تفسير سورة الجمعة

تفسير أبي السعود
تفسير سورة سورة الجمعة من كتاب إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم المعروف بـتفسير أبي السعود .
لمؤلفه أبو السعود . المتوفي سنة 982 هـ
سورة الجمعة مدنية، وآيها إحدى عشرة.

﴿يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِي الأرض﴾ تسبيحاً مُستمِرَّاً ﴿الملك القدوس العزيز الحكيم﴾ وَقَدْ قُرِىءَ الصفاتُ الأربعُ بالرَّفعِ عَلَى المدحِ
﴿هُوَ الذى بَعَثَ فِى الأميين﴾ أيْ في العربِ لأنَّ أكثرَهُمْ لا يكتبونَ ولا يقرءون قيلَ بدئتْ الكتابةُ بالطَّائفِ أخذُوها منْ أهلِ الحيرةِ وهُمْ من أهلِ الأنبارِ ﴿رَسُولاً مّنْهُمْ﴾ أيْ كائناً منْ جُملتِهِم أمياً مثلَهُم ﴿يتلو عليهم آياته﴾ مَعَ كونِهِ أمياً مثلَهُم لَم يُعهدْ منْهُ قراءةٌ ولا تعلمٌ ﴿وَيُزَكّيهِمْ﴾ صفةٌ أُخرى لرسولاً معطوفةٌ عَلَى يتلو أيْ يحملُهُم عَلى ما يصيرُونَ به أزكياءَ مِن خبائثِ العقائدِ والأعمالِ ﴿وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة﴾ صفةٌ أُخْرَى لرسولاً مترتبةٌ في الوجودِ عَلَى التِّلاوةِ وإنَّما وَسَّطَ بينَهُما التزكيةَ التي هيَ عبارةٌ عنْ تكميلِ النفسِ بحسبِ قوتِهَا العمليةِ وتهذيبِهَا المتفرغ وعلى تكميلِهَا بحسبِ القوةِ النظريةِ الحاصلِ بالتعليمِ المترتبِ على التلاوةِ للإيذانِ بأنَّ كلاً منَ الأمورِ المترتبةِ نعمةٌ جليلةٌ على حيالِهَا مستوجبةٌ للشكرِ فَلَو رُوعيَ ترتيبُ الوجودِ لتبادَر إلى الفهمِ كونُ الكلِّ نعمةً واحدةً كما مر في سورة البقرةِ وهُوَ السرُّ في التعبيرِ عن القرآنِ تارةً بالآياتِ وَأُخْرَى بالكتابِ والحِكمة رمزاً إلى أنَّه باعتبارِ كلِّ عنوانٍ نعمةٌ عَلى حِدةٍ ولا يقدحُ فيهِ شمولُ الحكمةِ لِمَا في تضاعيفِ الأحاديثِ النبويةِ منَ الأحكامِ والشرائعِ ﴿وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ لَفِى ضلال مُّبِينٍ﴾ منَ الشركِ وخبث الجاهليةِ وهو بيانٌ لشدةِ افتقارِهِم إلى مَنْ يرشدهُم وإزاحةٌ لمَا عَسَى يُتوهَّم منْ تعلُّمِهِ عليهِ الصلاةُ والسلامُ منَ الغيرِ وإنْ هي المخففة واللام في الفارقة
﴿وآخرين مِنْهُمْ﴾ عطفٌ على الأميينَ أوْ عَلى المنصوبِ في يعلِّمُهُم ويعلِّمُ آخرينَ منهُم أيْ من الأميينَ وهُم الذينَ جَاءُوا بعدَ الصحابةِ إلى يومِ الدِّينِ فإنَّ دعوتِه عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتعليمه يعمم الجميعَ ﴿لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ﴾ صفةٌ لآخرينَ أيْ لمْ يلحقُوا بهمْ بعدُ وسيلحقونَ ﴿وَهُوَ العزيز الحكيم﴾ المبالغُ في العزةِ والحكمةِ ولذلكَ مكَّنَ رجلاً أمياً منْ ذلكَ الأمرِ
247
٧ ٤
العظيمِ واصطفاهُ منْ بينِ كافةِ البشرِ
248
﴿ذلك﴾ الذي امتازَ بهِ منْ بينِ سائرِ الأفرادِ ﴿فَضَّلَ الله﴾ وأحسانُهُ ﴿يُؤْتِيهِ من يشاء﴾ تفضيلا وعطيةً ﴿والله ذُو الفضل العظيم﴾ الذي يُستحقَرُ دُونَهُ نعيمُ الدُّنيا ونعيمُ الآخرةِ
﴿مَثَلُ الذين حُمّلُواْ التوراة﴾ أي عُلِّمُوهَا وكُلِّفُوا العملَ بهَا ﴿ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا﴾ أيْ لَمْ يعملُوا بِمَا في تضاعِيفِها منَ الآياتِ التي منْ جُملتِها الآياتُ الناطقةُ بنبوةِ رسولِ الله ﷺ ﴿كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾ أيْ كتباً منَ العلمِ يتعبُ بحملِهَا ولا ينتفعُ بهَا ويحملُ إمَّا حالٌ والعاملُ فيهَا مَعْنَى المَثلِ أو صفةٌ للحمارِ إذْ ليسَ المرادُ بهِ معيناً فهُو في حكمِ النكرةِ كما في قول من قالَ... وَلَقَدْ أمرُّ عَلى اللئيمِ يَسُبُّنِي...
﴿بِئْسَ مَثَلُ القومِ الذينَ كَذَّبُواْ بآياتِ الله﴾ أيْ بئسَ مثلاً مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بآياتِ الله عَلى أنَّ التمييزَ محذوفٌ والفاعلَ المُفسَّرَ بهِ مستترٌ ومثلُ القومِ هُو المخصوصُ بالذمِّ والموصولُ صفةٌ للقومِ أو بئسَ مثلُ القومِ مثلُ الذينَ كذَّبوا إلخ على أنَّ مثلُ القومِ فاعلُ بئسَ والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ وهم اليهودُ الذينَ كذَّبُوا بمَا في التوارة من الآياتِ الشاهدةِ بصحةِ نبوة محمدٍ صلَّى الله عليهِ وسلم ﴿والله لاَ يَهْدِى القوم الظالمين﴾ الواضعينَ للتكذيبِ في موضعِ التصديقِ أو الظالمينَ لأنفسِهم بتعريضِها للعذابِ الخالدِ
﴿قُل يا أيُّها الذينَ هَادُواْ﴾ أَيْ تهودُوا ﴿إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ الناس﴾ كانُوا يقولونَ نحنُ أبناءُ الله وأحباؤُه ويَدَّعُونَ أنَّ الدارَ الآخرةَ لهُمْ عندَ الله خالصةً ويقولونَ لنْ يدخلَ الجنةَ إلاَّ منْ كانَ هُوداً فأُمِرَ رسولُ الله ﷺ بأنْ يقولَ لهُم إظهاراً لكذبِهِمْ إنْ زعمتُم ذلكَ ﴿فَتَمَنَّوُاْ الموت﴾ أيْ فتمنَّوا منَ الله أنْ يميتَكُم وينقُلَكُم منْ دارِ البليةِ إلى دارِ الكرامةِ ﴿إِن كُنتُمْ صادقين﴾ جوابُه محذوفٌ لدِلالة ما قبله عليه إِن كُنتُمْ صادقين في زَعْمِكُم واثقينَ بأنَّه حقٌّ فَتَمَنَّوُاْ الموتَ فإنَّ مَنْ أيقنَ بأنَّهُ مِنْ أهلِ الجنةِ أحبَّ أنْ يتخلصَ إلَيها منْ هذهِ الدارِ التي هيَ قرارةُ الأكدارِ
﴿وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً﴾ إخبارٌ بما سيكون منهم والبناء في قولِهِ تعالى ﴿بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ﴾ متعلقةٌ بما يدلُّ عليهِ النفيُ أيْ يأبونَ التمنِّي بسببِ ما عمِلوا من الكفرَ والمعاصيَ الموجبةَ لدخولِ النارِ ولما كانتِ اليدُ من بينِ جوارحِ الإنسانِ مناطَ عامَّةِ أفاعيله عبَّرَ بها تارةً عن النفسِ وأُخرى عنِ القدرةِ ﴿والله عَلِيمٌ بالظالمين﴾ أيْ بهِم وإيثارُ الإظهارِ على الإظهار
248
} ٠ ٨
لذمِّهم والتسجيلِ عليهِم بأنَّهم ظالمونَ في كلِّ ما يأتُون وما يذرونَ من الأمور التي من جملتها ادعاءُ ما هُمْ عنْهُ بمعزلٍ والجملةُ تذييلٌ لما قبلَها مقررةٌ لمضمونِهِ أيْ عليمٌ بهِم وبِمَا صدَرَ عَنْهُم من فنونِ الظلمِ والمعَاصِي المفضيةِ إلى أفانينِ العذابِ وبِمَا سيكونُ منهُم منَ الاحترازِ عَمَّا يؤدِّي إلى ذلكَ فوقعَ الأمرُ كما ذكرَ فلم يتمنَّ منهُم موتَهُ أحدٌ كَما يعرب عنه قوله تعالى
249
﴿قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ﴾ فإنَّ ذلكَ إنَّما يقالُ لهُم بعدَ ظهورِ فرارِهِم منَ التمنِّي وقد قال عليه الصلاة والسلام لو تمنوا لما توا منْ ساعتِهِم وهذهِ إحدَى المعجزاتِ أيْ إنَّ الموتَ الذي تفرونَ منهُ ولا تجسَرونَ عَلى أنْ تتمنَّوهُ مخافةَ أنْ تُؤخذُوا بوبالِ كفرِكُم ﴿فَإِنَّهُ ملاقيكم﴾ اُلبتةَ من غير صارفٍ يلويه ولا عاطف يثنيه والفاء لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبارِ الوصفِ وقُرِىءَ بدونِهَا وقُرِىءَ تفرونَ منْهُ مُلاقِيكُم ﴿ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عالم الغيب والشهادة﴾ الذي لا تَخفى عليهِ خافيةٌ ﴿فَيُنَبّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ منَ الكُفر والمعاصِي بأنْ يجازيَكُم بها
﴿يَا أَيُّهَا الذينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِىَ للصلاة﴾ أيْ فُعِلَ النداءُ لهَا أيْ أُذِّنَ لَهَا ﴿مِن يَوْمِ الجمعة﴾ بيانٌ لإذَا وتفسيرٌ لهَا وقيلَ من بمَعْنَى في كَما في قولِه تعالَى أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أيْ في الأرضِ وإنَّما سمِّي جمعةً لاجتماع الناس منه للصلاةِ وقيلَ أولُ مَنْ سمَّاها جمعةً كعبُ بنُ لُؤَي وكانتِ العربُ تسميهِ العَرُوبَةَ وقيلَ إنَّ الأنصارَ قالو قبلَ الهجرةِ لليهودِ يومٌ يجتمعونَ فيهِ بكُلِّ سبعةِ أيامٍ وللنَّصارَى مثلُ ذلكَ فهلمُّوا نجعلْ لَنَا يوماً نجتمعُ فيهِ فنذكرُ الله فيهِ ونُصلِّي فقالُوا يومُ السبتِ لليهودِ ويومُ الأحدِ للنَّصارَى فاجعلُوه يومَ العَروبَةِ فاجتمعُوا إلى سعدِ بنِ زُرارةَ فصلَّى بهمْ ركعتَينِ وذكر هم فسمَّوه يومَ الجمعةِ لاجتماعِهِم فيهِ فأنزلَ الله آيةَ الجمعةِ فهيَ أولُ جمعةِ كانتْ في الإسلامِ وأما أولُ جمعةً جَمَّعها رسولُ الله ﷺ فهُو أنَّه لما قدمَ مُهَاجِراً نزلَ قُبَاءَ على بني عمرو بنِ عَوْف وأقامَ بها يومُ الإثنينِ والثلاثاءِ والأربعاءِ والخميسِ وأسَّس مسجدَهُم ثم خرجَ يومَ الجمعةِ عامداً المدينةَ فأدركتْهُ صلاةُ الجمعةِ في بني سالمِ بنِ عوفٍ في بطن وادلهم فحطب وصلَّى الجمعةَ ﴿فاسعوا إلى ذِكْرِ الله﴾ أيْ امشُوا واقْصِدُوا إلى الخطبةِ والصلاةِ ﴿وَذَرُواْ البيع﴾ واتركُوا المعاملةَ ﴿ذلكم﴾ أي السعيُ إلى ذكرِ الله وتركُ البيعِ ﴿خَيْرٌ لَّكُمْ﴾ منْ مباشرتِهِ فإنَّ نفعَ الآخرةِ أجلُّ وأبقَى ﴿إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ أي الخبر والشر الحقيقيين أوْ إِنْ كنتم أهلَ العلمِ
﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة﴾
249
} ﴿
أي أُدِّيتْ وفُرغَ منهَا {فانتشروا فِى الأرض﴾
لإقامةِ مصالِحِكم ﴿وابتغوا مِن فَضْلِ الله﴾ أي الربحَ فالأمرُ للإطلاقِ بعدَ الحظرِ وعنِ ابنِ عباس رضي الله عنهما لَمْ يؤمُروا بطلبِ شيءٍ من الدُّنيا إنَّما هو عيادةُ المرضَى وحضورُ الجنائزِ وزيارةُ أخٍ في الله وعنِ الحسنِ وسعيدِ بنِ المسيِّبِ طلبُ العلمِ وقيلَ صلاةُ التطوعِ ﴿واذكروا الله كَثِيراً﴾ ذِكراً كَثيراً أو زماناً كثيراً ولا تخصوا ذكرَهُ تعالَى بالصلاةِ ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ كي تفوزُوا بخيرِ الدارينِ
250
﴿وَإِذَا رَأَوْاْ تجارة أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا﴾ رُوي أنَّ أهلَ المدينةِ أصابَهُم جوعٌ وغلاءٌ شديدٌ فقدمَ دِحْيةُ بنُ خَلِيفةَ بتجارةٍ منْ زَيْتِ الشامِ والنَّبيُّ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يخطبُ يومَ الجمعةِ فقامُوا إليهِ خشيةَ أنْ يُسْبقُوا إليهِ فما بقيَ معَهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إلا ثمانيةٌ وقيلَ أحدَ عشرَ وقيلَ اثنا عشرَ وقيلَ أربعونُ فقال عليه الصلاة والسلام والَّذي نفسُ محمدٍ بيدِهِ لَوْ خرجُوا جميعاً لأضرمَ الله عليهِم الواديَ ناراً وكانُوا إذَا أقبلتْ العيرُ استقبلُوها بالطبلِ والتصفيقِ وهُو المرادُ باللهوِ وتخصيصُ التجارةِ برجع الضمير لأنه المقصودة أو لأن الإنقضاض للتجارةِ معَ الحاجةِ إليهَا والانتفاعِ بهَا إذا كانَ مذموماً فمَا ظنُّكَ بالانفضاضِ الى اللهو وهو المذمون في نفسهِ وقيلَ تقديرُهُ إذَا رأَوا تجارةً انفضُّوا إليها أو لهوا انفضُّوا إليهِ فحذفَ الثانيَ لدلالةِ الأولِ عليهِ وقُرىءَ إليهِمَا ﴿وَتَرَكُوكَ قَائِماً﴾ أيْ عَلى المنبرِ ﴿قُلْ مَا عِندَ الله﴾ منَ الثوابِ ﴿خَيْرٌ مّنَ اللهو وَمِنَ التجارة﴾ فإنَّ ذلكَ نفعٌ محققٌ مخلَّدٌ بخلافِ ما فيهِمَا منَ النَّفعِ المتوهَّمِ ﴿والله خير الرازقين﴾ فإليهِ اسعَوا ومنْهُ اطلبُوا الرزق عنِ النبيِّ صلَّى الله عليهِ وسلَّم مَنْ قرأَ سُورةَ الجُمعةِ أُعطِيَ منَ الأجرِ عشرَ حسناتٍ بعددِ مَنْ أتَى الجمعةَ ومَنْ لَم يأتِهَا في أمصارِ المسلمين
250
} المنافقون ﴿
{بسم الله الرحمن الرحيم﴾
251
Icon