تفسير سورة الأنفال

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه المظهري . المتوفي سنة 1216 هـ
بسم الله الرحمان الرحيم
سورة الأنفال
آياتها خمس وسبعون وهي مدنية

روى ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي والحاكم وابن ماجة وابن حبان وعبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد وابن عابد وابن مردويه وابن عساكر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم :( من قتل قتيلا فله كذا أو كذا ومن اسر أسيرا فله كذا وكذا ١ ) وفي رواية ابن مردويه من طريق فيه الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس وعن عطاء عن ابن عجلان عن عكرمة عنه بلفظ ( من قتل قتيلا فله سلبه ) فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقال : المشيخة للشبان أشركونا معكم فانا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء لجئتم إلينا فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء أبو اليسر بأسيرين فقال : يا رسول الله قد وعدتنا، فقام سعد بن معاذ فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء وانه لم يمنعنا من هذا زهادة في الآخرة ولا جبن عن العدو ولا ضعن بالحياة أن نصنع ما صنع إخواننا ولكنا رأينا قد أفردت فكرهنا أن تكون بمضيعة وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك ان يأتوك وراءك فتشاجروا فنزلت ﴿ يسألونك ﴾ يا محمد ﴿ عن الأنفال ﴾ يعني ان الغنائم لمن هي، والأنفال الغنم لأنها من فضل الله وعطائه ﴿ قل ﴾ لهم يا محمد ﴿ الأنفال لله ﴾ ملكا ﴿ والرسول ﴾ تصرفا يقسمها الرسول على ما يأمره الله تعالى يعني أمرها مختص بهما، قال : ابن عباس فيما رواه الأئمة المذكورون : فنزعه الله تعالى من أيديهم فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين على بواء أي سواء فكان ذلك تقوى الله وطاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلموا صلاح ذات البين كما قال : الله تعالى ﴿ فاتقوا الله ﴾ في الاختلاف والمشاجرة ﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾ يعني الصفة التي بينكم من المواساة والألفة والمساعدة فيما رزقكم الله تعالى وتسليم أمره الى الله تعالى ورسوله، قال : الزجاج : يعني ذات بينكم حقيقة وصلكم والبين الوصل ﴿ وأطيعوا الله ورسوله ﴾ فيما أمرتم به في الغنائم وغيرها ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ شرط استغنى عن الجزاء بما مضى، يعني إن كنتم مؤمنين كاملي الإيمان ففعلوا ذلك فان مقتضى كمال الإيمان الإطاعة في الأوامر والاتقاء عن المعاصي وإصلاح ذات البين بالعدل والإحسان والإيثار، وذكر البيضاوي الحديث بلفظ شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن كان له غناءان ينفله فتسارع شبانهم حتى قتلوا سبعين واسروا سبعين ثم طلبوا نفلهم وكان المال قليلا فقال : الشيوخ والوجوه الذين كانوا عند الرايات كنا ردءا لكم وفئة تتحاذون إليها فنزلت فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، ثم قال : البيضاوي : ولهذا لا يلزم الإمام ان يفيء بما وعدهم وهو قول الشافعي رحمه الله. وروى ابن أبي شيبة واحمد وعبد بن حميد وابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر وقتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص وأخدت سيفه وكان يسمى ذا الكتيفة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فنفلني هذا السيف فانا من قد علمت حاله، قال : هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته ثم رجعت، قلت : عسى ان يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلى بلائي فرجعت فقال : اذهب فاطرحه في القبض فرجعت وبي ما لا يعلمه إلا الله تعالى من قتل أخي واخذ سلبي فرجعت به حتى إذا أردت أن القيه لا متني نفسي فرجعت إليه، فقلت : أعطنيه فشد بي صوته فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ( اذهب فخذ سيفك ) وفي رواية فجأني الرسول انك سألتني وليس لي وانه قد صار لي وهو لك ؛ وروى البخاري في تاريخه عن سعد بن جبير ان سعدا ورجلا من الأنصار خرجا ينتفلان فوجدا سيفا ملقى فخرا عليه فقال : سعد هو لي وقال الأنصاري هو لي لا أسلمه حتى أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه فقص عليه القصة، فقال رسول الله عليه وسلم : ليس لك يا سعد ولا للأنصاري فنزلت ﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ الآية ثم نسخت هذه الآية بقوله تعال ﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى ﴾ ٢ وروي ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم و البيهقي في السنن عن ابن عباس قال : الأنفال المغانم ليس لأحد منها شيء ما أصاب وروي ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم و البيهقي في السنن عن ابن عباس قال : الأنفال المغانم كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها ما أصاب من سرايا المسلمين من شيء أتوه فمن حبس إبرة أو سلكا فهو غلول فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم منها شيئا فأنزل الله تعالى ﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال ﴾ لي جعلتها لرسولي ليس لكم منها شيء﴿ فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم ﴾ إلى قوله ﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾ ثم أنزل الله ﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء ﴾ الآية ثم قسم ذلك الخمس لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وجعل أربعة أخماسه للناس فيه سواء للفرس سهمان ولصاحبه سهم وللراجل سهم.
قال محمد بن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد : ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقسم الغنائم على السواء قال : سعد بن معاذ يا رسول الله أتعطي فارس القوم الذي يحميهم مثل ما تعطي الضعيف ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ثكلتك أمك وهل تنصرون إلا بضعفائكم " و نادى مناديه صلى الله عليه وسلم : من قتل قتيلا فله سلبه ومن أسر أسيرا فهو له – كان يعطي من قتل قتيلا سلبه -.
وروي سعيد بن منصور وأحمد وابن المنذر وابن حبان والحاكم و البيهقي في السنن عن عبادة بن الصامت قال : التقى الناس فهزم الله العدو و انطلقت طائفة إلى آثارهم يأسرون ويقتلون وأكبت طائفة على العسكر يجوزنه ويجمعونه وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة، حتى إذا كان الليل وأفاء الناس بعضهم إلى بعض قال : الذين جمعوا الغنائم نحن جمعناها و حويناها فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو لستم بأحق منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم حفظنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به فنزلت ﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ الآية
١ أخرجه أبو داود في كتاب الجهاد، باب: في النفل (٢٧٣٦).
٢ سورة الأنفال، الآية ٤١.
﴿ إنما المؤمنون ﴾ الكاملون الإيمان ﴿ الذين إذ ذكر الله وجلت ﴾ خافت وفزعت ﴿ قلوبهم ﴾ استعظاما وتهيبا من جلاله وعزة سلطانه، وقيل لا هو الرجل يهم بالمعصية فيقال له اتق فينزع منه خوفا من عقابه فالمعنى إذا اذكر وعيد الله بحذف المضاف ﴿ وإذا تليت عليهم آياته زادته إيمانا ﴾ لاطمئنان النفي بنزول البركات عند تلاوة القرآن ورسوخ اليقين بتظاهر الأدلة ﴿ وعلى ربهم يتوكلون ﴾ يفوضون أمورهم إليه ولا يخشون ولا يرجون أحدا إلا إياه
﴿ الذين يقيمون الصلاة ﴾ أي يأتونها بحقوقها ويقيمونها كما يقام القداح ﴿ زمما رزقناهم ينفقون ﴾ أعطيناهم ﴿ ينفقون ﴾ في سبيل الله
﴿ أولئك ﴾ الموصوفون بمكارم أعمال القلوب من الإخلاص والخشية والتوكل واطمئنان الأنفس بذكر الله ومحاسن أعمال الجوارح من الصلاة والصدقة ﴿ هم المؤمنون حقا ﴾ صفة لمصدر محذوف أي إيمانا حقا ومصدر مؤكد يعني إيمانه حقا لا شبهة فيه.
عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت ؟ قال : إن كنت تسألني عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه رسله والجنة والنار والبعث والحساب فأنا وإن كنت تسألني عن قوله تعالى ﴿ إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ﴾ الآية فلا أدري أمنهم أنا أم لا.
قلت مراد الحسن أن كما الإيمان بالإخلاص وتصفية القلب وتزكية النفس و تحلية الجوارح بالطاعات وترك المعاصي وذلك أمر نادر لا أدري اتصاف نفسي به وأما نفس الإيمان فموجود بفضل الله فليس هذا من قبيل أنا مؤمن إن شاء الله وقال علقمة : كنا في سفر فلقينا قوما من هؤلاء قالوا : نحن المؤمنون حقا فلم ندر ما نجيبهم حتى لقيا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فأخبرناه بما قالوا : قال فما رددتم عليهم ؟ قلنا : لم نرد عليهم قال : هلا قلتم أمن أهل الجنة أنتم ؟ إن المؤمنين أهل الجنة.
وقال الثوري : من زعم أنه مؤمن حقا أو عند الله ثم لم يشهد أنه في الجنة فقد آمن بنصف الآية دون النصف، وبهذا يتشبث من يقول : أنا مؤمن إن شاء الله يعني المراد بالاستثناء عدم الجزم بحسن الخاتم الموجب لكونه من أهل الجنة لا الشك في إيمانه الحالي ذات الشك ينافي الإيمان الاعتقا د الجازم، وكان أبو حنيفة رحمه الله يكره هذا القول لكونه موهما للشك المنافي للاعتقاد الجازم يقول : أنا مؤمن حقا باعتبار حصول الاعتقاد الجازم في الحال لا بمعنى الجازم بحسن الخاتمة فالنزاع إنما هو في اللفظ دون المعنى لكن الأحوط قول أبي حنيفة.
قال أبو حنيفة لقتادة : لم تستثني في إيمانك ؟ قال : اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله :﴿ والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين ( ٨٢ ) ١ فقال له هلا اقتديت به في قوله :{ قال نؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾ ٢وعن إبراهيم التميمي قال : قل أنا مؤمن حقا فإن أثبت عليه وإن كذبت فكفرك أشد عليك من ذلك.
وعن ابن عباس من لم يكن منافقا فهو مؤمن حقا ﴿ لهم درجات ﴾ كرامة وفضل وعلو منزلة ﴿ عند ربهم ﴾ نظيره قوله تعالى ﴿ تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ﴾ ٣ وقال عطاء : درجات الجنة يرتقونها بأعمالهم.
عن عبادة بن الصامت قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض والفردوس أعلاها درجة منه تفجر انهار الجنة الأربعة ومن فوقها يكون العرش فإذا سألتم الله فاسألوا الفردوس " ٤ رواه الترمذي، وقال البغوي قال : الربيع بن أنس سبعون درجة ما بين كل درجتين الفرس المضمر سبعين سنة ﴿ مغفرة ﴾ لما فرط منهم ﴿ ورزق كريم ﴾ حسن أعد الله لهم في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر ببال أحد ولا ينقطع أبدا
١ سورة الشعراء الآية ٨٢..
٢ سورة البقرة الآية ٢٦٠..
٣ سورة البقرة ٢٥٣..
٤ أخرجه الترميذي في كتاب: صفة الجنة، باب: ما جاء في صفة درجات الجنة ٢٥٣١.
﴿ كما أخرجك ربك من بيتك ﴾ الذي بالمدينة أو المراد بالبيت المدينة نفسها لأنها مهاجره مسكنه فهي مختصة به كاختصاص البيت بصاحبه ﴿ بالحق ﴾ متعلق بإخراج أي إخراجا متلبسا بالحكمة والصواب لقتال الكفار ببدر، وقوله كما أخرجك إما مبتدأ محذوف تقديره هذا الحال يعني كون الأنفال لله والرسول وتقسيم رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنفال بين الناس على السواء وكراهة بعض الناس يعني الشبان المقاتلة ثابت كحال إخراجك الله للحرب وكراهيتهم به، أو صفة لمصدر الفعل المقدر في قوله لله والرسول أي الأنفال ثبت لله والرسول مع كراهيتهم ثباتا ثبات إخراجك ربك من بيتك كذا قال : المبرد : وقيل : تقديره امض لأمر الله تعالى في الأنفال وإن كرهوا كما مضيت أمر الله في الخروج من البيت.
قصة غزة بدر
والسبب في خروج النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمع أبا سفيان بن حرب مقبلا من الشام من ألف بعير لقريش فيها أموال عظام ولم يبق بمكة ولا قرشية له مثقال فصاعدا إلا بعث به في العير فقال : إن فيها خمسين ألف دينار وفيها سبعين رجلا كذا ذكر ابن عقبة وابن عابد.
قال البغوي : قال : ابن عباس وابن الزبير ومحمد بن إسحاق و السدي أقبل أبو سفيان من الشام في أربعين راكبا من كبار قريش فيهم عمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل الزهري فندب رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج معه وقال " هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا لعل الله أن يغنمكوها " فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وتخلف عنه بشر كثير وكان من تخلف لم يلم، أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا ولم يحتفل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم احتفالا بليغا فقال : من كان ظهره حاضرا فليركب معنا فجعل رجال يستأذنوه من ظهورهم في علو المدينة قال : لا إلا من كان ظهره حاضرا. وبعث رسول الله صلى الله عليه قبل خروجه من المدينة بعشر ليال طلحة بن عبيدة الله وسعيد بن زيد إلى طريق الشام يتجسسان خبر العير، فبلغا أرض خوار فنزلا على كشد بن مالك الجهني فأجارهما وأنزلهما وكتم عليها حتى مرت العير ثم خرجا وخرج معهما كشد حتى أورد هما ذا المروة، فقدما ليخبرا رسول الله صلى الله عليه فوجداه قد خرج فلما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبع أقطعه الكشد، فقال يا رسول الله إني كبير لكن أقطعها لأبن أخي فأقطعه إياها فابتاعها منه عبد الرحمان بن سعد بن زرارة رواه عمر بن شيبة وأدرك أبا سفيان رجل من خدام بالرزقا فأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظر رجوع العير فخرج أبو سفيان ومن معه خائفين للرصد ولما دنا أبو سفيان من الحجاز جعل يتجسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان نخوفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمد صلى الله عليه وسلم قد استنفر لك ولعيرك فحذر عند ذلك، واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري بعشرين مثقالا فبعثه إلى مكة وأمره أن يجدع بعيره ويحول رحله ويشق قميصه قبله ومن دبره إذا يأتي قريشا وليستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه فخرج ضمضم مسرعا إلى مكة وفعل ما أمره به أبو سفيان.
ذكر منام عاتكة
روى ابن إسحاق والحاكم و البيهقي من طريق عكرمة عن ابن عباس وموسى بن عقبة وابن اسحاق عن عروة و البيهقي عن ابن شهاب قالوا : رأت عاتكة بنت عبد المطلب فيما يرى النائم قبل مقدم ضمضم على قريش بثلاث ليال رؤيا فأصبحت عاتكة فأعظمتها، فبعث إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقال : له : يا أخي لقد رأيت رؤيا أفظعتني ليدخلن على قريش منها شر وبلاء، فقال : ماهي ؟ فقالت : لن أحدثك حتى تعاهدني أنك لا تذكرها فإنهم إن يسمعوها آذونا وأسمعونا ما لا نحب فعاهد العباس، فقال : رأيت أن رجلا أقبل على بعير فوق الأبطخ فصاح بأعلى صوته انفروا يا آل عذر إلى مصارعكم في ثلاث صيحات ما رأى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه ثم مثل به بعيره فإذا هو على رأس الكعبة فصاح ثلاث صيحات فقال : انفروا يا آل عذر إلى مصارعكم في ثلاث، ثم أرى بعيره مثل على رأس أبي قبيس فقال : انفروا يا آل عذر إلى مصارعكم في ثلاث ثم أخذ صخرة عظيمة فنزعها من أصلها فأرسلها من أصل الجبل فأقبلت الصخرة تهوي لها حس شديدة حتى إذا كانت في أسفل رفضت فما بقيت دار من دور قومك ولا بيت إلا دخل فلقه.
فقال العباس والله إن هذه لرؤيا فاكتميها لئن بلغت هذه قريشا ليؤذوننا فخرج العباس من عندها فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس وكان صديقا له فذكرها واستكتمه إياها فذكرها الوليد لأبيه عتبة فتحدث بها و فشى الحديث بمكة حتى تحدثت به قريش.
قال العباس فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة فلما رآني قال : يا أبا فضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم، فقال : لي أبو جهل : يا بني عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية، قلت وما ذاك ؟ قال : رؤيا عاتكة، قلت وما رأت ؟ قال يا بني عبد المطلب ما رضيتم أن تنبأ رجالكم حتى تنبأ نساءكم ولفظ ابن عقبة أما رضيتم يا بني هاشم يكذب الرجال حتى جئتم بكذب النساء إنا كنا و إياكم كفرسي رهان فاستبقنا المجد منه فلما تحاكت الركب قلتم منا نبي يفي إلا أن تقولوا منا نبية فما أعلم في قريش أهل بيت كذب امرأة ولا رجلا منكم وآذاه أشد الإذاء قد زعمت عاتكة في رؤيا ها أنه قال : انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك حقا ما تقول فسيكون وإن تمضي الثلاث ولم يكن كتبنا عليكم كتابا أنكم أكذب أهل في العرب.
قال العباس فو الله ما كان مني إليه كثيرا إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا وعند أبي عقبة في هذا الخبر ان العباس قال : لأبي جهل : هل أنت منته فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك فقال : من حضرهما : ما كنت جهولا يا أبا الفضل و ولا أحمق خرقا، وكذلك قال : ابن عابد وزاد مهلا يا مصفر أستة. ولقي العباس عاتكة أذى شديدا حين أفشا حديثها لهذا الفاسق، قال العباس : فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني قال أقررتم لهذا الخبيث الفاسق أن يقع في رجالكم ثم قد تناول نساءكم وأنت تسمع ثم لم يكن عندك كبير شيء مما سمعت، قلت : قد والله قدما نعت ما كان مني إليه كبير شيء مما سمعت ولهم الله لا تعرض له فإن عاد لأكفيكنه، قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا جديد مغضب أرى أني فاتتني منع أمر أحب أن أدركه منه قال : فدخلت المسجد فرأيته والله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال : فأقع به وكان رجلا خفيفا حديد الوجه جديد اللسان حديد النظر إذا خرج نحو باب المسجد يشتد قلت : في نفسه ماله لعنه الله أكل هذا فرقا مني أن أشاتمه قال : وإذا هس قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمر يصرخ في بطن الوادي واقفا على بعيره وحول رجله وشق قميصه وهو يقول : يا معشر قريش يا آل لوت بن غالب اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أب سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا أدري تدركوها الغوث والله ما أرى الغوث الغوث والله ما أرى ان تدركوها ففزعت قريش أشد الفرع وأشفقوا من رؤيا عاتكة فشغله ذلك عني وشغلني عنه ما جاء من الأمر وقالت عاتكة شعر :
ألم تكن رؤيا بحق وجاءكم بتصديقها قل من القوم هارب
فقلت ولم أكذب كذبت وإنما يكذبنا بالصدق من هو كاذب
فتجهز الناس سراعا وقالوا : يظن محمد وأصحابه أن يكون كعير ابن الحضرمي كلا والله ليعلمن غير ذلك فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانة رجلا، وكان جهازهم في ثلاثة أيام ويقال يومين وأعان قويهم ضعيفهم ولم يتركوا كارها للخروج يظنون أنه في صف محمد وأصحابه ولا مسلما يعلمون إسلامهم ولا أحد من بني هاشم إلا من لا يتهمونه إلا أشخاصه معهم وكان ممن أشخص العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وطالب و عقيل ابني أبي طالب في آخرين، ولم يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعثا إلا أبا لهب مشوا إليه فأبى أن يخرج أو يبعث أحدا ويقال : إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة وأسلم بعد ذلك وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه فاستأجره بها على أن يجري عن بعثه فخرج عنه، وتخلف أبو لهب منعه من الخروج رؤيا عاتكة فإنه كان يقول : رؤيا تأخذ باليد و استقسم أمية بن خلف وعتبة بن الشيبة وزمعة بن الأسود وعامر بن وهب وحاكم بن خرام وغيرهم عند هبل بالآمر والناهي من الأزلام فخرج القدح النهاهي من الخروج فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل، ولما أجمع أمية بن خلف العقود وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا أتى عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المجلس بين ظهراني قومه في منارة و مجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال يا أبا علي فإنما أنت من النساء، فقال : قبحك الله وقبح ما جئت به ثم جهز فخرج مع الناس.
قال ابن إسحاق وغيره ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا السير وخرجوا على الصعب و الذلول معهم القيان والدفوف ذكروا ما بينهم وبين بني بكر ابن عبد مناة بن كنانة من الدماء فقالوا : إن نخشى ان يأتينا من خلفنا فكاد ذلك أن يثنيهم، فبدا لهم عدو الله إبليس في صورة سراقة بن مالك الكتاني وكان من أشراف بني كنانة فقال : أنا جار لكم من أن يأتيكم كنانة من خلفكم شيء تكرهونه فخرجوا في خمسين وتسعمائة مقاتل وقيل : في ألف، وكان معهم مائتا فرس وستمائة درع ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي فلم يخرج معهم منهم أحد فقال : ابن عقبة وابن عابد وأقبل المشركين ومعهم إبليس يعدهم أن بني كنانة وراءهم قد أقبلوا لنصرهم وأنه لا غالب لكم من الناس وإني جار لكم.
قال في الامتناع : فلما نزلوا بمر الظهران نحر أبو جهل عشر جزور فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمها ورأى ضمضم بن عمرو أن وادي مكة يسيل دما من أسفله وأعلاه ونحر لهم أمية بن خلف بعسيف تسعا ونحر سهيل بن عمرو بقديد عشرا وأسلم بعد ذلك ثم مالوا من قديد إلى مياه نحو البحر فظلوا فيها فأقاموا بها فنحر لهم يوئد عقبة بن ربيعة عشرا ثم أصبحوا بالابواء فنحر لهم نبيه ومنبه ابنا الحجاج عشرا عشرا ثم أكلوا من أزوادهم. فلما وصلوا الجحفة عشاء نزلوا هناك، روى البيهقي عن ابني شهاب وابن عقبة وعروة بن الزبير قالوا : لما نزلت قريش بالجحفة فيهم رجل من بني المطلب بن عبد مناة يقال له جهيم بن الصلت بن مخرمة وأسلم بعد ذلك في حنين فوضع جهيم رأسه فأغفى فقام : لأصحابه هل رأيتم الفارس الذي وقف علي آنفا ؟ قالوا : إنك مجنون، قال : قد علي فارس آنفا، فقال : قتل أبو جهل وعتبة بن ربيعة وشيبة وزمعة وأبو البختري وأمية بن خلف وعد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش ثم رأيته ضرب في في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما خباء من أخبية العسكر إلا أصابه من دمه فقال : أصحابه : إنما لعب بك الشيطان، ودفع الحديث إلى أبي جهل فقال : قد جئتم بكذب بني المطلب مع كذب بني هاشم. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة واستخلف ابن أم مكتوم عليه الصلاة ورد أبا لبابة من الروحاء واستخلفه على المدينة، قال : ابن سعد : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم السبت لاثني عشرة ليلة خلت من رمضان، وقال ابن هشام لثمان وضرب عسكره ببثر أبي عتبة على ميل من المدينة فعرض أصحابه وورد من استصغرهم منهم فرد عبد الله بن عمر وأسامة بن زيد ورافع بن خديج والبراء بن عازب وأسد بن حضير وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت وعمي
﴿ يجادلونك في الحق ﴾ في إيثارك الجهاد إظهار للحق لإيثارهم تلقي العير عليه، وجدالهم قولهم : ما لنا طاقة لقتال القوم ولكنا أردنا العير ﴿ بعد ما تبين ﴾ لهم بإعلام رسول الله صلى الله عليه أنهم ينصرون، وذلك أنه نزل جبرئيل عليه السلام حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالروحاء وقال : إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير وإما قريش، ﴿ كأنما يساقون إلى الموت ﴾ متعلق بقوله ﴿ لكارهون. . . ﴾ يعني يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت وهو يشاهد أسبابه وذلك بقلة عددهم وعدم تأهبهم، وقال ابن زيد هؤلاء المشركون جادلوا في الحق كأنما يساقون إلى الموت ﴿ وهم ينظرون ﴾
﴿ وإذ يعدكم الله ﴾ متعلق بمحذوف يعني اذكر إذ يعدكم الله ﴿ إحدى الطائفتين ﴾ إما العير وإما قريش وهذا ثاني مفعولي يعدكم وقد أبدل عنها ﴿ أنها لكم ﴾ بدل الإشتمال ﴿ وتودون أن غير ذات الشوكة ﴾ أي الشدة والقوة والحدة مستعار من الشوك يعني العير ﴿ تكون لكم ﴾ لكثرة المال وعدم القتال، روي ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كان الله تعالى وعدهم إحدى الطائفتين وكانوا أن يلقوا العير أحب إليهم لكونهم أيسر شوكة فلما سبقت العير وفاتت رسول الله صلى الله عليه وسلم سار رسول الله صلى الله عليه بالمسلمين يريد القوم فكره القوم مسيرهم لكثرة القوة ﴿ ويريد الله أن يحق الحق ﴾ أي يظهره ويعليه ﴿ بكلمته ﴾ للواحي بها في هذه الحال يعني بأمره إياكم بالقتال أو بأوامره للملائكة بالإمداد، وقيل : بمواعدة التي سبقت من إظهار الدين وإعزازه ﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾أي يستأصلهم حتى لا يبقى أحد من كفار العرب إلا يقتل أو يسلم، يعني أنكم تريدون أن تصيبوا مالا ولا تلقوا مكروها والله يرد إعلاء الدين وإظهار الحق وما يحصل لكم فور الدارين
﴿ ليحق الحق ﴾متعلق بيقطع أو بمحذوف تقديره فعل ما فعل ليثبت الإسلام ﴿ ويبطل الباطل ﴾ يعني الكفر وليس في الكلام تكرير فإن الأول لبيان المراد وبيان ما بين مراده تعالى ومرادهم من التفاوت والثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول إلى اختيار ذات الشوكة ونصرة عليها ﴿ ولو كره المجرمون ﴾ يعني المشركين ذلك. رجعنا إلى القصة : ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذفران فسلك ثنايا يقال له الأصافر ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدية وترك الحنان عن يمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم، ثم نزل قريبا من بدر فركب هو وأبو بكر الصديق حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عن قريش وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم قال : الشيخ بلغني ان محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا فإن كان الذي أخبرني صدقني فهو اليوم بمكان كذا المكان الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا فإن كان الذي أخبرني صدق فهم اليوم في مكان كذا المكان الذي فيه قريش، ثم قال : من أنتما ؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نحن من ماء. قال : ابن إسحاق : ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له فأصابوا رواية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج وأبو يسار غلام بني العاص بن سعيد فأتوا بهما فسألوهما ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالا : نحن سقاط قريش بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما فلما إذ لقوهما قالا : نحن لأبي سفيان فتركوهما وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش، قالا : هم وراء هذا الكثيب الذي يرى بالعدوة القصوى والكثيب العقنقل، فقال : لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم كم القوم ؟ قالا : كثير، قال ما عدتهم ؟ قالا : لا ندري، قال كم ينحرون كل يوم ؟ قال : يوما تسعا ويوما عشرا، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم بين التسعمائة والألف، ثم قال : لهما رسول الله صلى الله عليه : ما بين التسعمائة والألف، ثم قال : لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من فيهم من الأشراف ؟ قالا : عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبو البختري ابن هشام وحكيم بن حزام ونوفل بن خويلد والحارث بن عامر وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وربيعة الأسود وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وسهل بن عمرو وعمرو بن عبود، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" هذه مكة قد ألقت إليكم فلاذ كبدها " قال ابن عابد : وكان مسيرهم وإقامتهم حتى بلغوا الجحفة عشر ليال وكان بسيس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء قد مضيا إلى بدر فأناخا إلى تل قريب من الماء ثم أخذ أشنانهما يسقيان فيه ومجدي بن عمر الجهني على الماء فسمع عدي وبسيس جاريتين من جوار الحاضر يتلازمان على الماء والملزومة تقول بصاحبتها إنما يأتي العير غدا أو بعد غد فاعمل لهم ثم أعطيك الذي لك، قال : مجدي صدقت وسمع ذلك عدي وبسيس فجلسا على بعيرهما ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا. قال : ابن إسحاق وغيره : وأقبل أبو سفيان بالعير وقد خاف خوفا شديدا حين دنوا المدينة واستبطأ ضمضم بن عمرو النضير حتى ورد بدرا وهو خائف وتقدم أبو سفيان أمام العير حذرا حتى ورد الماء فرأى مجدي ابن عمرو الجهني فقال : هل أحسست أحدا ؟ قال : ما رأيت أحدا أنكره إلا أني رأيت راكبين يعني بسيسا وعيا قد أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما ثم انطلقا، فأتى أبو سفيان إلى مناخهما فأخذ من أبعار بعيرهما ففته فإذا فيه النوى فقال : هذه والله علاف يثرب فرجع إلى أصحابه سيرا فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها وترك بدرا بيسار وانطلق وأسرع فسار ليلا ونهارا فرقا من الطلب، فلما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش قيس بن أمراء القيس إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم وقد نجاها الله تعالى فارجعوا فأتاهم الخبر وهم بالحجفة، فقال : أبو جهل والله لا نرجع حتى نرد بدرا موسما من مواسم العرب يجتمع به سوق كل عام فقيم عليه ثلثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف القينات ويسمع بنا العرب وبمسيرنا فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها وكره أهل الرأي المسير و مشى بعضهم إلى بعض، وكان ممن أبطأهم عن ذلك الحارث بن عامر وأمية بن خلف وعتبة ابنا ربيعة وحكيم بن حزام وأبو البختري وعلي بن أمية بن خلف وأبو العاصي حتى بكتهم أبو جهل بالجبن وأعانه عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث والحارث بن كلدة وأجمعوا على المسير.
قال الأخنس بن شريق وكان حليف بني زهيرة يا بني زهرة قد نجا الله أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل وإنما نفرتم لتمنعوه وماله فارجعوا إلى مكة وكانوا نحو مائة ويقال : ثلاثمائة فلم يشهدها زهير الأرجلين هما عما مسلم بن شهاب الزهري وقتلا كافرين : قال : ابن سعد : ولحق قيس بن امرؤ القيس أبا سفيان فأخبره بمجيء قريش فقال : واقوماه هذا عمل عمرو بن هشام يعني أبا جهل واغتبطت بنو زهرة بعد برأي الأخنس فلم يزل فيهم مطاعا وأرادت بنو هاشم الرجوع فاشتد عليهم أبو جهل وقال : لا تفارقنا هذه العصابة حتى نرجع، ومضت قريش حتى نزلت بالعدوة القصوى من الوادي خلف العقنقل وبطن الوادي ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعدوة الدنيا وغلب المشركون المسلمين في أول أمرهم على الماء فظمئ المسلمون وأصابهم ضيق شديد وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ فوسوس إليهم تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وأنتم مصلون مجنبين فأنزل الله تعالى تلك الليلة المطر، وكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم وكان المسلمين طلا طهرهم الله تعالى به وأذهب عنهم رجز الشيطان و طابهم الأرض وصلب الرمل وثبت الأقدام ومهد بن المنزل وربط على قلوبهم ولم يمنعهم عن المسير وسال الوادي فشرب المؤمنون وملأوا الأسقية وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة وأصاب المسلمين تلك الليلة نعاس ألقى عليهم فناموا حتى ان أحدهم وقفه بين يديه وما يشعر حتى يقلع على جنبه. روى أبو يعلى والبيهقي في الدلائل عن علي قال : ماكان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت الشجرة حتى أصبح وكانت ليلتا الجمعة وبين الفريقين فوز وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن يسار وعبد الله بن مسعود فأطفا بالقوم رجعا فأخبرا أن القوم مذعورون وأن السماء تسيح عليهم، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم عشاء يبادرهم الماء فسبقهم إليه ومنعهم من السبق إليه المطر حتى جاء أدنى ماء من بدر فنزل به. فقال الحباب بن المنذر بن الجموح فيما رواه ابن إسحاق : يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزكه أنزل له الله ليس لنا ان نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والمكيدة ؟ قال : بل هو الرأي والحرب والمكيدة، قال : يا رسول الله ليس هذا بمنزل فانهض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فتنزله ثم نغور ما وراءه من القليب ثم نبني عليه حوضا فنملأه ماء فنشرب ولا يشربون فقال صلى الله " لقد أشرت بالرأي " وذكر ابن سعد أن جبرئيل نزل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : الرأي ما أشار به الحباب، فنهض صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس حتى إذا أدنى ماء من القوم نزل عليه نصف الليل ثم أمر بالقليب فغورت وبني حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماءا ثم قذفوا فيه الآنية، فقال : سعد بن معاذ يا رسول الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه ونعد عندك ركائبك ثم نلقي عدونا، فإن أظهرنا الله على عدونا كان ذلك ماأحببنا وإن كانت الأخرى جلست على ركائبك فلحقت بمن وراءنا فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن أشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك يمنعك الله عز وجل بهم يناصحونك ويجاهدون معك، فأثنى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش على تل مشرف على المعركة فيه وأبو بكر وليس معهما وقام سعد بن معاذ بابه متوشحا بالسيف، ومشى رسول الله صلى الله عليه وسلم في موضع المعركة وجعل يشير بيده هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان إن شاء فما تعدى منهم احد موضع إشارته ١ رواه أحمد ومسلم وغيرهما، وروى الطبراني عن رافع بن خديج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يوم بدر :" والذي نفسي بيده لو ان مولودا ولد من اهل الدين يعمل بطاعة الله كلها إلى أن يرد إلى أرذل العمر لم يبلغ أحدكم هذه الليلة، وقال :" إن الملائكة الذين شهدوا بدرا في السماء لفضلاء على من تخلف منهم " رجال ثقات إلا جعفر بن معلاص فإنه غير معروف. وأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر وارتحلت قريش بحدها وحديدها تحاد الله عز وجل وتحاد رسول الله وجاؤوا على حرد قادرين وعلى حمية وغضب وحنق على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لما يريدون من اخذ عيرهم وقتل من فيها وقد أصابوا بالأمس عمرو بن الخضرمي والعير التي كانت معه وذلك ما ذكرنا قصته في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى :﴿ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه ﴾ ٢ فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي جاؤوا منه على الوادي وكان أول من طلع زمعة بن الأسود علفرس له لم يتبعه ابنه فاستجال بفرسه يريد أن يتبوا للقوم منزلا فقال صلى الله عليه وسلم :" هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تجادل وتكذب رسولك اللهم فنصرك الذي وعدتني اللهم أمتهم بالغداة " ولما رأى صلى الله عليه وسلم عتبة بن ربيعة على جمل أحمر قال :" إن يك في احد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا " فقال : هو عتبة ينهى عن القتال ويأمر بالرجوع ويقول : ياقوم اعصبوها اليوم وقولوا جبن عتبة وأبو جهل يأبى وبعث خفاف بن أيما بن رخصة الغفاري أو أبوه وأسلم الثلاثة بعد ذلك على قريش بجزائر أهداها لهم مع ابنه، وقال إن أحببتم ان نمدكم بسلاح ورجال فعلنا فأرسلوا إليه أن وصلتك رحم قد قضيت الذي عليك فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس ما بنا من ضعف عنهم ولئن كنا نقاتل الله كما يزعم محمد ما لأحد بالله من طاقة، فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم حكيم بن حزام، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" دعوهم " فما قرب منهم أحد إلا قتل إلا ما كان من حكيم بن حزام فإنه لم يقتل وأسلم بعد ذلك وحسن إسلامه فكان إذا اجتهد في يمينه قال : لا والذي نجاني يوم بدر فلما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي وأسلم بعد ذلك فقالوا له احزر لنا أصحاب محمد فجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال : ثلاثمائة رجل يزيدون قليلا وينقصون لكن أمهلوني حتى أنظر للقوم كمين مدد فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا فرجع إليهم، فقال ما رأيت يا معشر قريش البلايا تحمل المنايا نواضح يثرب تحمل الناقع قوم ليس لهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم أما ترونهم حرسا يتكلمون يتلمظون تلمظ الأفاعي والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل منكم فإذا أصابوا م
١ أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب غزود بدر(١٧٧٩)، واخرجه النسائي في كتاب: الجنائز، باب: أرواح المؤمنين (٢٠٦٥)، وأخرجه أبوداود في كتاب: الجهاد، باب: في الأسير ينال منه ويضرب (٢٦٧٩)..
٢ سورة البقرة الاية ٢١٧.
روى ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أبي أيوب الأنصاري ان عبد الله بن رواحة قال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أريد ان أشير عليك ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم من أن يشار إليه إن الله تبارك وتعالى أجل وأعظم من ان ينشده وعده، فقال :" يا ابن رواحة لأنشدن الله وعده إن الله لا يخلف الميعاد " روى ابن سعد وابن جرير عن علي بن أبي طالب وقال : لما كان يوم بدر قاتلت شيئا من قتال ثم جئت مسرعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم لأنظر ما فعل فإذا هو ساجد يقول : يا حي يا قيوم لا يزيد عليها ثم رجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد يقول ذاك ثم ذهبت إلى القتال ثم جئت وهو يقوم ذلك ثم ذهبت إلى القتال ثم رجعت وهو ساجد يقول ذلك ففتح عليه.
وروى البيهقي عن ابن مسعود حديث المناشدة قال : ثم التفت كأن وجهه القمر فقال : كأنما أنظر مصارع القوم العشية، وروى سعيد بن منصور عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم وإلى المسلمين واستقلهم ركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه فقال صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة :" اللهم لا تخذلني اللهم انشدك ما وعدتني ".
وروى ابن أبي شيبة وأحمد ومسلم وأبو داود والترميذي وغيرهم عن عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف وأصحابه ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا فاستقبل نبي الله القبلة ثم مد يديه فجعل يهتف بربه عز وجل يقول :" اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم آتني ما وعدتني اللهم عن تهلك هذه العصابة من الإسلام لا تعبد في الأرض " فما زال يهتف بربه عز وجل مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه وألقاه على منكبه ثم التزمه من ورائه فقال : يا نبي الله كذاك تناشد لربك فإن سينجز لك ما وعدك فأنزل الله تعالى ﴿ إذ تستغيثون ربكم ﴾ بدل من إذ يعدكم أو متعلق بقوله ليحق أو على إضمار اذكر يعني يستجيرون به من عدوكم وتطلبون الغوث ﴿ فاستجاب لكم إني ﴾ أي بأني فحذف الجار وسلط عليه الفعل ﴿ ممدكم ﴾ مرسل إليكم مددا لكم ﴿ بألف من الملائكة ﴾.
روى البيهقي عن ابن عباس وحكيم بن حزام وإبراهيم التيمي حديث دعائه صلى الله عليه وسلم وقول أبي بكر نحو ما مر، وفيه وخفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال : أبشر يا أبا بكر هذا جبرئيل متعجز بعمامة صفراء آخذ بعنان فرسه بين السماء والأرض فلما نزل إلى الأرض تغيب عني ساعة ثم طلع على ثناياه النقع يقول : أتاك نصر الله إذ دعوته، وروى ابن إسحاق وابن المنذر عن حبان بن واسع عن أشياخ قومه نحوه بلفظ هذا جبرئيل بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع. وروى البخاري والبيهقي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يوم بدر :" هذا جبرئيل أخذ برأس فرسه عليه أداة الحرب " ﴿ مردفين ﴾ قرأ نافع ويعقوب بفتح الدال أي أردفهم تعالى المسلمين وجاء بهم لهم مددا والباقون بكسر الدال أي متتابعين بعضهم إثر بعض، وروى ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : في تفسيره : يعني وراء كل ملك ملك، وروى عبد بن حميد وابن جرير عن قتادة قال : متتابعين أمدهم الله تعالى بألف ثم بثلاثة آلاف أكملهم خمسة آلاف، وروى الطبراني عن رفاعة بن رافع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس قال : أمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف وكان جبرئيل في خمسمائة مجنبة وميكائيل في خمسمائة مجنبة الحديث. وروى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كرز المحاربي يريد ان يمد المشركين فشق ذلك عليهم فأنزل الله تعالى { ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ١٢٥ فبلغ كرز الهزيمة فرجع ولم يأتهم فلم يمدهم الله بالخمسة الآلاف وكانوا قد أمدوا بألف من الملائكة، وروى أبو يعلى والحاكم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : بينما أنا من قليب بدر جاءت ريح شديدة لم أر مثلها ثم جاءت ريح شديدة لم أر مثلها قط إلا التي قبلها ثم جاءت ريح شديدة قال : وكانت ريح الولى جبرئيل عليه السلام نزل في ألف من الملائكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الريح الثانية ميكائيل نزل في ألف من الملائكة عن يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر عن يمينه فكانت الثالثة إسرافيل نزل في الف من الملائكة عن مسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في المسيرة الحديث وروى احمد و البزار والحاكم برجال صحيح عن علي قال : قال : لي ولأبي بكر يوم بدر قيل لأحدنا : معك جبرئيل وقيل للآخر : معك ميكائيل وإسرافيل ملك عظيم يشهد القتال ولا يقاتل يكون في الصف وروى أبو يعلى عن جابر قال : كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر إذتبسم في صلاته قلنا يا رسول الله رأيناك تبسمت ؟ قال " مر بي جبرئيل وعلى جناحه أثر الغبار وهو راجع عن طلب القوم فضحك إلي وتبسمت إليه " وروى ابن سعد وأبو الشيخ عن عطية بن قيس قال : لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتال بدر جاء جبرئيل على فرس أنثى أحمر عليه درعه ومعه رمحه فقال : يا محمد عن الله بعثني إليك وأمرني أن لا أفارقك حتى ترضى هل رضيت قال :" نعم رضيت " فانصرف.
فائدة : وقد ظهر بعض الملائكة لبعض الرجال في صورة الرجال، روى إبراهيم الحرثي عن أبي سفيان بن الحارث قال : لقينا ببدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض وروى البيهقي وابن عساكر عن سهل بن عمرو رضي الله عنه قال : لقد رأيت يوم بدر رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء والأرض معلمين يقتلون ويأسرون، وروى محمد بن عمر والأسلمي وابن عساكر عن عبد الرحمان بن عوف قال : رأيت يوم بدر رجلين عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم احدهما وعن يساره أحدهما يقاتلان اشد القتال ثم ثالثهما ثالث من خلفه ثم ربعهم رابع أمامه وروى محمد بن عمرو الأسلمي عن إبراهيم الغفاري عن ابن عم له بينا أنا وابن عم لي على ماء ببدر فلما رأينا قلة من مع محمد وكثرة قريش قلنا إذا التقت الفئتان عمدنا إلى عسكر محمد وأصحابه، فانطلقنا نحو المجنبة اليسرى من أصحابه ونحن نقول هؤلاء ربع قريش فينا نحن نمشي في المسيرة إذا جاءت سحابة فغشتنا فرفعنا أبصارنا إليها فسمعنا أصوات الرجال والسلاح وسمعنا لرجل يقول لفرسه أقدم خيزوم فنزلوا على ميمنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جاءت أخرى مثل ذلك فكانت مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فإذا هم على الضعف من قريش فمات ابني عمي وأما أنا فما سكت وأخبرني النبي صلى الله عليه وسلم وأسلمت، وكذا روى إسحاق وابن جرير عن ابني عباس عن رجل من غفار وروى البيهقي عن السائب بن أبي بن أبي حبيش انه يقول والله ما أسرني احد من الناس فيقول : لما انهزمت قريش انهزمت معها فأدركني رجل أبيض طويل على فرس بين السماء والأرض فأورثني رباطا وجاء عبد الرحمان بن عوف فوجدني مربوطا فنادى في العسكر من ربط هذا فليس يزعم احد انه أسرني حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال من أسرك ؟قلت لاأعرفه وكرهت أن أخبره بالذي رأيت فقال : أسرك ملك من الملائكة. وروى احمد وابن سعد وابن جرير عن ابن عباس والبيهقي عن علي قال : كان الذي أسر العباس أبو اليسر وكان رجلا مجموعا كان العباس رجلا جسيما فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته قبل ولابعده هيئته كذا كذا فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لقد اعانك عليه ملك كريم ".
وروى ابن إسحاق وإسحاق بن راهويه عن أبي أسيد الساعدي أنه قال بعد ما عمي : لو كنت معكم ببدر الآن ومعي بصري لأخبرتكم بالشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك ولا أتمارى.
وروى البيهقي عن ابن عباس قال : كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قال : أرسلوا في ظهورهم ويوم خيبر عمائم حمر، وروى ابن إسحاق عن ابن عباس نحوه وزاد إلا جبرئيل فإنه كانت عليه عمامة صفراء. وروى الطبراني بسند صحيح عن عروة قال :" نزل جبرئيل يوم بدر على سيما الزبير وهو معتمر بعمامة صفراء " وكذا روى ابن أبي شيبة وابن جرير وابن مردويه عن عبد الله بن الزبير، وروى الطبراني وابن مردويه بسند ضعيف عن ابن عباس مرفوعا قوله تعالى ﴿ مسومين ﴾ قال : معلمين وكان سيما الملائكة يوم بدر عمائم قدار خوابين أكتافهم خضر وصفر وحمر من نور والصوف من نواصي خيلهم فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه :" إن الملائكة قد سومت فسوموا " فأعلموا بالصرف في مفارقهم وقلانسهم وكانت الملائكة على خيل بلق "
﴿ وما جعله الله ﴾ الإمداد بالملائكة الذي دل عليه قوله ممدكم ﴿ إلا بشرى ﴾ أي الاستبشار ﴿ ولتطمئن به قلوبكم ﴾ فيزول ما بها من وجل نظرا على جري عادة الله في غلبة الكثير على القليل، قلت : نظير حال النبي صلى الله عليه وسلم ههنا في اضطراب قلبه ومناشدته صلى الله عليه وسلم ربه بعد ما وعده بالنصر حال إبراهيم عليه السلام حيث قال ﴿ رب أرني كيف تحي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾١ وكان حالهما عليهما السلام مبنيا على النزول الأتم كما حققناه في سورة البقرة في تفسير ﴿ رب أرني كيف تحي الموتى ﴾ ولما لم يكن ابن رواحة رضي الله عنه في تلك المرتبة من النزول قال : إن الله تبارك وتعالى أجل و أعظم أن ينشد وعده ولما كان أبو بكر أقرب منزلة من النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل كما قال : ابن رواحة بل قال : كذلك تناشدك لربك وكان اضطراب النبي صلى الله عليه وسلم لحرصه على إشاعة الإسلام وهدم أساس الكفر ونظره على كمال استغنائه تعالى عن العالمين وعن عبادتهم والله اعلم ﴿ وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ﴾ وإمداد الملائكة وكثرة العدد والأهب ونحوها وسائط في جري العادة لا تأثير لها في نفس الأمر والله أعلم.
فائدة : ولما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مناشدته ربه قاتل بنفسه الشريفة قتالا شديدا، وكذلك أبو بكر وكانا في العريش يجاهدان بالدعاء والتضرع ثم نزلا فحرصا وحثا الناس على القتال وقاتلا بأبدانهما جمعا بين المقامات، كذا قال : محمد بن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد، وروى ابن سعد والفريابي عن علي قال : لما كان يوم بدر وحضر البأس أمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم واتقينا به وكان أشد الناس بأسا يومئذ وما كان احدا أقرب على المشركين منه " ورواه أحمد بلفظ لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، والنسائي بلفظ : كنا إذا حمي البأس ولقي القوم اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم ٢
١ سورة البقر الآية ٢٦٠..
٢ أخرجه احم في المسند المجلد الأول / مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
﴿ إذ يغشيكم النعاس ﴾ أي النوم الخفيف، قرأ ابن كثير وأبو عمرو إذ يغشاكم بفتح الياء والشين وألف بعدها ورفع النعاس كما في سورة ة آل عمران ﴿ أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ﴾ ١ ونافع بضم الياء وكسر الشين مخففا ونصب النعاس كما في قوله تعالى :﴿ كأنما أغشيت وجوههم ﴾٢ والباقون كذلك إلا انهم فتحوا الغين وشدد والشين كما في قوله تعالى :﴿ فغشاها ما غشى ٥٤ ﴾ ٣ الفاعل على القراءتين هو الله والظرف بدل ثان من إذ يعدهم لإظهار نعمة ثالثة أو متعلق بالنصر أو بما عند الله من معنى الفعل أو بجعل أو بإضمار اذكر ﴿ أمنة منه ﴾ أي أمنا كائنا من الله مصدر أمنت أمنا أو أمنة وأمانا مفعول له باعتبار المعنى فإن قوله يغشيكم النعاس يتضمن معنى تنعسون ويغشاكم بمعناه، الأمنة فعل لفاعله ويجوز أن يراد به الإيمان فيكون فعل
المغشى وان يجعل على قراءة ابن كثير وأبو عمر فعل النعاس على المجاز لأنها لأصحابه أو لأنه كان من حقه أن لا يغشاهم لشدة الخوف، فلما غشاهم فكأنه حصلت له أمنة من الله لولاها لم يغشيهم، قال : عبد الله بن مسعود النعاس في القتال أمنة من الله عز وجل فيفي الصلاة من الشيطان، روى عبد بن حميد عن قتادة قال : كان النعاس أمنة من الله وكان النعاس نعاسين نعاس يوم بدر ونعاس يوم احد وقد مر ذكر النعاس في القصة وذكر المطر الذي ذكره الله تعالى في كتابه فقال ﴿ وينزل ﴾ قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالتخفيف والباقون بالتشديد ﴿ عليكم من السماء ماء ليطهركم به ﴾ من الحدث والجنابة ﴿ ويذهب عنكم رجز الشيطان ﴾ يعني وسوسته إليهم تزعمون انكم اولياء الله وفيكم رسوله وقد غلبكم المشركون على الماء وانتم مصلون مجنبون ﴿ وليربط على قلوبكم ﴾ يقويها بالوثوق على لطف الله بهم وإنزال السكينة عليها يقال فلان رابط الجاش إذا قوى قلبه وأصل الربط الشد وذلك يقتضي القوة والاستحكام ﴿ ويثبت به ﴾ أي بالمطر ﴿ الأقدام ﴾ حيث صلب الرمل ولم يذهب الأقدام فيها أو بالصبر وقوة القلب
١ سورة آل عمران الآية ١٥٤.
٢ سورة يونس الآية ٢٧..
٣ سورة النجم الآية ٥٤..
﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة ﴾ الذين أمد بهم المؤمنين بدل ثالث أو متعلق بيثبت ﴿ إني معكم ﴾ في إعانة المؤمنين وثبتهم وهو مفعول يوحي ﴿ فثبتوا الذين آمنوا ﴾ بمحاربة أعدائكم وتكثير سوادهم وبشارتهم بالنصر قال : مقاتل كان الملك يمشي أمام الصف في صورة الرجل ويقول أبشروا فإن الله ناصركم ﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ هو امتلاء القلب من الخوف يعني الخوف من المؤمنين قرأ ابن عامر والكسائي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قلت لأبي : يا أبت كيف أسرك أبو اليسر ولو شئت لجعلته في كفك ؟ فقال : يا بني لا تقل ذلك لقيني وهو في عيني أعظم من الخندق، قلت وهذا لإلقاء الله الرعب في قلوبهم ﴿ فاضربوا فوق الأعناق ﴾ أي أعاليها التي هي المذابح والرؤوس وقال عكرمة يعني الرؤوس لأنها فوق الأعناق، وقال الضحاك معناه فاضربوا الأعناق وفوق صلة، وقيل : معناه فاضربوا على الأعناق وفوق بمعنى على ﴿ واضربوا منهم كل بنان ﴾ قال : عطية يعني كل مفصل، وقال ابن عباس وابن جريح والضحاك يعني الأطراف، والبنان جمع بناية وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين في القاموس الأصابع أو أطرافها، والخطاب للملائكة لا تعلم كيف يقتل الآدميون فعلمهم الله تعالى
روى الإمام البخاري والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : وهو في قبة يوم بدر :( اللهم إني انشد عهدك ووعدك اللهم ان تشأ لا تعبد بعد اليوم ) فاخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك يا رسول الله لقد ألحقت على ربك، فخرج وهو يثبت في الدرع وهو يقول : سيهزم الجمع ويولون الدبر بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر، وانزل الله تعالى ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ٩ ﴾ أي متتابعين يتبع بعضهم بعضا وانزل الله تعالى :﴿ ألن يكفيكم ان يمدكم ربكم بثلاثة ألف من الملائكة منزلين ﴾ فأوحى الله تعالى إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين امنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم بنان )١وروى مسلم وابن مردويه عن ابن عباس قال ( بينما رجل من المسلمين يومئذ يشتد في اثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوق وسمع صوت الفارس يقول : أقدم حيزموم إذ نظر إلى المشرك أمامه مستلقيا فنظر أليه فإذا هو قد حطم انفه وشق وجهه كضربة السوط فاحضر ذلك الموضع اجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة ) ٢.
وروى الحاكم وصححه البيهقي وأبو نعيم عن سهل بن حنيف قال : لقد رايتنا يوم بدر ان احدنا يشير بسيفه إلى رأس المشرك فيقع رأسه قبل ان يصل إليه، وروى البيهقي عن الربيع بن انس قال : كان الناس يعرفون قتل من قتلوه بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد احترق، وروى ابن سعد عن حويطب بن عبد العزى قال : شهدت بدرا مع المشركين فرايت الملائكة تقتل وتاسر بين السماء والأرض، وروى محمد بن عمر الأسلمي والبيهقي عن أبي بردة ينار رضي الله عنه قال : جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلاثة رؤوس فقلت يا رسول الله أما رأسان فقتلتهما وأما الثالث فاني رأيت رجلا ابيض طويلا ضربه فأخذت رأسه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ذاك فلان من الملائكة، روى ابن سعد عن عكرمة قال : كان يومئذ يندر رأس الرجل لا يدري من ضربه وتندر يدر رجل لا يدري من ضربه به، وروى ابن اسحاق والبيهقي عن ابي واقد الليثي قال : اني لاتبع يوم بدر رجلا من المشركين لاضربه فوقع رأسه قبل ان يصل إليه سيفي فعرفت ان غيري قتله، وروى البهقي عن خارجة بن ابراهيم قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبرئيل من القائل يوم بدر من الملائكة اقدم حيزوم فقال : جبرئيل : ما كل أهل السماء اعرف.
وروى ابن اسحاق عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كنت غلاما للعباس بن عبد المطلب وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت وأسلمت أم الفضل وأسلمت، وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه وكان أبو لهب عدو الله قد تخلف عن بدر وبعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة فلما جاءه الخبر عن مصاب اصحابه بدركبه الله واخزاه فوجدنا في أنفسنا قوة وعزة وكنت رجلا ضعيفا وكنت اعمل القداح وانحتها في حجرة زمزم فوالله إني لجالس انحت القداح وعندي أم الفضل جالسة، إذ اقبل الفاسق أبو لهب يجر رجليه حتى جلس على طنب الحجرة وكان ظهره إلى ظهري، فبينا هو جالس اذ قال : الناس ؟ هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم، فقال : أبو لهب إلى ابن أخي فعندك الخبر فجلس إليه والناس قيام عليه فقال : اخبرني ابن أخي كيف كان أمر الناس فقال : لا شيء والله ان كان إلا ان لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا و يأسروننا كيف شاؤوا وايم الله مع ذلك قاتلت الناس لقينا رجالا بيضا على خيل بلق بين السماء و الأرض لا والله ما تليق شيئا ولا يقوم لها شيء، قال : أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت تلك والله الملائكة، قال : فرفع أبو لهب يده فضرب وجهي ضربة شديدة فثاورته فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من الحجرة فأخذته فضربته ضربة فلقت في رأسه شجة منكرة وقالت : استضعفته ان غاب عنه سيده فقام موليا ذليلا في الله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله عز وجل بالعدسة فقتله، قال : ابن جرير والعدسة قرحة كانت العرب يتشاءم بها ويرون أنها تعدو اشد العدو، فلما أصابت أبا لهب تباعد عنه بنوه بعد موته ثلاث ولا تقرب جثته ولا يحاول دفنه، فلما خافوا السبة في تركه حفروا له ثم وضعوه بعصا في حفرته وقذفوه بالحجارة من بعيد حتى واروه، قال : ابن اسحاق في رواية يونس بن بكير أنهم لم يحفروا له ولكنه أسندوه إلى حائط وقذفوه عليه الحجارة من خلف الحائط حتى واروه.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: ما قيل في درع النبي صلى الله عليه وسلم والقميص في الحرب (٢٩١٥)..
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم (١٧٦٣).
﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى الضرب و الأمر به والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وهو مبتدأ خبره ﴿ بأنهم شاقوا الله ورسوله ﴾ يعني بسبب أنهم عاندوهما اشتقاق من الشق لان كلا من المتعاندين فيشق خلاف الآخر كالمعاد من العدوة والمخاصمة من الخصم وهو الجانب ﴿ ومن يشاقق الله ورسوله ﴾ يعاقبه الله عقابا شديدا ﴿ فان الله شديد العقاب ﴾ تقرير للتعليل أو وعيد بما اعد لهم في الآخرة بعدما ما حاق بهم في الدنيا
﴿ ذلكم ﴾ الخطاب مع الكفار على طريقة الالتفات ومحله الرفع الأمر ذلكم أو ذلكم العقاب واقع والنصب بفعل دل عليه قوله تعالى ﴿ فذوقوه ﴾ يعني ذوقوا ذلكم العذاب في الدنيا فذوقوه أو غير ذلك الفعل مثل باشروا أو عليكم ويكون الفاء حينئذ ﴿ وان للكافرين عذاب النار ﴾ في الآخرة عطف على ذلكم أو الواو بمعنى مع والمعنى ذوقوا ما عجل لكم مع ما اجل لكم، ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على ان الكفر سبب موجب للعذاب الأجل والجمع بينهما والمؤمن لو أصابه مصيبة في الدنيا بما كسبت يداه كانت له كفارة ولا يعذب في الآخرة ان شاء الله تعالى.
روى البغوي بسنده في تفسير قوله تعالى ﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾١
الآية عن علي رضي الله عنه قال : ألا أخبركم بأفضل آية من كتاب الله حدثنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿ وما أصباكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفوا عن كثير٣٠ ﴾ وسأفسرها لك يا علي، وما أصابكم من مرض أو عقوبة أو بلاء في الدنيا فبما كسبت أيديكم والله عز وجل أكرم من أن يثني عليهم العقوبة في الآخرة وما عفى عنه في الدنيا فالله أحكم من أن يعود بعد عفوه والله أعلم.
وروى الترميذي وحسنه الحاكم عن عكرمة عن ابن عباس قال : قيل : لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليك بالعير ليس دونها شيء فناداه العباس وهو أسير في وثاقه لا يصلح فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ؟ قال : لأن الله وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك قال " صدقت " ٢.
١ سورة الشورى الآية ٣٠..
٢ أخرجه الترميدي في كتاب: تفسير القرآن باب: ومن سورة الأنفال.
﴿ يأيها الذين امنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا ﴾ حال من فاعل لقيتم ومفعوله أي متزاحفين بعضكم إلى بعض مختلطين المسلمون بالمشركين والتزاحف التداني في القتال كذا قال : البغوي، قلت : وإنما سمي التداني في القتال تزاحفا لأنه مأخوذ من زحف الصبي إذا دب على أسته قليلا أو من زحف البعير إذا أعييى فيسير قليلا يجر فرسه فإن مزاحمة العدو يمنعهم عن الإسراع في المشي فكأنهم يزحفون كما يزحف الصبي، فالزحف مصدر ولذلك لم يجمع كقولهم قول عدل، وقال الليث الزحف جماعة يزحفون إلى عدولهم فهم الزحف بالفتح الإسكان والجمع بالضمتين، وفي القاموس الزحف الجيش يزحفون إلى العدو واختار البيضاوي هذا المعنى حيث فسر زحفا بمعنى كثيرا فعلى هذا إمنا أن يكون حالا من الذين كفروا يعني إذا لقيتم جماعة كثيرة من الكفار فضلا من ان يكونوا مثلكم وقليلا منكم ﴿ فلا تولوهم الأدبار ﴾ أي لا تولوا ظهوركم بالانهزام، وإما من الفاعل والمفعول جميعا، والمعنى إذا لقيتم متكثرين بجماعة كثيرة من الكفار وحينئذ يكون جريان الحال جريا على العادة فإن الغالب قتال المتكثرين بالمتكثرين وإما من الفاعل وحده ويكون إشعارا بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم اثنا عشر ألفا وألا ظهر عندي في تفسير الآية ما قال البغوي، فإنه يقتضي عموم النهي سواء كان من الفريقين جماعات أو فرادى فإن مقابلة الجمع بالجمع يقتضي انقسام الآحاد على الآحاد.
مسألة
الفرار من الزحف كبيرة من الكبائر وعلى هذا أكثر أهل العلم و به قال : الأئمة الأربعة من الفقهاء لكنهم قالوا : إن المسلمين إذا كانوا على شطر من عدوهم لا يجوز لهم أن يفروا وإن كانوا أقل من ذلك، جاز لهم أن يولوا ظهورهم ويتجاوزوا عنهم لقوله تعالى :﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم ان فيكم ضعفا فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾١ الآية، قال : عطاء بن رباح : هذه الآية يعني لا تولواهم الأدبار منسوخة بقوله تعالى :﴿ الآن خفف الله عنكم ﴾ وبحديث ابن عمر قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية فحاص الناس حيصة فأتينا المدينة فاختفينا بها وقلنا هلكنا ثم أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله نحن الفرارون قال :" بل انتم العكارون وأنا فئتكم " ٢ رواه الترمذي وحسنه في رواية أبي داود نحوه.
وقال محمد بن سرين لما قتل أبو عبيدة جاء الخبر إلى عمر رضي الله عنهما فقال : لو إنحاز إلي كنت له فئة وأنا فئة كل مسلم، ومجمل هذين الحديثين قلة المسلمين من شطر الكفار. قال : البغوي قال : ابن عباس من فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر، وقال بعض الناس لا بأس بالفرار مطلقا محتجا بما ذكرنا من حديث ابن عمرو ومحمد بن سرين، قال : أبو سعيد الخدري هذا يعني النهي عن التولي زحفا في أهل بدر خاصة ما كان يجوز لهم الانهزام لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان هناك ولو انحازوا إلى المشركين فأما بعد ذلك فإن المسلمين بعضهم فئة بعض فيكون الفار متحيز إلى فئة فلا يكون فرارة كبيرة وهو قول الحسن وقتادة والضحاك، وقال يزيد بن أبي حبيب أوجب الله تعالى النار لمن فر يوم بدر فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال :﴿ إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا الله عنهم ﴾٣ ثم كان يوم حنين بعد فقال :﴿ ثم توليتم مدبرين ﴾ ﴿ ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ﴾٤ قلت : وهذا القول رده إجماع الأئمة على ما ذكرنا وما ذكر من الآيات في يوم أحد ويوم حنين فهي حجة لنا لا علينا حيث قال : الله تعالى :﴿ إنما استزلهم الشيطان ﴾وقال :﴿ عفا الله عنهم ﴾والعفو يقتضي العصيان وكذا قوله تعالى :﴿ ثم يتوب الله ﴾ بدل وجود المعصية والله أعلم، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم التولي يوم الزحف من السبع الموبقات " ٥ رواه الشيخان في الصحيحين في حديث أبي هريرة وأصحاب السنن عن صفوان بن عسال، وقد ذكرنا الكبائر في سورة النساء في تفسير قوله تعالى ﴿ إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ﴾ ٦
١ سورة الأنفال الآية ٦٦.
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: الجهاد، باب: ما جاء في الفرار من الزحف (١٧١٦)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب في التولي يوم الزحف (٢٦٤٥).
٣ سورة آل عمران الآية ١٥٥..
٤ سورة التوبة الآيات ٢٥- ٢٧.
٥ أخرجه البخاري في كتاب: المحاربين من اهل الكفرة والردة، باب: رمي المحصنات (٦٨٥٧)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: بيان الكبائر واكبرها (٨٩).
٦ سورة النساء، الآية: ٣١.
فالوعيد عام بقوله تعالى :﴿ ومن يولهم ﴾ يعني الذين كفروا ﴿ يومئذ ﴾ أي يوم إذا لقيتموهم زحفا ﴿ دبره ﴾ أي ظهره في أي حال كان ﴿ إلا متحرفا لقتال ﴾أي متعطفا يريد ان يرى من نفسه الانهزام وقصده الغرة بالعدو وهو يريد الكر ﴿ أو متحيزا إلى فئة ﴾ أي منضما صابرا إلى جماعة المسلمين إذا أعيى من القتال يريد العود بعد زوال التعب ﴿ فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم و بئس المصير ﴾جهنم
وفي القصة ما ذكره البغوي أنه قال : مجاهد فلما انصرف المسلمون عن القتال كان الرجل يقول أنا قتلت فلانا ويقول الآخر مثله فنزلت ﴿ المصير١٦ فلم تقتلوهم ﴾ بقوتكم ﴿ ولكن الله قتلهم ﴾ بنصره إياكم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم وإمداد الملائكة لكم، وإلفاء جواب شرط محذوف تقديره إن افتخر بقتلهم فلم يقتلوهم ولكن الله قتلهم وهذا سبب أقيم مقام المسبب والأصل في التقدير أن افتخرتم فقد أخطأتم إذ لم يقتلوهم بقوتكم ولكن الله قتلهم من غير تجشم منكم بإمداد على خلاف جرى العادة ﴿ وما رميت ﴾ يا محمد بالحصباء رميا يوصلها إلى أعينهم أجمعين ولم تكن تقدرعلى ذلك ﴿ إذ رميت ﴾أتيت بصورة الرمي ﴿ ولكن الله رمى ﴾ أتى هو غاية الرمي فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتى انهزموا. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي بتخفيف لكن في الموضعين ورفع ما بعده والباقون بالتشديد ونصب ما بعده، روى ابن جرير وابن المنذر والبيهقي عن ابن عباس والأموي عن عبد الله بن ثعلبة بن صفير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يعنيفي مناشدته ربه " إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا " فقال : جبرئيل خذ قبصة من تراب فرمى بها في وجوههم فما بقي من المشركين احد إلا وأصاب عينه ومنخريه وفمه فولوا مدبرين فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : احملوا فلم يكن إلا الهزيمة فقتل الله من قتل من صناديد قريش وأسرمن أسروا أنزل الله تعالى ﴿ المصير تقتلهم ولكن الله قتلهم ﴾ الآية.
وروى الطبراني وأبو الشيخ برجال الصحيح عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لعلي رضي الله عنه ناولني قبضة من حصباء فرمى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم في وجوه الكفار في بقي احد من القوم إلا امتلأت عيناه من الحصباء، وروى أبو الشيخ وأبو نعيم وابن مردويه عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت صوت حصيات وقعن من السماء يوم بدر كأنهن وقعن في طست فلما اصطف الناس أخذهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرمى بهن وجوه المشركين فانهزموا، وروى ابن أبي حاتم عن ابن زيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ بثلاث حصيات فرمى بحصاة في ميمنة القوم وحصاة في مسيرة القوم وحصاة بين أظهرهم، وقال شاهت الوجوه فانهزم القوم وروى محمد بن عمر الأسلمي أمر رسول اله صلى الله عليه وسلم فأخذ من الحصباء كفا فرمى به المشركين وقال : شاهت الوجوه اللهم أرعب قلوبهم وزلزل أقدامهم فانهزم أعداء الله لا يلوذون على شيء والقواد روعهم والمسلمون يقتلون ويأسرون وما بقي منهم أحد إلا امتلأ وجهه وعينه ما يدري أين يوجه والملائكة يقتلونهم. وروى الطبراني وابن أبي حاتم وابن جرير بسند حسن عن حكيم بن حزام قال : لما كان يوم بدر سمعنا صوتا وقع من السماء إلى الأرض وكأنه صوت حصاة وقعت في طست ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتلك الحصاة وقال شاهت الوجوه فانهزمنا. وفي شأن نزول الآيات روايات آخر غريبة منها ما روى الحاكم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال : أقبل أبي بن خلف يوم احد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستقبله مصعب بن عمير ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي من فرجة بين سابغة الدرع والبيضة فطعنه بحربته فسقط من فرسه ولم يخرج من طعنه دم فكسر ضلعا من أضلاعه فأتاه أصحابه وهو يخور خوار الثور فقالوا ما أعجزك إنما هو خدش فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه بل أنا أقتل أبيا قال :" والذي نفسي بيده لو كان هذا بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعين " فمات أبي قبل أن يقدم مكة فأنزل الله تعالى :﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾إسناده صحيح لكنه غريب، ومنها ما أخرج ابن جرير عن عبد الرحمان بن جبير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر دعى بقوس فرمى الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله ﴿ وما رميت إذا رميت ﴾ وهذا مرسل جيد لكنه غريب والله أعلم ﴿ ليبلي المؤمنين ﴾ أي لينعم الله عليهم ﴿ منه ﴾أي ما فعل ﴿ بلاء حسنا ﴾ نعمة عظيمة قوله تعالى ليبلي معطوف على محذوف يعني فعل ما فعل ليظهر دينه ويقهر أعدائه ويبلي المؤمنين أي يعطيهم نعمة عظيمة النصر و الغنيمة وتقوية الإيمان بمشاهدة الآيات وأجر الجهاد والشهادة ودرجات القرب وعرفات الجنان ومرضاة الله تعالى، قلت : كان جواب سؤال مقدر وهو ان الله تعالى كان قادرا على أن يهلك الكفار أجمعين من غير مجاهدة المؤمنين وقتالهم حتى قتل بعضهم، ومن غير إمداد الملائكة أيضا كان ملك الملائكة كاف في إهلاكهم كما فعل بأشياعهم من قبل حيث قال :﴿ وما أنزلنا على قومه من بعده من جند من السماء وما كنا منزلين ٢٨ إن كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم خامدون ٢٩ ﴾ ١ فأي فائدة في إمدادهم بثلاثة آلاف من الملائكة وقتال الملائكة وغير ذلك فيقول الله سبحانه فعلنا هذا كله لإظهار دينه وإعطاء المؤمنين من الأنس والملائكة نعمة من الله من الجر والثواب والنصر والغنيمة، ولو أهلك كلهم بقدرته أو بصيحة ملك واحد ولم يبق من المشركين أحد من المشركين أحد لم ينل أحد منهم فضل الإيمان بالله تعالى وقد آمن كثير ممن بقي بعد ذلك ما نال المؤمنون أجر الجهاد والشهادة والغنيمة والفضل ما نال الملائكة ذلك الفضل.

فصل


فيما ورد في فضائل أهل بدر
روى البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال : جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم ؟ قال : أفضل المسلمين أو كلمة نحوها قال جبرئيل : وكذلك من شهد بدرا من الملائكة " ٢ وروى احمد وبن ماجة عن رافع بن خديج نحوه، وروى احمد بسند صحيح على شرط مسلم عن جابر قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " لن يدخل النار رجلا شهد بدر والحديبية " وروى أبو داود وابن ماجة والطبراني بسند جيد عن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اطلع الله على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم " ٣ وروى أحمد عن حفصة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إني لأرجو أن لا يدخل النار إن شاء الله أحد شهد بدرا والحديبية قالت : أليس الله يقول :﴿ وإن منكم إلا واردها ﴾ قال : سمعته يقول :﴿ ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيا ٧٢ ﴾ ٤ وروى مسلم الترمذي عن جابر ان عبد الله بن حطاب جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يشكوا حاطبا إليه فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدخلن حاطب النار قال :" كذبت لا يدخلها فغنه شهد بدرا والحديبية " ٥ وفي الصحيحين عن علي قصة كتاب حاطب بن بلتعة وقول عمر :" يا رسول الله اضرب عنقه فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " أليس من أهل بدر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم وقال : فقد وجبت لكم الجنة " ٦وقد ذكرنا الحديث في سورة الفتح وسورة الممتحنة.
وروى البخاري عن انس قال : أصيب حارثة بن زيد يوم بدر فجاءت أمه غلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفت منزلة حارثة مني فإن يك في الجنة أصبر وأحتسب وغن يكن الأخرى فترى ما أصنع ؟ قال :" ويحك أو جنة واحدة هي ؟ إنها جنان كثيرة وإنه في الفردوس :٧وفي رواية عند غير البخاري عن انس أن حارثة كان في النظارة وفيه :" إن ابنك أصاب الفردوس الأعلى " ففيه تنبيه عظيم على فضل أهل بدر فإنه لم يكن في بحبحة القتال ولا في حومة الغوائل بل كان من النظارة من بعيد وإنما أصابه سهم وهو يشرب من الحوض ومع هذا أصاب جنة الفردوس التي هي أعلى الجنة وأوسطها ومنها تفجر أنهار الجنة فإذا كان هذا حاله فما ظنك بمن كان في نحر العدو ووهم على ثلاثة أضعافهم عددا وعددا، واستشكل قوله صلى الله عليه وسلم " اعملوا ما شئتم " فإن ظاهره الإباحة وهو خلاف عقد الشرع : إنه إخبار عن مغفرة الذنوب الماضية يدل عليه قوله :" قد غفرت لكم " بصيغة الماضي ورد هذا القول لو كان للماضي لما صح الاستدلال في قصة حاطب بن بلتعة لأنه صلى الله عليه وسلم خاطب عمر منكرا عليه ما قال : في أمر حاطب فإن هذه القصة كانت بعد بدر بست سنوات فدل على أن المراد مغفرة الذنوب المستقبلية وغنما أورد بلفظ الماضي مبالغة في تحققه والصحيح أن قوله صلى الله عليه وسلم :" اعملوا " للتشريف، والتكريم والمراد عدم المؤاخذة بما يصدر عنهم وأنهم خصوا بذلك لما حصل لهم من الحال العظيم التي اقتضت محو ذنوبهم السابقة وتأهلوا لأن يغفر لهم للذنوب اللاحقة إن وقعت.
فائدة : اتفقوا على أن البشارة المذكورة فيما يتعلق بأحكام الآخرة لا بأحكام الدنيا من إقامة الحدود وغيرها والله اعلم ﴿ أن الله سميع ﴾ لاستغاثتهم ودعائهم ﴿ عليم ﴾ بنيانهم وأحوالهم
١ سورة يس الآيات ٢٨- ٢٩..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: شهود الملائكة بدرا (٣٩٩٢)..
٣ أخرجه أبو داود في كتاب: السنة، باب: في الخلفاء (٤٦٤١)..
٤ أخرجه احمد في المسند المجلد السادس /حديث حفصة أم المؤمنين بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما..
٥ أخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر (٢١٩٥)، وأخرجه الترمذي في كتاب: المناقب، باب: في سب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم (٤٠٦٨.
٦ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب فضل من شهد بدرا (٣٩٨٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: فضائل الصحابة، باب: من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة (٢٤٩٤)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب من أتاه سهم عرب فقتله (٢٨٠٩)، وأخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة المؤمنون (٣١٧٤)..
﴿ ذلكم ﴾إشارة إلى البلاء الحسن أو القتل والرمي ومحله الرفع أي المقصود أو الأمر ذلكم أو ذلكم إلا بلاء حق ﴿ وأن الله موهن كيد الكافرين ﴾معطوف على ذلكم يعني المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمر بفتح الواو وتشديد الهاء والباقون بإسكان الواو وتخفيف الهاء، وقرأ حفص موهن بغير تنوين مضافا إلى كيد بالجر والباقون بالتنوين ونصب كيد
روى ابن إسحاق وأحمد عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير بالمهملتين العذري وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس قال : لما التقى الناس ودنا بعضهم من بعضهم، قال : أبو جهل اللهم أينا كان أقطع للرحم وأتانا بما لا نعرف فأحنه الغذاة اللهم من كان أحب إليك وأرضى عندك فانصره فكان هو المستفتح على نفسه فأنزل الله تعالى :﴿ إن تستفتحوا ﴾ أي تستنصروا لأحب الناس وأرضاهم عند الله ﴿ فقد جاءكم الفتح ﴾ الذي طلبتم فقتل أبو جهل يوم بدر. وروى فنظرت عن يميني وعن شمالي فإذا أنا بين غلامين من الأنصار حديثة أسنانها فتمنيت أن أكون بين أضلع منهما فغمزي أحدهما سرا من صاحبه فقال : أي عم هل تعرف أبا جهل ؟ قلت : نعم فما حاجتك إليه يا ابن أخي ؟ قال : أخبرت أنه يسب النبي صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منهما قال : وغمزني الآخر من صاحبه فقال : مثلها فعجبت لذلك فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس وهو يرتجز.
شعر :
ما تنقم الحرب العوان مني بأزل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي. فقلت : ألا تريان هذا صاحبكما الذي تسألان عنه فابتدراه بسيفهما فضرباه حتى برد ونصرفا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه فقال : كلاكما قتله وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سلبه لمعاذ بن الجموح والرجلان هو معاذ بن عفراء ١. وروى البخاري عن انس قال : قال : النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر :" من ينظر ما فعل أبو جهل ؟ قال : فانطلق ابن مسعود فوجده قد ضربه ابنا عفران حتى برد فأخذ بلحيته، وقال : أنت أبو جهل قال : وهو فوق رجل قتله قومه أو قتلتموه " ٢ وفي مسند احمد عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود عن أبيه أنه وجد أبو جهل يوم بدر وقد ضربت رجله وهو صريع وقد ندب الناس فيه بسيف له فأخذته فقتلته به فنفلني رسول الله صلى الله عليه وسلم سيفه، قال : الحافظ هو معارض لما في الصحيح انه صلى الله عليه وسلم أعطى سلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح ويمكن الجمع بأن يكون نفل ابن مسعود سيفه الذي قتله به فقط.
وروى ابن إسحاق عن معاذ عن عمرو بن الجموع، قال : لما فزع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة أمر بأبي جهل بن هشام ان يلتمس في القتلى وقال : اللهم لا يعجزنك، قال : فلما سمعتها جعلته من سابق فصمدت نحوه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه قال : وضربني ابن عكرمة على عاتقي فطرح يدي فتعلقت بجلسة من جنب وأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي هذا وإني لا أصحابها خلفي فلما آذتني وضعت قدمي ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها، قال : ابن إسحاق وعاش بعد ذلك إلى زمن عثمان، قال : القاضي زاد بن وهب في روايته فجاء معاذ يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فلصقت كذا نقل عن القاضي في " العيون "، وفي الشفاء قطع أبو جهل يوم بدر يد معوذ بن عفراء فجاء يحمل يده فبصق عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصقها فلصقت رواه ابن وهب قال : إسحاق ثم مر بأبي جهل وهو عفير معوذ بن عفراء فضربه حتى أثبته وبه رمق وقاتل معوذ حتى قتل ثم مر عبد الله بن مسعود بأبي جهل، قال : ابن مسعود وجدته بآخر رمق فعرفته فوضعت رجلي على عنقه ثم قلت هل أخزاك الله يا عدو الله ؟ قال : وبماذا أخزاني ؟ هل اعمد من رجل قتلتموه أخبرني بمن الدابرة ؟ قلت : لله ولرسوله. وروي عن ابن مسعود انه قال : قال : لي أبو جهل لقد ارتقيت يا رويعي الغنم مرتقا صعبا ثم أخررت رأسه ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل فقال : الله الذي لا إله غيره، قلت : ونعم والذي لا إله غيره ثم ألقيت بين يدي رسول اله صلى الله عليه وسلم فحمد الله "، وفي رواية : خر رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجدا وفي رواية صلى ركعتين. وروى ابن عابد عن قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" إن لكل أمة فرعون وفرعون هذه الأمة أبو جهل قاتله الله قتله ابنا عفراء أو قتله الملائكة و تدافه ابن مسعود " يعني أجهز عليه وأسرع قتله وقال عكرمة قال : المشركون والله ما نعرف ما جاء به محمد فافتح بيننا وبينه بالحق فأنزل الله تعالى ﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾أي غن تستقضوا فقد جاءكم القضاء، وقال السدي والكلبي : كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم اخذوا بأستار الكعبة وقالوا اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين ففيه نزلت فعلى هذه الروايات الخطاب لكفار مكة، وقال أبي ابن كعب هذا خطاب لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الله تعالى للمسلمين إن تستفتحوا أي إن تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر والظفر.
روى البغوي بسنده عن قيس بن حباب، قال : شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا : ألا تدعوا الله لنا ألا تستنصر لنا فجلس محمارا لكونه أو وجهه فقال : لنا :" لقد كان من قبلكم يأخذ الرجل فيحفر له في الأرض ثم يجاء بالمنشار فيجعل فوق رأسه ثم يجعل بفرقتين ما يصرفه عن دينه ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم وعصب ما يصرفه عن دينه وليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب منكم من صنعا إلى حضر موت لا يخشى إلا الله ولكنكم تعجلون " ٣ ﴿ وان تنتهوا ﴾ أيها الكفار عن الكفر بالله والقتال مع نبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ فهو خير لكم ﴾ فإن فيه صلاح الدارين لكم ﴿ وان تعدوا ﴾ الحرب ومعاداته ﴿ نعد ﴾ بمثل الواقعة التي وقعت بكم يوم بدر ﴿ ولن تغني ﴾ أي لن يدفع ﴿ عنكم فئتكم ﴾ أي جماعتكم شيئا من الإغناء أو شيئا من المضار ﴿ ولو كثرت ﴾ فئتكم ﴿ وان الله مع المؤمنين ﴾ قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح الهمزة وحينئذ عطف على محذوف يعني لن تغني عنكم شيئا لأجل شؤم كفركم ولان الله مع المؤمنين وقيل : هو عطف على قوله ذلكم وان الله موهن كيد الكافرين وان الله مع المؤمنين.
وقرا الباقون بالكسر على الاستئناف والعطف على لن تغني وان كان قوله تعالى ان تستفتحوا خطابا للمسلمين فالمعنى ان تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر وان تنتهوا عن التكاسل في القتال والمجادلة في الحق والرغبة عما يستأثره الرسول فهو خير لكم وان تعودوا بعد بالإنكار وتهيج العدو ولن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن الله معكم بالنصر فان الله مع المؤمنين الكاملين ويناسبه قوله تعالى :
﴿ يأيها الذين امنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه وانتم تسمعون ﴾
١ أخرجه البخاري في كتاب: فرض الخمس، باب: من لم يخمس الأسلاب ومن قتل قتيلا فله سلبه من غير ان يخمس وحكم الإمام فيه (٢١٤١)، وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: استحقاق القاتل سلب القتيل (١٧٥٢)..
٢ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: في قتل أبي جهل (٣٩٦٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: قتل أبي جهل (١٨٠٠)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: المناقب، باب: علامات النبوة في الإسلام (٣٦١٢)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في الأسيرة يكره على الكفر (٢٦٤٧)..
﴿ يأيها الذين امنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا عنه ﴾ أي لا تعرضوا عن الرسول يعني عن إطاعته، افرد الضمير لان المراد من الآية الأمر بإطاعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم والنهي عن الإعراض عنه، وذكر الله تعالى للتوطئة والتنبيه على ان طاعة الله تعالى في طاعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل : الضمير للجهاد أو للأمر الذي يدل عليه الطاعة ﴿ وانتم تسمعون ﴾ القران والمواعظ وتصدقونه
﴿ ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا ﴾ يعني المنافقين الذين ادعوا السماع والتصديق ﴿ وهم لا يسمعون ﴾ سماع اتعاظ وقبول
﴿ إن شر الدواب ﴾أي شر ما يدب على الأرض أو شر البهائم ﴿ عند الله الصم البكم ﴾عن الحق لا يسمعه سماع قبول فلا ينطق به ﴿ الذين لا يعقلون ﴾الحق عدهم من البهائم وجعلهم شرها لإبطالهم امتازوا به من البهائم وفضلوا لأجله.
قال ابن عباس هم نفر من بني الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء ولم يسلم منها إلا رجلان مصعب بن عمير وسويط بن حرملة ﴿ ولو علم الله فيهم خيرا ﴾يعني استعداد قبول الحق وكانوا من أهل السعادة من مربيات اسم الله الهادي ﴿ لأسمعهم ﴾ سماع قبول وتفهم ﴿ ولو أسمعهم ﴾سماع انتفاع وتفهم وقد علم أن لا خير فيهم ﴿ لتولوا ﴾بعد الإيمان والتصديق والانتفاع وارتدوا لما سبق عليهم الكتاب ﴿ وهم معرضون ﴾بعد ظهور الحق عنادا، وقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل عمل أهل النار فيدخلها " ١ الحديث متفق عليه عن ابن مسعود، قال : البغوي وقيل : إنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم أحي لنا قصبا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك بالنبوة فنؤمن بك فقال : الله تعالى ولو أسمعهم كلام قصي لتولوا وهم معرضون
١ أخرجه البخاري في كتاب: بدء الخلق، باب: ذكر الملائكة (٣٢٠٨) وأخرجه مسلم في كتاب: القدر، باب: كيفية خلق الآدمي في بطن أمه (٢٦٤٣)..
﴿ يأيها الذين امنوا استجيبوا لله وللرسول ﴾ يعني أجيبوهما بالطاعة ﴿ إذا دعاكم ﴾الرسول أفرد الضمير لما ذكرنا ولأن دعوة الله يسمع من الرسول ﴿ لما يحييكم ﴾قال : السدي أي الإيمان لأن الكافر ميت، وقال قتادة : وهو القرآن فيه الحياة وبه النجاة والعصمة في الدارين، وقال مجاهد الحق وقال ابن إسحاق هو الجهاد أعزكم الله ب بعد الذل.
وقال القتيبي هو الشهادة قال : الله تعالى :﴿ بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين ﴾١، قلت : والأولى أن يقال : هو كل ما دعى له الرسول صلى الله عليه وسلم و التقديد ليس للاحتراز بل للمدح والتحريض فإن طاعة الرسول في كل أمر يحيي القلب وعصيانه يميته، والمراد بحياة القلب طرده الغفلة عنه بخرق الحجب ودفع الظلمة.
روى الترمذي والنسائي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على أبي بن كعب وهو يصلي فدعاه فجعل أبي في صلاته ثم جاء فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منعك أن تنجيني إذا دعوتك ؟ قال : كنت في الصلاة، قال : أليس الله تعالى يقول ﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم ﴾، فقال : لا جرم يا رسول الله لا تدعوني إلا أجبتك وإن كنت مصليا " ٢ وهذا الحديث يؤيد ما قلت بوجوب الإجابة لكل ما دعى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
مسألة
قيل : إجابة الرسول لا يقطع الصلاة وقيل دعائه إن كان لأمر لا يحتمل التأخير فللمصلي أن يقطع الصلاة لأجله والظاهر هو المعنى الأول وإلا فقطع الصلاة يجوز لكل أمر ديني مهم يفوت بالتأخير كالأعمى يقع في البئر وهو يصلي لو لم يقطعها ولم يرشده والله أعلم ﴿ واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ﴾أي يميته فيفوت الفرصة التي هو واجدها بالطاعة الله تعالى فاغتنموا هذه الفرصة وأخلصوا قلوبكم لله وسارعوا إلى الخيرات. أو المعنى أن الله يحول بين الإنسان وبين ما يتمناه قلبه من طول الحياة فيفسخ عزائمه فلا تسوفوا في امور الدين وقيل : هو تمثيل لغاية قربه من العبد كقوله تعالى ﴿ ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ﴾٣، وتنبيه على انه مطلع على مكنونات القلب ما عسى أن يغفل عنه صاحب فعليكم الإخلاص وقيل : وهو تصوير وتخيل لتملكه على قلب العبد فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده يحول بينه وبين الكفر والعصيان إن أراد سعادته وبينه وبين الإيمان والطاعة إن أراد شقاوته فلا بد من دوام التضرع والالتجاء إليه وخوف الخاتمة. عن انس بن مالك قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم " يكثر ان يقول : يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك " قالوا : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا ؟ قال : القلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبها كيف يشاء " ٤ رواه الترمذي وابن ماجة، وعن ابن عمر مرفوعا :" قلوب بني آدم كلها بين أصبعين من أصابع الرحمان كقلب واحد يصرفه كيف يشاء " ثم قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك " ٥ رواه مسلم، عن عمر بن الخطاب انه سمع غلاما يدعوا : اللهم إنك تحول بين المرء وقلبه فحل بيني وبين الخطايا فلا أعمل بسوء فقال : رحمك الله ودعا له بخير ﴿ وانه إليه تحشرون ﴾فيجازيكم بأعمالكم
١ سورة آل عمران، الآية: ١٦٩- ١٧٠..
٢ أخرجه الترميذي في كتاب: فضائل القرآن، باب: ما جاء في فضل فاتحة الكتاب (٢٨٧٥)، وأخرجه النسائي في كتاب: الافتتاح، باب: تأويل قول الله عز وجل (٩٠٧)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الصلاة، باب: فاتحة الكتاب (١٤٥٧)..
٣ سورة ق، الآية ١٦..
٤ أخرجه الترمذي في كتاب: القدر، باب: ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمان (٢١٤٠)، وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الدعاء، باب تصريف الله تعالى كيف يشاء (٢٦٥٤)..
٥ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تصريف الله تعالى القلوب كيف يشاء (٢٦٥٤)..
﴿ واتقوا فتنة ﴾ أي معصية ﴿ لا تصيبن ﴾الضمير راجع إلى فتنة بتقدير حذف المضاعف أي لا يصيبن وبالها ﴿ الذين ظلموا منكم خاصة ﴾ لا تصيبن صيغة نهي مؤكد بالنون صفة لفتنة على إرادة القول، يعني اتقوا فتنة يقال فيها : لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل تعم الظالم وغيره أو صيغة نفي دخلها النون لتضمنها معنى النهي فمعنى الآية الأمر بالإتقاء عن فتنة موصوفة بعموم من ارتكبها ومن لم يرتكبها.
واختلفوا في ذلك الفتنة ما هي ؟ فقال : قوم هي ترك المر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال : ابن عباس أمر الله المؤمنين ان يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم واستدلوا على ذلك بحديث أبي بكر الصديق قال :" يا أيها الناس إنكم تقرؤون هذه الآية ﴿ يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم ﴾ وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الناس إذا رأوا الظالم فلم ياخذوا على يديه أو شك أن يعمهم الله بعقاب من عنده " ١ رواه أصحاب السنن الأربعة، وقال : الترمذي حسن صحيح وصححه ابن حبان، وحديث ابن عمر قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيها الناس مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا الله فلا يستجيب لكم وقبل أن تستغفروه فلا يغير لكم إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يدفع رزقا ولا يقرب أجلا وإن الأحبار من اليهود والنصارى لما تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لعنهم الله على لسان أنبيائهم ثم عموا بالبلاء ". رواه الأصبهاني وله شاهد من حديث ابن مسعود وحديث عائشة. وعن عدي بن عدي الكندي قال : حدثنا مولى لنا انه سمع جدي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلم ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب الله العامة والخاصة " ٢رواه البغوي في شرح السنة والمعالم، وعن النعمان بن بشير قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" مثل المدهن في حدود الله والواقع فيها مثل قوم استهموا سفينة فصاروا بعضهم في أسفلها وبعضهم في أعلاها فكان الذي في أسفلها يمر بالماء على الذين في أعلاها فتأذوا به، فأخذ فأسا فجعل ينقر أسفل السفينة فأتوه فقالوا : مالك ؟ قال تأذيتم بي ولا بد لي من الماء فإن أخذوا على يديه أنجوا بأنفسهم وإن تركوه أهلكوه وأهلكوا أنفسهم " ٣ رواه البخاري، قلت : والاستلال بهذه الأحاديث لا يصح فإن مقتضى الأحاديث أن معصية أحد لا يعذب بها غيره إلا إذا عمل بها بين أظهر الناس وهم قادرون على إنكار فلم ينكروا، فحينئذ يعم عذاب تلك المعصية فاعلها ومن لم يفعلها بل ترك النهي عنها، ولا شك ان النهي عن المنكر فريضة تاركها ظالم فشموله عذاب المعصية إصابة عذاب الطالم وليس ذلك العذاب شاملا للظالم وغيره ألم تسمع قصة القرية التي كانت حاضرة البحر إذ يعدون في السبت يعني طائفة منهم وطائفة كانت ناهية عن المنكر وطائفة لم يأتوا بالمنكر لكنهم تركوا النهي عنه فقال : الله تعالى ﴿ و أنجينا الذين ينهون عن السوء وأخذنا الذين ظلموا بعذاب ﴾٤ فهذا صريح في ان وبال ترك النهي لم ينل غير الظالم، وهذه الآية تدل على فتنة ينال وباله الظالم وغيره وقال قوم : هي البغي والفساد في الأرض فإنه ينال وباله في الدنيا رجال معصومون يقتل الناس وينهب.
عن قتادة في الآية قال : علم والله ذوو الألباب من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين نزلت هذه الآية أن سيكون فتن، ومن هاهنا قال : ابن زيد أرد بالفتنة افتراق الكلمة ومخالفة بعضهم بعضا، وقال الحسن نزلت الآية في علي وعمار وطلحة والزبير، عن مطرف قال : قلنا للزبير يا أبا عبد الله قد ضيعتم الخليفة حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه ؟ قال : الزبير لقد قرأنا هذه الآية زمانا وما أردنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها يعني ما كان منه يوم الجمل من البغي على علي رضي الله عنه، وكذا قال السدي والضحاك وقتادة، قلت وعندي ان المراد بالفتنة المذكورة ترك الجهاد خصوصا عند النفير العام إذا دعاهم الإمام إليه والتولي يوم الزحف بقرينة سياق القصة قال : الله تعالى :﴿ وإن فريقا من المؤمنين لكارهون يجادلونك في الحق ﴾٥ وقال الله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ١٥ ﴾ ٦ قال : عز من قائل :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم ﴾ ٧ والمراد من إصابة الوبال للظالم وغيره وصول المكروه لجميعهم، ألا ترى أن ترك القتال يوجب غلبة الكفار وقتل المسلمين ونهب أموالهم من الصغار والكبار والنساء والفرار من الزحف يوجب قتل المجاهدين الصابرين ألا ترى أن المسلمين إذا استزلهم الشيطان يوم أحد نال وباله سائر المسلمين حتى نال بعض المكروه للنبي المعصوم شج وجهه وكسر رباعيته والله أعلم.
وجاز ان يكون قوله تعالى ﴿ لا تصيبن ﴾ نهيا بعد أمر باتقاء الذنب والمعنى اتقوا كل فتنة ولا يرتكبن أحد منكم فتنة ما فإن وباله يصيب الظالم خاصة ويعود عليه.
وفائدته أن الظالم منكم أقبح منه من غيركم وهذا معنى ما قال : البغوي ليس بجزاء محض ولو كان جزاء لم يدخل فيه النون لكنه نهي وفيه طرف من الجزاء كقوله تعالى :﴿ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده ﴾ ٨ تقديره اتقوا فتنة إن لم تتقوها أصابتكم خاصة، فلا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ومثله ادخلوا مساكنكم إن لم تدخلوها يحطمنكم سليمان وجنوده والله اعلم، وليس قوله تعالى : لا تصيبن جوابا للأمر لأن المعنى حينئذ اتقوا فتنة إن تتقوها لا يصيبن الذين ظلموا منكم خاصة وليس المعنى إن تتقوها ألا يصيبنكم إذ نفي المقيد يرجع إلى القيد فالمعنى بل يعمكم وغيركم وفساده ظاهر، قال البيضاوي جواب للأمر على معنى إن أصابتكم لا تصيب الظالمين منكم خاصة، قلت : لا بد في جواب الأمر من تقدير شرط مأخوذ من الأمر كما في قول من تقدير شرط مأخوذ من الأمر كما في قول القائل أسلم تدخل الجنة يعني إن تسلم تدخل الجنة وقوله تعالى :﴿ ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم ﴾يعني إن تدخلوا لا يحطمنكم فتقديره إن أصابتكم لا يتصور إن كان جوبا للأمر بل يكون الشرطية صفة لفتنة ويؤول التأويل إلى ما ذكرنا أولا وأيضا لا يجوز ان يكون قوله تعالى :﴿ لا تصيبن الذين ظلموا ﴾جواب قسم محذوف ويكون تقدير الكلام اتقوا فتنة والله لا يصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل يعمكم لأن الفتنة المأمورة بالإتقاء عنها على هذا فتنة منكرة والنكرة إذا أضمرت في قوله تعالى :﴿ لا تصيبن ﴾ صارت عامة فيلزم عموم وبال كل معصية للظالم وغيره وفساده ظاهر لأنه حذف الإجماع وخلاف منطوق قوله تعالى ﴿ ولاتزر وازرة وزر أخرى ﴾٩ اللهم إلا أن تقر المراد بالفتنة ما ذكرنا من ترك الجهاد والفرار من الزحف بقرينة السياق والمراد بإصابتها إصابة وبالها في الدنيا والله أعلم ﴿ واعلموا إن الله شديد العقاب ﴾ فاحذروا عقابه بالاتقاء من الفتنة
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الفتن، باب: ما جاء في نزول العذاب إذا لم يغير المنكر (٢١٦٨)، و أخرجه أبو داود في كتاب: الملاحم، باب: الأمر والنهي (٤٣٢٩)..
٢ رواه الطبراني ورجاله ثقات، انظر مجمع الزوائد في كتاب: الفتن، باب: في ظهور المعاصي (١٢١٤٣)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الشهادات، باب: القرعة في المشكلات (٢٦٨٦)..
٤ سورة الأعراف، الآية ١٦٥..
٥ سورة الأنفال، الآيات: ٥-٦..
٦ سورة الأنفال، الآية: ١٥..
٧ سورة الأنفال الآية: ٢٤.
٨ سورة النمل، الآية: ١٨..
٩ سورة النعام، الآية: ١٦٤..
﴿ واذكروا ﴾ أيها المهاجرون ﴿ إذ انتم قليل ﴾ في العدة ﴿ مستضعفون في الأرض ﴾ أرض مكة ﴿ تخافون أن يتخطفكم الناس ﴾ يعني كفار قريش وأخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قيل : يا رسول الله من الناس ؟ قال : أهل فارس﴿ مأواكم ﴾ المدينة ﴿ وأيدكم ﴾ يوم بدر ﴿ بنصره ﴾على الكفار ﴿ ورزقكم من الطيبات ﴾ من المغانم أحلها لكم لم يحلها لحد قبلكم ﴿ لعلكم تشكرون ﴾.
وقيل : الخطاب للعرب كافة فإنهم كانوا أذلاء في أيدي فارس والروم كانوا جميعا معادين لهم متضادين فجعل لهم الله مأوى يتحصنون به عن أعدائهم، يعني جواز نبيه صلى الله عليه وسلم وأيدهم بنصره على جميع اهل الملل والله أعلم. روى سعيد بن منصور وغيره عن عبد الله بن أبي قتادة وذكره البغوي ان النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلح على ما صالح عليه إخوانهم من بني النضير على ان يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات وأريحا من ارض الشام فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا : أرسل إلينا أبا لبابة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم لأن ماله وعياله وولده كانت فيهم، فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاهم فقالوا : يا أبا لبابة ما ترى أنزل على حكم سعد بن معاذ ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقة أنه الذبح فلا تفعلوا، وذكر في سبيل الرشاد انه أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة فلما رأوه قام إليه الرجال، وجهش إليه النساء والصبيان يبكون في وجهه فرق لهم فقال : كعب بن أسد : يا أبا لبابة إنا قد اخترناك على غيرك غن محمد أبى إلا أن ننزل على حكمه يعني حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم أفترى ان ننزل على حكمه ؟ قال : نعم وأشار بيده إلى حلقه انه الذبح، قال : أو لبابة والله ما زالت قدماي مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله ورسوله فندمت فاسترجعت وإن لحيتي لمبتلة من الدموع والناس ينتظرون رجوعه إليهم حتى أخذت من وراء الحصن طريقا أخرى حتى جئت إلى المسجد ولم آت رسول الله صلى الله عليه وسلم فارتبطت إلى اسطوانة المخلفة التي يقال لها : اسطوانة التوبة وقلت : لا أبرح من مكاني حتى أموت أو يتوب الله علي.
قال البغوي : قال : والله لا أنحل ولا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره قال :" أما لو جاءني لاستغفرت له فأما إذا فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله عليه " فمكث سبعة أيام لا تذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه ثم تاب الله عليه كذا قال : البغوي.
وفي سبيل الرشاد قال : ابن هشام أقام مرتبطا ست ليال تأتيه امرأته كل صلاة فتحله حتى يتوضأ ويصلي ثم يرتبط، وقال ابن عقبة زعموا أنه ارتبط قريبا من عشرين ليلة، وقال في البداية وهذا أشبه الأقاويل، وقال ابن إسحاق خمسا وعشرين ليلة، وروى ابن وهب عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر انه ارتبط بسلسلة ربوض بضع عشرة ليلة حتى ذهب سمعه فما يكاد يسمع وكاد يذهب بصره وكانت ابنته تحله إذا حضرت الصلاة أو أراد ان يذهب لحاجته فإذا فرغ أعادت الرباط والظاهر أن زوجته كانت تباشر حله مرة وابنته مرة، وأنزل الله تعالى في توبته ﴿ وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا عسى الله ان يتوب عليهم إن الله غفور رحيم ١٠٢ ﴾١
١ سورة التوبة الآية: ١٠٢..
قال : ابن إسحاق حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط إن توبة أبي لبابة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بيت أم سلمة قالت أم سلمة فسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم من السحر وهو يضحك قالت فقلت يا رسول الله مم تضحك ؟ أضحك الله سنك، قال : تيب علي أبي لبابة، قالت : قلت : افلا أبشره يارسول الله ؟ قال : بلى إن شئت، فقامت على باب حجرتها وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت : يا أبا لبابة أبشر فقد تاب الله عليك، قالت : فثار الناس ليطلقوه فقال : لا والله حتى يكون رسول الله هو الذي يطلقني بيده، فلما مر عليه خارجا إلى صلاة الصبح أطلقه. قال السهيلي وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد بن جدعان عن علي بن الحسين رضي الله عنهما ان فاطمة رضي الله عنها جاءت تحله فقال : إني حلفت أن لا يحلني إلا رسوب الله صلى الله عليه وسلم فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن فاطمة بضعة مني " وعلي بن زيد بن جدعان ضعيف، ورواية علي بن الحسين مرسلة، ثم قال : أبو لبابة من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي كله فقال : النبي صلى الله عليه وسلم " يجزئك الثلثان تصدقت به " فنزل في أبي لبابة قوله تعالى :﴿ يأيها الذين امنوا لا تخونوا الله والرسول ﴾وأصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء التمام واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه ﴿ وتخونوا أماناتكم ﴾ فيما بينكم مجزوم بالعطف على الأول أو منصوب على الجواب بالواو والظاهر هو الأول لأن في الثاني يشترط معنى الجمعية وكل واحد من الخيانتين محرمة برأسها لا الجمع بينهما كما في لا تأكل السمك وتشرب اللبن ﴿ وانتم تعلمون ﴾ أنها أمانته أو انتم تعلمون ان ما فعلتم من الإشارة إلى الخلق خيانته وانتم علماء تتميزون الحسن من القبح، قال : السدي إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم.
قال ابن عباس لا تخونوا الله بترك فرائضه والرسول بترك سنته وأماناتكم هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله تعالى والعمال التي ائتمن الله عليها عباده، وقال قتادة اعلموا أن دين الله أمانة فأدوا إلى الله ما ائتمنكم عليه من فرائضه وحدوده من كانت عليه أمانة فليؤد إلى ما ائتمن عليها، قلت : حاصل قول ابن عباس وقتادة أن سبب نزول هذه الآية وغن كان ما فعل أبو لبابة لكن العبرة لعموم اللفظ لا لخصوص المورد، فيحرم الخيانة في دين الله من فرائضه وحدوده كلها ومنها ما فعل أبو لبابة والله اعلم.
فإن قيل :" المستشار مؤتمن " ١ حديث صحيح رواه أحمد من حديث أبي هريرة مرفوعا والترمذي عن أم سلمة وابن ماجة عن ابن مسعود، وقد استشار اليهود من أبي لبابة فلو لم يفعل أبو لبابة ما فعل لزمه الخيانة في المشورة فكيف كان له التقصي ؟ قلت : كان له التقصي بالسكوت وبأن يقول لست أشير لكم قد بدا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله ورسوله والله أعلم.
وأخرجه ابن جرير عن السدي قال : كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنزلت فيه، وروى ابن جرير وغيره عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبرئيل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فأخرجوا إليه واكتموا " فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله هذه الآية وهذا غريب جدا في سنده وسياقه نظر
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الآداب، باب: ما جاء المستشار مؤتمن (٢٨٢٢)، و أخرجه أبو داود في كتاب الأدب، باب: في المشورة (٥١١٩)، وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الأدب، باب: المستشار مؤتمن (٣٧٤٥)..
﴿ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾أصل الفتن إدخال الذهب إلى النار ليظهر جودته ومنه استعمل في الاختيار والامتحان قال : الله تعالى :﴿ و نبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾ ١ ويستعمل أيضا في العذاب قال : الله تعالى :﴿ يوم هم على النار يفتنون ١٣ ﴾ ٢ يستعمل أيضا في الكفر والمعصية والفساد وكل ما يفضي إلى العذاب قال : الله تعالى ﴿ واتقوا فتنة ﴾وقال ﴿ ألا في الفتنة سقطوا ﴾٣ والفتنة أشد من الكفر وتسمية الموال والأولاد بالفتنة لأنها سبب الوقوع في الإثم والعقاب أو لأنها امتحان من الله تعم فلا يحملنكم حبهم على الخيانة، قيل : هذا أيضا نزلت في أبي لبابة لأن أمواله وأولاده كانت في بني قريظة، فقال : ما قال : خوفا عليهم، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بصبي فقبله فقال :" أما إنهم مبخلة مجبنة وإنهم لمن ريحان الله " رواه البغوي، وروى أبو يعلى عن أبي سعيد :" الولد ثمر القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة " وروى الحكيم عن خولة بنت حكيم " الولد من ريحان الجنة " ﴿ وان الله عنده اجر عظيم ﴾لمن نصح لله ورسوله وأدى أمانته ورعى حدوده وآثر رضا الله تعالى على حبهم
١ سورة الأنبياء الآية: ٣٥..
٢ سورة الذاريات، الآية: ١٣..
٣ سورة التوبة الآية: ٤٩.
﴿ يا أيها الذين امنوا إن تتقوا الله ﴾ بطاعته وترك معصيته ﴿ يجعل لكم فرقانا ﴾ أي بصيرة في قلوبكم تفرقون بها بين الحق والباطل وهو المعنى بقوله صلى الله عليه وسلم :" اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " ١ رواه البخاري في التاريخ والترمذي عن أبي سعيد والطبراني وابن عدي عن أبي أمامة وابن جرير عن ابن عمر وقوله صلى الله عليه وسلم " استفت نفسك وإن أفتاك المفتون " ٢ رواه البخاري في التاريخ عن وابصة بسند حسن، قلت : هذا بعد فناء القلب وتزكية النفس عن الرذائل وحينئذ يتحقق حقيقة التقوى، ويسمى هذا في اصطلاح الصوفية بالكشف، والمراد بالفرقان نصرا يفرق بين المحقق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين وقال مجاهد يجعل له مخرجا في الدنيا والآخرة عما يحذرون، وقال مقاتل بن حبان : مخرجا في الدين من الشبهات وهذا يناسب الأول، وقال عكرمة نجاة يفرق بينكم وبين ما تخافون، وقال الضحاك ثباتا وقال ابن إسحاق فصلا بين الحق والباطل يظهر الله به حقكم و يطفي بطلان من خالفكم، والفرقان مصدر كالرجحان والنقصان ﴿ ويكفر عنكم سيئاتكم ﴾ أي يمحو عنكم ويستر لكم ما سلف من ذنوبكم ﴿ ويغفر لكم ﴾ نعمائه روى البزاز عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم :" يخرج لابن آدم ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من الله يقول الله لأصغر نعمه في ديوان النعم خذي منك من عمله الصالح فتستوعب العمل الصالح، فيقول : وعزتك ما استوفيت وتبقى الذنوب والنعم وقد ذهب العمل الصالح كله، فإذا أراد الله أن يرحم عبدا قال : يا عبدي قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمتي ". وأخرج الطبراني عن واثلة بن الأسقع يبعث يوم القيامة عبدا لا ذنب له فيقول الله تبارك وتعالى إي الأمرين أحب إليك ان أجزى بعملك أو بنعمتي عليك، قال : يا رب أنت أعلم أني لم أعصك قال : خذوا عبدي بنعمة من نعمي فما تبقى له حسنة إلا استغرقتها تلك النعمة فيقول بنعمتك ورحمتك "، ومن ها هنا قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنه لا ينجي أحد منكم عمله قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل " ٣ متفق عليه في حديث أي هريرة، وفي الصحيحين عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :" سددوا وقاربوا و أبشروا فإنه لا يدخل الجنة احد عمله، قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته " ٤ وإليه أشار الله سبحانه بقوله :﴿ والله ذو الفضل العظيم ﴾ يعني ما وعدتكم على التقوى ليس مما يوجب ذلك علينا تقواكم بل إنما هو تفضل وإحسان كالسيد إذا وعد إنعاما لعبده على عمل واجب عليه وغن لم ينعم السيد ذلك، وقيل : معنى يكفر عنكم سيئاتكم يعني الصغائر ويغفر لكم يعني ذنوبكم يعني الكبائر.
١ أخرجه الترميذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الحجر (٣١٢٧) وقال عنه: غريب.
٢ ورواه أحمد والدارمي في مسنديهما، وقال النووي، إسناده حسن. انظر: فيض القدير (٩٩١)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الرقائق، باب: القصد والمداومة على العمل (٦٤٦٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: لن يدخل أحد الجنة بعمله (٢٨١٦)..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الرقائق، باب: القصد والمداومة على العمل (٦٤٦٧).
﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ عطف على قوله إذ انتم قليل يعني اذكر وإذ يمكر بك الذين كفروا وإذا قالوا : اللهم فإن هذه السورة مدنية وهذا المكر والقول كان بمكة.
روى ابن إسحاق وعبد الرزاق وأحمد وابن جرير وأبو نعيم وابن المنذر والطبراني عن ابن عباس وعبد الرزاق وعبد بن حميد عن قتادة ان قريشا لما أسلمت الأنصار رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت له شيعة وأصحابا من غير بلدهم ورأوا خروج أصحابه المهاجرين إليهم عرفوا أنهم نزلوا دارا وأصابوا جوارا ومنعة فحذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا له في دار الندوة، وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا يتشاورون فيها فاجتمعوا لذلك و اتعدوا وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل عليه له فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفا على بابها قالوا : من الشيخ ؟ قال : شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا تعدموا منه رأيا ولا نصحا، قالوا أجل ادخل فدخل معهم واجتمع فيها أشراف قريش عتبة وشيبة ابنا ربيعة وطعيمة بن عدي والنضير ابن الحارث بن كلدة وأبو البختري بن هشام وزمغة بن الأسود وأبو جهل بن هشام ونبيه ومنبه ابنا حجاج وأمية بن خلف وأبو سفيان بن حرب و جبير بن معطم وحكيم بن حزام، وأسلم الثلاثة الأخيرة بعد ذلك وغيرهم من كان منهم ومن غيرهم ممن لا يعد من قريش، فقال : بعضهم لبعض إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم وإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا بمن اتبعه من غيرنا فأجمعوا فيه رأيا. فتشاوروا فقال : قائل منهم – نقل السهيلي عن عبد السلام أنه أبو البختري بن هشام – احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهير والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم، فقال : الشيخ النجدي لعنة الله : والله ما هذا لكم برأي والله لئن حبستموه في بيت ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فيوشك أن يثبوا عليكم فيقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم قالوا : صدق الشيخ، فقال : قائل منهم – ذكر السهيلي انه أبو الأسود ربيعة بن عمر أخو بني عامر بن لؤي – نخرجه من بين أظهرنا فلا يضرنا ما صنع وأين وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا فقال : الشيخ النجدي لعنة الله : ما هذا لكم برأي ألم تروا إلى حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبة قلوب الرجال بما يأتي به والله لئن فعلتم ذلك فيذهب فيستميل قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم به فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد فرأوا فيه رأيا غير هذا، فقال : أبو جهل : والله إن لي فيه رأيا ما أراكم وقفتم عليه بعد، قالوا : وما هو يا أبا الحكم ؟ قال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة شابا جلدا حسيبا وسطا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدوا عليه بأجمعهم فيضربوه بها ضربة رجل واحد فيقتلوه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا فرضوا به بالعقل فعقلناه لهم، فقال : الشيخ النجدي : القول ما قال : هذا الرجل هذا الرأي لارأي غيره وقال الشاعر :
الرأي رأيان رأي ليس يعرفه هاد ورأي كنصل السيف معروف
يكون أوله عز ومكرمة يوما وآخره حمد وتشريف
فتفرق القوم عن ذلك وهم مجتمعون له فأتى جبرئيل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لاتبت هذه الليلة على فراشك الذي تبيت عليه واخبره بمكر القوم وأذن الله تعالى في الخروج، فلما كانت العتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه حتى ينام فيبيتون عليه فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم قال : لعلي رضي الله عنه : نم على فراشي وتسج بردائي الأخضر الحضرمي فنم فيه فإنه لن يخلص إليك منهم أمر تكرهه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينام في برده ذاك إذا نام، فلما اجتمعوا قال : أبو جهل إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على امره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم كجنان الأردن وإن أنتم لم تفعلوا كان له فيكم ذبيح ثم بعثتم بعد موتكم فجعل لكم النار تحرقون فيها. فخرج رسول اله صلى الله عليه وسلم ومعه حفنة من تراب ثم قال :" نعم أنا أقول ذلك وانت أحدهم " واخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل يذري التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات ﴿ يس ١ والقرآن الحكيم ٢ إلى قوله { فهم لا يبصرون ﴾ ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسه ترابا وانصرف إلى حيث أراد أن يذهب فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال : ما تنظرون ها هنا ؟ قالوا : محمدا قال : خيبكم الله عز وجل قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلا إلا وقد وضع على رأسه ترابا وانطلق لحاجته فما ترون ما بكم ووضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب ثم جعلوا يطلعون فيرون عليا رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم متسجا برداء رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون : والله إن هذا محمد نائم عليه برده فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن فراشه فقالوا : والله لقد صدقنا الذي كان حديثا وذهب رسول اله صلى الله عليه وسلم إلى غار ثور، وسيجيء باقي قصة خروجه صلى الله عليه وسلم في سورة التوبة إن شاء الله تعالى.
روى الحاكم عن ابن عباس قال : شرى علي نفسه وليس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام مكانه وكان المشركون يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يرمون عليا ويرونه النبي صلى الله عليه وسلم وجعل علي يتضور فإذا هو علي فقالوا : إنك للئيم إنك لتتضور وكان صاحبك لا يتضور ولقد استنكرناه فيك.
وروى الحاكم عن علي بن الحسين قال : إن أول من شرى نفسه ابتغاء رضوان الله علي وقال في ذلك شعر :
وقيت بنفسي خير من وطى الحصى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله أخاف ان يمكروا به فنجاه ذو الطول الإله من المكر
وبنات رسول الله في الغار آمنا موقى وفي حفظ الإله وفي ستر
وبت أراعيهم وما يتهمونه وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
قال ابن إسحاق : وكان مما نزل في ذلك اليوم وما اجتمعوا له قوله تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ﴾أي يحبسوك ويوثقوك كما قال : به أو الحقيق ﴿ أو يقتلوك ﴾كما قال : به أبو جهل وارتضى به إبليس لعنهما الله سبحانه ﴿ أو يخرجوك ﴾ كما قال : به أخو بني عامر ﴿ ويمكرون ويمكر الله ﴾ المكر صرف الغير عما يقصده بحلية ذلك ضربان مكر محمود وهو ان يتحرى بذلك فعل جميل ومذموم وهو أن يتحرى به فعل قبيح لكن إسناده إلى الله تعالى غنما يحسن للمزاوجة ولا يجوز إطلاقها ابتداء لما فيه من إبهام الذم والمعنى أنهم احتالوا لإبطال أمر محمد وإطفاء نور الله والله تعالى احتال لإتمام أمره ونوره وإهلاك أعدائه ﴿ والله خير الماكرين ﴾ فإن فعله تعالى خير كله وحسن جميل.
وقيل : معنى مكر الله انه يرد مكرهم، وقيل : معناه يجازيهم على المكر، وقال بعضهم من مكر الله إمهال العبد وتمكينه من أعراض الدنيا ولذلك قال : أمير المؤمنين من وسع عليه دنياه ولم يعلم أنه مكر فهو مخدوع عن عقل عن عقله.
وأخرج ابن جرير من طريق عبيد بن عمير عن المطلب بن وداعة أن أبا طالب قال : للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يأتمر بك قومك ؟ قال :" يريدون أن يسجنوني أو يقتلوني أو يخرجوني " قال : من حدث بهذا ؟ قال ربي، قال نعم الرب ربك فاستوص به خيرا، قال : أنا أستوصي به بل هو يستوصي بي فنزلت ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ الآية، قال : ابن كثير ذكر أبي طالب فيه غريب بل منكر لأن القصة ليلة الهجرة وذلك بعد موت أبي طالب بثلاث سنين.
أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : قتل النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر صبرا عقبة بن أبي معيط وطعيمة بن عدي والنضر بن الحارث وكان المقداد أسر النضر فلما أمر بقتله قال : المقداد : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول " قال : وفيه أنزلت ﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا ﴾ يعني النضر بن الحارث وإسناد الفعل إلى جميعهم لكونهم راضيا بقوله كما أسند عقر الناقة إلى ثمود في قوله تعالى ﴿ فعقروها ﴾١ وكان العاقر أشقاها قذار بن سالف ﴿ قد سمعنا ﴾ يعني القرآن﴿ لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾وهذا غاية مكابرتهم وفرط عنادهم إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم أن يشاؤوا وقد تحداهم وقرعهم بالعجز عشر سنين ثم قارعهم فلم يعارضوه سورة مع الفهم وفرط استنكافهم ان يغلبوا خصوصا في باب البيان ﴿ إن هذا ﴾يعني القرآن ﴿ إلا أساطير الأولين ﴾يعني ما سطره وكتبه الأولون من أخبار الأمم الماضية جميع أسطورة وهي المكتوبة.
قال البغوي : كان النضر بن الحارث تاجرا إلى فارس وحيرة فيسمع أخبار رستم وأسفنديار وأحاديث العجم ويمر باليهود والنصارى فيراهم يقرؤون التوراة والإنجيل ويركعون ويسجدون فجاء مكة فوجد محمد صلى الله عليه وسلم يصلي ويقرأ القرآن فقال : النضير : قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا الآية
١ سورة الشمس، الآية ١٤.
﴿ وإذ قالوا اللهم إن كان هذا ﴾أي القرآن ﴿ هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾كما فعلت بأصحاب الفيل وقوم لوط ﴿ أو ائتنا بعذاب أليم ﴾مؤلم على إنكاره قالوا : ذلك استهزاء وإيهاما بأنهم على بصيرة وجزم ببطلانه، أخرج ابن جرير عن سعيد بن جبير أنها نزلت في النضر بن الحارث وهو القائل بذلك، قال : البغوي : قال : ابن عباس : لما قص رسول الله صلى الله عليه وسلم شأن القرون الماضية قال : النضر لو شئت قلت مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين في كتبهم قال : له عثمان : فإن محمدا يقول : لا إله إلا الله، قال : فأنا أقول لا إله إلا الله ولكن هذه بنات الله يعني الأصنام ثم قال : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك إلخ وفيه نزل ﴿ سأل سائل بعذاب واقع ١ ﴾١
ومعناه إن كان القرآن حقا منزلا فأمطر الحجارة علينا عقوبة على إنكاره أو أئتنا بعذاب أليم سواه.
والمراد منه التهكم وإظهار اليقين على كونه، باطلا قال : عطاء لقد نزل في النظر بضعة عشر آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر قوله تعالى ﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون٣٣ ﴾اختلفوا في معنى الآية فقال : محمد بن إسحاق : هذا حكاية عن المشركين أنهم قالوها وهي متصلة بالآية الأولى، ذلك أنهم كانوا يقولون إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر ولا يعذب أمه نبيا معها فقال : الله لنبيه صلى الله عليه وسلم يذكر جهالهم وغرتهم واستفتاحهم على أنفسهم، ثم قال : ردا عليهم ﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله ﴾وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون ﴿ ومالهم ألا يعذبهم الله ﴾.
١ سورة المعارج، الآية: ١..
وقال الآخرون هذا كلام مستأنف، روى البخاري عن انس قال : قال : أبو جهل بن هشام : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب أليم فنزلت ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾١ إخبار عن نفسه فاختلفوا في تأويلها فقال الضحاك وجماعة وكذا أخرج ابن جرير عن ابن أبزي تأويلها وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مقيم بين أظهرهم بيان لموجب إهمالهم والتوقف لإجابته دعائهم وللام لتأكيد النفي والدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال والنبي بين أظهرهم خارج عن عادة الله تعالى غير مستقيم في قضائه خصوصا حال كونك فيهم وقد بعثت رحمة للعالمين وفيه إشعار بانهم يرصدون بالغذاب إذا هاجرت من بينهم، قالوا : نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة ثم خرج من بين أظهرهم وبقيت بها بقية من المسلمين يستغفرون الله فأنزل الله ﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾يعني فيهم من يستغفرون وهم المسلمون ثم خرج أولئك من بينهم فعذبوا وأذن الله في فتح مكة، وهو العذاب الأليم الذي وعدهم، ويدل على أن كون المؤمنين بينهم واستغفارهم منعهم من العذاب قوله تعالى ﴿ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم ﴾ إلى قوله :﴿ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما ﴾. ٢ قال ابن عباس : لم يعذب الله قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا ويلحق بحيث يؤمر فقال :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله ليعذبهم وهم يستغفرون ٣٣ ﴾ يعني المسلمين فلما خرجوا قال : الله تعالى مالهم أن لا يعذبهم الله أي مالهم مما يمنع إذا زال ذلك وكيف لا يعذبون وهم يصدون الناس عن المسجد الحرام وحالهم ذلك، ومن صدهم إلجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الهجرة فعذبهم الله يوم بدر، قال : أبو موسى الأشعري كان فيكم أمانان وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى والاستغفار كائن فيكم إلى القيادة، وأخرج الترمذي وضعفه عن أبي موسى قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أنزل الله علي أمانين لأمتي وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون فإذا مضيت فيهم تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة " ٣وقال بعضهم هذا الاستغفار راجع إلى المشركين. أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : كان المشركون يطفون بالبيت ويقولون غفرانك فأنزل الله تعالى ﴿ وما كان الله ليعذبهم ﴾الآية، وأخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان قالت قريش بعضها لبعض : محمد أكرم الله من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فلما أمسوا ندموا على ما قالوا : فقالوا غفرانك اللهم فقال : الله سبحانه ﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾ إلى قوله ﴿ لا يعلمون ﴾.
قال قتادة والسدي : معنى ما كان الله معذبهم وهم يستغفرون أن لو استغفروا لم يعذبهم الله لكنهم لم يستغفروا ولو أقروا بالذنب واستغفروا لكانوا مؤمنين نظيره قوله تعالى ﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ﴾٤وقيل معنى الآية أن الله تعالى يدعوهم إلى الإسلام ومصاحبة الرسول والاستغفار بهذا الكلام كالرجل يقول لغيره لا أعاتبك وأنت تطيعني أي أطعني حتى لا أعاتبك، وقال مجاهد وعكرمة وهم يستغفرون أي يسلمون يقول لو أسلموا ما عذبوا.
وروى الوالبي عن ابن عباس أن معناه وفيهم من سبق له من الله أنه يؤمن ويستغفر وذلك مثل أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام وغيرهم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: تفسير القرآن، باب ﴿وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو أئتنا بعذاب أليم﴾(٤٦٤٨)..
٢ سورة الفتح، الآية ٢٥..
٣ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنفال (٣٠٨٢)..
٤ سورة هود، الآية: ١١٧..
وروى عبد الوهاب عن مجاهد وهم يستغفرون يعني وفي أصلابهم من يستغفر وقيل : أراد بالعذاب في قوله تعالى :﴿ وما كان الله ليعذبهم ﴾عذاب استئصال وفي قوله تعالى :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله ﴾ العذاب بالسيف، وقيل : أراد بنفي العذاب عذاب استئصال في الدنيا وبوقوع العذاب عذاب الآخرة ﴿ وما كانوا أولياؤه ﴾ قال : الحسن كان المشركون يقولون : نحن أولياء المسجد الحرام فنصد من نشاء وندخل من نشاء فرد الله عليهم بقوله :﴿ وما كانوا أولياءه ﴾ أي أولياء البيت ﴿ إن أولياؤه ﴾أي : البيت ﴿ إلا المتقون ﴾من الشرك الذين لا يعبدون فيه غير الله وقيل : الضمير لله تعالى ﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾أن لا ولاية لهم عليه كأنه نبه بالأكثر أن منهم من يعلم ذلك ويعاند أو أراد بالأكثر الكل كما يراد بالقلة العدم
﴿ وما كان صلاتهم عند البيت ﴾أي دعائهم وما يسمونه صلاة ﴿ إلا مكاء ﴾. قال ابن عباس والحسن المكاء الصفير وهي في اللغة اسم طائر أبيض بالحجاز له صفير كأنه قال : الأصوات مكاء ﴿ وتصدية ﴾وتصفيقا، قال : البغوي : قال : ابن عباس كانت قريش تطوف بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون وكذا اخرج الو احدي عن ابن عمر عن ابن عمر، قال : البغوي : قال : مجاهد : كان نفر من بني عبد الدار يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف و يستهزؤن ويدخلون أصابعهم في أفواههم ويصفرون فالمكاء جعل الأصابع في الشدق والتصدية الصفير ومنه الصداء الذي يسمعه المصوت من الجبل.
وفي اللغة الصداء صوت يرجع من كل جانب، واخرج ابن جرير عن سعيد قال : كان قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم يستهزؤن به يصفرون ويصفقون فنزلت هذه الآية، وقال البغوي قال : جعفر بن أبي ربيعة سألت أبا سلمة عن عبد الرحمان عن قوله تعال :﴿ مكاء وتصدية ﴾ فجمع كفيه ثم نفخ فيهما صفيرا، وقال مقاتل كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى في المسجد قام رجلان عن يمينه فيصفران ورجلان عن يساره فيصفقان ليخلطوا على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته وهم من بني الدار، وقال سعيد بن جبير : التصدية صدهم المؤمنين عن المسجد الحرام وعن الدين وعن الصلاة فالتصدية مشتق من الصد بالدالين قلبت حرف التضعيف بالياء، وعلى هذه الوجوه معنى قوله تعالى ﴿ وما كان صلاتهم ﴾ وما وضعوه موضع الصلاة فإنهم أمروا بالصلاة في المسجد فجعلوا ذلك مكانه ﴿ فذوقوا العذاب ﴾يعني القتل يوم بدر وقيل : عذاب الآخرة واللام يحتمل للعهد والمعهود العذاب المطلوب بقولهم :﴿ ائتنا بعذاب أليم ﴾﴿ بما كنتم تكفرون ﴾اعتقادا وعملا وهذه الآية متصلة بما قبلها لتقرير استحقاقهم العذاب وعدم ولا يتهم للمسجد فإنها لا يليق بمن هذه صفته.
﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا ﴾أي ليصرفوا الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾ يعني عن دين الله، قال : البغوي : قال : الكلبي : نزلت في المطعمين يوم بدر وكانوا اثنا عشر رجلا أبو جهل بن هشام وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد الشمس ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس بن عبد المطلب وكلهم من قريش وكان يطعم كل واحد منهم كل يوم عشر جزور، وقال ابن عباس حدثني الزهري ومحمد بن يحيى بن حبان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمان قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ورجعوا إلى مكة مشى عبد الله بن أبي وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن امية في رجال من قريش أصيب آبائهم وأبنائهم فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في ذلك العير من قريش تجارة فقالوا يا معشر قريش غن محمدا قد وتركم وقتل خياركم فأعينونا بهذا المال على حربه فلعلنا أن ندرك منه ثأرا ففعلوا ففيهم كما ذكر ابن عباس أنزل الله ﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ﴾إلى قوله ﴿ يحشرون ﴾واخرج ابن أبي حاتم عن الحكم بن عتبة قال : نزلت في أبي سفيان أنفق على المشركين أربعين أوقية من ذهب، واخرج ابن جرير عن أبزي وسعيد ابن جبير قالا : نزلت في أبي سفيان استاجر يوم احد ألفين من الأحابيش ليقاتل بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت : واللفظ عام يشتمل كلهم ومن فعل فعلهم ﴿ فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ﴾ ندما وغما في الدنيا لفواتها من غير حصول مقصود جعل وغنها حسرة وهي عاقبة إنفاقها مبالغة ﴿ ثم يغلبون ﴾ آخر الأمر والكان الحرب سجالا قبل ذلك ﴿ والذين كفروا ﴾ أي ثبتوا على الكفر منهم إذا أسلم بعضهم ﴿ إلى جهنم يحشرون ﴾ يساقون
﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ﴾ الكافر من المؤمن أو الفساد من الصلاح.
واللام متعلقة بيحشرون أو يغلبون أو ما أنفقه المشركون من عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم مما أنفقه المسلمون في نصرة واللام متعلقة بقوله ثم تكون عليهم حسرة، قرأ حمزة والكسائي ويعقوب ليميز بالتشديد من التفعيل وهو أبلغ من الميز ﴿ ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه ﴾أي يجمعه ويضم بعضه إلى بعض ومنه السحاب المركوم ﴿ جميعا فيجعله في جهنم ﴾كله ﴿ أولئك ﴾إشارة إلى الخبيث لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنافقين﴿ هم الخاسرون ﴾ الكاملون في الخسران حيث اشتروا بأموالهم عذاب الآخرة
﴿ قل للذين كفروا إن ينتهوا ﴾عن الكفر ومعادة الرسول وقتاله ﴿ يغفر لهم ما قد سلف ﴾من الكفر والفساد والذنوب وقد أسلم جماعة كثيرة منهم أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وعمرو بن العاص وغيرهم خلق كثير، واسلم من أسارى بدر عباس بن عبد المطلب و عقيل بن أبي طالب ونوفل بن حارث وأبو العاص بن الربيع وأبو عزيز عمير العبدري والصائب بن أبي حبيش وخالد بن هشام المخزومي وعبد الله بن أبي السائب والمطلب بن أبو وداعة السهمي وعبد الله بن أبي خلف ووهب بن عمير الجمحي وسهيل بن عمر العامري وعبد الله بن زمعة أخو أم المؤمنين سودة وقيس بن السائب مولى أمية بن خلف و السائب بن عبيد أسلم يوم بدر بعد أن فدى نفسه وعدي بن خيار أسلم ويوم الفتح والوليد بن الوليد بن المغيرة أفتكه هشام وخالد فلما افتدى اسلم فعاتبوه في ذلك فقال : كرهت ان يظن بي أني جزعت من السر ولما أسلم حبسه أخواله فكان عليه السلام يدعو له في القنوت ثم أفلت ولحق بالنبي صلى الله عليه وسلم عام القضاء.
روى مسلم عن عمرو بن العاص قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت يمينك فلأبايعك فبسط يمينه فقبضت يدي فقال : مالك يا عمر ؟ قال : أردت أن اشترط، قال : تشترط ما ذا ؟ قلت : ان يغفر لي، قال :" أما علمت يا عمرو ان الإسلام يهدم ما كان قبله وان الهجرة تهدم ما كان قبلها وان الحج يهدم ما كان قبله " ١﴿ وان يعودوا ﴾إلى قتاله ﴿ فقد مضت سنة الأولين ﴾الذي تحادوا الأنبياء بالتدمير كما جرى على أهل بدر فليتوقعوا مثل ذلك
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: كون الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (١٢١)..
﴿ وقاتلوهم ﴾ يعني الكفار أيها المؤمنون ﴿ حتى لا تكون فتنة ﴾ أي : فساد في الأرض يعني حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ﴿ ويكون الدين كله لله ﴾ ليس المراد بالدين ها هنا ملة الإسلام وما يتعبد الله به وإلا يلزم التعارض بين هذه الآية وبين قوله تعالى :﴿ حتى يعطوا الجزية ﴾١ بل المراد منه القهر والغلبة والاستسلام والسلطان والملك والحكم ذكر تلك المعاني للدين في القاموس. .
عن المقداد بن اسود انه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :" لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله كلمة الإسلام بعز عزيز أو ذل ذليل، / إما يعزهم الله فيجعلهم أهلها أو يذلهم فيدنون لها فيكون الدين كله لله " ٢رواه احمد، ومعنى قوله عليه السلام فيدينون لها أي يطيعون لأحكامها ويكونون من أهل الذمة ﴿ فان انتهوا ﴾ عن الكفر وأسلموا ﴿ فان الله بما يعملون بصير ﴾فيجازيهم على حسب أعمالهم.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أمرت ان أقاتل الناس حتى يشهدوا ان لا إله إلا الله وان محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصم مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم عل الله تعالى " ٣ متفق عليه، إلا أن مسلما لم يذكر " إلا بحق الإسلام ". ورواه أصحاب الكتب الستة عن أبي هريرة قال : السيوطي حديث متواتر، والمعنى انتهوا عن القتال إما بالإسلام أو بإعطاء الجزية فإن الله بما يعملون بصير يعني لا تقاتلوهم أنتم لكن الله يجازيهم على إسلامه وكفرهم وأعمالهم الحسنة والسيئة، وعن يعقوب قرأ تعلمون بالتاء على الخطاب للمؤمنين يعني اعملوا بهم ما تعاملون بالمؤمنين ولا تظلموهم فإن الله يجازيكم على حسب أعمالكم، عن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" ألا من ظلم معاهدا أو أنتقصه أو كلفه فوق طاقته أو اخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة " ٤ رواه أبو داود، هذا التأويل لقراءة يعقوب يصح على كلا التقديرين سواء كان المراد بالانتهاء الانتهاء عن الكفر بالإسلام أو الانتهاء عن القتال بأحد الأمرين إما بالإسلام أو بإعطائه الجزية، وقال البيضاوي. تأويل قراءة يعقوب أن الله بما تعملون أيها المؤمنون من الجهاد والدعوة إلى الإسلام والإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان يصير يجازيكم ويكون تعلقه بالانتهاء دلالة على انه كما يستدعى إثابتهم للمباشرة يستدعي إثابة مقاتليهم بالتسيب، وهذا التأويل يختص بما إذا كان الانتهاء بمعنى الانتهاء من الكفر ومع ذلك بعيد جدا فإن قوله بما تعملون يعم الحسنة والسيئة والله أعلم.
١ سورة التوبة، الآية: ٢٩..
٢ رواه أحمد والطبراني ورجال احمد رجال الصحيح، انظر مجمع الزوائد في كتاب: المغازي والسير، باب: علو الإسلام على كل دين خالفه وظهوره عليه (٩٨٠٧)..
٣ أخرجه البخاري في كتاب: الإيمان باب: ﴿فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم﴾(٢٥)، و أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب: المر بقتال الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله (٢٢)..
٤ أخرجه أبو داود في كتاب: الخراج والفيء والإمارة، باب: تفسير أهل الذمة إذا اختلفوا بالتجارة (٣٠٥٠) قال عبد الحق: في إسناده اختلاف و لا أعلمه من طريق يحتج به..
﴿ وان تولوا ﴾عن الإسلام ولم ينتهوا عن الكفر أو يتولوا عن الانقياد ولم ينتهوا عن القتال ﴿ فاعلموا أن الله مولاكم ﴾ ناصركم فثقوا به وقاتلوا الكفرة ولا تبالوا بمعاداتهم متكاثرين ﴿ نعم المولى ﴾ الله لا يضيع من تولاه ﴿ ونعم النصير ﴾ هو لا يغلب من نصره.
ما بمعنى الذي. . . . . . . . . . . . . . . . وغنمتم صلته والعائد محذوف يعني الذي غنمتموه ولا يجوز أن يكتب ما موصولا لأنه يكون حينئذ كافة والغنيمة مال حربي أخذ قهرا وغلبة، ومن هاهنا قال : أبو حنيفة إذا دخل واحد أو اثنان في دار الحرب بغير إذن الإمام وأخذوا من مال أهل الحرب شيئا لا يجب فيه الخمس وإن دخل أربعة يجب الخمس فيما أخذوا، وفي المحيط عن أبي يوسف انه قدر الجماعة التي لا منعة لها بسبعة والتي لها منعة بعشرة.
ومذهب الشافعي ومالك وأكثر أهل العلم أنه يخمس ما أخذه واحد تلصصا لأنه مال حربي أخذ قهرا فكان غنيمة فيخمس بالنص، وقال أبو حنيفة في رواية عنه إنه ليس بغنيمة لأنه لم يؤخذ قهرا بل اختلاسا وسرقة والمتلصص إنما يأخذ بحيلة فكان اكتسابا مباحا من المباحات كالاحتطاب والاصطياد، ومحل الخمس الغنيمة بخلاف ما لو دخل واحد أوإ ثنان بإذن الإمام فإنه غنيمة اتفاقا لأن على الإمام ان ينصره حيث أذن له، كما أن على الإمام أن ينصر الجماعة الذين لهم منعة كالأربعة أو العشرة وإن دخلوا بغير إذنه تحاميا عن توهين المسلمين والدين فلم يكونوا مع نصرة الإمام متلصصين والله أعلم.
﴿ من شيء ﴾ بيان لما الغرض مه التعميم يعني عليه اسم الشيء حتى الخيط والمخيط، عن عبادة بن الصامت ان النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول :" أدوا الخياط والمخيط وإياكم والغلول فإنه عار على اهله يوم القيامة " رواه الدارمي، ورواه الشافعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفي رواية لأبي داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده نحوه وفيه فقام رجل في يده كبة من شعر فقال : أخذت هده لأصلح بها برذعة فقال : النبي صلى الله عليه وسلم :" أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فلك " ١ ﴿ فان لله خمسه ﴾ دخلت الفاء لما في ما من معنى المجازاة وما بعده في محل الرفع مبتدأ محذوف الخبر يعني فحق أن لله خمسه أو خبر مبتدأ محذوف فالحكم أن لله خمسه أبقى الله سبحانه خمس الغنائم على ملكه ولم يجعلها في ملك الغانمين، ولذا قالت الحنفية أن خمس الغنيمة حق قائم بنفسه ليس واجبا في ذمة الغانمين كالزكاة فإنها وجبت في ذمة المكلفين حيث أمروا بإتيانها ولذلك صار الزكاة من أوساخ الناس ولم يحل لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لشرافته وحل له الخمس، ثم بين الله سبحانه حيث يصرف خالص حقه تعالى فقال :﴿ وللرسول ولذي القربى ﴾ يعني أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلفوا فيهم ؟ فقال : قوم هم جميع قريش وقال مجاهد وعلي بن الحسين هم بنو هاشم وقال الشافعي هم بنو هاشم وبنو المطلب ابني عبد مناف وليس لبني عبد الشمس وبني نوفل منه شيء مع أنهم كانوا ابني عبد مناف أيضا. روى الشافعي عن الثقة عن ابن أبي شهاب عن ابن المسيب عن جبير بن مطعم قال : قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم سهم ذوي القرى بين بني هاشم وبني المطلب ولم يعط أحدا من بني عبد الشمس ولا بني نوفل شيئا، وكذا روى البخاري عنه في " صحيحه " وفي رواية للشافعي عنه قال : لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذوي القربى بين بني هاشم وبني عبد الطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان فقلنا : يا رسول الله هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله فيهم أرأيت إخواننا من بني عبد المطلب أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم واحدة ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم وآله وسلم :" إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا "، وشبك بين أصابعه ٢. وكذا روى أبو داود والنسائي، قال : البرقاني : وهو على شرط مسلم، وفي هذا الحديث إشارة إلى شأن الصحيفة القاطعة التي كتبتها قريش على أن لا تجالسوا بني هاشم ولا تبايعوهم ولا تناكحوهم وبقوا على ذلك سنة ولم يدخل في بيعهم بنو المطلب بل خرجوا مع بني هاشم إلى شعب أبي طالب كذا في السنن والمغازي، وروى البيهقي في السنن والدلائل، قال : الخطابي وكان يحيى بن معين يرويه إنما بنو هاشم وبنو المطلب سي واحد بالسين المهملة والياء المشددة أي مثل وسواهم يقال سيان أي مثلان قلت : هذا الحديث يدل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألحق بني المطلب ببني هاشم وعددهم منهم لكمال موافقتهم ومؤازرتهم في الجاهلية والإسلام لا لكونهم من بني عبد مناف وإلا فبني عبد الشمس وبني نوفل كانوا مثلهم في ذلك، وما قال : صاحب الهداية أن هذا الحديث يدل على أن المراد قرب النصرة لا قرب القرابة بشيء لأنه لو كان المراد قرب النصرة لكان عثمان بن عفان أولى به من العباس فإن عثمان اسلم في بداية الإسلام وعباس بعد قتال بدر لزم أن يكون غير قرباء النبي من المهاجرين والأنصار مستحقين لذلك السهم ﴿ واليتامى ﴾ جمع يتيم وهم صغر لا أب له وفي القاموس اليتيم فقدان الأب وإنما قيدنا بكونه صغيرا لما رواه أبو داود وعن علي في حديث :" لا يتم بعد الاحتلام " ٣ وقد أعله العقيلي وعبد الحق وابن القطان و المنذري وغيرهم وحسنه النووي، ورواه الطبراني بسند آخر عن علي ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده، وفي الباب حديث طلحة بن حذيفة عن جده وإسناده لا بأس به وهو في الطبراني الكبير وغيره وعن جابر رواه ابن عدي في ترجمة حزام بن عثمان وهو متروك وعن انس ﴿ والمساكين ﴾ جمع مسكين وسنذكر تحقيقه في مصاريف الصدقات في سورة التوبة ﴿ وابن السبيل ﴾ : المسافر البعيد عن منزله نسب إلى السبيل لممارسته إياه أجمع الأئمة على ان هذه الأوصاف الثلاثة يستحقون لفقرهم وحاجتهم فلا يعطى للأغنياء من اليتامى وأبناء السبيل، وكذا قال : بعض الناس في ذوي القربى أنهم يستحقون لفقرهم وحاجتهم وهذا القول مردود لأن لفظ ذوي القرى لا يشعر بالفقر أصلا بخلاف اليتيم وابن السبيل، وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعطي العباس وكان كثير المال، واجمع الأئمة واتفقت الرواة على ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يقسم الغنيمة على خمسة أسهم أربعة أخماسه للغانمين ويجعل الخمس على خمسة أسهم فيجعل سهما لنفسه فينفق منه على نفسه وأهله ويعطي منه أهله نفقة سنة وما فضل جعله في السلاح والكراع عدة في سبيل الله وفي مصالح المسلمين، وسهما يقسهما في بني هاشم وبني مطلب يعطي منها الغني والفقير والذكر والأنثى منهم وثلاثة أسهم يقسمها في اليتامى والمساكين وأبناء السبيل، فلينظر هل كان هؤلاء الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه من الأصناف الخمسة هل كان كل واحد منهم مستحقا لحصته منها لا يجوز منعه عنه ولا صرفه إلى غيره أو كان الأصناف المذكورة مصرفا لها جاز للإمام أن يصرفها إلى صنف واحد منها أو إلى شخص واحد منه ولا يجوز له التجاوز عنها إلى غيرها، وبالشق الثاني قال : أبو حنيفة، قال : ابن همام إنه ذكر في التحفة ان هذه الثلاثة يعني اليتامى والمساكين وابن السبيل مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق حتى لو صرف إلى صنف واحد منها جاز. وقال الشافعي وجماعة من السلف والخلف بالشق الأول قالوا : لا يجوز للإمام أن يصرفها إلى صنف أو صنفين بل يجب صرفها إلى جميعها، فإن كان كل صنف منها جماعة محصورين لا يجوز منع واحد منها وسوى بينهم بالقسمة كما يقسم الأسهم الأربعة بين الغانمين لا يجوز منع واحد منهم إجماعا، والحق الشافعي سهم ذوي القربى بالميراث الذي يستحق باسم القرابة غير أنهم يعطون القريب والبعيد فقال : يفضل الذكر على الأنثى فيعطي للذكر سهمين والأنثى سهما وإن كانوا غير محصورين لا يمكن استيعابهم لا بد عنده أن يعطى من كل صنف ثلاثة لأن الله تعالى ذكر لام الاختصاص وذلك يقتضي الملك أو استحقاق الملك وذكر كل صنف بلفظ الجمع وأقله ثلاثة، وقال أبو حنيفة ومن معه اللام لمطلق الاختصاص ومن الاختصاص أن لا يجوز الصرف إلى غير تلك الأصناف واللام ليس للاستغراق بل للجنس ولام الجنس يبطل الجمعية، والحجة لهذا القول أن الأصناف المذكورة متداخلة بعضها في بعض فإن من ذوي القربى اليتامى والمساكين وابن السبيل ومن المساكين ذوو القربى واليتامى وأبناء السبيل ولو كان كل صنف منها مختص بسهم، لا يجوز صرفها إلى صنف آخر لزم ذكره كل صنف منها بحيث لا يصدق عليه عنوان صنف آخر، وأيضا إذا كان شخص واحد داخلا في الأصناف كلها لزم حينئذ أن يعطي له الجل كل وصف سهما كما يعطي من الميراث للزوج إذا كان ابن عم لها لأجل الحيثيتين سهمين مختلفين فرضا وعصوبة. ومن المنقول ما في الصحيحين عن علي رضي الله عنه :" أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وآله وسلم تشكوا إليه ما تلقى في يدها من الرحى وبلغها أن جاءه رقيق فلم تصادفه فذكرت ذلك لعائشة فلما جاء أخبرته عائشة، قال : فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقول فقال : مكانكما فقعد بيني وبينها حتى وجدت برد قدمه على بطني فقال :" ألا أدلكما على خير ما سألتما ؟ إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين فهو خير لكما من خادم " ٤ وفي رواية لمسلم :" ألا أدلك على ما هو خير من خادم تسبحين الله ثلاثا وثلاثين وتحمدين ثلاثا وثلاثين وتكبرين أربعا وثلاثين عند كل صلاة وعند منامك ".
وروى الطحاوي عن علي بلفظ انه قال : لفاطمة رضي الله عنهما ذات يوم قد جاء الله أباك بسعة ورقيق فأتيه فاستخدميه فأتيته فذكرت ذلك، فقال :" والله لا أعطيكما وادع أهل الصفة ليطوون بطونهم ولا أجد ما انفق عليهم ولكن أبيعها وانفق عليهم ألا أدلكما على خير مما سألتما علمنيه جبرئيل كبرا الله دبر كل صلاة عشرا وسبحا عشرا واحمدا عشر وإذا أتيتما إلى
فراشكما ".
وروى الطحاوي عن الفضل بن حسن بن عمر بن الحكم ان أمه حدثته انها ذهبت هي وامها حتى دخلن على فاطمة فخرجن جميعا فأتين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أبل من بعض غزواته ومعه رقيق فسألنه أن يخدمهن فقال :" سبقكن يتامى أهل بدر " فإن هذه الحادث تدل على أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان قد يعطي بعض الأصناف ولا يعطي بعضا آخر وإلا لما منع فاطمة عن حقها وقد كان لها حظ من الخمس ولما صرف حق فاطمة إلى فقراء أهل الصفة ويتامى أهل بدر فإن سهم ذوي القربى لا يجوز صرفها عند الشافعي إلى الفقراء واليتامى بل لكل من الصنفين عنده سهم من الخمس غير سهم ذوي القربى، ويؤيد ما قلت ما روى أبو يوسف في كتاب الخراج قال : حدثني أشعت بن سوار على أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أنه كان يحمل من الخمس في سبيل الله ويعطي منه نائبة القوم فلما كثر المال جعل في اليتامى والمساكين وابن السبيل، قلت : عندي معنى الآية ان لله خمسه يعني ملكا حيث أبقاه سبحانه على ملك نفسه ولم يعط أحد غيره أحدا وأمر رسوله صرفه كما أمر وللرسول ذلك الخمس استحقاقا وتصرف على نفسه وفي ما صرفه كيف يشاء ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل مصرفا ولذلك ذكر الصنفين الآخيرين عطفا على ذي القربى بلالام وذكر الأصناف الأربعة بلام واحد لكون كلها من جنس واحد مختصا باختصاص المصرفية ولم يعطفها على الرسول كما عطف الآخيرين وأورد اللام على الرسول ولم يعطف على الله لكون كل اختصاص منها نوعا على حدة فالاختصاص بالله اختصاص الملك وليس بالرسول اختصاص الملك.
لما روى أنه صلى الله عليه وآله وسلم : أخذ وبرة من جنب البعير ثم ق
١ أخرجه النسائي في كتاب: الهبة، باب: هبة المشاع (٣٦٨١)..
٢ أخرجه أبو داود في كتاب: الخراج والفيء والإمارة، باب: في بيان مواضع قسم الخمس وسهم ذي القربى (٢٩٧٦). وأخرجه النسائي في كتاب: قسم الفيء (٤١٣٥)..
٣ أخرجه أبو داود في كتاب: الوصايا، باب: ما جاء متى ينقطع اليتيم (٢٨٧٠)..
٤ أخرجه البخاري في كتاب: الدعوات، باب: التكبير والتسبيح عند المنام (٦٣١٨) وأخرجه مسلم في كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: التسبيح أول النهار وعند النوم (٢٧٢٧)..
﴿ إذ انتم ﴾ بدل من يوم الفرقان يعني إذ كنتم أيها المسلمون نازلين ﴿ بالعدوة ﴾ أي شط الوادي ﴿ الدنيا ﴾ تأنيث الأدنى يعني العدوة الشاملة القريبة إلى المدينة ﴿ وهم ﴾ يعني المشركين ﴿ بالعدوة القصوى ﴾ تأنيث الأقصى وكان قياسه قصيا بقلب الواو ياء كالدنيا والعليا تفرقة بين الاسم والصفة فجاء على الأصل كالقود وهو أكثر استعمالا من القصيا، يعني العدوة اليمانية البعيدة من المدينة، قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر العين فيهما والباقون بضمها فيهما وهو لغتان ﴿ والركب ﴾ يعني العير يريد ابا سفيان وأصحابه ﴿ أسفل منكم ﴾أي في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر منصوب على الظرف مرفوع المحل على انه خبر مبتدأ، والجملة حال من الظرف قبله، وفائدتها الدلالة على قوة العدو واستظهارهم بالركب وحرصهم على المقاتلة وتوطين نفوسهم على أن لا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى جهدهم وضعف شأن المسلمين واستبعاد غلبتهم عادة ولذا ذكر مركز الفريقين فإن العدوة الدنيا كانت رخوة تسوح فيها الأرجل ولا يمشي فيها إلا بتعب ولم يكن بها ماء بخلاف العدوة القصوى ﴿ ولو تواعدتم ﴾ المؤمنون انتم مع الكفار الاجتماع للقتال ثم علمتم وكثرة عدوكم وقوتكم ﴿ لاختلفتم ﴾ أنتم ﴿ في الميعاد ﴾ هيبة عنهم وبأسا من الظفر عليهم ﴿ ولكن ﴾ الله تعالى جمعكم من غير ميعاد حيث خرجتم للعير وخرج الكفار ليمنعوا عيرهم فالتقوا على غير ميعاد ﴿ ليقضي الله أمرا كان ﴾ أي صار ﴿ مفعولا ﴾ من نصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه وقوله :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حي عن بينة ﴾ بدل من ليقضي الله أو متعلق بقوله مفعولا.
والمعنى ليموت من مات منهم عن بينة رآها وعبرة عاينها وحجة قامت عليه ويعيش من عاش منهم عن حجة شاهدها لئلا يكون من كفر بعد حجة قامت عليه ويؤمن من آمن على مثل ذلك استعارة للهلاك والحياة للكفر والإسلام يعني من لهذا حاله في علم الله وقضائه قرأ ابن كثير برواية البزي ونافع وأبو بكر ويعقوب حيي بفك الإدغام حملا على المستقبل ﴿ وان الله لسميع عليم ﴾ بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه، ولعل الجميع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول والاعتقاد
﴿ إذ يريكهم الله في منامك قليلا ﴾مقدر باذكر أو بدل ثان من يوم الفرقان او متعلق بعليم أي يعلم المصالح أن يقللهم في عينك في رؤياك حين تخبر به أصحابك فيكون تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوهم.
وذلك ان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : لأصحابه يوم بدر في أول الأمر " لا تقاتلوا حتى أوذنكم وإن كثبوكم فارموهم بالنبل ولا تسلوا السيف حتى يغشوكم " فنام في العريس نومة فقال : أبو بكر يا رسول الله قد دنا القوم وقد مالوا منا، فاستيقظ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد أراه الله عز وجل إياهم في منامه قليلا فأخر بذلك أصحابه، وروى ابن إسحاق وابن المنذر عن حبان بن واسع عن أشياخ من قومه انتبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال :" أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبرائيل أخذ بعنان فرسه يقوده على ثناياه النقع " قال : الحسن معنى في منامك في عينك لن العين موضع النومة ﴿ ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ﴾ لجبنتم ﴿ لتنازعتم في الأمر ﴾ أمر القتال وتفرقت أرائكم في الثبات والفرار ﴿ ولكن الله سلم ﴾ أي سلمكم المخالفة والفشل ﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ يعلم ما يكون فيها وما يتغير أحوالها وقال ابن عباس علم ما في صدوركم من الحب لله
﴿ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ﴾.
قال ابن مسعود لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي أتراهم تسعين ؟ قال أراهم مائة فأسرنا رجلا منهم فقلنا : كم كنتم ؟ قال : ألفا ﴿ ويقللكم ﴾ يا معشر المؤمنين ﴿ في أعينهم ﴾ كيلا يهربوا قال : أبو جهل : إن محمد وأصحابه أكلة جزور، روى ابن المنذر أبي حاتم عن ابن جريح ان أبا جهل قال : يوم بدر : خذوهم أخذا واربطوهم في الجبال ولا تقتلوا منهم أحدا فنزل ﴿ إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة ﴾١ قال : وذلك قبل التحام الحرب فلما التحم أراهم إياهم مثيلهم رأي العين كما في آل عمران ﴿ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾ كرره لاختلاف الفعل به أو لأن المراد بالأمر ثمة الالتقاء على الوجه المحكي وهاهنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه ﴿ والى الله ترجع الأمور ﴾ يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
١ سورة القلم، الآية: ١٧..
﴿ يأيها الذين امنوا إذا لقيتم ﴾ للمحاربة ﴿ فئة ﴾ يعني جماعة كافرة ولم يصفها إشعارا بأن المؤمنين لا يقاتلون إلا الكفار ﴿ فاثبتوا ﴾ لقتالهم فإن الفرار من الزحف كبيرة كما ورد في الصحاح من الأحاديث ﴿ واذكروا الله كثيرا ﴾ داعين له بالنصر مستظهرين بذكره مترقبين لنصره ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ تظهرون بمرادكم من النصر والمثوبة، وفيه تنبيه على أن العبد ينبغي ان لا يشغله شيء عن ذكر الله وان يلتجئ إليه عند الشدائد ويقبل عليه بشرا شره فارغ البال واثقا بأن لطفه لا ينفك عن عبده المؤمن في شيء من الأحوال
﴿ وأطيعوا الله ورسوله ﴾ في قتال أعدائه وإعزاز دينه ﴿ ولا تنازعوا ﴾ باختلاف الآراء كما فعلتم يوم بدر في أول الأمر ويوم أحد
﴿ فتفشلوا ﴾ أي تجبنوا منصوب بإضمار أن جواب للنهي وقيل : عطف عليه ولذلك قرئ ﴿ وتذهب ريحكم ﴾ الجزم والريح استعير للدولة ونفاذ الأمر وجريانه على المراد وكذا قال : الأخفش كأنها في تمشي أمرها ونفاذه مشبهة بالريح في هبوبها ونفوذها، وقال السدي : جرأتكم، وقال مقاتل : حدتكم وقال النصر بن شميل : قوتكم، وقال قتادة وابن زيد : المراد به الحقيقة قالا لم يكن النصر قط إلا بريح يبعثها الله يصرف رجوع العدو، وكذا اخرج ابن أبي حاتم عن أبي زيد، ومنه قوله صلى الله عليه وآله وسلم :" نصرت بالصبا واهلك عاد بالدبور " ١ متفق عليه من حديث ابن عباس، وعن النعمان بن مقرن قال : شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار، انتظر حتى تزول الشمس وتهب الرياح وينزل النصر رواه ابن أبي شيبة ﴿ واصبروا ﴾ على الموت والجرح ﴿ إن الله مع الصابرين ﴾ بالنصر والإثابة.
روى البخاري في صحيحه عن سالم أبي النصر مولى عمرو بن عبد الله وكان كاتب له قال : كتب عبد الله بن أب أوفى كتابا : فقرأته أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها العدو انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال :" يا أيها الناس : لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية فإذا لقيتم فاصبروا واعلموا ان الجنة تحت ظلال السيوف " ثم قال :" اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب هازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم " ٢ ولما أمر الله سبحانه بالجهاد والصبر عليه أمر بإخلاص النية إذ لا عبرة بالأعمال إلا بإخلاص النيات.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الاستسقاء، باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: " نصرت بالصبا " (١٠٣٥) واخرجه مسلم في كتاب: صلاة الاستقاء، باب: في ربح الصبا والدبور(٩٠٠).
٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس (٢٩٦٦)، وأخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير باب: كراهة تمني لقاء العدو والمر بالصبر عند اللقاء (١٧٤٢)..
عن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم " ١ رواه مسلم وفي " الصحيحين في حديث ابن عباس قوله صلى الله عليه وآله وسلم :" ولكن جهاد ونية " ٢ فقال عز وجل :﴿ ولا تكونوا ﴾ في المجاهدة والقتال ﴿ كالذين خرجوا من ديارهم ﴾ يعني أهل مكة حين خرجوا منها لحماية العير ﴿ بطرا ﴾ أي فخرا أو أشرا، قال : الزجاج : البطر الطغيان في النغمة وترك شكرها، قيل : البطر ان يشغله سكر النغمة عن شكرها ﴿ ورئاء الناس ﴾ وهو إظهار الجميل ليرى وإبطان القبيح، يعني متكبرين بكثرة العدد والمال ورياء الناس ليثبتوا عليهم بالشجاعة والسماحة ويعترفوا لعظمتهم ﴿ ويصدون ﴾ الناس ﴿ عن سبيل الله ﴾
عن الإيمان به وبرسوله، وذلك انه لما رأى أبو سفيان انه أحرز عيره أرسل إلى قريش أنكم خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجانا فارجعوا، فقال : أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدرا فنقيم بها ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان ويسمع بها العرب ولا يزالون يهابوننا أبدا فوافوها فسقوا كاس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القينان فنهى الله سبحانه ان يكون المؤمنين مثلهم بطرين مرائين وأمهم بإخلاص النية والحسبة في نصر دينه ومؤازرته و مؤازرته نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ والله بما يعملون محيط ﴾
١ أخرجه مسلم في كتاب: البر والصلة والآداب، باب: تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره ودمه وعرضه وماله (٢٥٦٤).
٤ أخرجه البخاري في كتاب: باب: لا يحل القتال بمكة(١٨٣٤)، وأخرجه مسلم في كتاب: الحج، باب: تحريم مكة وصيدها وخلاها ولقطتها (١٣٥٣)..

٢ ؟؟؟؟؟.
﴿ وإذ زين لهم الشيطان ﴾مقدر باذكر ﴿ أعمالهم ﴾ يعني عداوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وإرادة قتله وقتاله. وقد ذكرنا في القصة حضور الشيطان عند قريش في دار الندوة وحين أرادوا المسير فذكرت التي بينهم وبين بني بكر من الحرب جاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم ﴿ وقال لا غالب لكم ﴾ ولكم خبر لا يعني لا غالب كائن لكم وليس صلته وإلا انتصب كقولك لا ضاربا زيد عندك.
﴿ اليوم من الناس ﴾ لكثرة عددكم ومالكم وأوهمهم أن ما يفعلون قربان مجيرة لهم حتى قالوا : اللهم انصر إحدى الفئتين وأفضل الدينين ﴿ واني جار لكم ﴾ من كنانة ﴿ فلما تر آت الفئتان ﴾ المسلمون والمشركون ورأى إبليس الملائكة نزلوا من السماء وعلم أنه لا طاقة له بهم ﴿ نكص على عقبيه ﴾ ولى مدبرا هاربا. روى الطبراني عن رفاعة بن رافع وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه عن ابن عباس، قال : أمد الله نبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين بألف وكان جبرئيل في خمسمائة ومكائيل في خمسمائة مجنبة وجاء إبليس في جند من الشياطين معه رأيته في صورة رجال من بني مدلج والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، فقال : الشيطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم من الناس وأقبل جبرئيل إلى إبليس فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين انتزع إبليس يده ثم ولى مدبرا وشيعته فقال : الرجل يا سراقة ألست تزعم أنك جار لنا ﴿ وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ﴾فذلك حين رأى الملائكة فتشبث به الحارث بن هشام، واسلم بعد ذلك وهو يزعم أنه سراقة لما سمع كلامه فضرب الشيطان في صدر الحارث فسقط الحارث، وانطلق إبليس لا يلوي حتى سقط في البحر ورفع يديه وقال يا رب وعدك الذي وعدتني اللهم إني أسألك نظرتك إياي وخاف أي يخلص إليه القتل، فقال أبو جهل : يا معشر الناس لا يهمنكم خذلان سراقة فإنه كان على ميعاد من محمد ولا يهمنكم قتل عتبة وشيبة فإنهم قد عجلوا فواللات و العزى لا نرجع حتى نقرن محمدا وأصحابه بالجبال ولا ألفين رجلا منكم رجلا منهم ولكن خذوهم أخذا نعرفهم سوء صنيعهم، ويروى أنهم رأوا سراقة بمكة بعد ذلك فقالوا يا سراقة أخرمت الصف وأوقعت فينا الهزيمة، فقال : والله ما علمت شيئا من أمركم حتى كانت هزيمتكم وما شهدت وعملت فما صدقوه حتى أسلموا وسمعوا ما أنزل الله فيه فعلموا أنه كان إبليس تمثل لهم.
قال البغوي : قال قتادة قال :: إبليس إني أرى ما لا ترون وصدق وقال : إني أخاف الله وكذب والله ما به مخافة الله ولكن علم انه لا قوة ولا منعة فأوردهم وأسلمهم وذلك عادة عدو الله لمن أطاعه إذا التقى الحق والباطل، أسلمهم وتبرأ منهم، وقال عطاء : معناه إني أخاف الله ان يهلكني فيمن يهلك، وقال الكلبي : خاف أن يأخذه جبرئيل ويعرفهم حاله فلا يطيعوه، وقيل إني أخاف الله أي : اعلم صدق وعده لأوليائه لأنه كان على ثقة من أمر الله، وقيل : معناه أخاف الله عليكم والله شديد العقاب، وقيل انقطع الكلام عند قوله إني أخاف الله ثم قال : الله شديد العقاب.
عن طلحة بن عبيد الله بن كربز رضي الله عنه ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :" ما أرى الشيطان يوما هو فيه اصغر ولا ادحر ولا أحقر ولا أغيظ منه يوم عرفة وما ذلك إلا لما يرى من تنزل رحمة الله وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما كان يوم بدر فقيل : وما أرى من يوم بدر قال : إما إنه قد رأى جبريل عليه السلام وهو يزع الملائكة )رواه مالك مرسلا والبغوي في شرح السنة والمصابيح والمعالم،
واذكر﴿ إذ يقول المنافقون ﴾بالمدينة حين خرج المسلمون وهم ثلاثمائة وبضعة عشر وسمعوا خروج أبي جهل وغيره في زهاء ألف لقتالهم اغتروا بدينهم حيث خرجوا المقاتلة من لا يدلهم بهم ﴿ والذين في قلوبهم مرض ﴾ يعني الذين لم يطمئنوا الى الإيمان بعد وبقي في قلوبهم شبهة، وقيل : هم المشركون. وقيل : المنافقون، والعطف لتغاير الوصفين، وقال البغوي : هؤلاء يعني الذين في قلوبهم مرض قوم كانوا بمكة مستضعفين قد اسلموا وحبسهم أقربائهم عن الهجرة فلما خرجت قريش إلى بدر أخرجوهم كرها فلما نظروا إلى قلة المسلمين ارتابوا وارتدوا وقالوا﴿ غر هؤلاء ﴾ يعني المؤمنين ﴿ دينهم ﴾ فقتلوا جميعا منهم قبيس بن الوليد بن المغيرة وأبو قيس بن الفاكة بن المغيرة المخزوميات والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب وعلي بن أمية بن خلف الجمحي والعاص بن منبه بن الحجاج، وروى الطبراني عن أبي هريرة بسند ضعيف انه قال : عتبة بن ربيعة وناس معه من المشركين غر هؤلاء دينهم فقال : الله سبحانه جوابا لهم :﴿ ومن يتوكل على الله فان الله عزيز ﴾غالب لا يذل من استجار به وان قل ﴿ حكيم ﴾يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل ويعجز عن إدراكه ففعل الكفار ما لم يكونوا يحتسبون،
ولما ذكر الله سبحانه سوء عاقبة الكفار في الدنيا بالقتل والهزيمة أردفه بما صنع بهم بعد الموت فقال :﴿ ولو ترى ﴾يا محمد يعني ولو رأيت فان لو نقيضه ان تجعل المضارع ماضيا ﴿ إذ يتوفى الذين كفروا ﴾ ببدر وغير ذلك طرف لترى والمفعول محذوف يعني ولو ترى الكفرة أو حالهم حين يتوفهم ﴿ الملائكة ﴾ فاعل يتوفى يدل عليه قراءة ابن عامر تتوفى بالتاء، وجاز على قرأة الجمهور ان يكون فاعل يتوفى ضمير الله تعالى والملائكة مبتدأ خبره ﴿ يضربون وجوههم ﴾ والجملة حال من الذين كفروا واستغنى فيه بالضمير عن الواو وهو على الأول حال منهم أو من الملائكة أو منها لاشتماله على الضميرين ﴿ وأدبارهم ﴾ ظهورهم بسياط النار و مقامع من حديد، أراد تعميم الضرب أي يضربون ما اقبل منهم وما أدبر، وقال سعيد بن جبير ومجاهد : يريد بأدبارهم استاههم ولكن الله حيي يكنى ﴿ وذوقوا عذاب الحريق ﴾ عطف على يضربون بإضمار القول أي يقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب النار المؤبدة فعلى هذا بيان لعذابهم في عالم البرزخ، وقال ابن عباس كان المشركون ببدر إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربت الملائكة وجوههم بالسيوف وإذا ولو أدركتهم الملائكة وضربوا أدبارهم فقتلوا من قتل منهم، وكانت تقول الملائكة ذوقوا عذاب الحريق، قيل : كان مع الملائكة مقامع من حديد يضربون بها الكفار فتلتهب النار في جراحاتهم فذلك قوله تعالى :﴿ ذوقوا عذاب الحريق ﴾ وقال ابن عباس يقولون لهم ذلك بعد الموت وجواب لو محذوف يعني لرأيت أمرا فزيعا مهولا
﴿ ذلك ﴾ الذي وقع لكم في الدنيا والآخرة كائن﴿ بما ﴾ أي بسبب ما ﴿ قدمت أيديكم ﴾ أي كسبتم من الكفر والمعاصي عبر باليدين لأن عامة الفعال يزاول بهما ﴿ وان الله ليس بظلام للعبيد ﴾ عطف على ما كسبت للدلالة على أن سببية مقيدة بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن ان يعذبهم بغير ذنوبهم لا أن لا يعذبهم بذنوبهم فغن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا بل هو رحمة ومغفرة فلا ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب، وظلام للتكثير لأجل العبيد وهذا بقية كلام الملائكة للكفار
﴿ كدأب آل فرعون ﴾ خبر مبتدأ محذوف يعني دأب هؤلاء الكفار يعني عملهم وطريقهم الذين دأبوا فيه أي داموا عليه كدأب آل فرعون ﴿ والذين من قبلهم ﴾ قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم ﴿ كفروا بآيات الله ﴾ تفسير لدأبهم ﴿ فأخذهم الله ﴾ بالعذاب ﴿ بذنوبهم ﴾ كما أخذ هؤلاء ﴿ إن الله قوي شديد العقاب ﴾ لا يغلبه شيء ولا يدفع عذابه شيء
﴿ ذلك ﴾ الذي حل بهم ﴿ بان ﴾ أي بسبب غن ﴿ الله لم يك ﴾ أصله يكون حذف الحركة للجزم ثم الواو لالتقاء الساكنين ثم النون لشبه بالحروف اللينة تخفيفا ﴿ مغيرا نعمة أنعمها على قوم ﴾ مبدلا إياها بالنعمة كما بدل نعمته بأهل مكة من الأمن والرزق والعزة وكف أصحاب الفيل عنهم بالقتل والأسر يوم بدر ﴿ حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ أي يبدلوا ما بهم من حال إلى حال أسوء منه كتغير قريش حالهم من إتباع دين إسماعيل وملة إبراهيم وصلة الرحم و سدانة البيت وإطعام الضيف وسقاية الحاج بمعاداة الرسول صلى الله عليه وآله ومن معه وصدهم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا ان يبلغ محله والسعي في إراقة دماء من قال : لا إله إلا الله والتكذيب بالآيات والاستهزاء بها إلى غير ذلك مما أحدثوه بعد البعثة.
قال أصحاب التاريخ : إن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي جد عبد مناف جد جد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن قبل كلاب كانوا على دين إسماعيل عليه السلام كابر وكان كل واحد منه ومن آبائه وصيا لأبيه قائما مقامه في الرياسة بالوصية عن أبيه وموسوما بالخير والجود وما ظهرت عبادة الأصنام، وتبديل دين إبراهيم عليه السلام في أولاد إسماعيل إلا في زمن قصي كلاب وكان كعب بن لؤي أول من جمع العروبة وكانت تجمع إليه قريش في هذا اليوم فيخطبهم ويذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعلمهم بأنه ولده ويأمرهم بإتباعه والإيمان به وينشد أبياتا وبذكرهم بمبعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويعلمهم بأنه ولده ويأمرهم بإتباعه والإيمان به وينشد أبياتا منها قوله :
يا ليتني شاهدا فحواى دعوته إذا قريش يبغي الحق خذلانا
وكان قصي يصنع طعاما كثيرا للحاج أيام منى وعرفات، وهذه هي الرمادة، ويصنع حياضا من آدم فيسقي فيها من المياه بمكة ومنى وعرفات ويقال لها : السقاية يجري ذلك بأمره في الجاهلية حتى قام الإسلام ثم جرى في الإسلام على ذلك واحدث قصي وقود النار بالمزدلفة حتى يريها من دفع من عرفة ولا يضل الطريق ولم يزل ذلك الوقود وكانت النار توقد بالمزدلفة على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وأول من غير دين إسماعيل وعبد الأصنام وسيب السوائب عمرو بن لحي الخزاعي، قال : السدي : نعمة الله محمد صلى الله عليه وآله وسلم أنعم الله تعالى على قريش وأهل مكة فكذبوا وكفروا به فنقله الله إلى الأنصار. وقيل : لم يكن لأهل مكة وآل فرعون حالة مرضية لكنهم تغيروا الحال المسخوطة إلى أسخط منها فإنهم كانوا قبل البعثة كفرة عبدة الأصنام وبعد البعثة كذبوا الرسول وسعوا في قتله وصدوا عن سبيل الله فغيروا حالهم إلى أسوء مما كانوا عليه فغير الله الإهمال بتعجيل العذاب في الدنيا وليس السبب عدم تغير الله ما أنعم الله ما انعم عليهم حتى يغيروا حالهم بل ما هو المفهوم له وهو جرى عادة الله على تغييره نعمائه بالنقمات إذا غيروا حالهم ﴿ ان الله سميع ﴾ لما يقولون ﴿ عليم ﴾ بما يفعلون
﴿ كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم ﴾فيه زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق ﴿ فأهلكناهم بذنوبهم ﴾ أهلكنا بعضهم بالغرق وبعضهم بالرجفة وبعضهم بالخسف وبعضهم بالمسخ وبعضهم بالريح ﴿ وأغرقنا آل فرعون ﴾ كذلك أهلكنا كفار بدر بالسيف لما كذبوا بآيات ربهم وكرر الله سبحانه قوله كدأب آل فرعون إلخ للتأكيد، وقيل : بسببية الكفر والأخذ به والثاني : بسببية التغبر في النعمة بسبب تغيرهم ما بأنفسهم.
ولأن الأول الأخذ بالذنوب بلا بيان وهاهنا بين انه الهلال والاستئصال ﴿ وكل ﴾ من الأولين والآخرين ﴿ كانوا ظالمين ﴾ أنفسهم بالكفر والمعاصي.
﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ﴾ أصروا على الكفر ورسخوا فيه ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ احترز به عن الذين كفروا ثم آمنوا وحسن إسلامهم أو هو إخبار عن قوم طبعوا على الكفر بأنهم لا يؤمنون، والفاء للعطف والتنبيه على أن تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق المعطوف يعني الذين كفروا واستقر في علم الله تعالى كفرهم فهم لا يؤمنون وهذا عام يشتمل كل من يموت على الكفر، وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير قال : نزلت ﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا ﴾ الآية في ستة رهط من اليهود فيهم ابن التابوت
وقوله تعالى :﴿ الذين عاهدت منهم ﴾ بدل من الذين كفروا إما بدل البعض للتخصيص بذمهم وإما بدل ا لكل على رواية سعيد بن جبير والمعنى عاهدتهم وكلمة من لتضمن المعاهدة معنى الأخذ، يعني أخذت منهم العهد ﴿ ثم ينقضون عهدهم في كل مرة ﴾ عاهدتهم وهم بنو قريظة كتب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كتابا بين المهاجرين والأنصار ووادع فيه يهود وعاهدهم واشترط لهم وعليهم وأقرهم على دينهم وأموالهم لما امتنعوا عن الإسلام كذا قال : ابن إسحاق وذكر نسخة الكتاب نحو ورقتين، ثم هم نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأعانوا المشركين بالسلاح على قتال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه ثم قالوا : نسينا وأخطأنا فعاهدهم ثانيا فنقضوا العهد ومال الكفار على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم الخندق وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فواقهم على مخالفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ﴿ وهم لا يتقون ﴾ الله حيث يكفرون برسوله بعد ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم وينقضون العهود منه كل مرة، روى عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم أنه قال : لليهود معاذ بن جبل وبشر بن البراء وداود بن سلمة يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد ونحن أهل الشرك وتخبرون انه مبعوث وتصفون بصفته جعلهم الله تعالى شر الدواب لأن شر الناس بل شر الخلائق الكفار وشر الكفار والمصرون الناكثون العهود فهم شر الدواب
﴿ فإما تثقفنهم ﴾ تدركنهم ﴿ في الحرب ﴾ ناسرتهم ﴿ فشرد بهم من خلفهم ﴾ أصل التشريد التفريق على اضطراب، قال ابن عباس معناه فنكل بهم من ورائهم يعني أفعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك فعلا من القتل والتنكيل تفرق منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن، يقال شردت بفلان أي فعلت به فعلا شرد غيره ان يفعل فعله، ومن هاهنا لما أمكن الله تعالى رسوله صلى الله عليه وآله وسلم على بني قريظة قتل رجالهم كل من أنبت وسبي نسائهم وذراريهم وقسم أموالهم. روى الطبراني عن أسلم الأنصاري قال : جعلني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أسارى بني قريظة فكنت انظر إلى فرج الغلام فإن رأيته انبت ضربت عنقه ﴿ لعلهم ﴾ أي لعل من خلفهم ﴿ يذكرون ﴾ يتذكرون ويتعظون فلا ينقضون العهد
﴿ وإما تخافن من قوم ﴾ معاهدين ﴿ خيانة ﴾ أي عهد ينظر لك منهم آثار الغدر ﴿ فانبذ إليهم ﴾ أي اطرح إليهم عهدهم ﴿ على سواء ﴾ أي على عدل وطريق قصد أو على سواء منك وهم في العلم بنقض العهد، يعني أعلمهم قبل الحرب انك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتى لا يكون خيانة منك، روى أبو الشيخ عن ابن شهاب قال : دخل جبرئيل على رسول الله وآله وسلم فقال : قد وضعت السلاح وما زلنا في طلب القوم فاخرج فإن الله قد أذن لك في قريظة وأنزل فيهم :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة ﴾ الآية، قلت : وذلك بعد غزوة الأحزاب، وقال الحافظ محمد يوسف الصالحي في سبيل الرشاد : كانت قينقاع أول يهود نقضوا العهد وأظهروا البغي والحسد وقطعوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله وعلى آله وسلم من العهد فبينما هم على ماهم من إظهار العداوة ونبذ العهد قدمت امرأة من العرب يجلب لها قناعها بسوق بني قينقاع وجلست إلى صائغ به الحلي فجعلوا يريدنها على كشف وجهها فلم تفعل، فعمد الصائغ إلى طرف ثوبها من ورائها فخله بشوكة وهي لا تشعر فلما قامت بدت عورتها فضحكوا منها فصاحت، فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديا وشدت اليهود على المسلم فقتلوه ونبذوا العهد واستصرخ أهل المسلم المسلمين على اليهود وغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بني قينقاع وانزل الله سبحانه :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين ﴾ فقال : صلى الله عليه وآله وسلم :" إنما أخاف من بني قينقاع " فسار إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الآية، وحمل لواءه حمزة بن عبد المطلب واستخلف على المدينة أبا لبابة بن عبد المنذر فتحصنوا في حصنهم فحاصرهم أشد الحصار خمسة عشر ليلة حتى قذف الله في قلوبهم الرعب، فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على ان لرسول الله عليه وآله وسلم أموالهم وان لهم النساء والذرية وأمرهم ان يجلوا من المدينة فخرجوا بعد ثلاث فأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صفية والخمس وقسم أربعة أخماسه على أصحابه وكان أول خمس بعد بدر ﴿ إن الله لا يحب الخائنين ﴾ روى البغوي بسنده عن رجل من حمير قال : كان بين معاوية وبين الروم عهد وكان يسير نحو بلادهم حتى إذا انقضى العهد غزاهم فجاء رجل على فرس وهو يقول : الله كبر الله اكبر وفاء لا غدر فإذا عمرو بن عنبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :" من كان بينه وبين قوم عهد فلا يشهد عقده ولا يحلها حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم عهدهم على سواء " فرجع معاوية
﴿ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ﴾ قرأ حفص وابن عامر وحمزة لا يحسبن بالياء التحتانية على أن الفاعل الموصول والمفعول الأول أنفسهم فحذف التكرار والفاعل ضمير من خلفهم وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية على الخطاب و مفعولاه الذين كفروا سبقوا يعني لا تحسبنهم سابقين فائتين من عذابنا، قال : البغوي : نزلت الآية في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين ﴿ إنهم لا يعجزون ﴾ قرأ ابن عامر بفتح الألف والمعنى لأنهم لا يعجزون، وقيل : لا زائدة والمعنى لا يحسبن الذين كفروا أنهم يعجزون وسبقوا حينئذ حال بمعنى سابقين أي مفلتين وقرا الجمهور بكسر الألف على الابتداء
﴿ واعدوا ﴾أيها المؤمنون ﴿ لهم ﴾أي لنا قضي العهد أو للكفار ﴿ ما استطعتم ﴾ إعدادها والإعداد اتخاذ الشيء لوقت الحاجة ﴿ من قوة ﴾ أي أسباب وأثاث وأعمال يقويكم على حربهم من الخيل والسلاح والمصارعة ونحو ذلك واللهو بالرمي والبندقة وغير ذلك ومنه جمع المال عدة للجهاد، وقيل : هي الحصون.
عن عقبة بن عامر يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو على المنبر يقول :" وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي " ١ رواه مسلم، وعنه قال :" ستفتح عليكم الروم ويكفيكم الله فلا يعجز أحدكم أن يلهو باسمه " ٢ رواه مسلم، وعن أبي نجيح السلمي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :" من بلغ بسهم في سبيل الله فهو له درجة في الجنة ومن رمى بسهم في سبيل الله فهو له عدل محرر " ٣ رواه النسائي، وروى أبو داود الفصل الأول : وروى الترمذي الفصل الثاني، وزاد :" من شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة : وروى البيهقي في شعب الإيمان الفصول الثلاثة غير أنه قال :" من شاب شيبة في الإسلام كانت له نورا يوم القيامة " وعن عقبة بن عامر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :" من علم الرمي ثم تركها فليس منا أو قد عصى " ٤ رواه مسلم، وعن أبي أسيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر حين صففنا لقريش وصفوا لنا :" إذا أكثبوكم فعليكم بالنبل " ٥ رواه البخاري، وعن عقبة بن عامر الجهني قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول :" إن الله تعالى يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر في الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به و منبله فارموا واركبوا وأن ترموا أحب إلى من أن تركبوا كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق " ٦ رواه الترمذي وابن ماجة، وزاد أبو داود والدارمي :" ومن ترك الرمي بعدما علمه رغبة عنه فإنه نعمة تركها " أو قال :" كفرها " وفي رواية للبغوي :" إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة ثلاثة صانعه والممد به والرامي به في سبيل الله ﴿ ومن رباط الخيل ﴾ يعني ربط الخيل واقتناءها للغزو فهو مصدر سمي به، قال : البيضاوي : هو اسم للخيل الذي يربط في سبيل الله مصدر سمي به يقال : ربط ربطا ورباطا ورابط ورباطا، أو فعال بمعنى مفعول، وأجمع ربيط كفصيل وفصال وعطفها على القوة كعطف جبرئيل ومكائيل على الملائكة.
عن انس قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" البركة في نواصي الخيل " ٧ متفق عليه، وعن جرير بن عبد الله قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يلوي ناصية فرس بأصبعه وهو يقول :" الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والغنيمة " ٨ رواه مسلم ورواه البغوي من طريق البخاري من حديث عروة البارقي، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" من احتبس فرسا في سبيل الله إيمانا بالله وتصدقا بوعده فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة " ٩ رواه البخاري، وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :" الخيل ثلاثة هي لرجل وزر ولرجل ستر ولرجل اجر، فأما التي هي له وزر فرجل ربطها رياء وفخرا و نواء على اهل الإسلام فهي له وزر، وأما التي هي له ستر فرجل ربطها في سبيل الله ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا في رقابها فهي له ستر، وأما التي هي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة فما أكلت من ذلك المرج.
أو الروضة من شيء إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات وكتب له عدد آثارها وأورثها وأبوالها حسنات ولا يقطع طولها فاستنت شرفا أو شرفين إلا كتب له عدد آثارها وأرواثها حسنات ولا مربها صاحبها على نهر فشربت منه ولا يريد أن يسقيها غلا كتب الله له عدد ما شربت حسنات " ١٠ رواه مسلم، في رواية البغوي في الصنف الثاني :" رجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي لذلك سترا " وعن أبي وهب الجشمي قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" ارتبطوا الخيل وامسحوا لنواصيها وأعجازها أو قال : أكفالها وقلدوها ولا تقلدوها الأوتار " ١١ رواه أبو داود والنسائي ﴿ ترهبون به ﴾ أي تخفون به، وعن يعقوب ترهبون بالتشدد والضمير لما استطعتم أو للإعداد ﴿ عدو الله وعدوكم ﴾ الإضافة للعهد يعني كفار مكة ﴿ وآخرين من دونهم ﴾ أي من غير اهل مكة من الكفار وقال مجاهد ومقاتل : هم بنو قريظة، وقال السدي : هم أهل فارس وقال ابن زيد والحسن هم المنافقون ﴿ لا تعلمونهم ﴾ لأنهم معكم يقولون لا إله إلا الله وقيل : هم كفار الجن أخرجه أبو الشيخ من طريق أبي المهدي عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخرج الطبراني مثله من حديث يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده مرفوعا ﴿ الله يعلمهم تنفقوا من شيء في سبيل الله ﴾ في الجهاد ﴿ يوف إليكم ﴾يوفر لكم جزاؤه ﴿ وانتم لا تظلمون ﴾ لا ينقص أجوركم، وعن زيد بن خالد ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :" من جهز غازيا فقد غزا ومن خلف في أهله فقد عزا " ١٢ متفق عليه، وعن أبي مسعود الأنصاري قال : وجاء رجل بناقة مخطوطة فقال : هذه في سبيل الله فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" بها يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة " ١٣ رواه مسلم، و وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :" جاهدوا المشركين بأموالهم وأنفسهم وألسنتهم " ١٤ رواه أبو داود النسائي والدرامي، وعن خزريم بن فاتك قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" من انفق في سبيل الله كتب له بسبعمائة ضعف " ١٥رواه الترمذي والنسائي، وعن عبد الله بن عمرو ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال :" للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي " ١٦ رواه أبو داود وعن علي وأبي الدرداء وأبي هريرة وأبي إمامة وعبد الله بن عمرو وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين رضي الله عنهم أجمعين كلهم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال :" من أرسل نفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة دراهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وانفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم، ثم تلا هذه الآية ﴿ والله يضاعف لمن يشاء ﴾ ١٧ رواه ابن ماجة، وعن عبد الرحمان بن حباب قال : شهدت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو على جيش العسرة فقالم عثمان فقال : يارسول الله علي مائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله ثم حض على الجيش فقام عثمان فقال : علي ثلاثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله فأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينزل عن المنبر وهو يقول :" ما على عثمان ما عمل بعد هذا ما على عثمان ما عمل بعد هذا " ١٨ رواه الترمذي، وعن عبد الرحمان بن سمرة قال : جاء عثمان إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بألف دينار في كمه حين جهز جيش العسرة نشرها في حجرة فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقلبها في حجره، ويقول :" ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم مرتين " رواه أحمد
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه وذم من عمله ثم نسيه (١٩١٧)، وأخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد باب: في الرومي (٢٥١٢).
٢ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه وذم من عمله ثم نسيه (١٩١٨)، وأخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنفال (٣١٨٢)..
٣ أخرجه النسائي في كتاب: الجهاد، باب: ثواب من رمى بسهم في سبيل الله عز وجل (٣١٣٤)..
٤ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة: باب: فضل الرمي والحث عليه وذم من علمه ثم نسيه (١١١٩)..
٥ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: التحريض على الرمي (٢٩٠٠)..
٦ أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل الرمي في سبيل الله (١٦٤١)، واخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في الرمي (٢٥١١)، وأخرجه النسائي في كتاب: الخيل، باب تأديب الرجل فرسه (٣٥٧١)، وأخرجه ابن ماجة في كتاب: الجهاد، باب: الرمي في سبيل الله (٢٨١١)..
٧ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (٢٨٤٩)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (١٨٧٤)..
٨ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة (١٨٧٣)..
٩ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: من احتبس فرسا (٢٨٥٣)، وأخرجه النسائي في كتاب: الخيل، باب: علف الخيل (٣٥٧٥)..
١٠ أخرجه مسلم في كتاب: الزكاة، باب: إثم مانع الزكاة (٩٨٧)، واخرجه النسائي في كتاب: الخيل (٣٥٥٥)..
١١ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: إكرام الخيل وارتباطها والمسح على أكفالها (٢٥٥١).
١٢ أخرجه البخاري في كتاب: الجهاد والسير، باب: فضل من جهز غازيا أو خلفه بخير (٢٨٤٣)، وأخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل إعانة الغازي في سبيل الله (١٨٩٥)..
١٣ أخرجه مسلم في كتاب: الإمارة، باب: فضل الصدقة في سبيل الله وتصنيفها (١٨٩٢). ، وأخرجه النسائي في كتاب: الجهاد، باب فضل الصدقة في سبيل الله عز وجل (٣١٧٨)..
١٤ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: كراهية ترك الغزو (٢٥٠٢)، واخرجه النسائي في كتاب: الجهاد، باب وجوب الجهاد (٣٠٨٧).
١٥ أخرجه الترمذي في كتاب: فضائل الجهاد، باب: ما جاء في فضل النفقة في سبيل الله (١٦٢٩)، وأخرجه النسائي في كتاب: الجهاد، باب: فضل النفقة في سبيل الله تعالى (٣١٧٧)..
١٦ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: الرخصة في أخذ الجعائل (٢٥٢٤)..
١٧ أخرجه ابن ماجة في كتاب: الجهاد، باب: فضل النفقة في سبيل الله تعالى (٢٧٦١)..
١٨ أخرجه الترمذي في كتاب: المناقب باب: في مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه (٣٧١٠)..
﴿ وان جنحوا ﴾ أي مالوا يعني الكفار ومنه الجناح ويعدي باللام وعلى ﴿ للسلم ﴾ أي للصلح.
قرأ أبو بكر بكسر السين والباقون بالفتح ﴿ فاجنح لها ﴾ أي مل إليها وعاهد معهم وتأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضه وهي الحرب قال : الحسن وقتادة هذه الآية منسوخة بقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ ١ وقال البيضاوي : الآية مخصوصة بأهل الكتاب لاتصالها بقصتهم، قلت : لا وجه لتخصيصها بأهل الكتاب ولا بالقول بكونها منسوخة بل الأمر للإباحة والصلح جائز مشروع إن رأى الإمام فيه مصلحة وقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ ليس على عمومه بل خص منه أهل الذمة ﴿ وتوكل على الله ﴾ أي ثق به ولا تخف من أبطانهم خداعا فيه فإن الله يعصم من يتوكل عليه من مكر الأعداء ويحيفه بهم ﴿ انه هو السميع ﴾ لأقوالهم ﴿ العليم ﴾ بنياتهم
١ سورة التوبة، الآية: ٥..
﴿ وان يريدوا أن يخدعوك ﴾بالصلح ليستعدوا لك ويغدروا او يمكروا بك في الصلح ﴿ فان حسبك الله ﴾ فحسبك الله وكافيك لدفع خداعهم ﴿ هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ﴾جميعا
﴿ وألف بين قلوبهم ﴾ بعدما كان بين جماعة منهم أعنى الأوس والخزرج من العداوة والضغينة والشر والفساد، كما ذكرنا في سورة آل عمران في تفسير قوله تعالى :﴿ إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا ﴾ ١﴿ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ﴾ يعني كانت العداوة بينهم بمرتبة لو انفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض جميعا من الأموال لم يقدر على الألفة والإصلاح ﴿ ولكن الله ألف بينهم ﴾بقدرته البالغة ؛فالقلوب كلها بين أصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء ﴿ انه عزيز ﴾ تام القدرة والغلبة لا يمكن تخلف مراده ﴿ حكيم ﴾ يعلم أنه كيف ينبغي ان يفعل ما يريده.
١ سورة الآية عمران، الآية: ١٠٣..
﴿ يا أيها النبي حسبك الله ﴾ كافيك ﴿ ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ قال : أكثر المفسدين محله الجر عطف على الكاف على مذهب الكوفيين أو النصب على انه المفعول معه كقول الشاعر :
حسبك والضحاك سيف مهند
والمعنى حسبك وحسب من اتبعك الله وهذا بعيد لفظا قريب معنى، وقال بعض المفسرين محله الرفع عطفا غلى اسم الله تعالى يعني حسبك الله ومتبعوك من المؤمنين، وهذا قريب لفظا بعيد معنى، ولكن يؤيده مارواه ابن أبي حاتم بسند صحيح عن سعيد قال : لما أسلم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة وثلاثون رجلا وست نسوة ثم أسلم عمر نزلت هذه الآية واخرج أبو الشيخ عن سعيد بن المسيب قال : لما اسلم عمر أنزل الله في إسلامه ﴿ حسبك الله ﴾ الآية، وأخرج الطبراني وغيره من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أسلم مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسع وثلاثون رجلا وامرأة ثم إن عمر أسلم فصاروا اربعين فنزل ﴿ يأيها النبي حسبك ﴾ الآية.
وروى البزار بسند ضعيف من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : لما أسلم عمر قال : المشركون : قد انتصف القوم منا اليوم وانزل الله هذه الآية هذه الأحاديث تدل على ان الآية مكية وسياق الكلام يقتضي كونها مدنية فإن السورة نزلت بعد غزوة بدر.
﴿ يأيها النبي حرض المؤمنين على القتال ﴾ أي بالغ على الأمر يجعل المامور عاجزا مضطرا غلى فعله كما يجعل المرض عاجزا مضطر إلى الهلاك ﴿ إن يكن منكم عشرون ﴾ رجلا ﴿ صابرون ﴾ على القتال محتسبون ﴿ يغلبوا مائتين ﴾ من عدوهم ويقهروهم ﴿ وان يكن منكم مئة ﴾ محتسبة ﴿ يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ﴾يعني أن المشركين يقاتلون على غير احتساب وطلب ثواب جاهلين بالله واليوم الاخر فلا يثبتون إذا صبرتم على القتال لطلب الثواب والدرجات العلى فإنهم يخافون الموت، وهذا خبر بمعنى الأمر بمصابرة الواحد في مقابلة العشرة ووعد بانهم إن صبروا غلبوا بعون الله وتأيده وكان هذا يوم بدر فرض الله تعالى على رجل واحد قتال عشرة من الكفار، أخرج إسحاق عشرة ثقل ذلك عليهم وشق فوضع الله عنهم وانزل ﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾
﴿ الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ في البدن وقيل : في البصيرة وكانوا متفاوتين فيها قرأ عاصم وحمزة بفتح الضاد والباقون بالضم وهما لغتان، وقرأ أبو جعفر ضعفاء بفتح العين والمد والباقون بسكون العين ﴿ فان يكن ﴾ قرأ الكوفيون بالياء التحنانية والباقون بالتاء الفوقانية ﴿ منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾ من الكفار ﴿ وان يكن منكم ألف ﴾ صابرة ﴿ يغلبوا ألفين بإذن الله ﴾ أي بإرادته فرد الأمر من العشرة إلى اثنين فكان المسلمون على الشطر من عدوهم لا يجوز لهم الفرار، وقال سفيان وقال : شبرمة وأرى المر بالمعروف والنهي عن النكر مثل هذا قيل : كان فيهم قلة فأمروا بقتال واحد مع العشرة ثم لما كثروا خفف الله عنهم وتكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة للدلالة على أن حكم القليل والكثير واحد
( والله مع الصابرين ) بالنصر والمعونة فكيف لا يغلبون ولم لا يصبرون، روى أحمد عن أنس وابن مردويه عن أبي هريرة وابن أبي شيبة أحمد والترمذي وحسنه وابن المنذر والطبراني وغيرهم عن ابن مسعود، وابن مردويه عن ابن عباس وابن المنذر وأبو الشيخ وابن مردويه وأبو نعيم عن ابن عمر أنه لما كان يوم بدر جيء بالأسرى وفيهم رسول الله صلى الله عليه آله وسلم :" لم أنم من أجل عمي العباس وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه " فقال : له عمر رضي الله عنه : فأتيتهم قال : نعم، فأتى الأنصار فقال : لهم : أرسلوا العباس فقالوا : والله لا نرسله، فقال : لهم عمر : فكان لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رضا، قالوا : فإن كان لرسول الله عليه وآله وسلم رضا فخذوه عمر فلما صار عباس في يده قال : له : يا عباس أسلم فو الله لئن تسلم أحب إلى من أن يسلم الخطاب وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يعجبه إسلامك.
وروى البخاري البيهقي عن أنس بن مالك أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إئذن لنا لابن أختنا عباس فداءه ؟ قال :" لا والله لا تذرن درهما " فاستشار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما تقولون في هؤلاء الأسرى إن الله قد مكنكم منهم وإنما هم إخوانكم ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أهلك وقومك، قد أعطاك الله الظفر ونصرك عليهم هؤلاء بنو العم والعشيرة والأخوان استبقتم وإني أرى أن تأخذ الفداء منهم فيكون ما أخذنا منهم قوة لما على الكفار وعسى أن يهديهم بك فيكونوا لك عضداء، فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" ما تقول يا ابن الخطاب ؟ قال : يا رسول الله قد كذبوك وأخرجوك وقاتلوك ما أرى أبو بكر ولكني أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا مودة للمشركين هؤلاء صناديد قريش وأئمتهم وقادتهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال : العباس وهو يسمع ما يقول : قطعت رحمك فدخل رسول اله صلى الله عليه وآله وسلم البيت فقال : ناس : يأخذ بقول أبي بكر وقال ناس : يأخذ بقول عمر وقال ناس : يأخذ بقول عمر وقال ناس : يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، ثم خرج فقال :" إن الله تعالى ليلين قلوب أقوام حتى تكون ألين من اللبن وإن الله ليشدد قلوبا حتى تكون أشد من الحجارة. مثلك يا أبا بكر في الملائكة ميكائيل ينزل بالرحمة، ومثلك في الأنبياء مثل إبراهيم ﴿ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى بن مريم إذ قال :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم ١١٨ ﴾ ومثلك يا عمر في الملائكة مثل جبريل ينزل بالشدة والبأس والنقمة على أعداء الله ومثلك في الأنبياء مثل نوح إذ قال :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ﴾ ومثلك في الأنبياء مثل موسى ﴿ ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾ لو اتفقتما ما خلفتكما أنتم عالة فلا يفلتن منهم احد إلا بفداء وبضرب عنق، فقال : عبد الله ابن مسعود يا رسول الله إلا سهل بن بيضاء فإنه سمعته يذكر الإسلام فسكت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : فما رأيتني في يوم أخاف أن يقع على الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلا سهل بن بيضاء، فلما كان الغد غدا عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو بكر يبكيان فقال : يا رسول الله ما يبكيكما فإن وجدت بكاء بكيت وإلا تباكيت لبكائكما ؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن كان يصبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب أليم ولو نزل العذاب ما افلت منه إلا ابن الخطاب لقد عرض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه " ١ فأنزل الله تعالى :﴿ ما كان لنبي ان يكون ﴾ قرأ أبو جعفر وأبو عمرو وبالتاء الفوقانية والباقون بالياء التحتانية ﴿ له أسرى ﴾ كذا قرأ الجمهور وقرأ أبو جعفر أسارى ﴿ حتى يثخن في الأرض ﴾ أي : يكثر القتل ويوهن الكفار ويذل الكفر من أثخنه المرض أثقله فالمفعول محذوف أي : يثخن الأسرى في الأرض قال : في القاموس أثخن فلانا أي : أي أوهنه وأثخن في العدو وأي : بالغ بالجراحة فيهم ﴿ تريدون ﴾ أيها المؤمنون ﴿ عرض الدنيا ﴾ حطامها بأخذ الفداء ﴿ والله يريد ﴾ لكم ثواب ﴿ الآخرة ﴾بقتل المشركين ونصركم دين الله ﴿ والله عزيز حكيم ﴾.
قال ابن عباس كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل فلما كثروا واشتد سلطانهم نسخ الله تعالى هذا الحكم بقوله :﴿ فإما منا بعد وإما فداء ﴾ ٢ فجعل لنبيه صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين في
أمر الأسارى خيار إن شاؤوا قتلوهم وإن شاؤوا استعبدوهم وإن شاؤوا أفادوهم وإن شاؤوا أعتقوهم.
مسألة
أجمع العلماء على انه يجوز للإمام في الأسارى القتل كما يدل عليه هذه الآية وكما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ببني قريظة، وقد قتل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صبرا النضر بن الحارث وطعيمة بن عدي وعقبة بن أبي معيط، قال : في سبيل الرشاد : قال : عقبة بن أبي معيط يا محمد من للصبية قال : النار قتله ابن أبي الأفلح في قول ابن إسحاق وقال ابن هشام قتله علي بن أبي طالب.
مسألة
ويجوز استرقاق الأسارى أيضا إجماعا إن فيه دفع شرهم مع وفور المصلحة لأهل الإسلام، ومن هاهنا قال : أبو حنيفة ليس لواحد من الغزاة ان يقتل أسيرا بنفسه لأن الرأي فيه إلى الإمام ولكن لا يضمن بقتله شيئا
مسألة
واختلف العلماء في المن على الأسارى يعني إطلاقهم إلى دار الحرب من غير شيء وفيه الفداء بالمال وفي الفداء بأسير مسلم وفي تركهم ذمة لنا ؟ فقال : مالك والشافعي واحمد والثوري وإسحاق وبه قال : الحسن وعطاء : يجوز المن والفداء بالمال وبالأسارى، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد الأوزاعي، وبه قال قتادة والضحاك والسدي وابن جريج لا يجوز المن أصلا وكذا الفداء بالمال لا يجوز على المشهور من مذهب أبي حنيفة وصاحبيه، وفي " السير الكبير " أنه لا بأس به إذا كان بالمسلمين حاجة. وكذا المفادة بالأسارى لا يجوز على رواية من أبي حنيفة وبه قال : صاحب القدوري والهداية، وأظهر الروايتين عنه ما قال : صاحباه : انه يجوز المفادة بالأسارى. وأما تركهم أحرارا في دار الإسلام ذمة لنا فأجازه أبو حنيفة ومالك محتجين بما فعل عمر بأهل العراق والشام، وقال الشافعي واحمد لا يجوز ذلك لأنهم ملكوا، وجه قول أبي حنيفة في عدم المن والفداء ان ردهم على دار الحرب إعانة للكفار فإنهم يعودون حربا علينا فلا يجوز بالمال ولا بالأسير المسلم لأن الأسير المسلم إذا بقي في أيديهم كان في حقه إبتلاء من الله تعالى غير مضاف إلينا، والإعانة بدفع أسيرهم مضاف إلينا ووجه قول الجمهور قوله تعال :﴿ فإما من بعد وإما فداء ﴾ ٣ قال : أبو حنيفة هذه الآية منسوخة بقوله تعالى ﴿ فإما تتقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم ﴾ ٤ وقوله تعال :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾٥ وعند الجمهور قوله تعالى ﴿ فإما من بعد وإما فداء ﴾ ٦ غير منسوخ لما ذكرنا من قول ابن عباس انه لما كثر المسلمون واشتد سلطانهم انزل الله تعالى ﴿ فإما منا بعد ﴾ الآية وقوله تعالى :﴿ فاقتلوا المشركين ﴾ المراد غير الأسارى للإجماع على جواز استرقاقهم وقد قال : أبو حنيفة يجوز تركهم ذمة لنا.
اخرج مسلم في صحيحه وأبو داود والترمذي عن عمران بن حصين ان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فدى رجلين من المسلمين برجل من المشركين ٧، واخرج احمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة عن سلمة بن الأكوع قال : غزونا فزارة مع أبي بكر أمره علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان بيننا وبين الماء ساعة أمرنا أبو بكر فعرسنا ثم شن الغارة فورد الماء فقتل من قتل عليه، فانظر غلى عنق من الناس فيهم الذراري فخشيت ان. . . يسبقوني غلى الحبل فرميت بسهم بينهم وبين الجبل فلما رأوا السهم وقفوا فجئت بهم أسوقهم وفيهم امرأة من بني فزارة عليها قشع من آدم معها ابنة لها من أحسن العرب فسقتهم حتى أتيت بهم أبا بكر فنفلني ابنتها فقدمنا المدينة ما كشفت لها ثوبا، فلقيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السوق فقال :" يا سلمة هب لي المرأة " فقلت يا رسول الله قد أعجبتني وكشفت لها ثوبا فسكت حتى إذا كان الغد لقيني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في السوق فقال :" يا سلمة هب المرأة لله أبوك " فقلت هي لك يا رسول الله ما كشفت لها ثوبا فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ففدى بها ناسا من المسلمين كانوا أسروا بمكة ٨، وروى ابن إسحاق بسنده وأبو داود من طريقه إلى عائشة قالت : لما بعث أهل مكة فداء أساراهم بعث زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في فداء أبي العاص بمال وبعثت فيه بقلادة كانت خديجة رضي الله عنها أدخلتها بها على أبي العاص حين بني عليها، فلما رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذلك رق لها رقة وقال لأصحابه :" إن رأيتم أن تطلقوا لها أسرها وتردوا الذي لها فافعلوا " ٩ ففعلوا ورواه الحاكم وصححه وزاد وكان النبي صلى الله عليه آله وسلم قد أخذ عليها أن يخلي زينب إليه ففعل، وذكر ابن إسحاق أن ممن من عليه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المطلب بن حنطب أسره أبو أيوب الأنصاري فخلى سبيله، وأبو غزة الجمحي كان محتاجا ذا بنات، فكلم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فمن عليه وأخذ عليه أن لا يظاهر عليه أحدا وامتدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأبيات ثم قدم مع المشركين في أحد فأسر فقال : يا رسول الله أقلني فقال : عليه السلام :" لا تمسح عارضيك بمكة بعدها تقول خدعت محمد مرتين " ثم أمر بضرب عنقه، وذكر في سبيل الرشاد جعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يزم بدر فداء الرجل أربعة آلاف إلى ثلاثة آلاف إلى ألفين إلى ألف ومنهم من من عليه لأنه لا مال له وفي صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وآله وسلم في أسارى بدر " لو كان المطعم بن عدي حيا ثم كلمني في هؤلاء لتركتهم له " ١٠ وعن أبي هريرة قال : بعث النبي صلى الله عليه وآله وسلم خيلا قبل يمامة فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه في سارية من سوار المسجد فخرج عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما عند يا ثمامة ؟ فقال : عندي خير يا محمد إن قتلتني تقتل ذا دم وإن تنعم تنعم علي شاكر وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت فتركه، حتى كان الغد ثم قال له : ما عندك يا ثمامة فقال : عندي ما قلت لك، قال :" أطلقوا ثمامة " فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد ان محمدا رسول الله، يا محمد والله ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك. . . قد أصبح وجهك من أحب الوجوه إلي والله ما كان دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب الأديان إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك أحب البلاد إلي وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة ماذا ترى فبشره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأمره ان يعتمر، فلما قدم مكة قال
له قائل : صبوت قال : لا ولكني أسلمت مع محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا والله ما تأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ١١ والله علم.
١ أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: غزوة بدر (١٧٦٣)..
٢ سورة محمد، الآية: ٤..
٣ سورة محمد، الآية: ٤..
٤ سورة الأنفال، الآية: ٥٧..
٥ سورة التوبة، الآية: ٥..
٦ سورة محمد، الآية: ٤..
٧ أخرجه الترمذي في كتاب: السير، باب: ما جاء في قتل الأسارى والفداء (١٥٧١)..
٨ أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير، باب: التنفيل وفداء المسلمين بالأسارى (١٧٥٥).
٩ أخرجه أبو داود في كتاب: الجهاد، باب: في فداء الأسير بالمال (٢٦٩٠)..
١٠ أخرجه البخاري في كتاب: المغازي، باب: (٤٠٢٤)..
١١ أخرجه مسلم في كتاب: الجهاد والسير باب: ربط الأسير وحبسه وجواز المن عليه (١٧٦٤)..
روى أحمد عن أنس حال استثناء النبي صلى الله عليه وآله وسلم الناس في الاسارى يوم بدر فقال :( ان الله قد امكنكم منهم ) فقال : عمر بن الخطاب يارسول الله صلى الله عليه و آله و سلم اضرب اعناقهم فاعرض عنه، فقام ابو بكر فقال : ترى ان تغفر عنهم و ان تقبل منهم الفداء فعفى عنهم و قبل منهم الفداء فانزل الله تعالى :
﴿ لولا كتاب من الله سبق ﴾ يعني انه لا يضل اي لا ينسب الى الضلال ولا يعدبهم قوما بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون و انه لا ياخد قوما فعلوا شيئا قبل النهي، كذا قال الحسن و مجاهد و سعيد بن جبير في تفسير الاية، و اخرج الترمذي عن ابي هريرة عن النبي صلى الله عليه و آله وسلم قال :( لم يحل الغنائم لاحد سود الرؤوس من قبلكم كانت تنزل نادر من السماء فتاكلها فلما كان يوم بدر وقعوا في الغنائم قبل ان يحل لهم فانزل الله تعالى :﴿ لولا كتاب من الله ﴾١ يعني قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ وهو ان لا يعاقب المخطىء في اجتهاده وكان هذا اجتهادا منهم بان نظروا في استبقائهم وربما كان سببا لاسلامهم كما وجد من كثير منهم و ان فدائهم يتقووا به على الجهاد وخفي عليهم ان قتلهم اعز للاسلام و اهيب لمن وراءهم وقيل : مهناه لولا كتاب ي اللوح المحفوظ انه لا يعذب اهل بدر﴿ لمسكم ﴾ لنا ولكم ﴿ فيما أخذتم ﴾ من الفداء بالاجتهاد وقبل ان تؤمروا به و من الغنائم ثم قبل ان يحل لكم ﴿ عذاب عظيم ﴾ قال ابن إسحاق لم يكن من المؤمنين احد ممن حضر إلا أحب الغنائم إلا عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل الأسارى وسعيد بن معاذ قال : يا نبي الله كان الإثخان في القتل أحب من استبقاء الرجال فقال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" لو نزل عذاب من السماء ما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ " وروى ابن أبي شيبة والترمذي وحسنه النسائي وابن سعد وابن جرير وابن حبان والبيهقي عن علي رضي الله عنه قال : جاء جبرئيل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : يا محمد إن الله تعالى قد كره ما صنع قومك في أخذهم فداء الأسارى وقد أمرك أن تخيرهم بين أمرين إما أن يقدموا فيضرب أعناقهم وبين أن يأخذوا منهم الفداء على أن يقتل منهم عدتهم فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الناس فذكرهم ذلك، فقالوا : يا رسول الله عشائرنا وإخواننا نأخذ منهم الفداء فنتقوى به على قتال عدونا ويستشهد منا عدتهم فليس ذلك ما نكره ٢،
١ أخرجه الترمذي في كتاب: تفسير القرآن، باب: ومن سورة الأنفال (٣٠٨٤)..
٢ أخرجه الترمذي في كتاب: السير، باب: ما جاء في الغنيمة (١٥٥٦).
قال البغوي : روي انه لما نزلت الآية السابقة كف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أيديهم عما أخذوا من الفداء ﴿ فكلوا مما غنمتم ﴾الفاء للتسبيب والسبب محذوف تقديره أبحت لكم الغنائم فكلوا ﴿ حلالا ﴾ حال من المغنوم وصفة للمصدر رأى أكلا حلالا وفائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسب المعاتبة ولذلك وصفه بقوله ﴿ طيبا واتقوا الله ﴾ في مخالفة ﴿ إن الله غفور رحيم ﴾ أباح لكم ما أخذتم من الفداء والمغنم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" فضلت على الأنبياء بست " وذكر فيه :" وأحلت لي الغنائم " ١
رواه الترمذي عن أبي هريرة وروى الطبراني بسند صحيح عن السائب بن يزيد :" فضلت على الأنبياء بخمس وفيه :" وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي " والبيهقي عن أبي أمامة بسند صحيح نحوه غير أنه قال :" فضلت بأربع " والطبراني عن أبي الدرداء نحوه، وروى البغوي عن أبي هريرة قال : قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم " لم تحل لأحد قبلنا وذلك بان الله رأى ضعفنا وعجزنا فطيبها لنا " وقال البغوي روينا عن جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :" أحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبل " والله اعلم. ذكر البغوي أن العباس بن عبد المطلب أسر يوم بدر وكان أحد العشرة الذين ضمنوا طعام أهل بدر فكان يوم بدر نوبته وكان خرج بعشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الناس فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا وبقيت العشرين أوقية معه فأخذت معه في الحرب فكلم النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يحتسب العشرين أوقية من فدائه فأبى وقال : إما شيء خرجت به تستعين فلا اتركه لك، وكلف فداء ابني أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فقال : العباس يا محمد تركتني أتكفف قريشا ما بقيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها : إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهذا لك ولعبد الله والفضل وقثم بعني بنيه الأربعة، فقال : له العباس وما يدريك ؟ قال : أخبرني به ربي، فقال : العباس اشهد أن لا إله إلا الله وانك عبده ورسوله ولم يطلع عليه احد إلا الله.
وروى ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي وأبو نعيم وإسحاق بن راهويه
والطبراني وأبو الشيخ من طرق عن ابن عباس وابن إسحاق وأبو نعيم عن جابر بن عبد الله ان رسول الله صلى الله عليه وآله أسر يوم بدر سبعين من قريش منهم العباس وعقيل فجعل عليهم الفداء أربعين اوقية من الذهب، وروى البيهقي عن إسماعيل بن عبد الرحمان قال : كان فداء العباس وعقيل ونوفل وأخيه أربعمائة دينار، قال ابن إسحاق وكان أكثر الأسارى فداء يوم بدر فداء العباس نفسه بمائة اوقية من ذهب، وروى ابو داود عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة وادعى العباس رضي الله عنه انه لا مال عنده فقال : له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" فأين المال الذي دفعته انت أم الفضل وقلت لها إن أصبت في سفري هذا فهذا لبني الفضل وعبد الله والقثم " فقال : والله لأعلم أنك لرسول الله إن هذا شيء ما علمه إلا انا وام الفضل والله اعلم.
١ أخرجه البخاري في كتاب: الفرائض، باب: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم (٦٧٦٤)، وأخرجه مسلم في أول كتاب الفرائض (١٦١٤)..
وقال سعيد بن جبير : وجعل على العباس مائة اوقية وقالوا : أربعين وعلى عقيل ثمانين اوقية فقال : العباس لقد تركتني أفقر قريش ما بقيت فأنزل الله تعالى :
﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ﴾ الآية، وذكر محمد بن يوسف الصالحي في سبيل الرشاد انه قال : جماعة من الأسارى لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم منهم العباس رضي الله عنه إنا كنا مسلمين وإنما خرجنا كرها فعلام يؤخذ منا الفداء فأنزل الله تعالى :﴿ يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ﴾﴿ إن يعلم الله في قلوبكم خيرا ﴾ إيمانا وإخلاصا ﴿ يؤتكم خيرا مما اخذ منكم ﴾من الفداء بان يضعفه لكم في الدنيا ويثيبكم في الآخرة ﴿ ويغفر لكم والله غفور رحيم ﴾.
روى الطبراني في " الأوسط " عن ابن عباس قال : قال : العباس والله نزلت حين أخبرت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بإسلامي وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي وجدت معي فأعطاني بها عشرين عبدا كلهم تاجر بمالي في يده مع ما أرجو من مغفرة الله، وذكر البغوي قول العباس انه أبدلني الله عنها عشرين عبدا كلهم تاجر يضرب بما كثير وأدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية زمزم وما أحب إن لي بها جميع أموال أهل مكة وأنا انتظر المغفرة من ربي، وذكر في سبيل الرشاد قول العباس حين أنزلت لوددت انك أخذت مني أضعافها فأتاني اله خيرا منها أربعين عبدا كل في يده مال يضرب به وغني أرجو من الله المغفرة والله اعلم.
روى البخاري وابن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بمال من البحرين فقال :" انثروه في المسجد " إذ جاءه العباس فقال : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا فقال :" خذ " فحثا في ثوبه ثم ذهب يقتله فلم يستطع فقال : مر بعضهم يرفعه غلي قال : لا. . . قال :" فارفعه انت " قال : لافنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق وهو يقول : غنما أخذ ما وعد الله فقد الجز فما زال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبا من حرصه فما قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وثم منها درهم ١
١ أخرجه البخاري في كتاب: الجزية والموادعة، باب: ما أقطع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من البحرين (٣١٦٥)..
﴿ إن يريدوا خيانتك ﴾ يعني نقض ما عاهدوك عند انفكاكهم من الأسارى بالافتداء أو بغيره ﴿ فقد خانوا الله من قبل ﴾هذا بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ بقوله : ألست ربكم أو بالعقل ﴿ فأمكن منهم ﴾ يعني فأمكنك منهم يوم بدر جزاء الشرط محذوف أقيم دليله مقامه تقديره عن يريدوا خيانتك يعود عليهم وباله بدليل أنهم قد خانوا من قبل فأمكنك فغن عادوا فسنمكنك منهم مرة أخرى، كما ذكرنا عن ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وآله وسلم من علي أبي غرة الجمحي فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم﴿ والله عليم ﴾ بما في صدوركم ﴿ حكيم ﴾ فيما يفعل.
﴿ إن الذين امنوا وهاجروا ﴾ قومهم وديارهم حبا لله ورسوله يعني الذين هاجروا من مكة ﴿ وجاهدوا بأموالهم ﴾ فصرفوها في السلاح والكراع وأنفقوها في المحاويج ﴿ وأنفسهم في سبيل الله ﴾ بمباشرة القتال وإتيان كل ما أمر الله به من العبادات البدنية ﴿ آووا ﴾ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومن معه من المهاجرين في ديارهم بالمدينة ﴿ ونصروا ﴾ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على أعداء الله يعني الأنصار ﴿ أولئك بعضهم أولياء بعض ﴾ دون أقربائهم من الكفار يجوز للمؤمنين موالاة الكفار ولو كانوا أبائهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم ولا مناصرتهم. وقال ابن عباس هذا في الميراث كانوا يتوارثون بالهجرة وكان المهاجرون يتوارثون دون ذوي الأرحام وكان من آمن ولم يهاجر لا يرث من قريبه المهاجر حتى فتحت مكة وانقطعت الهجرة فتوارثوا بالأرحام حيث ما كانوا صار ذلك منسوخا بقوله عز وجل وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله } قلت : وعندي أن هذه الآية غير منسوخة إن كان المراد به الميراث أيضا فإنه متى أمكن الجمع بين الآيتين لا يجوز القول بنسخ إحداهما، ومعنى قول ابن عباس كان المهاجرون والأنصار يتوارثون دون ذوي الأرحام عن ذوي الأرحام الكفار لا يرثون من المهاجرين لاختلاف الدينين وكان من آمن ولم يهاجر لا يرص من قريبه المهاجر لاختلاف الدارين حتى فتحت مكة وصارت دار إسلام انقطعت الهجرة وأسلم أهل مكة كلهم توارثوا بالأرحام، وكان وجه أخذ الأنصاري ميراث المهاجر عقد الموالاة، وذلك سبب للإرث عند ابي حنيفة رحمه الله إذا لم يكن للميت وارث من النسب أو السبب بلا مانع من الإرث غير منسوخ، وأما أخذ المهاجر ميراث الأنصاري أو الأنصاري ميراث المهاجر مع وجود قريب الميت مؤمنا بالمدينة فلم يثبت ولا دلالة في الآية عليه فلا يجوز القول بكون الآية منسوخة والله اعلم.
﴿ والذين امنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم ﴾ قرأ حمزة بكسر الواو تشبيها لها بالعغمل والصناعة كالكتابة والرياسة كان بتولية صاحبه يزاول عملا والباقون بفتح الواو ﴿ من شيء حتى يهاجروا ﴾ نفي لولايته من لم يهاجر من المؤمنين بمعنى النهي لأجل فسقهم بترك فريضة الهجرة ومنه يظهر انه يكره للمؤمن ولاية المؤمن الفاسق ما لم يتب، وغن كان المراد بالولاية الميراث فالآية حجة على كون اختلاف الدارين مانعا من الميراث ﴿ وان استنصروكم ﴾ يعني المؤمنين الذي لم يهاجروا استنصروكم ﴿ في الدين ﴾ على أعدائهم من أهل الحرب ﴿ الدين النصر ﴾ فواجب عليكم ان تنصروهم عليهم ﴿ إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ﴾ فإنه لا يجوز نقض العهد، ولهذا لم ينصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أبا جندل وقصته في سورة الفتح ﴿ والله بما تعملون بصير ﴾تحذير عن تعدي حدود الشرع
﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ﴾ والمقصود منه انه لا يجوز للمؤمنين موالاة الكفار ولا مناصرتهم وقد قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " ١ رواه الشيخان في " الصحيحين " وأصحاب السنن الربعة من حديث أسامة بن زيد، وقد ذكرنا المسالة في سورة النساء وفي تفسير آية الميراث.
مسألة
ذكر في " المبسوط " انه لو أغار قوم من أهل الحرب على أهل الدار من الكفار التي فيها المؤمن من المستأمن من لا يحل له قتال هؤلاء الكفار إلا إن خاف على نفسه لأن القتال لما كان تعريضا لنفسه على الهلاك لا يحل إلا لإعلاء كلمة الله تعالى وإعزاز دينه أو لدفع الضرر عن نفسه وهو إذا لم يخف على نفسه فقتاله لا يكون إلا لأهل الدار من الكفار لإعلاء كلمتهم وذاك يجوز.
مسألة
لو أغار أهل الحرب الذين فيهم مسلمون مستأمنون على طائفة من المسلمين فاسروا ذراريهم فمروا بهم على أولئك المستأمنين وجب عليهم ان يقاتلوهم ويخلصوا المؤمنين من أيديهم لنهم لا يملكون رقابهم فتقريرهم في أيدهم تقرير على الظلم ولم يضمنوا ذلك بخلاف الموال لنهم ملكوها بالإحراز عند أب حنيفة وقد ضمنوا لهم ان لا يتعرضوا أموالهم وكذلك لو كان المأخوذ ذراري الخوارج لنهم مسلمون ﴿ إلا تفعلوه ﴾ يعني أن لا تفعلوا ما أمرتم به من التواصل بينكم والتناصر وقطع العلايق بينكم وبين الكفار حتى قطع التوارث ﴿ تكن فتنة في الأرض ﴾ يحصل فتنة عظيمة وهي ظهر الكفر ﴿ وفساد كبير ﴾يعني ضعف الإسلام بترك الجهاد واختلاط المسلمين بالكفار
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان باب: الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (١٢١).
﴿ والذين امنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين أووا ونصروا أولئك هم المؤمنون ﴾الكاملون في الإيمان الصادقون في ادعائهم لإسلامهم ﴿ حقا ﴾ حق ذلك المر حقا لنهم حققوا إيمانهم بتحصيل مقتضياته من الهجرة وبذل الموال والنفس في سبيل الله ونصرة الحق بخلاف من آمن ولم يهاجر ولم يجاهد فغنه وإن صح عليه إطلاق المؤمن حيث قال : الله تعالى :﴿ والذين آمنوا ولم يهاجروا ﴾ لكنهم ليسوا كاملين في الإيمان ولم يتحقق صدقهم ويتحمل نفاقتهم ولا تكرار لأن الآية الأولى للأمر بالتواصل، وهذه الآية واردة للثناء عليهم والوعد لهم بقوله ﴿ لهم مغفرة ورزق كريم ﴾ قال : رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :" الإسلام يهدم ما كان قبله والهجرة تهدم ما كان قبلها " ١ وقد مر من حديث عمرو بن العاص، واعلم أنه كان بعض المهاجرين أهل الهجرة الأولى، وهم الذي هاجروا قبل الحديبية ومنهم من كان ذا الهجرتين إلى الحبشة والهجرة على المدينة منهم عثمان وجعفر الطيار وغيرهم.
وكان بعضهم أهل الهجرة الثانية وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكة، والمراد بالآية الأولى أهل الهجرة الأولى لضلهم ثم الحق بهم أهل الهجرة الثانية فقال :﴿ والذين امنوا من بعد ﴾
١ أخرجه مسلم في كتاب: الإيمان، باب الإسلام يهدم ما قبله وكذا الهجرة والحج (١٢١)..
﴿ والذين امنوا من بعد ﴾ أب بعد صلح الحديبية ﴿ وهاجروا وجاهدوا معكم ﴾ وكذا من أن يتسم بسمتهم ﴿ فأولئك منكم ﴾ أبها المهاجرون الأولون والأنصار يعني من جملتكم ومن جنسكم يتولى بعضكم بعضا ويرث بعضكم بعضا ﴿ وأولوا الأرحام ﴾ من المؤمنين ﴿ بعضهم أولى ببعض ﴾ من الأجانب في التوارث وصلة الرحم وهذا لا ينافي ما سبق والمعنى أن المؤمن عن كان له ذا رحم فهو أولى به من سائر المؤمنين في التوارث فإن كان له رحم الذين ذكر الله تعالى في سورة النساء فهو أولى من غيره يعطي له الميراث على ما وصله الله تعالى في كتابه وغن لم يكن منهم أحد وكان ذو رحم من غيرهم فهو أولى من الجانب بهذه الآية.
وبقوله صلى الله عليه وسلم : ّ الخال وارث من لا وارث له " ١وقد ذكرنا الحديث في سورة النساء فهذه الآية حجة على الشافعي حيث قال : يوضع ماله في بيت المال عن لم يكن للميت ذا فرض ولا عصبة ولا يرث غيرهم من ذوي الأرحام وقدم المسالة في سورة النساء، والمؤمن عن لم يكن له أحد من أولي الأرحام مؤمنا فأوليائه جماعة من المؤمنين بما سبق في الآية الأولى فيوضع ماله في بيت المال لجماعة المسلمين، ﴿ في كتاب الله ﴾ يعني في حكم لله وقيمته أو في اللوح المحفوظ ﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ ومنها المواريث والحكمة في إناطتها بالقرابة والإسلام والنكاح والولاء والله اعلم.
تمت تفسير سورة الأنفال من التفسير المظهري ويتلوه
إن شاء اله تعالى تفسير سورة البراءة
١ أخرجه الترمذي في كتاب: الفرائض، باب: ما جاء في ميراث الخال (٢١٢٤)، وقال: حسن غريب وأرسله بعضهم..
Icon