تفسير سورة لقمان

صفوة التفاسير
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب صفوة التفاسير المعروف بـصفوة التفاسير .
لمؤلفه محمد علي الصابوني .

اللغَة: ﴿الحكيم﴾ المحكم الذي لا خلل فيه ولا تناقض ﴿يُوقِنُونَ﴾ اليقين: التصديق الجازم ﴿لَهْوَ الحديث﴾ الباطل الملهي عن الخير والعبادة ﴿وَقْراً﴾ ثِقلاً وصمماً يمنع من السماع ﴿عَمَدٍ﴾ جمع عِماد وهو الدعامة التي يرتكز عليها الشيء ﴿رَوَاسِيَ﴾ جبالاً وثوابت، ورست السفينة: إِذا ثبتت واستقرت ﴿تَمِيدَ﴾ تتحرك وتضطرب ﴿وَبَثَّ﴾ نشر وفرَّق.
سَبَبُ النّزول: روي أن «النضر بن الحارث» كان يشتري المغنِّيات، فلا يظفر بأحدٍ يريد الإِسلام إِلا انطلق به إِلى قينته «المغنية» فيقول لها: أطعميه، واسقيه الخمر، وغنّيه، ويقول: هذا خيرٌ مما يدعوك إِليه محمد، من الصلاة والصيام، وأن تقاتل بين يديه فأنزل الله ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله..﴾ الآية.
التفسِير: ﴿الم﴾ الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن، وللإِشارة إِلى أن هذا الكتاب المعجز الذي أفحم العلماء والأدباء والفصحاء والبلغاء منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية «ألف، لام، ميم» وهي في متناول أيدي الناطقين بالعربية، وهم عاجزون ان يؤلفوا منها كتاباً مثل هذا الكتاببعد التحدي والإِفحام، وهذا من أظهر الدلائل وأوضح البراهين على أنه تنزيل الحكيم العليم ﴿تِلْكَ آيَاتُ الكتاب﴾ أي هذه آيات الكتاب البديع، الذي فاق كل كتاب في بيانه، وتشريعه، وأحكامه ﴿الحكيم﴾ أي ذي الحكمة الفائقة، والعجائب الرائقة، الناطق بالحكمة والبيان، والإِشارة بالبعيد عن القريب «تلك» للإِيذان ببعد منزلته في الفضل والشرف ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾ أي هداية ورحمة للمحسنين الذين أحسنوا العمل في الدنيا، وإِنما خُصوا بالذكر لأنهم هم المنتفعون بما فيه، ثم وضح تعالى صفاتهم فقال ﴿الذين يُقِيمُونَ الصلاة﴾ أي يؤدونها على الوجه الأكمل بأركانها وخشوعها وآدابها ﴿وَيُؤْتُونَ الزكاة﴾ أي يدفعونها إلى مستحقيها طيبةً بها نفوسهم ابتغاء مرضاة الله ﴿وَهُمْ بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ﴾ أي يصدّقون بالدار الآخرة ويعتقدون بها اعتقاداً جازماً لا يخالطه شك ولا ارتياب، وكرَّر الضمير «هم» للتأكيد وإِفادة الحصر ﴿أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ﴾ أي أولئك الموصوفون بتلك الصفات الجليلة على نور وبصيرة، ومنهج واضح سديد، من الله العزيز الحميد ﴿وأولئك هُمُ المفلحون﴾ أي هم الفائزون السعداء في الدنيا والآخرة قال أبو حيان: وكرر الإِشارة ﴿وأولئك﴾ تنبيهاً على عظم قدرهم وفضلهم، ولما ذكر تعالى حال السعداء، الذين أهتدوا بكتاب الله وانتفعوا بسماعه، عطف عليهم بذكر حال الأشقياء، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله،
447
وأقبلوا على استماع الغناء والمزامير فقال ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث﴾ أي ومن الناس من يشتري ما يُلهي عن طاعة الله، ويَصُد عن سبيله، مما لا خير ولا فائدة فيه قال الزمخشري: واللهو كل باطلٍ ألهى عن الخير، نحو السمر بالأساطير، والتحدث بالخرافات المضحكة، وفضول الكلام وما لا ينبغي، وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه سئل عن الآية فقال: والله الذي لا إِله إِلا هو - يكررها ثلاثاً - إٍنما هو الغناء، وقال الحسن البصري: نزلت هذه الآية في الغناء والمزامير ﴿لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ أي ليُضل الناس عن طريق الهدى، ويُبعدهم عندينه القويم، بغير حجة ولا برهان ﴿وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً﴾ أي ويتخذ آيات الكتاب المجيد سخرية واستهزاءً، وهذا أدخل في القبح، وأعرقُ في الضلال ﴿أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ أي لهم عذاب شديد مع الذلة والهوان ﴿وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا﴾ أي وإِذا قرئت عليه آيات القرآن ﴿ولى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا﴾ أي أعرض وأدبر متكبراً عنها كأنه لم يسمعها، شأن المتكبر الذي لا يلتفت إِلى الكلام، ويجعل نفسه كأنها غافلة ﴿كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ أي كأن في أذنيه ثقلاً وصمماً يمنعانه عن استماع آيات الله ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ أي أنذره يا محمد بعذاب مؤلمٍ، مفرطٍ في الشدة والإِيلام، ووضع البشارة بأشد العذاب.
. ولما ذكر ما وعد به الكفار من العذاب الأليم، ذكر ما وعد به المؤمنين من جنات النعيم فقال ﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات﴾ أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح، وبين حسن النيّة وإِخلاص العمل ﴿لَهُمْ جَنَّاتُ النعيم﴾ أي لهم على إِيمانهم واستقامتهم على شريعة الله جناتُ الخلد يتنعمون فيها بأنواع الملاذّ، من المآكل والمشارب والملابس، والنساء والحور العين، وسائر ما أكرمهم الله به من الفضل والإِنعام، مما لا عينٌ رأتْ ولا أذُنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي دائمين في تلك الجنات، لا يخرجون منها أبداً، ولا يبغون عنها حولاً ﴿وَعْدَ الله حَقّاً﴾ أي وعداً من الله قاطعاً، كائناً لا محالة، لا خلف فيه لأنه الله لا يخلف الميعاد ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ أي هو تعالى العزيز الذي لا يغلبه شيء ليمنعه عن إِنجاز وعده، الحكيم الذي لا يفعل إِلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة.. ثم نبّه تعالى إِلى دلائل قدرته، وآثار عظمته وجلاله لإِقامة البراهين على وحدانيته فقال ﴿خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا﴾ أي خلق السماوات في سعتها وعظمتها وإِحكامها بدون دعائم ترتكز عليها، حال كونكم تشاهدونها كذلك واقفة من غير أن تستند على شيء، ولا تمسكها إِلا قدرة الله العليّ الكبير ﴿وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ﴾ أي جعل فيها جبالاً ثوابت لئلا تتحرك وتضطرب بكم فتهلككم بأن تقلبكم عن ظهرها، أو تهدم بيوتكم بتزلزلها قال الإِمام الفخر: واعلم أن الأرض ثباتُها بسبب ثقلها، وإِلا كانت تزول عن موضعها بسبب المياه
448
والرياح، ولو خلقها تعالى مثل الرمل لما كانت تثبتُ للزراعة، كما نرى الأراضي الرملية ينتقل الرمل الذي فيها من موضع إلى موضع، فهذه هي حكمة إِرسالها بالجبال، فسبحان الكبير المتعال ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ أي ونشر وفرَّق في أرجاء الأرض من كل أنواع الحيوانات والدواب من مأكول ومركوب، مما لا يعلم عدد أشطالها وألوانها إِلا الذي خلقها ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً﴾ أي وأنزلنا لحفظكم وحفظ دوابكم المطر من السحاب ﴿فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ﴾ أي فأنبتنا في الأرض من كل نوع من النبات، ومن كل صنفٍ من الأغذية والأدوية ﴿كَرِيمٍ﴾ أي كثير المنافع، بديع الخلق والتكوين ﴿هذا خَلْقُ الله﴾ أي هذا الذي تشاهدونه وتعاينونه أيها المشركون هو من مخلوقات الله، فانظروا في السماوات والأض، والإِنسان، والنبات، والحيوان، وسائر ما خلق الله ثم تفكروا في آثار قدرته، وبديع صنعته ﴿فَأَرُونِي﴾ ثم أخبروني ﴿مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ﴾ أي أيَّ شيءٍ خلقته آلهتكم التي عبدتموها من دون الله من الأوثان والأصنام؟ وهو سؤال على جهة التهكم والسخرية بهم وبآلهتهم المزعومة، ثم أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الواضح فقال ﴿بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ أي بل المشركون في خسران ظاهر، وضلالٍ واضح ما بعده ضلال، لأنهم وضعوا العبادة في غير موضعها، وعبدوا ما لا يسمع ولا يبصر ولا ينفع ولا يضر، فهم أضل من الحيوان الأعجم، لأن من عبد صنماً جامداً، وترك خالقاً عظيماً مدبراً، يكون أحطَّ شأناً من الحيوان.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - وضع المصدر للمبالغة ﴿هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ﴾.
٢ - الإِشارة بالبعيد ﴿تِلْكَ آيَاتُ﴾ عن القريب ﴿هذه﴾ لبيان علو الرتبة ورفعة القدر والشأن.
٣ - الإِطناب بتكرار الضمير واسم الإِشارة ﴿وَهُمْ بالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ﴾ لزيادة الثناء عليهم والتكريم لهم، كما أن الجملة تفيد الحصر أي هم المفلحون لا غيرهم.
٤ - الاستعارة التصريحية ﴿وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث﴾ شبّه حالهم بحال من يشتري سلعة وهو خاسر فيها، واستعار لفظ يشتري لمعنى يستبدل بطريق الاستعارة التصريحية.
٥ - التشبيه المرسل المجمل ﴿كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ ذكرت أداة التشبيه وحذف الشبه فهو تشبيه «مرسل مجمل».
٦ -
449
أسلوب التهكم ﴿فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ لأن البشارة إنما تكون في الخير، واستعمالها في الشر سخرية وتهكم.
٧ - الالتفات من الغيبة إِلى التكلم ﴿وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء﴾ بعد قوله ﴿خَلْقُ، وألقى، وَبَثَّ﴾ وكلها بضمير الغائب، ثم التفت فقال ﴿وَأَنزَلْنَا﴾ لشأن الرحمن، وتوفيةً لمقام الامتنان، وهذا من المحسنات البديعية.
٨ - إِطلاق المصدر على اسم المفعول مبالغة ﴿هذا خَلْقُ الله﴾ أي مخلوقة.
٩ - الاستفهام للتوبيخ والتبكيت ﴿مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ﴾ ؟
١٠ - وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة التوبيخ، وللتسجيل عليهم بغاية الظلم والجهل ﴿بَلِ الظالمون فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ وكان الأصل أن يقال: بل هم في ضلالٍ مبين.
١١ - مراعاة الفواصل في الحرف الأخير مثل ﴿عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ ويسمى هذا النوع في علم البديع «سجعاً» وأفضله ما تساوت فقره، وكان سليماً من التكلف، خالياً من التكرار، وهو كثير في القرآن الكريم في نهاية الآيات الكريمة.
فَائِدَة: وصفُ الكتاب بالحكمة في هذه السورة ﴿الكتاب الحكيم﴾ مناسبٌ لجو السورة الكريمة لأن موضوع الحكمة قد تكرر فيها ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة﴾ فناسب أن يختار هذا الوصف من أوصاف الكتاب المجيد، على طريقة القرآن في التنسيق بين الألفاظ والمواضيع.
450
المنَاسَبَة: لمّا بيَّن تعالى فساد اعتقاد المشركين، بسبب عنادهم وإِشراكهم من لا يخلق شيئاَ بمن هو خالق كل شيء، ذكر هنا وصايا «لقمان» الحكيم، وهي وصايا ثمينة في غاية الحكمة والدعوة إِلى طريق الرشاد، وقد جاءت هذه الوصايا مبدوءةً بالتحذير من الشرك الذي هو أقبح الذنوب، وأعظم الجرائم عند الله.
اللغَة: ﴿الحكمة﴾ الإِصابة في القول العمل، وأصلها وضع الشيء في موضعه قال في اللسان: أحكم المر أتقنه ويُقال للرجل إِذا كان حكيماً: قد أحكمته التجارب، والحكيم: المتفن للأمور ﴿يَعِظُهُ﴾ ينصحه ويذركه، والعظةُ والموعظة: النصح والإِرشاد ﴿وَهْناً﴾ الوهن: الضعف ومنه ﴿وَهَنَ العظم مِنِّي﴾ [مريم: ٤] أي ضعف ﴿فِصَالُهُ﴾ الفصال: الفطام وهو لفظ يستعمل في الرضاع خاصة، وأما الفصل فهو أعم، وفصلت المرأة ولدها أي فطمته وتركت إرضاعه ﴿أَنَابَ﴾ رجع، والمنيب الراجع إِلى ربه بالتوبة والاستغفار ﴿تُصَعِّرْ﴾ الصَّعر: بفتحتين في الأصل داءٌ يصيب البعير فيلوي منه عنقه ثم استعمل في ميل العنق كبراً وافتخاراً قال عمرو التغلبي:
وكنَّا إِذا الجبَّار صعَّر خدَّه أقمنا له من ميله فتقومّ
﴿مَرَحاً﴾ فرحاً وبطراً وخيلاء ﴿مُخْتَالٍ﴾ متبختر في مشيته ﴿اقصد﴾ توسَّط، والقصد: التوسط بين الإِسراع والبطء ﴿اغضض﴾ عضَّ الصوت خفضه قال جرير:
فغُضَّ الطرف إِنك من نمير فلا كعباً بلغت ولا كلابا
التفسِيْر: ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة﴾ أي والله لقد أعطينا لقمان الحكمة وهي الإصابة في القول، والسَّداد في الرأي، والنطق بما يوافق الحق، قال مجاهد: الحكمة: الفقه والعقل، والإِصابة في القول، ولم يكن نبياً إِنما كان حكيماً ﴿أَنِ اشكر للَّهِ﴾ أي وقلنا له: أشكر الله على إِنعامه وإِفضاله عليك حيث خصَّك بالحكمة وجعلها على لسانك قال القرطبي: والصحيح الذي عليه الجمهور أن «لقمان» كان حكيماً ولم يكن نبياً وفي الحديث «لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً كثير التفكر، حسن اليقين، أحبَّ الله تعالى فأحبَّه، فمنَّ عليه بالحكمة» ﴿وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ﴾ أي ومن يشكر ربه فثواب شكره راجع لنفسه، وفائدته إنما تعود عليه، لن الله تعالى لا ينفعه شكر من شكر، ولا يضره كفر من كفر ولهذا قال بعده ﴿وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ أي ومن جحد نعمة الله فإِنما أساء إلى نفسه، لأن الله مستغنٍ عن العباد، محمودٌ على كل حال، مستحقٌ للحمد لذاته وصفاته قال الرازي: المعنى أن الله غير محتاج إِلى شكر حتى يتضرَّر بكفر الكافر، فهو في نفسه محمود سواء شكره الناس أم لم يشكروه، ثم ذكر تعالى بعض نصائح لقمان لابنه وبدأ بالتحذير له من الشرك، الذي هو نهاية القبح والشناعة فقال ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يابني لاَ تُشْرِكْ بالله﴾ أي واذكر لقومك موعظة لقمان الحكيم لولده، حين قال له واعظاً ناصحاً مرشداً: يا بني كن عاقلاً ولا تشرك بالله أحداً، بشراً أو صنماً أو ولداً ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ أي إِن ال شر ك قبيح،
451
وظلم صارخ لأنه وضعٌ للشيء في غير موضعه، فمن سوَّى بين الخالق والمخلوق، وبين الإِله والصنم فهو - بلا شك - أحمق الناس، وأبعدهم عن منطق العقل والحكمة، وحري به أن يوصف بالظلم ويجعل في عداد البهائم ﴿وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ﴾ أي أمرناه بالإِحسان إِليهما لا سيما الوالدة ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ﴾ أي حملته جنيناً في بطنها وهي تزداد كل يوم ضعفاً على ضعف، من حين الحمل إِلى حين الولادة، لأن الحمل كلما ازداد وعظم، إِزدادت به ثقلاً وضعفاً ﴿وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ أي وفطامه في تمام عامين ﴿أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ﴾ أي وقلنا له: اشكر ربك على نعمة الإِيمان والإِحسان، واشكر والديك على نعمة التربية ﴿إِلَيَّ المصير﴾ أي إِليَّ المرجع والمآب فأجازي المحسن على إِحسانه، والمسيء على إِسائته قال ابن جزي: وقوله ﴿أَنِ اشكر﴾ تفسيرٌ للوصية، واعترض بينها وبين تفسيرها بقوله ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾ ليبيّن ما تكابده الأم بالولد مما يوجب عظيم حقها، ولذلك كان حقها أعظم من حق الأب ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا﴾ أي وإِن بذلا جهدهما، وأقصى ما في وسعهما، ليحملاك على الكفر والإِشراك بالله فلا تطعهما، إِذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً﴾ أي وصاحبهما في الحياة الدنيا بالمعروف والإِحسان إلأيهما - ولو كان مشركين - لأن كفرهما بالله لا يستدعي ضياع المتاعب التي تحمَّلاها في تربية الولد، ولا التنكر بالجميل ﴿واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ﴾ أي واسلك طريق من رجع إلى الله بالتوحيد والطاعة والعمل الصالح ﴿ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي مرجع الخلق إِلى الله فيجازيهم على أعمالهم، والحكمةُ من ذكر الوصية بالوالدين - ضمن وصايا لقمان - تأكيد ما أفادته الآية الأولى من تقبيح أمر الشرك ﴿إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ فكأنه تعالى يقول: مع أننا وصينا الإِنسان بوالديه، وأمرناه بالإِحسان إِليهما والعطف عليهما، وألزمناه طاعتهما بسبب حقهما العظيم عليه، مع كل هذا فقد نهيناه عن طاعتهما في حالة الشرك والعصيان، لأن الإِشراك بالله من أعظم الذنوب، وهو في نهاية القبح والشناعة.
. ثم رجع الكلام إِلى وصايا لقمان فقال تعالى ﴿يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ﴾ أي يا ولدي إِن الخطيئة والمعصية مهما كانت صغيرة حتى ولو كانت وزن حبة الخردل في الصغر ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله﴾ أي فتكن تلك السيئة - مع كونها في أقصى غايات الصغر - في أخفى مكان أحرزه، كجوف الصخرة الصماء، أو في أعلى مكان في السماء أو في الأرض يحضرها الله سبحانه ويحاسب عليه، والغرض التمثيلُ بأن الله لا تخفى عليه خافية من أعمال العباد ﴿إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ أي هو سبحانه لطيف بالعباد خبير أي عالم ببواطن الأمور ﴿يابني أَقِمِ الصلاة﴾ أي حافظ على الصلاة في أوقاتها وبخشوعها وآدابها ﴿وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر﴾ أي وأمر الناس بكل خير وفضيلة، وأنههم عن كل شر ورذيلة ﴿واصبر على مَآ أَصَابَكَ﴾ أي اصبر على المحن والبلايا، لأنَّ الداعي إِلى الحق معرَّض لإِيصال الأذى إِليه قال أبو حيان: لما نهاه أولاً عن الشرك، وأخبره ثانياً بعلمه تعالى وباهر قدرته، أمره با يتوسل به إِلى الله من الطاعات، فبدأ بأشرفها
452
وهي الصلاة، ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ثم بالصبر على ما يصيبه من المحن بسبب الأمر بالمعروف، فكثيراً ما يُؤذى فاعل ذلك ﴿إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور﴾ أي إِن ذلك المكذور مما عزمه الله وأمر به قال ابن عباس: من حقيقة الإِيمان الصبر على المكاره وقال الرازي: معناه إِن ذلك من الأمور الواجبة المعزومة أي المقطوعة، فالمصدر بمعنى المفعول ﴿وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ﴾ أي لا تمل وجهك عنهم تكبراً عليهم قال القرطبي: أي لا تمل خدك للناس كبراً عليهم وإِعجاباً، وتحقيراً لهم، وهو قول ابن عباس ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً﴾ أي لا تمش متبختراً متكباراً ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ تعليلٌ للنهي أي لأن الله يكره المتكبر الذي يرى العظمة لنفسه، ويتكبر على عباد الله، المتبختر في مشيته، والفخور الذي يفتخر على غيره، ثم لما نهاه عن الخُلُق الذميم، أمره بالخُلُق الكريم فقال ﴿واقصد فِي مَشْيِكَ﴾ أي توسَّط في مشيتك واعتدل فيها بين الإِسراع والبطء ﴿واغضض مِن صَوْتِكَ﴾ أي اخفض من صوتك فلا ترفعه عالياً فإِنه قبيح لا يجمل بالعاقل ﴿إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير﴾ أي إِن أوحش الأصوات صوتُ الحمير فمن رفع صوته كان مماثلاً لهم، وأتى بالمنكر القبيح قال الحسن: كان المشركون يتفاخرون برفع الأصوات فرد عليهم بأنه لو كان خيراً لفضلتهم به الحمير، وقال قتادة: أقبح الأصوات صوت الحمير، أوله زفير وآخره شهيق.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البلاغة والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين ﴿شْكُرْ.. وكَفَرَ﴾.
٢ - صيغة المبالغة ﴿غَنِيٌّ حَمِيدٌ﴾ وكذلك ﴿لَطِيفٌ خَبِيرٌ﴾ و ﴿فَخُورٍ﴾ لأن فعيل وفعول من صيغ المبالغة ومعناه كثير الحمد وكثير الفخر.
٣ - ذكر الخاص بعد العام ﴿بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ﴾ وذلك لزيادة العناية والاهتمام بالخاص.
٤ - تقديم ما حقه التأخير لإِفادة الحصر مثل ﴿إِلَيَّ المصير﴾ ﴿إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ﴾ أي لا إِلى غيري.
٥ - التمثيل ﴿إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ مثَّل ذلك لسعة علم الله وإِحاطته بجميع الأشياء صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها فإِنه تعالى يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة.
٦ - التتميم ﴿فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ﴾ تَّمم خفاءها في نفسها بخفاء مكانها وهذا من البديع.
٧ - المقابلة ﴿وَأْمُرْ بالمعروف﴾ ثم قال ﴿وانه عَنِ المنكر﴾ فقابل بين اللفظين.
٨ - الاستعارة التمثيلية ﴿إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير﴾ شبَّه الرافعين أصواتهم بالحمير، وأصواتهم بالنهيق، ولم يذكر أداة التشبيه بل أخرجه مخرج الاستعارة للمبالغة في الذم، والتنفير عن رفع الصوت.
453
تنبيه: حين أمر تعالى بشكر الوالدين قدَّم شكره تعالى على شكرهما فقال ﴿أَنِ اشكر لِي﴾ ثم أردفه بقوله ﴿وَلِوَالِدَيْكَ﴾ وذلك لإِشعارنا بأن حق الله أعظم من حق الوالدين، لأنه سبحانه هو السبب الحقيقي في خلق الإِنسان، والوالدان سبب في الصورة والظاهر، ولهذا حرَّم تعالى طاعتهما على الإِنسان إِذا أرادا إِجباره على الكفر.
454
المنَاسَبَة: لما حذَّر تعالى من الشرك، وأكده بوصايا لقمان الحكيم في الإِيمان ومكارم الأخلاق، ذكر هنا الأدلة الساطعة، والبراهين القاطعة على وحدانيته تعالى، ونبّه بالصنعة على الصانع، وما له من نعمٍ لا تُحصى من تسخير السماوات بما فيها من الشمس، والقمر، والنجوم، والسحاب، وتسخير الأرض وما فيها من الحيوان، والنبات، والمعادن، والبحار، وغير ذلك من الأدلة الشاهدة بوحدانيته، وختم السورة الكريمة ببيان «المغيبات الخمس».
454
اللغَة: ﴿أَسْبَغَ﴾ أتم وأكمل يقال: سبغت النعمة سبوغاً إِذا تمت ﴿استمسك﴾ تمسك وتعلق واعتصم ﴿نَفِدَتْ﴾ فنيت وفرغت ﴿يُولِجُ﴾ يدخل والإِيلاج: الإِدخال ومنه ﴿حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط﴾ [الأعراف: ٤٠] ﴿الفلك﴾ السفن ﴿كالظلل﴾ الظلل: جمع ظلَّة وهي كل ما أظلَّلك من جبل أو سحاب ﴿خَتَّارٍ﴾ الختَّار: الغدار، والختر: أسوء الغدر قال الشاعر:
فإِنك لو رأيت أبا عمير ملأت يديك من غدر وختر
﴿الغرور﴾ ما يغرُّ ويخدع من شيطان وغيره، وغرَّه الأمل: خدعه.
التفسِير: ﴿أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ أي ألم تعلموا أيها الناس أن الله العظيم الجليل سخر لكم ما في السماوات من شمس وقمر ونجوم لتنتفعوا بها، وسخَّر لكم ما في الأرض من جبالٍ وأشجار وثمارٍ وأنهار وغير ذلك مما لا تُحصى ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾ أي وأتمَّ عليكم أيها الناس نعمه العديدة، الظاهرة المرئية كنعمة السمع والبصر والصحة والإِسلام، والباطنة الخفية كالقلب والعقل والفهم والمعرفة وما أشبه ذلك قال البيضاوي: أي أسبغ عليكم نعمه المحسوسة والمعقولة، ما تعرفونه وما لا تعرفونه ﴿وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾ أي ومن الناس فريق جاحدون يخاصمون ويجادلون في توحيد الله وصفاته بغير علم ولا فهم، ولاحجة ولا برهان، ولا كتاب منزل من عند الله قال القرطبي: نزلت في يهودي جاء إِلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال يا محمد: أخبرني عن ربك من أيّ شيء هو؟ فجاءت صاعقةٌ فأخذته، والمنيرُ: الواضح البيّن المنقذ من ظلمة الجهل والضلال ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله﴾ أي وإِذا قيل لهؤلاء المجادلين بالباطل اتبعوا ما أنزل الله على رسوله، وصدّقوا به فإِنه يفرق بين الحق والباطل، والهدى والضلال ﴿قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا﴾ أي قالوا نسير على طريقة آبائنا ونقتدي بهم في عبادة الأوثان والأصنام ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير﴾ الاستفهام للإِنكار والتوبيخ أي أيتبعونهم ولو كانوا ضالين، حتى ولو كان الشيطان يدعوهم إلى النار المستعرة ذات العذاب الشديد؟ ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله﴾ أي ومن يقبل على طاعة الله وينقاد لأوامره، ويخلص قصده وعبادته لله ﴿وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ أي وهو مؤمن موحد قال القرطبي: لأن العبادة من غير احسانٍ ولا معرفة القلب لا تنفع، ونظير الآية
﴿وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ [طه: ١١٢] فلا بدَّ من الإِيمان والإِحسان ﴿فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى﴾ أي تمسك بحبلٍ لا انقطاع له، وتعلق بأوثق ما يتعلق به من الأسباب قال صاحب الكشاف: هاذ من باب التمثيل، مثلت حال المتوكل بحال من تدلى من شاهق فاحتاط لنفسه بأن استمسك بأوثق عروة، من حبلٍ متين مأمونٍ انقطاعه وقال الرازي: أوثق العرى جانب الله، لأن كل ما عداه هالك منقطع، وهو باقٍ لا
455
انقطاع له ﴿وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور﴾ أي إِلى الله وحده - لا إِلى أحد سواه - مرجع ومصير الأمور كلها فيجازي العامل عليها أحسن الجزاء ﴿وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ﴾ تسلية للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي لا يهمنك يا محمد كفر من كفر، ولا ضلال من ضلَّ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات، فإِنا سننتقم منهم إِن عاجلاً أو آجلاً ﴿إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا﴾ أي إِلينا رجوعهم، فنخبرهم بأعمالهم التي عملوها في الدنيا ﴿إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾ أي عليم بما في قلوبهم من المكر والكفر والتكذيب فيجازيهم عليها ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً﴾ أي نبقيهم في الدنيا مدة قليلة يتمتعون بها ﴿ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ أي ثم نلجئهم في الآخرة إِلى عذاب شديد هو عذاب النار، الفظيع الشاق على النفس، ثم لما بيَّن تعالى استحقاقهم للعذاب، بيَّن تناقضهم في الدنيا وهو اعترافهم بأن الله خالق السماوات والأرض، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنها ملك له وأنها مخلوقاته فقال ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله﴾ أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين من كفار مكة من خلق السماوات والأرض؟ ليقولن - لغاية وضوح الأمر - الله خلقهن فقد اضطروا إِلى الاعتراف به ﴿قُلِ الحمد لِلَّهِ﴾ أي قل لهم: الحمد لله على ظهور الحجة عليكم، وعلى أن دلائل الإِيمان ظاهرة للعيان ﴿بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ أي بل أك ثر هؤلاء المشركين لا يفكّرون ولا يتدبرون فلذلك لا يعلمون، ثم قال تعالى ﴿لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض﴾ أي له جلَّ وعلا ما في الكائنات ملكاً وخلقاً وتدبيراً ﴿إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد﴾ أي المستغني عن خلقه وعن عبادتهم، المحمود في صنعه وآلائه ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ﴾ أي ولو أنَّ جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً ﴿والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ﴾ أي وجعل البحر بسعته حبراً ومداداً وأمده سبعة أبحر معه فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله ﴿مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله﴾ أي لانتهت وفنيت تلك الأقلام والبحار وما انتهت كلمات الله، لأن الأشجار والبحار متناهية، وكلمات الله غير متناهية قال القرطبي: لما ذكر تعالى أنه سخر لهم ما في السماوات وما في الأرض، وأنه أسبغ النعم، نبّه على أن الأشجار لو كانت أقلاماً، والبحار لو كانت مداداً، فكتب بها عجائب صنع الله، الدالة على قدرته ووحدانيته لم تنفد تلك العجائب وقال ابن الجوزي: وفي الكلام محذوف تقديره: فكتب بهذه الأقلام وهذه البحور كلمات الله، لتكسرت الأقلام ونفدت البحور ولم تنفد كلمات الله أي لم تنقطع ﴿إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أي غالب لا يعجزه شيء، حكيم لا يخرج عن علمه وحكمته أمر ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ﴾ أي ما خلقكم أيها الناس ابتداءً، ولا بعثكم بعد الموت انتهاءً إِلا كخلق نفس واحدة وبعثها، لأنه إِذا أراد شيئاً قال له كن فيكون، قال الصاوي: المعنى أن الله لا يصعب عليه شيء، بل خلق العلم وبعثه برُمته كخلق نفسٍ واحدةٍ وبعثها ﴿إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ أي سميع لأقوال العباد، بصير بأعمالهم، ثم أشار تعالى إلى دلائل قدرته في الآفاق فقال ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل﴾ أي ألم تعلم أيها المخاطب علماً قوياً
456
جارياً مجرى الرؤية، أن الله العظيم الجليل يدخل ظلمة الليل على ضوء النهار، ويدخل ضوء النهار على ظلمة الليل، ويزيد في هذا ويُنقص من هذا حسب الحكمة الأزلية ﴿وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾ أي ذلّلهما بالطلوع والأقوال تقديراً للآجال، وإِتماماً للمنافع، كلٌ منهما يسير في فلكه إِلى غاية محدودة هي يوم القيامة ﴿وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي وأنه تعالى عالم بأحوالكم وأعمالكم لا تخفى عليه خافية، فإِن من شاهد مثل ذلك الصنع الرائق، والتدبير الفائق، لا يكاد يغفل عن كون صانعه جل وعلا محيطاً بكل أعماله ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق﴾ أي ذلك الذي شاهدتموه من عجائب الصنع وباهر القدرة، لتتأكدوا أن الله هو الإِله الحق الذي يجب أن يعبد وحده ﴿وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل﴾ أي وأن كل ما يعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام باطل لا حقيقة له كما قل لبيد «ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل» فالجميع خلقه وعبيده، ولا يملك أحدٌ منهم تحريك ذرةٍ إِلا بإِذنه ﴿وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير﴾ أي وأنه تعالى هو العليُّ في صفاته، الكبير في ذاته ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِي فِي البحر بِنِعْمَةِ الله﴾ تذكيرٌ بنعمة أُخرى أي ألم تر أيها العاقل أن السفن العظيمة تسير في البحر بقدرة الله، وبتسخيره ولطفه بالناس وإِحسانه إِليهم، لتهيئة أسباب الحياة قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه هو الذي سخَّر البحر لتجري فيه الفلك بأمره أي بلطفه وتسخيره، فإِنه لولا ما جعل في الماء من قوةٍ يحمل بها السفن ما جرت، ولهذا قال بعده ﴿لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ﴾ أي ليريكم عجائب صنعه، ودلائل قدرته ووحدانيته ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ أي إِن في تسخير هذه السفن وما تحمله من الطعام والأرزاق والتجارات، لآيات باهرة، وعبراً جليلة لكك عبد منيب، صبَّار في الضراء، شكور في الرخاء.
ولفظه «صبَّار» و «شكور» مبالغة في الصبر والشكر ﴿وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل﴾ أي وإِذا علا المشركين وغطّاهم وهم في البحر موج كثيف كالجبال ﴿دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين﴾ أي أخلصوا دعاءهم لله حين علموا أنه لا منجي لهم غيره فلا يدعون لخلاصهم سواه ﴿فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر﴾ أي فلما أنقذهم من شدائد البحر، واخرجهم إِلى شاطئ النجاة في البر ﴿فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ﴾ في الآية حذف تقديره فمنهم مقتصد، ومنهم جاحد، ودلَّ عليه قوله ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ﴾ والمقتصد: المتوسط في العمل قال ابن كثير: وهذا من باب الإِنكار على من شاهد تلك الأهوال، والأمور العظام، ورأى الآيات الباهرة في البحر، ثم بعدما أنعم الله عليه بالخلاص كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام، والمبادرة إٍلى الخيرات، والدؤوب في العبادات، فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصْراً ﴿وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ أي وما يكذب بآياتنا إِى كل غدَّار، مبالغ في كفران نعم الله تعالى ﴿ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ﴾ أي اتقوا ربكم بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه ﴿واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ﴾ أي وخافوا يوماً رهيباً عصيباً لا ينفع والد فيه ولده، ولا يدفع عنه مضرةً، أو يقضي عنه شيئاَ مما تحمَّله ﴿وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً﴾ أي ولا ولدٌ يغني أو يدفع عن والده شيئاً، أو يقضي عنه شيئاً من جنايته ومظالمه قال الطبري: المعنى لا يغني ولا تنفع عنده الشفاعة والوسائل، إلا وسلية من صالح الأعمال التي أسلفها في الدنيا ﴿إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ﴾ أي
457
وعده بالثواب والعقاب، والبعث والجزاء حقٌ لا يتخلف ﴿فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا﴾ أي لا تخدعكم الحياة الدنيا بمفاتنها ولذاتها فتركنوا إِليها ﴿وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور﴾ أي ولا يخدعنكم الشيطان الماكر الذي يغر الخلق ويمنيهم بأباطيله ويلهيهم عن الآخرة ﴿إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة﴾ هذه هي مفاتح الغيب التي اختص الله بعلمها وهي خمس كما جاء في الحديث الصحيح «مفاتح الغيب خمسٌ لا يعلمهن إِلا الله وتلا الآية» أي عنده تعالى معرفة وقت قيام الساعة التي تقوم فيها القيامة ﴿وَيُنَزِّلُ الغيث﴾ أي وعنده معرفة وقت نزول المطر ومحل نزوله ﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام﴾ أي من ذكرٍ أو أنثى، شقي أو سعيد ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً﴾ أي ما يدري أحد ماذا يحدث له في غد، وماذا يفعل من خير أو شر ﴿وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ﴾ أي ما يدري أحدٌ أين يموت، ولا في أي مكانٍ يُقبر ﴿إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ﴾ أي مبالغ في العلم، يعلم كل الأمور، خبير بظواهر الأشياء وبواطنها.
البَلاَغَة: تضمنت الآيات الكريمة وجوهاً من البيان والبديع نوجزها فيما يلي:
١ - الطباق بين قوله ﴿ظَاهِرَةً.. وَبَاطِنَةً﴾ وكذلك بين لفظ ﴿الحق.. والباطل﴾.
٢ - الإِنكار والتوبيخ مع الحذف ﴿أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ﴾ أي أيتبعونهم ولو كان الشيطان الخ.
٣ - المجاز المرسل ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ﴾ أطلق الجزء وأراد الكل ففيه مجاز مرسل.
٤ - التشبيه التمثيلي ﴿فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى﴾ شبه من تمسك بالإِسلام بمن أراد أن يرقى إِلى شاهق جبل فتمسك بأوثق جبل، وحذف أداة التشبيه للمبالغة.
٥ - المقابلة بين ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى الله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ وبين ﴿وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ﴾ الآية.
٦ - الاستعارة ﴿عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾ استعار الغلظ للشدة لأنه إِنما يكون للاجرام فاستعير للمعنى.
٧ - تقديم ما حقه التأخير لإِفادة الحصر ﴿وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور﴾ أي إليه لا إلى غيره.
٨ - صيغ المبالغة في التالي ﴿صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ و ﴿خَتَّارٍ كَفُورٍ﴾ و ﴿عَلَيمٌ خَبِيرٌ﴾ و ﴿سَمِيعٌ بَصِيرٌ﴾ كما أنَّ فيها توافق الفواصل وهو من المحسنات البديعية ويسمى بالسجع.
458
Icon