبي حيوة «لتربوا» بالتاء الفوقية مضمومة وإسناد الفعل إليهم وهو باب الأفعال المتعدية لواحد بهمزة التعدية والمفعول محذوف أي لتربوه وتزيدوه في أموال الناس أو هو من قبيل يجرح في عراقيبها نصلى أي لتربوا وتزيدوا أموال الناس، ويجوز أن يكون ذلك للصيرورة أي لتصيروا ذوي ربا في أموال الناس. وقرأ أبو مالك «لتربوها» بضمير المؤنث وكان الضمير للربا على تأويله بالعطية أو نحوها فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ أي فلا يبارك فيه في تقديره تعالى وحكمه عزّ وجلّ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ أي من صدقة تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ تبتغون به وجهه تعالى خالصا فَأُولئِكَ هُمُ
أي ذوو الأضعاف على أن مضعفا اسم فاعل من أضعف أي صار ذا ضعف بكسر فسكون بأن يضاعف له ثواب ما أعطاه كما قوى وأيسر إذا صار ذا قوة ويسار فهو لصيرورة الفاعل ذا أصله، ويجوز أن يكون من أضعف والهمزة للتعدية والمفعول محذوف أي الذين ضعفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة. ويؤيد هذا الوجه قراءة أبي «المضعفون» اسم مفعول، وكان الظاهر أن يقال: فهو يربو عند الله لأنه الذي تقتضيه المقابلة إلا أنه غير في العبارة إذا أثبت غير ما قبله وفي النظم إذا أتى فيما قبل بجملة فعلية وهنا بجملة اسمية مصدرة باسم الإشارة مع ضمير الفصل لقصد المبالغة فأثبت لهم المضاعفة التي هي أبلغ من مطلق الزيادة على طريق التأكيد بالاسمية والضمير وحصر ذلك فيهم بالاستحقاق مع ما في الإشارة من التعظيم لدلالته على علو المرتبة وترك ما أتوا وذكر المؤتى إلى غير ذلك، والالتفات عن الخطاب حيث قيل: فأولئك دون فأنتم للتعظيم كأنه سبحانه خاطب بذلك الملائكة عليهم السلام وخواص الخلق تعريفا لحالهم، ويجوز أن يكون التعبير بما ذكر للتعميم بأن يقصد بأولئك هؤلاء وغيرهم، والراجع في الكلام إلى ما محذوف إن جعلت موصولة وكذلك إن جعلت شرطية على الأصح لأنه خبر على كل حال أي فأولئك هم المضعفون به أو فمؤتوا على صيغة اسم الفاعل أولئك المضعفون، والحذف لما في الكلام من الدليل عليه، وعلى تقدير مؤتوه العام لا يكون هناك التفات بالمعنى المتعارف، واعتبار الالتفات أولى، وفي الكشاف أن الكلام عليه أملأ بالفائدة وبين ذلك بأن الكلام مسوق لمدح المؤتين حثا في الفعل وهو على تقدير الالتفات من وجوه.
أحدها الإشارة بأولئك تعظيما لهم والثاني تقريه الملائكة عليهم السلام بمدحهم. والثالث ما في نفس الالتفات من الحسن. والرابع ما في أولئك على هذا من الفائدة المقررة في نحو فذلك أن يهلك فحسبي ثناؤه بخلافه إذا جعل وصفا للمؤتين وعلى ذلك التقدير يفيد تعظيم الفعل لا الفاعل وإن لزم بالعرض فلا يعارض ما يفيده بالأصالة فتأمل، والآية على المعنى الأول للربا في معنى قوله عزّ وجلّ: يمحق الله الربا ويربي الصدقات [البقرة: ٢٧٦] سواء بسواء، والذي يقتضيه كلام كثير أنها تشعر بالنهي عن الربا بذلك المعنى لكن أنت تعلم أنها لو أشعرت بذلك لأشعرت بحرمة الربا بمعنى العطية التي يتوقع بها مزيد مكافأة على تقدير تفسير الربا بها مع أنهم صرحوا بعدم حرمة ذلك على غيره صلّى الله تعالى عليه وسلم وحرمتها عليه عليه الصلاة والسلام لقوله تعالى: ولا تمنن تستكثر [المدثر: ٦] وكذا صرحوا بأن ما يأخذه المعطي لتلك العطية من الزيادة على ما أعطاه ليس بحرام ودافعه ليس بآثم لكنه لا يثاب على دفع الزيادة لأنها ليست صلة مبتدأة بل بمقابلة ما أعطي أولا ولا ثواب فيما يدفع عوضا وكذا لا ثواب في إعطاء تلك العطية أولا لأنها شبكة صيد، ومعنى قول بعض التابعين الجانب المستغزر يثاب من هبته أن الرجل الغريب إذا أهدى إليك شيئا لتكافئه وتزيده شيئا فأثبه من هديته وزده.
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ الظاهر أن الاسم الجليل مبتدأ والَّذِي خبره والاستفهام إنكاري ومِنْ شُرَكائِكُمْ خبر مقدم ومِنْ مبتدأ مؤخر ومِنْ فيه للتبعيض ومِنْ ذلِكُمْ صفة شَيْءٍ قدمت عليه فأعربت حالا ومِنْ فيه للتبعيض أيضا وشَيْءٍ مفعول يفعل ومِنْ الداخلة عليه مزيدة لتأكيد الاستغراق، وجوز الزمخشري أن يكون الاسم الجليل مبتدأ والَّذِي صفته والخبر هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ إلخ والرابط اسم الإشارة المشار به إلى أفعاله تعالى السابقة- فمن ذلكم- بمعنى من أفعاله، ووقعت الجملة المذكورة خبرا لأنها خبر منفي معنى وإن كانت استفهامية ظاهرا فكأنه قيل: الله الخالق الرازق المميت المحيي لا يشاركه شيء ممن لا يفعل أفعاله هذه، وبعضهم جعلها خبرا بتقدير القول فكأنه قيل: الله الموصوف بكونه خالقا ورازقا ومميتا ومحييا مقول في حقه هل من شركائكم من هو موصوف بما هو موصوف به.
وكذلك قدر الزمخشري من ذلكم بمن أفعاله المضاف إلى ضمير المبتدأ لكن لا يخفى أن الإضافة غير معتبرة وعلى تقدير اعتبارها يلزم تقدير مضاف آخر، وجوز أن تكون مِنْ الأولى لبيان من يفعل ومتعلقها محذوف ومَنْ يَفْعَلُ فاعل لفعل محذوف أي هل حصل واستقر من يفعل كائنا من شركائكم، وكذا جوز في مِنْ الثانية أن تكون لبيان المستغرق، وقيل: إن من الأولى ومن الثانية زائدتان كالثالثة وهو كما ترى، والآية على ما قلناه أولا متضمنة جملتين دلت الأولى على إثبات ما هو من اللوازم المساوية للألوهية من الخلق والرزق والإماتة والإحياء له عزّ وجلّ وأفادت الثانية بواسطة عكس السالبة الكلية نفيها رأسا عن شركائهم الذين اتخذوهم شركاء له سبحانه من الأصنام وغيرها مؤكدا بالإنكار، والعقل حاكم بأن ما يتخذ شريكا كالذي اتخذ في الحكم المذكور أعني نفي تلك الأفعال منه، وإن شئت جعلت شُرَكائِكُمْ شاملا للصنفين ويفهم من ذلك عدم صحة الشركة إذ لا يعقل شركة ما ليس باله لعدم وجود لازم الألوهية فيه لمن هو إله في الألوهية ولتأكيد ذلك قال سبحانه وتعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ أي عن شركهم، والتعبير بالمضارع لما في الشرك من الغرابة أو للإشعار باستمراره وتجدده منهم، وأشار بعضهم إلى أن تينك الجملتين يؤخذ منهما مقدمتان موجبة وسالبة كلية مرتبتان على هيئة قياس من الشكل الثاني وأن قوله تعالى: سُبْحانَهُ إلخ يؤخذ منه سالبة كلية هي نتيجة ذلك القياس فتكون الجملتان المذكورتان في حكم قياس من الشكل الثاني، وقوله تعالى: سُبْحانَهُ إلخ في حكم النتيجة له، ولا يخفى احتياج ذلك إلى تكلف فتأمل جدا، وقرأ الأعمش، وابن وثاب «تشركون» بتاء الخطاب
وذكر أن أول معصية في البحر غصب جلندي كل سفينة تمر عليه فكأن تخصيص الآمرين بالذكر لذلك، وأيا ما كان فالبر والبحر على ظاهرهما، وعن مجاهد البر البلاد البعيدة من البحر والبحر السواحل والمدن التي عند البحر والأنهار، وقال قتادة: البر الفيافي ومواضع القبائل وأهل الصحارى والعمود والبحر المدن، والعرب تسمي الأمصار بحارا لسعتها، ومنه قول سعد بن عبادة في عبد الله بن أبي ابن سلول، ولقد أجمع أهل هذه البحيرة يعني المدينة ليتوجوه.
قال أبو حيان: ويؤيد هذا قراءة عكرمة «والبحور» بالجمع ورويت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وجوز النحاس أن يكون البحر على ظاهره إلا أن الكلام على حذف مضاف أي مدن البحر فهو مثل وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [يوسف: ٨٢] وجوز أيضا أن يراد بالفساد المعاصي من قطع الطريق والظلم وغيرهما، و (أل) في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ للجنس وكذا في الْفَسادُ أي ظهر جنس الفساد من الجدب والموتان ونحوهما في جنس البر وجنس البحر بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ أي بسبب ما فعله الناس من المعاصي والذنوب وشؤمه وهذا كقوله تعالى: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠] وهو على التفسير الأول للفساد ظاهر وأما على تفسيره بالمعاصي فالمعنى ظهرت المعاصي في البر والبحر بكسب الناس إياها وفعلهم لها، ومعنى قوله تعالى: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ على الأول ظاهر وهو أن الله تعالى قد أفسد أسباب دنياهم ومحقها وبال بعض أعمالهم في الدنيا قبل أن يعاقبهم بجميعها في الآخرة لعلهم يرجعون عما هم عليه وأما على الثاني فاللام مجاز على معنى أن ظهور المعاصي بسببهم مما استوجبوا به أن يذيقهم الله تعالى وبال أعمالهم إرادة الرجوع فكأنهم إنما فسدوا وتسببوا لفشو المعاصي في الأرض لأجل ذلك.
وفسر هذا القائل: النَّاسِ بكفار قريش، وقيل: كان في زمان سابق على زمان النزول أعم من أن يكون الزمان الذي قبيل البعثة أو بعيدها أو غير ذلك، وحكم الآية عام في كل فساد يظهر إلى يوم القيامة، ومن هنا قيل: من أذنب ذنبا يكون جميع الخلائق من الإنس والدواب والوحوش والطيور والذر خصماءه يوم القيامة لأنه تعالى يمنع المطر بشؤم المعصية فيتضرر بذلك أهل البر والبحر جميعا، وروي عن شقيق الزاهد أنه قال: من أكل الحرام فقد خان جميع الناس، ووجه تعلق الآية بما قبلها أن فيها نعي ما يعم الشرك وغيره من المعاصي وفيما قبل نعي الشرك وفيها من تخويف المشركين ما فيها.
وقال الإمام: في وجه التعلق هو أن الشرك سبب الفساد كما قال تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] وإذا كان الشرك سببه جعل الله تعالى إظهارهم الشرك مورثا لظهور الفساد ولو فعل بهم ما يقتضيه قولهم لفسدت السماوات والأرض كما قال سبحانه: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم: ٩٠] وإلى هذا أشار عزّ وجلّ بقوله سبحانه: لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا انتهى، فتأمل وأنصف. وقوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ مسوق لتأكيد تسبب المعاصي لغضب الله تعالى ونكاله حيث أمروا بأن يسيروا فينظروا كيف أهلك الله تعالى الأمم وأذاقهم سوء العاقبة بمعاصيهم ويتحققوا صدق ما تقدم، وقوله تعالى: كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ استئناف للدلالة على أن الشرك وحده لم يكن سبب لتدمير جميعهم بل هو سبب للتدمير في أكثرهم وما دونه من المعاصي سبب له في قليل منهم.
وجوز أن يكون للدلالة على أن سوء عاقبتهم لفشو الشرك وغلبته فيهم ففيه تهويل لأمر الشرك بأنه فتنة لا تصيب الذين ظلموا خاصة فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ أي إذا كان الأمر كذلك فأقم وتمام الكلام فيما هنا يعلم مما تقدم في هذه السورة الكريمة مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ جوز أن يتعلق بمرد وهو مصدر بمعنى الرد، والمعنى لا يرده سبحانه بعد أن يجيء به ولا رد له من جهته عزّ وجلّ فيفيد انتفاء رد غيره تعالى له بطريق برهاني، واعترض بأنه لو كان كذلك للزم تنوين يَوْمٌ لمشابهته للمضاف.
وأجيب بأنه مبني على ما قاله ابن مالك في التسهيل من أنه قد يعامل الشبيه بالمضاف معاملته فيترك تنوينه وحمل عليه
قوله عليه الصلاة والسلام «لا مانع لما أعطيت»
وتفصيله في شرحه، وبعضهم جعله متعلقا بمحذوف يدل عليه مَرَدَّ أي لا يرد من جهته تعالى أي لا يرده هو عزّ وجلّ وقيل: هو خبر مبتدأ محذوف والتقدير هو أي الرد المنفي كائن من الله تعالى، والجملة استئناف جواب سؤال تقديره ممن ذلك الرد المنفي؟ وقيل: هو متعلق بمحذوف وقع حالا من الضمير في الظرف الواقع خبرا للا، وقيل: متعلق بالنفي أو بما دلّ عليه، وقيل: متعلق بمحذوف وقع صفة اليوم، وجوز كثير تعلقه بيأتي أي من قبل أن يأتي من الله تعالى يوم لا يقدر أحد أن يرده.
وتعقب بأن ذلك خلاف المتبادر من اللفظ والمعنى وهو مع ذلك قليل الفائدة وارتضاه الطيبي فقال: هذا الوجه
نعم إن فيه الفصل الملبس وحال سائر الأوجه لا يخفى على ذي تمييز يَوْمَئِذٍ أي يوم إذ يأتي يَصَّدَّعُونَ أصله يتصدعون فقلبت تاؤه صادا وأدغمت والتصدع في الأصل تفرق أجزاء الأواني ثم استعمل في مطلق التفرق أي يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير، وقيل: يتفرقون تفرق الأشخاص على ما ورد في قوله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة: ٤] لا تفرق الفريقين فإن المبالغة في التفرق المستفادة من يَصَّدَّعُونَ إنما تناسب الأول، ورجح الثاني بأنه المناسب للسياق والسباق إذا الكلام في المؤمنين والكافرين فما ذكر بيان لتباينهم في الدارين ويكفي للمبالغة شدة بعد ما بين المنزلتين حسا ومعنى وهو تفسير رواه عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر عن قتادة، وروي أيضا عن ابن زيد مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي وبال كفره وهي النار المؤبدة ففي الكلام مضاف مقدر أو الكفر مجاز عن جزائه بل عن جميع المضار التي لا ضرر وراءها، وأفراد الضمير باعتبار لفظ مَنْ وفيه إشارة إلى قلة قدرهم عند الله تعالى وحقارتهم مع ما علم من كثرة عددهم، وجمعه في قوله تعالى: وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ باعتبار معناها، وفيه مع رعاية الفاصلة إشارة إلى كثرة قدرهم وعظمهم عند الله تعالى، ويَمْهَدُونَ من مهد فراشه وطأه أي يوطؤون لأنفسهم كما يوطىء الرجل لنفسه فراشه لئلا يصيبه في مضجعه ما ينبيه وينغص عليه مرقده من نتوء أو ق أو بعض ما يؤذي الراقد فكأنه شبه حالة المكلف مع عمله الصالح وما يتحصل به من الثواب ويتخلص من العقاب بحالة من يمهد فراشه ويوطؤه ليستريح عليه ولا يصيبه في مضجعه ما ينغص عليه، وجوز أن يكون المعنى فعلى أنفسهم يشفقون على أن ذلك من قولهم في المثل للمشفق أم فرشت فأنامت فيكون الكلام كناية إيمائية عن الشفقة والمرحمة والأولى أظهر، والظاهر أن هذه التوطئة لما بعد الموت من القبر وغيره، وأخرج جماعة عن مجاهد أنه قال: فلأنفسهم يمهدون أي يسوون المضاجع في القبر وليس بذاك. وتقديم الظرف في الموضعين للدلالة على الاختصاص وقيل: للاهتمام، ومقابلة من كَفَرَ- بمن عمل صالحا- لا بمن آمن إما للتنويه بشأن الإيمان بناء على أنه المراد بالعمل الصالح وإما لمزيد الاعتناء بشأن المؤمن العامل بناء على أن المراد بالعمل الصالح ما يشمل العمل القلبي والقالبي ويشعر بأن المراد بمن عمل صالحا المؤمن العالم قوله تعالى: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ فإنه علّة ليمهدون وأقيم فيه الموصول مقام الضمير تعليلا للجزاء لما أن الموصول في معنى المشتق والتعليق به يفيد عليه مبدأ الاشتقاق، وذكر مِنْ فَضْلِهِ للدلالة على أن الإثابة تفضل محض وتأويله بالعطاء أو الزيادة على ما يستحق من الثواب عدول عن الظاهر، وجوز أن يكون ذلك علّة ليصدعون والاقتصار على جزاء المؤمنين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء بفحوى قوله تعالى: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ فإن عدم المحبة كناية عن البغض في العرف. وهو يقتضي الجزاء بموجبه فكأنه قيل: وليعاقب الكافرين. وفي الكشاف أن تكرير الذين آمنوا وعملوا الصالحات وترك الضمير إلى الصريح لتقرير أنه لا يفلح عنده تعالى إلّا المؤمن الصالح، وقوله تعالى: إِنَّهُ إلخ تقرير بعد تقرير على الطرد والعكس ويعني بذلك كل كلامين يقرر الأول الثاني وبالعكس سواء كان صريحا وإشارة أو مفهوما ومنطوقا وذلك كقول ابن هانىء:
فما جازه جود ولا حل دونه | ولكن يصير الجود حيث يصير |
هذا ولما ذكر سبحانه ظهور الفساد والهلاك بسبب المعاصي ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر عزّ وجلّ أنه بسبب العمل الصالح لأن الكريم يذكر لعقابه سببا لئلا يتوهم منه الظلم ولا يذكر لإحسانه فقال عزّ من قائل: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ الجنوب ومهبها من مطلع سهيل إلى مطلع الثريا والصبا ومهبها من مطلع الثريا إلى بنات نعش، والشمال ومهبها من بنات نعش إلى مسقط النسر الطائر فإنها رياح الرحمة وأما الدبور ومهبها من مسقط النسر الطائر إلى مطلع سهيل فريح العذاب، وذكر أن الثلاثة الأول تلقح السحاب الماطر وتجمعه فلذا كانت رحمة، وعن أبي عبيدة الشمال عند العرب للروح والجنوب للأمطار والأنداء والصبا لإلقاح الأشجار والدبور للبلاء وأهونه أن تثير غبارا عاصفا يقذي العين وهي أقلهن هبوبا، وروى الطبراني، والبيهقي في سننه عن ابن عباس من حديث ذكر فيه ما كان يفعله
ويقوله صلّى الله عليه وسلم إذا هاجت ريح: «اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا»
وهو مبني على أن الرياح للرحمة والريح للعذاب، وفي نهاية العرب تقول: لا تلقح السحاب إلّا من رياح مختلفة فكأنه قال صلى الله تعالى عليه وسلم اللهم اجعلها لقاحا للسحاب ولا تجعلها عذابا ثم قال: وتحقيق ذلك مجيء الجمع في آيات الرحمة والواحد في قصص العذاب كالريح العقيم وريحا صرصرا، وقال بعضهم: إن ذاك لأن الريح إذا كانت واحدة جاءت من جهة واحدة فصدمت جسم الحيوان والنبات من جهة واحدة فتؤثر فيه أثرا أكثر من حاجته فتضره ويتضرر الجانب المقابل لعكس ممرها ويفوته حظه من الهواء فيكون داعيا إلى فساده بخلاف ما إذا كانت رياحا فإنها تعم جوانب الجسم فيأخذ كل جانب حظه فيحدث الاعتدال، وأنت تعلم أنه قد تفرد الريح حيث لا عذاب كما في قوله تعالى: وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ [يوسف: ٢٢] وقوله سبحانه: وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ [الأنبياء: ٨١] والحديث مختلف فيه فرمز السيوطي لحسنه، وقال الحافظ الهيثمي: في سنده حسين بن قيس وهو متروك وبقية رجاله رجال الصحيح، ورواه ابن عدي في الكامل من هذا الوجه وأعله بحسين المذكور، ونقل تضعيفه عن أحمد والنسائي. نعم إن الحافظ عزاه في الفتح لأبي يعلى وحده عن أنس رفعه، وقال إسناده صحيح فليحفظ ذلك.
وقرأ ابن كثير، والكسائي، والأعمش «الريح» مفردا على إرادة معنى الجمع ولذا قال سبحانه: مُبَشِّراتٍ أي بالمطر وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني المنافع التابعة لها كتذرية الحبوب وتخفيف العفونة وسقي الأشجار إلى غير ذلك من اللطف والنعم، وقيل: الخصب التابع لنزول المطر المسبب عنها أو الروح الذي هو مع هبوبها، ولأوجه التخصيص، والواو للعطف، والعطف على علة محذوفة دلّ عليها مُبَشِّراتٍ أي ليبشركم وليذيقكم أو على
اعتراض لتسليته صلّى الله عليه وسلم بمن قبله على وجه يتضمن الوعد له عليه الصلاة والسلام والوعيد لمن عصاه، وفي ذلك أيضا تحذير عن الإخلال بمواجب الشكر.
والمراد بقومهم أقوامهم والإفراد للاختصار حيث لا لبس والمعنى ولقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى أقوامهم كما أرسلناك إلى قومك جاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ
أي جاء كل قوم رسولهم بما يخصه من البينات كما جئت قومك ببيناتك انْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا
الفاء فصيحة أي فآمن بعض وكذب بعض فانتقمنا، وقيل: أي فكذبوهم فانتقمنا منهم ووضع الموصول موضع ضميرهم للإشعار بالعلة والتنبيه على مكان المحذوف، وجوز أن تكون تفصيلا للعموم بأن فيهم مجرما مقهورا ومؤمنا منصورا كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
فيه مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جعلوا مستحقين على الله تعالى أن ينصرهم وإشعار بأن الانتقام لأجلهم، والمراد بهم ما يشمل الرسل عليهم الصلاة والسلام، وجوز تخصيص ذلك بالرسل بجعل التعريف عهديا، وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا، وفي بعض الآثار ما يشعر بعدم اختصاصه بها وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل من بعد الرسل من الأمة.
أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ما من امرئ مسلم يرد عن عرض أخيه إلا كان حقا على الله تعالى أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا عليه الصلاة والسلام وكان حقا علينا نصر المؤمنين»
وفي هذا إشعار بأن قًّا
خبر كان وصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
الاسم كما هو الظاهر، وإنما آخر الاسم لكون ما تعلق به فاصلة وللاهتمام بالخبر إذ هو محط الفائدة على ما في البحر.
قال ابن عطية: ووقف بعض القراء على قًّا
على أن اسم كان ضمير الانتقام أي وكان الانتقام حقا وعدلا لا ظلما، ورجوعه إليه على حد اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [المائدة: ٨] ولَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
جملة مستأنفة وهو خلاف الظاهر المؤيد بالخبر وإن لم يكن فيه محذور من حيث المعنى اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ استئناف مسوق لبيان ما أجمل فيما سيق من أحوال الرياح فَتُثِيرُ سَحاباً تحركه وتنشره فَيَبْسُطُهُ بسطا تاما متصلا تارة فِي السَّماءِ في سمتها لا في نفس السماء بالمعنى المتبادر كَيْفَ يَشاءُ سائرا وواقفا مطبقا وغير مطبق من جانب دون جانب إلى غير ذلك فالجملة الإنشائية حال بالتأويل وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً أي قطعا تارة أخرى.
وقرأ ابن عامر بسكون السين على أنه مخفف من المفتوح أو جمع كسفة أي قطعة أو مصدر كعلم وصف به مبالغة أو بتأويله بالمفعول أو بتقدير ذا كسف فَتَرَى يا من يصح منه الرؤية الْوَدْقَ أي المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ أي فرجه جمع خلل في التارتين الاتصال والتقطع فالضمير للسحاب وهو اسم جنس يجوز تذكيره وتأنيثه، وجوز على قراءة «كسفا» بالسكون أن يكون له، وليس بشيء.
فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ بلادهم وأراضيهم، والباء في بِهِ للتعدية إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ
وقال المبرد: الضمير للسحاب لأنهم لما رأوا السحاب كانوا راجين المطر، والمراد من قبل رؤية السحاب، ويحتاج أيضا إلى حرف عطف حتى يصح تعلق الحرفين بمبلسين، وقال علي بن عيسى: الضمير للإرسال، وقال الكرماني: للاستبشار لأنه قرن بالإبلاس ومن عليهم به، وأورد عليهما أمر التعلق من غير عطف كما أورد على من قبلهما فإن قالوا بحذف حرف العطف ففي جوازه في مثل هذا الموضع قياسا خلاف. واختار بعضهم كونه للاستبشار على أن مِنْ متعلقة بينزل ومِنْ الأولى متعلقة بمبلسين لأنه يفيد سرعة تقلب قلوبهم من اليأس إلى الاستبشار بالإشارة إلى غاية تقارب زمانيهما ببيان اتصال اليأس بالتنزيل المتصل بالاستبشار بشهادة إذا الفجائية فتأمل، وإِنْ مخففة من الثقيلة واللام في لمبلسين هي الفارقة، ولا ضمير شأن مقدرا لإن، لأنه إنما يقدر للمفتوحة وأما المكسورة فيجب إهمالها كما فصله في المغني، وبعض الأجلة قال بالتقدير فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ المترتبة على تنزيل المطر من النبات والأشجار وأنواع الثمار، والفاء للدلالة على سرعة ترتبها عليه.
وقرأ الحرميان، وأبو عمرو، وأبو بكر «أثر» بالإفراد وفتح الهمزة والثاء، وقرأ سلام «إثر» بكسر الهمزة وإسكان الثاء، وإسكان الثاء، وقوله تعالى: كَيْفَ يُحْيِ أي الله تعالى الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها في حيز النصب بنزع الخافض وكَيْفَ معلق لانظر أي فانظر لإحيائه تعالى البديع للأرض بعد موتها، وقال ابن جني: على الحالية بالتأويل أي محييا، وأيا ما كان فالمراد بالأمر بالنظر التنبيه علي عظيم قدرته تعالى وسعة رحمته عزّ وجلّ مع ما فيه من التمهيد لما يعقبه من أمر البعث.
وقرأ الجحدري، وابن السميفع، وأبو حيوه «تحي» بتاء التأنيث والضمير عائد على الرحمة، وجوز على قراءة الحرميين ومن معهما أن يكون الضمير للأثر على أنه اكتسب التأنيث من المضاف إليه، وليس بشيء كما لا يخفى إِنَّ ذلِكَ العظيم الشأن لَمُحْيِ الْمَوْتى لقادر على إحيائهم فإنه إحداث لمثل ما كان في مواد أبدانهم من القوى الحيوانية كما أن إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتية، وقيل: يحتمل أن يكون النبات الحادث من أجزاء نباتية تفتتت وتبدّدت واختلطت بالتراب الذي فيه عروقها في بعض الأعوام السالفة فيكون كالإحياء بعينه بإعادة المواد والقوى لا بإعادة القوى فقط، وهو احتمال واهي القوى بعيد، ولا نسلم أن المسلم المسترشد يعلم وقوعه، وقوله تعالى: وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تذييل مقرّر لمضمون ما قبله أي مبالغ في القدرة على جميع
وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا أي النبات المفهوم من السياق كما قال أبو حيان أو الأثر المدلول عليه بالآثار أو النبات المعبر عنه بها على ما قاله بعضهم، والنبات في الأصل مصدر يقع على القليل والكثير ثم سمي به ما ينبت، وقال ابن عيسى: الضمير للسحاب لأنه إذا كان مصفرا لم يمطر، وقيل: للريح وهي تذكر وتؤنث، وكلا القولين ضعيفان كما في البحر.
وقرأ جناح بن حبيش «مصفارا» بألف بعد الفاء، واللام في لَئِنْ موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط، والفاء في فَرَأَوْهُ فصيحة، واللام في قوله تعالى: لَظَلُّوا لام جواب القسم الساد مسد الجوابين والماضي بمعنى المستقبل كما قاله أبو البقاء، ومكي، وأبو حيان، وغيرهم، وعلل ذلك بأنه في المعنى جواب (إن) وهو لا يكون إلّا مستقبلا، وقال الفاضل اليمني: إنما قدروا الماضي بمعنى المستقبل من حيث إن الماضي إذا كان متمكنا متصرفا ووقع جوابا للقسم فلا بد فيه من قد واللام معا فالقصر على اللام لأنه مستقبل معنى وفيه نظر، وقدروه بمضارع مؤكد بالنون أي وبالله تعالى لئن أرسلنا ريحا حارة أو باردة فضربت زرعهم بالصفار فرأوه مصفرا بعد خضرته ونضارته ليظلنّ مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد الإرسال أو من بعد اصفرار زرعهم، وقيل: من بعد كونهم راجين مستبشرين يَكْفُرُونَ من غير تلعثم نعمة الله تعالى، وفيما ذكر من ذمهم بعدم تثبتهم وسرعة تزلزلهم بين طرفي الإفراط والتفريط ما لا يخفى حيث كان الواجب عليهم أن يتوكلوا على الله سبحانه في كل حال ويلجؤوا إليه عزّ وجلّ بالاستغفار إذا احتبس عنهم المطر ولا ييأسوا من روح الله تعالى ويبادروا إلى الشكر بالطاعة إذا أصابهم جلّ وعلا برحمته ولا يفرطوا في الاستبشار وأن يصبروا على بلائه تعالى إذا اعترى زرعهم آفة ولا يكفروا بنعمائه جلّ شأنه فعكسوا الأمر وأبوا ما يجديهم وأتوا بما يؤذيهم، ولا يخفى ما في الآيات من الدلالة على ترجيح جانب الرحمة على جانب العذاب فلا تغفل.
وقوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى تعليل لما يفهم من الكلام السابق كأنه قيل: لا تحزن لعدم اهتدائهم بتذكيرك فإنك إلخ، وفي الكشف اعلم أن قوله تعالى: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ كلام سبق مقرر لما فهم من قوله سبحانه: لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ
[الروم: ٤٧] الآية لدلالته على أنه عزّ وجلّ ينتقم من المكذبين برسول الله صلّى الله عليه وسلم وينصر متابعيه فذكر فيه من البينات ما أجمل هنالك مما يدل على القدرة والحكمة والرحمة واختير من الأدلة ما يجمع الثلاثة وفيه ما يرشد إلى تحقيق طرفي الإيمان أعني المبدأ والمعاد وصرح بكفرانهم بالنعمة وذمهم في الحالات الثلاث لأن ذلك مما يعرفه أهل الفطرة السليمة ويتخلق به وأدمج فيه دلالته على المعاد بقوله تعالى:
فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ ولما فرغ من حديث ذمهم بنى على هذا المدمج وما دل عليه سياق الكلام من تماديهم في الضلالة مثل هذه البينات التي لا أتم منها في الدلالة فقال سبحانه: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ إلى قوله تعالى: فَهُمْ مُسْلِمُونَ وفيه أنهم إذا لا محالة من الذين ينتقم منهم وأنك وأشياعك من المنصورين والله تعالى أعلم اهـ، فتأمله مع ما ذكرنا.
وقد تقدم الكلام في هذه الجملة خالية عن الفاء في سورة النمل وكذا في قوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ بيد أنا نذكر هنا ما ذكره الأجلة في سماع الموتى وفاء بما وعدنا هنالك فنقول ومن الله تعالى التوفيق: نقل عن العلامة ابن الهمام أنه قال: أكثر مشايخنا على أن الميت لا يسمع استدلالا بقوله تعالى: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ونحوها يعني من قوله تعالى: وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر: ٢٢] ولذا لم يقولوا بتلقين القبر وقالوا: لو حلف لا
وقال ابن عبد البر: إن الأكثرين على ذلك وهو اختيار ابن جرير والطبري وكذا ذكر ابن قتيبة، وغيره، واحتجوا بما
في الصحيحين عن أنس عن أبي طلحة رضي الله تعالى عنهما قال: «لما كان يوم بدر وظهر عليهم- يعني مشركي قريش- رسول الله صلّى الله عليه وسلم أمر ببضعة وعشرين رجلا وفي رواية أربع وعشرين رجلا من صناديد قريش فألقوا في طوى أي بئر من أطواء بدر وأن رسول الله صلّى الله عليه وسلم ناداهم يا أبا جهل بن هشام، يا أمية بن خلف يا عتبة بن ربيعة أليس قد وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعد ربي حقا؟ فقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أرواح لها فقال: والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، زاد في رواية لمسلم عن أنس «ولكنهم لا يقدرون أن يجيبوا»
وبما
أخرجه أبو الشيخ من مرسل عبيد بن مرزوق قال: «كانت امرأة بالمدينة تقمّ المسجد فماتت فلم يعلم بها النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فمر على قبرها فقال عليه الصلاة والسلام: ما هذا القبر؟ فقالوا: أم محجن قال:
التي كانت تقم المسجد؟ قالوا: نعم فصف الناس فصلى عليها فقال صلّى الله عليه وسلم: أي العمل وجدت أفضل؟ قالوا يا رسول الله أتسمع؟ قال: ما أنتم بأسمع منها فذكر عليه الصلاة والسلام أنها أجابته قم المسجد»
وبما
رواه البيهقي، والحاكم وصححه وغيرهما عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلم وقف على مصعب بن عمير وعلى أصحابه حين رجع من أحد فقال:
«أشهد أنكم أحياء عند الله تعالى فزوروهم وسلموا عليهم فو الذي نفسي بيده لا يسلم عليهم أحد إلا ردوا عليه إلى يوم القيامة»
وبما
أخرج ابن عبد البر وقال عبد الحق الإشبيلي إسناده صحيح عن ابن عباس مرفوعا «ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا يسلم عليه إلا عرفه ورد عليه»
وبما أخرج ابن أبي الدنيا عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: «الروح بيد ملك يمشي به مع الجنازة يقول له: أتسمع ما يقال لك؟ فإذا بلغ حفرته دفنه معه» وبما
في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه أنه ليسمع قرع نعالهم»
وأجابوا عن الآية فقال السهيلي:
إنها كقوله تعالى: أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ أي إن الله تعالى هو الذي يسمع ويهدي.
وقال بعض الأجلة: إن معناها لا تسمعهم إلّا أن يشاء الله تعالى أو لا تسمعهم سماعا ينفعهم، وقد ينفى الشيء لانتفاء فائدته وثمرته كما في قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها [الأعراف: ٢٧٩] الآية، وهذا التأويل يجوز أن يعتبر في قوله تعالى: وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ ويكون نكتة العدول عن- فإنك لا تسمع الموتى ولا الصم- إلى ما في النظم الجليل العناية بنفي الإسماع ويجوز أن لا يعتبر فيه ويبقى الكلام على ظاهره ويكون نكتة العدول الإشارة إلى أن لا تُسْمِعُ في كل من الجملتين بمعنى.
وقال الذاهبون إلى عدم سماعهم: الأصل عدم التأويل والتمسك بالظاهر إلى أن يتحقق ما يقتضي خلافه، وأجابوا عن كثير مما استدل به الآخرون فقال بعضهم: إن ما وقع في حديث أبي طلحة رضي الله تعالى عنه يجوز أن يكون معجزة له صلى الله تعالى عليه وسلم، وهو مراد من قال: إنه من خصوصياته عليه الصلاة والسلام وهي من خوارق العادة، والكلام في موافقها وهو الذي نفي في آية فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى ونحوها
وفي قوله عليه الصلاة والسلام: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»
دون ما أنتم بأسمع لما يقال ونحوه منهم تأييد ما لذلك، وحديث أبي الشيخ مرسل وحكم الاستدلال به معروف، على أن احتمال الخصوصية قائم فيه أيضا: وفي صحيح البخاري قال قتادة:
أخرج البخاري، ومسلم، والنسائي وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر قال: «وقف النبي صلى الله تعالى عليه وسلم على قليب بدر فقال: هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ ثم قال عليه الصلاة والسلام: إنهم الآن يسمعون ما أقول»
حيث قيد صلى الله تعالى عليه وسلم سماعهم بالآن، وإذا قلنا، بأن الميت يسأل سبعة أيام في قبره مؤمنا كان أو منافقا أو كافرا وإنه حين السؤال تعاد إليه روحه كان لك أن تقول: يجوز أن يكون خطاب أهل القليب حين إعادة أرواحهم إلى أبدانهم للسؤال فإنه كما في حديث أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي كان في اليوم الثالث من قتلهم، ويحتمل أن يكون خطابه صلى الله تعالى عليه وسلم لأم محجن كان وقت السؤال بأن يكون ذلك قبل مضي سبعة أيام عليها، وعليه لا يكون سماعهم من المتنازع فيه لأنهم حين سمعوا أحياء لا موتى، ويرد على هذا أن عمر رضي الله تعالى عنه قال عليه الصلاة والسلام: ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، ولم ينكر ذلك عليه صلى الله تعالى عليه وسلم بل
قال له عليه الصلاة والسلام له: «ما أنتم بأسمع لما أقول منهم»
ولو كان الأمر كما قال قتادة لكان الظاهر أن يقول صلى الله تعالى عليه وسلم له رضي الله تعالى عنه: ليس الأمر كما تقول إن الله عزّ وجلّ أحياهم لي أو نحو ذلك، وعائشة رضي الله تعالى عنها أنكرت ما وقع في الحديث مما استدل به على المقصود،
ففي صحيح البخاري عن هشام عن أبيه قال: ذكر عند عائشة أن ابن عمر رفع إلى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه، فقالت: وهل ابن عمر إنما قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «إنه ليعذب بخطيئته وذنبه وإن أهله ليبكون عليه الآن» قالت: وذلك مثل قوله: إن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قام على القليب وفيه قتلى بدر من المشركين فقال لهم ما قال إنهم ليسمعون ما أقول إنما قال: «إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق» ثم قرأت فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ
[فاطر:
٢٢] وتعقب ذلك السهيلي فقال: عائشة رضي الله تعالى عنها لم تحضر قول النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فغيرها ممن حضر أحفظ للفظه عليه الصلاة والسلام،
وقد قالوا له: يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيفوا؟ فقال ما أنتم بأسمع لما أقول منهم
قالوا: وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحالة عالمين يعني كما تقول عائشة جاز أن يكونوا سامعين اهـ هو كلام قوي، ولا يقدح عدم حضورها في روايتها لأنه مرسل صحابي وهو محمول على أنه سمع ذلك ممن حضره أو من النبي صلى الله تعالى عليه وسلم، ولو كان ذلك قادحا في روايتها لقدح في رواية ابن عمر السابقة فإنه لم يحضر أيضا، ولا مانع من أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام قال اللفظين جميعا فإنه كما علم من كلام السهيلي لا تعارض بينهما، وقال بعضهم فيما رواه البيهقي، والحاكم وصححه، وغيرهما: إنا لا نسلم صحته وتصحيح الحاكم محكوم عليه بعدم الاعتبار، وإن سلمنا صحته نلتزم القول بأن الموتى الذين لا يسمعون هم من عدا الشهداء أما الشهداء فيسمعون في الجملة لامتيازهم على سائر الموتى بما أخبر عنهم من أنهم أحياء عند الله عزّ وجلّ، وقيل في حديث ابن عبد البر: إن عبد الحق وإن قال إسناده صحيح إلا أن الحافظ ابن رجب تعقبه وقال: إنه ضعيف بل منكر وفي حديث ابن أبي الدنيا إنه على تسليم صحته لا يثبت المطلوب لأن خطاب الملك عليه السّلام للروح الذي بيده وهو ليس بميت، وفي حديث الصحيحين من سماع العبد قرع نعال أصحابه إذا دفنوه وانصرفوا عنه إنه إذ ذاك تعود إليه روحه للسؤال فيسمع وهو حي والجمهور على عود الروح إلى الجسد أو بعضه وقت السؤال على وجه لا يحس به أهل الدنيا إلا من شاء الله تعالى منهم ووراء ذلك مذاهب، فمذهب ابن جرير وجماعة من الكرامية أن السؤال في القبر على البدن فقط وأن الله تعالى يخلق فيه إدراكا بحيث يسمع ويعلم ويلذ ويألم، وعلى هذا المذهب يمكن أن يقال نحو ما قيل على الأول، ومذهب ابن حزم وابن ميسرة إنه على الروح فقط، ومذهب أبي الهذيل واتباعه أن الميت لا يشعر بشيء
ويؤخذ من كلام ذكره العارف ابن مرجان في شرح اسماء الله تعالى الحسنى تحقيق على وجه آخر وهو أن للشخص نفسا مبرأة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم وروحا أوجدها الله تبارك وتعالى من باطن ما برأ منه النفس وهي للنفس بمنزلة النفس للجسم فالنفس حجابها وبعد المفارقة في العبد المؤمن تجعل الحقيقة الروحانية عامرة العلو من السماء الدنيا إلى السماء السابعة بل إلى حيث شاء الله تعالى من العلو في سرور ونعيم وتجعل الحقيقة النفسانية عامرة السفل من قبره إلى حيث شاء الله تعالى من الجو ولذلك لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم موسى قائما يصلي في قبره وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعوده عليه الصلاة والسلام إلى السماء ولقيهما عليهما السلام بعد الصعود في السماوات العلا فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما في قبورهما وكذا يقال في الكافر إلا أن الحقيقة الروحانية له لا تكون عامرة العلو فلا تفتح لهم أبواب السماء بل تكون عامرة دار شقائها والعياذ بالله تعالى، وبين الحقيقتين اتصال وبوساطة ذلك ومشيئته عزّ وجلّ يسمع من سلم عليه في قبره السلام ولا يختص السماع في السلام عند الزيارة ليلة الجمعة ويومها وبكرة السبت أو يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها بل يكون ذلك في السلام عند الزيارة مطلقا فالميت يسمع الله تعالى روحه السلام عليه من زائره في أي وقت كان ويقدره سبحانه على رد السلام كما صرح في بعض الآثار.
وما أخرجه العقيلي من أنهم يسمعون السلام ولا يستطيعون رده محمول على نفي استطاعة الرد على الوجه المعهود الذي يسمعه الاحياء، وقيل: رد السلام وعدمه مما يختلف باختلاف الأشخاص فرب شخص يقدره الله تعالى على الرد ولا يثاب عليه لانقطاع العمل وشخص آخر لا يقدره عزّ وجلّ، وعندي أن التعلق أيضا مما يتفاوت قوة وضعفا بحسب الأشخاص بل وبحسب الأزمان أيضا وبذلك يجمع بين الاخبار والآثار المختلفة.
وأما الجواب عن الآية التي الكلام فيها ونحوها مما يدل بظاهره على نفي السماع فيعلم مما تقدم فليفهم والله تعالى أعلم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ مبتدأ وخبر أي ابتدأكم ضعفاء وجعل الضعف أساس أمركم كقوله تعالى: وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً [النساء: ٢٨] فمن ابتدائية وفي الضعف استعارة مكنية حيث شبه بالأساس والمادة وفي إدخال من عليه تخييل، ويجوز أن يراد من الضعف الضعيف بإطلاق المصدر على الوصف مبالغة أو بتأويله به أو
مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة: ٨، المرسلات: ٢٠] وهذا التفسير وإن كان مأثورا عن قتادة إلا أن الأول أولى وأنسب بقوله تعالى: ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً وذلك عند بلوغكم الحلم أو تعلق الروح بأبدانكم ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً إذا أخذ منكم السن والمراد بالضعف هنا ابتداؤه ولذا أخر الشيب عنه أو الأعم فقوله سبحانه:
شَيْبَةً للبيان أو للجمع بين تغيير قواهم وظواهرهم، وفتح عاصم وحمزة ضاد «ضعف» في الجمع وهي قراءة عبد الله: وأبي رجاء.
وقرأ الجمهور بضمها فيه والضم والفتح لغتان في ذلك كما في الفقر والفقر الفتح لغة تميم والضم لغة قريش، ولذا اختار النبي صلى الله تعالى عليه وسلم قراءة الضم كما
ورد حديث رواه أبو داود والترمذي وحسنه، وأحمد وابن المنذر والطبراني والدارقطني وغيرهم عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما انه قال: قرأت على النبي صلى الله تعالى عليه وسلم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي بالفتح فقال: مِنْ ضَعْفٍ يا بني أي بالضم
لأنها لغة قومه عليه الصلاة والسلام ولم يقصد صلى الله تعالى عليه وسلم بذلك رد القراءة الأخرى لأنها ثابتة بالوحي أيضا كالقراءة التي اختارها، وروي عن عاصم الضم أيضا، وعنه أيضا الضم في الأولين والفتح في الأخير، وروي عن أبي عبد الرحمن والجحدري، والضحاك الضم في الأول والفتح فيما بعد.
وقرأ عيسى بضم الضاد والعين وهي لغة أيضا فيه. وحكي عن كثير من اللغويين أن الضعف بالضم ما كان في البدن والضعف بالفتح ما كان في العقل، والظاهر انه لا فرق بين المضموم والمفتوح وكونهما مما يوصف به البدن والعقل، والمراد بضعف الثاني عين الأول، ونكر لمشاكلة قُوَّةً وبالأخير غيره فإنه ضعف الشيخوخة وذاك ضعف الطفولية، والمراد بقوة الثانية عين الأولى ونكرت لمشاكلة ضَعْفاً وحديث النكرة إذا أعيدت كانت غير أغلبي، وتكلف بعضهم لتحصيل المغايرة فيما نكر وكرر في الآية فتدبر يَخْلُقُ ما يَشاءُ خلقه من الأشياء التي من جملتها ما ذكر من الضعف والقوة والشيبة وخلقها أما بمعنى خلق أسبابها أو محالها واما إيجادها أنفسها وهو الظاهر ولا داعي للتأويل فإنها ليست بعدم صرف وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ المبالغ في العلم والقدرة فإن الترديد فيما ذكر من الأحوال المختلفة مع إمكان غيره من أوضح دلائل العلم والقدرة.
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي القيامة سميت بها لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا أو لأنها تقع بغتة وصارت علما لها بالغلبة كالنجم للثريا والكوكب للزهرة، والمراد بقيامها وجودها أو قيام الخلائق فيها يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا أي ما أقاموا في القبور كما روي عن الكلبي ومقاتل، والمراد به ما أقاموا بعد الموت غَيْرَ ساعَةٍ أي قطعة من الزمان قليلة، وروى غير واحد عن قتادة أنهم يعنون ما لبثوا في الدنيا كذلك وقيل: يعنون ما لبثوا فيما بين فناء الدنيا والبعث وهو ما بين النفختين،
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم «ما بين النفختين أربعون قيل أربعون يوما يا أبا هريرة قال أبيت قيل أربعون شهرا قال أبيت قيل أربعون سنة قال أبيت»
وعنى بقوله رضي الله تعالى عنه أبيت: امتنعت من بيان ذلك لكم أو أبيت أن أسأل النبي صلى الله تعالى عليه وسلم عن ذلك، ولهذا الحديث قيل لا يعلم أهي أربعون سنة أم أربعون ألف سنة. وحكى السفاريني في البحور الزاخرة عن بعضهم دعوى اتفاق الروايات على أن ما بين النفختين أربعون عاما، وأنا أقول: الحق أنه لا يعلمه إلا الله تعالى ودعوى الاتفاق لم يقم عندي دليل عليها.
واستدل بها بعضهم على نفي عذاب القبر، وليس بشيء وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ في الدنيا من الملائكة أو الإنس أو منهما جميعا لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ أي في علمه وقضائه أو ما كتبه وعينه سبحانه أو اللوح المحفوظ أو القرآن وهو قوله تعالى: وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: ١٠٠] وأيا ما كان فالجار والمجرور متعلق بما عنده.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم- وفيه من البعد ما فيه- إن الكلام على التقديم والتأخير والأصل وقال الذين أوتوا العلم والإيمان في كتاب الله لقد لبثتم إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ والكلام ولما قالوه مؤكد
وقرأ الحسن «البعث» بفتح العين فيهما، وقرىء بكسرهما وهو اسم والمفتوح مصدر، وفي الآية من الدلالة على فضل العلماء ما لا يخفى فَيَوْمَئِذٍ أي إذ يقع ذلك من أقسام الكفار وقول أولي العلم لهم لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ أي عذرهم.
وقرأ الأكثر «تنفع» بالتاء محافظة على ظاهر الأمر للفظ وإن توسط بينهما فاصل وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ الاستيعاب طلب العتبى وهي الاسم من الإعتاب بمعنى إزالة العتب كالعطاء والاستعطاء أي لا يطلب منهم إزالة عتب الله تعالى، والمراد به غضبه سبحانه عليهم بالتوبة والطاعة فإنه قد حق عليهم العذاب وإن شئت قلت: أي لا يقال ارضوا ربكم بتوبة وطاعة كما كان يقال لهم ذلك في الدنيا، وقيل: أي لا يستقيلون فيستقالون بردهم إلى الدنيا.
وقال ابن عطية: هذا إخبار عن هول يوم القيامة وشدة أحواله على الكفرة بأنهم لا ينفعهم الاعتذار ولا يعطون عتبى وهي الرضا يُسْتَعْتَبُونَ بمعنى يعتبون كما تقول يملك ويستملك والباب في استفعل أنه طلب الشيء وليس هذا منه لأن المعنى يفسد إذ كان المفهوم منه ولا يطلب منهم عتبى انتهى، فجعل استفعل بمعنى فعل.
وحاصل المعنى عليه على ما في البحر هم من الإهمال وعدم الالتفات إليهم بمنزلة من لا يؤهل للعتب، وقيل:
المعنى عليه هم لا يعاتبون على سيئاتهم بل يعاقبون، وما ذكرناه أولا هو الذي ينبغي أن يعول عليه، ويا ليت شعري أين ما ادعاه ابن عطية من الفساد إذا كان المفهوم منه لا يطلب منهم عتبى على ما سمعت.
وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي وبالله تعالى لقد وصفنا للناس من كل صفة كأنها مثل في غرابتها وقصصنا عليهم كل صفة عجيبة الشأن كصفة المبعوثين يوم القيامة وما يقولون وما يقال لهم وما لا ينفع من اعتذارهم ولا يسمع من استعتابهم، فضرب المثل اتخاذه وصنعه من ضرب الخاتم واللبن.
والمثل مجاز عن الصفة الغريبة، والمراد بهذا القرآن إما هذه السورة الجليلة الشأن أو المجموع وهو الظاهر، ومِنْ تبعيضية وجوزت الزيادة وقيل: المعنى وبالله تعالى لقد بينا للناس من كل مثل ينبؤهم عن التوحيد والبعث وصدق الرسول عليه الصلاة والسلام، فضرب بمعنى بين والمثل على أصله، وقيل: بمعنى الدليل العجيب والقرآن بمعنى المجموع وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ أي مع ضربنا لهم من كل مثل في هذا القرآن الجليل الشأن لئن جئتهم بآية من آياته لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لفرط عتوهم وعنادهم وقساوة قلوبهم مخاطبين لك وللمؤمنين إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ أي مزورون، وجوز حمل الآية على المعجزة أي لئن جئتهم بمعجزة من المعجزات التي اقترحوها ليقولن الذين كفروا إلخ، والإتيان بالموصول دون الضمير لبيان السبب الحامل على القول المذكور، وإذا أريد بالناس ما يعم الكفرة غيرهم فوجه الإظهار ظاهر، وتوحيد الخطاب في جِئْتَهُمْ على ما يقتضيه الظاهر، وأما جمعه في قولهم: إِنْ أَنْتُمْ فلئلا يبقى بزعمهم له عليه الصلاة والسلام شاهد من المؤمنين حيث جعلوا الكل مدعين، وقال الإمام: في توحيد الخطاب في جِئْتَهُمْ وجمعه في أَنْتُمْ لطيفة وهي أن الله تعالى قال: إن جئتهم بكل آية جاءت بها الرسل عليهم السلام ويمكن أن يجاء بها يقولوا: أنتم كلكم أيها المدعون للرسالة مبطلون انتهى، ولا يخفى أن ما ذكرناه أحسن وألطف كَذلِكَ أي مثل ذلك الطبع الفظيع، وجوز أن يكون المعنى مثل ذلك القول يَطْبَعُ أي يختم اللَّهُ الذي
قال حمار الحكيم توما... لو أنصفوني لكنت أركب
لأنني جاهل بسيط... وصاحبي جاهل مركب
وإطلاق العلم على الطلب مجاز لما أنه لازم له عادة، وقيل: المعنى يطبع الله تعالى على قلوب الذين ليسوا من أولي العلم، وليس بذاك، والمراد من الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ يحتمل أن يكون الذين كفروا فيكون قد وضع الموصول موضع ضميرهم بما في حيز الصلة، ويحتمل أن يكون عاما ويدخل فيه أولئك دخولا أوليا.
وظاهر كلام بعض الأجلة يميل إلى الاحتمال الأول، وقد تقدم الكلام في طبعه وختمه عزّ وجلّ على القلب.
فَاصْبِرْ أي إذا علمت حالهم وطبع الله تعالى على قلوبهم فاصبر على مكارههم من الأقوال الباطلة والأفعال السيئة إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وقد وعدك عزّ وجلّ بالنصرة وإظهار الدين وإعلاء كلمة الحق ولا بد من إنجازه والوفاء به لا محالة وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ لا يحملنك على الخفة والقلق الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ بما تتلو عليهم من الآيات البينة بتكذيبهم إياها وإيذائهم لك بأباطيلهم التي من جملتها قولهم: إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ فإنهم شاكون ضالون ولا يستبدع أمثال ذلك منهم، وقيل: أي لا يوقنون بأن وعد الله حق وهو كما ترى، والحمل وإن كان لغيره صلى الله تعالى عليه وسلم لكن النهي راجع إليه عليه الصلاة والسلام فهو من باب لا أرينك هاهنا وقد مرّ تحقيقه فكأنه قيل: لا تخف لهم جزعا، وفي الآية من إرشاده تعالى لنبيه صلى الله تعالى عليه وسلم وتعليمه سبحانه له كيف يتلقى المكاره بصدر رحيب ما لا يخفى.
وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب «ولا يستحقنك» بحاء مهملة وقاف من الاستحقاق، والمعنى لا يفتننك الذين لا يوقنون ويكونوا أحق بك من المؤمنين على أنه مجاز عن ذلك لأن من فتن أحدا استماله إليه حتى يكون أحق به من غيره، والنهي على هذه القراءة راجع إلى أمته عليه الصلاة والسلام دونه صلى الله تعالى عليه وسلم لمكان العصمة، وقد تقدّم نظائر ذلك وما للعلماء من الكلام فيها.
وقرأ الجمهور بتشديد النون وخففها ابن أبي عبلة، ويعقوب، ومن لطيف ما يروى ما
أخرجه ابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في سننه عن علي كرّم الله تعالى وجهه أن رجلا من الخوارج ناداه وهو في صلاة الفجر فقال: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فأجابه كرّم الله تعالى وجهه وهو في الصلاة فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ
ولا بدع في هذا الجواب من باب مدينة العلم وأخي رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ إلى آخره، قيل: الألف إشارة إلى إلفة طبع المؤمنين واللام إلى لؤم طبع الكافرين والميم إلى مغفرة رب العالمين جلّ شأنه، والروم إشارة إلى القلب، وفارس المشار إليهم بالضمير النائب عن الفاعل إشارة إلى النفس، والمؤمنون إشارة إلى الروح والسر والعقل، ففي الآية إشارة إلى أن حال أهل الطلب يتغير بتغير الأوقات فيغلب فارس النفس روم القلب تارة ويغلب روم القلب فارس النفس بتأييد الله تعالى ونصره سبحانه تارة أخرى وذلك في بضع سنين أيام الطلب ويومئذ يفرح المؤمنون
١٧٢] واشتهر عندهم السماع في سماع الأصوات الحسنة وسماع الأشياء المحركة لما غلب عليهم من الأحوال من الخوف والرجاء والحب والتعظيم وذلك كسماع القرآن والوعظ والدف والشبابة والأوتار والمزمار والحداء والنشيد وفي ذلك الممدوح والمذموم. وفي قواعد عز الدين عبد العزيز بن عبد السلام الكبرى تفصيل الكلام في ذلك على أتم وجه، وسنذكر إن شاء الله تعالى قريبا ما يتعلق بذلك والله تعالى هو الموفق للصواب فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ إلخ فيه إشارة إلى أنه ينبغي استغراق الأوقات في تنزيه الله سبحانه والثناء عليه جلّ وعلا بما هو سبحانه وتعالى أهله فإن ذلك روضة هذه النشأة، وفي الأثر أن حلق الذكر رياض الجنة يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ فيه إشارة إلى أن الفرع لا يلزم أن يكون كأصله:
إنما الورد من الشوك ولا | ينبت النرجس إلّا من بصل |
تعلق روحي روحها قبل خلقنا | ومن قبل ما كنا نطافا وفي المهد |
فزاد كما زدنا فأصبح ناميا | وليس إذا متنا بمنفصم العقد |
ولكنه باق على كل حادث | وزائرنا في ظلمة القبر واللحد |
أخرج ابن الضريس، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: أنزلت سورة لقمان بمكة، ولا استثناء في هذه الرواية. وفي رواية النحاس في تاريخه عنه استثناء ثلاث آيات منها وهي وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان: ٢٧] إلى تمام الثلاث فإنها نزلن بالمدينة، وذلك
أنه صلى الله تعالى عليه وسلم لما هاجر قال له أحبار اليهود: بلغنا أنك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: ٨٥] أعنيتنا أم قومك؟ قال: كلّا عنيت فقالوا: إنك تعلم أننا أوتينا التوراة وفيها بيان كل شيء فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك في علم الله تعالى قليل فأنزل الآيات.
ونقل الداني عن عطاء، وأبو حيان عن قتادة أنهما قالا: هي مكية إلا آيتين هما وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ إلى آخر الآيتين، وقيل: هي مكية إلّا آية وهي قوله تعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [لقمان: ٤] فإن إيجابهما بالمدينة، وأنت تعلم أن الصلاة فرضت بمكة ليلة الإسراء كما في صحيح البخاري وغيره فما ذكر من أن إيجابها بالمدينة غير مسلم، ولو سلم فيكفي كونهم مأمورين بها بمكة ولو ندبا فلا يتم التقريب فيها، نعم المشهور أن الزكاة إيجابها بالمدينة فلعل ذلك القائل أراد أن إيجابهما معا تحقق بالمدينة لا أن إيجاب كل منهما تحقق فيها، ولا يضر في ذلك أن إيجاب الصلاة كان بمكة، وقيل: إن الزكاة إيجابها كان بمكة كالصلاة وتقدير الأنصباء هو الذي كان بالمدينة وعليه لا تقريب فيهما، وايها ثلاث وثلاثون في المكي والمدني وأربع وثلاثون في عدد الباقين.
وسبب نزولها على ما في البحر أن قريشا سألت عن قصة لقمان مع ابنه وعن بر والديه فنزلت. ووجه مناسبتها لما قبلها على ما فيه أيضا أنه قال تعالى فيما قبل: وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ [الروم: ٥٨] وأشار إلى ذلك في مفتتح هذه السورة، وأنه كان في آخر ما قبلها وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ [الروم: ٥٨] وفيها وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً [لقمان: ٧] وقال الجلال السيوطي: ظهر لي في اتصالها بما قبلها مع المؤاخاة في الافتتاح- بألم إن قوله تعالى: هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [لقمان: ٤٣] متعلق بقوله تعالى فيما قبل: وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ [الروم: ٥٦] الآية فهذا عين إيقانهم بالآخرة وهم المحسنون الموصوفون بما ذكر، وأيضا ففي كلتا السورتين جملة من الآيات وابتداء الخلق.
وذكر في السابقة فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ [الروم: ١٥] وقد فسر بالسماع وذكر هنا وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان: ٦] وقد فسر بالغناء وآلات الملاهي اهـ.