تفسير سورة الممتحنة

التيسير في أحاديث التفسير
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب التيسير في أحاديث التفسير .
لمؤلفه المكي الناصري . المتوفي سنة 1415 هـ
ولننتقل الآن إلى سورة " الممتحنة : المدنية، مستعينين بالله معتمدين عليه، وأطلق عليها هذا الاسم، أخذا من قوله تعالى في الآية العاشرة منها :﴿ يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن ﴾.

وأول ما يستقبلنا من هذه السورة الكريمة نداء من الله إلى فريق خاص من المؤمنين، يحذرهم فيه من أن يتخذوا أعداءه أولياء، أو يلقوا بالمودة إلى من كفروا بالحق، وألجئوا الرسول والمؤمنين إلى الخروج من " منزل الوحي الأول " مبينا لهم أن " رابطة العقيدة " هي الرابطة التي يجب أن يرعوها حق رعايتها، وما عداها من الأواصر والروابط العائلية أو المالية يجب إخضاعه لهذا الاعتبار قبل أي اعتبار آخر، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم من الحق يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي تسرّون إليهم بالمودة وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل١ ﴾.
ثم بين كتاب الله لهذا الفريق من المؤمنين الذين كانوا لا يزالون على شيء من السذاجة والبساطة أنهم لو سقطوا في أيدي مشركي قريش لنكلوا بهم شر تنكيل، ولفعلوا بهم أقبح الأفاعيل، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى :﴿ إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء وودوا لو تكفرون٢ ﴾.
وكشف كتاب الله السر في تحذيره لهذا الفريق من المؤمنين، فقد كانوا لا يزالون متأثرين بروابط القرابة والرحم التي تربطهم بأقربائهم من مشركي مكة، وكانوا يحنون إليهم ما بين الحين والحين، فقال تعالى مخاطبا لهم :﴿ لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم يوم القيامة يفصل بينكم والله بما تعملون بصير٣ ﴾.
وضرب الله المثل لهذا الفريق من المؤمنين ببراءة إبراهيم الخليل من قومه ومن آمن معه ورميه برابطة القرابة معهم عرض الحائط، عندما أصبح الأمر يتعلق بعقيدة التوحيد والإيمان بالله فقال تعالى :﴿ قد كانت لكم إسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده إلا قول إبراهيم لأبيه لأستغفرن لك وما أملك لك من الله من شيء... ٤ ﴾، وكان استغفار إبراهيم لأبيه قبل أن يستيقن إصرار أبيه على الشرك، مصداقا لقوله تعالى في سورة التوبة ( ١١٤ ) :﴿ وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه، فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه ﴾.
وختم هذا الربع بما يؤكد نفس الغرض ونفس التوجيه، فقال تعالى :﴿ لقد كان لكم فيهم إسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد٦ ﴾.
في بداية هذا الربع عاد كتاب الله إلى فتح باب الأمل والرجاء في وجه فريق من " المهاجرين " كانوا يعانون بعض القلق النفسي من مقاطعة أهلهم وعشيرتهم الذين لا زالوا على شركهم بمكة، فبعدما أمرهم الله تعالى بعداوة المشركين والبراءة منهم ولو كانوا من ذوي الأرحام ومن أقرب الأقربين إسوة بإبراهيم الخليل عليه السلام الذي تبرأ من أبيه نفسه، أشارت الآية الكريمة إلى أن الأمل في إنقاذهم لم ينقطع، وإلى أن الرجاء لا يزال معقودا على هداية الله لهم إلى الحق، فهو سبحانه قادر على أن يشرح صدورهم للإيمان، فيدخلوا تحت طاعة الإسلام، ويعملوا تحت لوائه، وإذ ذاك يجمع الله شمل الجميع في ظل الإسلام الحنيف، ولا يبقى أي مبرر لعداوتهم، ولا للبراءة منهم، بل تصبح مودتهم واجبة، بمقتضى رابطة العقيدة الإسلامية المشتركة، التي هي أقوى رابطة بين المسلمين، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى في مطلع هذا الربع :﴿ عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم٧ ﴾.
وانتقل كتاب الله إلى تقعيد قاعدة أساسية في معاملة المسلمين لغيرهم من أهل الملل الأخرى، ألا وهي معاداة من اعتدى على المسلمين أو تضامن مع المعتدي عليهم، ومسالمة من لم يعتد على المسلمين ولم يتضامن مع المعتدي عليهم. يعتبر " معتديا على المسلمين " كل من قام باعتداء على ديارهم، بعد ما سالمهم، أو خان عهدهم بعد ما عاهدهم، أو حال بينهم وبين أن ينشروا عقيدتهم، أو منعهم من أن يطبقوا شريعتهم، ويمارسون شعائرهم، وإلى هذه القاعدة الأساسية في الإسلام يشير قوله تعالى :﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين٨ إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون٩ ﴾.
والآن فلنتحدث عن " آية الامتحان " التي بها سميت السورة المدنية الكريمة سورة " الممتحنة ".
لقد تضمن " صلح الحديبية " الذي انعقد بين المسلمين وكفار قريش قبل فتح مكة بسنتين فقرة فيها شيء من الغموض، يقول نصها ما يأتي : " على أنه لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا "، وبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال بأسفل الحديبية عقب عقد الصلح بينه وبين قريش أقبل عليه نساء مسلمات، ممن كن مقيمات بمكة يرغبن في مفارقة أزواجهن المشركين، ويطلبن الهجرة إلى المدينة مع إخوانهن المسلمين، فأنزل الله على نبيه " آية الامتحان " تستثني النساء المسلمات من تلك الفقرة الغامضة التي تضمنها " صلح الحديبية " حتى لا يقع ردهن إلى أيدي المشركين، نظرا لحرمة الإسلام التي يتمتعن بها من جهة، ورقتهن وضعفهن من جهة أخرى، وتبين بذلك أن " شرط الرد إنما كان في الرجال لا في النساء " وأن الشيء الوحيد الذي يرد إلى الأزواج المشركين إنما هو صداق زوجاتهم المسلمات اللائي فارقنهم وأردن الهجرة مع رسول الله إلى " المدينة " وذلك حتى لا يقع عليهم خسران مزدوج : خسران الزوجة وخسران المال، كما طالب كتاب الله المشركين بنفس الشيء إذا جاءتهم امرأة من طرف المسلمين أن يردوا صداقها إلى زوجها المسلم، وذلك قوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ﴾، أي : أن المسلمات من الآن فصاعدا أصبحن حراما على المشركين، كما أن المشركين أصبحوا حراما على المسلمات :﴿ وأتوهم ما أنفقوا ﴾، أي : ادفعوا إلى المشركين الذين كانوا أزواجا للمسلمات المهاجرات ما أنفقوا عليهن من الأصدقة، وينفذ لهم ذلك من " بيت المال "، ﴿ ولا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن أجورهن ﴾، أي لا حرج عليكم في الزواج بأولئك المسلمات المهاجرات، المفارقات لأزواجهن المشركين إذا دفعتم لهن صداقا من عندكم وانقضت عدتهن :﴿ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾، أي : حرام عليكم أيها المسلمون أن تتزوجوا بالمشركات من الآن فصاعدا، كما أن استمرار زواجكم بالمشركات اللاتي سبق تزوجكم بهن أصبح حراما، وهذه دعوة صريحة إلى فراقهن :﴿ وسئلوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ﴾، أي : طالبوا المشركين بما أنفقتم من صداق على زوجاتكم إن ارتدت إحداهن وذهبت إليهم بمحض اختيارها، كما أن للمشركين أن يطالبوكم بما أنفقوا من صداق على زوجاتهم المسلمات اللاتي هاجرن مع المسلمين وهذه المطالبة تقوم على أساس المعاملة بالمثل :﴿ ذلكم حكم الله يحكم بينكم ﴾، أي : هو حكم الله يحكم به في " صلح الحديبية " فلا ردّ للمسلمات بعد الآن إلى أزواجهن المشركين، طبقا لحكم القرآن، قال ابن كثير : " فعلى هذه الرواية تكون الآية مخصصة للسنة، وهذا من أحسن الأمثلة لذلك ".
ونبه القاضي أبو بكر ( ابن العربي ) المعافري إلى أن الوضع الخاص الذي عالجه " صلح الحديبية " للتبادل بين المشركين والمسلمين على الأساس الذي قررته هذه الآية، إنما كان " مخصوصا بذلك الزمان، وفي تلك النازلة خاصة بإجماع الأمة " ﴿ والله عليم حكيم١٠ ﴾.
أما الطريقة التي كان يتم بها امتحان المؤمنات المهاجرات اللاتي يفارقن أزواجهن من المشركين، رغبة في الهجرة مع المسلمين، فهي فيما وصفه قتادة : " أن يستحلفن بالله ما أخرجهن النشوز، وما أخرجهن إلا حب الإسلام وأهله، وحرص عليه "، فإذا قلنَ ذلك قبل منهن، وفيما وصفه عكرمة يقال لها : " ما جاء بك إلا حب الله ورسوله، وما جاء بك عشق رجل منا، ولا فرار من زوجك "، فإذا قالت ذلك قبل منها. وفيما وصفه مجاهد : " أن يسألن عما جاء بهن، فإن كان بهن غضب على أزواجهن، أو سخطة، أو غيرة، ولم يؤمن أرجعن إلى أزواجهن ".
وتحدث كتاب الله عن حالة ما إذا لم يكن بين المسلمين والمشركين أي عهد خاص، وذهبت امرأة من طرف المسلمين إلى المشركين، ورفض المشرك الذي تزوجها أن يرد إلى زوجها المسلم السابق ما كان قد دفعه زوجها المسلم من صداق، فها هنا يقوم المسلمون أنفسهم بتعويض أخيهم المسلم عن المهر الذي كان قد دفعه لها، وذلك إما من الفيء، أو من الغنيمة، أو مما فضل بأيدي المسلمين من مهور أزواج المشركين، وإلى الحكم بتعويض المسلمين لأخيهم المسلم عن مهر زوجته التي ذهبت إلى الكفار يشير قوله تعالى مخاطبا للمؤمنين :﴿ وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار فعاقبتم فآتوا الذين ذهبت أزواجهم ﴾، أي : من المؤمنين، ﴿ مثل ما أنفقوا ﴾، أي : مثل ما أنفقوه على أزواجهم من قبل، قال الزهري في بيان سبب نزول هذه الآية : " إن المؤمنين أقروا بحكم الله، فأدوا ما أمروا به من نفقات المشركين التي أنفقوا على نسائهم، لكن المشركين أبوا أن يقروا بحكم الله فيما فرض عليهم من أداء نفقات المسلمين، فقال الله تعالى للمؤمنين به :﴿ وإن فاتكم شيء من أزواجكم ﴾ الآية، وعقب كتاب الله على هذه الأحكام بما يفيد وجوب تطبيقها والعمل بها في الظروف الخاصة التي شرعت فيها، فقال تعالى :﴿ واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون١١ ﴾ قال ابن عطية : " هذه الآية كلها قد ارتفع حكمها "، وكلمة ﴿ فعاقبتم ﴾ في هذه الآية هي من قولهم : " عاقب الرجل صاحبه في كذا " أي : جاء فعل كل واحد منهما يعقب فعل الآخر.
وبمناسبة الحديث عن حرص المسلمات على مفارقة دار الشرك والالتحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم في " دار الهجرة " وما نص عليه كتاب الله من امتحانهن لمعرفة الأسباب الحقيقية التي دفعتهن إلى القيام بالهجرة جاء كتاب الله بآية " المبايعة " التي تحدد شروطها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن بهذه الآية من هاجر إليه من المؤمنات، قالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري : " فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قد بايعتك كلاما، ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط، ما يبايعهن إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك "، وهذا لفظ البخاري في الصحيح. وإلى هذه المبايعة وشروطها يشير قوله تعالى :﴿ يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم١٢ ﴾.
فقوله تعالى :﴿ يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ﴾، يعني من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها على أن لا يشركن بالله شيئا الآية.
وقوله تعالى :﴿ ولا يسرقن ﴾، أي : لا يسرقن أموال الغير، وللزوجة إذا كان زوجها مقصرا في نفقتها أن تأكل من ماله بالمعروف، في حدود ما جرت به العادة بالنسبة لأمثالها، وإن كان ذلك من غير علمه، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة التي اشتكت إليه شح زوجها وتقصيره في نفقتها : " خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك "، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما.
وقوله تعالى :﴿ ولا يقتلن أولادهن ﴾، أي : لا يقتلن الأولاد بعد ولادتهم كما كان يفعل بعض أهل " الجاهلية " وكذلك الأمر بالنسبة للجنين، فلا يسوغ لهن التسبب في قتله بالإجهاض ونحوه.
وقوله تعالى :﴿ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ﴾، أي : لا يلحقن بأزواجهن، ولا ينسبن إليهم أولادا غير أولادهم. روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أيّما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله الجنة، وأيّما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين ".
وقوله تعالى في ختام شروط البيعة :﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾، أي : لا يعصينك فيما أمرتهن به من معروف ونهيتهن عنه من منكر. قال ميمون بن مهران : " لم يجعل الله طاعته لنبيه إلا بالمعروف، والمعروف طاعة ".
ومن المناسب أن نقف وقفة خاصة عند هذا الشرط الذي يعتبر أحد قواعد الدستور الإسلامي الخالد، فهو يستلزم بالأصالة طاعة الرعية لإمامها، ويستلزم بالتّبع استجابة الإمام لرغبة رعيته فيما يأتمران به معا، من معروف يتفق مع أحكام الشريعة وأصول الملة وشعائر الدين، فالإمام المسلم والأمة الإسلامية إنما ينظمان علاقاتهما بمقتضى شريعة الله، إذ لا حكم عليهما لسواه، ومصدر السلطات بالنسبة للمسلمين هو شرع الله الذي جاء به الرسول، وإمام المسلمين نائب عنهم في حراسته والحفاظ عليه، فإذا عرض لهم أمر لا نص عليه فيما جاء به الرسول استنبطوا له حكما شرعيا يوافق ما جاء به.
وفي مثل هذا السياق يستدل كثير من الناس بقوله تعالى في سورة " الحشر " من الربع الثاني في هذا الحزب :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾، فيحملون هذه الآية على معنى أنه مهما أمركم الرسول بأمر فافعلوه، ومهما نهاكم عن أمر فاجتنبوه، كما فسرها ابن كثير، اعتمادا على تأويل عبد الله بن مسعود، بينما هذه الآية وردت بالأصالة في موضوع توزيع " الفيء " الذي أفاءه الله على المسلمين بعد جلاء بني النضير، وما حصل من التأثر عند بعض الأنصار، بعدما وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفيء على فقراء المهاجرين، فعاتب الله من تأثر منهم من ذلك التوزيع، وأمرهم بقبول أي نصيب يعطيه لهم الرسول من الفيء إن أعطاهم، وهذا هو معنى قوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه ﴾، أي : خذوا ما أعطاكم، كما أمرهم بعدم مطالبته بالفيء إن لم يعطهم شيئا، وهذا هو معنى :﴿ وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾، إذ " الإمام " مفوض في توزيع الفيء تمام التفويض، وذلك قطعا لكل نزاع في هذا الشأن، وإلى مثل هذا المعنى ومثل هذا الموقف أشار قوله تعالى في سورة " التوبة " ( ٥٨ ) :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٢:وبمناسبة الحديث عن حرص المسلمات على مفارقة دار الشرك والالتحاق برسول الله صلى الله عليه وسلم في " دار الهجرة " وما نص عليه كتاب الله من امتحانهن لمعرفة الأسباب الحقيقية التي دفعتهن إلى القيام بالهجرة جاء كتاب الله بآية " المبايعة " التي تحدد شروطها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمتحن بهذه الآية من هاجر إليه من المؤمنات، قالت عائشة رضي الله عنها فيما رواه البخاري :" فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم :" قد بايعتك كلاما، ولا والله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط، ما يبايعهن إلا بقوله : قد بايعتك على ذلك "، وهذا لفظ البخاري في الصحيح. وإلى هذه المبايعة وشروطها يشير قوله تعالى :﴿ يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم١٢ ﴾.
فقوله تعالى :﴿ يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك ﴾، يعني من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها على أن لا يشركن بالله شيئا الآية.
وقوله تعالى :﴿ ولا يسرقن ﴾، أي : لا يسرقن أموال الغير، وللزوجة إذا كان زوجها مقصرا في نفقتها أن تأكل من ماله بالمعروف، في حدود ما جرت به العادة بالنسبة لأمثالها، وإن كان ذلك من غير علمه، عملا بقوله صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة التي اشتكت إليه شح زوجها وتقصيره في نفقتها :" خذي من ماله بالمعروف ما يكفيك ويكفي بنيك "، أخرجه البخاري ومسلم في صحيحهما.
وقوله تعالى :﴿ ولا يقتلن أولادهن ﴾، أي : لا يقتلن الأولاد بعد ولادتهم كما كان يفعل بعض أهل " الجاهلية " وكذلك الأمر بالنسبة للجنين، فلا يسوغ لهن التسبب في قتله بالإجهاض ونحوه.
وقوله تعالى :﴿ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ﴾، أي : لا يلحقن بأزواجهن، ولا ينسبن إليهم أولادا غير أولادهم. روى أبو داود في سننه عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" أيّما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء، ولن يدخلها الله الجنة، وأيّما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه، وفضحه على رءوس الأولين والآخرين ".
وقوله تعالى في ختام شروط البيعة :﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾، أي : لا يعصينك فيما أمرتهن به من معروف ونهيتهن عنه من منكر. قال ميمون بن مهران :" لم يجعل الله طاعته لنبيه إلا بالمعروف، والمعروف طاعة ".
ومن المناسب أن نقف وقفة خاصة عند هذا الشرط الذي يعتبر أحد قواعد الدستور الإسلامي الخالد، فهو يستلزم بالأصالة طاعة الرعية لإمامها، ويستلزم بالتّبع استجابة الإمام لرغبة رعيته فيما يأتمران به معا، من معروف يتفق مع أحكام الشريعة وأصول الملة وشعائر الدين، فالإمام المسلم والأمة الإسلامية إنما ينظمان علاقاتهما بمقتضى شريعة الله، إذ لا حكم عليهما لسواه، ومصدر السلطات بالنسبة للمسلمين هو شرع الله الذي جاء به الرسول، وإمام المسلمين نائب عنهم في حراسته والحفاظ عليه، فإذا عرض لهم أمر لا نص عليه فيما جاء به الرسول استنبطوا له حكما شرعيا يوافق ما جاء به.
وفي مثل هذا السياق يستدل كثير من الناس بقوله تعالى في سورة " الحشر " من الربع الثاني في هذا الحزب :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾، فيحملون هذه الآية على معنى أنه مهما أمركم الرسول بأمر فافعلوه، ومهما نهاكم عن أمر فاجتنبوه، كما فسرها ابن كثير، اعتمادا على تأويل عبد الله بن مسعود، بينما هذه الآية وردت بالأصالة في موضوع توزيع " الفيء " الذي أفاءه الله على المسلمين بعد جلاء بني النضير، وما حصل من التأثر عند بعض الأنصار، بعدما وزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الفيء على فقراء المهاجرين، فعاتب الله من تأثر منهم من ذلك التوزيع، وأمرهم بقبول أي نصيب يعطيه لهم الرسول من الفيء إن أعطاهم، وهذا هو معنى قوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه ﴾، أي : خذوا ما أعطاكم، كما أمرهم بعدم مطالبته بالفيء إن لم يعطهم شيئا، وهذا هو معنى :﴿ وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾، إذ " الإمام " مفوض في توزيع الفيء تمام التفويض، وذلك قطعا لكل نزاع في هذا الشأن، وإلى مثل هذا المعنى ومثل هذا الموقف أشار قوله تعالى في سورة " التوبة " ( ٥٨ ) :﴿ ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ولو أنهم رضوا ما آتاهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون ﴾.

Icon