تفسير سورة الرّوم

أوضح التفاسير
تفسير سورة سورة الروم من كتاب أوضح التفاسير المعروف بـأوضح التفاسير .
لمؤلفه محمد عبد اللطيف الخطيب . المتوفي سنة 1402 هـ

﴿الم﴾ (انظر آية ١ من سورة البقرة)
﴿غُلِبَتِ الرُّومُ﴾ غلبتها الفرس: ففرح كفار مكة بذلك؛ لأن الفرس كانوا يعبدون الأصنام مثلهم
﴿فِي أَدْنَى الأَرْضِ﴾ أقربها إلى فارس، وإلى بلاد العرب. قيل: كانت موقعتهم بالشام ﴿وَهُمْ﴾ أي الروم ﴿مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ﴾ أي بعد غلبة فارس {سَيَغْلِبُونَ *
فِي بِضْعِ سِنِينَ} البضع: ما بين الثلاث إلى التسع. وقد التقى الجيشان في السنة السابعة من اللقاء الأول؛ وغلبت الروم فارس: مصداقاً لقول العزيز الكريم ﴿لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ فهو وحده الذي قدر هزيمة الروم «من قبل» وقضى بنصرتهم «من بعد» ﴿وَيَوْمَئِذٍ﴾ يوم نصرة الروم على الفرس ﴿يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾ لأن الروم أهل كتاب؛ فهم بالمؤمنين أشبه، وإلى قلوبهم أقرب. أما الفرس فقد كانوا من عبدة الأوثان ككفار مكة
﴿يَنصُرُ مَن يَشَآءُ﴾ نصره - ولو كان ضعيفاً - ويكبت من يشاء كبته - ولو كان قوياً - ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾
﴿يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أي يعلم الكفار ما يحتاجون إليه في الدنيا من أمور المعايش: كالزراعة، والصناعة، والتجارة، ونحو ذلك. ولا يزالون حتى الآن متقدمين في شتى العلوم والفنون - مصداقاً لهذه الآية الكريمة - فقد تقدموا تقدماً كبيراً في استخدام القوى الكهربائية، والطاقة الذرية، وفنون الطيران واللاسلكي، والميكانيكا، وغيرها ﴿وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ﴾ وما يوصل إليها: من قول وعمل ﴿هُمْ غَافِلُونَ﴾ فلا يؤمنون بخالقهم، ولا يدينون برازقهم
﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِي أَنفُسِهِمْ﴾ كيف أنشأناهم وأبدعنا صورهم؟ وكيف سويناهم وخلقنا عقولهم؟ وكيف هديناهم إلى ما يصلحهم؟ أو ﴿أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ﴾ فيما بينهم وبين «أنفسهم» ﴿مَّا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ﴾
وما فيها من كواكب وأملاك، وأنجم وأفلاك، ومخلوقات جمة؛ لا يحصيها، ولا يعلمها إلا خالقها ومبدعها ما خلق الله ﴿الأَرْضِ﴾ وما فيها من بحار وأنهار، وجبال وأشجار، ونبات وحيوان ﴿وَمَا بَيْنَهُمَآ﴾ مما لا يعد ولا يحد ﴿إِلاَّ بِالْحَقِّ﴾ إلا لإقامة الحق والعدل ﴿وَأَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي وبقاؤها لأجل مسمى ﴿وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ﴾ رغم هذه الدلالات الواضحات على قدرة الله تعالى ووحدانيته ﴿بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ﴾ لا يؤمنون بالبعث والحساب
﴿أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ من المكذبين؛ بسبب تكذيبهم؛ وقد ﴿كَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ وما حل بهم: كعاد وثمود ﴿وَأَثَارُواْ الأَرْضَ﴾ حرثوها للزرع، وحفروها لاستخراج الفلزات والمعادن ﴿وَعَمَرُوهَآ﴾ بالتجارة والبناء ﴿أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا﴾ أي أكثر مما عمرها الكفار المعاصرون ﴿وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالحجج الواضحات؛ فلم يؤمنوا، وكذبوا رسلهم وآذوهم: فأهلكهم الله تعالى واستأصلهم ﴿فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ﴾ بهذا الإهلاك ﴿وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بتكذيبهم الرسل
﴿ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُواْ السُّوءَى﴾ أي العذاب الأسوأ؛ كما أن عاقبة الذين أحسنوا الحسنى ﴿أَنَّ﴾ بسبب أن
﴿اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ ينشؤه ابتداء؛ من غير مثال سبق ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ يحييه للبعث والحساب يوم القيامة ﴿ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ جميعاً: مسلمكم وكافركم
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ﴾ ييأسون ويتحيرون.
والإبلاس: الحزن والانكسار. وقيل: هو انقطاع الحجة
﴿شُرَكَآئِهِمْ﴾ آلهتهم اللاتي أشركوا بعبادتها مع الله تعالى؛ وهي الأصنام
﴿يَتَفَرَّقُونَ﴾ المؤمن في الجنة، والكافر في النار
﴿يُحْبَرُونَ﴾ يتهللون فرحاً وسروراً
﴿وَعَشِيّاً﴾ وقت العشاء ﴿وَحِينَ تُظْهِرُونَ﴾ وقت الظهر. والمراد: ليلاً ونهاراً
﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾ يخرج الدجاجة - وهي حية - من البيضة - وهي ميتة - ويخرج الإنسان - وهو حي - من المني - وهو ميت في ظاهره - ﴿وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾ يخرج البيضة من الدجاجة، ويخرج المني من الإنسان والحيوان.
وقد ورد في الحديث الشريف: «يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن» وذلك لأن الإيمان: هو الحياة الحقيقية التي يعتد بها وقد شبه الله تعالى الكفار بالموتى في غير موضع من كتابه الكريم (انظر آية ٢٧ من سورة آل عمران) ﴿وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ ينبتها بعد جدبها ﴿وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ﴾ أي وكما يخرج النبات من الأرض - بعد جدبها - بقدرة الله تعالى: تبعثون من القبور - بعد موتكم - بإرادته تعالى
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ علامات قدرته وربوبيته ﴿أَنْ خَلَقَكُمْ﴾ أي خلق أباكم وأصلكم: آدم عليه السلام ﴿تَنتَشِرُونَ﴾ في الأرض، وتتصرفون فيما فيه معاشكم ومنفعتكم
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُواْ﴾ لتطمئنوا ﴿إِلَيْهَا﴾ وترتاحوا ﴿وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً﴾ أي جعل بينكم التواد والتراحم؛ بسبب الزواج وقيل: «مودة» بالشابة «ورحمة» بالعجوز. ولا يخفى ما بثه الله تعالى بين الأزواج: من الشفقة والحنان؛ وما أوجبه على كلا الزوجين من المودة، والتفاني في الإخلاص والمحبة وهذا لا يتنافى مع ما يحدث من الشقاق بين الطبقة الدنيا، وذوي النفوس الوضيعة، مما ينشأ من ضعف الأخلاق، وفساد البيئة، ونقص التربية. وكثيراً ما يكون ذلك سبباً في هدم بعض النواميس الطبيعية: فقد يقتل الابن أمه - وهو أحب الناس لديها - والأب ابنه - وهو قرة عينه في الحياة - وما سبب ذلك إلا فساد الطبائع، والانصراف عن الدين الحنيف: الآمر بكل خير، الناهي عن كل شر والآية الكريمة تشير إلى أن الواجب على الزوجين: أن تسود بينهما المودة والحنان، والرحمة والإحسان كيف لا وهما شركاء البأساء والنعماء، والضراء والسراء
﴿وَمِنْ آيَاتِهِ﴾ تعالى أيضاً ﴿خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ وما فيهما، ومن فيهما ﴿وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ﴾ لغاتكم ﴿وَأَلْوَانِكُمْ﴾ فهذا أبيض، وهذا أسود، وهذا أحمر، وهذا أصفر؛ بغير تفريق بين كل منهم في القدر والفضل؛ اللهم إلا بالعلم والتقوى: فالعالم الأسود المتقي ربه: خير من الجاهل الأبيض المفرط في حقوق مولاه ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ ومن عجب أن كثيراً من الأمم الغربية - التي تتزعم المدنية الزائفة - اتخذت التفريق العنصري ديدناً وشعاراً: فهم يقتلون الملونين بأوهى الأسباب؛ بل بلا سبب أصلاً؛ ولا يثأرون لهم ممن يعتدي عليهم من أبناء جلدتهم. وقد فاتهم
-[٤٩٤]- أن جميع الكائنات البشرية إخوة، وأن وراء هذه الألوان المتعددة روحاً واحدة لا لون لها؛ وأن إلهاً واحداً هو الذي خلقهم جميعاً، وأودع في كل منهم سره ونوره؛ وأرخى على روح كل واحد منهم ستاراً كثيفاً: هو الجسد؛ وهذا الستار يكون في صقع أبيض، وفي آخر أسود؛ وفي صقع أحمر، وفي آخر أصفر.
ومن آياته تعالى البينات: اختلاف اللغات؛ وقد بلغ عددها في بعض الأصقاع عشرات المئات. وقد قام كثير من الباحثين بحصر اللغات العالمية وإحصائها؛ فزاد ما أحصوه على الثلاثة آلاف، ولم يبلغوا بعد غايتها ونهايتها.
وتستوي اللغات جميعها في وحدة المقصد: وهو الإبانة. ولا فضل لإحداها على الأخرى إلا بالسهولة، ويسر التناول. وقد شرف الله تعالى اللغة العربية بنزول القرآن بها؛ وذلك بسبب حاجة الأمة العربية للهداية؛ ولا يستطيع إنسان - بالغاً ما بلغ من رجحان العقل أو نقصانه - أن يزعم أن اللغة العربية - التي نزل بها القرآن - هي اللغة التي يتخاطب بها ملائكة الرحمن في سمواته، وأنها لغة الله تعالى التي لا يصدر أوامره إلا بها. ألم ينزل بها كتابه؛ وهو كلامه العزيز، وقرآنه الكريم؟
والواقع أن اللغات جميعها - عربيها وعجميها - مخلوقةلله تعالى، وهي إحدى آياته البينات ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ﴾.
وليس من فضل للغة من اللغات على صاحبها: سوى الإبانة التي لم تخلق اللغة إلا لتكون أداة لها.
وكما أوحى ربك إلى الإنسان؛ أوحى أيضاً إلى الحيوان ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ﴾ ونتيجة الوحي في الحالتين: هي وصول العلم بالموحي به إلى الموحى إليه - مع اختلاف الوسائل - وكذلك كان وحيه تعالى إلى كثير من خلقه ﴿وَأَوْحَيْنَآ إِلَى أُمِّ مُوسَى﴾ فلم يقل إنسان: أنه تعالى أوحى إليها عن طريق جبريل عليه السلام؛ وإنما كان عن طريق الكشف عما يجب أن يتبع، أو عما فيه الصالح العام للمجتمع الإنساني.
ومن ذا الذي يستطيع أن يجحد أن ما نراه من صنوف المخترعات، وشتى الفنون؛ إنما كان عن طريق الوحي، والتوجيه، والتعليم الإلهي ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾.
وإلا فأين جهد العقل الإنساني من الكهرباء؛ وهو لم يعلم - حتى الآن - كنهها، ولم يكشف سرها؟ وأين جهد العقل البشري من الرادار، والتليفزيون، والذرة، وما شاكل ذلك؟
إن الإنسان يتوهم أن جميع ذلك كان وليد الصدفة المحضة؛ ولكن هذه الصدفة التي يزعمونها؛
-[٤٩٥]- إن هي إلا وحي خالص من لدن حكيم عليم (انظر آية ٥ من سورة العلق).
وفي كل شيء له آية
تدل على أنه الواحد
﴿كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ﴾ منقادون
﴿وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾ أي إن إعادة الخلق: أهون عليه من بدئه
﴿هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ عبيدكم ﴿مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ أي هل يرضى أحدكم أن يكون مملوكه شريكاً له في ماله الذي رزقه الله تعالى؟ فإذا لم يكن ذلك كذلك؛ فكيف ترضونلله شريكاً: هو في الأصل مخلوق، ومملوكلله؟ ﴿فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ﴾ أي أنتم وعبيدكم سواء في الرزق؛ ومع ذلك لا ترضونهم شركاء فيه؛ ورضيتملله شركاء في خلقه وملكه، من عبيده وصنع يده ﴿تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ﴾ أن تخافون أن يرثكم عبيدكم وإماؤكم؛ كخيفة أن يرث بعضكم بعضاً. فإذا كنتم تخافونهم على أموالكم - وأنتم وهم فيها سواء - فكيف ترضون أن يشرك الله تعالى في ملكه: ما تصنعونه بأيديكم؛ وأنتم صنع يده، وفقراء رحمته؟
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينَ﴾ أي أقبل عليه باهتمام ﴿حَنِيفاً﴾ مسلماً، مائلاً إليه ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾ خلقته ودينه ﴿الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا﴾ أعدهم لقبولها، وأهلهم لفهمها وألزمهم بها؛ بما أودعه فيهم من عقل وتمييز ﴿ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ المستقيم، الواضح، المعقول، المقبول؛ الذي تستسيغه وتقبله الفطر السليمة
﴿مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ راجعين إليه: مؤتمرين بأوامره، منتهين عن نواهيه
﴿وَكَانُواْ شِيَعاً﴾ فرقاً ﴿كُلُّ حِزْبٍ﴾ كل فرقة، وجماعة ﴿بِمَا لَدَيْهِمْ﴾ من الآراء الباطلة، والعقائد الفاسدة ﴿فَرِحُونَ﴾ مسرورون؛ لم يكلفوا أنفسهم عناء البحث وراء الحقائق، والسعي إلى معرفة الخير الموصل إلى رضا الرحمن ورحيب الجنان
﴿وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ﴾ شدة، وفقر، ومرض ﴿دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ﴾ راجعين إلى طاعته ﴿ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً﴾
سعة، ورخاء، وصحة ﴿إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ﴾ أي يشركون غيره معه في العبادة: يخلقهم فيعبدون غيره، ويرزقهم فيشكرون سواه وللشرك مظاهر شتى لا حصر لها فليس مقصوراً على عبادة غير الله فحسب: فلو انتصر محارب على عدوه، وظن أن نصرته من قوته: فقد أشرك بمن أعانه وأخذ بناصره. ولو أثرى تاجر، وظن أن ذلك بفطنته: فقد أشرك برازقه. وإذا برع صانع في صنعته، وظن أن ذلك بحذقه ومهارته: فقد أشرك بمعلمه وموفقه فاحذر - هداك الله - الشرك الخفي؛ فقد أهلك من كان قبلكم قال تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ﴾ ومن قبل قال قارون ﴿إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي﴾
﴿لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ﴾ من الخيرات والبركات: فمن مال وفير، ورزق كثير؛ إلى سرور -
-[٤٩٦]- وحبور، وصحة وقوة، وبنين وبنات ﴿فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ عاقبة تمتعكم، وعدم شكركم
﴿أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً﴾ حجة؛ وكتاباً ﴿فَهُوَ﴾ أي الكتاب ﴿يَتَكَلَّمُ﴾ كلام دلالة؛ لا كلام نطق ﴿بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ﴾ أي بصحة شركهم
﴿وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ شدة وضيق ﴿﴾ بسبب ما قدمت ﴿أَيْدِيهِمْ﴾ من ذنوب وآثام ﴿إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ﴾ ييأسون من رحمة الله تعالى ومعونته ويضيق
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ البسط والتضييق ﴿لآيَاتٍ﴾ لعبر، وعظات، ودلالات؛ تدل على وجود الخالق الرازق؛ الذي ﴿يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وبغير سبب ظاهر، ويضيق على من يشاء بغير سبب؛ ومع توافر أسباب الرزق والسعة. فهو تعالى وحده يختص من يريد بما يريد ﴿لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ﴾ فإذا كنت يا من هداكالله؛ ترغب في فضل الله
﴿فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ وهو المسافر المنقطع. وقد عرفنا الله تعالى بذلك: أن لذي القربى، والمسكين، وابن السبيل حقوقاً ثابتة في أموالنا؛ يجب بذلها لهم، وأداؤها إليهم. وأن هذه الحقوق ليست تفضلاً منا عليهم؛ بل هي فرض واجب الأداء والوفاء، وأوامر واجبة النفاذ؛ أصدرها من يملك الخلق والرزق، والثواب والعقاب
﴿وَمَآ آتَيْتُمْ﴾ أعطيتم أحداً ﴿مِّن رِّباً﴾ أي من شيء تطلبون زيادته؛ كأن تهبوا هبة أو تهدوا هدية؛ لا بقصد الهبة، ولا بقصد الإهداء؛ بل بقصد الزيادة والتفاخر، والتكاثر ﴿لِّيَرْبُوَ﴾ ليزيد ﴿فِي أَمْوَالِ النَّاسِ﴾ فيردونه إليكم مضاعفاً؛ فإن هذا العمل إذا جاز أن يربو عند الناس ﴿فَلاَ يَرْبُو عِندَ اللَّهِ﴾ لأنه لم يقصد به وجهه الكريم فليس لكم عليه من أجر، ولا ثواب. وهو كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ﴾ ﴿وَمَآ آتَيْتُمْ﴾ أعطيتم وأنفقتم ﴿مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ﴾ بها ﴿وَجْهَ اللَّهِ﴾ مرضاته وثوابه ﴿فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ﴾ الذين يضاعفون ثواب حسناتهم؛ فيرضيهم ربهم ويرضى عنهم
﴿هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ﴾ الذين تعبدونهم ﴿مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ﴾ أي هل من شركائكم من يستطيع أن يبسط الرزق لأحد، أو أن يقدره على أحد؟ أو أن يكشف الضر عن أحد، أو أن يلحقه بأحد؟ أو أن يخلق، أو يرزق؟ أو أن يحيي أو يميت؟
﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ﴾ المراد بظهور الفساد: ظهور المعاصي؛ وظهوره: ظهور آثاره وعواقبه ﴿فِي الْبَرِّ﴾ بالجدب، ونقص الثمرات، وذهاب البركة ﴿وَالْبَحْرِ﴾ بقلة ماء المطر، المستمد منه، أو بقلة الأسماك التي تصاد منه، أو بكثرة طغيانه بالفيضان والإغراق ﴿بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ﴾ من المعاصي ﴿لِيُذِيقَهُمْ﴾ ربهم ﴿بَعْضَ الَّذِي عَمِلُواْ﴾ أي جزاءه ﴿لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ عن معاصيهم؛ فتعود إليهم أرزاقهم، وتتوافر خيراتهم ومكاسبهم، ويرضى عنهم ربهم
﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾ اقصد واتجه بكليتك ﴿لِلدِّينَ الْقِيِّمِ﴾ الإسلام؛ فذلك وحده سبب كل خير ويسر ﴿مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ﴾ هو يوم القيامة ﴿لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ﴾ لا دافع له، ولا مانع ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ أي يتفرقون ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾
﴿وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ﴾ أي يسوون لأنفسهم مقر راحتهم في الدنيا، ونعيمهم الدائم في الآخرة
﴿الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ﴾ بالمطر؛ الذي هو سبب الإنبات والرزق ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ﴾ خصبه وسعته ﴿وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ﴾ السفن ﴿بِأَمْرِهِ﴾ بإرادته، ومعونته، وحفظه ﴿وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ﴾ تطلبوا الرزق بالتجارة والكسب؛ عن طريق الأسفار، في البحار
﴿فَجَآءُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ بالحجج الواضحات الظاهرات
﴿وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً﴾ قطعاً ﴿فَتَرَى الْوَدْقَ﴾ المطر ﴿يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ﴾ أي من خلال السحاب؛ وهو وسطه ﴿فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ﴾ أي بالمطر
﴿لَمُبْلِسِينَ﴾ آيسين
﴿فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ﴾ بعباده، وشفقته بخليقته ﴿كَيْفَ يُحْيِيِ الأَرْضَ﴾ بالماء، والنبات، والأقوات ﴿بَعْدَ مَوْتِهَآ﴾ جدبها ويبسها ﴿إِنَّ ذَلِكَ﴾ الإله؛ المرسل الرياح، المثير السحاب، المنزل الماء على من يشاء، المحيي به الأرض بعد موتها «إن ذلك» القوي القادر ﴿لَمُحْييِ الْمَوْتَى﴾ من قبورها، وباعثها من أجداثها، ومحاسبها على أعمالها
﴿فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً﴾ أي الريح، أو الزرع، أو السحاب. وذلك لأن اصفرار السحاب: يدل على عدم وجود الماء فيه، واصفرار الريح: على أنها لا تلقح السحاب، واصفرار الزرع: على يبسه وعدم نمائه ﴿لَّظَلُّواْ﴾ لمكثوا ﴿مِن بَعْدِهِ﴾ أي من بعد الاصفرار، ويأسهم من الإمطار ﴿يَكْفُرُونَ﴾ يجحدون أنعم الله تعالى السابقة عليهم، ورحمته الواصلة إليهم
﴿فَإِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ﴾ أي لا تستطيع إسماع موتى القلوب، ولا صم العقول. وشبههم تعالى بالموتى والصم؛ لأن حالهم كحالهم في عدم الانتفاع بالسماع
﴿اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ﴾ أي من شيء ضعيف؛ لا قوة له: وهو المني. أو أريد به الطفولة؛ وهي مكمن الضعف ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ﴾ وهو سن الشباب والفتوة ﴿ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً﴾ وهو الهرم والشيخوخة
﴿وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ﴾ الكافرون؛ أنهم ﴿مَا لَبِثُواْ﴾ مكثوا في الدنيا، أو في القبور ﴿كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ﴾ أي «كذلك» كما صرفوا عن حقيقة لبثهم في الدنيا أو في القبور؛ كانوا يصرفون عن الحق في الدنيا
﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ﴾ الملائكة ﴿وَالإِيمَانَ﴾ وهم الأنبياء ﴿لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ﴾ أي فيما كتبه الله تعالى في سابق علمه وتقديره
﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ ينفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ﴾ الكفار ﴿مَعْذِرَتُهُمْ﴾ اعتذارهم عما سلف منهم في الدنيا ﴿وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ﴾ يعاتبون؛ لأن العتاب، لا يكون إلا بين الأحباب. والاستعتاب أيضاً: الاسترضاء
﴿وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ﴾ معجزة مما يقترحون؛ كالعصا، واليد، والناقة، والمائدة، وأشباه ذلك ﴿لَّيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ﴾ وهم الذين يقترحون الآيات والمعجزات؛ كقولهم ﴿مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا فَأْتِ﴾ ﴿بَلْ قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ﴾ فإذا جاءهم رسولهم بآية قالوا ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ﴾ كاذبون، ساحرون
﴿كَذَلِكَ﴾ كما طبع الله تعالى على قلوب هؤلاء حتى أدخلوا النار بأعمالهم ﴿يَطْبَعُ اللَّهُ﴾ يختم ويغطي ﴿عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي الذين لا يلقون بالهم لأدلة التوحيد، وبراهين الربوبية
﴿فَاصْبِرْ﴾ على أذاهم ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾ بنصرك وخذلانهم ﴿حَقٌّ﴾ لا مراء فيه ﴿وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ﴾ أي لا يحملنك على الخفة، والقلق، والجزع: قولهم لكم ﴿إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ﴾.
498
سورة لقمان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

499
Icon