دروس من سورة الأنفال
أهداف السورة
من الأسباب المباشرة لنزول سورة الأنفال معالجة شئون حدثت بين المسلمين في غزوة بدر، منها : كراهتهم للخروج إلى حين دعاهم الرسول إلى الخروج وكراهتهم للقتال حين وصلوا إلى بدر وتحتم عليهم أن يقاتلوا.
ومنها : اختلافهم بعد تمام النصر في قسمة الغنائم.
ومنها : اختلاف الرأي في معاملة الأسرى أيقبلون منهم الفداء أن يقتلونهم ؟
وفي جو هذه الشئون عرضت السورة لما يجب أن يكون عليه المسلمون في خاصة أنفسهم من جهة امتثال الأمر والإخلاص والحيطة والحذر من الأعداء، وتذكر نعم الله عليهم، والآداب التي يجب مراعتها أثناء القتال، وفيما يتصل به، من إعداد العدة، والمحافظة على العهود، وعلاقة بعضهم ببعض ؛ حتى يكونوا أهلا لما وعدهم الله من النصر والتأييد، وحتى يفوزوا بدرجات المغفرة والرضا عند الله.
ولا يفهم من ذلك أن كراهة القتال كانت طابعا عاما، بل كانت رغبة فريق قليل ونفر محدود كان يفضل الغنيمة والحصول على التجارة عن القتال، لكن بقية الجيش كان على استعداد للتضحية والفداء، وكان القرآن يوحد الهدف ويرشد الجميع إلى أن القتال أفضل ؛ لأن فيه انتصافا للمؤمنين وإعلاء لكلمة الله، ودحرا للطغيان وتحطيما لطواغيث الكفر وردعا للمشركين، وقد استشار النبي المسلمين قبل بدء المعركة هل يقدم على القتال ؟ أم يعود إلى المدينة ؟
فأدلى أبو بكر وعمر برأيهما، ثم قام المقدام بن عمرو فقال : يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك والله لا تقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون ولكن نقول : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : " أشيروا على أيها الناس " i فقام سعد بن معاذ زعيم الأنصار وقال : يا رسول الله، آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض لما أردت فنحن معك فوالذي بعثك بالحق نبيّا لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك وما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غذا، أنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، وعندئذ أشرق وجه الرسول بالمسرة، وقال لأصحابه : " سيروا وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الحسنيين العير أو النفير ! " وقد فرت العير فلم يبق إلا النفير فسار المسلمون وكلهم أمل في النصر.
صور من معركة بدر
نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر، وهي الموقعة الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين، بل في تاريخ البشرية كلها إلى يوم الدين، الموقعة التي قدر المسلمون أن تكون غايتها غنيمة أموال المشركين، وقدر رب المسلمين أن تكون فيصلا بين الحق والباطل، وأن تكون مفرق الطريق في تاريخ الإسلام ومن ثم تكون مفرق الطريق في خط سير التاريخ الإنساني العام، والتي ظهرت فيها الآماد البعيدة بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير، وتدبير رب الشر لهم ولو كرهوه في أول الأمر.
نزلت سورة الأنفال في غزوة بدر فتضمنت الكثير من دستور السلم والحرب، ودستور الغنائم والأسرى، ودستور المعاهدات والمواثيق، وتضمنت بعد ذلك الكثير من دستور النصر والهزيمة بتضمنها لأسباب النصر والهزيمة، ولواجبات المجاهدين في الإعداد والاستعداد، ثم ترك الأمر بعد ذلك لله وما النصر إلا من عند الله. ثم أنها تضمنت بعد ذلك مشاهد من الموقعة ومشاهد من حركات النفوس قبل المعركة وفي ثناياها وبعدها، مشاهد حية تعيد إلى المشاعر وقع المعركة وصورها وسماتها ؛ كأن القارئ يراها. وإلى جوار المعركة استطراد السياق أحيانا إلى صور من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم وحياة أصحابه في مكة، حين كانوا قليلا مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس، وصور من حياة المشركين قبل هجرة الرسول – صلى الله عليه وسلم – من بين ظهرانيهم ومن بعدها، وأمثلة من مصائر الكافرين من قبل – كدأب آل فرعون والذين من قبلهم – والدأب : معناه : الصفة والشأن أي : أن شأن الكافرين واحد في تكذيب الرسل، واستحقاق العقاب، وبذلك تقرر السورة سنة الله التي لا تتخلف في نصر المؤمنين وهزيمة المكذبين.
الغنائم
لقد افتتح الله السورة بالحديث عن الأنفال، وهي الغنائم التي يغنمها المسلمون في جهادهم لإعلاء كلمة الله، وقد ثار بين أهل بدر جدال حول تقسيمها بعد النصر في المعركة فردهم الله إلى كلمته وحكمه فيها، ردهم إلى تقواه وطاعته وطاعة رسوله واستجاش فيهم وجدان التقوى والإيمان، ثم أخذ يذكرهم بما أرادوا هم لأنفسهم من الغنيمة وما أراده الله لهم من النصر، وكيف سارت المعركة وهم قلة لا عدد لهم ولا عدة وأعداؤهم كثرة في الرجال والعتاد، وكيف ثبتهم الله بمدد من الملائكة، وبالمطر يستقون منه ويثبت الأرض تحت أقدامهم فلا تسوخ في الرمال ؛ وبالنعاس يغشاهم ؛ فيسكب عليهم السكينة والاطمئنان ويلقى الرعب في قلوب أعدائهم وينزل بهم شديد العقاب. قال تعالى :
﴿ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ﴾. ( الأنفال : ١١ ).
الحرب والسلام
تضمنت سورة الأنفال دراسة كاشفة وتصويرا ملموسا للمواقف الناجحة والحروب الهادفة، كما رسمت السورة – مع سور أخرى في القرآن الكريم – أسباب النصر في الميدان، ومن هذه الأسباب ما يأتي :
١ – إخلاص النية والرغبة في الشهادة وإيثار الآخرة على الدنيا وتحمل تبعات الحرب وآلام القتال.
٢ – الثبات في اللقاء وتذكر الله في العسر واليسر وعدم الفرار من الميدان وبذل النفس والنفيس في سبيل الله.
٣ – إعداد العدة وتجهيز أدوات القتال والتدريب عليها مع وحدة الصف وتماسك القوى وترابط المقاتلين.
٤ – التوكل على الله والالتجاء إليه بعد الأخذ في الأسباب وطاعة القائد وتنفيذ الأوامر والمحافظة على النظام وأخذ الحذر.
٥ – البعد عن التنازع والاختلاف في حال القتال وما يتعلق به ؛ فإن النزاع والخلاف من أكبر الأسباب في إذهاب القوة وتمكين الأعداء.
ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم.
أي : لا تختلفوا ؛ فإن الخلاف يؤدي إلى الضعف والهزيمة وضياع القوة والدولة.
٦ – عدم تصديق الإشاعات والأراجيف ومصاولة اليأس والقنوط والقضاء على أساليب العدو وعلى الحرب النفسية التي يشنها رغبة منه في تثبيط الهمم والتيئيس من النصر.
ومن ثم يأمر الله المؤمنين في سورة الأنفال أن يثبتوا في كل قتال مهما خيّل إليهم في أول الأمر من قوة أعدائهم ؛ فإن الله هو الذي يقتل وهو الذي يرمي وهو الذي يدبّر، وما هم إلا أسباب ظاهرة لتنفيذ إرادة الله. ويسخر القرآن من المشركين الذين كانوا قبل الموقعة يستفتحون، فيطلبون أن تدور الدائرة على أضل الفريقين وأقطعهما للرحم فيقول :
﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح ﴾.
ويحذر المسلمين أن يتشبهوا بالكفار والمنافقين الذين يسمعون بآذانهم ولكنهم لا يسمعون بقلوبهم لأنهم لا يستجيبون ولا يهتدون.
ثم تدعو السورة المسلمين إلى الاستجابة لله وللرسول إذا دعاهم لما يحييهم ولو خيل إليهم أن فيه القتل والموت، وتذكرهم كيف كانوا قليلا مستضعفين يخافون أن يتخطفهم الناس فأعزهم الله ونصرهم، وأنهم إذا اتقوا الله ؛ جعل لهم فرقانا من النصر الكامل ذلك فوق تكفر السيئات وغفران الذنوب وما ينتظرهم من فضل الله الذي تتضاءل دونه المغانم والأموال.
وكما وضعت سورة الأنفال صفحة في كتاب الإسلام عن الجهاد، فإنها قابلتها بصفحة أخرى عن السلم لمن يجنح إليه ويختار الهدنة، ويتضح لنا من السورة أن السلم هو القاعدة في الإسلام، أما الحرب فطارئة لدفع الباطل وإقرار الحق، ومن ثم يدعو الإسلام إلى السلم دعوته إلى الجهاد، ويحافظ على العهد ؛ ما وفى به المعاهدون ويؤمّن المخالفين للإسلام في العقيدة من كل اعتداء غادر، ويحصر الحروب في أضيق نطاق تقضي به ضرورة تأمين السلم والحق والعدل، ويعدّ الناقضين للعهود من عالم الحيوان لا من عالم الإنسان.
يقول سبحانه وتعالى :
﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ﴾. ( الأنفال : ٦١ ).
والتعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح تعبير لطيف يلقى ظل الدعة الرقيق فهي حركة جناح يميل إلى السلم ويرخي ريشه في وداعة واطمئنان ؛ فإذا الجو من حوله طمأنينة وسلام.
وهناك حالة استثنائية واحدة هي حالة جزيرة العرب التي سيجيء في سورة براءة نبذ عهود المشركين فيها جميعا وتخليصها من الشرك كافة ؛ لتكون موطنا خالصا للإسلام.
صفات المؤمنين
تعرضت سورة الأنفال لبيان صفات المؤمنين كما ورد تحديد هذه الصفات في أول سورة البقرة وأول سورة المؤمنون، وفي سورة الفرقان، وفي كثير من السور.
وإذا استوعبنا هذه الآيات وجدناها تدور حول تحديد المؤمن – الذي يريده الله – بمن يجمع بين سلامة العقيدة وسلامة الخلق، وصلاح العمل، وبمن يكون في ذلك كله مثالا صادقا وصورة صحيحة لأوامر الله وإرشاداته.
وقد وصف الله المؤمنين في سورة الأنفال بخمس صفات هي : وجل القلوب عند ذكر الله، وزيادة الإيمان عند تلاوة آياته، والتوكل على الله وحده، وإقامة الصلاة، والإنفاق مما رزق الله. ثم بين أنهم بهذه الصفات يكونون أهل الإيمان حقا وأن لهم عند الله درجات عالية في الجنة.
فالمؤمن حقا يراقب مولاه، ويرجو رحمته، ويخشى عقابه، ويخشع عند تذكر آياته، وهو في خشوعه وخضوعه وعبادته مخلص القلب، ثابت اليقين.
ومن صفة المؤمن زيادة إيمانه ورسوخ عقيدته عند تلاوة القرآن وتدبر آياته، ومعرفة أحكامه وأسراره، كما أن إقامته للصلاة وأداءه للزكاة، وعمه بمقتضى هذه الإيمان سلوكا وتطبيقا، مما يزين الإيمان في القلب ويزيده ثقة ويقينا.
فالصلاة في حقيقتها مناجاة ومناداة وخشوع وخضوع وقراءة ودعاء. ومن ثمرتها : طهارة المؤمن من الفحشاء والمنكر وتهذيب الغرائز وتقويم السلوك وتربية الضمير. والزكاة فيها تكافل المجتمع وترابط الأغنياء والفقراء.
وفي سورة الأنفال حث على الإنفاق من كل ما رزق الله وهو يشمل – كما فصّل الفقهاء – زكاة الأموال وزكاة الزروع والثمار وزكاة الماشية الركاز وكل ما يستخرج من باطن الأرض، وزكاة التجارة، ولا نكاد نجد آية عرضت للصلاة إلا وتذكر الإنفاق في سبيل الله، كما أنا لا نكاد نجد آية تعرضت لأوصاف المؤمنين وتهملهما أو تهمل أحدهما.
فقد جعل الله إقامة الصلاة مثالا لبذل النفس في سبيله وجعل الإنفاق مثالا لبذل المال في سبيله.
وبذلك يتسم الإيمان بطابع تهذيب النفس وطهارة القلب، كما يتسم بأنه دافع عملي إلى السلوك النافع والعمل الصالح الذي يؤدى إلى إصلاح المجتمع وتماسك الأمة وتقوية روابط المودة والرحمة والألفة بين الناس.
نداءات إلهية للمؤمنين
أخذت سورة الأنفال تنادي المؤمنين ست مرات بوصف الإيمان، في النداء الأول : تأمرهم بالثبات في الميدان والشجاعة في القتال، وتنهاهم عن الفرار من المعركة وتتوعد الفارّ من ميدان القتال بعذاب السعير وغضب الله العلي القدير، والنداء الثاني : يش
ﰡ
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفَالِ قُلِ الأنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ( ١ ) إنمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياته زَادَتْهُمْ إيمانا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ( ٢ ) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ( ٣ ) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ( ٤ ) ﴾
المفردات :
الأنفال : هي الغنائم واحدها : نفل بتحريك الفاء، وقد تطلق على ما يعطى زيادة على السهم من المغنم.
فاتقوا الله : فاجعلوا لأنفسكم وقاية من عقوبة الله تعالى بالإيمان والعمل الصالح.
وأصلحوا ذات بينكم : وأصلحوا الأحوال التي بينكم بالمساواة والمساعدة، وقال الزجاج : معنى ذات بينكم حقيقة وصلكم، والدين : الوصل أي : فاتقوا الله وكونوا مجمعين على ما أمر الله ورسوله.
التفسير :
١ – ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفَالِ قُلِ الأنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُول.... ﴾ الآية.
سبب النزول :
روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت قال :
خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت بدرا فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لكي لا يصيب العدو منه غرّة، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم :
نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق منا نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : لستم بأحق بها منا نحن أحدقنا برسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به ؛ فنزلت :﴿ يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول... ﴾ فقسمها رسول الله –صلى الله عليه وسلم – بين المسلمينiii.
وهناك روايات أخرى تفيد أن نزاعا ما، قد ظهر بين المسلمين حول توزيع الغنائم فأنزل الله هذه الآيات لبيان حكمه فيها.
والأنفال : جمع نفل وهو الزيادة، ولذا قيل للتطوع : نافلة ؛ لأنه زيادة على الأصل، وقيل لولد الولد : نافلة، لأنه زيادة على الولد. قال تعالى :﴿ ووهبنا له إسحاق ويعقوب نافلة ﴾. ( الأنبياء : ٧٢ ).
وإطلاق الأنفال على الغنائم باعتبار أنها زيادة على ما شرع الجهاد له، وهو إعلاء كلمة الله، أو باعتبار أنها زيادة خص الله بها هذه الأمة.
روى البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أعطيت خمسا لم يعطهن نبي قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لنبي قبلي، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأعطيت الشفاعة، وأرسل كل نبي إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة " iv.
وجمهور العلماء على أن المقصود من سؤال بعض الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم – أي : الغنائم – إنما هو عن حكمها وعن المستحق لها.
فيكون المعنى : يسألك بعض أصحابك يا محمد عن غنائم بدر كيف تقسم ومن المستحق لها ؟ قل لهم : الأنفال لله يحكم فيها بحكمه، ولرسوله يقسها بحسب حكم الله فيها، فهو سبحانه العليم بمصالح عباده، الحكيم في جميع أقواله وأفعاله.
وبعض العلماء يرى أن السؤال للاستعطاء، وأن حرف " عن " زائد، أو هو بمعنى من، فيكون المعنى : يسألك بعض أصحابك يا محمد إعطاءهم الأنفال، ويطلبون منك توزيع الغنائم عليهم.
وقد رجح جمهور العلماء أن السؤال هنا للاستفهام عن حكم الأنفال وعن طريقة توزيعها، وذكر الآلوسي في تفسيره طائفة من الأمور ترجح رأى جمهور العلماء.
وقد ورد في أسباب النزول روايات تفيد أن الشباب سارعوا إلى قتال الكفار، وأن الشيوخ وكبار السن وقفوا تحت الرايات ردءا وعونا أشبه بالخط الثاني للمقاتلين.
وأن الشباب كانوا يرون أنهم أولى بالغنائم ؛ لأنهم باشروا القتال، والشيوخ يرون أن لهم حقا يماثل حق الشباب ؛ لأن الشباب لو انهزموا لانحازوا للشيوخ وصار الشيوخ حماية وعونا للشباب، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال : " من قتل قتيلا فله سبله " أي : أن الشاب المقاتل يستحق أن يغنم غنيمته من الكافر الذي قتله، فظن الشباب أن هذا يجعلهم يستولون على الغنائم وحدهم.
ثم بين الله تعالى حكمة توزيع الغنائم على جميع جيش المسلمين سواء الشباب الذين باشروا القتال، أو الشيوخ الذين كانوا عونا وردءا، أو المجموعة التي تجصنت لحماية الرسول صلى الله عليه وسلم والدفاع عنه، فكل فئة كان لها ضلع في نجاح المعركة.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
فإن قلت : ما معنى الجمع بين ذكر الله والرسول في قوله :﴿ قل الأنفال لله والرسول ﴾.
قلت : معناه : أن حكمها مختص بالله ورسوله، يأمر بقسمتها على ما تقتضيه حكمته، ويمتثل الرسول أمر الله فيها، وليس الأمر في قسمتها فوضا إلى رأى أحد، والمراد : أن الذي اقتضته حكمة الله وأمر به رسوله، أو يواسي المقاتلة المشروط لهم التنفيل الشيوخ الذين كانوا عند الرايات، فيقاسموهم على السوية ولا يستأثروا بما شرط لهم، فإنهم إن فعلوا لم يؤمن أن يقدح ذلك فيما بين المسلمين من التحاب والتصافي...
﴿ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ﴾.
أي : إذا كان أمر الغنائم لله تعالى ورسوله، فاتقوه تعالى واجتنبوا ما كنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لسخط الله تعالى، أو فاتقوه تعالى في كل ما تأتون وتذرون من النيات والعقائد والأعمال.
﴿ وأصلحوا ذات بينكم ﴾. أي : وأصلحوا ما بينكم من الأحوال والصلات التي تربط بعضكم ببعض وإصلاحها بالوفاق والتعاون والمساواة وترك الأثرة ؛ لأن إصلاح ذات البين واجب، يتوقف عليه قوة الأمة وعزتها ومنعتها، وتحفظ به وحدتها.
﴿ وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ﴾. أي : الزموا طاعة الله ورسوله طاعة مطلقة وتسليما مطلقا فذلك هو شأن المؤمنين ؛ إذ لا إيمان بغير طاعة وتسليم.
وفي التعبير بقوله :﴿ إن كنتم مؤمنين ﴾. تنشيط للمخاطبين وحث لهم على المسارعة إلى الامتثال.
عن أبي أمامة الباهلي قال : سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال : " فينا معشر أصحاب بدر، نزلت حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه عن بواء – يقول على السواء " v.
وعن عطاء : كان الإصلاح بينهم أن دعاهم وقال : اقسموا غنائمكم بالعدل.
ولا يفهم من ذلك أن الاختلاف على الغنائم كان أمرا عاما شمل جميع المسلمين، بل كان بين فئات منهم، وكانت هذه أول غزوة ولم يكن قد نزل حكم بشأن الغنائم، فأنزل الله كتابة الكريم ليبين لهم أن الغنائم لله سبحانه يحكم فيها بما يشاء، ورسوله مبلغ عن الله، وعلى المسلمين أن يراقبوا ربهم وأن يعودوا إلى طريق المودة والمحبة والصلح ؛ فإن كمال الإيمان يدور على امتثال هذه الأوامر.
وقد عاد المسلمون فعلا إلى الإيمان والتسليم، ووزع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم بين جميع من شهد بدرا من الشباب والشيوخ، ومن جمع الغنائم ومن انشغل بأي أمر آخر، فالكل كان يؤدي اجبه بطريقة ما، ولا غنى لأحد فيهم عن الآخر.
وقد أتم الله التشريع في شأن الغنائم، بالآية ٤١ من سورة الأنفال، وفيها بين الله تعالى أن الغنائم تقسم إلى خمسة أخماس، خمس لليتامى والمساكين وابن السبيل، والأربعة أخماس الباقية من الغنيمة تقسم على الغانمين الذين حضروا المعركة.
قال تعالى :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قدير ﴾.
قال الشافعي : إن الخمس يقسم على خمسة، وإن وسهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية.
وقال أبو حنيفة : إنه يقسم الخمس على ثلاثة : لليتامى والمساكين وابن السبيل، وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بموته كما ارتفع حكم سهمه.
١ – هذه الآيات الكريمة في فاتحة سورة الأنفال تربية ربانية للمؤمنين، وتوجيه لهم ما إلى ما يسعدهم، وإرشاد لهم إلى أن المؤمن الصادق في إيمانه هو الذي يجمع بين سلامة العقيدة، وسلامة الخلق وصلاح العمل وأن المؤمن متى جمع بين هذه الصفات ارتفع إلى أعلى الدرجات وأحس بحلاوة الإيمان في قلبه...
روى الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارث ؟ قال أصبحت مؤمنا حقا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : نظر ما تقول، فأن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك ؟ فقال الحارث : عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاعفون فيها فقال صلى الله عليه وسلم يا حارث، عرفت فالزم " ثلاثاvii.
٢ – من سنة القرآن الكريم في ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبة حسب وقوعها وذلك لأنه لا يذكرها ؛ لما فيها من العبر والمواعظ، ولما تتطلبه من الأحكام ولذلك لم تبدأ سورة الأنفال بالحديث عن الغزوة، وإنما بدأت بالحديث عن الأنفال مع أنها أمر لاحق للغزو والجهاد ؛ لأن القرآن أراد أن يتجه مباشرة إلى تربية المؤمنين، وعلاج الخلاف الذي حدث بسبب الغنائم، وتوجيه القلوب إلى الإخلاص لله والتجرد من حب المال والتطلع إلى المادة، ولا ريب أن حب المال والتطلع إلى المادة، والضعف أمام إغراء المال من أكبر أسباب الفشل، لقد كانت تربية القرآن تربية سليمة في تطهير الروح، وتوجيه النفوس إلى التكامل والتوازن والسلوك القويم.
وجلت قلوبهم : خافت وفزعت.
زادتهم إيمانا : تصديقا ويقينا.
يتوكلون : يثقون بالله لا غيره.
التفسير :
٢ ﴿ - إنمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياته زَادَتْهُمْ إيمانا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾.
هذه الآية تحريض على التزام طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أمر به من قسمة الغنيمة.
ومعنى الآية :
إنما المؤمنون الصادقون الذين إذا ذكر الله وذكرت صفاته أمامهم، خافت قلوبهم وفزعت، استعظاما لجلاله وتهيبا من سلطانه، وحذرا من عقابه ورغبة في ثوابه ؛ وذلك لقوة إيمانهم وصفاء نفوسهم، وشدة مراقبتهم لله عز وجل ووقوفهم عند أمره ونهيه.
﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياته زَادَتْهُمْ إيمانا ﴾. أي : ومن صفات المؤمنين أنهم إذا قرئت عليهم آيات القرآن أو الأدلة على وجود الله ؛ قوى إيمانهم وتصديقهم وتيقنهم بربهم، ونشاطهم في أعمالهم وعلى ربهم يتوكلون.
فهم يعتمدون على الله، ويفوضون أمورهم إليه ويتوجهون إليه بالدعاء مع الأخذ بالأسباب وعدم تركها، ومراعاة سنن الله في الكون التي لا تتبدل، ولا تتغير، ومن تركها ؛ كان جاهلا مؤاخذا.
ويتعلق بهذه الآية ما يأتي :
١ – جمهور العلماء : على أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، وذهب الإمام أبو حنيفة وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين، محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان، وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان وإذا تأملنا الأمر ؛ وجدنا أن رأى جمهور العلماء في هذه المسألة أولى بالقبول ؛ لأنه من الواضح أن إيمان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أرسخ وأقوى من إيمان آحاد الناس، ولأنه كلما تكاثرت الأدلة ؛ كان الإيمان أشد رسوخا في النفس، وأعمق أثرا في القلب.
جاء في تفسير أبي السعود ما يأتي :
﴿ زادتهم إيمانا ﴾ : أي : يقينا وطمأنينة نفس، فأن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج والبراهين موجب لزيادة الاطمئنان وقوة اليقين، وقيل : إن نفس الإيمان لا يقبل الزيادة والنقصان وإنما زيادته باعتبار زيادة المؤمن به، فإنه كلما نزلت آية صدق بها المؤمن فزاد إيمانه عددا وأما نفس الإيمان فهو بحاله، وقيل : باعتبار أن الأعمال تجعل من الإيمان فيزيد بزيادتها، والأصوب أن نفس التصديق يقبل القوة، وهي التي عبر عنها بالزيادة، للفرق الواضح بين يقين الأنبياء وأرباب المكاشفات، ويقين آحاد الأمة، وعليه مبني ما قال على رضي الله عنه : لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا، وكذا بين ما قام عليه دليل واحد، وما قامت عليه أدلة كثيرةvi.
٢ – قال الإمام النووى : أن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذا التصديق والمعرفة يتفاضلان بحسب ظهور البراهين وكثرتها.
٢ – قال تعالى :﴿ وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾. ( البقرة : ٣٦٠ ).
فهذه الآية دليل على أن مقام الطمأنينة في الإيمان يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق وشبيه بهذه الأدلة في الدلالة على قبول الإيمان للزيادة والنقصان قوله تعالى :
﴿ هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ﴾. ( الفتح : ٤ ).
وقوله تعالى :
﴿ ولما رءا المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانا وتسليما ﴾( الأحزاب : ٢٢ ).
١ – هذه الآيات الكريمة في فاتحة سورة الأنفال تربية ربانية للمؤمنين، وتوجيه لهم ما إلى ما يسعدهم، وإرشاد لهم إلى أن المؤمن الصادق في إيمانه هو الذي يجمع بين سلامة العقيدة، وسلامة الخلق وصلاح العمل وأن المؤمن متى جمع بين هذه الصفات ارتفع إلى أعلى الدرجات وأحس بحلاوة الإيمان في قلبه...
روى الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارث ؟ قال أصبحت مؤمنا حقا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : نظر ما تقول، فأن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك ؟ فقال الحارث : عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاعفون فيها فقال صلى الله عليه وسلم يا حارث، عرفت فالزم " ثلاثاvii.
٢ – من سنة القرآن الكريم في ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبة حسب وقوعها وذلك لأنه لا يذكرها ؛ لما فيها من العبر والمواعظ، ولما تتطلبه من الأحكام ولذلك لم تبدأ سورة الأنفال بالحديث عن الغزوة، وإنما بدأت بالحديث عن الأنفال مع أنها أمر لاحق للغزو والجهاد ؛ لأن القرآن أراد أن يتجه مباشرة إلى تربية المؤمنين، وعلاج الخلاف الذي حدث بسبب الغنائم، وتوجيه القلوب إلى الإخلاص لله والتجرد من حب المال والتطلع إلى المادة، ولا ريب أن حب المال والتطلع إلى المادة، والضعف أمام إغراء المال من أكبر أسباب الفشل، لقد كانت تربية القرآن تربية سليمة في تطهير الروح، وتوجيه النفوس إلى التكامل والتوازن والسلوك القويم.
فلا يكتمل إيمان المؤمن حتى يقيم الصلاة على وجهها ويؤديها في خشوعها وخضوعها، ولا يكمل إيمانه حتى يكون مع إقامة الصلاة – من المنفقين مما رزقهم الله في وجوه البر والإحسان.
وقد تحدث العلماء عن الصلاة وخشوعها وخضوعها ووجوب حضور القلب فيها حتى يكون أداؤها كاملا كما تحدثوا عن فرضية الزكاة، وعن فضل الصدقة والإنفاق والعطاء.
وقد قرنت الصلاة بالزكاة في كثير من آيات القرآن، فالصلاة وسيلة لطهارة القلب وتعميق الإيمان، والإنفاق في سبيل الله وسيلة للعطف على الفقراء والمساكين ومساعدة المحتاجين وتسخير المال فيما خلقه الله من أجله. قال تعالى :﴿ وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه ﴾.
والصفات السابقة كلها متكاملة تؤدى إلى شخصية سوية ونفس مطمئنة وقلب عامر بالإيمان.
١ – هذه الآيات الكريمة في فاتحة سورة الأنفال تربية ربانية للمؤمنين، وتوجيه لهم ما إلى ما يسعدهم، وإرشاد لهم إلى أن المؤمن الصادق في إيمانه هو الذي يجمع بين سلامة العقيدة، وسلامة الخلق وصلاح العمل وأن المؤمن متى جمع بين هذه الصفات ارتفع إلى أعلى الدرجات وأحس بحلاوة الإيمان في قلبه...
روى الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارث ؟ قال أصبحت مؤمنا حقا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : نظر ما تقول، فأن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك ؟ فقال الحارث : عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاعفون فيها فقال صلى الله عليه وسلم يا حارث، عرفت فالزم " ثلاثاvii.
٢ – من سنة القرآن الكريم في ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبة حسب وقوعها وذلك لأنه لا يذكرها ؛ لما فيها من العبر والمواعظ، ولما تتطلبه من الأحكام ولذلك لم تبدأ سورة الأنفال بالحديث عن الغزوة، وإنما بدأت بالحديث عن الأنفال مع أنها أمر لاحق للغزو والجهاد ؛ لأن القرآن أراد أن يتجه مباشرة إلى تربية المؤمنين، وعلاج الخلاف الذي حدث بسبب الغنائم، وتوجيه القلوب إلى الإخلاص لله والتجرد من حب المال والتطلع إلى المادة، ولا ريب أن حب المال والتطلع إلى المادة، والضعف أمام إغراء المال من أكبر أسباب الفشل، لقد كانت تربية القرآن تربية سليمة في تطهير الروح، وتوجيه النفوس إلى التكامل والتوازن والسلوك القويم.
أي : أولئك الذين ذكرت صفاتهم الحميدة، هم المؤمنون حيث جمعوا بين أفاضل الأعمال القلبية، وأعمال الجوارح.
وفي التعبير بقوله تعالى :﴿ أولئك هم المؤمنون حقا ﴾.
إشارة إلى علو مكانة أولئك المؤمنين المتصفين بتلك الصفات، وانحصار الإيمان فيهم حتى كأن من سواهم ليسوا بمؤمنين ؛ لأن الإيمان بلا ثمرة، هو العدم سواء وقوله :﴿ حقا ﴾. منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف، أي : أولئك هم المؤمنون إيمانا حقا.
﴿ لهم درجات عند ربهم ﴾.
أي : لهم درجات عالية ومنازل عالية من الكرامة والزلفى والمنازل العالية في الجنة.
وقوله :﴿ عند ربهم ﴾. إشارة إلى أن هذا الوعد متيقن الوقوع ؛ لأنه وعد من كريم لا يخلف وعده. سبحانه !
﴿ ومغفرة ورزق كريم ﴾. أي : مغفرة لذنوبهم وعطاء كريم لا ينقضي أمده ولا ينتهي عدده، وهو ما أعد لهم في الجنة مما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر والكريم من كل شيء أحسنه.
١ – هذه الآيات الكريمة في فاتحة سورة الأنفال تربية ربانية للمؤمنين، وتوجيه لهم ما إلى ما يسعدهم، وإرشاد لهم إلى أن المؤمن الصادق في إيمانه هو الذي يجمع بين سلامة العقيدة، وسلامة الخلق وصلاح العمل وأن المؤمن متى جمع بين هذه الصفات ارتفع إلى أعلى الدرجات وأحس بحلاوة الإيمان في قلبه...
روى الحافظ الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : كيف أصبحت يا حارث ؟ قال أصبحت مؤمنا حقا، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم : نظر ما تقول، فأن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك ؟ فقال الحارث : عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت ليلى، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاعفون فيها فقال صلى الله عليه وسلم يا حارث، عرفت فالزم " ثلاثاvii.
٢ – من سنة القرآن الكريم في ذكر القصص والوقائع أنه لا يعرض لها مرتبة حسب وقوعها وذلك لأنه لا يذكرها ؛ لما فيها من العبر والمواعظ، ولما تتطلبه من الأحكام ولذلك لم تبدأ سورة الأنفال بالحديث عن الغزوة، وإنما بدأت بالحديث عن الأنفال مع أنها أمر لاحق للغزو والجهاد ؛ لأن القرآن أراد أن يتجه مباشرة إلى تربية المؤمنين، وعلاج الخلاف الذي حدث بسبب الغنائم، وتوجيه القلوب إلى الإخلاص لله والتجرد من حب المال والتطلع إلى المادة، ولا ريب أن حب المال والتطلع إلى المادة، والضعف أمام إغراء المال من أكبر أسباب الفشل، لقد كانت تربية القرآن تربية سليمة في تطهير الروح، وتوجيه النفوس إلى التكامل والتوازن والسلوك القويم.
لمفردات :
كما أخرجك ربك من بيتك : أي : أخرجك من بيتك بالمدينة إلى بدر.
بالحق : أي : بالحكمة والصواب.
التفسير :
٥ – ﴿ كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَأن فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ ﴾.
تتحدث هذه الآية مع آيات تالية عن خروج المسلمين إلى غزوة بدر الكبرى.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد علم أن تجارة قريش في طريق عودتها من الشام، وستمر قريبا من المدينة فقال عليه الصلاة والسلام لأصحابه : هذه عير قريش اخرجوا إليها علّ الله أن ينفلكموها، فخف بعض الناس للخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثاقل بعضهم لعلمهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يلقى حربا، فالتجارة يحيط بها حراس قليلون، وخرج عليه الصلاة والسلام في ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا معهم فرسان فقط، وسبعون بعيرا يتعاقبون عليها، وبلغ أهل مكة خبر خروجهم، فنادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكة، النجاء النجاء على كل صعب وذلول، عيركم أموالكم أن أصابها محمد ؛ لم تفلحوا بعدها أبدا، فخرج أبو جهل يجمع أهل مكة، فقيل له : إن العير أخذت طريق الساحل ونجت فارجع بالناس إلى مكة فقال : واللات والعزّى لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجزر ونشرب الخمر ونقيم القينات والمعازف ببدر، فيتسامع جميع العرب بخروجنا، وإن محمدا لم يصب العير، وإنا قد أخفناه فمضى بهم إلى بدر، وهي قرية في الطريق بين مكة والمدينة على مقربة من المدينة، فنزل جبريل عليه السلام وقال : يا محمد ؛ إن الله وعدكم إحدى الطائفتين إما العير، وإما النفير – أي مشركي مكة – فاستشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فقال : ما تقولون ؟ إن القوم قد خرجوا من مكة، فالعير أحب إليكم أم النفير... ؟ فقالوا : بل العير أحب إلينا من لقاء العدو، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم رد عليه فقال : " إن العير قد مضت على ساحل البحر، وهذا نفير قريش قد أقبل "، فقالوا يا رسول الله، عليك بالعير ودع العدو، فقام أبو بكر فقال وأحسن، وتكلم عمر فقال وأحسن، ثم قام المقدار ابن عمرو رضي الله عنه فقال : يا رسول الله، امض لما أمرك الله فإنا معك حيثما أحببت، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى عليه السلام : اذهب أنت وربك فقاتلا أنا ها هنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون... فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد ؛ لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له. ثم قال : " أشيروا علي أيها الناس " viii – وهو يريد الأنصار – فقام سعد بن معاذ فقال : لكأنك تريدنا يا رسول الله. قال : أجل، قال : آمنا بك، وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة.
فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وأن لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله، ففرح رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسره قول سعد ابن معاذ ثم قال : " سيروا، وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم " ثم دارت رحى المعركة وانتصر المؤمنون، وهزم المشركون.
﴿ كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن فريقا من المؤمنين لكارهون ﴾.
هنا تشبيه بين حالين، حال المسلمين في مواجهة العدو، بعد أن دارت رءوسهم واضطربت قلوبهم، وحالهم في الغنائم بعد أن اختلفت آراؤهم فيها، واضطربت مشاعرهم حيالها، وانظر كيف أمسكت كلمات الله بكل خالج كانت تختلج في نفوس القوم هنا وهناك في مواجهو العدو، ثم في مواجهة الغنائم.
قال المبرد في معنى الآية :
الأنفال ثابتة لله ورسوله وإن كرهوا، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا.
وقال غيره : امض لحكم ربك في الغنائم وإن كرهوا، كما مضيت لأمر ربك في الخروج من البيت لطلب العير وأن كرهوا.
وذكر د. محمد سيد طنطاوي : أن معنى الآية :
حال بعض أهل بدر في كراهتهم تقسيمك الغنائم بالسوية، مثل حال بعضهم في كراهة الخروج للقتال مع ما في هذه القسمة والقتال من خير، وبركة.
والملاحظ أن الله تعالى أضاف خروج النبي من بيته إليه سبحانه أي : أن الخروج إلى بدر كان بأمر الله وتوجيهه، حتى يخرج المسلمون خفافا للقاء العير، ثم تفلت العير، ويقف المسلمون وجها لوجه أمام النفير، وهو حرب المشركين، وقد كانوا يكرهون ذلك في أول الأمر ؛ لأنهم خرجوا للعير، وأراد الله أن تفلت العير، حتى تتم المواجهة ويتم الاستعداد للحرب، ويتم إخلاص النية، والامتثال لأمر الله.
وتلحظ أن الخروج بالحق أي : أخرجك الله إخراجا متلبسا بالحق، الذي لا يحوم حوله باطل، والبيت الذي خرج منه النبي صلى الله عليه وسلم هو بيته في المدينة، أو هي المدينة كلها، فقد تحولت من يثرب إلى مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، بعد أن نظمها وخططها وأتم إعمارها، وأشاع فها الأمن والنظام وصارت المدينة دار الإسلام فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الإسلام ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها " ix.
قال الشوكاني :
يذكر الله في هذه الآية وما بعدها : أن الفضل في النصر في غزوة بدر إنما هو لله تعالى، ولذا فالغنائم له ولرسوله، ومن ذلك أنه أخرجهم من المدينة لحرب المشركين، وأكثرهم كارهون، وصرفهم إلى قتال جيش الكفار وكان أكثرهم لا يريدون، وأمدهم بالملائكة إلى غير ذلك مما توضحه السورة.
وقال الآلوسي : وقوله : و﴿ إن فريقا من المؤمنين لكارهون ﴾. أي : للخروج، إما لعدم الاستعداد، أو الميل للغنيمة، أو للنفرة الطبيعية عنه، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار، فلا يرد أنه لا يليق بمصب الصحابة، والجملة في موضع الحال، وهي حال مقدرة ؛ لأن الكراهة وقعت بعد الخروج...
يجادلونك : يراجعونك.
في الحق : المراد بالحق هنا : القتال وسيأتي بيانه.
التفسير :
٦ – ﴿ يجادلونك في الحق بعدما تبين كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ﴾.
المعنى : يراجعونك في الحق – وهو لقاء النفير – أي : جيش العدو – ويؤثرون عليه لقاء العير للاستيلاء على تجارتهم بعد ما تبين. من بعدما أخبرتهم أن النصر سيكون حليفهم، فقد وعدهم الله إحدى الحسنيين :
العير أو النفير، وقد فرت العير فلم يبق إلا النفير، لكن نفوس بعض الصحابة كانت قد تعلقت بالاستيلاء على العير وفضلت ذلك على القتال، فلما فرض القتال، وصار هو الخيار الوحيد، كرهوا القتال كراهة من يساق إلى الموت سوقا لا مهرب منه، وهو ناظر إليه بعينه ومشاهد لأسبابه.
وفي قوله تعالى :﴿ كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون ﴾.
تصوير معجز، لما استولى على هذا الفريق من خوف وفزع من القتال بسبب قلة عددهم وعددهم، وفيه بيان لفضل الله على هذه الفئة المؤمنة، كيف منّ الله عليها بالإيمان ؟ ودربها على الشجاعة والتضحية والفداء، فانتصرت عليها نفسها، وتخلصت من الخوف وكراهية القتال، ثم صارت بعد ذلك تحارب أضعافها من الكفار، وتنتصر عليهم بفضل الله تعالى :﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾.
ويقول الله سبحانه وتعالى ممتنّا على عباده المؤمنين.
﴿ واذكروا إذا أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم وأيّدكم بنصره ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون ﴾. ( الأنفال : ٢٦ ).
إحدى الطائفتين : العير أو النفير.
غير ذات الشوكة : الشوكة : الشدة والقوة ويقال : السلاح، غير ذات الشوكة : العير التي ليس فيها قتال.
يحق الحق : يظهره ويعلنه.
بكلماته : بأمره لكم بالقتال أو بوعده لكم بإظهار الدين وإعزازه.
التفسير :
٧ – ﴿ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ﴾.
هذا كلام مستأنف مسوق لبيان جميل صنع الله بالمؤمنين مع ما هم فيه من الجزع وقلة الحزم.
جاء في تفسير أبي السعود :
﴿ أنها لكم ﴾.
بدل اشتمال من إحدى الطائفتين مبين لكيفية الوعد أي : يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم مختصمة بكم مسخرة لكم تتسلطون عليها تسلط الملاك وتتصرفون فيها كيف شئتم. ا. ه.
والطائفتان : هما العير أو النفير، أي : طائفة أبي سفيان ومعها التجارة ولم يكن فيه إلا أربعون فارسا ورأسهم أبو سفيان، وطائفة النفير والحرب ورئيسها أبو جهل، وهم ألف مقاتل والمراد بذات الشوكة : النفير، والشوكة في الأصل : واحدة الشوك وهو النبات الذي له حدثم استعيرت للشدة والحدة، ومنه قولهم : رجل شائك السلاح أي : شديد قوي.
والمعنى : واذكروه – أيها المؤمنون – وقت أن وعدكم الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم بأن إحدى الطائفتين لكم وهم العير أو النفير، وأنتم مع ذلك تودون أن تظفروا بالطائفة التي ليس معها سلاح وهي العير :﴿ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ﴾. يريد الله أن يستدرجكم إلى القتال وفيه العزة والكرامة لكم، وفي هذا القتال يظهر الله الحق، ويعليه بآياته المنزلة على رسوله تبشر بالنصر، وبإنزال الملائكة، وبقضائه الذي لا يتخلف بمعونة المؤمنين وهزيمة المشركين، وقطع دابرهم.
والدابر : التابع من الخلف، يقال دبر فلان القوم يدبرهم دبورا، إذا كان آخرهم في المجيء، والمراد ؛ أنه سبحانه يريد أن يستأصلهم عن آخرهم.
قال أبو السعود :
والمعنى : أنتم تريدون سفاسف الأمور والله يريد معاليها، وما يرجع إلى علو الكلمة وسمو رتبة الدين وشتان بين المرادين.
وقال الزمخشري في تفسير الكشاف :
﴿ ويريد الله أن يحق الحق بكلماته.... ﴾
يعنى أنكم تريدون العاجلة وسفاسف الأمور، وأن لا تلقوا ما يرزؤكم في أبدانكم وأموالكم، والله عز وجل يريد معالي الأمور، وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق، وعلو الكلمة والفوز في الدارين، وشتان ما بين المرادين، ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، وكسر قوتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم، وأعزكم وأذلهم...
ليحق الحق : ليظهر الإسلام.
ويبطل الباطل : المراد بإبطال الباطل : أن لا يجعل له شوكة.
التفسير :
٨ – ﴿ ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ﴾.
قال الشوكاني : ليثبت الإسلام ويعلي بنيانه، ويمحق الشرك حتى يبطل وينتهي. ﴿ ولو كره المجرمون ﴾. هم المشركون من قريش أو جميع طوائف الكفار ؛ لأن كراهيتهم لا وزن لها ولا تعويل عليها.
وليس في الآية تكرار، فالحق الأول هو القتال لطائفة النفير مع ضمان النصر، والحق الثاني هو الإسلام فالآية السابقة تمهيد ووسيلة لهذه الآية.
المفردات :
تستغيثون : تطلبون الغوث والنصر على عدوكم، والغوث : التخليص من الشدة.
فاستجاب : فأجاب دعاءكم.
مردفين : متبعين بعضهم بعضا، مأخوذ من أردفه إذا أركبه وراءه.
التفسير :
٩ – ﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾.
أي : اذكروا وقت استغاثتكم لربكم، حين رأيتم أنه لا بد من قتال النفير.
قال أبو مسعود في تفسيره :
وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال، جعلوا يدعون الله تعالى قائلين : أي رب، انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا ؛ وعن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نظر إلى المشركين وهم ألف، وإلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر، فاستقبل القبلة ومد يديه يدعو : " اللهم، انجز لي ما وعدتني، اللهم، إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض ". فما زال كذلك حتى سقط رداؤه، فأخذ أبو بكر رضي الله عنه فألقاه على منكبيه والتزمه من ورائه، وقال : يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدكx.
إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين..
اذكروا أيها المؤمنون – وقت أن كنتم – وأنتم على أبواب بدر تستغيثون ربكم وتطلبون منه الغوث والنصر على عدوكم، الذي جاء بخيله ورجله، فأجاب الله دعائكم واستغاثتكم، وأخبر نبيكم – صلى الله عليه وسلم – بأني ممدكم بألف من الملائكة، مردفين أي : متتابعين، بعضهم إثر بعض، أو إن الله تعالى جعلهم خلف المسلمين لتقويتهم وتثبيتهم.
وقد وردت استغاثة الرسول صلى الله عليه وسلم بالله يوم بدر في صحيح البخاري ومسلم وفي كتب السنن والسير.
جاء في تفسير المنار عن ابن اسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلانها وفخرها، تجادل وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني ".
كما روى سعيد بن منصور من طريق عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال : لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وتكاثرهم، وإلى المسلمين فاستقلهم فركع ركعتين وقام أبو بكر عن يمينه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في صلاته : " اللهم لا تودّع مني، اللهم لا تخذلني، اللهم لا تترني – أي : لا تقطعني عن أهلي وأنصاري، أو لا تنقصني شيئا من عطائك – اللهم أنشدك ما وعدتني " xi.
سؤال وجواب
إن قيل : أن هذه النصوص يؤخذ منها أن هذه الاستغاثة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلماذا أسندها القرآن إلى المؤمنين ؟ فالجواب : أن المؤمنين كانوا يؤمنون على دعائه صلى الله عليه وسلم، ويتأسون به في الدعاء فنسبت الاستغاثة إلى الجميع.
وإن قيل : إن الله تعالى ذكر هنا أنه أمدهم بألف من الملائكة وذكر في سورة آل عمران أنه أمدهم بأكثر من ذلك فكيف الجمع بينهما ؟
أجيب بالآتي :
١ – جاء في تفسير أبي السعود :
وقرئ بآلاف ليوافق ما في سورة آل عمران، ووجه التوفيق بينه وبين المشهور : أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة أو وجوههم وأعيانهم، أو من قاتل منهم، واختلف في مقاتلتهم وقد روى أخبار تدل على وقوعهاxii.
٢ – جاء في سورة آل عمران في الآيات ١٢٣ – ١٢٥.
أن الله أمد المؤمنين بثلاث آلاف ثم صار المدد بخمسة آلاف من الملائكة.
قال تعالى :﴿ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون * إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى أن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين ﴾.
و لا منافاة بين ما ورد في سورة الأنفال وما ورد في سورة آل عمران، فقد كان المدد أولا بألف مردفين، أي : يتبعهم ويردفهم ملائكة آخرون.
وقد بينت سورة آل عمران أن العدد كان بثلاثة آلاف، ثم رفع إلى خمسة آلاف.
وذهب بعض المفسرين إلى أن المدد المذكور في سورة آل عمران كان متعلقا بغزوة أحد، فلا إشكال بين ما ورد في السورتين.
قال الحافظ ابن كثر في التفسير : " واختلف المفسرون في هذا الموعد : هل كان يوم بدر أو يوم أحد على قولين :"
أحدهما : أن قوله تعالى :﴿ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ﴾. متعلق بقوله :﴿ ولقد نصركم الله ببدر ﴾. ( آل عمران : ١٢٣ ).
وهذا قول الحسن والشعبي والربيع بن أنس وغيرهم.
فإن قيل فكيف الجمع بين هذه الآيات- التي في سورة آل عمران، وبين قوله في سورة الأنفال :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾
فالجواب أن التنصيص على الألف هنا، لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله تعالى :﴿ مردفين ﴾ بمعنى : يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم، قال الربيع بن أنس، أمد الله المسلمين بألف ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف.
والقول الثاني : يرى أصحابه أن هذا الوعد وهو قوله تعالى :﴿ إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة ﴾. متعلق بقوله – قبل ذلك :﴿ وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ﴾. ( آل عمران : ١٢١ ).
وذلك يوم أحد وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك وغيرهم.
لكن قالوا : لم يتم الإمداد بالخمسة الآلاف ؛ لأن المسلمين يومئذ فروا، وزاد عكرمة : ولا بالثلاثة الآلاف، لقوله :﴿ بلى أن تصبروا وتتقوا ﴾ فلم يصبروا بل فروا فلم يمدوا بملك واحد.
ولتطمئن : ولتسكن.
عزيز : لا يغالب في حكمه.
حكيم : يفعل ما تقتضيه الحكمة.
التفسير :
١٠ ﴿ – وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم... ﴾ الآية.
أي : وما جعل الله إمدادكم بالملائكة عيانا لأمر من الأمور إلا ليبشركم بأنكم منتصرون ولتطمئن به قلوبكم وتسكن به نفوسكم، ويزول خوفكم واضطرابكم ؛ فتثبتوا ويتم لكم النصر.
وفي قصر الإمداد بالملائكة على البشرى والطمأنينة، إشعار بعدم مباشرة الملائكة للقتال، وأن الغرض منه هو تقوية قلوب المؤمنين المقاتلين، وتكثير عددهم أمام المشركين كما هو رأى بعض السلفxiii.
﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾.
أي : ليس النصر بالملائكة أو غيرهم إلا كائن من عند الله وحده ؛ لأنه سبحانه هو الخالق لكل شيء والقادر على كل شيء، وأن الوسائل مهما عظمت، والأسباب مهما كثرت، لا تؤدى إلى النتيجة المطلوبة والغاية المرجوة إلا إذا أيدتها إرادة الله وقدرته ورعايته.
﴿ إن الله عزيز حكيم ﴾ : أي : غالب لا يقهره شيء، ولا ينازعه منازع حكمي يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة والمصلحة.
والجملة تعليل لما قبلها متضمن للإشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات الحكم البالغةxiv.
المفردات :
يعشيكم النعاس : أي : يغطيكم الله ويشملكم بالنعاس، والنعاس : فتور في الحواس وأعصاب الرأس، ويعقبه النوم، يضعف الإدراك ولا يزيله.
أمنة منه : أي : أمنا من الله وطمأنينة.
رجز الشيطان : أي : وسوسته وتخويفهم لهم.
وليربط على قلوبكم : الربط : الشد، ويقال لكل من صبر على أم ربط على قلبه.
التفسير :
﴿ ١١ - إذ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ... ﴾ الآية.
يمن الله تعالى على المؤمنين في هذه الغزوة بطائفة من النعم، منها ما سبق إمدادهم بالملائكة للبشرى بالنصر، وهنا ذكر منه أخرى، وهي إرسال النعاس عليهم ليلة المعركة ؛ حتى تهدأ نفوسهم، وتستريح أبدانهم، وقد كانوا في حالة قلة من العدة والعدد أمام عدو كثير العدة والعدد، ومن شأن هذه الحالة أن تذهب النعاس وأن تترك الإنسان يضرب أخماسا في أسداس فيحارب ليلة في غير حرب، ثم يصبح عند لقاء العدو ضعيف القوة واهن البدن، فكان من نعمة الله عليهم إرسال النعاس والنوم عليهم ليلة المعركة.
عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد بن الأسود، ولقد رأيناه وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة حتى أصبح.
وفي تفسير ابن كثير : وجاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق وهما يدعوان، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم، ثم استيقظ مبتسما، فقال : أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع ! ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قول الله تعالى :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾.
ومن المفسرين من ذهب إلى أن الله امتن عليهم بأن غشيهم النعاس بالليل، أي : في ليلة المعركة ؛ حتى يستريحوا وتهدأ النفوس، ويذهب عنهم القلق والاضطراب، واستبعد أن ينزل النعاس عليهم أثناء المعركة ؛ لأنه معطل لهم.
ذهب إلى ذلك الفخر الرازي في تفسيره الكبير فقال :
١ – إن الخائف إذا خاف من عدوه ؛ فإنه لا يأخذه النوم، وإذا نام الخائفون ؛ أمنوا، فصار حصول النوم لهم في وقت الخوف الشديد نعمة من الله.
٢ – إنهم ناموا نوما غير مستغرق بل كان نعاسا يذهب الإعياء والكلال، ولو قصدهم العدو في هذه الحالة لعرفوا وصوله، ولقدروا على دفعه.
٣ – إنه غشيهم هذا النعاس دفعة واحدة مع كثرتهم، وحصول النعاس للجمع العظيم في الخوف الشديد أمر خارق للعادة، فلهذا السبب قيل : أن ذلك النعاس كان في حكم المعجز.
وقال الإمام محمد عبده : لقد قضت سنة الله في الخلق، بأن من يتوقع في صبيحة ليلته هولا كبيرا ومصابا عظيما ؛ فإنه يتجافى جنبه عن مضجعه، فيصبح خاملا ضعيفا، وقد كان المسلمون يوم بدر يتوقعون مثل ذلك، إذ بلغهم أن جيشا يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غذا، فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد... ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس، غشيهم فناموا واثقين بالله، مطمئنين لوعده، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه فالنعاس لم يكن يوم بدر في وقت الحرب بل قبلها....
والأستاذ عبد الكريم الخطيب : يرى أن النعاس الذي غشى المسلمين إنما كان ليلة الحرب، لا في ميدان القتال، كما يرى بعض المفسرين... لأن وقوع النوم والمعركة دائرة، من عوامل الخذلان لا من عدة النصر.
كما جاء في التفسير الوسيط بإشراف مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر :
إن النعاس كان في الليلة السابقة على القتال، وإذا تأملنا في الموضوع وجدنا أنه ليس هناك ما يمنع أن يكون النعاس قد أصاب المقاتلين ليلة المعركة، وأن يكون النعاس قد أصاب النبي صلى الله عليه وسلم صبيحة المعركة، كما أصاب بعض المسلمين على أنه استراحة يسيرة، أو إغفاءة محدودة، تهدأ فيها الأعصاب، وتسكن النفس، ويستجمع الجسم ثباته وقوته.
خصوصا أنه قد ورد في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد أخذته سنة من النوم صبيحة المعركة، إننا نقيس الأمور بمقياس نظام الدنيا، أما إذا كان الأمر بمقياس فضل الله ومنته، فإنه يمكن أن يصيب النعاس الجيش في صبيحة المعركة خلال ربع ساعة، أو أقل أو أكثر، يوقتها العليم الخبير، في وقت لا يضر باستعدادات الجيش، ولا بعلمه أثناء القتال.
ويذكر الأستاذ سيد قطب : أن الإنسان أحيانا يكون مرهقا متعبا ثم يغفى إغفاءة يسيرة، يقوم بعدها في غاية القوة والنشاط.
وقد مر بنا ما رواه ابن كثير من أنه جاء في الصحيح : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق وهما يدعوان، أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم، ثم استيقظ مبتسما، فقال : أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل على ثناياه النقع ! ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قول الله تعالى :
﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾. xv( القمر : ٤٥ ).
إن المعجزة : أمر خارق للعادة يظهره الله على يد مدعى الرسالة ؛ تصديقا له في دعواه.
والمعونة : توفيق ونجاح يصيب بعض الصالحين في أعمالهم، وقد كان النعاس معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم ومعونة للمؤمنين، سواء أكان ذلك في الليل أم في النهار قبيل المعركة، خاصة بعد أن امتن الله به عليهم وقال : إذ يغشيكم النعاس أمنة منه.
﴿ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان... ﴾
تحكي الآية جوانب متعددة من فضل الله على المؤمنين في معركة بدر.
فقد أرسل الله عليهم النوم ليلة المعركة، وأصبح بعضهم جنبا نتيجة الاحتلام في النوم، وجاء الشيطان يوسوس لهم ويثبط همتهم، فالماء شحيح قليل، صحيح أنه يمكن الاستغناء عن الاغتسال والوضوء بالتيمم، إلا أن المؤمن كما يقول الإمام فخر الدين الرازي : " يكاد يستقذر نفسه إذا كان جنبا، ويغتم إذا لم يتمكن من الاغتسال، ويضطرب قلبه لأجل هذا السبب... ".
وكان جيش المسلمين قد نزل بعدوة الوادي القريبة من المدينة بعيدا عن الماء في أرض رملية وسبخة، أما المشركون فقد نزلوا على ماء بدر بالعدوة القصوى في أرض جلدة.
فأصبح المسلمون لا يجدون الماء ليشربوا ويغتسلوا ويتوضئوا، فكان هذا موقف مزرعة لأحاديث الشيطان النفسية، ووسوسته للمؤمنين، وتخويفه إياهم من العطش وغيره عند فقدهم الماء، فأدرك الله المؤمنين بلطفه، وأنزل عليهم من السماء مطرا سال به الوادي، فشربوا واتخذوا الحياض على عدوة الوادي الدنيا، واغتسلوا وتوضئوا وملئوا الأسقية، وتلبدت الأرض السبخة وثبتت عليها الأقدام، على حين كان المطر كارثة على المشركين، فقد تحولت الجلدة إلى أوحال لا يقدرون معها على الحركة في القتال.
لقد كان الماء طهارة حسية من الحدث الأصغر والأكبر، وطهارة نفسية رفعت روحهم المعنوية، وجعلتهم في حالة من الصفاء والرغبة في التضحية والموت في سبيل الله، وبهذا ذهب عنهم رجز الشيطان أي : وسوسته وأصل الرجز : الاضطراب، يقال : ناقة رجزاء ؛ إذا تقارب خطوها واضطرب ؛ لضعفها ومن في قلبه رجز الشيطان ووسوسته، ضعيف العزيمة ؛ لأن همته خائرة مترددة بين الإقدام والإحجام.
قال تعالى :﴿ إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ﴾. ( الأعراف : ٢٠١ ).
﴿ وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام ﴾.
أي : ويقوى قلوبكم بالثقة في نصر الله، وليوطنها على الصبر والطمأنينة.
وأصل الربط : الشد، ويقال لكل من صبر على أمر : ربط قلبه عليه، أي : حبس قلبه عن أن يضطرب أو يتزعزع، ومنه قولهم : رجل رابط الجأش، أي : ثابت متمكن...
﴿ ويثبت به الأقدام ﴾. أي : أن الله أنزل عليهم المطر ليلة المعركة لتطهيرهم حسيا ومعنويا، ولتقويتهم وطمأنتهم، ولتثبيت الأقدام به حتى لا تسوخ في الرمال.
ومن جهة أخرى فإن طهارتهم الحسية والمعنوية، وذهاب رجز الشيطان ووسوسته، وقوة اليقين في القلب ورباطة الجأش، من شأنها أن تثبت قدم المقاتل في مواطن القتال.
أي : أنه كان هناك تثبيت للأقدام حسيا بماء المطر حين يختلط بذرات التراب، فلما أمسك المطر وسطعت الشمس ؛ جفت الأرض، وصار على وجهها طبقة صلبة، أشبه بالطين اللازب، فثبتت عليه أقدامهم، وكان هناك يقين القلب وطمأنينة النفس، التي تؤدي بدورها إلى ثبات القدم، بحيث يصبح المقاتل واثقا بنفسه ؛ لأنه يؤدى دورا في مرضاة الله وتوفيقه.
من كتب التفسير :
١ – جاء في تفسير ابن جرير الطبري : عن ابن عباس قال :
" نزل النبي صلى الله عليه وسلم حين سار إلى بدر، والمسلمون بينهم وبين الماء رملة دعصة – أي : كثيرة مجتمعة – فأصاب المسلمين ضعف شديد، وألقى الشيطان في قلوبهم الغيظ، فوسوس بينهم : تزعمون أنكم أولياء الله وفيكم رسوله، وقد غلبكم المشركون على الماء، وأنتم تصلون مجنبين. فأمطر الله عليهم مطرا شديدا، فشرب المسلمون وتطهروا، وأذهب الله عنهم رجز الشيطان، وثبت الرمل حين أصابه المطر، ومشى الناس عليه والدواب، فساروا إلى القوم... xvi "
٢ – جاء في تفسير ابن كثير ما يأتي :
" عن عروة بن الزبير قال : بعث الله السماء وكان الوادي دهسا فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما لبد بهم الأرض، ولم يمنعهم من السير، وأصاب قريشا ما لم يقدروا على أن يرحلوا معه... " xvii
الرعب : الخوف والفزع :
كل بنان : أي : كل طرف من أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، وقيل : كل أصبع من الأصابع، وتطلق البنان أيضا : على كل طرف من أطراف الإنسان كاليد والرجل.
التفسير :
١٢ – ﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب... ﴾ الآية.
في هذه الآية تذكير الله تعالى المؤمنين بنعمة أخرى، هي نعمة الإمداد بالملائكة، تنزل إلى المعركة في صفوف المسلمين فتكثر سواد المسلمين، ويصبح الجيش في مظهره قوة عظيمة، تلقى الثبات والثقة واليقين بالنصر في قلوب المؤمنين، وفي نفس الوقت فإن الملاك يقوم بإلقاء الخير والإلهام والثبات واليقين في قلب المؤمن.
وقد تكفل الله تعالى بإلقاء الرعب والخوف في نفوس المشركين، ووجه الحق سبحانه المسلمين بأن يضربوا المشركين، فوق الرقاب أي : في أعلى الرقبة، مكان الذبح، أو على الأطراف والأصابع وبذلك تتعطل أيديهم عن القتال.
قال والآلوسي في تفسير الآية :
والمراد بالتثبيت : الحمل على الثبات في موطن الحرب، والجد في مقاساة شدائد القتال، كان الملاك يأتي المؤمن في صورة رجل يعرفه ويقول له : أبشر ؛ فالله سينصر المؤمنين، فقد أخرج البيهقي في دلائل النبوة : أن الملك كان يأتي في صورة الرجل يعرفه، فيقول له : أبشروا فإنهم ليسوا بشيء، والله معكم، كروا عليهم.
وقال الزجاج : كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم، ويتأكد جدهم، وللملك قوة إلقاء الخير في القلب، ويقال له : إلهام، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال له : وسوسة. xviii
﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾.
أي : سألقي بالخوف والجزع والهلع في نفوس المشركين، فلا يستطيعون الثبات في القتال، والرعب انزعاج النفس، وخوفها من توقع مكروه.
﴿ فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ﴾. الخطاب في هذه الفقرة للمؤمنين وقيل : للملائكة.
قال الزمخشري : والمراد بما فوق الأعناق : أعالي الأعناق التي هي المذابح ؛ لأنها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها جزا وتطييرا للرءوس، والمراد بالبنان : الأصابع أو مطلق الأطراف، كالأيدي والأرجل فكل ذلك يطلق عليه بنان، حقيقة أو مجازا.
فكأنه تعالى يقول للمؤمنين : سألقي في قلوب الذين كفروا الفزع والخوف منكم ؛ لتتمكنوا من إصابتهم، فاضربوهم فوق الأعناق، أي : في رءوسهم ورقابهم، واضربوا منهم كل بنان، أي : اضربوا أصابعهم وأطراف أبدانهم كالأيدي والأرجل.
في أعقاب الآية :
هناك روايات في كتب التفسير تفيد أن الملائكة باشرت القتال في معركة بدر، وقتلت أعدادا من المشركين، نجد هذا في معالم التنزيل للبغوي، كما نجده في تفسير الخازن والكشاف، والفخر الرازي.
وجاء في تفسير أبي السعود ما يأتي : روى عن أبي داود المازني رضي الله عنه – وكان ممن شهد بدرا – أنه قال : اتبعت رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، فوقعت رأسه بين يدي، قبل أن يصل إليه سيفي.
وعن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال :
لقد رأيتنا يوم بدر وإن أحدنا يشير بسيفه إلى المشرك، فتقع رأسه عن جسده، قبل أن يصل إليه السيف.
وذهب عدد من المفسرين إلى استبعاد أن تكون الملائكة قد باشرت القتال بنفسها، وإنما كان عمل الملائكة قاصرا على تثبيت المؤمنين، واستدلوا على ذلك بأن الملك الواحد كفيل بإهلاك قريش، لو كان يقاتل المشركين مع المؤمنين، فحيث كان المثبتون من الملائكة ألفا أو أكثر، فلا بد أن تثبيتهم معنوي لا قتالي.
أما الروايات الواردة التي تفيد أن الملائكة قد باشرت القتال، فإن المتأمل فيها يجدها بلا أسانيد صحيحة، فلا يمكن التعويل عليهاxix.
وقد أنكر أبو بكر الأصم قتال الملائكة ثم قال : " إن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض، كما فعل جبريل بمدائن قوم لوط، فإذا حضر هو يوم بدر فأي حاجة إلى مقاتلة الناس مع الكفار ؟ "
بل أي حاجة إلى إرسال سائر الملائكة ؟ وأيضا فإن الكفار كانوا مشهودين، وقاتل كل منهم من الصحابة معلوم... " إلخxx.
وإذا تأملنا آيات القرآن الكريم، وجدنا أنها تفيد أن الله تعالى أمد المؤمنين بالملائكة، ونحن نؤمن بهذا، ونكتفي بأن الملائكة ساعدت المؤمنين نوعا من المساعدة سواء أكان ذلك بالقتال أم بتثبيت القلوب وإلقاء الحماس والشجاعة ورفع الروح المعنوية، وهي أمور لا تقل أهمية عن القتال المباشر فقد ثبت في الحروب الحديثة أن للروح المعنوية أبلغ الأثر في إحراز النصر.
شاقوا الله ورسوله : المشاقة : المعاداة والمخالفة.
التفسير :
١٣ – ﴿ ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ﴾.
أي : ذلك القتل والهزيمة للمشركين بسبب أنهم خاصموا الله ورسوله وعادوهما، فكان كل منهما في شق غير الشق الذي في الآخر.
" كما أن اشتقاق المعاداة والمخاصمة من العدوة والخصم أي : الجانب لأن كلا من المتعادين والمتخاصمين في عدوة وخصم غير عدوة الآخر وخصمه ".
﴿ ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ﴾.
أي : ومن يخالف أمر الله ورسوله فهو يعاقبه، فلا أجدر بالعقاب من المشاقين المشركين، الذين يؤثرون الشرك وعبادة الطاغوت، على توحيده تعالى وعادته.
أي : ذلكم الذي نزل بكم أيها الكافرون، من الأسر والقتل، هو العقاب لكم بسبب طغيانكم وشرككم، فذوقوا آلامه وتجرعوا غصصه في الدنيا.
أما في الآخرة فلكم عذاب النار، الذي هو أشد وأبقى من عذاب الدنيا، إن أصررتم على كفركم.
فالآية توضح للكافرين : أن ما أصابهم عاجلا كان بسبب كفرهم وعنادهم، ثم هي تحذرهم من الاستمرار على الكفر ؛ فإن هناك عذابا آجلا ينتظر الكافرين.
المفردات :
الزحف : من زحف إذا مشى على بطنه كالحية، أو دب على مقعده كالصبي أو على ركبتيه أو مشى بثقل في الحركة واتصال وتقارب في الخطو كزحف صغار الجراد والعسكر المتوجه إلى العدو ؛ لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف، إذ الكل يرى كجسم واحد متصل فتحس حركته بطيئة وإن كانت في الواقع سريعة.
الأدبار : واحدها : دبر وهو الخلف ومقابله القبل ومن ثم يكنى بهما عن السوأتين، وتولية الدبر والأدبار يراد بهما : الهزيمة : لأن المنهزم يجعل خصمه متوجها إلى دبره ومؤخره.
تمهيد :
ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب في مستأنف الزمان وجاء به في أثناء قصة بدر ؛ عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
التفسير :
١٥ – ﴿ يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زحفاْ... ﴾
أي : يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين لقتالكم زحفا، إذ الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فقابلوهم ببدر.
﴿ فلا تولوهم الأدبار ﴾.
أي : فلا تولوهم ظهوركم واقفين منهزمين منهم وإن كانوا أكثر منكم عدد وعدة لكن اثبتوا لهم ؛ فإن الله معكم عليهم.
ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب في مستأنف الزمان وجاء به في أثناء قصة بدر ؛ عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
المفردات
المنحرف لقتال وغيره : هو المنحرف على جانب إلى آخر، ومن الحرف وهو الطرف.
الفئة : الطائفة من الناس.
المأوى : الملجأ الذي يأوي إليه الإنسان.
١٦ – ﴿ وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.
أي : ومن يولهم حين تلقونهم ظهره إلا متحرفا لمكان رآه أحوج إلى القتال فيه أو لضرب من ضروبه رآه أنكى بالعدو، كان يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه باتباعه حتى إذا انفرد عن أنصاره كر عليه فقتله ؛ أو متنقلا إلى فئة من المؤمنين في جهة غير التي كان فيها ليشد أزرهم وينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم، فصاروا أحوج إليه ممن كان معهم – من فعل ذلك ؛ فقد رجع متلبسا بغضب عظيم من الله ومأواه الذي يلجأ إليه في الآخرة جهنم دار العقاب وبئس المصير.
ذلك أن المنهزم أراد أن يأوي إلى مكان يأمن فيه الهلاك، فعوقب بجعل عاقبة دار الهلاك والعذاب الدائم وجوزى بضد غرضه.
وفي الآية دلالة على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي، وجاء التصريح بذلك في صحيح الأحاديث ؛ فقد روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا : " اجتنبوا السبع الموبقات( المهلكات ) قالوا : يا رسول الله وما هن ؟ قال : الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات ".
وقد خصص بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين.
قال الشافعي : إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولوا، ولا يستوجبون السخط عندي من الله لو ولوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة. وروى عن ابن عباس قال : من فر من ثلاثة فلم يفر، ومن فر من اثنين فقد فر.
ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب في مستأنف الزمان وجاء به في أثناء قصة بدر ؛ عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
١٧ – ﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم.... ﴾
أي : يا أيها الذين آمنوا، لا توالوا الكفار ظهوركم أبدا ؛ فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر ثم بنصر الله تعالى، انظروا إلى ما أوتيتم من نصر عليهم على قلة عددكم وعدتكم وكثرتهم واستعدادهم، ولم يكن ذلك إلا بتأييد من الله تعالى لكم وربطه على قلوبكم وتثبيت أقدامكم، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي أفنى كثيرا منهم بقوتكم وعدتكم ولكن قتلهم بأيديكم، بما كان من تثبيت قلوبكم بمخالطة الملائكة وملابستها لأرواحكم، وبإلقائه الرعب في قلوبهم وهذا بعينه هو ما جاء في قوله تعالى :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخذهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ﴾. ( التوبة : ١٤ ).
ثم انتقل من خطاب المؤمنين الذين قتلوا أولئك الصناديد بسيوفهم إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قائدهم الأعظم فقال :
﴿ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى ﴾. أي : وما رميت أيها الرسول أحدا من المشركين في الوقت الذي رميت فيه القبضة من التراب بإلقائها في الهواء فأصبت وجوههم، ما فعلته لا يكون له من التأثير مثل ما حدث، ولكن الله رمى وجوههم كلهم بذلك التراب الذي ألقيته في الهواء على قلته أو بعد تكثيره بمحض قدرته.
فقد روى : " أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب وقال : شاهت الوجوه ثلاثا، فأعقبت رميته هزيمتهم " xxi.
وروى على بن أبي طلحة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال في استغاثته يوم بدر : " يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدا "، قال له جبريل : خذ قبضة من التراب فارم بها وجوههم، ففعل فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه من تراب تلك القبضة فولوا مدبرينxxii.
﴿ وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا ﴾. أي : فعل الله ما ذكر لإقامته حجته وتأييد رسوله، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا بالنصر والغنيمة وحسن السمعة.
﴿ إن الله سميع عليم ﴾. أي : إنه تعالى ﴿ سميع ﴾ لما كان من استغاثة الرسول والمؤمنين ربهم ودعائهم إياه وحده ولكل نداء وكلام، ﴿ عليم ﴾ بنياتهم الباعثة عليه والعواقب التي تترتب عليه.
ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب في مستأنف الزمان وجاء به في أثناء قصة بدر ؛ عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
المفردات
الموهن : المضعف من أوهنه إذا أضعفه.
الكيد : التدبير الذي يقصد به غير ظاهره فتسوء عاقبة من يقصد به.
١٨ – ﴿ ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ﴾.
أي : ذلكم البلاء الحسن هو الذي سمعتهم – إلى أنه تعالى مضعف كيد الكافرين، ومكرهم بالنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، ومحاولتهم القضاء على دعوة التوحيد والإصلاح، قبل أن يقوى أمرها ويشتد.
وبعد أن ذكر خذلانهم وإضعاف كيدهم، انتقل منه إلى توبيخهم على استنصارهم إياه على رسوله صلى الله عليه وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم، أينا كان أقطع للرحم، وآتى بمالا يعرف فأحنه الغداة، فكان ذلك منه استفتاحا،
ذكر سبحانه وتعالى في هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب في مستأنف الزمان وجاء به في أثناء قصة بدر ؛ عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
المفردات
الاستفتاح : طلب الفتح والفصل في الأمر كالنصر في الحرب.
وقال السدي : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله، وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبلتين، فأجابهم الله بقوله :
١٩ – ﴿ إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح... ﴾
أي : أن تستنصروا لأعلى الجندين، وأهداهما، فقد جاءكم الفتح ونصر أعلاهما وأهداهما، وهذا من قبيل التهكم بهم ؛ لأنه قد جاءهم الهلاك والذلة.
﴿ وإن تنتهوا فهو خير لكم ﴾. أي : وإن تنتهوا عن عداوة النبي صلى الله عليه وسلم وقتاله، فالانتهاء خير لكم ؛ لأنكم قد ذقتم من الحرب ما ذقتم من قتل وأسر بسبب ذلك العدوان.
﴿ وإن تعودوا نعد ﴾. أي : وإن تعودوا إلى حربه وقتاله نعد إلى مثل ما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجئ الفتح الأعظم الذي به تدول الدولة للمؤمنين عليكم، وبه يذل شرككم وتذهب ريحكم.
﴿ ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ولو كثرت ﴾. أي : ولن يدفع عنكم رهطكم شيئا من بأس الله وشديد نقمته ولو كثرت عددا، إذ لا تكون الكثرة وسيلة النصر أمام القلة إلا إذا تساوت معها في أمور كثيرة كالصبر والثبات والثقة بالله تعالى، فهو الذي بيده النصر والقوة.
﴿ وأن الله مع المؤمنين ﴾. بمعونته وتوفيقه، فلا تضرهم قلتهم ولا كثرة عددكم، فهو يؤتى النصر من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين.
تمهيد :
بعد أن هدد الله المشركين بقوله :﴿ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ﴾. قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال في سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف في طريق تبليغ دعوته.
التفسير :
٢٠ –ّ ﴿ يَا أيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأنتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾
أي : أطيعوا الله ورسوله في الإجابة إلى الجهاد وترك المال إذا أمر الله بتركه، ولا تعرضوا عن طاعته، وعن قبول قوله، وعن معونته في الجهاد وأنتم تسمعون كلامه الداعي إلى وجوب طاعته وموالاته ونصره، ولا شك أن المراد بالسماع هنا : سماع الفهم والتصديق بما يسمع، كما هو شأن المؤمنين الذين من دأبهم أن يقولوا :﴿ سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ﴾( البقرة : ٢٨٥ ).
بعد أن هدد الله المشركين بقوله :﴿ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ﴾. قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال في سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف في طريق تبليغ دعوته.
٢١ – ﴿ وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ﴾.
وهؤلاء القائلون فريقا : فريق الكفار المعاندين، وفريق المنافقين الذين قال في بعض منهم :﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ﴾( محمد : ١٦ ).
بعد أن هدد الله المشركين بقوله :﴿ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ﴾. قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال في سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف في طريق تبليغ دعوته.
٢٢ – ﴿ إن شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾.
الدواب : واحدها : دابة، وهي كل ما دب على الأرض كما قال :﴿ والله خلق كل دابة من ماء ﴾. وقل أن يستعمل الإنسان بل الغالب أن يستعمل في الحشرات ودواب الركوب، فإذا استعمل فيه كان ذلك في موضع الاحتقار، أي : أن شر ما دب على الأرض في حكم الله وقضائه هم الصم الذين لا يصغون بأسماعهم ليعرفوا الحق ويعتبروا بالموعظة الحسنة، فهم بفقدهم لمنفعة السمع كانوا كأنهم فقدوا حاسته، والبكم الذين لا يقولون الحق، ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا النطق، الذين لا يعقلون الفرق بين الحق والباطل والخير والشر، إذ هم لو عقلوا لطلبوه واهتدوا إلى ما فيه المنفعة والفائدة لهم، كما قال :﴿ إن ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ﴾. ( ق : ٣٧ ).
والخلاصة : أنهم حين فقدوا منفعة السمع والنطق والعقل كانوا كأنهم فقدوا هذه المشاعر والقوى، بأن خلقوا خداجا ناقصي هذه المشاعر، أو طرأت عليهم آفات أذهبت هذه القوى بل هم شر منهم ؛ لأن هذه المشاعر خلقت لهم فأفسدوها، إذ لم يستعملوها فيما خلقت لأجله حين التكليف.
بعد أن هدد الله المشركين بقوله :﴿ وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئا ﴾. قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال في سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف في طريق تبليغ دعوته.
٢٣ – ﴿ وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ... ﴾
أي : ولو علم الله فيهم استعدادا للإيمان والهداية بنور النبوة، ولم يفسد قبس الفطرة سوء القدرة وفساد التربية ؛ لأسمعهم بتوفيقه الكتاب والحكمة سماع تدبر وتفهم، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم ممن ختم الله على قلوبهم وأحاطت بهم خطاياهم.
﴿ ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون ﴾.
أي : ولو أسمعهم – وقد علم أنه لا خير فيهم – لتولوا عن القبول والإذعان وهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به ؛ كراهة وعنادا للداعي إليه ولأهله، فقد فقدوا الاستعداد لقبول الحق والخير فقدا تاما لا فقدا عارضا موقوتا.
والخلاصة : أن للسماع درجات باعتبار ما يطالب الله به من الاهتداء بكتابه :
١ – أن يعتمد من يتلى عليه ألا يسمعه مبارزة له بالعدوان بادئ ذي بدء خوفا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم.
٢ – أن يستمع وهو لا ينوي أن يفهم ويتدبر كالمنافقين الذين قال الله فيهم :
﴿ ومنهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من عندك قالوا للذين أوتوا العلم ماذا قال آنفا ﴾.
٣ – أن يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض، كما كان يفعل المعاندون من المشركون وأهل الكتاب وقت التنزيل وفي كل حين إذا استمعوا إلى القرآن أو نظروا فيه.
٤ – أن يسمع ليفهم ويتدبر ثم يحكم له أو عليه، وهذا هو المنصف، وكم من السامعين أو القارئين آمن بعد أن نظر وتأمل، فقد نظر طبيب فرنسي في ترجمة القرآن فرأى أن كل النظريات الطبية التي فيه كالطهارة والاعتدال في المآكل والمشارب وعدم الإسراف فيهما ونحو ذلك من المسائل التي فيها محافظة على الصحة، توافق أحداث النظريات التي استقر عليها رأى الأطباء في هذا العصر، فرغب في هذا كله وأسلم، ورأى ربان بارجة انكليزية ترجمة للقرآن واستقصى كل ما فيها من الكلام عن البحار والرياح فظن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من كبار الملاحين في البحار، وبعد أن سأل عن ذلك وعرف أنه لم يركب البحر قط، وهو مع ذلك أمي لم يقرأ كتابا ولا تلقي عن أحد درسا قال : الآن علمت أنه كان يوحى من الله ؛ لأن حقائق لا يعلمها إلا من اختبر البحار بنفسه، أو تلقاها عن غيره من المختبرين، ثم أسلم وتعلم العربية.
وكثير من المسلمين يستمعون القراء ويتلون القرآن فلا يشعرون بأنهم في حاجة إلى فهمه وتدبر معناه، بل يستمعونه للتلذذ بتجويده وتوقيع التلاوة على قواعد النغم، أو يقصدون بسماعه التبرك فقط، ومنهم من يحضر الحفاظ عنده في ليالي رمضان، ويجلسهم في حجرة البوابين أو غيرهم من الخدم تشبها بالأكابر والوجهاء.
المفردات :
استجيبوا لله وللرسول : أجيبوه بكمال الطاعة.
إذا دعاكم لما يحييكم : إذا حثكم على الطاعة، والجهاد الذي فيه حياتكم وسعادتكم.
يحول بين المرء وقلبه : يميته فتفوته فرصة تمكن القلب من الإخلاص والطاعة.
وأنه إليه تحشرون : وأنه إليه تجمعون يوم القيامة، فيجازيكم على أعمالكم.
التفسير :
٢٤ :﴿ يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول... ﴾ الآية.
أيها المؤمنون، عليكم أن تجيبوا الله وتطيعوا رسوله، وتمتثلوا أمره، إذا حثكم على عمل طاعة، أو خروج للجهاد، أو اتباع لأحكام الدين ؛ لأن ذلك يحيي قلوبكم بالإيمان، ويوجهكم إلى الخير، ويكسبكم العزة والقوة، فتصير إليكم الغلبة والفوز، وتحيون حياة طيبة، واعملوا أن الله أقرب إلى المرء من قلبه الذي هو مناط الحياة والموت، ومنبع الأمن والخوف، وأنه وحده هو الذي يصرفه من حال إلى حال، وهو أملكم له من صاحبه، فيستطيع أن يكون حائلا بين المرء وقلبه، ويمكن فيه – على حسب مشيئته – الإيمان والطاعة، أو الكفر والمعصية، ويبدله من الخوف أمنا، أو من الأمن خوفا، وهو الذي يبعثكم يوم القيامة، وتجمعون إليه يوم الحساب ليجازي كل نفس بما كسبت.
واتقوا فتنة : واتقوا ذنبا يعم ضرره، كإقرار المنكرين أظهركم، أو تفريق وحدة الجماعة، أو ترويج الإشاعات الضارة.
لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة : لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم.
٢٥ – ﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة... ﴾
وقد أمركم الله أن تتقوا الفتنة، وتجتنبوا العمل الذي يعم ضرره، وينتشر خطره والفتنة من أشد الذنوب، وأخطر الجرائم ؛ لأن ضررها لا يقتصر على من أثاروها، ولا تصيب فريق الظالمين والآثمين خاصة، ولكنه يعم البرئ والمذنب والمصلح والمفسد ولهذا أعقب الله التحذير منها بتهديد أصحابها تهديدا مؤكدا بأشد العقاب، فقال :
﴿ واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ والمقصود بالفتنة في الآية : جميع الأعمال التي تصيب المجتمع بضرر أو خسارة أو توقع فيه شقاقا أو كارثة، أو تقر منكرا، أو تروج إشاعات ضارة أو أخبار كاذبة، توهن من قوته، وتضعضع من عزمه أو ثقته، وتبعث فيه الرعب الفزع، وينبغي أن يضرب على أيدي من يثيرون الفتنة، وأن يؤخذوا بأشد العقوبات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في تصوير الفتنة تعم، والضرر يصيب غير من يفعله ووجوب المبادرة بالقضاء عليهما " مثل القائم على حدود الله والواقع فيها( أي : مثل المطيع والعاصي ) كمثل قوم استهموا( أي : اقترعوا ) على سفينة فأصاب بعضهم أعلاما، وبعضهم أسفلها فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤد من فوقنا، فأن يتركوهم وما أرادوا هلكوا وهلكوا جميعا، وأن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا " xxiii.
واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض : واذكروا وقت أن كنتم قلة أذلة، مستضعفين في مكة، تستذلكم قريش.
تخافون أن يتخطفكم الناس : تخشون لهوانكم وذلتكم أن يتخطفكم من استضعفوكم من قريش فلا تملكون أن تدافعوا عن أنفسكم.
فآواكم : فجعل لكم المدينة مأوى تهاجرون إليه وتتحصنون فيه.
وأيدكم بنصره : وقواكم على الكفار بتأييد الأنصار، وإمداد الملائكة.
ورزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون : وأعطاكم طيبات الرزق من الغنائم لتشكروا الله على فضله.
٢٦ – ﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض... ﴾ الآية.
واذكروا أيها المؤمنون حالكم في مكة قبل الهجرة وقت أن كنتم عددا قليلا أذلة مستضعفين بالنسبة إلى قريش وقوتهم وبطشهم، تعيشون في استكانة ورعب وفزع، لا أمن لكم ولا اطمئنان، وتخافون أن يتخطفكم الناس من قريش ويأخذوكم ليسوموكم العذاب والهوان، فمن الله عليكم وآواكم في المدينة، وجعلها لكم مأوى تنزلون فيه وتتحصنون من أعدائكم، وشد أزركم بالأنصار، وأيدكم بالملائكة في بدر، وقواكم بنصركم عليهم، وجعل لكم من الغنائم طيبات من الرزق ؛ لتشكروه على عظيم فضله، وعميم فيضه.
لا تخونوا الله والرسول : لا تخونهما بتعطيل الفرائض والسنن، أو بأن تظهروا غير ما تخفون.
وتخونوا أماناتكم : وتخونوا ما اؤتمنتم عليه من مال أو عرض أو سر، أو عهد أو نصيحة.
وأنتم تعلمون : وأنتم تصدقون وتعلمون أنكم تخونون.
٢٧ – ﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول... ﴾ الآية.
والله ينهاكم أيها المؤمنون عن أن تخونوا الله ورسوله فتعطلوا أحكام دينه أو تقولوا بألسنتكم ما ليس في قلوبكم، أو تظهروا غير ما تخفون، وينهاكم عن أن تنقضوا العهود، وتخونوا الأمانات التي اؤتمنتم عليها من أموال الناس وأعراضهم وأسرارهم، وأنتم تعلمون أنكم مؤتمنون عليها، فتعمدون إلى جحود الودائع أو انتهاك الأعراض أو إفشاء الأسرار، وإخفاء المستندات ؛ إن ذلك إثم كبير، ولقد كان أول هم للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة أن هاجر أن يترك عليا وراءه ليرد الأمانات ويعيد الودائع، وكانت عنده لأعدائه من المشركين، وأبى أن يهاجر من مكة، وفي ذمته لأحد من أعدائه وديعة.
أبو لبابة يصلب نفسه على سارية ؛ ليكفر عن خيانته :
حاصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة، إحدى وعشرين ليلة، فسألوه صلحا كصلح بني النضير، وهو أن يتركهم يسيرون إلى إخوانهم بأذرعات وأريحاء من الشام، فأبى إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ الأنصاري سيد الأوس، وكان حليفهم، وكان حكمه : أن تقتل المقاتلة وتقسم الأموال وتسبى الذرية والنساء، فأبوا ذلك، ثم طلبوا أن يرسل إليهم : أبا لبابة، وكان مناصحا لهم ؛ لأن ماله وعياله كانا في أيديهم، فبعثه إليهم، فقالوا :
ما ترى ؟ هل تنزل على حكم سعد ؟ فقال : لا تفعلوا فإنه الذبح، وأشار إلى حلقة فنزلت :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول ﴾. قال أبو لبابة : فما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسولهxxiv.
حزن أبو لبابة، وقام فشد نفسه على سارية المسجد، وقال : والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت، أو يتوب الله عليّ، فمكث سبعة أيام حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له : قد تيب عليكم فحل نفسك، فقال : لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني فجاءة فحله بيده، فقال : إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي، فقال عليه السلام : يجزئك الثلث أن تتصدق به.
فتنة : محنة وبلاء.
٢٨ – ﴿ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة... ﴾ الآية.
ولما كان الإنسان شديد الحب والحرص على أمواله وأولاده، وكان تعلقه بهم يتسبب عنه وقوعه في الإثم والعقاب، أو يدعوه إلى الاتصاف ببعض الرذائل : كالبخل والخيانة والجبن، فقد جعلهم فتنة في قوله :﴿ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾ أي : محنة يفتن الله بها عباده، ليبلوهم بذلك، ولينبههم على أن حبهما لا ينبغي أن يحملهم على الخيانة كأبي لبابة، وأن الله عنده الجزاء الأوفى، وأن عنده الأجر العظيم، لمن رزئ في ماله أو أصيب في عياله، فآثر رضاءه، وراعى حدوده في الأموال والأولاد وجعل همه منوطا بما ينال به أجر الله، فهو خير وأبقى.
فرقانا : هداية في قلوبكم، تفرقون بها بين الحق والباطل.
٢٩ – ﴿ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا... ﴾ الآية.
وقد وعد الله المؤمنين الذين يتقون في كل ما يأتون وما يذرون، وفي كل ما يقولون وما يفعلون وما يراقبونه سرا وعلانية، أن يجعل لهم بسبب ذلك هداية ونورا في قلوبهم وفرقانا يفرقون به بين الحق والباطل ويميزون به الخير من الشر ويعفو عن سيئاتهم، ويتجاوز عن ذنوبهم، والله ذو الفضل العظيم على عباده، يتفضل عليهم بإحسانه ويعفو عن كثير.
المفردات :
وإذ يمكر بك الذين كفروا : واذكر وقت أن اجتمعت كفار قريش في دار الندوة ليدبروا أمر القضاء عليك.
ليثبتوك : ليوثقوك ويحبسوك.
أو يقتلوك : أو ينوشوك بسيوفهم حتى يقتلوك.
أو يخرجوك : أو يخرجوك من مكة.
ويمكرون : ويدبرون لك المكايد خفية.
ويمكر الله : ويدبر الله ما يحيط به مكايدهم، ويأتيهم بغتة.
والله خير الماكرين : وتدبير الله أنفذ من مكرهم وأبلغ في التأثير والنكاية بهم.
تمهيد
بعد أن عدد الله على المسلمين فيما سبق من الآيات، ما فضل عليهم به من النعم العامة، أنزل على نبيه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا... ﴾، ليذكره – صلى الله عليه وسلم – بنعمته عليه في خاصة نفسه، إذ نجاه من تآمر قريش عليه وتبييتهم نية الغدر في دار الندوة.
قصة المؤامرة
لما سمعت قريش بإسلام الأنصار، ومبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ خافوا أن يعظم أمره وتقوى شوكته فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمر، فدخل إبليس عليهم في صورة شيخ، وقال، أنا شيخ من نجد، دخلت مكة، فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا.
فقال أبو البختري : رأيي أن تحبسوا محمدا في بيت، وتشدوا وثاقة، وتسدوا بابه، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس : بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم.
فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم، فقال إبليس : بئس الرأي، يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم.
فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما، وتعطوه سيفا، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فإذا طلبوا العقل أي : الدية ؛ عقلناه واسترحنا، فقال إبليس : صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيا ؛ فتفرقوا على رأي أبي جهل، مجتمعين على قتله فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ألا يبيت في مضجعه، وأذن له الله في الهجرة، فأمر عليا فنام في مضجعه، وقال له : اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، ودعا الله أن يعمى عليهم أثره، وباتوا مترصدين، ولكن الله طمس على بصيرتهم ؛ فخرج ولم يروه، فلما أصبحوا ساروا إلى مضجعه، فأبصروا عليا، فبهتوا.
وخيب الله سعيهم وخرج هو مع أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار بعد أن دفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أريقط، وكان دليلا هاديا حاذقا بالطريق، واستأجراه ليدلهما على طريق المدينة، وواعداه أن يوافيهما عند غار ثور بعد ثلاث ليال، ولما علمت قريش بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، جعلت تطلبه بقائف معروف يقفوا الأثر، ومضى برحالهم حتى وقف على الغار، فقال : هنا انقطع الأثر، فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار، فأيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا، وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، لمن يرجع به عليهم، ولما سمع أبو بكر صوت من يقصون أثرهم على باب الغار، قال للنبي صلى الله عليه وسلم :" لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه "، فقال :" يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما ؟، يا أبا بكر، لا تحزن ؛ إن الله معنا " xxv.
التفسير :
٣٠ – ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك... ﴾ الآية.
واذكر وقت أن كان يمكر بك الذين كفروا، ويبيتون لك الكيد، مجتمعين في دار الندوة، فمنهم من أشار بأن يثبتوك بالقيد، ويشدوك بالوثائق، ويحبسوك حتى تموت، ومنهم من أشار بأن يخرجوك من بلدك، وينفوك من وطنك، وهم يمكرون ويدبرون الغدر بك، والله يرد مكرهم عليهم، ويحبط تدبيرهم وتدبير الله في نجاتك وفرارك من أيديهم أنفذ من مكرهم وأبلغ في النكاية بهم من حيث لا يشعرون.
بعد أن عدد الله على المسلمين فيما سبق من الآيات، ما فضل عليهم به من النعم العامة، أنزل على نبيه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا... ﴾، ليذكره – صلى الله عليه وسلم – بنعمته عليه في خاصة نفسه، إذ نجاه من تآمر قريش عليه وتبييتهم نية الغدر في دار الندوة.
قصة المؤامرة
لما سمعت قريش بإسلام الأنصار، ومبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ خافوا أن يعظم أمره وتقوى شوكته فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمر، فدخل إبليس عليهم في صورة شيخ، وقال، أنا شيخ من نجد، دخلت مكة، فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا.
فقال أبو البختري : رأيي أن تحبسوا محمدا في بيت، وتشدوا وثاقة، وتسدوا بابه، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس : بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم.
فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم، فقال إبليس : بئس الرأي، يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم.
فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما، وتعطوه سيفا، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فإذا طلبوا العقل أي : الدية ؛ عقلناه واسترحنا، فقال إبليس : صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيا ؛ فتفرقوا على رأي أبي جهل، مجتمعين على قتله فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ألا يبيت في مضجعه، وأذن له الله في الهجرة، فأمر عليا فنام في مضجعه، وقال له : اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، ودعا الله أن يعمى عليهم أثره، وباتوا مترصدين، ولكن الله طمس على بصيرتهم ؛ فخرج ولم يروه، فلما أصبحوا ساروا إلى مضجعه، فأبصروا عليا، فبهتوا.
وخيب الله سعيهم وخرج هو مع أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار بعد أن دفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أريقط، وكان دليلا هاديا حاذقا بالطريق، واستأجراه ليدلهما على طريق المدينة، وواعداه أن يوافيهما عند غار ثور بعد ثلاث ليال، ولما علمت قريش بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، جعلت تطلبه بقائف معروف يقفوا الأثر، ومضى برحالهم حتى وقف على الغار، فقال : هنا انقطع الأثر، فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار، فأيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا، وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، لمن يرجع به عليهم، ولما سمع أبو بكر صوت من يقصون أثرهم على باب الغار، قال للنبي صلى الله عليه وسلم :" لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه "، فقال :" يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما ؟، يا أبا بكر، لا تحزن ؛ إن الله معنا " xxv.
المفردات :
آياتنا : القرآن.
أساطير الأولين : ما سطر الأولون في الكتب، أو الأباطيل والترهات.
٣١ – ﴿ وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا.... ﴾ الآية.
وكان عليه السلام يقرأ القرآن، ويتلو منه أخبار القرون الماضية، فلما سمعه النضر بن الحارث ومن كانوا معه، قالوا : قد سمعنا مثل هذه الأخبار من غير محمد، ولو نشاء أن نقول مثل هذا القرآن لقلنا، وما هو إلا أخبار مما سطره الأولون، وقولهم هذا مكابره، وليس في استطاعتهم، فقد طولبوا بسورة منه فعجزوا، وكان أحب شيء إليهم أن يستطيعوا فيغلبوا، فكيف يقولون : لو نشاء لقلنا مثل هذا ؟ !
بعد أن عدد الله على المسلمين فيما سبق من الآيات، ما فضل عليهم به من النعم العامة، أنزل على نبيه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا... ﴾، ليذكره – صلى الله عليه وسلم – بنعمته عليه في خاصة نفسه، إذ نجاه من تآمر قريش عليه وتبييتهم نية الغدر في دار الندوة.
قصة المؤامرة
لما سمعت قريش بإسلام الأنصار، ومبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ خافوا أن يعظم أمره وتقوى شوكته فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمر، فدخل إبليس عليهم في صورة شيخ، وقال، أنا شيخ من نجد، دخلت مكة، فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا.
فقال أبو البختري : رأيي أن تحبسوا محمدا في بيت، وتشدوا وثاقة، وتسدوا بابه، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس : بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم.
فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم، فقال إبليس : بئس الرأي، يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم.
فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما، وتعطوه سيفا، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فإذا طلبوا العقل أي : الدية ؛ عقلناه واسترحنا، فقال إبليس : صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيا ؛ فتفرقوا على رأي أبي جهل، مجتمعين على قتله فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ألا يبيت في مضجعه، وأذن له الله في الهجرة، فأمر عليا فنام في مضجعه، وقال له : اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، ودعا الله أن يعمى عليهم أثره، وباتوا مترصدين، ولكن الله طمس على بصيرتهم ؛ فخرج ولم يروه، فلما أصبحوا ساروا إلى مضجعه، فأبصروا عليا، فبهتوا.
وخيب الله سعيهم وخرج هو مع أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار بعد أن دفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أريقط، وكان دليلا هاديا حاذقا بالطريق، واستأجراه ليدلهما على طريق المدينة، وواعداه أن يوافيهما عند غار ثور بعد ثلاث ليال، ولما علمت قريش بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، جعلت تطلبه بقائف معروف يقفوا الأثر، ومضى برحالهم حتى وقف على الغار، فقال : هنا انقطع الأثر، فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار، فأيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا، وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، لمن يرجع به عليهم، ولما سمع أبو بكر صوت من يقصون أثرهم على باب الغار، قال للنبي صلى الله عليه وسلم :" لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه "، فقال :" يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما ؟، يا أبا بكر، لا تحزن ؛ إن الله معنا " xxv.
المفردات :
إن كان هذا هو الحق من عندك : إن كان هذا القرآن هو الحق الذي نزل به محمد من عندك.
فأمطر علينا حجارة من السماء : فعاقبنا على إنكاره بحجارة من سجيل تهلكنا كما أهلكت أصحاب الفيل.
أو ائتنا بعذاب أليم : أو عاقبنا بنوع آخر من العذاب، يكون أشد قسوة من حجار السماء.
٣٢ – ﴿ وإذ قالوا اللهم أن كان هذا هو الحق من عندك... ﴾ الآية.
وكان النضر بن الحارث مع أشد قريش معارضة للنبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد سافر إلى فارس والحيرة للتجارة، ورجع منها بقصص سمعه من الرهبان كما رجع بنسخة من أخبار رستم وأسفنديار، وكان يجمع الكفار من قريش حوله، ويقرأ لهم منها، ولما قال النضر حين سمع القرآن ؛ إن هذا إلا أساطير الأولين، قال له النبي : " ويلك، إنه كلام الله "، فقال في استخفاف وإنكار : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء، أو ائتنا بعذاب أليمxxvi، أي : إن كان هذا القرآن حقا، فعاقبنا على إنكاره وتكذيبه، بحجارة تنصب علينا كالمطر من السماء التي تهبط الوحي منها على محمد، وينزل عليه القرآن من جهتها، فتهلكنا كما أهلك السجيل أصحاب الفيل، أو عاقبنا بعقاب آخر أشد ألما وأقسى عذابا، هو قول يدل على غاية الجحود والإنكار، وعلى أن الله تعالى قد حال بين الهداية وقلوب هؤلاء بحجب وأقفال منيعة، كما يدل على سفه العقل وسقم التفكير ؛ لأن المنطق كان يقضي عليهم أن يقولوا : اللهم، إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه لكنه عمى العقل، وجنون العناد.
بعد أن عدد الله على المسلمين فيما سبق من الآيات، ما فضل عليهم به من النعم العامة، أنزل على نبيه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا... ﴾، ليذكره – صلى الله عليه وسلم – بنعمته عليه في خاصة نفسه، إذ نجاه من تآمر قريش عليه وتبييتهم نية الغدر في دار الندوة.
قصة المؤامرة
لما سمعت قريش بإسلام الأنصار، ومبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ خافوا أن يعظم أمره وتقوى شوكته فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمر، فدخل إبليس عليهم في صورة شيخ، وقال، أنا شيخ من نجد، دخلت مكة، فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا.
فقال أبو البختري : رأيي أن تحبسوا محمدا في بيت، وتشدوا وثاقة، وتسدوا بابه، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس : بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم.
فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم، فقال إبليس : بئس الرأي، يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم.
فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما، وتعطوه سيفا، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فإذا طلبوا العقل أي : الدية ؛ عقلناه واسترحنا، فقال إبليس : صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيا ؛ فتفرقوا على رأي أبي جهل، مجتمعين على قتله فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ألا يبيت في مضجعه، وأذن له الله في الهجرة، فأمر عليا فنام في مضجعه، وقال له : اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، ودعا الله أن يعمى عليهم أثره، وباتوا مترصدين، ولكن الله طمس على بصيرتهم ؛ فخرج ولم يروه، فلما أصبحوا ساروا إلى مضجعه، فأبصروا عليا، فبهتوا.
وخيب الله سعيهم وخرج هو مع أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار بعد أن دفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أريقط، وكان دليلا هاديا حاذقا بالطريق، واستأجراه ليدلهما على طريق المدينة، وواعداه أن يوافيهما عند غار ثور بعد ثلاث ليال، ولما علمت قريش بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، جعلت تطلبه بقائف معروف يقفوا الأثر، ومضى برحالهم حتى وقف على الغار، فقال : هنا انقطع الأثر، فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار، فأيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا، وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، لمن يرجع به عليهم، ولما سمع أبو بكر صوت من يقصون أثرهم على باب الغار، قال للنبي صلى الله عليه وسلم :" لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه "، فقال :" يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما ؟، يا أبا بكر، لا تحزن ؛ إن الله معنا " xxv.
المفردات :
وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم : وليس من سنة الله أن يصيبهم بعذاب يستأصلهم، أو صاعقة تهلكهم وأنت بينهم ؛ لأنك بعثت رحمة للعالمين، وهو معذبهم إذا فارقتهم.
٣٣ – ﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون... ﴾الآية.
وكان من اليسير على الله أن يهلك النضر ومن معه من المعاندين المكابرين فيصيبهم بما أصاب به عادا وثمودا، ولكن الله أرسل نبيه صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فقال :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾. أي : ما كان الله ليعذب أمتك وأنت قائم فيهم لهدايتهم، بل كرامتك عند ربك أجل وأعظم، وسيؤجل الله عذاب المشركين حتى تخرج من بينهم، ويحول شقائهم دون هدايتهم، ولو كانوا ممن يؤمنون ويستغفرون الله من الكفر والمعاداة ؛ لما عذبهم ولكنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون ؛ فجزاؤهم من الله أشد العذاب.
بعد أن عدد الله على المسلمين فيما سبق من الآيات، ما فضل عليهم به من النعم العامة، أنزل على نبيه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا... ﴾، ليذكره – صلى الله عليه وسلم – بنعمته عليه في خاصة نفسه، إذ نجاه من تآمر قريش عليه وتبييتهم نية الغدر في دار الندوة.
قصة المؤامرة
لما سمعت قريش بإسلام الأنصار، ومبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ خافوا أن يعظم أمره وتقوى شوكته فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمر، فدخل إبليس عليهم في صورة شيخ، وقال، أنا شيخ من نجد، دخلت مكة، فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا.
فقال أبو البختري : رأيي أن تحبسوا محمدا في بيت، وتشدوا وثاقة، وتسدوا بابه، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس : بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم.
فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم، فقال إبليس : بئس الرأي، يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم.
فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما، وتعطوه سيفا، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فإذا طلبوا العقل أي : الدية ؛ عقلناه واسترحنا، فقال إبليس : صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيا ؛ فتفرقوا على رأي أبي جهل، مجتمعين على قتله فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ألا يبيت في مضجعه، وأذن له الله في الهجرة، فأمر عليا فنام في مضجعه، وقال له : اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، ودعا الله أن يعمى عليهم أثره، وباتوا مترصدين، ولكن الله طمس على بصيرتهم ؛ فخرج ولم يروه، فلما أصبحوا ساروا إلى مضجعه، فأبصروا عليا، فبهتوا.
وخيب الله سعيهم وخرج هو مع أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار بعد أن دفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أريقط، وكان دليلا هاديا حاذقا بالطريق، واستأجراه ليدلهما على طريق المدينة، وواعداه أن يوافيهما عند غار ثور بعد ثلاث ليال، ولما علمت قريش بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، جعلت تطلبه بقائف معروف يقفوا الأثر، ومضى برحالهم حتى وقف على الغار، فقال : هنا انقطع الأثر، فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار، فأيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا، وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، لمن يرجع به عليهم، ولما سمع أبو بكر صوت من يقصون أثرهم على باب الغار، قال للنبي صلى الله عليه وسلم :" لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه "، فقال :" يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما ؟، يا أبا بكر، لا تحزن ؛ إن الله معنا " xxv.
المفردات :
وما كانوا أولياءه : ما استحقوا لإشراكهم وعدواتهم للدين، أن يكونوا ولاة لأمر المسجد الحرام.
٣٤ – ﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون.... ﴾ الآية.
وكيف لا يعذبهم الله وهم – زيادة على ما هم فيه من الكفر والضلال – يصدون المؤمنين عن زيادة المسجد الحرام، ويمنعونهم كما منعوهم في عام الحديبية أن يجحدوا، ويزعمون لأنفسهم حق الولاية عليه، وما كانوا أولياءه، لم يولهم الله عليه ؛ لأنه بيته، وهو صاحب الحق في أن يولى عليه من يشاء، فليسوا متأهلين ولا مستحقين لهذه الولاية ؛ لأنهم أهل شرك، وعبدة أصنام، وأوثان، فكيف يتولون على بيت الله ؛ إنما يتولى على البيت المسلمون المتقون الذين يعبدون الله حق عبادته ويعرفون لبيته حرمته، ولكن كثيرا من قريش لا يعلمون أن لا ولاية لأحد على المسجد الحرام إلا للمتقين من عباده.
بعد أن عدد الله على المسلمين فيما سبق من الآيات، ما فضل عليهم به من النعم العامة، أنزل على نبيه :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا... ﴾، ليذكره – صلى الله عليه وسلم – بنعمته عليه في خاصة نفسه، إذ نجاه من تآمر قريش عليه وتبييتهم نية الغدر في دار الندوة.
قصة المؤامرة
لما سمعت قريش بإسلام الأنصار، ومبايعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم ؛ خافوا أن يعظم أمره وتقوى شوكته فاجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمر، فدخل إبليس عليهم في صورة شيخ، وقال، أنا شيخ من نجد، دخلت مكة، فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأيا ونصحا.
فقال أبو البختري : رأيي أن تحبسوا محمدا في بيت، وتشدوا وثاقة، وتسدوا بابه، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس : بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم.
فقال هشام بن عمرو : رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يضركم ما صنع واسترحتم، فقال إبليس : بئس الرأي، يفسد قوما غيركم ويقاتلكم بهم.
فقال أبو جهل : أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما، وتعطوه سيفا، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلها، فإذا طلبوا العقل أي : الدية ؛ عقلناه واسترحنا، فقال إبليس : صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيا ؛ فتفرقوا على رأي أبي جهل، مجتمعين على قتله فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمره ألا يبيت في مضجعه، وأذن له الله في الهجرة، فأمر عليا فنام في مضجعه، وقال له : اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه، ودعا الله أن يعمى عليهم أثره، وباتوا مترصدين، ولكن الله طمس على بصيرتهم ؛ فخرج ولم يروه، فلما أصبحوا ساروا إلى مضجعه، فأبصروا عليا، فبهتوا.
وخيب الله سعيهم وخرج هو مع أبي بكر رضي الله عنه إلى الغار بعد أن دفعا راحلتيهما إلى عبد الله بن أريقط، وكان دليلا هاديا حاذقا بالطريق، واستأجراه ليدلهما على طريق المدينة، وواعداه أن يوافيهما عند غار ثور بعد ثلاث ليال، ولما علمت قريش بخروج النبي صلى الله عليه وسلم، جعلت تطلبه بقائف معروف يقفوا الأثر، ومضى برحالهم حتى وقف على الغار، فقال : هنا انقطع الأثر، فنظروا فإذا بالعنكبوت قد نسج على فم الغار، فأيقنوا أن لا أحد فيه، فرجعوا، وجعلوا في النبي صلى الله عليه وسلم مائة ناقة، لمن يرجع به عليهم، ولما سمع أبو بكر صوت من يقصون أثرهم على باب الغار، قال للنبي صلى الله عليه وسلم :" لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه "، فقال :" يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما ؟، يا أبا بكر، لا تحزن ؛ إن الله معنا " xxv.
المفردات :
مكاء : صفيرا كصوت المكاء، وهو طائر أبيض بالحجاز كالقنبرة، مليح الصوت، فكانوا يجمعون بين أصابع أيديهم ثم يدخلونها في أفواههم فتحدث صفيرا.
وتصدية : وتصفيقا.
فذوقوا العذاب : فذوقوا عذاب القتل والأسر.
٣٥ – ﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية.... ﴾ الآية.
وإن أفعالهم القبيحة عند البيت، التي تقوم مقام صلاتهم، لتنافي أن يكونوا أولياء البيت، أو محافظين على ما يجب له من هيبة ووقار، فقد جعلوا مكان الصلاة والتقرب إلى الله، المكاء والتصدية، أي : التصفير والتصفيق، إذ كانوا يطوفون عراة، رجالا ونساء، مشبكين بين أصابعهم، يصفقون ويصفرون، يفعلون ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي ويقرأ، ليحدثوا جلبة وضوضاء عليه، ويثيروا حوله، ويشغلوه عن صلاته ؛ فذوقوا العذاب الذي لقيتموه ببدر في الدنيا، وذوقوا عذاب جهنم في الآخرة، جزاء ما كنتم فيه من كفر وضلال.
المفردات :
ليصدوا عن سبيل الله : ليمنعوا الناس من الدخول في دينه، واتباع رسوله ؛ معاداة له.
ثم تكون عليهم حسرة : ثم تكون عاقبة أنفاقها ندما وغما عليهم ؛ لأنهم أضاعوا المال ولم يحققوا المقصود.
التفسير :
٣٦ – ﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا.... ﴾ الآية.
إن الذين كفروا ينفقون أموالهم في الفساد، والتمكين للشر، وإقامة البغي، ومعاداة النبي، ومحاربة المسلمين ؛ ليمنعوا الناس عن الدخول في دين الله، واتباع رسوله، وسيأتون على كل أموالهم إنفاقا وتضييعا، دون أن ينالوا مقصودهم ؛ لأن الإسلام دين الحق، والناس يعتنقونه عن يقين وبينة، وهم يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواهم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره – وستبقى لهم الحسرة والندامة والغم ؛ لأنهم أضاعوا أموالهم وأوقاتهم دون أن يقضوا على دعوة الإسلام، التي تمضي وتنتشر أسرع من انتشار النور في الظلام، ثم يكون مصيرهم أن يغلبوا ويقهروا ويقضي عليهم وينتهوا، وقد نزلت الآية في المطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا من كبار قريش وكان ينحر الواحد منهم لمقاتلة الكفار في بدر كل يوم عشر جزر – أي : عشرا من الإبل – وفي أبي سفيان بن حرب لما استأجر لقتال المسلمين يوم أحد ألفين من الأحابيش، سوى من تطوع معه للقتال من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية ذهبا.
وليس ما وقع في نفوس المشركين من الحسرة والندامة، من خسارة أموالهم، وعدم تحقيق غرضهم، من القضاء على محمد ودينه، هو كل ما يحل بهم من العقاب والنكال، وإنما الذين بقوا منهم، أو ماتوا على الكفر، سيحشرهم الله في جهنم حشرا، ويعد للمؤمنين نعيما وأجرا.
ليميز الله الخبيث من الطيب : سيغلبون في الدنيا ويحشرون إلى جهنم في الآخرة ؛ ليميز الله الكافر من المؤمن.
ويجعل الخبيث بعضه على بعض : ويجعل الكفار بعضهم فوق بعض في جهنم.
فيركمه جميعا : فيتراكبوا لشدة ازدحامهم.
٣٧ – ﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب... ﴾ الآية.
ليميز الله الخبيث من الطيب، والمؤمن من الكافر، ومن أنفق ماله للجهاد في سبيل الله، ومن أنفقه لمحاربة محمد ودينه، وليجعل فريق الخبيث بعضه على بعضه، فيجمعه متراكما متزاحما ؛ ليتذوقوا من التكدس والتراكم والتزاحم في نار جهنم، جميع ألوان العذاب والهوان، هؤلاء هم الذين خسروا الدنيا والآخرة، وأضاعوا أموالهم وأنفسهم وحقت عليهم كلمة العذاب.
إن ينتهوا : إن ينتهوا عن معاداة الرسول بالدخول في الإسلام.
يغفر لهم ما قد سلف : يعف الله عما قد سلف من ذنوبهم.
وأن يعودوا : وأن يرجعوا إلى معاداته وحربه.
فقد مضت سنة الأولين : فإن السنن الماضية عن الأمم السابقة، وعما حدث للمشركين في بدر تنبئهم بما يحيق بهم.
٣٨ – ﴿ قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف.... ﴾ الآية.
والله واسع المغفرة رحيم بعباده فأمر نبيه أن يعلن هؤلاء الكفار الذين حاربوه وعادوه، أنهم إن يقلعوا عن الكفر. ويتركوا سبيل الضلال، ويدخلوا في دين الله ؛ فإن الله سيعفو عنهم ويغفر لهم ما فرط من ذنوبهم ؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، أما إذا عادوا إلى القتال، وبقوا في الكفر والضلال، فأنهم يعلمون بما مضت به سنة الأولين، وأنباء السابقين، من إهلاك الأمم التي تحزبت على الأنبياء، وبما حل بهم من النكال والقتل يوم بدر.
حتى لا تكون فتنة : حتى لا يكون شرك، ولا يعبد غير الله في الأرض.
ويكون الدين كله لله : ويقضى على العبادات الباطلة، ولا تبقى إلا عبادة الله وحده.
٣٩ – ﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة... ﴾ الآية.
لقد أمرتم أيها المؤمنين أن تقاتلوا الكفار، حتى لا يكون كفر أو شرك، ولا تعبد أصنام ولا أوثان، ويكون الدين كله خالصا لله، ولا يعبد أحد في الأرض سواه، فإن قاتلتموهم وانتهوا – وقت القتال – عن الكفر، واعتنقوا الإسلام ؛ فكفوا عنهم، فإن الله سيقبلهم، وهو البصير بما يعملون.
فإن الله مولاكم : فإن الله ناصركم ومعينكم.
٤٠ – ﴿ وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم.... ﴾ الآية.
أما إن أعرضوا عنكم وأصروا على قتالكم ؛ فاستمروا في قتالهم، واعلموا أن الله مولاكم، وناصركم عليهم، وكونوا على يقين وثقة، بأنه سيجعل الظفر والغلبة لكم، إنه خير مولى ؛ فلا يضيع من يتولاه، وخير نصير ؛ فلا يهزم من ينصره.
خاتمة
هذا هو ختام تفسير الجزء التاسع من القرآن الكريم، والقرآن مأدبة الله، وهي مأدبة حافلة بألون الخير والبركة والسعادة.
ونحن نتواصى بالحق والصبر، ومن الحق أن هذا الكتاب نور الله المبين، وهو الصراط المستقيم، وهو المنقذ من الضلال، والهادي إلى صراط مستقيم.
وعزّنا ومجدنا وكرامتنا، في الالتفاف حول كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمجاد أمتنا الإسلامية نقول ذلك لا تقليدا ولا احترافا، وإنما صدقا وإخلاصا.
﴿ ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين ﴾. ( فصلت : ٣٣ ).
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، أسأل الله تعالى أن يتقبل هذا العمل، وأن يجعله خالصا لوجهه، وأن يرزقنا الإخلاص والقبول، وأن يوفقنا إلى تمام تفسير القرآن الكريم إنه ولي التوفيق، والحمد رب العالمين.
﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٤١ ) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ( ٤٢ ) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ( ٤٣ ) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ( ٤٤ ) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ ( ٤٥ ) ﴾
المفردات :
غنمتم : الغنيمة : من الغنم وهو الفوز، والمراد بها هنا : ما أخذ من أموال الكفار بالقتال.
الجمعان : جمع المؤمنين وجميع الكفار.
التفسير :
٤١- ﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ... ﴾ الآية.
تمهيد :
هذه الآية تفصيل لما أجمل حكمه في بدء سورة الأنفال ؛ حيث بدأ الله سورة الأنفال بقوله سبحانه :﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ﴾. وفي هذه الآية تفصيل لحكم الغنائم ؛ التي اختص الله هذه الأمة بإحلالها لها، ولم تحل الغنائم لنبي قبل محمد صلى الله عليه وسلم ؛ وقد ذكر القرآن هنا : أن الغنائم تقسم خمسة أخماس، خمس لمن ذكرتهم الآية، وأربعة أخماس للمقاتلين.
جاء في فتح القدير للشوكاني :
﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء ﴾.
الغنيمة : مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة والقهر، والغنائم شاملة لكل ما غنمه المسلمون من أرض ومال وغيرهما.
﴿ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ﴾.
قال الشافعي : إن الخمس يقسم على خمسة، وإن سهم الله وسهم رسوله واحد يصرف في مصالح المؤمنين، والأربعة الأخماس على الأربعة الأصناف المذكورة في الآية.
وقول أبي حنيفة : إنه يقسم الخمس على ثلاثة : اليتامى، والمساكين، وابن السبيل.
وقد ارتفع حكم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بموته كما ارتفع حكم سهمه. اه.
ونلاحظ أن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة، وأن الغنائم تأتي أمرا لاحقا بعد الجهاد، فهي نافلة، تأتي زيادة على الجهاد، والنصر من عند الله سبحانه وتعالى ؛ ولذلك رضي الله بأن يؤخذ من المقاتلين الخمس، ويترك لهم أربعة أخماس.
والخمس كان ينفق منه على رئيس الدولة، فهو مظهر قوتها، وهو يتفقد المحتاجين ويعطي المعوزين ؛ وقد أضيف سهم الخمس إلى الله ؛ تشريفا وتكريما. والواقع أن سهم الله هو الرسول أو من ينوب منابه فالخمس الذي يؤخذ من الغنائم يقسم إلى خمسة أخماس توزع على خمسة فئات :
١ – الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ينوب منابه من الحكام والخلفاء بعد موته عليه الصلاة والسلام.
٢ – أقارب الرسول صلى الله عليه وسلم، من بني هاشم وبني المطلب ؛ لأنهم هم الذين آزروه، ودخلوا معه في شعب بني هاشم دون بني عبد شمس ونوفل. روى البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد " xxvii، وشبّك بين أصابعه.
٣ – اليتامى : وهم أطفال المسلمين الذين مات آباؤهم.
٤ – المساكين : وهم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين.
٥ – ابن السبيل : هو المسافر المحتاج الذي انقطعت به السبل، حتى كأن الطريق أصبح أبا له.
﴿ إن كنتم آمنتم بالله ﴾.
إذا كنتم آمنتم بالله ؛ فاقبلوا بحكمه، ونفّذوا أوامره، وقسموا الغنائم كما أمر بتقسيمها.
﴿ وما أنزل على عبدنا يوم الفرقان ﴾.
وهو يوم غزوة بدر كان المؤمنون قلة في عددهم وعدتهم، وكان الكافرون يزيدون على ثلاثة أضعافهم.
ولكن الله سبحانه أمدّ المؤمنين بنصره ؛ فانتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة، في يوم الفرقان، الذي فرق الله فيه بين الحق والباطل.
﴿ يوم التقى الجمعان ﴾.
جمع المؤمنين وجمع المشركين في الحرب والنزال، وقد كان ذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ والله على كل شيء قدير ﴾.
فالنصر من عند الله، ومن قدرة الله أنه نصركم على قلتكم وضعفكم، وبلوغ عدوكم ثلاثة أضعاف عددكم أو أكثر، وأيد رسوله وأنجز وعده.
العدوة : طرف الوادي وحافته.
الدنيا : أي : القريبة من المدينة.
القصوى : البعيدة عن المدينة.
الركب : العير وراكبوها وهم أبو سفيان ومن معه.
عن بينة : أي : عن حجة واضحة.
٤٢ – ﴿ إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ.... ﴾
إذ. بدل من ﴿ يوم الفرقان ﴾. في الآية السابقة أي : اذكروا أيها المؤمنون ذلك اللقاء الحاسم بينكم وبين المشركين، واشكروه على نصره إياكم فيه، حيثما كنتم في مواجهة رهيبة مع الأعداء.
إذ كنتم في جانب الوادي القريبة من المدينة، وهي أرض رملية تسوخ فيها الأقدام، والمشركون نازلون في جانب الوادي الأخرى البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة وهي قريبة من الماء.
وركب أبي سفيان وأصحابه أسفل منكم، حيث كانوا ناحية الساحل، ومعهم عيرهم على بعد ثلاثة أميال من بدر. وكان أبو سفيان في أربعين من قريش، وهم مع أهل مكة يدافعون دفاع المستميت، وجميع هذه العوامل لم تكن في صالح المسلمين ؛ فمكانهم كان ترابيا رخوا، ومكان المشركين صلبا قويا وليس مع المؤمنين ماء، وكان مع المشركين ماء، والركب مع أبي سفيان ظهير ومدد للمشركين عند الحاجة، والمشركون متحمسون للدفاع عن التجارة، التي نجا بها أبو سفيان، وسار بها على ساحل البحر في طريق منخفض عن بدر.
وتحديد مكان المعركة على هذا النحو ؛ فيه بيان لمنة الله تعالى على المؤمنين ؛ حيث أمدهم بالنصر، وهم أقرب إلى الضعف، في عددهم وعدتهم وموقعهم في مقابل قوة عدوهم، وقدرتهم وتوفر أسباب النصر المادية لهم.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
فإن قلت : ما فائدة هذا التوقيت وذكر مراكز الفريقين، وأن العير كان أسفل منهم ؟
قلت : الفائدة فيه الإخبار عن الحال، الدالة على قوة شأن العدو وشوكته، وتكامل عدته، وتمهد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من الله سبحانه، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته وباهر قدرتهxxviii.
﴿ ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾.
أي : ولو تواعدتم أنتم والمشركون في مكان للقتال ؛ لاختلفتم في الميعاد، ولم ترغبوا في لقاء المشركين ؛ هيبة منهم، ويأسا من الظفر عليهم، من جهة. ولأن المشركين كانوا يهابون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد كذبوا به عنادا، واستكبروا عن الدخول في الإسلام عن جحود وكراهية لا عن يقين واقتناع.
قال تعالى :﴿ قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبون ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ﴾. ( الأنعام : ٣٣ ).
ولكن الحق سبحانه دبر هذا اللقاء، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين، مبهمة غير مبنية( أي : العير أو النفير ) فإما أن ينجحوا في الاستيلاء على تجارة قريش، وإما أن ينجحوا في الانتصار على قريش.
فتحركت همة المسلمين ؛ حتى خرجوا ليأخذوا العير والتجارة وتحركت همة المشركين ؛ دفاعا عن تجارتهم، ورغبة في التظاهر والسمعة، وتم اللقاء عند بدر ؛ ليحق الله الحق، ويقضي أمرا كان مفعولا ؛ من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته، وقطع دابر المشركين وهزيمتهم، كما قال سبحانه :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ﴾. ( القمر : ٤٥ ).
﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيي من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ﴾.
أي : فعل الله لقاءكم في غير ميعاد ؛ لتظهر المعجزة ؛ في انتصار القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة، فيموت من يموت من الكفار عن حجة بينة عاينها بالنصر ؛ تثبت حقيقة الإسلام، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها بإعزاز الله دينه ؛ فيزداد يقينا بالإيمان، ونشاطا في الأعمال.
﴿ وإن الله لسميع عليم ﴾.
لا يخفى عليه شيء من أقوال الكافرين والمؤمنين، ولا من عقائدهم وأفعالهم.
فهو يسمع ما يقول كل فريق منهم، ويعلم ما يظهر وما يبطنه، ويجازي كلا بحسب ما يسمع ويعلم.
والخلاصة : إن غزوة بدر، قامت بها الحجة البالغة للمؤمنين بنصرهم، كما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وقامت بها الحجة البالغة على المشركين بخذلانهم وانكسارهم، كما أنذرهم النبي صلى الله عليه وسلم.
لفشلتم : لجبنتم وتهيبتم لقاء العدو ؛ من الفشل وهو ضعف مع جبن.
بذات الصدور : أي : بما تطوي عليه القلوب.
٤٣ – ﴿ إذ يركيهم الله في منامك قليلا ولو أراكهم كثيرا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور ﴾.
تذكر الآية الرسول الأمين، والمؤمنين بفضل الله تعالى عليهم ومنته العظيمة ؛ حيث يسر لهم أسباب النصر على عدو أكثر عددا وعدة ومددا.
ومن هذه النعم : إلقاء الشجاعة والقوة في قلوب المؤمنين، وإلقاء الاسترخاء والتهاون في قلوب الكافرين ؛ ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في منامه أن عدد الكفار قليل، فأخبر بذلك أصحابه ؛ فكان تثبيتا لهم، وتشجيعا لهم على قتال عدوهم.
قال الشوكاني في تفسير فتح القدير :
والمعنى : أن النبي صلى الله عليه وسلم رآهم في منامه قليلا ؛ فقص ذلك على أصحابه، فكان ذلك سببا لثباتهم، ولو رآهم في منامه كثيرا ؛ لفشلوا وجبنوا عن قتالهم وتنازعوا في الأمر هل يلاقونهم أم لا ؟
﴿ ولكن الله سلم ﴾ وعصمهم من الفشل، فقللهم في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم. ا ه.
﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾.
أي : يعلم ما سيكون فيها، من الجرأة والجبن والصبر والجزع ؛ ولذلك دبر ما دبرxxix.
أي : واذكروا أيها المؤمنون : الوقت الذي يريكم الله الكفار قبل القتال عددا قليلا، في رأى العين المجردة، حتى تجرأتم وارتفعت معنوياتكم، ويجعلكم بالفعل قلة في أعين الكفار، فيغتروا ولا يعدوا العدة لكم، حتى قال أبو جهل : إنما أصحاب محمد أكلة جزور، خذوهم أخذا ؛ واربطوهم في الحبال.
وأكلة جزور : مثل يضرب في القلة، أي : إنهم عدد قليل يكفيهم جزور واحد في اليوم ويشبعهم لحم ناقة.
و( أكلة ). بوزن( كتبه ). جمع آكل، بوزن فاعل. والجزور : الناقةxxxi.
﴿ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾.
أي : فعل كل ذلك ليمهد للحرب ؛ فتكون سبيلا في علمه تعالى لنصرة المؤمنين، وإعزاز الإسلام، وهزيمة الكافرين وإذلال الكفر.
﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾.
أي : إلى الله مصير الأمور ومردها، وفيه تنبيه على ان أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها ؛ وإنما المراد منها، ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد.
في أعقاب التفسير
١ – روى ابن أبي حاتم وابن جرير الطبري، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي : أتراهم سبعين ؟ فقال : أراهم مائة ! فأسرنا رجلا منهم، فقلنا له : كم كنتم ؟ قال : ألفاxxxii.
٢ – قال الزمخشري :
فإن قلت : الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم ؟
قلت : قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثّرتم فيما بعده، ليجترئوا عليهم ؛ قلة مبالاة بهم، ثم تفجؤهم الكثرة، فيبهتوا ويهابوا، وتقل شوكتهم، حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وذلك قوله تعالى :﴿ قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين ﴾. ( آل عمران : ١٣ ) ولئلا يستعدوا لهم، وليعظم الاحتجاج عليهم، باستيضاح الآية البينة من قلتهم أولا، وكثرتهم آخرا.
٣ – قال الفخر الرازي : قال مجاهد : أرى الله النبي صلى الله عليه وسلم، كفار قريش في منامه قليلا ؛ فأخبر بذلك أصحابه، فقالوا : رؤيا النبي حق، القوم قليل ؛ فصار ذلك سببا لجرأتهم وقوة قلوبهم.
٤ – تفيد كتب السيرة : أن أسيرين من المشركين وقعا في الأسر، فسألهما النبي صلى الله عليه وسلم عن عدد المشركين، فقالا ليس لدينا علم بعددهم، فسألهما كم يذبحون من الإبل كل يوم ؛ قالا : يذبحون في بعض الأيام تسعا، وفي بعضها عشرا من الإبل.
فقال صلى الله عليه وسلم : القوم بين التسعمائة والألف أي : أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر المسلمين بعدد المشركين في غزوة بدر، بناء على اجتهاده ودقة تقديره.
فكيف نوفق بين ذلك، وبين إخباره لهم بأنه رأى في الرؤيا أن عددهم قليل ؟
والجواب : أن القلة في المنام رمز على قلة غنائهم وقلة وزنهم في المعركة ؛ لأنه ينقصهم الإيمان الصحيح الذي يقوي القلوب، ويدفع النفوس إلى الإقدام والنصر ؛ طلبا للمثوبة، وحرصا على الشهادة في سبيل الله.
٥ – قال السيد رشيد رضا في تفسير المنار :
" قد تقدم أن النبي صلى الله عليه وسلم قدر عدد المشركين بألف، وأخبر أصحابه بذلك، ولكنه أخبرهم مع هذا، أنه رآهم في منامه قليلا، لا أنهم قليل في الواقع، فالظاهر أنهم أولوا الرؤيا بأن بلاءهم يكون قليلا، وأن كيدهم يكون ضعيفا فتجرءوا وقويت قلوبهم ".
٦ – ذكر الدكتور محمد سيد طنطاوي في تفسير سورة التوبة أثناء تعليقه على تفسير هذه الآيات قوله :
" وبذلك نرى أن هذه الآيات الكريمة قد حكت لنا جانبا من أحداث غزوة بدر، بأسلوب تصويري بديع ؛ في استحضاره لمشاهدها ومواقفها، وكشفت لنا عن جوانب من مظاهر قدرة الله، ومن تدبيره المحكم، الذي كان فوق تدبير البشر، ومن تهيئة الأسباب الظاهرة والخفية التي أدت إلى نصر المؤمنين، وخذلان الكافرين " xxxiii.
المفردات :
فئة : جماعة.
٤٥ – ﴿ يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا... ﴾ الآية.
هذه الآيات تعلم المسلمين آداب القتال، وفنون الحرب، وتحثهم على التخلق بالثبات في النزال، وعدم التفكير في الهزيمة أو الفرار.
يروى أن معاوية بن أبي سفيان قال :
فكرت في الهزيمة يوم صفين ؛ فتذكرت قول عمرو بن الإطنابة :
أقول لها وقد طارت شعاعا *** من الأبطال : ويحك لن تراع
فإنك لو سألت بقاء يوم | على الأجل الذي لك لم تطاع |
سبيل الموت راحة كل حي | فداعيه لأهل لأرض داع |
ومن لم يعتبط يسأم ويهرم | وتسلمه المنون إلى انقطاع |
وما للمرء خير في حياة | إذا ما عد من سقط المتاع |
يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، إذا حاربتم جماعة من الكفار، والتقيتم بهم في ميدان الحرب، فالواجب عليكم أن تثبتوا في قتالهم، وتصمدوا للقائهم، وإياكم والفرار من الزحف، وتوليتهم الأدبار، فالثبات فضيلة، والفرار كبيرة !.
﴿ واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾.
وعليكم بذكر الله تعالى ذكرا كثيرا، والتضرع إليه بالقلب واللسان، مع اليقين الجازم بأنه سبحانه على كل شيء قدير، وبيده الخلق والأمر، كما فعل المؤمنون السابقون من أتباع طالوت، حيث رغبوا في الثبات، وتذرعوا بالصبر وأخذوا العدة إلى النصر، قال تعالى :
﴿ ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين * فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء... ﴾( البقرة : ٢٥، ٢٥١ ).
فالنصر حليف الثبات واليقين، والرغبة في الشهادة، والحرص على مرضاة الله :﴿ كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ﴾( البقرة : ٢٤٩ ).
وذكر الله تعالى عون في الشدائد، وسبيل إلى النصر، وباب من أبواب الثواب والأجر.
قال تعالى :﴿ والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾( الأحزاب : ٣٥ ).
وذكر الله سبيل إلى الفلاح والنصر، وطريق إلى علو الهمة، واستمداد العون من الله. قال تعالى :﴿ واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾.
وهذا يدل على أن ذكر الله تعالى مطلوب في أحوال العبد كلها، سلما وحربا، وصحة ومرضا. وإقامة وسفرا ؛ فذكر الله دواء وذكر الناس داء.
من هدى السنة
أخرج البخاري ومسلم في كتاب الجهاد : عن عبد الله بن أبي أوفى، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيهل العدو، انتظر حتى مالت الشمس ثم قام في الناس فقال : أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف، ثم قال : اللهم منزل الكتاب، ومجرى الحساب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهمxxxiv.
وجاء في الحديث المرفوع، يقول الله تعالى : " إن عبدي كل عبدي : الذي يذكرني، وهو مناجز قرنه " xxxv.
أي : لا يشغله ذلك الحال، عن ذكري واستعانتي.
ولا تنازعوا : ولا تختلفوا.
تفشلوا : تجنبوا وتضعفوا. والفشل في الأصل : الخيبة والنكول عن إمضاء الأمر وأكثر أسبابه : الضعف والجبن ولذلك فسروه هنا بهما.
تذهب ريحكم : تذهب قوتكم.
٤٦ – ﴿ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾.
هذه الآية معطوفة على ما قبلها، حيث يرسم الحق سبحانه لعباده المؤمنين طريق النصر، فأمرهم بالثبات وبذكر الله تعالى، في الآية السابقة.
وعطف هذه الآية على ما سبق، فأمرهم بطاعة الله ورسوله، والتزام أوامرهما، والابتعاد عما نهى الله ورسوله عنه.
وطاعة الله باب من أبواب السعادة الدنيوية والأخروية، فمن وجد الله ؛ وجد كل شيء، ومن فقد الله ؛ فقد كل شيء. وقد روى البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يقول الله عز وجل :
" ما تقرب عبدي إلى بشيء أحب إلي من أداء ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه. فإذا أحببته ؛ كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي عليها، ولئن دعاني ؛ لأجيبنّه، ولئن سألني ؛ لأعطينه " xxxvi.
النزاع
تنهى الآية عن التنازع والاختلاف، وعندما تختلف طوائف الأمة، ويحاول كل طرف أن ينزع ما في يد الطرف الآخر ؛ يأتي باب الفشل والإحباط والاصطدام، فتنحط الدولة، وتذهب ريحها، وهو كناية عن دوال دولتها، واضمحلال أمرها.
ومن كلام العرب : هبت ريح فلان ؛ إذا دالت له الدولة، وجرى أمره على ما يريد ؛ وركدت ريح فلان ؛ إذا ولت عنه وأدبر أمره. قال الشاعر :
إذا هبت رياحك فاغتنمها | فإن لكل خافقة سكون |
ولا تغفل عن الإحسان فيها | فما تدري السكون متى يكون ؟ |
ويكفي أن الله وعد الصابرين بأن يكون معهم بالعون والتأييد والنصر ؛ فقال سبحانه :﴿ إن الله مع الصابرين ﴾.
وبذلك ترى أن الله تعالى يعلّم عباده المؤمنين السبيل إلى النصر ؛ فيأمرهم بما يأتي :
١ – الثبات عند اللقاء.
٢ - ذكر الله ذكرا كثيرا في شدة البأساء.
٣ – طاعة الله ورسوله.
٤ – البعد عن التنازع والاختلاف.
٥ – الصبر، وإعداد العدة، والتضحية بالنفس والمال.
وهي في جملتها عوامل أساسية في ترابط بنيان الأمة، وقوة شأنها، وانتصارها على أعدائها.
قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهاتين الآيتين ما يأتي :
وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة، والائتمار بما أمرهم الله ورسوله، وامتثال ما أرشدهم إليه، ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم، ولا يكون لأحد ممن بعدهم، فإنهم ببركة الرسول وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم، من الروم والفرس، والترك والصقالبة والبربر، والحبوش، وأصناف السودان، والقبط وطوائف بني آدم ؛ قهروا الجميع حتى علت كلمة الله، وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وحشرنا في زمرتهم، إنه كريم وهابxxxvii.
بطرا : طغيانا وتجبرا – والبطر في اللغة : الفخر والاستعلاء بنعمة الغنى أو الرياسة أو غيرهما، يعرف في الحركات المتكلفة والكلام الشاذ.
رئاء الناس : مرائين الناس. والرياء والمراءاة : إظهار العمل ؛ رغبة في ثناء الناس والإعجاب به وهو محبط للأعمال الأخروية.
٤٧ – ﴿ ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط ﴾.
تستمر هذه الآية فتكمل مع ما سبقها أسباب النصر وهي في جملتها : البعد عن البطر والكبر والرياء، وعن التعالي على عباد الله ويتبع ذلك الغرور وجنون العظمة، ثم منع الناس من الهدى ومن طريق الله وهو طريق الحق والخير، مع أنه تعالى محيط بما يعملون، ومطلع على نياتهم وسوف يحاسبهم على ذلك.
سبب النزول :
أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي، قال : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف ؛ فأنزل الله :﴿ ولا تكونوا.... ﴾ الآية.
وقال البغوي في تفسيره :
نزلت في المشركين حين أقبلوا إلى بدر، ولهم بغي وفخر ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم، هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك، وتكذب رسولك، اللهم، فنصرك الذي وعدتني " xxxviii.
قالوا : ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره ؛ أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم، فقد نجاها الله، فارجعوا، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدرا – وكان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام – فنقيم ثلاثا، فننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان. فنهى الله عباده أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النية، والحسبة في نصر دينه ومؤازرة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ما ترشد إليه الآيات
تأمر الآيات بقواعد حربية، هي عمد ثوابت في نظام الحروب، ولا يمكن لجيش قديم أو حديث أن يتخلى عن هذه النصائح التي تكون سببا في إحراز النصر والغلبة وهذه القواعد والنصائح هي ما يأتي :
١ – الثبات عند اللقاء والرغبة في الشهادة والأجر من الله.
٢ – ذكر الله تعالى ذكرا كثيرا والالتجاء إليه بصدق النية مثل قول أصحاب طالوت :﴿ ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ﴾( البقرة : ٢٥٠ ).
٣ – طاعة الله ورسوله، في امتثال الأوامر واجتناب النواهي، وكذلك طاعة القائد وامتثال أوامره.
٤ – الصبر والتحمل، فهو طريق الظفر : والله مع الصابرين.
٥ – البعد عن البطر( وهو الفخر والاستعلاء والتكبر ).
٦ – البعد عن التشبه بالكافرين الذين يصدون الناس عن سبيل الله، ويمنعونهم في طريق الهدى والرشاد.
٧ – الثقة بأن الله محيط وعالم بكل ما يعمل الإنسان، وسيجازيه على ذلك، فيخلص العبد النية، وعليه بالتقرب إلى مولاه، مع التواضع والانكسار بدلا من الرياء والافتخار.
نكص على عقبيه : رجع القهقرى، تولى إلى الوراء جهة العقبين، والمراد : كف الشيطان عن وسوسته وذهب ما خيله من المعونة لهم.
جار لكم : أي : مجير وناصر، والجار الذي يجير غيره أي : يؤمنه مما يخاف.
٤٨ – ﴿ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم... ﴾ الآية.
أي : واذكر أيها الرسول للمؤمنين حين زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم في معاداة الرسول والمؤمنين ؛ بأن وسوس لهم وحسن لهم ما جبلوا عليه من غرور ومراءاة، وأوهمهم بأن النصر سيكون لهم في هذا الحرب.
﴿ وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ﴾.
أي : من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ فألقى الشيطان في روعهم، أنه لن يغلبكم أحد من الناس ؛ لا محمد – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه، ولا غيرهم من قبائل العرب.
﴿ وإني جار لكم ﴾.
أي : مجير ومعين وناصر لكم ؛ إذ المراد بالجار هنا الذي يجير غيره، أي : يؤمنه مما يخاف ويخشى.
﴿ فلما ترآءت الفئتان نكص على عقبيه ﴾.
فلما أبصر كل من الفريقين الآخر، وقد رجحت كفة المؤمنين، بإمداد الملائكة لهم ؛ بطل كيد الشيطان وتزيينه، وظهر عجزه عن نصرة الكافرين ؛ وولى هاربا على قفاه، راجعا للوراء، والمراد : بطلان كيده وهزيمته مع شيعته. أي : أنه كف عن تزيينه لهم وتغريره بهم.
يقال : نكص عن الأمر نكوصا ونكصا، أي : تراجع عنه وأحجم، والعقب : مؤخر القدم.
﴿ وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله ﴾.
أي : قال الشيطان للمشركين، إني بريء من عهدكم وجواركم ونصرتكم، إني أرى من الملائكة النازلة ؛ لتأييد المؤمنين ما لا ترونه أنتم.
﴿ إني أخاف الله ﴾. أن يصيبني بمكروه من قبل ملائكته.
﴿ والله شديد العقاب ﴾. يحتمل أنه من كلام إبليس الذي حكاه الله عنه، ويحتمل أنه جملة مستأنفة من كلامه عز وجل.
أي : والله شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره.
تزيين الشيطان معنوي أو حسي
ذهب جمهور المفسرين، إلى أن الشيطان ظهر للمشركين يوم بدر، ظهورا حسيا يغريهم بالنصر، ويعدهم بالحماية والتأييدxxxix.
وروى عن الحسن والأصم أن تزيين الشيطان كان على سبيل الوسوسة، ولم يتمثل لهم.
فالقول على هذا مجاز عن الوسوسة، والنكوص وهو الرجوع استعارة لبطلان كيده.
وقد ذهب ابن كثير وابن جرير الطبري وغيرهم على أن التزيين من الشيطان كان تزيينا حسيا.
وأوردا روايات كثيرة تدور حول ظهور الشيطان للمشركين، وورد مثل ذلك في تفسير القرطبي والزمخشري ؛ فروى أن قريشا لما اجتمعت تريد حرب المسلمين في بدر ؛ ذكرت الذي بينها وبين كنانة من الحرب ؛ لأن قريشا كانت قتلت رجلا من كنانة، وكانت كنانة تطلب دمه، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم، فتمثل إبليس اللعين، في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الشاعر الكناني، وقال : أنا جاركم من بني كنانة، فلا يصل إليكم مكروه منهم، وقال : لا غالب لكم اليوم، فلما رأى إبليس الملائكة تنزل ؛ نكص.
وقيل : كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما نكص قال له الحارث : إلى أين ؟ ! أتخذلنا في هذه الحال ؟ ! قال : إني أرى ما لا ترون، ودفع صدر الحارث وانطلق وانهزموا.
فلما بلغوا مكة قالوا : هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال : والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم، فلما أسلموا ؛ علموا أنه الشيطان.
وفي موطإ مالك : عن طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" ما رؤى الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة، وما ذلك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام ؛ إلا ما رؤى يوم بدر، قيل : وما رؤى يوم بدر، قال فإنه قد رأى جبريل يزعxl الملائكة " xli.
خلاصة أقوال المفسرين في الآية
بمراجعة أقوال المفسرين في كيفية تزيين الشيطان للمشركين، نراهم ينقسمون إلى ثلاثة أقسام :
١ – قسم منهم سار في تفسيره على أن التزيين كان حسيا بمعنى : أن الشيطان تمثل للمشركين في صورة إنسان وقال لهم ما قال.
وممن فعل ذلك ابن جرير الطبري، وابن كثير، والقرطبي.
٢ – قسم ذكر : أن في التزيين وجهين.
أحدهما : أنه وسوسة من غير تمثيل في صورة إنسان.
ثانيهما : أن إبليس ظهر في صورة إنسان، ولم يرجح أحد القولين على الآخر وممن فعل ذلك الزمخشري، والفخر الرازي، والآلوسي، وأبو السعود.
٣ – قسم منهم رجح أن التزيين لم يكن حسيا، بل كان عن طريق الوسوسة، وأن الشيطان ما تمثل للمشركين في صورة إنسان، وقد سار في هذا الاتجاه صاحب المنار مشككا في صحة ما سواه، ونحن نؤمن بالآية وبما أثبته القرآن الكريم من أن الشيطان قد زين للمشركين أعمالهم، وأنه قد نكص على عقبيه... إلخ. إلا أننا لا نستطيع أن نحدد كيفية ذلك.
وبعبارة أوضح : نحن أقرب إلى الفريق الثاني من المفسرين الذين ذكروا القولين السابقين في كيفية التزيين دون ترجيح لأحدهما على الآخر.
فالقول محتمل لأن يكون التزيين معنويا بمعنى : الوسوسة والإغراء والتحريض، وأن يكون حسيا بأن يتمثل الشيطان رجلا يغريهم ثم يخذلهم ويتركهم منهزما.
وكان موقف " في ظلال القرآن "، قريبا من هذا الاتجاه. حيث قال :
وفي هذا الحادث نص قرآني يثبت منه أن الشيطان زين للمشركين أعمالهم، وشجعهم على الخروج... وأنه بعد ذلك نكص على عقبيه... فخذلهم وتركهم ؛ يلاقون مصيرهم وحدهم.
ولكنا لا نعرف الكيفية التي زين لهم بها أعمالهم، والتي قال بها :﴿ لا غالب لكم اليوم من الناس ﴾. والتي نكص بها كذلك..
الكيفية فقط هي التي لا نجزم بها ؛ ذلك أن أمر الشيطان كله غيب، ولا سبيل لنا إلى الجزم بشيء من أمره إلا بنص قرآني ؛ أو حديث نبوي صحيح، والنص هنا لا يذكر الكيفية، إنما يثبت الحادث.
إلى هنا ينتهي اجتهادنا، ولا نميل إلى المنهج الذي تتخذه مدرسة الشيخ محمد عبده، في تأويل كل أمر غيبي من هذا القبيل معينا، ينفي الحركة الحسية عن هذه العوالم، وذلك كقول الشيخ رشيد رضا في تفسير الآية :
﴿ وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم... ﴾ أي : واذكر أيها الرسول للمؤمنين، إذ زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته، قال لهم، بما ألقاه في هواجسهم ﴿ لا غالب لكم اليوم من الناس... ﴾ إلخ ما ذكره الشيخ رشيد في تفسير الآية. ا ه.
أي : أن( في ظلال القرآن ) لا يستعبد أن يكون التزيين معنويا بمعنى الوسوسة، وأن يكون حسيا بمعنى تمثل الشيطان في صورة رجل كسراقة بن مالك بن جشعم الكناني.
وأخيرا إننا نؤمن بالنص، ونذكر أنه محتمل لرأيين، ونفوض حقيقة المراد على الله تعالى، والله أعلم.
غر هؤلاء دينهم : أي : خدع هؤلاء المسلمين دينهم، فظنوا أنهم ينصرون به فأقدموا على ما أقدموا عليه مما لا طاقة به.
٤٩ – ﴿ إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم... ﴾ الآية.
تشير الآية إلى موقف المنافقين في المدينة، والمشركين في مكة، وإلى غيرهم من الأعراب، ومن لم يتمكن الإيمان في قلوبهم.
فقد رأوا قلة مؤمنة في بدر، ثلاثمائة وأربعة عشر رجلا، تخرج للقاء كثرة كافرة، تزيد على ثلاثة أمثالهم، وهؤلاء المنافقون ومرضى القلوب، يزنون الأمور بميزان الكثرة المادية، والأمور الحسية.
فقالوا : ما خرج هؤلاء المؤمنون إلا غرورا بدينهم ؛ فقد خدعهم دينهم فخرجوا على قلتهم ؛ لقتال جيش قوي كبير مستعد ؛ فهم يلقون بأنفسهم إلى التهلكة.
وقد تكفل الحق سبحانه بالرد عن المؤمنين، الذين أخذوا في أسباب النصر، وأعدوا العدة ثم توكلوا على الله. فقال سبحانه :
﴿ ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ﴾.
ومن يفوض أمره إلى الله، ويثق به ويلجأ إليه، مؤمنا صادقا عاملا، متيقنا بقدرة خالقه، وأن بيده الخلق والأمر ؛ فإن الله ينصره ويؤيده، وما النصر إلا من عند الله.
﴿ فإن الله عزيز حكيم ﴾.
أي : غالب على أمره حكيم في فعله.
وقد اقتضت سنته، أن ينصر الحق على الباطل، وأن يسلط القليل الضعيف على القوي الكثير.
ورغم أن الآية تشير إلى أحداث غزوة بدر ؛ فإنها عامة فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إنها تصف طبيعة بعض الناس في عصرنا وسائر العصور ؛ هؤلاء الذين يسخرون من أصحاب الدعوات المخلصة على قلتهم، وقلة ما يملكون من تراث الدنيا، ويقولون : غر هؤلاء دينهم وعقيدتهم.
وما عملوا أن هؤلاء الدعاة الهداة، يملكون شيئا قيما، هو صدق الإيمان، وسلامة النية، وإخلاص الدعوة، وحرارة العقيدة، وصدق التوكل على الله، بعد العمل والأمل، فالله لا يخذلهم بل يمدهم بنصره وعونه :﴿ ومن يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم ﴾.
من أسباب النزول :
روى عن مجاهد أنه قال في تفسير الآية ٤٩ من سورة الأنفال : هم فئة من قريش، قيس بن الوليد ابن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، ويعلى بن أمية، والعاص بن منبه، خرجوا مع قريش من مكة، وهم على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : غر هؤلاء دينهم ؛ حين أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم.
أي : ولو عاينت يا محمد حال الكفار حين تتوفاهم الملائكة ببدر وتنزع أرواحهم.
أو المعنى : ولو عاينت وشاهدت أيها العاقل، أو يا كل من تتأتى منه الرؤية، حال الكفار حين تتوفاهم الملائكة فينزعون أرواحهم من أجسادهم، ضاربين وجوههم وأقفيتهم وظهورهم بمقامع من حديد. قائلين لهم :﴿ ذوقوا عذاب النار ﴾.
وجواب لو محذوف دل عليه المذكور والتقدير : لعاينت أمرا عظيما، تقشعر من هوله الأبدان.
﴿ وذوقوا عذاب الحريق ﴾.
أي : يقولون لهم : ذوقوا عذاب اللهيب المحرق، والمراد بضرب وجوههم وأدبارهم : ضربهم من كل ناحية.
أي : هذا العذاب الذي ذقتموه بسبب ما كسبت أيديكم، من سيء الأعمال في حياتكم من كفر وظلم ؛ وهذا يشمل القول والعمل.
ونسب ذلك إلى الأيدي، وإن كان قد يقع من الأرجل وسائر الحواس ؛ أو بتدبير العقل ؛ من أجل أن العادة قد جرت، بأن أكثر الأعمال البدنية تزاول بالأيدي.
﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾.
لقد جازاكم الله عدلا لا ظلما ؛ لأن الله لا يظلم أحدا من خلقه، بل هو الحكم العدل الذي لا يجوز أبدا، قال تعالى :﴿ ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين ﴾. ( الأنبياء : ٤٧ ).
جاء في الحديث القدسي الصحيح، الذي رواه مسلم : عن أبي ذر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الله تعالى يقول : يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا... يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه " xlii.
ظالم وظلام
نجد أن قوله تعالى :﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾. قد جاء فيها التعبير بنفي الظلم عن الله بصيغة المبالغة ﴿ ظلام ﴾. وهل إذا انتفت المبالغة في الظلم، أينتفي معها الظلم نفسه ؟
والجواب – والله أعلم – أن صيغة المبالغة هنا، إنما تكشف عن وجه البلاء الذي وقع بالمشركين، وأنه بلاء عظيم، وعذاب أعظم، وأن الذي ينظر إليه يجد ألا جريمة توازي هذا العقاب ؛ وتتوازن معه في شدته، وشناعته، حتى ليخيل للناظر أن القوم قد ظلموا، وأنه قد بولغ في ظلمهم إلى أبعد حد، فجاء قوله تعالى :﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾. ليدفع هذا الوهم الذي يقع في نفس من يرى هذا البلاء الذي حل بهؤلاء القوم الضالين، وهو بلاء فوق بلاء، فوق بلاء ! ! xliii.
وجاء في تفسير القاسمي ما يأتي :
إن قيل : ما سر التعبير بقوله :﴿ ظلام ﴾. بالمبالغة مع أن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته، ونفي الكثرة لا ينفي أصله، بل ربما يشعر بوجوده، وبرجوع النفي للقيد ؟
وأجيب بأجوبة :
منها : أن ﴿ ظلاما ﴾. للنسب كعطار. أي : لا ينسب إليه الظلم أصلا.
ومنها : أن العذاب من العظم ؛ بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه ؛ فالمراد : تنزيه الله تعالى، وهو جدير بالمبالغةxliv.
المفردات :
كدأب : الدأب العادة التي يدأب عليها الإنسان ويعتادها.
التفسير :
٥٢ – ﴿ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾.
المناسبة :
ذكر القرآن هلاك المشركين في غزوة بدر، ثم بين أن سنة الله تعالى مستمرة ؛ فهو سبحانه ينعم على الناس بالنعم، ويمتن عليهم بالسمع والبصر ويسخر الليل والنهار، ويعطيهم الجاه والسلطان ؛ فإذا شكروا الله تعالى، واستخدموا النعمة في طاعته ؛ زادهم الله من فضله. وإذا كفروا وكذبوا، وعاندوا، أرسل الله عليهم نقمته، فقد أغرق قوم نوح بالطوفان، ودمدم الأرض وسواها على ثمود، وأهلك المكذبين بصنوف العذاب، كما أغرق فرعون وقومه في البحر.
وقد كان النيل نعمة من الله عليه. فاستخدمها في العدوان، وقال ﴿ يا قوم أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون * أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ﴾. ( الزخرف : ٥١، ٥٢ ).
فما أشقى هؤلاء الكفار قاطبة، وليتهم اعتبروا بالعبر والعظات، وبمن سبقهم في التاريخ.
المعنى :
إن هؤلاء الكفار في كفرهم، وعنادهم، ومقاومتهم لرسول الله ؛ أشبهوا قوم فرعون، والأمم التي كانت قبلهم الذين استحبوا العمي على الهدى، وسارعوا إلى المعصية وإنكار وجود الله ووحدانيته، وتكذيب الرسل ؛ فأخذهم الله بسبب ذنوبهم وكفرهم أخذا شديدا.
﴿ إن الله قوي ﴾. غالب لا يغلبه أحد.
﴿ شديد العقاب ﴾. لمن خرج عن طاعته، وأصر على كفره وعناده.
اقتضت سنته تعالى، ألا ينزع نعمة عن قوم إلا إذا كفروا وفجروا، وارتكبوا الذنوب والسيئات، ولم يقابلوا النعمة بالشكر والعرفان، بل قابلوها بالكفر والنكران، فاستحقوا عقاب الله العادل وحكمه ؛ جزاء كفرهم وعنادهم.
وشبيهه بهذه الآية قوله تعالى :
﴿ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له وما لهم من دونه من وال... ﴾( الرعد : ١١ ).
وفي هذه دلالة واضحة، على أن استحقاق النعم ؛ منوط بصلاح العقائد، وحسن الأعمال، ورفعة الأخلاق، وأن زوال النعم يكون بسبب الكفر والفساد وسوء الأخلاق.
﴿ وأن الله سميع عليم ﴾. بما نطق به الكافرون من سوء، ﴿ وعليم ﴾ بما ارتكبوه من قبائح ومنكرات، وقد عاقبهم على ذلك بما يستحقون من عذاب.
﴿ وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾. ( النحل : ٣٣ ).
من تفسير الرازي :
جاء في تفسير الفخر الرازي : قال القاضي : معنى الآية : أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع وتسهيل السبل، والمقصود : أن يشتغلوا بالعبادة والشكر، ويعدلوا عن الكفر، فإذا صرفوا هذه الأحوال إلى الفسق والكفر ؛ فقد غيروا نعمة الله تعالى على أنفسهم، فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم، والمنح بالمحن. وهذا من أوكد ما يدل على أنه تعالى، لا يبتدئ أحدا بالعذاب والمضرة... اه.
تؤكد هذه الآية، ما سبق في الآيتين السابقتين ؛ وهو التكرير لأهمية الموضوع، وبيان قاعدة أساسية إلهية، عادلة عمادها : أن نمو الأمم في قوة أخلاقها، وسلامة أفعالها. وأن هلاك الأمم يكون في كفرها بالنعم، وانشغالها بالشهوات والملذات، وإيثار العاجلة على الآجلة.
ومعنى الآية :
شأن هؤلاء المشركين الذين حاربوك يا محمد، كشأن آل فرعون ومن تقدمهم من الأقوام السابقة، كقوم نوح وقوم هود... كذب أولئك جميعا بآيات ربهم التي أوجدها لسعادتهم، فكان من نتيجة ذلك أن أهلكهم بذنوبهم التي من جملتها التكذيب، وأغرق الله آل فرعون، الذين زينوا له الكفر والبطر والطغيان، وأرسل الريح على عاد قوم هود، والصيحة على غيرهم.
﴿ وكل كانوا ظالمين ﴾.
أي : أن كلا من مشركي قريش، وآل فرعون والذين من قبلهم من المكذبين، كانوا ظالمين لأنفسهم بكفرهم وعنادهم، ولأنبيائهم بسبب محاربتهم وتكذيبهم ؛ فاستحقوا الهلاك والعذاب.
وفي سورة العنكبوت، استعرض القرآن الكريم أمم المكذبين من قوم لوط، وأصحاب مدين ثم قال سبحانه :
﴿ وعادا وثمودا وقد تبين لكم من مساكنهم وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل وكانوا مستبصرين * وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين * فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ﴾. ( العنكبوت : ٣٨ – ٤٠ ).
تكرير ذكر فرعون
تكرر ذكر فرعون في آيات متقاربة ؛ لأنه أكثر بغيا وظلما وعدوانا، وقد استخف قومه وطلب منهم طاعته، فأطاعوه نفاقا لا يقينا، ثم أغرق الله الجميع عقابا عادلا.
روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن أبي موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " xlv.
وقد ورد في السيرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جاءه خبر مقتل أبي جهل في بدر ؛ ذهب حتى وقف عليه ثم قال : هذا فرعون هذه الأمةxlvi.
وخلاصة القول :
إن ما دونه التاريخ من دأب الأمم وعادتها، في الكفر والتكذيب، والظلم في الأرض، ومن عقاب الله إياها. جار على سنته تعالى المطردة في الأمم، ولا يظلم ربك أحدا بسلب نعمة منهم، ولا بإيقاع أذى بهم، وإنما عقابه لهم أثر طبيعي ؛ لكفرهم وظلمهم لأنفسهم، وقد حكى سبحانه جانبا من عناد فرعون ثم قال سبحانه :
﴿ فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين * فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين * فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين ﴾. ( الزخرف : ٥٤ – ٥٦ ).
أي : أن الله جعل منهم عبرة ونموذجا لكل ظالم يأتي في الآخرين من بعدهم.
قال تعالى :﴿ ولا يظلم ربك أحدا ﴾. ( الكهف : ٤٩ ).
قال سبحانه :﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ﴾. ( يونس : ٤٤ ).
من حاشية الجمل
جاء في حاشية الجمل على تفسير الجمل ما يأتي :
فإن قلت : ما الفائدة من تكرير هذه الآية مرة ثانية ؟
قلت : فيها فوائد منها :
١ – أن الكلام الثاني يجري التفصيل للكلام الأول ؛ لأن في الآية الأولى ذكر : أخذهم، والثانية ذكر : إغراقهم فذلك تفسير للأول.
٢ – ومنها : أنه ذكر في الآية الأولى : أنهم كفروا بآيات الله، وفي الآية الثانية أنهم كذبوا بآيات ربهم، ففي الآية الأولى إشارة إلى أنهم كفروا بآيات الله وجحودها.
وفي الثانية إشارة إلى أنهم كذبوا بها مع جحودهم لها، وكفرهم بها.
٣ – ومنها : أن تكرير هذه القصة للتأكيد.
المفردات :
الدواب : جمع دابة وهي : كل ما يدب على وجه الأرض.
التفسير :
٥٥ – ﴿ نَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾.
نزلت هذه الآيات في جماعات اليهود الذين كانوا يقيمون في المدينة ويثيرون الفتن والقلاقل.
قال ابن عباس : هم بنو قريظة ؛ فإنهم نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعانوا عليه المشركين بالسلاح في يوم بدر، ثم قالوا أخطأنا ؛ فعاهدهم مرة أخرى فنقضوه يوم الخندقxlvii.
والمعنى :
إن شر جميع ما يدب على وجه الأرض ؛ هم الذين كفروا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصروا على الكفر ولجوا فيه ؛ فلم يفتحوا قلوبهم للإيمان، ولم يحركوا عقولهم للنظر.
﴿ فهم لا يؤمنون ﴾. فهم مستمرون على عدم إيمانهم ؛ مع قيام الحجة عليهم، وثبوت أوصاف النبي محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم، قال تعالى :﴿ إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ﴾. ( البقرة : ٦ ).
ينقضون عهدهم : أي : يفكونه، والمراد : انهم لا يوفون به.
٥٦ – ﴿ الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُون ﴾.
لقد تكرر منهم الغدر وعدم الوفاء، فهذا دأبهم وتلك طبيعتهم، نقض العهود والمواثيق في كل وقت، وهم مع ذلك لا يشعرون بالحرج أو الخجل، ولا يتقون الله، ولا يخشون عقابه لهم على نكثهم العهد، وما يجره ذلك من نكبات تحل بهم.
تثقفنهم : تلقاهم وتجدهم.
فشرد بهم من خلفهم : فافعل بهم فلا يخيف من وراءهم ويشردهم. والتشريد : التبديد والتفريق.
٥٧ – ﴿ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ﴾.
أي : إذا كان حالهم ما ذكر من نقض العهد، فإن ظفرت بهم في الحرب ؛ فافعل بهم فعلا قويا ناجحا ؛ لأنهم يستحقون القتل جزاء غدرهم ونقضهم للعهود، وإذا عاقبتهم عقوبة رادعة ؛ أدى ذلك إلى تفريق أعداء المسلمين، فإذا نكلت بمن خان العهد ؛ أدى ذلك إلى بث الرعب في قلوب الآخرين، الذين يتربصون لقتال المسلمين، ويفكرون في نقضهم عهودهم.
أي : لعل الأعداء من ورائهم، يتعظون بما فعلت مع هؤلاء من حرب ونكاية وتشريد، فيتخذون من ذلك العبرة ويحجمون عن نقض العهود ؛ مخافة أن يصنع بهم مثل ذلك.
قيل لعنترة : أنت أشجع العرب، قال : لا.
قيل : فبم شاع ذلك ؟
قال : كنت أقدم إذا رأيت الإقدام عزما، وأحجم إذا رأيت الإحجام حزما، وأعمد إلى الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة ؛ يطير لها قلب الشجاع ثم أثنى عليه فأقتله.
تخافن من قوم خيانة : أي : تتوقع من قوم خيانة بنقض العهد ونكثه.
فانبذ إليهم على سواء : فاطرح إليهم عهدهم على طريق سوى من العدل بأن تخبرهم بذلك.
٥٨ – ﴿ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ ﴾.
أي : إن توقعت من قوم معاهدين الخيانة، وغلب ذلك على ظنك، بأمارات غالبة، بنقض العهد الذي بينك وبينهم.
﴿ فانبذ إليهم على سواء ﴾.
فاطرح إليهم عهدهم، وأعلمهم بذلك وأنه لا عهد بعد اليوم، ولتكن أنت وهم في ذلك العلم وطرح العهد على سواء، فتكون أنت وهم متساوين في العلم بنقض العهد، وبأنك حرب لهم، وهم حرب لك.
أي : قيام حالة الحرب ؛ لئلا يتهموك بالغدر إن أخذتهم بغتة. والنبذ لغة : الرمي والرفض، والسواء : المساواة والاعتدال.
﴿ إن الله لا يحب الخائنين ﴾.
إن الله يكره الخيانة، ويعاقب عليها، حتى ولو حتى ولو في حق الكفار، فلا يك منك إخفاء نكث العهد.
من تفسير ابن كثير
أورد الإمام ابن كثير طائفة من الأحاديث النبوية، تحث على الوفاء وتحرم الغدر، وتدعو إلى أداء الأمانة إلى أهلها ؛ سواء أكان صاحبها مسلما أم كافرا.
قال الإمام أحمد : عن شعبة عن سليم بن عامر قال : كان معاوية يسير في أرض الروم، وكان بينه وبينهم أمد، فأراد أن يدنو منهم، فإذا انقضى المد غزاهم، فإذا غزاهم، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر، الله أكبر، وفاء لا غدرا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من كان بينه وبين قوم عهدا فلا يحلن عقدة ولا يشدها، حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء، مبلغ ذلك معاوية فرجع، فإذا بالشيخ عمرو بن عبسة رضي الله عنهxlviii.
وروى البيهقي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
" ثلاثة : المسلم والكافر فيهن سواء :
من عاهدته فوفّ بعهده مسلما كان أو كافرا ؛ فإنما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها، مسلما كان أو كافرا، ومن ائتمنك على أمانة فأدها إليه، مسلما كان أو كافرا " xlix.
سبقوا : فاتوا وأفلتوا من عقابنا.
لا يعجزون : لا يفوتون ولا يفلتون من عقاب لله بل هو قادر عليهم.
٥٩ – ﴿ وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ ﴾.
هذه الآية إنذار للخائنين بما يحل بهم من عقاب، وتحذير للمشركين، الذين أفلتوا من القتل يوم بدر وغيره.
والمعنى :
لا يظنن الذين كفروا، أنهم أفلتوا من الظفر بهم، ونجوا من عاقبة خيانتهم، وأنهم فاتونا فلا نقدر عليهم، وأنهم سبقوا عقاب الله وأفلتوا منه ؛ بل هم تحت قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا.
فلا يعجزوننا في الدنيا ولا في الآخرة.
فلهم في الدنيا الهزيمة والقتل والأسر، ولهم في الآخرة عذاب الجحيم.
قال تعالى :﴿ لا تحسبن الذي كفروا معجزين في الأرض ومأواهم النار ولبئس المصير ﴾. ( النور : ٥٧ ).
وقال تعالى مخاطبا للمشركين :﴿ واعلموا أنكم غير معجزي الله وأن الله مخزي الكافرين ﴾. ( التوبة : ٢ ).
وفي هذه الآية بشرى للنبي صلى الله عليه وسلم بما يطمئن قلبه على مستقبل الدعوة الإسلامية، وأنها على نصر، وأن أعداءه إلى هزيمة.
من قوة : من كل ما يتقوى به في الحرب.
رباط الخيل : المكان الذي ترابط فيه الخيل المعدة للقتال.
ترهبون : تخوفون.
لا تعلمونهم : لا تعرفونهم بأعيانهم أو لا تعلمونهم كما هم عليه من العداوة.
٦٠ – ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة... ﴾ الآية.
انتصر المسلمون في غزوة بدر بفضل الله وعونه، وأراد القرآن أن ينبه المسلمين، على وجوب إعداد القوة الحربية والمادية والأدبية والنفسية والمعنوية، وكل وسائل القوة يجب إعدادها وتجهيزها ؛ فلا شيء يمنع الحرب مثل الإعداد لها.
والمعنى :
هيئوا لقتال الأعداء، وما أمكنكم من أنواع القوى المادية والمعنوية، من كل ما يتقوى به عليهم في الحرب ؛ من حصون وقلاع وسلاح.
ويشمل ذلك وسائل القوة الحديثة كالمدافع والبوارج، والدبابات، والمصفحات، والمدرعات، ودراسة الفنون الحربية الحديثة التي تساعد على توجيه الأسلحة، وإحكام تصويب القتال والرمي، فإن النصر متوقف على استخدام القوة المتاحة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
﴿ ومن رباط الخيل ﴾.
﴿ رباط الخيل ﴾ : هو المكان الذي تربط فيه الخيل عند الحدود، ليحرس فرسانه الثغور، ويراقبوا العدو، وقد كانت الخيول أداة الحرب البرية الرهيبة في الماضي، وما تزال لها أهميتها أحيانا في الحاضر، مثل نقل بعض المؤن و الذخيرة في الطرق الجبلية. وإن كان الدور الحاسم اليوم هو لسلاح الطيران، والمدافع، والدبابات، والغواصات البحرية، المزودة بوسائل التقنية الحديثة، المساعدة على إحكام الرمي وإصابة الهدف.
ومن الحديث الشريف : " ألا إن القوة الرمي " l.
وقد كان الرمي وسيلة لإصابة أهداف العدو من بعيد ؛ فكل ما يحقق النصر يجب اتخاذه من عدد الحرب ؛ لأن المهم تحقيق الأهداف، وأما الوسائل والآلات ؛ فهي التي يجب إعدادها بحسب متطلبات العصر، ويكون المقصود إعداد جيش دائم، مستعد للدفاع عن البلاد، مزود بأحدث الأسلحة وأقدرها على إحراز النصر. مع التدريب المستمر، وإنفاق المال على تسليح الجيش ؛ بحسب الطاقة.
وقد خص الله الخيل بالذكر، وإن كانت داخلة في القوة ؛ تشريفا لها وتكريما، واعتدادا بأهميتها.
كما ذكر جبريل وميكائيل مع الملائكة تشريفا لهما.
﴿ ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ﴾.
تبين الآية هنا سبب الإعداد وحكمته وهو إرهاب عدو الله وعدو المسلمين، من الكفار الذين ظهرت عداوتهم. مثل مشركي مكة في الماضي، وإرهاب العدو الخفي الموالي لهؤلاء الأعداء، سواء أكان معلوما لنا أم معلوم بل الله يعلمهم ؛ لأنه علام الغيوب، وهذا يشمل اليهود والنافقين في الماضي، ومن تظهر عداوتهم مثل فارس والروم، وسلالتهم ف دول العالم المعاصر.
وقد رجح ابن جرير الطبري أن المراد بقوله تعالى :﴿ لا تعلمونهم الله يعلمهم ﴾. كفار الجن أي : ترهبون بني آدم وترهبون جنسا آخر من غير بني آدم لا ترونهم ولا تعلمونهم ولكن الله يعلمهم، ورجح الفخر الرازي أن المراد بهم : المنافقون ؛ فعداوتهم للمؤمنين قد تكون خفية ؛ وهم يتربصون بهم الدوائر ؛ فإذا لاحظوا ضعفا منهم تحرشوا بهم، ولا شك أن العدو المجاهر والمستخفي إذا عرف قوة استعدادنا الحربي ؛ منعه ذلك من التحرش بنا، أو التفكير في أن يجرب حظه معنا.
﴿ وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون ﴾.
تأتي هذه الفقرة في أعقاب الحث على الإعداد ؛ لبيان أن الإعداد الملائم للحرب يحتاج إلى المال، والإنفاق منه في سبيل الله، فبينت الآية : أن أي شيء تقدمونه من مال قل أو كثر، في إعداد الجيوش أو رعاية المحاربين وأسرهم بما يحتاجون إليه ؛ فإن الله يوفى أجره كاملا للمنافقين، ويجازيهم عليه على أتم وجه، ولا ينقصون شيئا من ثواب أعمالهم، مهما قلت أو كثرت.
من هدى السنة النبوية
روى البخاري : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" من جهز فقد غزا، ومن خلف غازيا في أهله بخير فقد غزا " li.
وجاء في رياض الصالحين للإمام النووي عن أبي داود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيل الله إلى سبعمائة ضعف ".
قال تعالى :
﴿ مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ﴾. ( البقرة : ٢٦١ ).
مما يتعلق بالآية
١ – لا يزال الإعداد المادي والمعنوي، وتجهيز الجيوش الضاربة المقاتلة ؛ هدف كل أمة في القديم والحديث.
٢ – سبق القرآن على دعوة المسلمين وتوجيههم إلى إعداد القوة المادية والمعنوية، وسائر وسائل الحرب الحديثة ؛ حتى يكونوا أعزة أقوياء، وقد تمسك المسلمون الأولون بذلك ؛ فتقدموا وانتصروا، ودالت لهم دول الأكاسرة والقياصرة.
٣ – إن وضع المسلمين الآن لا يسر الصديق، ولا يكيد العدو ؛ فبلاد المسلمين تتخطف من حولهم، ويطمع فيها الأعداء، والمسلمون متقاعسون عن الجهاد وعن الإنفاق في سبيل الله.
٤ – يجب أن تعود معامل الأسلحة وصيانتها إلى بلاد المسلمين، وأن نعمل بقوله الله تعالى ؛ فنعد العدة التي أمر الله بإعدادها، ونتلافى ما فرطنا، ونأخذ بأسباب الوحدة والقوة.
٥ – المقصود من إعداد العدة : إرهاب الأعداء ؛ حتى لا يكفروا في الاعتداء على المسلمين، وحتى يعيش المسلمون في ديارهم آمنين مطمئنين.
وليس المقصود من إعداد العدة إرهاب المسلمين، أو العدوان على الآمنين، أو قهر الناس واستغلالهم.
قال تعالى :﴿ ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم ﴾.
٦ – ينبغي أن نعود إلى هدى القرآن الكريم، والسنة المطهرة، وسيرة السلف الصالح، وأن نهجر الهوى والترف، وأن نبني الأفراد والأسر والمجتمعات بالخلق السليم، والتربية الصالحة، والمحضن الصالح، والمجتمع المتميز، والجيش القوي.
قال تعالى :﴿ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا ﴾. ( الكهف : ٣٠ ).
المفردات :
جنحوا للسلم : مالوا إلى المسالمة الصلح.
فاجنح لها : فمل إليها.
التفسير :
٦١ – ﴿ وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾.
بعد ما أمر الله تعالى بالاستعداد للحرب. ولا يمنع الحرب مثل الاستعداد لها – ذكر هنا حكم ما إذا طلب الأعداء الصلح، ومالوا إلى السلم.
قال الزمخشري : السلم تؤنث تأنيث نقيضها وهي الحرب.
قال العباس بن مرداس :
السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك في أنفاسها جرع
فالآيات مرتبطة بالآيات السابقة.
والمعنى : عليك أيها الرسول الكريم، أن تنكل في الحرب بأولئك الكافرين ؛ المناقضين لعهودهم في كل مرة، وأن تهيئ لهم ما استطعت من قوة لإرهابهم.
فإن مالوا بعد ذلك إلى المسالمة والمصالحة، وطلبوا عقد الهدنة ؛ فأعطهم ما طلبوا، وعاهدهم على السلام والمصالحة، وتوكل على الله، وفوض أمرك إليه ؛ فهو وحده الذي يستطيع أن ينصرك، ويحفظك من خيانتهم، على أن يقترن ذلك بالحذر منهم.
﴿ إنه هو السميع ﴾. لأقوالهم ﴿ العليم ﴾. بأفعالهم ؛ فيؤاخذهم بما يستحقون ويرد كيدهم في نحرهم.
قال الزمخشري في تفسير الكشاف :
والأمر في الآية موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله، من حرب أو صلح، وليس بختم أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا.
وهذه الآية أصل عظيم من أصول الإسلام، فهو دين سلام لا حرب.
فالله اسمه السلام، والجنة اسمها دار السلام، والقرآن نزل في موكب من السلام، والمؤمن بعد الصلاة يبدأ الدنيا كلها بالسلام، والمسلم لا يرفض دعوة السلام وقد حارب المسلمون مضطرين ؛ لردع العدوان، ولتمكين الضعفاء والنساء واليتامى والصغار من حرية الاختيار، ولإزالة طواغيت الكفر والشرك.
قال تعالى :﴿ ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل ﴾. ( الشورى : ٤١ ).
وقال سبحانه :﴿ أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير * الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله.... ﴾( الحج : ٣٩، ٤٠ ).
يخدعونك : يظهروا لك السلم ويبطنوا الغدر والخيانة.
حسبك الله : كافيك الله.
أيدك : قواك.
٦٢ – ﴿ وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ... ﴾الآية.
أي : وإن يريدوا بالصلح خديعة ليتقوا ويستعدوا، فالله يكفيك أمرهم، وينصرك عليهم، فهو كافيك وحده، وعاصمك من مكرهم وخديعتهم، ومن تولى الله كفايته وحفظه ؛ لا يضره شيء.
﴿ هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ﴾.
هو الذي أنزل عليك نصره في بدر بدون إعداد العدة الكافية، وأيدك بالمؤمنين من الأنصار والمهاجرين ونفذ ما قضى وحققه.
والتأييد ليس إلا من الله لكنه على قسمين :
أحدهما : ما يحصل من غير واسطة أسباب معلومة معتادة. والثاني : ما يحصل بواسطة أسباب معلومة.
فالأول : هو المراد من قوله :﴿ أيدك بنصره ﴾.
والثاني : هو المراد من قوله :﴿ وبالمؤمنين ﴾lii.
وهذه الآيات دليل واضح على جنوح الإسلام إلى السلم ؛ ما دام فيه مصلحة الإسلام وأهله ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين ؛ أجابهم إلى ذلك، مع ما اشترطوا من شروط مجحفة في حق المسلمين.
هل هذه الآية منسوخة
زعم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة ؛ آية السيف في براءة :{ قالوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر. ( التوبة : ٢٩ ).
وقد ذكر الإمام الزركشي في كتابه : " البرهان في علوم القرآن " نقلا عن الشاطبي في الموافقات :
أن هذا ليس نسخا ولكنه تدرج في التشريع ؛ فحينما كان المسلمون ضعافا ؛ أمروا بالجنوح إلى الصلح والسلام.
ولما كانوا أقوياء قادرين ؛ أمروا بالقتال وإخراج المشركين من جزيرة العرب.
وجاء في تفسير ابن كثير ما يأتي :
قال ابن عباس، ومجاهد، وزيد بن أسلم، وعطاء الخراساني، وعكرمة، والحسن، وقتادة : إن هذه الآية منسوخة، بآية السيف في براءة.
وفيه نظر أيضا ؛ لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك.
فأما إذا كان العدو كثيفا ؛ فإنه يجوز مهادنتهم، كما دلت عليه الآية الكريمة :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها... ﴾.
وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية. فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص.
وإذا تأملت الآية، وجدتها تقرر مبدأ عاما في معاملة الأعداء ؛ هو أنه من الجائز مهادنتهم ومسالمتهم ؛ ما دام ذلك في مصلحة المسلمين.
فالحاكم المسلم له بصيرته وحسن تقديره للأمور، وله مشورته للمسلمين، واختيار الأصلح والأنسب ؛ فله أن يختار الحرب، وله أن يختار المفاوضة والصلح ؛ والحكمة ضالة المؤمن، والحكمة : هي حسن التأني للأمور، ووضع الأمور في نصابها، واختيار الأنسب والأوفق والأولى.
قال تعالى :﴿ يؤتى الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب ﴾. ( البقرة : ٢٦٩ ).
ألف بين قلوبهم : جمع بين قلوب الأوس والخزرج.
٦٣ – ﴿ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
تستمر هذه الآيات في تشجيع الرسول صلى الله عليه وسلم، على السير في طريق الصلح، ما دام فيه مصلحة للإسلام والمسلمين، وتبشره بأن الله سينصره وسيكفيه أمر الأعداء، حتى لو أرادوا المخادعة والمراوغة، وتضرب لذلك مثالا عمليا شاخصا للعيان.
فهؤلاء الأوس والخزرج كانوا في الجاهلية أبناء عمومة، وكانت بينهم حروب لا تهدأ، وثارات لم تنطفئ، ولم يجتمعوا تحت راية، حتى جاء الإسلام، ودخل فيه من الأوس ومن الخزرج ؛ وتحولت البغضاء والإحن، والأحقاد والعداوة، إلى حب عظيم في الله وفي دينه، وفي رسوله وفي كتابه، وألف الله بين قلوبهم، بقدرته ورحمته، فقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء ؛ فالحب والهداية والإيمان كلها من خلق الله، وذلك لأن الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بفضل الله ومتابعة الرسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ﴾.
أي : لو جمعت ما في الأرض من ذهب وفضة، وأنفقته لتقضي على ما كان بينهم من التنازع والتخاصم والفرقة، وتزرع بدلا منه المودة والألفة والرحمة ؛ ما استطعت إلى ذلك سبيلا بوسائلك المادية ؛ ولكن الله تعالى، أماط عنهم البغضاء والشحناء، وزرع مكان ذلك الحب والمودة والإيثار ؛ لأنه سبحانه هو مقلب القلوب وولى تصريفها.
وكان من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم : " اللهم يا مقلب القلوب والأبصار، ثبت قلبي على دينك ".
فقالت عائشة : يا رسول الله، أراك تكثر من هذا الدعاء. فقال صلى الله عليه وسلم : " يا عائشة، إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء " liii.
ومن الدعاء المأثور : " اللهم آت نفسي تقواها وزكاها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها " liv.
﴿ إنه عزيز حكيم ﴾.
إنه سبحانه غالب على أمره، لا يعجزه أمر أراده حكيم، لا يخرج شيء عن حكمته.
وقد ذكر الزمخشري في تفسير الكشاف كلاما نفيسا في وصف حالة العرب في الجاهلية، وما كانوا فيه من الحمية والعصبية، ثم بيان أثر هداية الإسلام في وحدتهم وألفتهم وتعاونهم. اه.
وفي الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين ؛ قال لهم : يا معشر الأنصار، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ؟ وعالة فأغناكم الله بي ؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ؟ ! فقالت الأنصار : نعم يا رسول الله، ولله ولرسوله الفضل والمنةlv.
وذكر الحافظ أبو بكر البيهقي عن ابن عباس قال : " قرابة الرحم تقطع، ومنه النعمة تكفر، ولم ير مثل تقارب القلوب " : يقول الله تعالى :﴿ لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ﴾.
التفسير :
٦٤ – ﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾.
أي : كافيك الله تعالى.
فالله تعالى وحده كافيك، وكافي أتباعك فلا يحتاجون معه إلى أحد.
وهذه الآية لون من ألوان التكريم الإلهي، لهذا النبي ولهؤلاء الرجال الكرام، الذين آووه ونصروه، يكفي أن يكون الله العلي القدير، هو وليه وناصرهم وكافيهم، ومتولّى الدفاع عنهم ؛ إن هذه الآية حصن أمان لهذا النبي ولمن اتبعه من المؤمنين.
ونظير هذا قوله تعالى :﴿ أليس الله بكاف عبده ﴾. ( الزمر : ٣٦ ).
وقوله سبحانه :﴿ فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب ﴾. ( الشرح : ٧، ٨ ).
وقوله عز شأنه :{ ولو أنهم رضوا ما آتاهم ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتنا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون. ( التوبة : ٥٩ ).
والآية لون أيضا من ألوان صدق العقيدة، وإخلاص التوحيد ؛ فمن كان الله كافيك وحافظه ؛ فهو في حصن مشيد، وأمن سعيد.
وفي تفسير القاسمي، شرح طويل لهذه الآية.
فقد نقل عن العلامة ابن القيم في زاد المعاد وجوه إعراب الآية.
وخلاصة ذلك ما يأتي :
١ – الواو عاطفة ل من على الكاف المجرورة.
والمعنى : كافيك الله، ومن معك من المؤمنين في تحقيق النصر، أي : أن الله يكفيك وينصرك، وينصر من معط من المؤمنين.
٢- من في موضع رفع عطف على اسم الله، ويكون المعنى : حسبك الله، وأتباعك.
وابن القيم يرفض هذا المعنى الثاني ؛ لأن الحسب والكفاية لله وحده ؛ كالتوكل والتقوى والعبادة.
قال الله تعالى :﴿ وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ﴾. ( الأنفال : ٦٢ ).
ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده وجعل التأييد له بنصره وبعباده. انتهى.
قال الخفاجىّ( في العناية ) : وتضعيفه الرفع لا وجه له، فإن الفراء والكسائي رجحاه، وما قبله وما بعده يؤيده.
وترى فيما سبق اتجاهين للعلماء.
الاتجاه الأول :
لابن القيم وغيره من المفسرين يرون أن الله وحده هو حسب النبي وكافيه، وقدرته لا مرد لها.
وذهبوا إلى إضافة المؤمنين إلى النبي ؛ فهي معطوف على كاف الخطاب.
بمعنى : يا أيها النبي حسبك الله، وحسب المؤمنين.
أي : يكفي أن يكون الله ناصرا لك وللمؤمنين.
الاتجاه الثاني :
للفراء الكسائي والخفاجي وغيرهم يقولون : عطف المؤمنين على لفظ الجلالة ليس ضعيفا بل قويا ؛ ونرى أن معنى الآية مرتبط بما قبلها وما بعدها ؛ وسياق الكلام يرجح أن جملة ﴿ ومن اتبعك من المؤمنين ﴾. في موضع رفع، وهي معطوفة على اسم الله. وهذا الاتجاه يؤيده قوله تعالى :﴿ هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ﴾. ، ويضيف إلى المؤمنين شرفا وتكريما، فهم جند الله ورجاله، الذي أيد بهم الرسول صلى الله عليه وسلم والآية التالية بتحريض المؤمنين على القتال، بحيث إن المؤمن لا يجوز أن يفر من عشرة أفراد.
هو نوع لاحق من تشريف المؤمنين ورفع أقدارهم، وأنهم بما في قلوبهم من إيمان ؛ في منزلة لا ينالها الكافرون والمشركونlvi.
حرض المؤمنين : حثهم وحضهم.
لا يفقهون : لا يدركون ولا يفهمون.
٦٥ – ﴿ يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال... ﴾ الآية.
يا أيها النبي، رغب المؤمنين في القتال، وبين لهم فضله وأجره ومنزلته، وثواب الشهداء عند الله تعالى.
وقد كان القرآن حافلا بالحث على الجهاد وبيان فضله، وكان المسلمون يقرءون سورة الأنفال عند الغزو، أو كان أحدهم يقرؤها بصوت مرتفع، تحريضا وتشجيعا، وبثا لروح الحمية والدفاع.
كما حفلت السنة المطهرة، ببيان ثواب الشهداء وفضل الجهاد والمجاهدين.
كما حفلت السنة المطهرة، ببيان ثواب الشهداء وفضل الجهاد والمجاهدين.
وفي الحديث الشريف : " لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولقاب قوس أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها " lvii.
وروى البخاري في صحيحه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية، ولو رددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل " lviii.
وفي صحيح مسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرض أصحابه عند صفهم للقتال، ومواجهة العدو، كما قال لهم يوم بدر ؛ حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم : " قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض " فقال عمير بن الحمام : عرضها السماوات والأرض، بخ بخ ! ! ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنهlix.
﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ﴾.
أي : إن يكن منكم عشرون، صابرون، محتسبون أجرهم عند الله ؛ يغلبوا مائتين.
وليس المراد منه الإخبار، بل المراد الأمر : كأنه قال : فليصبروا وليجتهدوا، وليثبتوا في مواقعهم. فهم بصبرهم، وفقههم وإيمانهم، ومعرفتهم بأسرار الحرب، وأهدافها وغاياتها، والإخلاص فيها ؛ ألأهل لأن يغلبوا مائتين.
﴿ وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ﴾. وترى أن القرآن اشترط الصبر، وهو الثبات وتحمل المشاق، والالتجاء إلى الله، وإخلاص النية، وتصحيح العقيدة.
﴿ ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ﴾.
" أي : بسبب أنهم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر، لا يقاتلون احتسابا وامتثالا لأمر الله تعالى، وإعلاء لكلمته، وابتغاء لرضوانه، كما يفعله المؤمنون.
وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية، اتباع خطوات الشيطان، وإثارة ثائرة البغي والعدوان ؛ فلا يستحقون إلا القهر والخذلان " lx.
أي : الآن خفف الله عنكم إيجاب ثبات الواحد لعشرة، وقد علم أن فيكم ضعفا في أبدانكم أو كثرة أعبائكم ؛ أو دخول جموع من الأعراب ؛ والأتباع الذين أسلموا تبعا لقادتهم، ولم يستقر الإيمان كاملا في قلوبهم ؛ فاستوجب ذلك التخفيف من الله العليم القدير.
﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة ﴾. عند اللقاء ثابتة في محاربة الأعداء، مطمئنة إلى نصر الله للصابرين ؛ فإنهم يغلبوا مائتين. من الأعداء.
﴿ وإن يكن منكم ألف ﴾. صابرون ﴿ يغلبوا ألفين ﴾. بالنصر والمعونة الإلهية ﴿ بإذن الله ﴾. وقوته وقدرته، ﴿ والله مع الصابرين ﴾. بتأييده ورعايته ونصره.
وفيه تنبيه على أسباب النصر، ومنها : الصبر والثبات، والإعداد المادي والنفسي، والمعرفة بحقائق الأمور ومقاصد الجهاد، ومصاولة اليأس، ومقاومة الشائعات والأراصف، والبعد عن أسباب الخلاف والفرقة، وطاعة الرحمان.
القول بالنسخ
ذهب بعض المفسرين إلى أن الآية ٦٦ ناسخة للآية السابقة عليها، واستشهدوا بما رواه البخاري عن ابن عباس قال : لما نزلت :﴿ إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين ﴾. شق ذلك على المسلمين، حين فرض عليهم ألا يفر الواحد من عشرة.
فجاء التخفيف فقال :﴿ الآن خفف الله عنكم.... ﴾
وقال الجصاص في أحكام القرآن :
لا محالة قد وقع النسخ عن المسلمين فيما كلفوا به أولا، ولم يكن أولئك القوم قد نقصت بصائرهم، ولا قل صبرهم، إنما خالطهم قوم لم يكن لهم مثل بصائرهم ونياتهم، وهم المعنيون بقوله تعالى :﴿ وعلم أن فيكم ضعفا ﴾.
وذهب آخرون إلى أنه لا نسخ بين الآيتين : " فإن القول بالنسخ يقتضي أن يكون بين الآيتين – الناسخة والمنسوخة – مسافة زمنية، بحيث يكون لتغير الحكم ونسخه بحكم آخر مقتضى اقتضاه تغير الحال بامتداد الزمن، وليس هناك دليل على أن فارقا زمنا وقع بين نزول الآيتين... بل ظاهر الآيتين ينبئ عن أنهما نزلتا معا في وقت واحد، وقد قيل : إنهما نزلتا في غزوة بدر، وقيل : قبل بدء القتال " lxi.
وقد ذهب الأستاذ على حسب الله في كتابه أصول التشريع الإسلامي إلى أنه لا نسخ بين الآيتين.
فالآية الأولى تمهيد للآية الثانية ؛ حتى يتحمل المسلمون الثبات أمام ضعف عددهم بنفس ثابتة مطمئنة.
وذلك كما يقول الأستاذ لتلميذه : أنا أعرف أنك ذكي مجتهد تستطيع أن تقرأ مائة صفحة من هذا الكتاب، ومع ذلك فإني أطلب منك أن تقرأ عشرين صفحة بصبر وتفهم ووعي.
واختار الشيخ حسنين محمد مخلوف في كتابه : " صفوة البيان لمعاني القرآن ".
أن الآية الثانية رخصة كالفطر للمسافر ؛ فإذا كان المسلمون في شدة وحرج وخطر، واقتضى الأمر ثبات لعشرة ؛ وجب أن يثبتوا.
وإذا كانوا في سعة ويسر ؛ جاء التخفيف، وفرض على الواحد الثبات للاثنين من الكفار، ورخص له في الفرار ؛ إذا كان العدو أكثر من اثنين.
والجمهور على أن الآية الثانية ناسخة للأولى.
ويرى بعض العلماء أنه يمكن العمل بالآيتين، فالآية الأولى عند القوة والحاجة، والآية الثانية عند السعة واليسر.
يقول الأستاذ عبد الكريم الخطيب :
" وقد فعل المسلمون هذا فعلا، في سيرتهم مع الإسلام، وفي انتصارهم على أعداء تكثرهم أكثر من عشرة أضعاف. فإن كنت في شك من هذا فاسأل التاريخ... بكم من المسلمين فتح خالد بن الوليد مملكة فارس ؟ ! وبكم من المسلمين فتح أبو عبيدة بن الجراح بلاد الروم ؟ !
وكم كانت أعداء المسلمين الذين فتح بهم عمرو بن العاص مصر ؟ ! وبكم من المسلمين اقتحم طارق ابن زياد بلاد الأندلس، واستولى على زمام الأمر فيها ؟ !
وجواب التاريخ هنا شهادة قاطعة : بأن المسلم إذا استنجد بإيمانه بالله ؛ كان وحده كتيبة تغلب العشرات، لا العشرة من جند العدو " lxii.
من تفسير المنار
يقول السيد رشيد رضا في تفسير المنار :
" والآية تدل على أن من شأن المؤمنين، أن يكونوا أعلم من الكافرين، وأفقه منهم بكل علم وفن يتعلق بحياة البشر، وارتقاء الأمم، وأن حرمان الكفار من هذا العلم ؛ هو السبب في كون المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين.
وهكذا كان المؤمنون من قرونهم الأولى... أما الآن، فقد أصبح المسلمون غافلين عن هذه المعاني الجليلة ؛ فزال مجدهم ! "
المفردات :
أسرى : جمع أسير وهو من يؤخذ في الحرب حيا، وتشد يده بالإسار وهو القيد.
يثخن في الأرض : أي يبالغ فيه بالقتل والجرح ؛ حتى تظهر شوكة المسلمين وقوتهم.
عرض الدنيا : حطامها – سمى عرضا ؛ لسرعة زواله.
التفسير :
٦٧ –﴿ مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾.
سبب النزول :
روى أن النبي صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه فيما يعمله في أسرى بدر فأشار أبو بكر بالفدية وقال : هم قومك وأهلك ؛ استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك، واستشار عمر فأشار بالقتل قائلا : اضرب أعناقهم ؛ فإنهم أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء، مكن عليا من عقيل، وحمزة من العباس، ومكنى من فلان نسيب له فلنضرب أعناقهم، وقد مال الرسول صلى الله عليه وسلم إلى رأي أبي بكر فنزلت الآية وقد ختم الله سياق الكلام في القتال بذكر حكم يتعلق بالأسرى.
تمهيد :
الأسير : عدو من الكفار وقع في يد المسلمين، والحكم فيه أن الإمام يتصرف فيه تبعا للمصلحة العامة فيعرض عليه الإسلام فإن أسلم فبها، وإلا قتله الإمام أو قبل الفداء منه، أو استرقه، أو من عليه بدون فداء. هذا إذا كان للأمة الإسلامية دولة وصولة أما في مبدإ الأمر، كما هنا عند قيام الدولة بالرأي ألا يبقوا على الأسرى ولا يحملوهم معهم بل يقتلوهم قتلا ؛ إذ هم عالة عليهم وضغث على إبالة، وإن بقي الأسير ربما تظاهر بالإسلام وكان جاسوسا على المسلمين وفي هذا المعنى كانت الآية الكريمة.
المعنى :
﴿ ما كان لنبي ﴾ أي : ما صح له وما استقام أبدا أي : لا ينبغي أن يكون له أسرى ثم يبقى عليهم، ويقبل الفدية ؛ فإن في هذا خطرا على الدولة، وما كان له ذلك حتى يكثر القتل في الكفار ويبالغ فيه ؛ إذ في هذا إعزاز المسلمين، وإضعاف للكفار وكسر لشوكتهم، أتريدون بقبول الفداء والإبقاء عليهم عرضا من أعراض الدنيا وحطامها الزائل : والله يريد لكم ثواب الآخرة، أو يريد إعزاز دينه، والقضاء على أعدائه، وهذا سبب الوصول على ثواب الآخرة، والله عزيز يعز أولياءه، ﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾. ( المنافقون : ٨ )، حكيم في أفعاله وأعماله فامتثلوا أمره ؛ فهو يهديكم إلى سبيل الرشاد والخير.
لمسكم فما أخذتم : أي : لأصابكم بسبب ما أخذتموه من الفدية.
٦٨ – ﴿ لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾.
أي : لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح المحفوظ، وهو ألا يعاقب المخطئ في اجتهاده ؛ لأن المسلمين والنبي الأمين قد اجتهدوا ورجحوا قبول الفداء على القتل ؛ وخفي عليهم أن قتلهم أعز للإسلام، وأهيب لمن وراءهم، وأضعف لشوكتهم.
وقيل : إن الحكم الذي سبق هو ألا يعذب أهل بدر ؛ فهم مغفور لهم.
أو ألا يعذب قوما إلا بعد تأكيد الحجة والبيان، والتصريح المتقدم بالنهي عن الفداء، ولم يكن قد تقدم نهي عن ذلك.
والمعنى :
لولا هذا الحكم الإلهي السابق إبرامه – لولا هذا لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم وقعه، شديد هوله، وفي هذا تهويل لخطر ما فعلوا.
روى : أنهم أمسكوا عن الغنائم، ولم يمدوا أيديهم إليها، حتى نزلت هذه الآية.
أي : أبحت لكم الغنائم :﴿ فكلوا مما غنمتم ﴾ من الفدية، حال كونه ﴿ حلالا ﴾ لكم، ﴿ طيبا ﴾، أي : لذيذا هنيئا ؛ لا شبهة في أكله لا ضرر.
﴿ واتقوا الله ﴾. في كل أحوالكم بأن تخشوه وتراقبوه.
﴿ إن الله غفور رحيم ﴾. فقد غفر لكم ما أخذتم من الفداء ؛ فسبحانه من إله واسع الرحمة والمغفرة لمن اتقاه ؛ وتاب إليه توبة صادقة.
روى : أنه كان من بين الأسرى العباس بن عبد المطلب وقد كلفه النبي أن يفدي ابن أخيه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث فقال : يا محمد، تركتني أتكفف قريشا ما بقيت فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة ؟ " وكان هذا إخبارا بالغيب حيث لم يكن يعلم بهذا إلا الله فقال العباس : والله ما كان عندي ريب قبل هذا ولكن الآن لا ريب، وفي رواية : قال العباس : فأبدلني الله خيرا مما أخذ مني.
والمعنى :
يا أيها النبي، قل لمن في ملككم من الأسرى : إن يعلم الله في قلوبكم إخلاصا وحسن نية ؛ يؤتكم خيرا مما أخذ منكم في الفداء، ويغفر لكم والله غفور، ستار للذنوب. وقيل : المراد من الآية : أن يعرض النبي على الأسرى الإسلام ويمينهم بالخير والمغفرة.
خيانتك : أي : الغدر بك بنقض العهد.
فأمكن منهم : فأقدرك عليهم قتلا وأسرا.
٧١ – ﴿ وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾.
المعنى :
وإن يريدوا خيانتك، ونقض عهدك ؛ فاعلم أنهم قد خانوا الله من قبل ذلك ؛ بنقضهم الميثاق المأخوذ على الناس جميعا ألست بربكم ؛ وإذا كان كذلك فلا يهمنك أمرهم فالله أمكنه منهم وسلطك عليهم فهزمتهم، وهذا كلام مسوق ؛ لتسلية النبي صلى الله عليه وسلم بطريق الوعد له والوعيد عليهم، ﴿ والله عليم ﴾ بكل النيات حكيم في فعل ما تقتضيه الحكمة البالغة.
أو هم خانوا الله في رفضهم قبول دعوة الإسلام، وفي محاربتهم للمؤمنين ؛ فأمكن الله منهم المسلين في غزوة بدر.
المفردات :
آووا : أي : آووا المهاجرين في المدينة وأسكنوهم.
ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا : أي : ما لكم من توليهم في الميراث وإن كانوا من أقرب أقاربكم حتى يهاجروا.
التفسير :
٧٢ – ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴾.
المناسبة :
ما مضى كان في الكلام على الكفار وأسرهم وكيفية معاملتنا لهم، ضاربين بقرابتهم عرض الحائط مستبدلين بها قرابة الإسلام، ولذا تكلم القرآن هنا على رابطة الإسلام.
والمعنى :
إن الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا كاملا وهاجروا في سبيله، تاركين أوطانهم الحبيبة إلى نفوسهم، وأموالهم، كل ذلك لله، وجاهدوا في سبيله، وبذلوا النفس والنفيس ؛ أولئك هم المهاجرون الذين تركوا مكة وعزهم وشرفهم ونسبهم فيها إلى يثرب التي قطنها الرسول الكريم.
إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين ءاووا. المهاجرين وأنزلوهم ديارهم وشاركوهم في أموالهم، ﴿ ونصروا ﴾. رسول الله ومنعوه مما يمنعون منه أزواجهم وأولادهم ﴿ فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون ﴾. هؤلاء المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض يتلون أنفسهم بالرعاية والعناية والسهر على المصالح ؛ فهم جسد الأمة الإسلامية، إذ اشتكى عضو منه ؛ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فرابطة الإسلام بينهم أقوى رابطة، والإيمان هو الصلة المحكمة، وهكذا المسلمون في كل زمان ومكان اجتمعوا على الإيمان بالله والتقوى، على محبة الرسول الأكرم ولذا يقول الله فيهم :﴿ إنما المؤمنون إخوة ﴾. فالإخوة في الإسلام إذا ما كانت لله حقا كانت هي الدعامة الوحيدة لتماسك بناء الأمة، وقيل : المراد بالولاية هنا : الميراث ونسخت الآية بآية المواريث، والذين آمنوا بالله ورسوله ولم يهاجروا بأن اعترضتهم عقبات لم يستطيعوا التغلب عليها، هؤلاء ليس لكم ولاية عليهم وليس بينكم توارث وإن كانوا ذوي قربى يهاجروا. هكذا كانت الهجرة في مبدإ الإسلام.
ولكن إن استنصروكم في الدين، وطلبوا إليكم أن تمدوا إليهم يد المساعدة لهم على أعدائهم، بقدر الطاقة ؛ فانصروهم، إلا على قوم بينكم وبينهم معاهدة وميثاق، والله بما تعملون بصير.
من أحكام الآية
١ – فضل المهاجرين الأولين، وتضحيتهم بالنفس والمال من أجل الإسلام.
٢ – فضل الأنصار، الذين استقبلوا المهاجرين وقاموا بحق الضيافة والنصرة.
٣ – ظاهر الآية : تقديم المهاجرين على الأنصار وتفضيلهم عليهم.
قال ابن كثير : وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك.
٤ – تقديس الوفاء بالعهود والمواثيق في شرعة الإسلام ؛ وإن مس ذلك مصلحة بعض المسلمين.
قال القاسمي في تفسير الآية :
يظهر أن هذه الآية كسوابقها مما نزل إثر واقعة بدر، وطلب من كل من آمن من أن يهاجر ؛ ليكثر سواد المسلمين، ويظهر اجتماعهم، وإعانة بعضهم لبعض، فتتقوى بألفتهم شوكتهم، ولم يزل طلب الهجرة إلا بفتح مكة ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح " lxiii رواه البخاري.
تكن فتنة في الأرض : تحصل فتنة بظهور الشرك.
٧٣ – ﴿ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ﴾.
والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ليس لكم أن تولوهم أو تتخذوهم أصدقاء مهما كانوا من القرابة والصلة، إن لم تفعلوا هذا وتقوموا بهذا الأمر ؛ تحصل فتنة في الأرض وفساد كبير، وذلك بضعف الإسلام وكسر شوكته وظهور الكفر، وعلو رايته... يا سبحانه الله ! أنت عالم الغيب والشهادة، وأنت الخبير فلقد ظل الإسلام كما هو حتى اتخذ المسلمون بطانتهم من غيرهم ؛ ووالوا أعداء الدين بحجة السياسة مرة، أو لحاجة أخرى، فأصبحوا ولا حول لهم ولا قوة، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدينا نعم وسنظل على ذلك حتى نعود إلى الدين والقرآن، نفعل ما يريده ونتجنب ما ينهى عنه.
وقال الدكتور محمد سيد طنطاوي : في تفسير الآية :
إلا تفعلوا أيها المسلمون ما أمرتكم به من التناصر والتواصل وتولى بعضكم بعضا، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار ؛ تحصل فتنة كبيرة في الأرض، ومفسدة شديدة فيها ؛ لأنكم إذا لم تصيروا يدا واحدة على الشرك ؛ يضعف شأنكم، وتذهب ريحكم، وتسفك دماؤكم، ويتطاول أعداؤكم عليكم، وتصيرون عاجزين عن الدفاع عن دينكم وعرضكم، وبذلك تعم الفتنة وينتشر الفساد.
ورزق كريم : في الجنة.
٧٤ – ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾.
تصف الآية فريقين :
١ – المهاجرين الذين آمنوا بالله، وهاجروا من مكة إلى المدينة في تضحية بالغالي والنفيس من أجل مرضاة الله، وقد جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم.
٢ – الأنصار الذين آووا الرسول وعزروه ونصروه، وأحسنوا استقبال المهاجرين وآثروهم على أنفسهم.
﴿ أولئك هم المؤمنون حقا ﴾.
شهد الله تعالى لهم بحقيقة الإيمان، وصدقه وقد برهنوا على ذلك، بصدق الهجرة للمهاجرين، وبصدق الإيواء والنصرة للأنصار، وبعد هذا الثناء وعدهم الله تعالى بالمغفرة وبالرزق الكريم في الجنة، وهو الرزق الحسن الكثير الطيب الشريف، الدائم المستمر الذي لا ينقطع أبدا.
وهذه الآية لتأكيد فضل المهاجرين والأنصار، وقد أثنى الله عليهم في غير ما آية في كتابه الكريم.
قال الفخر الرازي :
ولا تكرار بين هذه الآية والاية السابقة ؛ فالآية السابقة لإيجاب التواصل بين المهاجرين والأنصار، وهذه الآية لبيان تعظيم شأنهم وعلو درجتهم ؛ وبيانه من وجهين.
الأول : أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم، وذلك يدل على الشرف والتعظيم.
والثاني : وهو أن الله تعالى أثنى عليهم ها هنا في ثلاثة أوجه :
أولها – قوله :﴿ أولئك هم المؤمنون حقا ﴾ قوله :﴿ أولئك هم المؤمنون ﴾. يفيد الحصر، وقوله :﴿ حقا ﴾ يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين وقد كانوا كذلك ؛ لأن من لم يكن محقا في دينه، لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين.
وثانيها – قوله :﴿ لهم مغفرة ﴾. والتنكير يدل على الكمال. أي : مغفرة تامة كاملة.
وثالثها – قوله :﴿ ورزق كريم ﴾. والمراد منه : الثواب الرفيع الشريف. انتهى.
فأولئك منكم : أي : من جملتكم أيها المهاجرين والأنصار.
أولوا الأرحام : أصحاب القرابات.
٧٥ – ﴿ والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم... ﴾ الآية.
أي : من جملتكم أي : المهاجرين والأنصار، في استحقاق ما استحققتموه من الموالاة والمناصرة، وكمال الإيمان، والمغفرة، والرزق الكريم.
وتشير الآية إلى من أسلم بعد أن قويت شوكة الإسلام، وأصبحت له دولة وصولة.
قيل : هم أهل الهجرة الثانية التي وقعت الهجرة الأولى وكانت الهجرة الثانية بعد صلح الحديبية.
وقيل : هم من آمن بعد غزوة بدر.
وقيل : هم من آمن بعد نزول هذه الآية.
فيكون الفعل ﴿ آمنوا ﴾. وما بعده بمعنى : المستقبل أي : والذين سيؤمنون من بعد، ويشتركون معكم في الهجرة والجهاد ؛ ﴿ فأولئك منكم ﴾.
أي : أنهم كالمهاجرين الأولين والأنصار ؛ في الموالاة والتعاون والتناصر والفضل والجزاء. وقد مدح الله من جاء بعد المهاجرين والأنصار فقال :
﴿ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم ﴾. ( الحشر : ١٠ ).
﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾.
أي : وأصحاب القرابات، بعضهم أحق ببعض في التوارث بالقرابة.
وبذلك النص ؛ انتهى حكم التوارث بالمؤاخاة، والحلف والمعاهدة والتبني، وثبت حكم التوارث بالقرابة. ﴿ في كتاب الله ﴾. أي : في حكمته وقسمته، أو في اللوح المحفوظ، أو في القرآن ؛ لأن كتاب الله. يطلق على كل منها.
﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾.
تذييل قصد به وجوب العمل بما جاء في هذه السورة ؛ فعلمه سبحانه واسع محيط بكل شيء من مصالحكم الدنيوية والأخروية، وبكل ما شرعه في هذه السورة من أحكام في السلم والحرب، والغنائم والأسرى، والعهود والمواثيق، والولاية العامة والخاصة بين المؤمنين، وصلة الأرحام. ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون ﴾. ( الأعراف : ٥٢ ).
من هدى السنة
أخرج الطيالس والطبراني وغيرهما عن ابن عباس قال :
آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه، وورث بعضهم من بعض ؛ حتى نزلت هذه الآية :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ﴾. فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب.