ﰡ
٢٣٧٩ - سَلي إنْ جَهِلْتِ الناسَ عنَّا وعنهمُ | فليس سواءً عالمٌ وجَهولُ |
وقرأ ابنُ محيصن: «عَلَّنْفَال». والأصل: أنه نقل حركةَ الهمزة إلى لام
والأنفال: جمع نَفَل وهي الزيادة على الشيء الواجب وسُمِّيَتْ/ الغنيمة نَفَلاً لزيادتِها على حِماية الحَوزة. قال لبيد:
٢٣٨٠ - إنَّ تقوى ربِّنا خيرُ نَفَلْ | وبإذنِ الله رَيْثي وعَجَلْ |
٢٣٨١ - إنَّا إذا احْمَرَّ الوغَى نَرْوي القَنا | ونَعِفُّ عند مَقاسِمِ الأنفالِ |
قوله: ﴿ذَاتَ بِيْنِكُمْ﴾ : قد تقدَّمَ الكلامُ على «ذات» في آل عمران. وهي هنا صفةٌ لمفعولٍ محذوف تقديره: وأَصْلِحوا أحوالاً ذاتَ افتراقِكم وذاتَ وَصْلِكم، أو ذاتَ المكانِ المتصلِ بكم، فإنَّ «بين» قد قيل إنه يُراد به هنا الفراقُ أو الوصل أو الظرف. وقال الزجاج وغيره: «إنَّ» ذات «هنا بمنزلة
وقال الشيخ: «والبَيْنُ: الفِراق، و» ذات «نعت لمفعول محذوف أي: وأَصْلِحوا أحوالاً ذات افتراقكم، لمَّا كانت الأحوالُ ملابِسةً للبَيْن أُضِيْفَتْ صفتُها إليه، كما تقول: اسْقِني ذا إنائك أي: ماءً صاحبَ إنائك، لَمَّا لابس الماءُ الإِناءَ وُصِفَ ب» ذا «وأُضيف على الإِناء. والمعنى: اسقِني ما في الإِناء من الماء».
وقوله: ﴿إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ قال ابن عطية: «وجوابُ الشرط المتقدم في قوله:» وأطيعوا «، هذا مذهب سيبويه، ومذهب المبرد أن الجواب محذوف متأخر، ومذهبه في هذا ألاَّ يتقدَّمَ الجوابُ على الشرط». قلت: وهذا الذي ذكره أبو [محمد] نقل الناسُ خلافَه، نقلوا ذلك أعني جوازَ تقديمِ جوابِ الشرط عليه عن الكوفيين وأبي زيد وأبي العباس، فالله أعلم أيُّهما أثبت. ويجوز أن يكون للمبرد قولان وكذا لسيبويه، فنقل كلُّ فريق عن كلٍ منهما أحد القولين.
قوله: ﴿عِندَ رَبِّهِمْ﴾ يجوز أن يكونَ متعلقاً ب» درجات «لأنها بمعنى» أُجُورٌ «، وأن يتعلَّقَ بمحذوفٍ لأنها صفةٌ ل» درجات «أي: استقرَّت عند ربهم، وأن يتعلَّق بما تعلَّق به» لهم «من الاستقرار.
السادس: تقديره: استقرَّ لهم درجاتٌ وكذا استقراراً ثابتاً كاستقرار إخراجك. السابع: أنه متعلقٌ بما بعده تقديره: يجادلونك مجادلةً كما أخرجك ربك. الثامن: تقديرُه: لكارهون كراهيةً ثابتة كما أخرجك ربك أي: إن هذين الشيئين: الجدالَ والكراهيةَ ثابتان لا محالة، كما أن إخراجك ثابت
العاشر: أن الكاف بمعنى واو القسم و «ما» بمعنى الذي، واقعةٌ على ذي العلم مُقْسَماً به، وقد وقعت على ذي العلم في قوله: ﴿والسمآء وَمَا بَنَاهَا﴾ [الشمس: ٥] ﴿وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى﴾ [الليل: ٣] والتقدير: والذي أخرجك، ويكون قوله «يجادلونك» جوابَ القسم. وهذا قول أبي عبيدة. وقد ردَّ الناس عليه قاطبةً. وقالوا: كان ضعيفاً في النحو، ومتى ثبت كونُ الكافِ حرفَ قسمٍ بمعنى الواو؟ وأيضاً فإن «يجادلونك» لا يَصِحُّ كونُه جواباً؛ لأنه على مذهب البصريين متى كان مضارعاً مثبتاً وَجَب فيه شيئان: اللام وإحدى النونين، نحو ﴿لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً﴾ [يوسف: ٣٢]، وعند الكوفيين: إمَّا اللامُ وإمَّا إحدى النونين، و «يجادلونك» عارٍ عنهما.
الحادي عشر: أن الكاف بمعنى على، و «ما» بمعنى الذي والتقدير: امْضِ على الذي أخرجَك. وهو ضعيفٌ لأنه لم يثبتْ كونُ الكاف بمعنى «على» البتةَ إلا في موضعٍ يحتمل النزاع كقوله: ﴿واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٨] أي على هدايته إياكم. الثاني عشر: أن الكافَ في محل رفع، والتقدير: كما أخرجك ربك فاتقوا الله، كأنه ابتداءٌ وخبر. قال ابن عطية: «وهذا المعنى وَضَعه هذا المفسِّر، وليس من ألفاظ الآية في وِرْدٍ ولا صَدَر».
الرابع عشر: أنها في موضع رفعٍ أيضاً. والتقدير: وأصلِحوا ذاتَ بينكم ذلكم خيرٌ لكم كما أخرجك، فالكاف في الحقيقة نعتٌ لخبر مبتدأ محذوف. وهو ضعيف لطول الفصل بين قوله: «وأَصْلِحوا» وبين قوله «كما أَخْرَجَك».
الخامس عشر: أنها في محل رفع أيضاً على خبر ابتداء مضمر والمعنى: أنه شبَّه كراهية أصحاب رسول الله عليه السلام لخروجه من المدينة حين تحققوا خروجَ قريشٍ للدفع عن أبي سفيان وحِفْظِ عِيره بكراهيتهم لنزع الغنائم مِنْ أيديهم وجَعْلِها لله ورسوله يَحْكم فيها ما يشاء. واختار الزمخشري هذا الوجهَ وحَسَّنه، فقال: «يرتفع محلُّ الكاف على أنه خبر ابتداء محذوف تقديره: هذه الحالُ كحالِ إخراجك. يعني أن حالَهم في كراهة ما رأيت من تَنْفيل الغزاة مثلُ حالهم في كراهة خروجهم للحرب» وهذا الذي حَسَّنه الزمخشري هو قول الفراء وقد شرحه ابن عطية بنحو ما تقدَّم مِن الألفاظ فإن الفراء قال: «هذه الكاف شَبَّهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال».
السادس عشر: أنها صفةٌ لخبر مبتدأ أيضاً/ وقد حُذف ذلك المبتدأ وخبره. والتقدير: قِسْمتك الغنائمَ حقٌّ كما كان إخراجُك حقاً. السابع عشر: أنَّ التشبيه وقع بين إخراجين أي: إخراج ربك إياك من بيتك وهو مكة وأنت
الثامن عشر: أن تتعلق الكاف بقوله «فاضربوا». وبَسْطُ هذا على ما قاله صاحب هذا الوجه: الكاف للتشبيه على سبيل المجاز، كقول القائل لعبده: «كما رَجَعْتك إلى أعدائي فاستضعفوك وسألتَ مدداً فَأَمْدَدْتُك وأَزَحْتُ عِلَلك فَخُذْهم الآن وعاقِبْهم كما أَحْسَنْتُ إليك وأَجْرَيْتُ عليك الرزق فاعملْ كذا واشكرْني عليه، فتقدير الآية: كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وغَشَّاكم النعاسَ أمَنَةً منه، وأنزل عليكم من السماء ماءً ليطَهِّرَكم به، وأنزل عليكم من السماء ملائكة مُرْدفين فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كلَّ بنان، كأنه يقول: قد أَزَحْتُ عِلَلكم وأَمْدَدْتكم بالملائكة فاضربوا منهم هذه المواضع وهو القتلُ لتبلغوا مرادَ الله في إحقاق الحق وإبطال الباطل. وهذا الوجه بَعْدَ طولِه لا طائل تحته لبُعْده من المعنى وكثرة الفواصل.
التاسع عشر: أن التقدير: كا أخرجك ربك مِنْ بيتك بالحق أي: بسبب إظهار دين الله وإعْزازِ شريعته وقد كرهوا خروجك تهيُّباً للقتال وخوفاً من الموت؛ إذ كانَ أُمِرَ عليه السلام بخروجهم بغتةً ولم يكونوا مستعدِّين للخروج وجادلوك في الحق بعد وضوحه نَصَرَكَ الله وأَمَدَّك بملائكته، ودلَّ على هذا المحذوفِ الكلامُ الذي بعده وهو قوله:
﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ﴾ [الأنفال: ٩] الآيات. وهذا الوجهُ استحسنه الشيخ، وزعم أنه لم يُسْبق به، ثم قال: «ويظهر أن الكافَ
٢٣٨٢ - لا تَشْتُمِ الناس كما لا تُشْتَمُ... أي: لانتفاء شتم الناس لك لا تشتمهم. ومن الكلام الشائع:» كما تطيع الله يدخلك الجنة «أي: لأجل طاعتك الله يدخلك، فكذا الآية، والمعنى: لأَنْ خرجت لإِعزاز دين الله وقَتْل أعدائه نَصَرك وأَمَدَّك بالملائكة».
العشرون: تقديرُه: وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما إخراجُك في الطاعة خيرٌ لكم، كما كان إخراجُك خيراً لهم. وهذه الأقوال مع كثرتها غالبُها ضعيف، وقد بَيَّنْت ذلك. قوله: ﴿بالحق﴾ فيه وجهان، أحدهما: أن يتعلق بالفعل أي بسبب الحق أي: إنه إخراجٌ بسبب حقٍ يظهر وهو علوُّ كلمة الإِسلام والنصرُ على أعداء الله. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «أَخْرَجَكَ» أي: ملتبساً بالحق.
قوله: ﴿وَإِنَّ فَرِيقاً﴾ الواو للحال، والجملة في محل نصب، ولذلك كُسِرت «إنَّ». ومفعول «كارهون» محذوف أي: لكارهون الخروج، وسببُ الكراهة: إمَّا نفرة الطبع ممَّا يُتَوقَّع من القتال، وإمَّا لعدم الاستعداد.
قوله: ﴿وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ حالٌ من مفعول «يُساقُون».
قوله: ﴿أَنَّها لكم﴾ منصوبُ المحل على البدل من «إحدى» أي: يَعِدُكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم أي: تَتَسلَّطون عليها تَسَلُّطَ المُلاَّكِ فهي بدلُ اشتمال.
٢٣٨٣ - حتى استغاثَ بماءٍ لا رِشَاءَ له | من الأباطحِ في حافَاتِه البُرَكُ |
مُكَلَّلٌ بأصول النَّبْت تَنْسُجه | ريحٌ خَرِيقٌ لضاحي مائِه حُبُكُ |
كما استغاث بِسَيْءٍ فَزُّغَيْطَلَةٍ | خافَ العيونَ ولم يُنْظَرْ به الحَشَكُ |
قوله: ﴿أَنِّي﴾ العامة على فتح الهمزة بتقدير حذف حرف الجر أي: فاستجاب بأني. وقرأ عيسى بن عمر ويُروى عن أبي عمرو أيضاً «إني» بكسرها. وفيها مذهبان: مذهَب البصريين أنه على إضمار القول أي: فقال إني ممدُّكم. ومذهب الكوفيين أنها محكيَّةٌ باستجاب إجراءً له مُجْرى القولِ لأنه بمعناه.
قوله: ﴿بِأَلْفٍ﴾ العامَّة على التوحيد. وقرأ الجحدري: «بآلُفٍ» بزنة أفْلُس. وعنه أيضاً وعن السديّ بزنة أَحْمال. وفي الجمع بين هاتين القراءتين وقراءة الجمهور: أن تُحْمَلَ قراءةُ الجمهور على أن المراد بالأَلْفِ هم الوجوه، وباقيهم كالأتباع لهم، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور ونصَّ عليهم
قوله: ﴿مُرْدِفِينَ﴾ قرأ نافع ويُروى عن قنبل أيضاً «مُرْدَفين» بفتح الدال والباقون بكسرها. وهما واضحتان لأنه يُروى في التفسير أنه كان وراء كل مَلِكٍ مَلَكٌ رديفاً له. فقراءة الفتح تُشْعر بأن غيرهم أردفهم لركوبهم خلفهم، وقراءة الكسر تُشْعر بأن الراكبَ خلفَ صاحبهِ قد أَرْدَفَه، فصَحَّ التعبيرُ باسم الفاعل تارةً واسمِ المفعول أخرى. وجَعَلَ أبو البقاء مفعولَ «مُرْدِفين» يعني بالكسر محذوفاً أي: مُرْدِفين أمثالهم. وجَوَّز أن يكون معنى الإِرداف المجيءَ بعد الأوائل أي: جُعِلوا رِدْفاً للأوائل.
ويُطلب جوابٌ عن كيفية الجمع/ بين هذه الآيةِ وآيةِ آل عمران، حيث قال هناك «بخمسة»، وقال هنا «بأَلْف» والقصة واحدة. والجواب: أن هذه الألف مُرْدِفَةً لتلك الخمسة فيكون المجموعُ ستةَ آلاف، ويظهر هذا ويَقُوى في قراءة «مُرْدِفين» بكسر الدال.
وقد أنكر أبو عبيد أن يكون الملائكة أَرْدَفَت بعضها أي: ركَّبَتْ خلفها غيرها من الملائكة. وقال الفارسي: «مَنْ كسر الدال احتمل وجهين، أحدهما: أن يكونوا مُرْدِفين مثلَهم كما تقول:» أَرْدَفْتُ زيداً دابَّتي «فيكون المفعولُ الثاني محذوفاً، وحَذْفُ المفعولِ كثيرٌ. والوجه الآخر: أن يكونوا
وقرأ بعض المكيين فيما حكاه الخليل» مُرَدِّفين «بفتحِ الراء وكسرِ الدالِ مشدَّدة، والأصل: مُرْتَدِفين فأدغم. وقال أبو البقاء:» إن هذه القراءةَ مأخوذةٌ مِنْ رَدَّفَ بالتشديد الدال على التكثير، وإن التضعيف بدلٌ من الهمزة كأَفْرَحْتُه وفرَّحته «وجَوَّز الخليلُ بن أحمد ضمَّ الراءِ إتباعاً لضمِّ الميم كقولهم: مُخُضِم بضم الخاء، وقد قُرِئ بها شذوذاً.
وقُرئ» مُرِدِّفين «بكسرِ الراء وتشديدِ الدالِ مكسورةً. وكسرُ الراء يَحْتمل وجهين: إمَّا لالتقاء الساكنين وإمَّا للإِتباع. قال ابن عطية:» ويجوز على هذه القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للراء، ولا أحفظه قراءة «، قلت: وكذلك الفتحة في» مُرَدِّفين «في القراءةِ التي حكاها الخليل تحتمل وجهين. أحدهما: وهو الظاهر أنها حركةُ نَقْلٍ من التاء حين قصد إدغامَها إلى الراء.
والوَجَل: الفَزَعُ. وقيل: استشعار الخوف يُقال منه: وَجِل يَوْجَل وياجَل ويَيْجَل ويَيْجِل وَجَلاً، فهو وَجِل. والشَّوْكَة: السلاح كسِنان الرُّمْح والنَّصْل والسيف، وأصلها من النبتِ الحديدِ الطَرْفِ كشَوْك السَّعْدان، يُقال منه: رجلٌ شائكٌ، فالهمزةُ من واو كقائم، ويجوز قلبُه بتأخيرِ عينه بعد لامه، فيقال:» شاكٍ «، فيصير كغازٍ، ووزنُه حينئذ فالٍ قال زهير:
٢٣٨٤ - لدى أسدٍ شاكي السِّلاحِ مُقَذَّفٍ | له لِبَدٌ أظفارُه لم تُقَلَّمِ |
ويُحتمل أن يكونَ محذوفَ العينِ وأصلُه شائك فحُذِفَت العينُ فبقي شاكاً فألفُه زائدةٌ ووزنُه على هذا فال. وأمَّا شاكٍ فمنقوصٌ وطريقتُه بالقلب كما تقدم. ومِنْ وصف السلاح بالشاك قوله:
٢٣٨٥ - وأُلْبِسُ مَنْ رضاه في طريقي | سلاحاً يَذْعَر الأبطال شاكا |
والاستغاثة: طلبُ الغَوْث وهو النصرُ والعَوْن وقيل: الاستغاثةُ سَدُّ الخَلَّة وقت الحاجة. وقيل: هي الاستجارةُ. ويقال: غَوْثٌ وغُواث وغَواث، والغيث من المطر والغَوْث من النصرة، فعلى هذا يكونُ «استغاث» مشتركاً بينهما، ولكن الفرقَ بينهما في الفعل فيقال: استَغَثْتُه فأغاثني من الغَوْث، وغاثَني مِن الغَيْث. والإِردافُ: الإِتباع والإِركاب وراءك. قال الزجاج: «أَرْدَفْتُ الرجل إذا جئت بعده». ومنه ﴿تَتْبَعُهَا الرادفة﴾ [النازعات: ٧]، ويقال: رَدِف وأَرْدَف. واختلف اللغويون فقيل: هما بمعنى واحد، وهو قولُ ابنِ الأعرابي نقله عنه ثعلب، وقولُ أبي زيد نقله عنه أبو عبيد قال: «يُقال: رَدِفْتُ الرجلَ وأَرْدَفْته إذا ركبْتَ خلفَه»، وأنشد:
٢٣٨٦ - إذا الجوزاءُ أَرْدَفَتِ الثُّرَيَّا | ظنَنْتُ بآل فاطمةَ الظُّنونا |
﴿بثلاثة آلافٍ من الملائكة منزلين﴾ [آل عمران: ١٢٤] ﴿بِخَمْسَةِ آلاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ﴾ [آل عمران: ١٢٥]، ومن قرأ «مُرْدَفين» بالفتح فهو بمعنى مُتْبَعين أو مُتَّبَعين «.
وقد ضَعَّفَ الشيخُ الوجهَ الثاني بثلاثة أوجه أحدها: أنَّ فيه إعمالَ المصدرِ المقرون بأل قال:» وفيه خلاف ذهب الكوفيون إلى أنه لا يَعْمل. الثاني من الأوجه المضعِّفة أنه فيه فصلٌ بين المصدر ومعموله بالخبر وهو قوله: «إلا من عند الله»، ولو قلت: «ضَرْبُ زيدٍ شديدٌ عمراً» لم يَجُزْ. الثالث: أنه عَمل ما قبل «إلا» فيما بعدها وليس أحدَ الثلاثةِ الجائزِ ذلك فيها،
وضَعَّفَ الثالثَ بأنه يلزم منه أن يكون استقرارُ النصر مقيَّداً/ بهذا الظرفِ، والنصرُ من عند الله لا يتقيَّد بوقت دون وقت. وهذا لا يَضْعُفُ به لأنَّ المرادَ بهذا النصرِ نصرٌ خاص، وهذا النصرُ الخاصُّ كان مقيداً بذلك الظرف. وضعَّف الرابعَ بطولِ الفصل ويكون معمولاً لما قبل «إلا».
السادس: أنه منصوبٌ بقوله: «ولتطمئنَّ به» قاله الطبري. السابع: أنه منصوبٌ بما دلَّ عليه «عزيز حكيم» قاله أبو البقاء. ونحا إليه ابن عطية قبله.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يَغْشاكم النعاسُ». نافع: «يُغْشِيكم» بضم الياء وكسر الشينِ خفيفةً. «النعاسَ» نصباً. والباقون «يُغَشِّيكم» كالذي قبله، إلا أنه بتشديد الشين فالقراءة الأولى مِنْ غَشِي يَغْشَى، و «النعاس» فاعل. وفي الثانية مِنْ «أغشى»، وفاعلُه ضميرُ الباري تعالى، وكذا في الثالثة مِنْ «غَشَّى» بالتشديد. و «النعاس» فيهما مفعول به، وأغشى وغشَّى لغتان.
قوله: «أَمَنَةً» في نصبِها ثلاثةُ [أوجه] أحدُها: أنه مصدرٌ لفعلٍ مقدر أي: فَأَمِنْتُم أَمَنةً. الثاني: أنها منصوبة على أنها واقعةٌ موقعَ الحال: إمَّا من
الثالث: أنه مفعولٌ من أجله وذلك: إمَّا أن يكونَ على القراءتين الأخيرتين أو على الأولى، فعلى القراءتين الأخيرتين أمرُها واضحٌ، وذلك أن التغشيةَ أو الإِغشاءَ من الله تعالى، والأمنةُ منه أيضاً، فقد اتحد الفاعلُ فصحَّ النصب على المفعول له. وأمَّا على القراءة الأولى ففاعل «يغشى» النعاسُ، وفاعل «الأمنة» الباري تعالى. ومع اختلافِ الفاعلِ يمتنع النصبُ على المفعول له على المشهور وفيه خلافٌ، اللهم إلا أن يُتَجَوَّز بتجوز.
وقد أوضح ذلك الزمخشري فقال: «وأَمَنَةً» مفعولٌ له. فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعلُ الفعلِ المُعَلَّلِ والعلةِ واحداً؟ قلت: بلى ولكن لمَّا كان معنى «يَغْشاكم النعاسُ» تَنْعَسون انتصب «أَمَنةً» على معنى: أنَّ النعاسَ والأَمَنَة لهم، والمعنى إذ تَنْعَسُون أمناً «. ثم قال:» فإن قلت: هل يجوزُ أن ينتصبَ على أن الأمنةَ للنعاس الذي هو يغشاكم أي: يَغْشاكم النعاسُ لأمنة، على أنَّ إسنادَ الأَمْن إلى النعاس إسنادٌ مجازي وهو لأصحابِ النُّعاس على الحقيقة، أو على أنه أتاكم في وقت كان مِنْ حق النعاس في ذلك الوقت المَخُوف أن لا يُقَدَّمَ على غشيانكم، وإنما غَشَّاكم أمنةً حاصلةً له من الله لولاها لم يَغْشكم على طريقة التمثيل والتخييل «. قلت: لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله، وله فيه نظائرُ، وقد ألمَّ به من قال:
٢٣٨٧ - يَهاب النَّوْمُ أن يَغْشى عيوناً | تهابُكَ فهْوَ نَفَّارٌ شَرودُ |
وقرأ ابن محيصن والنخعي ويحيى بن يعمر» أَمْنَةً «بسكون الميم. ونظير أَمِنَ أَمَنَةً بالتحريك حَيِي حياة، ونظيرُ أَمِن أَمْنة بالسكون رَحِم رَحْمَةً.
قوله: ﴿مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ﴾ العامَّةُ على» ماءً «بالمد. و» ليطهركم «متعلِّقٌ ب» يُنَزِّل «. وقرأ الشعبي» ما ليطهركم «بألفٍ مقصورة، وفيها تخريجان أظهرهما وهو الذي ذكره ابن جني وغيره أنَّ» ما «بمعنى الذي، و» ليطهِّرَكم «صلتُها، وقال بعضهم: تقديره: الذي هو ليطهركم، فقدَّر الجارَّ خبراً لمبتدأ محذوفٍ، والجملةُ صلة ل» ما «. وقد ردَّ الشيخ هذين التخريجين بأن لامَ» كي «لا تقعُ صلةً. والثاني: أن» ما «هو ماء بالمد، ولكن العرب قد حَذَفَتْ همزتَه فقالوا:» شربت ماً «بميم منونة، حكاه ابن مقسم، وهذا لا نظيرَ له إذ لا يجوز أن يُنْتَهَك اسمٌ مُعْرَبٌ بالحذف حتى يبقى على حرفٍ واحد.
إذا عُرِف هذا فيجوزُ أن يكونَ قَصَرَها، وإنما لم ينوِّنْه إجراءً للوصل مُجْرى الوقف. ثم هذه الألفُ يحتمل أن تكون عين الكلمة وأن الهمزةَ محذوفةٌ/ وهذه الألفُ بدلٌ مِنَ الواو التي في «مَوَهَ» في الأصل، ويجوز أن تكونَ المبدلةَ من التنوين وأجرى الوصلَ مُجْرى الوقف. والأولُ أَوْلَى لأنهم يُراعون في الوقف أن لا يتركوا الموقوف عليه على حرفٍ واحد نحو «مُرٍ» اسم فاعل مِنْ أرى يُري.
قوله: ﴿أَنِّي مَعَكُمْ﴾ مفعول ب «يوحي»، أي: يوحي كوني معكم بالغلبة والنصر. وقرأ عيسى بن عمر بخلافٍ عنه «إني معكم» بكسرِ الهمزة.
قوله: ﴿مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾ يجوز أن يتعلَّق» منهم «بالأمر قبله أي: ابْتَدِئوا الضرب من هذه الأماكن والأعضاء من أعاليهم إلى أسافِلهم. ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على
قال الزمخشري: «يعني ضَرْبَ الهام» قال:
٢٣٨٨ -................. | وأَضْرِبُ هامةَ البطلِ المُشيحِ |
٢٣٨٩ - غَشَّيْتُه وَهْو في جَأْواءَ باسلةٍ | عَضْباً أصابَ سَواءَ الرأسِ فانفلقا |
٢٣٩٠ - جَعَلْتُ السيفَ بين الجِيْدِ مِنْه | وبين أَسِيْلِ خَدَّيْه عِذارا» |
٢٣٩١ - عَهْدي به شَدَّ النهار كأنما | خُضِب البَنانُ ورأسُه بالعِظْلم |
٢٣٩٢ - وإنَّ الموتَ طَوْعُ يدي إذا ما | وصلْتُ بنانَها بالهُنْدُواني |
٢٣٩٣ - وكان فتى الهَيْجاءِ يَحْمي ذِمارَها | ويَضْرِبُ عند الكَرْب كلَّ بنانِ |
قوله: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ الله﴾ «مَنْ» مبتدأ والجملة الواقعة بعدها خبرها
٢٣٩٤ - يا هالَ ذاتَ المَنْطِقِ النَّمْنامِ | وكَفِّك المخضَّبِ البنَامِ |
٢٣٩٥ - وقائلةٍ خولانُ فانكِحْ فتاتَهُمْ | وأُكْرومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كما هيا |
وقال أبو البقاء:» ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي: ذوقوا ذلكم، ويُجْعَلَ الفعلُ الذي بعده مفسِّراً له، والأحسن أن يكون التقدير: باشروا ذلكم فذوقوه لتكون الفاءُ عاطفةً «. قلت: ظاهرُ هذه العبارةِ الثانية أن المسألةَ لا تكون مِن الاشتغال لأنه قَدَّر الفعلَ غيرَ موافقٍ لما بعده لفظاً مع إمكانه، وأيضاً فقد جَعَلَ الفاءَ عاطفةً لا زائدةً، وقد تقدَّمَ تحقيقُ الكلام في هذه الفاء عند قوله: ﴿وَإِيَّايَ فارهبون﴾ [البقرة: ٤٠].
قوله: ﴿وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار﴾ الجمهور على فتح» أنَّ «وفيها تخريجات، أحدها: أنها وما في حَيِّزها في محل رفع على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: حَتْمٌ استقرارُ عذابِ النار للكافرين. والثاني: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: الحتم/ أو الواجب أن للكافرين، أو الواجب أن للكافرين عذاب النار. الثالث: أن تكون عطفاً على» ذلكم «في وجهَيْه، قاله الزمخشري، ويعني بقوله» في وجهيه «، أي: وجهي الرفع وقد تقدَّما. الرابع: أن تكون في محلِّ نصب على المعيَّة، قال الزمخشري:» أو نصب
٢٣٩٦ - تسمع للأَحْشاء منه لَغَطَاً | ولليدين جُسْأَةً وبَدَدا |
وقرأ زيد بن علي والحسن بكسرها على الاستئناف.
٢٣٩٧ - لِمَنِ الظعائنُ سَيَّرُهُنَّ تَزَحُّفُ | مثلَ السَّفِينِ إذا تقاذَفُ تَجْدِفُ |
٢٣٩٨ - فَزَحْفاً أَتَيْتُ على الرُّكْبَتَيْنِ | فثوباً لَبِسْتُ وثوباً أَجُرّْ |
٢٣٩٩ - كأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فيه | قبيل الصُّبْحِ آثارُ السِّياطِ |
قوله:» الأَدْبار «مفعول ل» تُوَلُّوهم «.
وقال ابن عطية: «وأمَّا الاستثناءُ فهو مِنَ المُوَلِّين الذين تتضمَّنهم» مَنْ «. فَجَعَلَ نَصْبَه على الاستثناء. وقال جماعة: إن الاستثناء من أنواع التولِّي. وقد رُدَّ هذا بأن لو كان كذلك لوَجَبَ أن يكونَ التركيبُ: إلا تحيُّزاً أو تحرُّفاً.
والتحيُّزُ والتَّجَوُّزُ: الانضمام. وتحوَّزَت الحَيَّة: انطوَتْ، وحُزْتُ الشيء: ضَمَنْتُه. والحَوْزَةُ ما يَضُمُّ الأشياءَ. ووزنُ متحيِّز: مُتَفَيْعِل، والأصل:
قوله: ﴿ولكن الله قَتَلَهُمْ﴾ قرأ الأخَوان وابن عامر» ولكن الله قَتَلهم «» ولكن الله رمى «بتخفيف» لكن «ورفع الجلالة، والباقون بالتشديد ونصب الجلالة. وقد تقدَّم توجيهُ القراءتين مُشْبعاً في قوله ﴿ولكن الشياطين﴾ [البقرة: ١٠٤]. وجاءت هنا» لكن «أحسن مجيْءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات، وقوله: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ﴾ نفى عنه الرَّميَ وأثبته له، وذلك باعتبارين: أي: ما رَمَيْتَ على الحقيقة إذ رَمَيْتَ في ظاهر الحال، أو ما رَمَيْتَ الرُّعْبَ في قلوبهم إذ رَمَيْت الحَصَيَات والتراب. وقوله:» وما رَمَيْتَ «هذه الجملة عطفٌ على قوله» فلم تقتلوهم «لأنَّ المضارع المنفي ب لم في قوة الماضي المنفي ب» ما «، فإنك إذا قلت:» لم يَقُم «كان معناه ما قام. ولم يقل هنا: فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم، كما قال:» إذ رَمَيْت «مبالغةً في الجملة الثانية.
قوله: ﴿وَلِيُبْلِيَ المؤمنين﴾، متعلِّقٌ بمحذوف أي: وليبليَ فَعَلَ ذلك.
٢٤٠٠ -................ | وأبلاهما خيرَ البلاء الذي يبلو |
قوله: ﴿وَأَنَّ الله﴾ يجوز أن يكون معطوفاً على «ذلكم» فيُحكم على محلِّه بما يُحْكَمُ على محلِّ «ذلكم» وقد تقدَّم، وأن يكون في محلِّ نصبٍ بفعل مقدَّر أي: واعلموا أن الله، وقد تقدَّم ما في ذلك. وقال الزمخشري: «إنه معطوفٌ على» وليُبْلي «، يعني أن الغرضَ إبلاء المؤمنين وتوهينُ كيد الكافرين».
قوله: ﴿وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين﴾ قرأ نافع وابن عامر وحفصٌ عن عاصم بالفتح والباقون بالكسر. فالفتح من أوجه أحدها: أنه على لام العلة تقديره: ولأن الله مع المؤمنين كان كيت وكيت. والثاني: أنَّ التقدير: ولأن الله مع المؤمنين امتنع عنادهم. والثالث: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، أي: والأمر أن الله مع المؤمنين. وهذا الوجهُ الأخيرُ يَقْرُب في المعنى مِنْ قراءة الكسر لأنه استئناف.
وقوله: ﴿الذين لاَ يَعْقِلُونَ﴾ يجوز رفعُه أو نصبه على القطع.
قوله: «وأنه» يجوز أن تكون الهاء ضمير الأمر والشأن، وأن تعودَ على الله تعالى، وهو الأحسنُ لقوله «الله».
٢٤٠١ - جاؤوا بمَذْقٍ هل رأيتَ الذئبَ قَطْ... أي: مقول فيه: هل رأيت. والثاني: أن «لا» نافية، والجملةُ صفةٌ ل «فتنة» وهذا واضحٌ من هذه الجهة، إلا أنه يُشْكل عليه توكيد المضارع في غير قسم ولا طلب ولا شرط، وفيه خلافٌ: هل يَجْري النفيُ ب «لا» مَجْرى النهي؟ من الناس من قال نعم، واستشهد بقوله:
٢٤٠٢ - فلا الجارةُ الدنيا لها تَلْحَيَنَّها | ولا الضيفُ منها إنْ أناخَ مُحَوَّلُ |
٢٤٠٣ - فلا ذا نعيمٍ يُتْرَكَنْ لنعيمه | وإن قال قَرِّظْني وخُذْ رشوةً أبى |
ولا ذا بيئسٍ يُتركنَّ لبؤسه | فينفعَه شكوٌ إليه إن اشْتكى |
وزعم الفراء أنَّ «لا تصيبَنَّ» جواب للأمر نحو: «انزلْ عن الدابة
قال الزمخشري: «لا تصيبنَّ» : لا يخلو: إمَّا أن يكونَ جواباً للأمر أو نهياً بعد أمرٍ أو صفةً لفتنة. فإذا كانت جواباً فالمعنى: إنْ أصابَتْكم لا تُصِبِ الظالمين منكم خاصة، بل تَعُمُّكم «، قال الشيخ:» وأخذ الزمخشري قولَ الفراء فزاده فساداً وخَبَط فيه «، فذكر ما نقلتُه عنه ثم قال:» فانظر إليه كيف قدَّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو «اتقوا»، ثم قدَّر أداةَ الشرطِ داخلةً على غير مضارع «اتقوا» فقال: المعنى: إن أصابَتْكم، يعني الفتنة. وانظر كيف قدَّر الفراء: انزل عن الدابة لا تَطْرَحَنَّك، وفي قوله:
﴿ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ﴾ [النمل: ١٨]، فأدخل أداةَ شرطٍ على مضارع فعل الأمر وهكذا [يُقَدَّر] ما كان جواباً للأمر «.
وقيل:» لا تصيبنَّ «جوابُ قسمٍ محذوف، والجملةُ القسميةُ صفةٌ لفتنة أي: فتنة واللهِ لا تصيبنَّ. ودخولُ النونِ أيضاً قليلٌ لأنه منفيٌّ. وقال:
وقيل: إن اللامَ لامُ التوكيد، والفعلُ بعدها مثبتٌ، وإنما مُطِلت اللام، أي: أُشْبِعَتْ فتحتُها فتولَّدَتْ ألفاً، فدخول النون فيها قياسٌ. / وتأثَّر هذا القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة» لتصيبَنَّ «وهي قراءةُ أميرِ المؤمنين وابن مسعود وزيد بن ثابت والباقر والربيع وأنس وأبي العالية وابن جماز. وممن وَجَّه ذلك ابن جني. والعجب أنه وَجَّه هذه القراءةَ الشاذة بتوجيهٍ يَرُدُّها إلى قراءةِ العامَّة، فقال:» ويجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود ومَنْ ذُكر معه مخففةً من «لا» يعني حُذِفَتْ ألفُ «لا» تخفيفاً، واكتُفي بالحركة «، قال:» كما قالوا: أمَ والله يريدون: أما والله «. قال المهدوي:» كما حُذِفت مِنْ «ما» وهي أختُ «لا» في نحو «أما والله لأفعلنَّ» وشبهه. قوله «أخت لا» ليس كذلك لأن «أما» هذه للاستفتاحِ ك «ألا»، وليست مِنَ النافية في شيءٍ، فقد تحصَّل من هذا أن ابن جني خرَّج كلاً من القراءتين على الأخرى، وهذا لا ينبغي أن يجوز البتة، كيف يُورِدُ لفظَ نفيٍ ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسِه؟ هذا إنما يَقْلب الحقائق ويؤدِّي إلى التعمية.
وقال المبرد والفراء والزجاج في قراءة العامَّة: «لا تصيبنَّ» :«إنْ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله» فتنة «وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمةِ
قال الزمخشري في تقرير هذا الوجه: «وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً، ثم قيل: لا تتعرَّضوا للظلم فيصيبَ العقابُ أو أثرُ الذنبِ مَنْ ظَلَم منكم خاصة».
وقال علي بن سليمان «هو نَهْيٌ على معنى الدعاء، وإنما جعله نهياً بمعنى الدعاء لأنَّ دخولَ النونِ في المنفي ب لا عنده لا يجوز، فيصير المعنى: لا أصابَتْ ظالماً ولا غيرَ ظالم، فكأنه قيل: واتقوا فتنةً لا أوقعها الله بأحدٍ». وقد تَحَصَّلْتُ ممَّا تقدَّم في تخريج هذه الكلمة على أقوال: النهي بتقديرَيْه، والدعاء بتقديريْه، والجواب للأمر بتقديريه، وكونِها صفةً بتقدير القول.
قوله: ﴿مِنْكُمْ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرُها: أنها للبيان مطلقاً. والثاني: أنها حالٌ فتتعلَّقُ بمحذوف، وجعلها الزمخشري للتبعيض على تقديرٍ، وللبيان على تقدير آخر فقال: «فإن قلت: ما معنى» مِنْ «في قوله» الذين ظلموا منكم «؟ قلت: التبعيضُ على الوجه الأول، والبيان على الثاني؛ لأن المعنى: لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم، لأنَّ الظلمَ منكم أقبحُ مِنْ سائر الناس». قلت: يعني بالأولِ كونَه جواباً لأمر، وبالثاني كونَه نهياً بعد أمرٍ. وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهينِ دون الآخر وكذا الثاني نظرٌ؛ إذ المعنى يَصِحُّ بأحد التقديرين مع التبعيضِ والبيان.
قوله: ﴿خَاصَّةً﴾ فيه ثلاثة أوجه، أحدُها: وهو الظاهر أنها حالٌ من الفاعلِ المستكنِّ في قوله: «لا تصيبنَّ»، وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ
قوله: ﴿تَخَافُونَ﴾ فيه ثلاثةُ أوجهٍ أظهرُها: أنه خبرٌ ثالثٌ. والثاني: أنه صفةٌ ل» قليل «وقد بُدئ بالوصفِ بالمفرد ثم بالجملة. والثالث: أن يكونَ حالاً من الضمير المستتر في» مُسْتَضْعَفُون «.
٢٤٠٤ - لا تَنْهَ عن خُلُقٍ وتأتيَ مثلَه | عارٌ عليك إذا فَعَلْت عظيمُ |
و «أماناتِكم» على حَذْف مضاف أي: أصحابَ أماناتكم. ويجوز أن يكونوا نُهوا عن جناية الأماناتِ مبالغةً كأنها جُعِلت مخونةً. وقرأ مجاهد ورُوِيت عن أبي عمرو «أمانتكم» بالتوحيد والمرادُ الجمع.
«وأنتم تعلمون» جملة حالية، ومتعلَّقُ العلم يجوز أن يكون مراداً أي: تعلمونَ قُبْحَ ذلك أو أنكم مؤاخذون بها. ويجوز ألاَّ يُقَدَّر أي: وأنتم من ذوي العلم. والعلمُ يُحتمل أن يكون على بابه، وأن يكونَ بمعنى العرفان.
٢٤٠٥ - بادَرَ الأفقَ أن يغيبَ فلمَّا | أظلم الليلُ لم يَجِدْ فُرْقانا |
٢٤٠٦ - ما لك مِنْ طولِ الأَسى فُرْقانُ | بعد قَطينٍ رحلوا وبانُوا |
٢٤٠٧ - وكيف أُرَجِّي الخلدَ والموتُ طالبي | وما ليَ من كأسِ المنية فرقانُ |
٢٤٠٨ - فقلت وَيْحَكَ ماذا في صحيفتكمْ | قالوا الخليفةُ أمسى مُثْبَتاً وجِعا |
٢٤٠٩ -... تَحِنُّ إلى ليلى وأنت تركتَها
وكنتَ عليها بالمَلا أنت أقدرُ... وهي لغةُ تميم. وقال ابن عطية: «ويجوز في العربية رفع» الحق «
وقوله: ﴿مِنْ عِندِكَ﴾ حالٌ من معنى الحق أي: الثابت حالَ كونه مِنْ عندك. وقوله ﴿مِّنَ السمآء﴾ فيه وجهان أحدهما: أنه متعلقٌ بالفعل قبله. والثاني: أنه صفة لحجارة فيتعلقُ بمحذوفٍ. وقولهم» من السماء «مع أن المطر لا يكون إلا منها، قال الزمخشري:» كأنه أراد أن يقال: فأمْطر علينا السِّجِّيلَ، فوضعَ «حجارة من السماء» موضعَه، كما يقال: «صبَّ عليه مسرودةً من حديد» تريد: «درعاً»، قال الشيخ: «إنه يريد بذلك التأكيد»، قال: «كما أن قوله» من حديد «معناه التأكيد؛ لأنَّ المسرودَ لا يكون إلا من حديد كما أن الأمطار لا تكون إلا من السماء». وقال ابن عطية: «قولهم من السماء مبالغة وإغراق». قال الشيخ: «والذي يظهر أنَّ حكمةَ قولِهم من السماء هي مقابلتُهم مجيءَ الأمطارِ من الجهة التي ذَكَر عليه السلام أنه يأتيه الوحي من جهتها أي: إنك تذكر أن الوحيَ يأتيك مِن السماء فَأْتِنا بالعذابِ من الجهة التي يأتيك الوحي منها قالوه استبعاداً له».
وأتى بخبر» كان «الأولى على خلاف ما أتى به في الثانية، فإنه: إمَّأ أن يكونَ محذوفاً وهو الإِرادة كما يقدِّره البصريون أي: ما كان الله مُريداً لتعذيبهم، وانتفاءُ إرادة العذاب أبلغُ من نفي العذاب، وإمَّا أنه أكَّده باللام على رأي الكوفيين لأنَّ كينونَته فيهم أبلغُ من استغفارهم فشتَّان بين وجودِه عليه السلام فيهم وبين استغفارِهم.
وقوله: ﴿وَأَنتَ فِيهِمْ﴾ حال، وكذلك ﴿وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾. والظاهر أن الضمائرَ كلَّها عائدةً على الكفار وقيل: الضمير في» يُعَذِّبهم «و» مُعَذِّبهم «للكفار، والضمير من قوله» وهم «للمؤمنين. وقال الزمخشري:» وهم يستغفرون «في موضع الحال، ومعناه نفيُ الاستغفارِ عنهم أي: ولو كانوا ممَّن يؤمن ويَسْتغفر من الكفر لَمَا عذَّبهم كقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾ [هود: ١١٤] ولكنهم لا يَسْتغفرون ولا يؤمنون ولا يُتوقَّع ذلك منهم» وهذا المعنى الذي ذكره منقولٌ عن قتادة وأبي زيد واختاره ابنُ جرير.
قوله: ﴿وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ﴾ في هذه الجملةِ وجهان أحدهما: أنها استئنافيةٌ، والهاء تعود على المسجد أي: وما كانوا أولياءَ المسجد. والثاني: أنها نسقٌ على الجملة الحالية قبلها وهي» وهم يَصُدُّون «والمعنى: كيف لا يُعَذِّبُهم الله وهم متصفون بهذبن الوَصْفَيْن: صَدِّهم عن المسجد الحرام وانتفاءِ كونِهم أولياءَه؟ ويجوز أن يعودَ الضميرُ على الله تعالى، أي: لم يكونوا أولياءَ الله.
٢٤١٠ - وما كنت أخشى أن يكونَ عطاؤُه | أداهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرا |
والمُكاء: مصدر مَكا يمكو، أي صَفَر بين أصابعه أو بين كَفَّيْه، قال الأصمعي: «قلت لمسجع بن نبهان: ما تمكو فريصتُه؟ فَشَبَك بين أصابعه وجَعَلها على فِيه ونفخ فيها. قلت: يريد قول عنترة:
٢٤١١ - وحَليلِ غانيةٍ تركتُ مُجَدَّلاً | تَمْكُو فريصتُه كشِدْق الأَعْلَمِ |
٢٤١٢ - إذا غرَّد المُكَّاء في غير روضةٍ | فويلٌ لأهل الشَّاءِ والحُمُرات |
وقرأ العامَّةُ «صلاتُهم» رفعاً، «مُكاءً» نصباً، وأبان بن تغلب والأعمش
٢٤١٣ - كأنَّ سَبيئةً مِنْ بيت رَأْسٍ | يكونُ مزاجَها عَسَلٌ وماءُ |
٢٤١٤ - ولقد مَرَرْتُ على اللئيم يَسُبُّني | فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قلتُ لا يَعْنيني |
واللام في «ليميز» متعلقة بيُحْشَرون. ويقال: مَيَّزته فتميَّزَ، ومِزْتُه فانماز. وقرئ شاذاً ﴿وانمازوا اليوم﴾ [يس: ٥٩]، وأنشد أبو زيد:
٢٤١٥ - بَكَتْ عيني وحُقَّ لها بُكاها | وما يُغْني البكاءُ ولا العويلُ |
٢٤١٦ - لمَّا نبا اللهُ عني شرَّ غَدْرتِه | وانْمِزْتُ لا مُنْسِئاً غَدْراً ولا وَجِلا |
قوله: ﴿فَيَرْكُمَهُ﴾ نسقٌ على المنصوب قبله. والرَّكْمُ: جَمْعُك الشيءَ فوق الشيء حتى يَصير رُكاماً ومَرْكوماً، كما يُركم الرمل والسحاب، ومنه ﴿يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ﴾ [الطور: ٤٤]. والمُرْتَكم: جادَّة الطريق للرَّكْم الذي فيه، أي: ازدحام السَّابلة وآثارهم. و «جميعاً» حال. ويجوز أن يكونَ توكيداً عند بعضهم.
وقرئ «يَغْفر» مبنياً للفاعل، وهو ضمير يعود على الله تعالى.
ويجوز في «ما» أن تكونَ شرطيةً، وعاملُها «غَنِمْتُم» بعدها، واسمُ «أنَّ» حينئذٍ ضميرُ الأمرِ والشأن وهو مذهبُ الفراء. إلا أن هذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورةً بشرط أَنْ لا يليها فعل كقوله:
٢٤١٧ - إنَّ مَن يدخلِ الكنيسةِ يوماً | يَلْقَ فيها جآذِراً وظِباءَ |
٢٤١ - ٨- إنَّ مَنْ لام في بني بنتِ حَسَّا | نَ أَلُمْهُ وأَعْصِهِ في الخُطوبِ |
قوله: ﴿مِّن شَيْءٍ﴾ في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ عائد الموصول المقدَّر، والمعنى: ما غنمتموه كائناً من شيء أي: قليلاً أو كثيراً. وحكى ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم، وحكى غيرُه عن الجعفي عن هارون عن أبي عمرو: «فإن لله» بكسر الهمزة. ويؤيد هذه القراءة قراءة النخعي «فللَّه خمسُه» فإنها استئناف.
وخرَّجها أبو البقاء على أنها وما في حَيِّزها في محل رفع خبراً ل «أنَّ» الأولى.
والغنيمة أصلُها مِن الغُنْم وهو الفوز، وأصل ذلك مِن الغَنَم هذا الحيوان المعروف فإن الظفرَ به يُسَمَّى غُنْماً ثم اتُّسِع في ذلك فسُمِّي كلُّ شيء مظفورٍ به غُنْماً ومَغْنَماً وغنيمةً. قال علقمة بن عبدة:
٢٤١٩ - ومُطْعَمُ الغُنْم يومَ الغُنْمِ مَطْعَمُه | أنَّى توجَّه والمحرومُ محرومُ |
٢٤٢٠ - لقد طَوَّفْتُ في الآفاق حتى | رَضِيتُ من الغنيمة بالإِياب |
قوله: ﴿وَمَآ أَنزَلْنَا﴾ «ما» عطفٌ على الجلالة فهي مجرورةُ المحلِّ، وعائدُها محذوف. وزعم بعضهم أن جوابَ الشرط متقدم عليه، وهو قوله «فنِعْم المَولى» وهذا لا يجوزُ على قواعد البصريين.
قوله ﴿يَوْمَ الفرقان﴾ يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكون منصوباً ب «أَنْزلنا» أي: أَنْزَلْناه في يوم بدر الذي فُرِق فيه بين الحق والباطل. الثاني: أن ينتصبَ بقوله «آمنتم»، أي: إن كنتم آمنتمْ في يومِ الفرقان. ذكره أبو البقاء. والثالث: أنه يجوزُ أن يكون منصوباً بغَنِمْتُمْ. قال الزجاج: «أي ما غنمتم في يوم الفرقان حكمُه كذا وكذا». قال ابن عطية: «وهذا تأويلٌ حسنٌ في المعنى، ويعترضه أنَّ فيه الفصلَ بين الظرف وما يَعْمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ الألفاظِ». قلت: وهو ممنوعٌ أيضاً من جهةٍ أخرى أخصَّ من هذه، وذلك أن «ما» : إمَّا شرطية كما هو رأي الفراء، وإمَّا موصولة، فعلى الأول يؤدِّي إلى الفصل بين فعلِ الشرط ومعموله بجملة الجزاء ومتعلَّقاتها، وعلى الثاني يؤدِّي إلى الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر «أنَّ».
قوله: ﴿يَوْمَ التقى الجمعان﴾ فيه وجهان: أحدهما: أنه بدلٌ من الظرفِ قبله. والثاني: أنه منصوب بالفرقان لأنه مصدرٌ فكأنه قيل: يومَ فرق فيه في
قوله: ﴿بالعدوة﴾ متعلق بمحذوف لأنه خبر المبتدأ، والباء بمعنى «في» كقولك «: زيد بمكة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بالعِدوة بكسر العين فيهما. والباقون بالضم فيهما وهما لغتان في شطِّ الوادي وشفيره وضِفَّته، سُمِّيَتْ بذلك لأنها عَدَتْ ما في الوادي من ماءٍ ونحوه أن يتجاوزَها أي منعته. قال الشاعر:
٢٤٢١ - عَدَتْني عن زيارتها العَوادي | وحالَتْ دونَها حربٌ زَبُونُ |
٢٤٢٢ - وفارسٍ لم يَحُلَّ القوم عِدْوَتَه | وَلَّوا سِراعاً وما هَمُّوا بإقبال |
وقُرئ شاذّاً» بالعِدْية «بقلب الواو ياءً لانكسار ما تقدَّمها، ولا يُعْتبر الفاصلُ لأنه ساكن فهو حاجز غير حصين وهذا كما قالوا:» هو ابن عمي دِنيا «بكسر الدال وهو من الدنو، وكذلك قِنْية وصِبْية، وأصله السَّلامة كالذِّرْوَة والصِّفْوة والرِّبوة. وقوله:» الدنيا «قد تقدَّم الكلام على هذه اللفظة مسبقاً.
قوله: ﴿القصوى﴾ تأنيث الأقصى. والأقصى: الأبعد. والقَصْوُ: البعد. وللتصريفيين عبارتان أغلبهما أن فُعْلى من ذوات الواو: إن كانت اسماً أُبْدِلَتْ لامُها ياءً، ثم يُمَثِّلون بنحو الدُّنْيا والعُلْيا والقُصْيا، وهذه صفاتٌ لأنها من باب أفعل التفضيل وكأنَّ العذرَ لهم أن هذه وإن كانت في الأصلِ صفاتٍ إلا أنها جَرَتْ مجرى الجوامد. قالوا: وإن كانت فُعْلى صفةً أُقِرَّتْ لامُها على حالها نحو: الحُلْوى تأنيث الأحلى، ونَصُّوا على أن القُصْوى شاذة وإن كانت
وقد قرأ زيد بن علي «بالعُدْوَة والقُصْيا» فجاء بها على لغة تميم، وهي القياسُ عند هؤلاء.
والعبارة الثانية وهي المغلوبَةُ القليلةُ العكس، أي: إن كانَتْ صفةً أُبْدِلت نحو: العُليا والدنيا والقُصْيا، وإن كانت اسماً أُقِرَّت نحو: حُزْوَى كقوله:
٢٤٢٣ - أداراً بحُزْوَى هِجْتِ للعين عَبْرةً | فماءُ الهوى يَرْفَضُّ أو يَتَرَقْرَقُ |
وقد ترتَّب على هاتين العبارتين أن «قُصْوى» على خلافِ القياس فيهما، وأن «قُصْيا» هي القياس لأنها عند الأوَّلين من قبيل الأسماء، وهم يقلبونها ياء، وعند الآخرين من قبيل الصفات وهم يقلبونها أيضاً ياءً، وإنما يَظْهر الفرقُ في الحُلْوى وحُزْوى: فالحُلْوى عند الأوَّلين تصحيحُها قياسٌ لكونِها صفةً وشاذة عند الآخرين لأنَّ الصفةَ عندهم تُقْلَبُ واوُها ياءً، والحُزْوَى عكسُها: فإن الأوَّلين يُعِلُّون في الأسماء دون الصفات، والآخرون عكسُهم. وهذا موضعٌ
قوله: ﴿والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ﴾ الأحسنُ في هذه الواو، والواو التي قبلها الداخلة على «هم» أن تكونَ عاطفةً ما بعدها على «أنتم» لأنها مَبْدأُ تقسيم أحوالهم وأحوال عدوهم. ويجوز أن تكونا واوَيْ حال. و «أسفل» منصوبٌ على الظرف النائب عن الخبر، وهو في الحقيقة صفةٌ لظرف مكان محذوف أي: والركب مكاناً أسفلَ من مكانكم. وقرأ زيد بن علي «أسفلُ» بالرفع وذلك على سبيل الاتِّساع، جعل الظرف نفسَ الركب مبالغة واتساعاً. وقال مكي: «وأجاز الفراء والأخفش والكسائي» أسفلُ «بالرفع على تقديرِ محذوفٍ أي: موضعُ الركب أسفلُ». والتخريجُ الأولُ أبلغُ في المعنى.
والرَّكْبُ اسمُ جمعٍ لراكب لا جمعُ تكسيرٍ له خلافاً للأخفش لقوله:
٢٤٢٤ - بَنَيْتُه مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ مالِيا | أخشى رُكَيْباً أو رُجَيْلاً غاديا |
قوله: ﴿ولكن لِّيَقْضِيَ﴾ «ليَقْضي» متعلِّقٌ بمحذوف، أي: ولكن تلاقَيْتُم ليقضيَ. وقدَّر الزمخشري ذلك المحذوفَ فقال: «أي: ليقضيَ الله أمراً كان واجباً أن يُفْعل وهو نصرُ أوليائه وقَهْرُ أعدائه دَبَّر ذلك».
قوله: ﴿لِّيَهْلِكَ﴾ فيه أوجه، أحدها: أنه بدلٌ من قوله «ليقضيَ» بإعادة العامل فيتعلَّق بما تعلَّق به الأول.
الثاني: أنه متعلقٌ بقوله «مفعولاً»، أي: فعل هذا الأمر لِكَيْتَ وكيتَ. الثالث: أنه متعلِّقٌ بما تعلَّق به «ليقضيَ» على سبيل العطف عليه بحرفِ عطفٍ محذوف تقديره: وليهلك، فحذف العاطفَ وهو قليلٌ جداً. وقد قدَّمْتُ التنبيهَ عليه. الرابع: أنه متعلِّقٌ ب «يَقْضي» ذكره أبو البقاء. وقرأ الأعمش وعصمة عن أبي بكر عن عاصم «ليهلَكَ» بفتح اللام، وقياسُ ماضي هذا «هَلِك» بالكسر. والمشهور إنما هو الفتح قال تعالى: ﴿إِن امرؤ هَلَكَ﴾ [النساء: ١٧٦] ﴿حتى إِذَا هَلَكَ﴾ [غافر: ٣٤].
قوله: ﴿مَنْ حَيَّ﴾ قرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم، والبزي عن ابن كثير بالإِظهار، والباقون بالإِدغام. والإِظهارُ والإِدغام في هذا النوع لغتان مشهورتان: وهو كلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة نحو: حَيِي وعَيِيَ. ومن الإِدغام قولُ المتلمس:
٢٤٢٥ - فهذا أَوانُ العِرْضِ حَيَّ ذُبابُه | ............... |
٢٤٢٦ - عَيُّوا بأمرِهِمُ كما | عَيَّتْ ببيضَتِها الحمامَهْ |
والإِراءة هنا حُلْمية واختلف فيها النحاةُ: هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصَريَّة أو لاثنين كالظنيَّة؟ فالجمهورُ على الأول. فإذا دخلت همزةُ النقلِ أَكْسَبَتْها ثانياً أو ثالثاً على حسب القولين، فعلى الأول تكون الكافُ مفعولاً أول، و «هم» مفعول ثان. و «قليلاً» حال، وعلى الثاني يكون «قليلاً» نصباً على المفعول الثالث، وهذا يَبْطُلُ بجواز حَذْفِ الثالث في هذا الباب اقتصاراً، أي من غيرِ دليلٍ تقول: أراني الله زيداً في منامي، ورأيته في النوم، ولو كانت تتعدَّى لثلاثةٍ لَمَا حُذِف اقتصاراً لأنه خبر في الأصل.
قوله: ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ يجوز أن يكونَ مستأنفاً، وأن يكون عطفاً على «بطراً» ورئاء «لأنه مُؤوَّل بالحال أي: بَطرِين ومُرائين وصادِّين الناسَ، وحُذِفَ المفعولُ للدلالة عليه أو تناساه.
قوله: ﴿لاَ غَالِبَ لَكُمُ﴾ «لكم» خبر «لا» فيتعلَّق بمحذوف و «اليوم» منصوبٌ بما تعلَّق به الخبر. ولا يجوز أن يكون «لكم» أو الظرف متعلقاً ب «غالب» لأنه يكونُ مُطوَّلاً، ومتى كان مُطَوَّلاً أُعرب نصباً.
قوله: ﴿مِنَ الناس﴾ بيان لجنس الغالب. وقيل: هو حال من الضمير في «لكم» لتضمُّنه معنى الاستقرار. ومنع أبو البقاء أن يكون «من الناس» حالاً
قوله: ﴿وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ﴾ يجوز في هذه الجملةِ أن تكونَ معطوفةً على قوله «لا غالبَ لكم» فيكون قد عطف جملةً منفيةً على أخرى منفيةٍ. ويجوز أن تكونَ الواو للحال. وألف «جار» من واو لقولهم «تجاوروا» وقد تقدم تحقيقه. و «لكم» متعلقٌ بمحذوف لأنه صفةٌ ل «جار»، ويجوز أن يتعلق ب «جار» لما فيه من معنى الفعل «.
و» الريح «في قوله ﴿ريحكم﴾ كنايةٌ عن الدَّوْلة والغلبة قال:
٢٤٢٧ - إذا هَبَّتْ رياحُكَ فاغتنِمْها | فإنَّ لكلِّ عاصفةٍ سكونا |
٢٤٢٨ - أتَنْظُران قليلاً رَيْثَ غَفْلَتِهِمْ | أم تَعْدُوانِ فإن الريح للعادي |
٢٤٢٩ - قد عَوَّدَتْهمْ ظُباهمْ أن يكونَ لهم | ريحُ القتالِ وأسلابُ الذين لَقُوا |
٢٤٣٠ - كما حَمَيْناك يوم النَّعْفِ مِنْ شَطَطٍ | والفضلُ للقوم مِنْ ريحٍ ومن عَدَدِ |
٢٤٣١ - هم يضربون حَبِيْكَ البَيْضِ إذ لَحِقُوا | لا يَنْكُصُون إذا ما استُلْحِموا لَحِموا |
٢٤٣٢ - ليس النكوصُ على الأَعْقابِ مَكْرُمَةً | إن المكارمَ إقدامٌ على الأَسَلِ |
قوله: ﴿وَذُوقُواْ﴾ هذا منصوب بإضمار قول الملائكة أي: يضربونهم ويقولون لهم: ذوقوا. وقيل: الواو في «يَضْربون» للمؤمنين، أي: يَضْربونهم حالَ القتال وحال تَوَفِّي أرواحِهم الملائكة.
قوله: ﴿وَأَنَّ الله﴾ عطفٌ على «ما» المجرورة بالياء أي: ذلك بسببِ تقديم أيديكم، وبسبب أنَّ الله ليس بظلاَّمٍ للعبيد.
قوله: ﴿وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ﴾ جُمِع الضميرُ في «كانوا» وجُمع «ظالمين» مراعاةً لمعنى «كل» ؛ لأنَّ «كلاً» متى قُطعت عن الإِضافة جاز مراعاةُ لفظِها تارةً ومعناها أخرى، وإنما اختير هنا مراعاةُ المعنى لأجلِ الفواصلِ، ولو رُوعي اللفظُ فقيل مثلاً: وكلٌّ كان ظالماً لم تتَّفق الفواصل.
٢٤٣٣ - غرائِرُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمة | يُحَلَّيْنَ ياقوتاً وشَذْراً مُفَقَّرا |
قوله: ﴿إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين﴾ يُحتمل أن تكون هذه الجملةُ تعليلاً معنوياً للأمر بنبذ العهد على عدل، وهو إعلامُهم، وأن تكونَ مستأنفةً سِيْقَتْ لِذَمِّ مَنْ خان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونَقَضَ عهده.
وفي قراءة الغَيْبةِ تخريجاتٌ كثيرة سَبَقَ نظائرُها في أواخر آل عمران. ولا بد مِنْ ذكر ما ينبِّهك هنا على ما تقدَّم فمنها: أن الفعلَ مسندٌ إلى ضميرٍ يُفَسِّره السياق تقديره: ولا يَحْسَبَنَّ هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو حاسب، أو يكون الضمير عائداً على مَنْ خلفهم. وعلى هذه الأقوالِ فيجوزُ أن يكون «الذين كفروا» مفعولاً أولَ، و «سبقوا» جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً. وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى «الذين كفروا» ثم اختلفوا هؤلاء في المفعولين: فقال قوم: الأولُ محذوفٌ تقديره: ولا يَحْسَبَنَّهم الذين كفروا سبقوا، ف «هم» مفعول أول، و «سَبَقوا» في محلِّ الثاني، أو يكون التقدير: لا يَحْسَبنَّ الذين كفروا أنفسَهم سَبَقوا، وهو في المعنى كالذي قبله. وقال قومٌ: بل «أن» الموصولة محذوفة، وهي وما في حيِّزها سادةٌ مَسَدَّ المفعولين، والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أنْ سبقوا، فحذفت «أن» الموصولة وبقيت صلتها كقوله ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ﴾ [الروم: ٢٤]، أي: أن يريكم وقولهم: «تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خيرٌ من أن تراه» وقوله:
٢٤٣٤ - ألا أيُّهذا الزاجري أحضرُ الوغى | ................ |
قال الزمخشري بعد ذِكْره هذه الأوجهَ: «وليست هذه القراءةُ التي تَفَرَّد بها حمزةُ بنيِّرة». وقد رَدَّ عليه جماعةٌ هذا القولَ وقالوا: لم ينفرد بها حمزةُ بل وافقه عليها مِنْ قُرَّاء السبعةِ ابنُ عامر أسنُّ القراءِ وأعلاهم إسناداً، وعاصمٌ في رواية حفص، ثم هي قراءةُ أبي جعفر المدني شيخِ نافع وأبي عبد الرحمن السلمي وابن محيصن وعيسى والأعمش والحسن البصري وأبي رجاء وطلحة وابن أبي ليلى. وقد رَدَّ الشيخ عليه أيضاً أنَّ «لا يحسبَنَّ» واقع على «أنهم لا يُعْجِزون» وتكونُ «لا» صلة بأنه لا يتأتَّى على قراءة حمزة، فإنَّ حمزة يقرأ بكسر الهمزة يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج؟ قلت: هو لم يلتزم التخريج على قراءةِ حمزة في الموضعين: أعني «لا يَحْسَبَنَّ» وقولهم «أنهم لا يعجزون» حتى نُلْزِمه ما ذكر.
وأمَّا قراءةُ الخطاب فواضحةٌ أي: لا تَحْسبَنَّ يا محمدُ أو يا سامعُ، و «الذين كفروا» مفعولٌ أولُ، والثاني «سبقوا»، وكان قد تقدَّم في آل عمران وجهٌ: أنه يجوز أن يكون الفاعلُ الموصولَ، وإنما أتى بتاءِ التأنيث لأنه بمعنى القوم كقوله: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ﴾ [الشعراء: ١٠٥]، وتقدَّمَ لك فيه بحثٌ وهو عائدٌ ههنا.
وأمَّا قراءةُ الباقين في النور ففيها ما ذُكِر ههنا إلا الوجهَ الذي فيه تقديرُ «أنْ» الموصولة لتعذُّرِ ذلك، ولكن يَخْلُفُه وجهٌ آخر لا يتأتى ههنا: وهو أن يكون «
وقرأ الأعمش: «ولا يَحْسَبَ الذين كفروا» بفتح الباء. وتخريجها أن الفعلَ مؤكَّد بنون التوكيد الخفيفة، فَحَذَفَها لالتقاء الساكنين، كما يُحْذَفُ له التنوين فهو كقول الآخر:
٢٤٣٥ - لا تُهينَ الفقير عَلَّكَ أَنْ تَرْ | كَعَ يوماً والدهرُ قد رفعهْ |
قولهم: ﴿إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ﴾ قرأ ابن عامر بالفتح، والباقون بالكسر. فالفتح: إمَّا على حَذْفِ لام العلة، أي: لأنهم. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر. ووجهُ الاستبعادِ أنها تعليل للنهي أي: لا تَحْسَبَنَّهم فائتين لأنهم لا يُعْجزون، أي: لا يقع منك حسبانٌ لقولهم لأنهم لا يُعْجزون، وإمَّا على أنها بدلٌ من مفعول الحسبان.
وقال أبو البقاء: «إنه متعلقٌ بتحسب: / إمَّا مفعولٌ أو بدلٌ من» سَبَقوا «، وعلى كلا الوجهين تكون» لا «زائدةً. وهو ضعيفٌ لوجهين:
قوله: ﴿لاَ يُعْجِزُونَ﴾ العامَّةُ بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ وهي نونُ الرفع. وقرأ ابن محيصن «يُعْجِزوني» بنونٍ واحدةٍ بعدها ياء المتكلم، وهي نون الوقاية أو نون الرفع. وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في ﴿أتحاجواني﴾. قال الزجاج: «الاختيارُ الفتحُ في النون، ويجوز كسرُها على أن المعنى: لا يُعْجزونني، وتُحْذف النونُ الأولى لاجتماع النونين كما قال عمر بن أبي ربيعة:
٢٤٣٦ - تراه كالثَّغام يُعَلُّ مِسْكاً | يَسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْني |
٢٤٣٧ - ولقد عِلِمْتِ ولا محالةَ أنني | للحادثات فهل تَرَيْني أجزعُ |
وقرأ ابن محيصن أيضاً «يُعْجِزونِّ» بنون مشددة مكسورةٍ، أدغم نونَ الرفع في نون الوقاية وحذف ياء الإِضافة مُجْتزِئاً عنها بالكسرة. وعنه أيضاً فتحُ العين وتشديدُ الجيم وكسر النون، مِنْ «عَجَّز» مشدَّداً. قال أبو جعفر: «
قوله: «تُرْهبون» يجوز أن يكونَ حالاً من فاعل «أعِدُّوا» أي: حَصِّلوا لهم هذا حالَ كونكم مُرْهِبين، وأن يكون حالاً من مفعوله وهو الموصولُ أي: أعِدُّوه مُرْهَباً به، وجاز نسبتُه لكلٍّ منها لأنَّ في الجملة ضميرَيْهما، هذا إذا أَعَدْنا الضمير من «به» على «ما» الموصولة. أمَّا إذا أَعَدْناه على الإِعدادِ المدلول عليه بأَعِدُّوا، أو على الرِّباط، أو على القوة بتأويل الحَوْل فلا يتأتَّى مجيئُها من الموصول. ويجوز أن يكون حالاً من ضمير «لهم» كذا نقله الشيخ عن غيره فقال: «وتُرْهبون قالوا: حال من ضمير» أعِدُّوا «أو من ضمير» لهم «ولم يَتَعَقَّبْه بنكير، وكيف يَصِحُّ جَعْلُه حالاً من الضمير في» لهم «ولا رابط بينهما؟ ولا يصِحُّ تقديرُ ضمير في جملة» تُرْهبون «لأَخْذِه معمولَه.
وقرأ الحسن ويعقوب ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو» تُرَهِّبون «مضعَّفاً عدَّاه بالتضعيف كما عدَّاه العامة بالهمزة، والمفعول الثاني على كلتا القراءتين محذوف لأن الفعل قبل النقل بالهمزة/ أو بالتضعيف متعدٍّ لواحد نحو: رَهَّبْتُك، والتقدير: تُرَهِّبون عدوَّ الله قتالكم أو لقاءَكم. وزعم أبو حاتم أنَّ أبا عمرو نَقَلَ قراءةَ الحسن بياء الغيبة وتخفيف» يُرْهبون «وهي قراءة واضحة، فإن الضميرَ حينئذٍ يَرْجع إلى من يرجع إليه ضمير» لهم «، فإنهم إذا خافوا خَوَّفوا مَنْ وراءهم.
قوله: ﴿عَدْوَّ الله﴾ العامَّة قرؤوه بالإِضافة، وقرأه السلميُّ منوناً، و «لله» بلام الجر، وهو مفرد والمراد به الجنس فمعناه أعداء لله. قال صاحب «اللوامح» :«وإنما جَعَله نكرةً بمعنى العامَّة، لأنها نكرة أيضاً لم تتعرَّفْ بالإِضافة إلى المعرفة؛ لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الحال أو الاستقبال، ولا يتعرَّف ذلك وإن أُضيف إلى المعارف، وأمَّا» وعدوَّكم «فيجوز أن يكونَ كذلك نكرةً، ويجوز أن يتعرَّف لأنه قد أُعيد ذِكْره، ومثله:» رأيت صاحباً لكم، فقال لي صاحبكم «. يعني أن» عدوَّاً «يجوز أن يُلْمَحَ فيه الوصفُ فلا يتعرَّفُ وأن لا يُلْمَحَ فيتعرَّفَ.
قوله: ﴿وَآخَرِينَ﴾ نسقٌ على» عدو الله «و» من دونهم «صفةٌ ل» آخرين «. قال ابن عطية:» من دونهم «بمنزلة قولك» دون أن يكون هؤلاء «ف» دون «في كلام العرب و» من دون «تقتضي عدمَ المذكور بعدها من النازلة التي فيها
قوله: ﴿لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ﴾ في هذه الآية قولان، أحدهما: أنَّ» علم «هنا متعديةٌ لواحدٍ، لأنها بمعنى عرف ولذلك تَعَدَّتْ لواحد. والثاني: أنها على بابها فتتعدى لاثنين، والثاني: محذوف، أي: لا تَعْلَمونهم قارعين أو محاربين. ولا بد هنا من التنبيه على شيء: وهو أن هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله» الله يَعْلمهم «، بل يجب أن يقال: إنها المتعدية إلى اثنين، وإن ثانيهما محذوف، لِما تقدم لك من الفرق بين العِلْم والمعرفة، منها: أنَّ المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل، ومنها: أن متعلقها الذوات دون النسب، وقد نصَّ العلماء على أنه لا يجوز أن يُطْلَقَ ذلك أعني الوصفيةَ بالمعرفةِ على الله تعالى.
٢٤٣٨ - إذا ماتَ فوق الرَّحْلِ أَحْيَيْتُ روحَه | بذكراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ |
٢٤٣٩ - جَوانحَ قد أيقَنَّ أنَّ قبيلَه | إذا ما التقى الجمعانِ أولُ غالبِ |
وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسرِ السين، وكذا في القتال: ﴿وتدعوا إِلَى السلم﴾. وافقه حمزة على ما في القتال. و «للسِّلْم» متعلق ب «جَنَحوا» فقيل: يَتَعدَّى بها وب إلى. وقيل: هي هنا بمعنى إلى. وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنُحْ» بضم النون وهي لغة قيس، والفتح لغة تميم. والضمير في «لها» يعود على «السلم» لأنها تذكَّر وتؤنَّثُ. ومن التأنيث قولُه:
٢٤٤٠ - وأَقْنَيْتُ للحربِ آلاتِها | وأَعْدَدْتُ للسِّلْم أوزارَها |
الثاني: أن «مَنْ» مجرورةُ المحلِّ عطفاً على الكاف في «حَسْبُك» وهو رأيُ الكوفيين، وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد، قالا: معناه: وحسبُ مَن اتَّبعك. الثالث: أن محلَّه نصبٌ على المعيَّة. قال الزمخشري: «ومَن اتبعك» : الواو بمعنى مع، وما بعده منصوبٌ. تقول: «حَسْبُك وزيداً درهمٌ» ولا تَجُرُّ؛ لأن عطفَ الظاهرِ المجرورِ على المُكْنى ممتنعٌ. وقال:
٢٤٤١ - السِّلْمُ تأخذ منها ما رَضِيْتَ به | والحربُ يَكْفيك من أنفاسها جُرَعُ |
٢٤٤٢ -.................. | فَحَسْبَكَ والضحاكَ سيفٌ مُهَنَّدُ |
وقال ابن عطية بعدما حكى عن الشعبي وابن زيد ما قَدَّمْتُ عنهما من المعنى: «ف» مَنْ «في هذا التأويل في محلِّ نصب عطفاً على موضع الكاف؛ لأن موضعَها نصبٌ على المعنى ب» يكفيك «الذي سَدَّتْ» حَسبك «مَسَدَّه». قال الشيخ: «هذا ليس بجيد؛ لأن» حَسْبك «ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في موضع نصب بل هذه إضافة صحيحة ليست مِنْ نصب، و» حسبك «مبتدأ مضافٌ إلى الضمير، وليس مصدراً ولا اسم فاعل، إلا إنْ قيل إنه عطف على التوهم، كأنه تَوَهَّم أنه قيل: يكفيك الله أو كفاك الله، لكن العطفَ على التوهُّم لا ينقاسُ، والذي ينبغي أن يُحمل عليه كلامُ الشعبي وابنِ زيد أن تكون» مَنْ «مجرورةً ب» حَسْب «محذوفةً لدلالة» حَسْبك «عليها كقوله:
٢٤٤٣ - أكلَّ امرئ تحسبين أمرأً | ونارٍ توقَّدُ بالليل ناراً |
وجَوَّز أبو البقاء فيه الرفعَ من ثلاثة أوجه أحدها: أنه نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم، إلا أنه قال: فيكون خبراً آخر كقولِك:» القائمان/ زيد وعمرو، ولم يُثَنِّ «حَسْبك» لأنه مصدرٌ. وقال قوم: هذا ضعيفٌ؛ لأن الواوَ للجمع ولا يَحْسُن ههنا، كما لا يَحْسُن في قولهم: «ما شاء الله وشئت». و «ثم» هنا أولى «، قلت: يعني أنه من طريق الأدب لا يؤتى بالواو التي تقتضي الجمع، بل تأتي ب» ثم «التي تقتضي التراخي، والحديثُ دالٌّ على ذلك. الثاني: أن يكونَ خبرَ مبتدأ محذوف تقديرُه: وحسب مَنْ اتبعك. والثالث: هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره: ومَن اتبعك كذلك أي: حسبهم الله.
وقرأ الشعبي» ومَنْ «بسكون النون» «أَتْبَعَك» بزنة أَكْرمك.
٢٤٤٤ - إني امرؤ رابني همٌّ فأَحْرَضني | حتى بُلِيْتُ وحتى شفَّني سَقَم |
قوله: ﴿إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ﴾ الآيات: أثبت في الشرط الأول قيداً وهو الصبرُ وحَذَفَ من الثاني، وأثبت في الثاني قيداً وهو كونُهم مِن الكفرة وحَذَف من الأول. والتقدير: مئتين من الذين كفروا ومئة صابرة، فحذف من كلٍ منهما ما أثبتَ في الآخر وهو في غاية الفصاحة.
وقرأ الكوفيون: ﴿وإن يكنْ منكم مئة يَغْلبوا﴾ ﴿فإن يكنْ منكم مئة صابرة﴾ بتذكير» يكن «فيهما. ونافع وابن كثير وابن عامر بتأنيثه فيهما، وأبو عمرو في الأولى كالكوفيين، وفي الثانية كالباقين. فَمَنْ ذَكَّرَ فللفَصْل بين الفعل وفاعله بقوله» منكم «؛ ولأن التأنيث مجازي، إذ المراد بالمئة الذُّكور. ومن أنَّث فلأجلِ الفصلِ، ولم يلتفت للمعنى ولا للفصل. وأمَّا أبو عمرو
وأمَّا» إنْ يكنْ منكم عشرون «» وإن يكنْ منكم أَلْفٌ «، فبالتذكير عند جميع القرَّاء إلا الأعرج فإنه أنَّث المسند إلى» عشرون «.
وقرأ الأعمش:» حَرِّصْ «بالصاد المهملة وهو من الحِرْص، ومعناه مقاربٌ لقراءة العامة. وقرأ المفضل عن عاصم:» وعُلِم «مبنياً للمفعول، و» أن فيكم ضعفاً «في محل رفع لقيامه مقامَ الفاعل، وهو في محلِّ نصبٍ على المفعولِ به في قراءة العامَّة لأنَّ فاعلَ الفعلِ ضميرٌ يعودُ على الله تعالى. و» يكن «في هذه الأماكن يجوز أن تكون التامَّةَ ف» منكم «: إمَّا حالٌ من» عشرون «لأنها في الأصل صفةٌ لها، وإمَّا متعلق بنفس الفعل لكونه تاماً، وأن تكونَ الناقصةَ، فيكون» منكم «الخبرَ، والمرفوعُ الاسمَ وهو» عشرون «و» مئة «و» ألف «.
قوله:» ضعفاً «قرأ عاصم وحمزة هنا وفي الروم في كلماتها الثلاث: ﴿اللهُ الذي خَلَقكم مِنْ ضعف، ثم جَعَل من بعد ضعفٍ قوة، ثم جَعَلَ من بعد قوةٍ ضعفاً﴾ بفتح الضاد، والباقون بضمها، وعن حفص وحدَه خلافٌ في الروم خاصةً.
وقرأ عيسى بن عمر «ضُعُفاً» بضم الفاء والعين، وكلُّها مصادرُ. وقيل: الضَّعْفُ بالفتح في الرأي والعقل، والضم في البدن، وهذا قول الخليل بن أحمد، هكذا نقله الراغب عنه. ولمَّا نقل ابن عطية هذا عن
وقوله: ﴿يُثْخِنَ﴾ قرأ العامة «يُثْخن» مخففاً عدَّوه بالهمزة، وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر «يُثَخِّن» بالتشديد، عَدَّوْه بالتضعيف وهو مشتقٌّ من الثَّخانة، وهي الغِلْظ والكثافة في الأجسام، ثم يُستعار ذلك في كثرة القتل والجراحات فيقال: أَثْخَنَتْه الجراح أي: أثقلته حتى أَثْبَتَتْه، ومنه ﴿حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ﴾ [محمد: ٤]. وقيل: حتى تقهر. والإِثخان: القهر. أنشد المفضل:
٢٤٤٥ - تُصَلِّي الضُّحى ما دهرُها بتعبُّدٍ | وقد أَثْخَنَتْ فرعونَ في كفره كفرا |
قوله: ﴿والله يُرِيدُ الآخرة﴾ الجمهور على نصب «الآخرة»، وقرأ سليمان بن جماز المدني بجرها، وخُرِّجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جَرِّه. وقدَّره بعضهم: عَرَض الآخرة، فعيب عليه إذ لا يحسن أن يقال: والله يريد عرض الآخرة، فأصلحه الزمخشري بأنْ جَعَله كذلك لأجل المقابلة قال «يعني ثوابها». وقدَّره بعضُهم بأعمال أو ثواب. وجعله أبو البقاء كقول الآخر:
................. | ونارٍ تَوَقَّدُ بالليلِ نارا |
قوله: ﴿حَلاَلاً﴾ نصبٌ على الحال: إمَّا من «ما» الموصولة أو مِنْ عائدِها إذا جعلناها اسميةً. وقيل: هو نعتُ مصدرٍ محذوف أي: أكلاً حلالاً.
قوله: ﴿واتقوا الله﴾ قال ابن عطية: «وجاء قوله:» واتقوا الله «اعتراضاً فصيحاً في أثناء القول، لأنَّ قولَه: ﴿إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ متصلٌ بقوله: ﴿فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ﴾ يعني أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له.
قوله: ﴿يُؤْتِكُمْ﴾ جواب الشرط. وقرأ الأعمش: «يُثِبْكم» من الثواب. وقرأ الحسن وأبو حيوة وشيبة وحميد «ممَّا أَخَذَ» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى.
٢٤٤٦ - على مُكْثريهم رِزْقُ مَنْ يَعْتريهم | وعند المُقِلِّين السماحةُ والبَذْلُ |
وقال أبو عبيد:» والذي عندنا الأَخْذُ بالفتح في هذين الحرفين، لأنَّ معناهما مِنَ الموالاة في الدين «. وقال الفارسي:» الفتحُ أَجْود لأنها في الدين «، وعَكَس الفراء هذا فقال:» يُريد مِنْ مواريثهم، بكسر الواو أحبُّ