تفسير سورة الأنفال

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الأنفال
[ مدنية كما روي عن زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وجاء ذلك في رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أنه سئل الحبر عنها فقال : تلك سورة بدر وفي رواية أخرى أنه قال : نزلت في بدر وقيل : هي مدنية إلا قوله سبحانه وتعالى :( وإذ يمكر بك الذين كفروا ) الآية فإنها نزلت بمكة على ما قاله مقاتل ورد بأنه صح عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن هذه الآية بعينها نزلت بالمدينة وجمع بعضهم بين القولين بما لا يخلو عن نظر واستثنى آخرون قوله تعالى ( يا أيها النبي حسبك الله ) الآية وصححه ابن العربي وغيره ويؤيده ما أخرجه البزار عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها نزلت لما أسلم عمر رضي الله تعالى عنه وهي في الشامي سبع وسبعون آية وفي البصري والحجازي ست وسبعون وفي الكوفي خمس وسبعون ووجه مناسبتها لسورة الأعراف أن فيها ( وأمر بالعرف ) وفي هذه كثير من أفراد المأمور به وفي تلك ذكر قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم وفي هذه ذكر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وذكر ما جرى بينه وبين قومه وقد فصل سبحانه وتعالى في تلك قصص آل فرعون وأضرابهم وما حل بهم وأجمل في هذه ذلك فقال سبحانه وتعالى :( كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب ) وأشار هناك إلى سوء زعم الكفرة في القرآن بقوله تعالى :( وإذ لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها ) وصرح سبحانه وتعالى بذلك هنا بقوله جل وعلا :( وإذ تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إن هذا إلا أساطير الأولين ) وبين جل شأنه فيما تقدم إن القرآن هدى ورحمة لقوم يؤمنون وأردف سبحانه وتعالى ذلك بالأمر بالاستماع له والأمر بذكره تعالى وهنا بين جل وعلا حال المؤمنين عند تلاوته وحالهم إذا ذكر الله تبارك اسمه بقوله عز من قائل :( إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون ) إلى غير ذلك من المناسبات والظاهر أن وضعها هنا توقيفي وكذا وضع براءة بعدها وهما من هذه الحيثية كسائر السور وإلى ذلك ذهب غير واحد كما مر في المقدمات.
وذكر الجلال السيوطي أن ذكر هذه السورة هنا ليس بتوقيف من الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم للصحابة رضي الله تعالى عنهم كما هو المرجح في سائر السور بل باجتهاد من عثمان رضي الله تعالى عنه وقد كان يظهر في باديء الرأي أن المناسب إيلاء الأعراف بيونس وهود لاشتراك كل في اشتمالها على قصص الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأنها مكية النزول خصوصا أن الحديث ورد في فضل السبع الطول وعدوا السابعة يونس وكانت تسمى بذلك كما أخرجه البيهقي في الدلائل ففي فصلها من الأعراف بسورتين فصل للنظير من سائر نظائره هذا مع قصر سورة الأنفال بالنسبة إلى الأعراف وبراءة وقد استشكل ذلك قديما حبر الأمة رضي الله تعالى عنه فقال لعثمان رضي الله تعالى عنه : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المئين فقرنتم بينهما ولم تكتبوا البسملة بينهما ووضعتموهما في السبع الطول ثم ذكر جواب عثمان رضي الله تعالى عنه وقد أسلفنا الخبر بطوله سؤالا وجوابا ثم قال : وأقول : يتم مقصد عثمان رضي الله تعالى عنه في ذلك بأمور فتح الله تعالى بها الأول أنه جعل الأنفال قبل براءة مع قصرها لكونها مشتملة على البسملة فقدمها لتكون كقطعة منها ومفتتحها وتكون براءة لخلوها من البسملة كتتمتها وبقيتها ولهذا قال جماعة من السلف : أنهما سورة واحدة والثاني أنه وضع براءة هنا لمناسبة الطول فإنه ليس بعد الست السابقة سورة أطول منها وذلك كاف في المناسبة الثالث أنه خلل بالسورتين أثناء السبع الطول المعلوم ترتيبها في العصر الأول للإشارة إلى أن ذلك أمر صادر لا عن توقيف وإلى أن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قبض قبل أن يبين كلتيهما فوضعا هنا كالوضع المستعار بخلاف ما لو وضعا بعد السبع الطول فإنه كان يوهم أن ذلك محلهما بتوقيف ولا يتوهم هذا على هذا الوضع للعلم بترتب السبع.
فانظر إلى هذه الدقيقة التي فتح الله تعالى بها ولا يغوص عليها إلا غواص الرابع أنه لو أخرهما وقدم يونس وأتى بعد براءة بهود كما في مصحف أبي لمراعاة مناسبة السبع وإيلاء بعضها لفات مع ما أشرنا إليه أمر آخر آكد في المناسبة فإن الأولى بسورة يونس أن يؤتى بالسور الخمس التي بعدها لما اشتركت فيه من المناسبات من القصص والافتتاح ( بالر ) وبذكر الكتاب ومن كونها مكيات ومن تناسب ما عدا الحجر في المقدار ومن التسمية باسم نبي والرعد اسم ملك وهو مناسب لأسماء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فهذه عدة مناسبات للاتصال بين يونس وما بعدها وهي آكد من هذا الوجه الواحد في تقديم يونس بعد الأعراف ولبعض هذه الأمور قدمت سمرة الحجر على النحل مع كونها أقصر منها ولو أخرت براءة عن هذه السور الست لبعدت المناسبة جدا لطولها بعد عدة سور أقصر منها بخلاف وضع سورة النحل بعد الحجر فإنها ليست كبراءة في الطول، ويشهد لمراعاة الفواتح في مناسبة الوضع ما ذكرناه من تقديم الحجر على النحل لمناسبة ( الر ) قبلها وما تقدم من تقديم آل عمران على النساء وإن أقصر منها لمناسبتها البقرة في الافتتاح ( بالم ) وتوالي الطواسين والحواميم وتوالي العنكبوت والروم ولقمان والسجدة لافتتاح كل ( بالم ) ولهذا قدمت السجدة على الأحزاب التي هي أطول منها هذا ما فتح الله تعالى به على ثم ذكر أن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قدم في مصحفه البقرة والنساء وآل عمران والأعراف والأنعام والمائدة ويونس راعى السبع الطول فقدم الأطول منها فالأطول ثم ثنى بالمئين فقدم براءة ثم النحل ثم هود ثم يوسف ثم الكهف وهكذا الأطول فالأطول وجعل الأنفال بعد النور، ووجه المناسبة أن كلا مدنية ومشتملة على أحكام وأن في النور ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض ) الآية وفي الأنفال ( واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ) الخ ولا يخفى ما بين الآيتين من المناسبة فإن الأولى مشتملة على الوعد بما حصل وذكر به في الثانية فتأمل اه. وأقول : قد من الله تعالى على هذا العبد الحقير بما لم يمن به على هذا الجليل والحمد لله تعالى على ذلك حيث أوقفني سبحانه وتعالى على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي الله تعالى عنهما ليسا نصا في ذلك وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح الله تعالى بها عليه غير ملائم بظاهره ظاهر سؤال الحبر رضي الله تعالى عنه حيث أفاد أن إسقاط البسملة من براءة اجتهادي أيضا ويستفاد مما ذكره خلافه وما ادعاه أن يونس سابعة السبع الطول ليس أمرا مجمعا عليه بل هو قول مجاهد وابن جبير ورواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وفي رواية عند الحاكم أنها الكهف وذهب جماعة كما قال في إتقانه : إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة وقد ذكر ذلك الفيروزآبادي في قاموسه وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي الله تعالى عنه فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال : كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم القرينتين فلذلك جعلتهما في السبع الطول وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد فإن الجن والكافرون والإخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل.

ذلك حيث أوقفني سبحانه على وجه مناسبة هذه السورة لما قبلها وهو لم يبين ذلك. ثم ما ذكره من عدم التوقيف في هذا الوضع في غاية البعد كما يفهم مما قدمناه في المقدمات، وسؤال الحبر وجواب عثمان رضي الله تعالى عنهما ليسا نصا في ذلك، وما ذكره عليه الرحمة في أول الأمور التي فتح الله تعالى بها عليه غير ملائم بظاهره ظاهر سؤال الحبر رضي الله تعالى عنه حيث أفاد أن إسقاط البسملة من براءة اجتهادي أيضا ويستفاد مما ذكره خلافه، وما ادعاه من أن يونس سابعة السبع الطول ليس أمرا مجمعا عليه بل هو قول مجاهد وابن جبير ورواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي رواية عند الحاكم أنها الكهف، وذهب جماعة كما قال في إتقانه: إلى أن السبع الطول أولها البقرة وآخرها براءة، واقتصر ابن الأثير في النهاية على هذا، وعن بعضهم أن السابعة الأنفال وبراءة بناء على القول بأنهما سورة واحدة، وقد ذكر ذلك الفيروزآبادىّ في قاموسه، وما ذكره في الأمر الثاني يغني عنه ما علل به عثمان رضي الله تعالى عنه. فقد أخرج النحاس في ناسخه عنه أنه قال: كانت الأنفال وبراءة يدعيان في زمن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم القرينتين فلذلك جعلتهما في السبع الطول، وما ذكره من مراعاة الفواتح في المناسبة غير مطرد فإن الجن والكافرون والإخلاص مفتتحات بقل مع الفصل بعدة سور بين الأولى والثانية والفصل بسورتين بين الثانية والثالثة، وبعد هذا كله لا يخلو ما ذكره عن نظر كما لا يخفى على المتأمل فتأمل.
149
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ جمع نفل بالفتح وهو الزيادة ولذا قيل للتطوع نافلة وكذا لولد الولد، ثم صار حقيقة في العطية ومنه قول لبيد:
ان تقوى ربنا خير نفل وبإذن الله ريثي وعجل
لأنها لكونها تبرعا غير لازم كأنها زيادة ويسمى به الغنيمة أيضا وما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه لرأي يراه سواء كان لشخص معين أو لغير معين كمن قتل قتيلا فله سلبه، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإمام لمن صدر منه أثر محمود في الحرب كبراز وحسن أقدام وغيرهما، وإطلاقه على الغنيمة باعتبار أنها منحة من الله تعالى من غير وجوب، وقال الإمام عليه الرحمة: لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم، ووجه التسمية لا يلزم اطراده،
وفي الخبر أن المغانم كانت محرمة على الأمم فنفلها الله تعالى هذه الأمة،
وقيل: لأنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله تعالى وحماية حوزة الإسلام فإن اعتبر كون ذلك مظفورا به سمي غنيمة، ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص، فقيل: الغنيمة ما حصل مستغنما سواء كان ببعث أو لا باستحقاق أو لا قبل الظفر أو بعده، والنفل ما قبل الظفر أو ما كان بغير قتال وهو الفيء وقيل: ما يفضل عن القسمة ثم إن السؤال كما قال الطيبي ونقل عن الفارسي إما لاستدعاء معرفة أو ما يؤدي إليها وإما لاستدعاء جدال أو ما يؤدي إليه، وجواب الأول باللسان وينوب عنه اليد بالكتابة أو الإشارة ويتعدى بنفسه وبعن والباء، وجواب الثاني باليد وينوب عنها اللسان موعدا وردا ويتعدى بنفسه أو بمن وقد يتعدى لمفعولين كأعطى واختار، وقد يكون الثاني جملة استفهامية نحو سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ [البقرة: ٢١١] والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما روي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وابن زيد وطائفة من الصحابة وغيرهم، وبالسؤال السؤال لاستدعاء المعرفة كما اختاره جمع من المفسرين لتعديه بعن والأصل عدم ارتكاب التأويل، ويؤيد ذلك ما
أخرجه أحمد. وابن حبان. والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي
150
الله تعالى عنه وهو سبب النزول أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيف تقسم ولمن الحكم فيها أهو للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا؟ فنزلت هذه الآية.
وقال بعضهم: إن السؤال استعطاء. والمراد بالنفل ما شرط للغازي زائدا على سهمه، وسبب النزول غير ما ذكر.
فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف وعبد بن حميد وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما كان يوم بدر قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من قتل قتيلا فله كذا ومن جاء بأسير فله كذا فجاء أبو اليسر بن عمرو الأنصاري بأسيرين فقال: يا رسول الله إنك قد وعدتنا. فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء وإنه لم يمنعنا من هذا زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك فتشاجروا فنزل القرآن،
وادعوا زيادة عَنِ واستدلوا لذلك بقراءة ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص وعلي بن الحسين وزيد ومحمد الباقر وجعفر الصادق وطلحة بن مصرف «يسألونك الأنفال» وتعقب بأن هذه القراءة من باب الحذف والإيصال وليست دعوى زيادة عَنِ في القراءة المتواترة لسقوطها في القراءة الأخرى أولى من دعوى تقديرها في تلك القراءة لثبوتها في القراءة المتواترة بل قد ادعى بعض أنه ينبغي حمل قراءة إسقاط عَنِ على إرادتها لأن حذف الحرف وهو مراد معنى أسهل من زيادته للتأكيد، على أنه يبعد القول بالزيادة هنا الجواب بقوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فإنه المراد به اختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فيقسمها النبي عليه الصلاة والسلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد، فإن مبني ذلك القول القول بأن السؤال استعطاء ولو كان كذلك لما كان هذا جوابا له فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله تعالى والرسول صلّى الله عليه وسلّم لا ينافي إعطاءه إياهم بل يحققه لأنهم إنما يسألونه بموجب شرط الرسول عليه الصلاة والسلام الصادر عنه بإذن الله تعالى لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور.
وحمل الجواب على معنى أن الأنفال بذلك المعنى مختصة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا حق فيها للمنفل كائنا من كان لا سبيل إليه قطعا ضرورة ثبوت الاستحقاق بالتنفيل، وادعاء أن ثبوته بدليل متأخر التزم لتكرر النسخ من غير علم بالناسخ الأخير، ولا مساغ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهد وعكرمة والسدي من أن الأنفال كانت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم خاصة ليس لأحد فيها شيء بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ [الأنفال: ٤١] لما أن المراد بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأول حسبما نطق به قوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنفال:
٤١] الآية، على أن الحق أنه لا نسخ حينئذ حسبما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، بل بين هنا إجمالا أن الأمر مفوض لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشرح فيما بعد مصارفها وكيفية قسمتها، وادعاء اقتصار الاختصاص بالرسول صلّى الله عليه وسلّم على الأنفال المشروطة يوم بدر بجعل اللام للعهد مع بقاء استحقاق المنفل في سائر الأنفال المشروطة يأباه مقام بيان الأحكام كما ينبىء عنه إظهار الأنفال في مقام الإضمار، على أن الجواب عن سؤال الموعود ببيان كونه له عليه الصلاة والسلام خاصة مما يليق بشأنه الكريم أصلا.
وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبني فجئت به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال عليه الصلاة والسلام: ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلا حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وقد صار لي فاذهب فخذه،
وهذا كما ترى يقتضي عدم وقوع التنفيل يومئذ وإلا لكان سؤال السيف من سعد بموجب شرطه
151
عليه الصلاة والسلام ووعده لا بطريق الهبة المبتدأة وحمل ذلك من سعد على مراعاة الأدب مع كون سؤاله بموجب الشرط يرده ورده صلّى الله عليه وسلّم قبل النزول وتعليله بقوله: ليس هذا لي لاستحالة أن يعد صلّى الله عليه وسلّم لي ضرورة أن مناط صيرورته له صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ والفرض أنه المانع من إعطاء المسئول، ومما هو نص في الباب قوله تعالى:
فَاتَّقُوا اللَّهَ فإنه لو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان فيه محذور يجب اتقاؤه قاله شيخ الإسلام عليه الرحمة، وحاصله إنكار وقوع التنفيل حينئذ، وعدم صحة حمل السؤال على الاستعطاء والأنفال على المعنى الثاني من معنييها، وأنا أقول: قد جاء خبر التنفيل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من الطريق الذي ذكرناه ومن طريق آخر أيضا،
فقد أخرج ابن أبي شيبة وأبو داود والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن حبان وأبو الشيخ والبيهقي في الدلائل والحاكم وصححه عنه رضي الله تعالى عنه قال: «لما كان يوم بدر قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من قتل قتيلا فله كذا وكذا ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان:
أشركونا معكم فإنا كنا لكم رداء ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية فقسم الغنائم بينهم بالسوية»

ويشير إلى وقوعه أيضا ما
أخرجه أحمد وعبد بن حميد وابن جرير وأبو الشيخ وابن مردويه والحاكم والبيهقي في سنن عن أبي أمامة قال: سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله تعالى من أيدينا وجعله إلى رسوله صلّى الله عليه وسلّم فقسمه عليه الصلاة والسلام بين المسلمين عن بواء،
ولعل في الباب غير هذه الروايات فكان على الشيخ حيث أنكر وقوع التنفيل أن يطعن فيها بضعف ونحوه ليتم له الغرض.
وما ذكره من حديث سعد بن أبي وقاص فقد أخرجه أحمد وابن أبي شيبة عنه وهو مع أنه وقع فيه سعيد بن العاص والمحفوظ كما قال: أبو عبيد العاصي بن سعيد مضطرب المتن،
فقد أخرج عبد بن حميد والنحاس وأبو الشيخ وابن مردويه عن سعد أنه قال: «أصاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقلت: نفلني هذا السيف فأنا من علمت فقال: رده من حيث أخذته فرجعت به حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه عليه الصلاة والسلام فقلت: أعطنيه فشد لي صوته وقال رده من حيث أخذته فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ».
فإن هذه الرواية ظاهرة في أن السيف لم يكن سلبا كما هو ظاهر الرواية الأولى بل إن سعدا رضي الله تعالى عنه وجده في الغنيمة وطلبه نفلا على سهمه الشائع فيها.
وأخرج النحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلا من الأنصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفا ملقى فخرا عليه جميعا فقال سعد: هو لي وقال الأنصاري: هو لي لا أسلمه حتى آتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتياه فقصا عليه القصة فقال عليه الصلاة والسلام: ليس لك يا سعد ولا للأنصاري ولكنه لي فنزلت يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية،
ومخالفة هذه الرواية للروايتين السابقتين المختلفتين كما علمت في غاية الظهور فلا يكاد يعول على إحداهما إلا بإثبات أنها الأصح. ولم تقف على أنهم نصوا على تصحيح الرواية التي ذكرها الشيخ فضلا عن النص على الأصحية.
نعم
أخرج أحمد وأبو داود والترمذي وصححه والنسائي وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مروديه والحاكم وصححه والبيهقي في السنن عن سعد المذكور رضي الله تعالى عنه قال: «قلت يا رسول قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف قال: إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته ثم رجعت فقلت:
عسى يعطى هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي فقلت: قد أنزل في شيء قال عليه الصلاة
152
والسلام: كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي واني قد وهب لي فهو لك وأنزل الله تعالى هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ» إلخ،
فهذه الرواية وإن نص فيها على التصحيح إلا أنه ليست ظاهرة في أن السيف كان سلبا له من عمير كما هو نص الرواية الأولى، وإن قلنا: إن هذه الرواية وإن لم تكن موافقة للأولى حذو القذة بالقذة لكنها ليست مخالفة لها، وزيادة الثقة مقبولة سواء كانت في الأول أم في الآخر أم في الوسط، فلا بد من القول بالنسخ كما هو احدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أنها ظاهرة في كون الأنفال صارت ملكا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس لأحد فيها حق أصلا إلا أن يجود عليه عليه الصلاة والسلام كما يجود من سائر أمواله، والمولى المذكور ذهب إلى القول بعدم النسخ ولم يعلم أن هذا الخبر الذي استند إليه في إنكار وقوع التنفيل يعكر عليه، وادعاء أن معنى
قوله صلّى الله عليه وسلّم: فيه «وقد صار لي»
أنه صار حكمه لي لكن عبر بذلك مشاكلة لما في الآية يرده ما في الرواية الأخرى المنصوص على صحتها من الترمذي والحاكم
«واني قد وهب لي»،
وحمل ذلك أيضا على مثل ما حمل عليه الأول مما لا يكاد يقدم عليه عارف بكلام العرب لا سيما كلام أفصح من نطق بالضاد صلّى الله عليه وسلّم، وما ذكره قدس سره من أن قوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ إلخ لا يكون جوابا لسؤال الاستعطاء فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالرسول عليه الصلاة والسلام لا ينافي الإعطاء بل يحققه، وقد يجاب عنه بالتزام الحمل الذي ادعى أن لا سبيل إليه قطعا ويقال بالنسخ. وهو من نسخ السنة قبل تقررها بالكتاب، وأن المنسوخ إنما هو ذلك التنفيل، والتنفيل الذي يقول به العلماء اليوم هو أن يقول الإمام من قتل قتيلا فله سلبه أو يقول للسرية جعلت لكم الربع بعد الخمس أي بعد ما يرفع الخمس للفقراء، وقد يكون بغير ذلك كالدراهم والدنانير. وذكر في السير الكبير أنه لو قال: ما أصبتم فهو لكم ولم يقل بعد الخمس لم يجز لأن فيه ابطال الخمس الثابت بالنص، وبعين ذلك يبطل ما لو قال: من أصاب شيئا فهو له لاتحاد اللازم فيهما بل هو أولى بالبطلان، وبه أيضا ينتفى ما قالوا: لو نفل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى مصلحة، وفيه زيادة إيحاش الباقين وإيقاع الفتنة.
وذكر السادة الشافعية أن الأصح أن النفل يكون من خمس الخمس المرصد للمصالح أن نفل مما سيغنم في هذا القتال لأنه المأثور عندهم كما جاء عن ابن المسيب.
ويحتمل أن التنفيل المنسوخ الواقع يوم بدر عند القائل به لم يكن كهذا الذي ذكرناه عن أئمتنا وكذا عن الشافعية الثابت عندهم بالأدلة المذكورة في كتب الفريقين. والأخبار التي وقفنا عليها في ذلك التنفيل غير ظاهرة في اتحاده مع هذا التنفيل.
وحينئذ فما نسخ لم يثبت وإنما ثبت غيره، وربما يقال: على فرض تسليم أن ما ثبت هو ما نسخ أن دليل ثبوته هو قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ [الأنفال: ٦٥] فإن في ذلك من التحريض ما لا يخفى، ودعوى أن حمل أل في الأنفال على العهد يأباه المقام في حيز المنع، ومما يستأنس به للعهد أنه يقال لسورة الأنفال سورة بدر فلا بدع أن يراد من الأنفال أنفال بدر، وإنباء الإظهار في مقام الإضمار على ما ادعاه في غاية الخفاء، وكون الجواب عن سؤال الموعود ببيان اختصاصه به عليه الصلاة والسلام مما لا يليق بشأنه الكريم أصلا مما لا يكاد يسلم، كيف والحكم إلهي والنبي صلّى الله عليه وسلّم مأمور بالابلاغ، وقد يقال: حاصل الجواب يا قوم ان ما وعدتكم به بإذن الله تعالى قد ملكنيه سبحانه وتعالى دونكم وهو أعلم بالحكمة فيما فعل أولا وآخرا فاتقوا الله من سوء الظن أو عدم الرضا بذلك.
ومن هنا يعلم حسن الأمر بالتقوى بعد ذلك الجواب وبطلان ما ادعاه المولى المدقق من أن هذا الأمر نص في الباب، وقد يقال أيضا: لا مانع من أن يحمل السؤال على الاستعلام، والاختصاص على اختصاص الحكم مع كون المراد بالأنفال المعنى الثاني، والمعنى يسألونك عن حال ما وعدتهم إياه هل يستحقونه وان حرم غيرهم ممن كان ردا وملجأ
153
حيث إنك وعدتهم وأطلقت لهم الأمر قل إن ذلك الموعود قد نسخ استحقاقكم له بالوعد المأذون فيه من قبل وفوض أمره إلي ولم يحجز علي بإعطائه لكم دون غيركم بل رخصت أن أساوي أصحابكم الذين كانوا ردا لكم معكم لئلا يرجع أحد من أهل بدر بخفي حنين ويستوحشوا من ذلك وتفسد ذات البيت، فاتقوا الله تعالى من الاستقلال بما أخذتموه أو إخفاء شيء منه بناء على أنكم كنتم موعودين به وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ بالرد والمواساة فيما حل بأديكم وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل ما يأمر به وينهى عنه فإن في ذلك مصالح لا تعلمونها وإنما يعلمها الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وتقرير السؤال والجواب على هذا الأسلوب وإن لم يكن ظاهرا إلا أنه ليس بالبعيد جدا، ثم ما ذكره قدس سره من أن حديث النسخ الواقع في كلام مجاهد. وعكرمة. والسدي إنما هو للأنفال بالمعنى الأول لدلالة الناسخ على ذلك مسلم، لكن جاء في آخر رواية النحاس عن ابن جبير السابقة في قصة سعد وصاحبه الأنصاري رضي الله تعالى عنهما ما يوهم كون النسخ للآية مع حمل الأنفال على غير ذلك المعنى وليس كذلك، هذا ثم إني أعود فأقول:
إن هذا التكلف الذي تكلفناه إنما هو لصيانة الروايات الناطقة بكون سبب النزول ما استند إليه القائل بأن الأنفال بالمعنى الثاني عن الإلغاء قبل الوقوف على ضعفها، ومجرد ما ذكره المولى قدس سره لا يدل على ذلك، ألا تراهم كيف يعدلون عن ظواهر الآيات إذا صح حديث يقتضي ذلك، وإلا فأنا لا أنكر أن كون حمل الأنفال على المعنى الأول والذهاب إلى أن الآية غير منسوخة والسؤال للاستعلام أقل مؤنة من غيره فتأمل ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك، والمراد بقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ إلخ على هذا أنه إذا كان أمر الغنائم لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم فاتقوه سبحانه وتعالى واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى، أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون فيدخل ما هم فيه دخولا أوليا، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال بترك الغلول ونحوه، وعن السدي بعدم التساب.
وعن عطاء كان الإصلاح بينهم «أن دعاهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: اقسموا غنائمكم بالعدل: فقالوا: قد أكلنا وأنفقنا. فقال عليه الصلاة والسلام: ليرد بعضكم على بعض»
وذاتَ كما قيل بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف. و «بين» اما بمعنى الفراق أو الوصل أو ظرف أي أحوالا ذات افتراقكم أو ذات وصلكم أو ذات الكمال المتصل بكم. وقال الزجاج وغيره: إن ذاتَ هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بينه ابن عطية وعليه استعمال المتكلمين، ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول: اسقني ذا انائك أي ما فيه جعل كأنه صاحبه، وذكر الاسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم.
وذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع الله تعالى أولا وآخرا لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى، وقال غير واحد: إن الجمع بين الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم أولا لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلّى الله عليه وسلّم بالامتثال، وتوسيط الأمر بإصلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة.
وقرأ ابن محيصن «يسألونك علنفال» بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وادغام نون عن فيها ولا اعتداد بالحركة العارضة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكور عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور، وأيا ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم، وهو يكفي في التعليق بالشرط، والمراد بالإيمان التصديق، ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة. وقد يراد بالإيمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر، فالمعنى إن كنتم كاملي الإيمان فإن كمال الإيمان يدور على تلك الخصال الثلاثة الاتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويؤيد إرادة الكمال قوله سبحانه
154
وتعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إلخ إذ المراد به قطعا الكاملون في الإيمان وإلا لم يصح الحصر، وهو حينئذ جار على ما هو الأصل المشهور في النكرة إذا أعيدت معرفة، وعلى الوجه الأول لا يكون هذا عين النكرة السابقة، ويلتزم القول بأن القاعدة أغلبية كما قد صرحوا به في غير ما موضع، أي إنما المؤمنون الكاملون في الإيمان المخلصون فيه الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي فزعت استعظاما لشأنه الجليل وتهيبا منه جل وعلا والاطمئنان المذكور في قوله سبحانه وتعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد: ٢٨] لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهو يجامع الخوف، وإلى هذا ذهب ابن الخازن، ووفق بعضهم بين الآيتين بأن الذكر في إحداهما ذكر رحمة وفي الأخرى ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما. وأخرج البيهقي وجماعة عن السدي أنه قال في الآية: هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له: اتق الله تعالى فيجل قلبه، وحمل الوجل فيها على الخوف منه تعالى كلما ذكر أبلغ في المدح من حمله على الخوف وقت الهم بمعصية أو إرادة ظلم. وهذا الوجل في قلب المؤمن كضرمة السعفة كما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
وأخرج ابن جرير وغيره عن أم الدرداء أن الدعاء عند ذلك مستجاب، وعلامته حصول القشعريرة.
وقرىء «وجلت» بفتح الجيم ومضارعه يحل، وأما وجل بالكسر فمضارعه يوجل وجاء ييجل ويأجل وهي لغات أربع حكاها سيبويه، وقرأ عبد الله «فرقت» أي خافت وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أي القرآن كما روي عن ابن عباس زادَتْهُمْ إِيماناً أي تصديقا كما هو المتبادر فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجبا لذلك، وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وبه أقول لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلا، بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل أيضا، وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساويا لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، واللازم باطل فكذا الملزوم، وقال محيي الدين النووي في معرض بيان ذلك: إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقينا وإخلاصا منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظهور البراهين وكثرتها، وأجابوا عما اعترض به عليه من أنه متى قبل ذلك كان شكا وهو خروج عن حقيقته بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنه لا شك معها، وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره إمام الحرمين محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلا، وإنما يتفاوت إذا كان اسما للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة على ما ذهب إليه القلانسي وجماعة من السلف، وبما
رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن محمد ابن الفضل وأبي القاسم الساباذي عن فارس بن مردويه عن محمد بن الفضل بن العابد عن يحيى بن عيسى عن أبي مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله الإيمان يزيد وينقص؟ فقال: لا. الإيمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر».
وأجابوا عما تمسك به الأولون من الآيات والأحاديث بأن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والساعات. وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه زمانين بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي صلّى الله عليه وسلّم دون غيره متوالية فيثبت له صلّى الله عليه وسلّم أعداد من الإيمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه أكثر. واعترض هذا بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا
155
يكون زيادة فيه ودفع بأن المراد زيادة اعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك، وأجابوا أيضا بأن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا آمنوا في الجملة وكانوا الشريعة غير تامة والأحكام تتنزل شيئا فشيئا فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصر النبوة لامكان الاطلاع عليها في غيره من العصور وبأن المراد زيادة ثمرته واشراق نوره في القلب فان نوره يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، ولا يخفى أن الحجة الأولى يعلم جوابها مما ذكرناه أولا، وأما الحجة الثانية التي ذكرها أبو الليث فيما لا يعول عليها عند الحفاظ أصلا لأن رجال السند إلى أبي مطيع كلهم مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع وهو الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي فقد ضعفه أحمد بن حنبل.
ويحيى بن معين. وعمرو بن علي الفلاس. والبخاري. وأبو داود. والنسائي. وحاتم الرازي. وأبو حاتم محمد بن حبان البستي. والعقيلي. وابن عدي. والدارقطني وغيرهم.
وأما أبو المهزم وقد تصحف على الكتاب، واسمه يزيد بن سفيان فقد ضعفه أيضا غير واحد وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي: متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال: لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثا، ومن مارس الأحاديث النبوية لا يشك في أن ذلك اللفظ ليس منها في شيء، وما ذكره إمام الحرمين على ما فيه مبني على تجدد الأعراض وعدم بقائها زمانين، والمسألة خلافية، ودون إثبات ذلك خرط القتاد.
وما أجابوا به أولا من أن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به مع كونه خلاف الظاهر ولا داعي إليه عند المنصف لا يكاد يتأتى في قوله تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً
[آل عمران: ١٧٢] وقوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الفتح: ٤] إذ ليس هناك زيادة مشروع يحصل الإيمان به ليقال: إن زيادة الإيمان بحسب زيادة المؤمن به، وحال الجواب الثاني لا يخفى عليك. وذهب جماعة منهم الإمام الرازي وإمام الحرمين في قول إلى أن الخلاف في زيادة الإيمان ونقصانه وعدمهما لفظي وهو فرع تفسير الإيمان، فمن فسره بالتصديق قال: إنه لا يزيد ولا ينقص، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال: إنه يزيد وينقص، وعلى هذا قول البخاري: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهو المعنى بما
روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قلنا يا رسول الله إن الإيمان يزيد وينقص قال: نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار».
واعترض على هذا بأن عدم قبول الإيمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده، أما أولا فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصا، وأما ثانيا فلأن أحدا لا يستكمل الإيمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال. وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الإيمان بانتفاء شيء من الأعمال ونحن إنما نقول: إنها شرط كمال فيه واللازم عند الانتفاء انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الإيمان والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتبه فما المانع من تفاوته قوة وضعفا كما في التصديق بطلوع الشمس والصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير وما علي إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى فالحق أحق بالاتباع والتقليد في مقل هذه المسائل من سنن العوام.
نعم أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن الربيع بن أنس أنه فسر الإيمان في هذه الآية بالخشية وعبر
156
عنها بذلك بناء على أنها من آثاره وهو خلاف الظاهر أيضا، وكأن المعنى عليه أن المؤمنين الكاملين هم الذين إذا ذكر الله من غير أن يذكر هناك ما يوجب الفزع من صفاته وأفعاله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته المتضمنة ذلك زادتهم وجلا على وجل وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي يفوضون أمورهم كلها إلى مالكهم ومدبرهم خاصة لا إلى أحد سواه كما يدل عليه تقديم المتعلق على عامله والجملة معطوفة على الصلة.
وجوز أبو البقاء كونها حالا من ضمير المفعول وكونها استئنافية. وقوله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ مرفوع على أنه نعت للموصول الأول أو بدل منه أو بيان له أو منصوب على القطع المنبئ عن المدح، وقد مدحهم سبحانه وتعالى أولا بمكارم الأعمال القلبية من الخشية والإخلاص والتوكل وهذا مدح لهم بمحاسن الأعمال القالبية من الصلاة والصدقة أُولئِكَ أي المتصفون بما ذكر من الصفات الحميدة من حيث إنهم كذلك هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم حققوا إيمانهم بأن ضموا إليه ما فضل من أفاضل الأعمال.
وأخرج الطبراني عن الحرث بن مالك الأنصاري أنه مر برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له: «كيف أصبحت يا حارث قال:
أصبحت مؤمنا حقا فقال صلّى الله عليه وسلّم: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك؟ فقال: عزفت نفسي عن الدنيا فاسهرت ليلي واظمأت نهاري وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأني انظر إلى أهل النار يتصارخون فيها قال عليه الصلاة والسلام: يا حارث عرفت فالزم ثلاثا»

ونصب حَقًّا على أنه صفة مصدر محذوف فالعامل فيه المؤمنون أي إيمانا حقا أو هو مؤكد لمضمون الجملة فالعامل فيه حق مقدر، وقيل: إنه يجوز أن يكون مؤكدا لمضمون الجملة التي بعده فهو ابتداء كلام، وهو مع أنه خلاف الظاهر إنما يتجه على القول بجواز تقديم المصدر المؤكد لمضمون الجملة عليها والظاهر منعه كالتأكيد، واستدل بعضهم بالآية على أنه لا يجوز أن يصف أحد نفسه بكونه مؤمنا حقا لأنه سبحانه وتعالى: إنما وصف بذلك أقواما على أوصاف مخصوصة وكل أحد لا يتحقق وجود تلك الأوصاف فيه بل يلزمه أن يقول أنا مؤمن إن شاء الله تعالى.
وقرر بعضهم وجه الاستدلال بما يشير إليه ما روي عن الثوري أنه قال: من زعم أنه مؤمن بالله تعالى حقّا ثم لم يشهد أنه من أهل الجنة فقد آمن بنصف الآية ولم يؤمن بالنصف الآخر، وهذا ظاهر في أن مذهبه الاستثناء، وهو كما قال الإمام مذهب ابن مسعود تبعه جمع عظيم من الصحابة والتابعين، وبه قال الشافعي ونسب إلى مالك وأحمد، ومنعه الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه وروي عنه أنه قال لقتادة: لم تستثني في إيمانك؟ قال: اتباعا لإبراهيم عليه السلام في قوله تعالى: وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ [الشعراء: ٨٢] فقال له: هلا اقتديت به في قوله بلى حين قيل له أو لم تؤمن؟ فانقطع قتادة قال الرازي كان لقتادة أن يجيب أبا حنيفة عليهما الرحمة ويقول: قول إبراهيم عليه السلام وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: ٢٦] بعد قوله بلى طلب لمزيد الطمأنينة وذلك يدل على جواز الاستثناء.
وفي الكشف أن الحق أن من جوز الاستثناء إنما جوز إذا سئل عن الإيمان مطلقا أما إذا قيل: هل أنت مؤمن بالقدر مثلا فقال: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى لا يجوز لا لأن التبرك لا معنى له بل للابهام فيما ليس له فائدة، وأما في الأول فلما كان الإطلاق يدل على الكمال وهو الإيمان المنتفع به في الآخرة علق بالمشيئة تفاؤلا وتيمنا، وذلك لأن هذه الكلمة خرجت عن موضوعها الأصلي إلى المعنى الذي ذكر في عرف الاستعمال تراهم يستعملونها في كل ما لهم اهتمام بحصوله شائعا بين العرب والعجم فلا وجه لقول من قال: إن معنى التبرك أنا أشك في إيماني تبركا وذلك لأن المشيئة عنده غير مشكوكة عنده بل هو تعليق بما لا بد منه نظرا إلى أنه السبب الأصلي وأنه تفويض من العبد إلى الله
157
تعالى ومن فوض كفى لا نظرا إلى أن المشيئة غيب غير معلوم فيكون شكا في الإيمان،
وقد جاء «من شك في إيمانه فقد كفر»،
وما أحسن ما
نقل عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت؟ فقال: الإيمان إيمانان فإن كنت تسألني عن الإيمان بالله تعالى وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله تعالى إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إلخ فو الله لا أدري أمنهم أنا أم لا؟
وهذا ونحوه مما يجعل الخلاف لفظيا، وقد صرح بذلك جمع من المحققين عليهم الرحمة.
لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي كرامة وعلو مكانة على أن يراد بالدرجات العلو المعنوي وقد يراد بها العلو الحسي،
وفي الخبر عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «في الجنة مائة درجة لو أن العالمين اجتمعوا في إحداهن لوسعتهم» وعن الربيع بن أنس «سبعون درجة ما بين كل درجتين حضر الفرس المضمر السبعين سنة»
ووجه الجمع على الوجهين ظاهر، والتنوين للتفخيم والظرف، إما متعلق بمحذوف وقع صفة لها مؤكدة لما أفاده التنوين أو بما تعلق به الخبر أعنى لهم من الاستقرار.
وجوز أبو البقاء أن يكون العامل فيه دَرَجاتٌ لأن المراد بها الأجور، وفي إضافته إلى الرب المضاف إلى ضميرهم مزيد تشريف لهم ولطف بهم وإيذان بأن ما وعدهم متيقن الثبوت مأمون الفوات، والجملة جوز أن تكون خبرا ثانيا لأولئك وأن تكون مبتدأ مبنية على سؤال نشأ من تعدد مناقبهم كأنه قيل: ما لهم بمقابلة هذه الخصال؟ فقيل: لهم درجات وَمَغْفِرَةٌ عظيمة لما فرط منهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد القرظي قال: إذا سمعت الله تعالى يقول رزق كريم فهو الجنة. والكرم كما نقل الواحدي اسم جامع لكل ما يحمد ويستحسن في بابه فلعل وصف الرزق به هنا حقيقة.
وقال بعض المحققين: معنى كون الرزق كريما أن رازقه كريم، ومن هنا وصفوه بالكثرة وعدم الانقطاع إذ من عادة الكريم أن يجزل العطاء ولا يقطعه فكيف بأكرم الأكرمين تبارك وتعالى، وجعله نفسه كريما على الإسناد المجازي للمبالغة، ولم يذكروا لتوسيط المغفرة، والظاهر كما قيل تقديمها هنا نكتة، وربما يقال في وجه ذكر هذه الأشياء الثلاثة على هذا الوجه أن الدرجات في مقابلة الأوصاف الثلاثة أعني الوجل والإخلاص والتوكل، ويستأنس له بالجمع والمغفرة في مقابلة إقامة الصلاة ويستأنس له بما ورد في غير ما خبر أن الصلوات مكفرات لما بينها من الخطايا وأنها تنقي الشخص من الذنوب كما ينقى الماء من الدنس، والرزق الكريم بمقابلة الانفاق، والمناسبة في ذلك ظاهرة، وإلى هذا يشير كلام أبي حيان أو يقال: قدم سبحانه الدرجات لأنها بمحض الفضل، وذكر بعدها المغفرة لأنها أهم عندهم من الرزق مع اشتراكهما في كونهما في مقابلة شيء، ويؤيد هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن ابن زيد أنه قال في الآية: المغفرة بترك الذنوب والرزق الكريم بالأعمال الصالحة فتدبر والله تعالى أعلم بأسرار كلامه كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ أي إخراجا متلبسا به فالباء للملابسة، وقيل: هي سببية أي بسبب الحق الذي وجب عليك وهو الجهاد.
والمراد بالبيت مسكنه صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة أو المدينة نفسها لأنها مثواه عليه الصلاة والسلام، وزعم بعضهم أن المراد به مكة وليس بذاك، وإضافة الإخراج إلى الرب سبحانه وتعالى إشارة إلى أنه كان بوحي منه عز وجل، ولا يخفى لطف ذكر الرب وإضافته إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم، والكاف يستدعى مشبها وهو غير مصرح به في الآية وفيه خفاء، ومن هنا اختلفوا في بيانه وكذا في إعرابه على وجوه فاختار بعضهم أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه أي حالهم هذه في كراهة ما وقع في أمر الأنفال كحال إخراجك من بيتك في كراهتهم له، وإلى هذا يشير كلام الفراء حيث قال: الكاف شبهت هذه
158
القصة التي هي إخراجه صلّى الله عليه وسلّم من بيته بالقصة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها مع أنه أولى بحالهم أو أنه صفة مصدر الفعل المقدر في لله وللرسول أي الأنفال ثبتت لله تعالى وللرسول عليه الصلاة والسلام مع كراهتهم ثباتا كثبات اخراجك وضعف هذا ابن الشجري، وادعى أن الوجه هو الأولى لتباعد ما بين ذلك الفعل وهذا بعشر جمل، وأيضا جعله في حيز قل ليس بحسن في الانتظام، وقال أبو حيان: إنه ليس فيه كبير معنى ولا يظهر للتشبيه فيه وجه، وأيضا لم يعهد مثل هذا المصدر، وادعى العلامة الطيبي أن هذا الوجه أدق التئاما من الأول والتشبيه فيه أكثر تفصيلا لأنه حينئذ من تتمة الجملة السابقة داخل في حيز المقول مع مراعاة الالتفات وأطال الكلام في بيان ذلك واعتذر عن الفصل بأن الفاصل جار مجرى الاعتراض ولا أراه سالما من الاعتراض، وقيل: تقديره وأصلحوا ذات بينكم كما أخرجك وقد التفت من خطاب جماعة إلى خطاب واحد، وقيل: المراد وأطيعوا الله والرسول كما أخرجك إخراجا لا مرية فيه، وقيل: التقدير يتوكلون توكلا كما أخرجك، وقيل: إنهم لكارهون كراهة ثابتة كاخراجك، وقيل:
هو صفة لحقا أي أولئك هم المؤمنون حقا مثل ما أخرجك، وقيل: صفة لمصدر يجادلون أي يجادلونك جدالا كاخراجك ونسب ذلك إلى الكسائي، وقيل: الكاف بمعنى إذ أي واذكر إذ أخرجك وهو مع بعده لم يثبت وقيل:
الكاف للقسم ولم يثبت أيضا وإن نقل عن أبي عبيد وجعل «يجادلونك» الجواب مع خلوه عن اللام والتأكيد و «ما» حينئذ موصولة أي والذي أخرجك، وقيل: إنها بمعنى على وما موصولة أيضا أي امض على الذي أخرجك ربك له من بيتك فإنه حق ولا يخفى ما فيه، وقيل: هي مبتدأ خبره مقدر وهو ركيك جدا، وقيل: في محل رفع خبر مبتدأ محذوف أي وعده حق كما أخرجك، وقيل: تقديره قسمتك حق كإخراجك، وقيل: ذلكم خير لكم كاخراجك، وقيل: تقديره اخراجك من مكة لحكم كاخراجك هذا، وقيل: هو متعلق باضربوا وهو كما تقول لعبدك ربيتك افعل كذا.
وقال أبو حيان: خطر لي في المنام أن هنا محذوفا وهو نصرك والكاف فيها معنى التعليل أي لأجل أن خرجت لاعزاز دين الله تعالى نصرك وأمدك بالملائكة، ودل على هذا المحذوف قوله سبحانه بعد: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ [الأنفال: ٩] الآيات، ولو قيل: إن هذا مرتبط بقوله سبحانه: رِزْقٌ كَرِيمٌ على معنى رزق حسن كحسن إخراجك من بيتك لم يكن بأبعد من كثير من هذه الوجوه وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ للخروج اما لعدم الاستعداد للقتال أو للميل للغنيمة أو للنفرة الطبيعية عنه، وهذا مما لا يدخل تحت القدرة والاختيار فلا يرد أنه لا يليق بمنصب الصحابة رضي الله تعالى عنهم، والجملة في موضع الحال وهي حال مقدرة لأن الكراهة وقعت بعد الخروج كما ستراه إن شاء الله تعالى، أو يعتبر ذلك ممتدا، والقصة على ما
رواه جماعة وقد تداخلت رواياتهم أن عير قريش أقبلت من الشام وفيها تجارة عظيمة ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان. وعمرو بن العاص. ومخرمة بن نوفل فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبر المسلمين فأعجبهم تلقيها لكثرة المال وقلة الرجال فلما خرجوا بلغ الخبر أهل مكة فنادى أبو جهل فرق الكفر النجاء النجاء على كل صعب وذلول عيركم أموالكم إن أصابها محمد لم تفلحوا بعدها أبدا، وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب في المنام أن راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى الناس قد اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة فصرخ مثلها ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ مثلها ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار من دورها إلا ودخل فيها فلقة فحدثت بها أخاها العباس فحدث بها الوليد بن عتبة وكان صديقا له فحدث بها أباه عتبة ففشا الحديث وبلغ أبا جهل فقال للعباس: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم فأنكر عليه الرؤية. ثم إنه خرج
159
بجميع مكة ومضى بهم إلى بدر وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بوادي دفران فنزل عليه جبريل عليه السلام بالوعد بإحدى الطائفتين إما: العير وإما قريش فاستشار أصحابه فقال بعضهم: هلا ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له إنا خرجنا للعير فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن العير مضت على ساحل البحر وهذا أبو جهل قد أقبل فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودع العدو فغضب عليه الصلاة والسلام فقام أبو بكر. وعمر رضي الله تعالى عنهما فأحسنا الكلام في اتباع أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله تعالى فنحن معك حيث أحببت لا نقول كما قال بنو إسرائيل لموسى فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ [المائدة: ٢٤] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فتبسم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: أشيروا عليّ أيها الناس- وهو يريد الأنصار- لأنهم كانوا عدوهم وقد شرطوا حين بايعوه بالعقبة أنهم براء من ذمامه حتى يصل إلى ديارهم فتخوف أن لا يروا نصرته إلا على عدوهم بالمدينة فقام سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنهما فقال: يا رسول الله إيانا تريد؟ قال: أجل. قال: قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فو الذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد ولا نكره أن تلقى بنا عدونا وإنا لصبر عند الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله تعالى يريك منا ما يقر به عينيك فسر بنا على بركات الله تعالى فنشطه قوله ثم قال عليه الصلاة والسلام: سيروا على بركة الله تعالى فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني انظر إلى مصارع القوم اهـ،
وبهذا تبين أن بعض المؤمنين كانوا كارهين وبعضهم لم يكونوا كذلك وهم الأكثر كما تشير إليه الآية،
وجاء في بعض الأخبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما فرغ من بدر قيل له: عليك بالعير فليس دونها شيء فناداه العباس وهو في وثاقه لا يصلح فقال له: لم؟ فقال: لأن الله تعالى وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك ما وعدك يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ الذي هو تلقي النفير المعلى للدين لايثارهم عليه تلقي العير،
والجملة اما مستأنفة أو حال ثانية، وجوز أن تكون حالا من الضمير في لَكارِهُونَ، وقوله سبحانه: بَعْدَ ما تَبَيَّنَ متعلق بيجادلون، وما مصدرية، وضمير تبين للحق أي يجادلون بعد تبين الحق لهم باعلامك أنهم ينصرون ويقولون: ما كان خروجنا إلا للعير وهلا ذكرت لنا القتال حتى نستعد له ونتأهب كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ أي مشبهين بالذين يساقون بالعنف والصغار إلى القتل، فالجملة في محل نصب على الحالية من ضمير لكارهون، وجوز أن تكون صفة مصدر لكارهون بتقدير مضاف أي لكارهون كراهة ككراهة من سبق للموت وَهُمْ يَنْظُرُونَ حال من ضمير يساقون وقد شاهدوا أسبابه وعلاماته، وفي قوله سبحانه وتعالى: كَأَنَّما إلخ إيماء إلى أن مجادلتهم كانت لفرط فزعهم ورعبهم لأنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا في قول فيهم فارسان المقداد بن الأسود. والزبير بن العوام، وعن علي كرم الله تعالى وجهه ما كان منا فارس يوم بدر إلا المقداد وكان المشركون ألفا قد استعدوا للقتال وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ كلام مستأنف مسوق لبيان جميل صنع الله تعالى بالمؤمنين مع ما بهم من الجزع وقلة الحزم، فإذ نصب على المفعولية بمضمر إن كانت متصرفة أو ظرف لمفعول ذلك الفعل، وهو خطاب للمؤمنين بطريق التلوين والالتفات وإِحْدَى مفعول ثان ليعد وهو يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه وبالباء، أي اذكروا وقت أو الحادث وقت وعد الله تعالى إياكم إحدى الطائفتين.
وقرىء «يعدكم» بسكون الدال تخفيفا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها، وقوله سبحانه وتعالى: أَنَّها لَكُمْ بدل اشتمال من إحدى مبين لكيفية الوعد، أي يعدكم أن إحدى الطائفتين كائنة لكم مختصة بكم تتسلطون عليها تسلط الملائك وتتصرفون فيها كيفما شئتم وَتَوَدُّونَ عطف على يعدكم داخل معه حيث دخل أي تحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ من الطائفتين، وذات الشوكة هي النفير ورئيسهم أبو
160
جهل، وغيرها العير ورئيسهم أبو سفيان، والتعبير عنهم بهذا العنوان للتنبيه على سبب ودادتهم لملاقاتهم وموجب كراهتهم ونفرتهم عن موافاة النفير، والشوكة في الأصل واحدة الشوك المعروف ثم استعيرت للشدة والحدة وتطلق على السلاح أيضا وفسرها بعضهم به هنا وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يظهر كونه حقا بِكَلِماتِهِ الموحى بها في هذه القصة أو أوامره للملائكة بالامداد أو بما قضي من أسر الكفار وقتلهم وطرحهم في قليب بدر، وقرىء «بكلمته» بالإفراد لجعل المتعدد كالشيء الواحد أو على أن المراد بها كلمة كن التي هي عند الكثير عبارة عن القضاء والتكوين وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي آخرهم والمراد يهلكهم جملة من أصلهم لأنه لا يفنى الآخر إلا بعد فناء الأول، ومنه سمي الهلاك دبارا. والمعنى أنتم تريدون سفساف الأمور والله عزّ وجلّ يريد معاليها وما يرجع إلى علو كلمة الحق وسمو رتبة الدين وشتان بين المرادين، وكأنه للإشارة إلى ذلك عبر أولا بالودادة وثانيا بالإرادة، وقوله تعالى: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ جملة مستأنفة سيقت لبيان الحكمة الداعية إلى اختيار ذات الشوكة ونصرهم عليها مع إرادتهم لغيرها، واللام متعلقة بفعل مقدر مؤخر عنها، أي لهذه الحكمة الباهرة فعل ما فعل لا لشيء آخر، وليس فيه مع ما تقدم تكرار إذ الأول لبيان تفاوت ما بين الإرادتين وهذا لبيان الحكمة الداعية إلى ما ذكر.
وأشار الزمخشري إلى أن هذا نظير قولك: أردت أن تفعل الباطل وأردت أن أفعل الحق ففعلت ما أردته لكذا لا لمقتضى إرادتك وليس نظير قولك: أردت أن أكرم زيدا لا كرامه ليكون فيه ما يكون، ومعنى ابطال الباطل على طرز ما أشرنا إليه في احقاق الحق وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك أعني إحقاق الحق وإبطال الباطل، والمراد بهم المشركون لا من كره الذهاب إلى النفير لأنه جرم منهم كما قيل.
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بدل من إِذْ يَعِدُكُمُ وإن كان زمان الوعد غير زمان الاستغاثة لأنه بتأويل أن الوعد والاستغاثة وقعا في زمن واسع كما قال الطيبي، قيل: وهو يحتمل بدل الكل إن جعلا متسعين وبدل البعض إن جعل الأول متسعا والثاني معيارا، وجوز أن يكون متعلقا بقوله سبحانه: لِيُحِقَّ. واعترض بأنه مستقبل لنصبه بأن، وإِذْ للزمان الماضي فكيف يعمل بها. وأجيب بأن ذلك مبني على ما ذهب إليه بعض النحاة كابن مالك من أن إِذْ قد تكون بمعنى إذا للمستقبل كما في قوله تعالى: فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ [غافر: ٧١].
وقد يجعل من التعبير عن المستقبل بالماضي لتحققه. وقال بعض المحققين في الجواب: إن كون الاحقاق مستقبلا إنما هو بالنسبة إلي زمان ما هو غاية له من الفعل المقدر لا بالنسبة إلى زمان الاستغاثة حتى لا يعمل فيه بل هما في وقت واحد، وإنما عبر عن زمانها بإذ نظرا إلى زمن النزول، وصيغة الاستقبال في تَسْتَغِيثُونَ لحكاية الحال الماضية لاستحضار صورتها العجيبة، وقيل: هو متعلق بمضمر مستأنف أي اذكروا، وقيل: ب تَوَدُّونَ وليس بشيء، والاستغاثة كما قال غير واحد: طلب الغوث وهو التخليص من الشدة والنقمة والعون، وهو متعد بنفسه ولم يقع في القرآن الكريم إلا كذلك، وقد يتعدى بالحرف كقوله:
حتى استغاث بماء لا رشاد له من الأباطح في حافاته البرك
وكذا استعمله سيبويه وزعم أنه خطأ، والظاهر أن المستغيث هم المؤمنون، قيل: إنهم لما علموا أن لا محيص من القتال أخذوا يقولون: أي رب انصرنا على عدوك أغثنا يا غياث المستغيثين، وقال الزهري: إنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون معه، وظاهر بعض الأخبار يدل على أنه الرسول عليه الصلاة والسلام.
فقد أخرج أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: حدثني عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة فاستقبل
161
نبي الله صلّى الله عليه وسلّم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه اللهم أنجز لي ما وعدتني اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض فما زال يهتف بربه مادا يديه مستقبل القبلة حتى سقط رداؤه فأتاه أبو بكر رضي الله تعالى عنه فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك فنزلت الآية في ذلك،
وعليه فالجمع للتعظيم فَاسْتَجابَ لَكُمْ أي فأجاب دعاءكم عقيب استغاثتكم إياه سبحانه على أتم وجه أَنِّي مُمِدُّكُمْ أي بأني فحذف الجار، وفي كون المنسبك بعد الحذف منصوبا أو مجرورا خلاف. وقرأ أبو عمر بالكسر على تقدير القول أو إجراء استجاب مجرى قال لأن الاستجابة من جنس القول، والتأكيد للاعتناء بشأن الخبر، وحمله على تنزيل غير المنكر بمنزلة المنكر بمنزلة المنكر عندي، والمراد بممدكم معينكم وناصركم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ أي وراء كل ملك ملك كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وردف وأردف بمعنى كتبع وأتبع في قول.
وعن الزجاج أن بينهما فرقا فردفت الرجل بمعنى ركبت خلفه وأردفته بمعنى أركبته خلفي، وقال بعضهم: ردفت وأردفت إذا فعلت ذلك فإذا فعلته بغيرك فأردفت لا غير، وجاء أردف بمعنى اتبع مشددا وهو يتعدى لواحد وبمعنى اتبع مخففا وهو يتعدى لاثنين على ما هو المشهور، وبكل فسر هنا، وقدروا المفعول والمفعولين حسبما يصح به المعنى ويقتضيه، وجعلوا الاحتمالات خمسة، احتمالان على المعنى الأول. أحدهما أن يكون الموصوف جملة الملائكة والمفعول المقدر المؤمنين، والمعنى متبعين المؤمنين أي جائين خلفهم، وثانيهما أن يكون الموصوف بعض الملائكة والمفعول بعض آخر، والمعنى متبعا بعضهم بعضا آخر منهم كرسلهم عليهم السلام، وثلاثة احتمالات على المعنى الثاني. الأول أن يكون الموصوف كل الملائكة والمفعولان بعضهم على معنى أنهم جعلوا بعضهم يتبع بعضا. الثاني كذلك إلا أن المفعول الأول بعضهم والثاني المؤمنين على معنى أنهم اتبعوا بعضهم المؤمنين فجعلوا بعضا منهم خلفهم. والثالث كذلك أيضا إلا أن المفعولين أنفسهم والمؤمنين على معنى أنهم اتبعوا أنفسهم وجملتهم المؤمنين فجعلوا أنفسهم خلفهم.
وقرأ نافع ويعقوب «مردفين» بفتح الدال، وفيه احتمالان أن يكون بمعنى متبعين بالتشديد أي اتبعهم غيرهم، وأن يكون بمعنى متبعين بالتخفيف أي جعلوا أنفسهم تابعة لغيرهم، وأريد بالغير في الاحتمالين المؤمنون، فتكون الملائكة على الأول مقدمة الجيش وعلى الثاني ساقتهم، وقد يقال: المراد بالغير آخرون من الملائكة وفي الآثار ما يؤيده،
أخرج ابن جرير عن علي كرم الله تعالى وجهه قال: «نزل جبريل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيها أبو بكر رضي الله تعالى عنه ونزل ميكائيل عليه السلام في ألف من الملائكة عن ميسرة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنا فيها»
لكن في الكشاف بدل الألف في الموضعين خمسمائة، وقرىء «مردفين» بكسر الراء وضمها، وأصله على هذه القراءة مرتدفين بمعنى مترادفين فأبدلت التاء دالا لقرب مخرجهما وأدغمت في مثلها فالتقى الساكنان فحركت الراء بالكسر على الأصل، أو لاتباع الدال أو بالضم لاتباع الميم، وعن الزجاج أنه يجوز في الراء الفتح أيضا للتخفيف أو لنقل حركة التاء وهي القراءة التي حكاها الخليل عن بعض المكيين، وذكر أبو البقاء أنه قرئ بكسر الميم والراء، ونقل عن بعضهم أن مردفا بفتح الراء وتشديد الدال من ردف بتضعيف العين أو أن التشديد بدل من الهمزة كأفرحته وفرحته.
ومن الناس من فسر الارتداف بركوب الشخص خلف الآخر وأنكره أبو عبيدة وأيده بعضهم، وعن السدي أنه قرىء «بآلاف» على الجمع فيوافق ما وقع في سورة أخرى بِثَلاثَةِ آلافٍ [آل عمران: ١٢٤] وبِخَمْسَةِ آلافٍ
162
[آل عمران: ١٢٥] قيل: ووجه التوفيق بينه وبين المشهور أن المراد بالألف الذين كانوا على المقدمة أو الساقة أو وجوههم أو من قاتل منهم.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الشعبي أنه قال: كان ألف مردفين وثلاثة آلاف منزلين وهو جمع ليس بالجيد.
وأخرج ابن جرير وعبد بن حميد عن قتادة أنهم أمدوا أولا بألف ثم آلاف ثم أكملهم الله تعالى خمسة آلاف، وأنت تعلم أن ظاهر ما روي عن الحبر يقتضي أن ما في الآية ألفان في الحقيقة، وصرح بعضهم أن ما فيها بيان اجمالي لما في تلك السورة بناء على أن معنى مردفين جاعلين غيرهم من الملائكة رديفا لأنفسهم، وهو ظاهر في أن المراد بالألف الرؤساء المستتبعون لغيرهم، والأكثرون على أن الملائكة قاتلت يوم بدر، وفي الأخبار ما يدل عليه، وذكروا أنها لم تقاتل يوم الأحزاب ويوم حنين، وتفصيل ذلك في السير، وقد تقدم بعض الكلام فيما يتعلق بهذا المقام فتذكر وَما جَعَلَهُ اللَّهُ كلام مستأنف لبيان أن المؤثر الحقيقي هو الله تعالى ليثق به المؤمنون ولا يقنطوا من النصر عند فقدان أسبابه، والجعل متعد إلى واحد وهو الضمير العائد إلى المصدر المنسبك في أَنِّي مُمِدُّكُمْ على قراءة الفتح والمصدر المفهوم من ذلك على الكسر، واعتبار القول ورجوع الضمير إليه ليس بمعتبر من القول، أي وما جعل امدادكم بهم لشيء من الأشياء إِلَّا بُشْرى أي بشارة لكم بأنكم تنصرون وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ أي بالامداد قُلُوبُكُمْ وتسكن إليه نفوسكم وتزول عنكم الوسوسة ونصب بُشْرى على أنه مفعول له ولتطمئن معطوف عليه، وأظهرت اللام لفقد شرط النصب، وقيل: للإشارة إلى أصالته في العلية وأهميته في نفسه كما قيل في قوله سبحانه: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [النحل: ٨].
وقيل: إن الجعل متعد إلى اثنين ثانيهما بُشْرى على أنه استثناء من أعم المفاعيل، واللام متعلقة بمحذوف مؤخر أي وما جعله الله تعالى شيئا من الأشياء إلا بشارة لكم ولتطمئن به قلوبكم فعل ما فعل لا لشيء آخر والأول هو الظاهر، وفي الآية اشعار بأن الملائكة لم يباشروا قتالا وهو مذهب لبعضهم، ويشعر ظاهرها بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرهم بذلك الامداد وفي الأخبار ما يؤيده، بل جاء في غير ما خبر أن الصحابة أو الملائكة عليهم السلام.
وروي عن أبي أسيد وكان قد شهد بدرا أنه قال بعد ما ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي وما النصر بالملائكة وغيرهم من الأسباب إلا كائن من عنده عزّ وجلّ، فالمنصور هو من نصره الله سبحانه والأسباب ليست بمستقلة، أو المعنى لا تحسبوا النصر من الملائكة عليهم السلام فإن الناصر هو الله تعالى لكم والملائكة، وعليه فلا دخل الملائكة في النصر أصلا، وجعل بعضهم القصر على الأول افرادي وعلى الثاني قلبي إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يغالب في حكمه ولا ينازع في قضيته حَكِيمٌ يفعل كل ما يفعل حسبما تقتضيه الحكمة الباهرة، والجملة تعليل لما قبلها وفيها اشعار بأن النصر الواقع على الوجه المذكور من مقتضيات الحكم البالغة.
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أي يجعله غاشيا عليكم ومحيطا بكم. والنعاس أول النوم قبل أن يثقل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أن النعاس في الرأس والنوم في القلب ولعل مراده الثقل والخفة وإلا فلا معنى له، والفعل نعس كمنع والوصف ناعس ونعسان قليل. وإِذْ يُغَشِّيكُمُ بدل ثان من إِذْ يَعِدُكُمُ على القول بجواز تعدد البدل، وفيه اظهار نعمة أخرى فإن الخوف أطار كراهم من أو كاره فلما طامن الله تعالى قلوبهم رفرف بجناحه عليها فنعسوا، وصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية أو هو منصوب باذكروا.
163
وجوز تعلقه بالنصر، وضعف بأن فيه أعمال المصدر المعرف بأل وفيه خلاف الكوفيين، والفصل بين المصدر ومعموله، وعمل ما قبل إلا فيما بعدها من غير أن يكون ذلك المعمول مستثنى أو مستثنى منه أو صفة له، والجمهور لا يجوزون ذلك خلافا للكسائي والأخفش، وتعلقه بما في عند الله من معنى الفعل وقيل عليه: إذ يلزم تقييد استقرار النصر من الله تعالى بهذا الوقت ولا تقييد له به، وأجاب الحلبي بأن المراد به نصر خاص فلا محذور في تقييده، وبالجعل، وفيه الفصل وعمل ما قبل إلا فيما ليس أحد الثلاثة وبما دل عليه عَزِيزٌ حَكِيمٌ وفيه لزوم التقييد ولا تقييد، وأجيب بما أجيب، والانصاف بعد الاحتمالات الأربع. وقرأ نافع «يغشيكم» بالتخفيف من الاغشاء بمعنى التغشية والفاعل في القراءتين هو الله تعالى.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «يغشاكم» على إسناد الفعل إلى النعاس. وقوله سبحانه وتعالى: أَمَنَةً مِنْهُ نصب على أنه مفعول له وهو مصدر بمعنى الأمن كالمنعة وإن كان قد يكون جمعا وصفة بمعنى آمنين كما ذكره الراغب، واستشكل بأن شرط النصب الذي هو اتحاد فاعله وفاعل الفعل العامل فيه مفقود إذ فاعله هم الصحابة الآمنون رضي الله تعالى عنهم وفاعل الآخر هو الله على القراءتين الأوليين والنعاس على الأخرى.
وأجيب بأنه مفعول له باعتبار المعنى الكنائي فإن يغشاكم النعاس يلزمه تنعسون ويغشيكم بمعناه فيتحد الفاعلان إذ فاعل كل حينئذ الصحابة، وقال بعض المدققين: إنه على القراءتين الأوليين يجوز أن يكون منصوبا على العلية لفعل مترتب على الفعل المذكور أي يغشيكم النعاس فتنعسون أمنا أو على أنه مصدر لفعل آخر كذلك أي فتأمنون أمنا، وعلى القراءة الأخيرة منصوب على العلية بيغشاكم باعتبار المعنى فإنه في حكم تنعسون أو على أنه مصدر لفعل مترتب عليه كما علمت، وما تقدم أقل انتشارا.
وجوز أن يراد بالأمنة الإيمان بمعناه اللغوي وهو جعل الغير آمنا فيكون مصدر آمنه، وهو على بعد إنما يتمشى في القراءتين الأوليين لأن فاعل التغشية والأمان هو الله تعالى، وأما على القراءة الأخرى فلا ويحتاج إلى ما مر، ومن الناس من جوز فيها أن يجعل الأمن فعل النعاس على الإسناد المجازي لكونه من ملابسات أصحاب الأمن، والإسناد في ذلك مقدر وليس المراد به النسبة التي بين الفعل والمفعول له أي يغشاكم النعاس لأمنه، أو على تشبيه حاله بحال إنسان شأنه الأمن والخوف وأنه حصل له من الله تعالى الأمان من الكفار في مثل ذلك الوقت المخوف فلذلك غشاكم وأنامكم فيكون الكلام تمثيلا وتخييلا للمقصود بإبراز المعقول في صورة المحسوس. والقطب جعل في الكلام استعارة بالكناية حيث ذكر أنه شبه النعاس بشخص من شأنه أن يأتيهم لكنه لا يأتيهم في وقت الخوف وإذا أمن أتاهم، ثم ذكر النعاس وأراد ذلك الشخص، والقرينة ذكر الأمنة لأنها من لوازم المشبه به، وقد وصف الزمخشري النوم بنحو ذلك في قوله:
يهاب النوم أن يغشى عيونا تهابك فهو نفار شرود
وما يقال: إن مثل هذا إنما يليق بالشعر لا بالقرآن الكريم فغير مسلم، وذكر ابن المنير في توجيه اتحاد الفاعل على القراءتين أن لقائل أن يقول: فاعل تغشية النعاس إياهم هو الله تعالى وهو فاعل الأمنة أيضا لأنه خالقها فحينئذ يتحد فاعل الفعل والعلة فيرتفع السؤال ويزول الاشكال على قواعد أهل السنة التي تقتضي نسبة فعال الخلق إلى الله تعالى على أنه خالقها ومبدعها وتعقبه بأن للمورد أن يقول: المعتبر الفاعل اللغوي وهو المتصف بالفعل وهو هنا ليس إلا العبد إذ لا يقال لله سبحانه وتعالى آمن وإن كان هو الخالق وحينئذ يحتاج إلى الجواب بما سلف والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لأمنة، أي أمنة كائنة منه تعالى لكم، ولعل مغايرة ما هنا لما في سورة آل عمران لاختلاف المقام
164
فقد قالوا: إن ذلك المقام اقتضي الاهتمام بشأن الأمن ولذلك قدمه سبحانه وتعالى وبسط الكلام فيه كما لا يخفى على من تأمل في السياق والسباق بخلافه هنا لأنه في مقام تعداد النعم فلذا جيء بالقصة مختصرة للرمز وقرىء «أمنة» بالسكون وهو لغة فيه.
وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً عطف على يُغَشِّيكُمُ وكان هذا قبل النعاس كما روي عن مجاهد وتقديم الجار والمجرور على المفعول به للاهتمام بالمقدم والتشويق إلى المؤخر كما مر غير مرة، وتقديم عليكم لما أن بيان كون التنزيل عليهم أهم من بيان كونه من السماء: وقرأ ابن كثير وسهل ويعقوب وأبو عمر وَيُنَزِّلُ بالتخفيف من الانزال وقرأ الشعبي ما لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أي من الحدث الأصغر والأكبر ووجهها كما قال ابن جني أن ما موصولة واللام متعلقة بمحذوف وقع صلة لها أي وينزل عليكم الذي ثبت لتطهيركم، ونظير هذا اللام اللام في قولك: أعطيت الثوب الذي لدفع البرد وهي في قراءة الجماعة نظير اللام في قولك: زرتك لتكرمني ومرجع القراءتين واحد والمشهور أفصح بالمراد وانظر لم لا يجوز أن تخرج هذه القراءة على ما سمع من قولهم اسقني ما بالقصر، وقد حكي ذلك في القاموس وأرى أن العدول عن ذلك إن جاز كالتيمم مع وجود الماء.
وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسته وتخويفه إياكم من العطش. أخرج ابن المنذر وأبو الشيخ من طريق ابن جريج عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن المشركين غلبوا المسلمين فى أول أمرهم على الماء فظمىء المسلمون وصلوا مجنبين محدثين وكانت بينهم رمال فألقى الشيطان في قلوبهم الحزن وقال: أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء الله تعالى وتصلون مجنبين محدثين؟ فانزل الله تعالى من السماء ماء فسال عليهم الوادي فشربوا وتطهروا وثبتت أقدامهم وذهبت وسوسة الشيطان، وفسر بعضهم الرجز هنا بالجنابة مع اعتبار كون التطهير منها واعترض بلزوم التكرار ودفع بأن الجملة الثانية تعليل للأولى والمعنى طهركم من الجنابة لأنها كانت من رجز الشيطان وتخييله.
وقرىء «رجس» وهو بمعنى الرجز وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي يقويها بالثقة بلطف الله تعالى فيما بعد بمشاهدة طلائعه، وأصل الربط الشد ويقال لمن صبر على الشيء: ربط نفسه عليه.
قال الواحدي: ويشبه أن تكون عَلى صلة أي وليربط قلوبكم. وقيل الأصل ذلك إلا أنه أتى بعلى قصدا للاستعلاء. وفيه إيماء إلى أن قلوبهم قد امتلأت من ذلك حتى كأنه علا عليها، وفي ذلك من إفادة التمكن ما لا يخفى وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ ولا تسوخ في الرمل فالضمير للماء كالأول.
وجوز أن يكون للربط، والمراد بتثبيت الأقدام كما قال أبو عبيدة جعلهم صابرين غير فارين ولا متزلزلين إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ متعلق بمضمر مستأنف أي اذكر خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق التجريد حسبما ينطق به الكاف، وقيل: منصوب بيثبت ويتعين حينئذ عود الضمير المجرور في به إلى الربط ليكون المعنى ونثبت الأقدام بتقوية قلوبكم وقت الإيحاء إلى الملائكة والأمر بتثبيتهم إياكم وهو وقت القتال، ولا يصح أن يعود إلى الماء لتقدم زمانه على ذلك، وقال بعضهم: يجوز ذلك لأن التثبيت بالمطر باق إلى زمانه أو يعتبر الزمان متسعا قد وقع جميع المذكور فيه وفائدة التقييد التذكير بنعمة أخرى والإيماء إلى اقتران تثبيت الأقدام بتثبيت القلوب المأمور به الملائكة الذي لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، أو الرمز إلى أن التقوية وقعت على أتم وجه، وقيل: هو بدل ثالث من إِذْ يَعِدُكُمُ ويبعده تخصيص الخطاب بسيد المخاطبين عليه الصلاة والسلام. واختار بعض المحققين الأول مدعيا أن في الثاني تقييد التثبيت بوقت مبهم وليس فيه مزيد فائدة. وفي الثالث إباء التخصيص عنه مع أن المأمور به ليس من الوظائف العامة للكل كسائر أخواته ولا يستطيعه غيره عليه الصلاة والسلام لأن الوحي المذكور قبل ظهوره بالوحي المذكور،
165
ولا يخفى على المتأمل أن ما ذكر لا يقتضي تعين الأول نعم يقتضي أولويته.
والمراد بالملائكة الملائكة الذين وقع بهم الإمداد، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة، والمعنى إذ أوحى أَنِّي مَعَكُمْ أي معينكم على تثبيت المؤمنين، ولا يمكن حمله على إزالة الخوف كما في قوله سبحانه وتعالى:
لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: ٤٠] لأن الملائكة لا يخافون من الكفرة أصلا، وما تشعر به كلمة مع من متبوعية الملائكة لا يضر في مثل هذه المقامات، وهو نظير إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٣، الأنفال: ٤٦] ونحوه، والمنسبك، مفعول يوحى، وقرىء إني بالكسر على تقدير القول أي قائلا إني معكم، أو إجراء الوحي مجراه لكونه متضمنا معناه، والفاء في قوله سبحانه: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمراد بالتثبيت الحمل على الثبات في موطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال قالا أو حالا، وكان ذلك هنا في قول بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم، فقد أخرج البيهقي في الدلائل أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول: أبشروا فانهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم، وجاء في رواية كان الملك يتشبه بالرجل فيأتي ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لنكشفن ويمشي بين الصفين ويقول: أبشروا فإن الله تعالى ناصركم.
وقال الزجاج: كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم، وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له الهام كما أن للشيطان قولة إلقاء الشر ويقال له وسوسة وقيل: كان ذلك بمجرد تكثير السواد.
وعن الحسن أنه كان بمحاربة أعدائهم وذهب إلى ذلك جماعة وجعلوا قوله تعالى سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ تفسير القول تعالى: أَنِّي مَعَكُمْ كأنه قيل: إني معكم في إعانتهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، والرعب بضم فسكون وقد يقال بضمتين وبه قرأ ابن عامر والكسائي الخوف وانزعاج النفس بتوقع المكروه، وأصله التقطيع من قولهم: رعبت السنام ترعيبا إذا قطعته مستطيلا كأن الخوف يقطع الفؤاد أو يقطع السرور بضده، وجاء رعب السيل الوادي إذا ملأه كان السيل قطع السلوك فيه أو لأنه انقطع إليه من كل الجهات، وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: فَاضْرِبُوا إلخ تفسيرا لقوله تبارك وتعالى: فَثَبِّتُوا مبين لكيفية التثبيت. وقد أخرج عبد بن حميد وابن مردويه على أبي داود المازني قال: بينا أنا أتبع رجلا من المشركين يوم بدر فأهويت بسيفي إليه فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعرفت أنه قد قتله غيري.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وقائلا يقول: أقدم حيزوم فخر المشرك مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه فجاء فحدث بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة.
وجوز بعضهم أن يكون التثبيت بما يلقون إليهم من وعد النصر وما يتقوى به قلوبهم في الجملة، وقوله سبحانه وتعالى: سَأُلْقِي إلخ جملة استئنافية جارية مجرى التعليل لإفادة التثبيت لأنه مصدقه ومبينه لإعانته إياهم على التثبيت، وقوله سبحانه وتعالى: فَاضْرِبُوا إلخ جملة مستعقبة للتثبيت بمعنى لا تقتصروا على تثبيتهم وأمدوهم بالقتال عقيبه من غير تراخ، وكأن المعنى أني معكم فيما آمركم به فثبتوا واضربوا. وجيء بالفاء للنكتة المذكورة، ووسط سَأُلْقِي تصديقا للتثبيت وتمهيدا للأمر بعده، وعلى الاحتمالين تكون الآية دليلا لمن قال: إن الملائكة قاتلت يوم بدر، وقال آخرون: التثبيت بغير المقاتلة، وقوله عزّ وجلّ: سَأُلْقِي تلقين منه تعالى للملائكة على إضمار القول على أنه تفسير للتثبيت أو استئناف بياني، والخطاب في فَاضْرِبُوا للمؤمنين صادرا من الملائكة حكاه الله تعالى لنا، وجوز أن يكون ذلك الكلام من جملة الملقن داخلا تحت القول، كأنه قيل: قولوا لهم قولي سَأُلْقِي
166
إلخ، أو كأنه قيل: كيف نثبتهم؟ فقيل: قولوا لهم قولي سَأُلْقِي إلخ، ولا يخفى أن هذا القول أضعف الأقوال معنى ولفظا. وأما القول بأن فَاضْرِبُوا إلخ خطاب منه تعالى للمؤمنين بالذات على طريق التلوين فمبناه توهم وروده قبل القتال، وأني ذلك؟ والسورة الكريمة إنما نزلت بعد تمام الواقعة، وبالجملة الآية ظاهرة فما يدعيه الجماعة من وقوع القتال من الملائكة فَوْقَ الْأَعْناقِ أي الرؤوس كما روي عن عطاء وعكرمة، وكونها فوق الأعناق ظاهر. وأما المذابح كما قال البعض فإنها في أعالي الأعناق وفَوْقَ باقية على ظرفيتها لأنها لا تتصرف، وقيل: إنها مفعول به وهي بمعنى الأعلى إذا كان بمعنى الرأس، وقيل: هي هنا بمعنى على والمفعول محذوف أي فاضربوهم على الأعناق، وقيل: زائدة أي فاضربوا الأعناق وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ.
قال ابن الأنباري: البنان أطراف الأصابع من اليدين والرجلين والواحدة بنانة وخصها بعضهم باليد.
وقال الراغب: هي الأصابع وسميت بذلك لأن بها إصلاح الأحوال التي بها يمكن للإنسان أن بين أي يقيم من أبن بالمكان وبن إذا أقام، ولذلك خص في قوله سبحانه وتعالى: بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ [القيامة: ٤] وما نحن فيه لأجل أنهم يقاتلون ويدافعون، والظاهر أنها حقيقة في ذلك، وبعضهم يقول: إنها مجاز فيه من تسمية الكل باسم الجزء.
وقيل: المراد بها هنا مطلق الأطراف لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل. والمراد اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها وآثره في الكشاف. وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها الجسد كله في لغة هذيل، ويقال فيها بنام بالميم وتكرير الأمر بالضرب لمزيد التشديد والاعتناء بأمره ومِنْهُمْ متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من كُلَّ بَنانٍ وضعف كونه حالاف من بنان بأن فيه تقديم حال المضاف إليه على المضاف لِكَ
إشارة إلى الضرب والأمر به أو إلى جميع ما مر. والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من ذكر قبل من الملائكة والمؤمنين على البدل أو لكل أحد ممن يليق بالخطاب. وجوز أن يكون خطابا للجمع، والكاف تفرد مع تعدد من خوطب بها، وليست كالضمير على ما صرحوا به، ومحل الاسم الرفع على الابتداء وخبره قوله سبحانه وتعالى: أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
وقال أبو البقاء: إن ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وليس الأمر ذلك، والباء للسببية والمشاقة العداوة سميت بذلك أخذا من شق العصا وهي المخالفة أو لأن كلا من المتعاديين يكون في شق غير شق الآخر كما أن العداوة سميت عداوة لأن كلا منهما في عدوة أي جانب وكما أن المخاصمة من الخصم بمعنى الجانب أيضا، والمراد بها هنا المخالفة أي ذلك ثابت لهم أو واقع عليهم بسبب مخالفتهم لمن لا ينبغي لهم مخالفته بوجه من الوجوه مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أي يخالف أمر الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام والإظهار في مقام الإضمار لتربية المهابة وإظهار كمال شناعة ما اجترءوا عليه والاشعار بعلية الحكم، وبئس خطيب القوم أنت اقتضاه الجمع على وجه لا يبين منه الفرق ممن هو في ربقة التكليف وأين هذا من ذاك لو وقع ممن لا حجر عليه، وإنما لم يدغم المثلان لأن الثاني ساكن في الأصل والحركة لالتقاء الساكنين فلا يعتد به، وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
إما نفس الجزاء قد حذف منه العائد عند من يلتزمه ولا يكتفي بالفاء في الربط أي شديد العقاب له، أو تعليق للجزاء المحذوف أي يعاقبه الله تعالى فإن الله شديد العقاب، وأيا ما كان فالشرطية بيان للسببية السابقة بطريق برهاني، كأنه قيل: ذلك العقاب الشديد بسبب المشاقة لله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام وكل من يشاقق الله ورسوله كائنا من كان فله بسبب ذلك عقاب شديد فاذن لهم بسبب مشاقة الله ورسوله عقاب شديد، وقيل: هو وعيد بما أعد لهم في الآخر بعد ما حلق بهم في الدنيا، قال بعض المحققين: ويرده قوله سبحانه وتعالى: ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ
167
عَذابَ النَّارِ
فإنه مع كونه هو المسوق للوعيد بما ذكر ناطق بكون المراد بالعقاب المذكور ما أصابهم عاجلا سواء جعل ذلِكُمْ إشارة إلى نفيس العقاب أو إلى ما تفيده الشرطية من ثبوته لهم، أما على الأول فلأن الأظهر أن محله النصب بمضمر يستدعيه فَذُوقُوهُ والواو في وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ إلخ بمعنى مع، فالمعنى باشروا ذلكم العقاب الذي أصابكم فذوقوه عاجلا مع أن لكم عذاب النار آجلا، فوقع الظاهر موضع الضمير لتوبيخهم بالكفر وتعليل الحكم به، وأما على الثاني فلأن الأقرب أن محله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقوله سبحانه وتعالى: وأَنَّ إلخ معطوف عليه، والمعنى حكم الله تعالى ذلكم أي ثبوت هذا العقاب لكم عاجلا وثبوت عذاب النار آجلا، وقوله تعالى: فَذُوقُوهُ اعتراض وسط بين المعطوفين للتهديد، والضمير على الأول لنفس المشار إليه وعلى الثاني لما في ضمنه اهـ.
واعترض على الاحتمال الأول بأن الكلام عليه من باب الاشتغال وهو إنما يصح لو جوزنا صحة الابتداء في ذلِكُمْ وظاهر أنه لا يجوز لأن ما بعد الفاء لا يكون خبرا إلا إذا كان المبتدأ موصولا أو نكرة موصوفة. ورد بأنه ليس متفقا عليه فإن الأخفش جوزه مطلقا، وتقدير باشروا مما استحسنه أبو البقاء وغيره قالوا: لتكون الفاء عاطفة لا زائدة أو جزائية كما في نحو زيدا فاضربه على كلام فيه، وبعضهم يقدر عليكم اسم فعل. واعترضه أبو حيان بأن أسماء الأفعال لا تضمر. واعتذر عن ذلك الحلبي بأن من قدر لعله نحا نحو الكوفيين فإنهم يجرون اسم الفعل مجرى الفعل مطلقا ولذلك يعملونه متأخرا نحو كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٤]، وما أشار إليه كلامه من أن قوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ إلخ منصوب على أنه مفعول معه على التقدير الأول لا يخلو عن شيء، فإن في نصب المصدر المؤول على أنه مفعول معه نظرا. ومن هنا اختار بعضهم العطف على ذلكم كما في التقدير الثاني، وآخرون اختاروا عطفه على قوله تعالى: أَنِّي مَعَكُمْ داخل معه تحت الإيحاء أو على المصدر في قوله سبحانه وتعالى:
َنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
ولا يخفى أن العطف على ذلِكُمْ يستدعي أن يكون المعنى باشروا أو عليكم أو ذوقوا أن للكافرين عذاب النار وهو مما يأباه الذوق، ولذا قال العلامة الثاني: إنه لا معنى له، والعطفان الآخران لا أدري أيهما أمر من الآخر، ولذلك ذهب بعض المحققين إلى اختيار كون المصدر خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره محذوف، وقيل: هو منصوب باعلموا ولعل أهون الوجوه في الآية الوجه الأخير.
والانصاف أنها ظاهرة في كون المراد بالعقاب ما أصابهم عاجلا، والخطاب فيها مع الكفرة على طريق الالتفات من الغيبة في اقُّوا
إليه، ولا يشترط في الخطاب المعتبر في الالتفات أن يكون بالاسم كما هو المشهور بل يكون بنحو ذلك أيضا بشرط أن يكون خطابا لمن وقع الغائب عبارة عنه كذا قيل وفيه كلام، وقرأ الحسن وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ بالكسر، وعليه فالجملة تذييلية واللام للجنس والواو للاستئناف يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خطاب للمؤمنين بحكم كلي جار فيما سيقع من الوقائع والحروب جيء به في تضاعيف القصة إظهارا للاعتناء به وحثا على المحافظة عليه إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً الزحف كما قال الراغب انبعاث مع جر الرجل كانبعاث الصبي قبل أن يمشي والبعير المعيي والعسكر إذا كثر فتعثر انبعاثه، وقال غير واحد: هو الدبيب يقال: زحف الصبي إذا دب على استه قليلا قليلا ثم سمي به الجيش الدهم المتوجه إلى العدو لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف لأن الكل يرى كجسم واحد متصل فتحس حركته بالقياس في غاية البطء وإن كانت في نفس الأمر في غاية السرعة كما قال سبحانه وتعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ [النمل: ٨٨] وقال قائلهم:
168
ويجمع على زحوف لأنه خرج عن المصدرية، ونصبه إما على أنه حال من مفعول لَقِيتُمُ أي زاحفين نحوكم أو على مصدر مؤكد لفعل مضمر هو الحال منه أي يزحفون زحفا. وجوز كونه حالا من فاعله أو منه ومن مفعوله معا، واعترض بأنه يأباه قوله تعالى: فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ إذ لا معنى لتقييد النهي عن الأدبار بتوجههم السابق إلى العدو وبكثرتهم بل توجه العدو إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الأدبار عادة والمحوج إلى النهي، وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين حين تولوا وهم إثنا عشر ألفا بعيد انتهى.
وأجيب بأن المراد بالزحف ليس إلا المشي للقتال من دون اعتبار كثرة أو قلة وسمي المشي لذلك به لأن الغالب عند ملاقاة الطائفتين مشي أحداهما نحو الأخرى مشيا رويدا والمعنى إذا لقيتم الكفار ماشين لقتالهم متوجهين لمحاربتهم أو ماشيا كل واحد منكم إلى صاحبه فلا تدبروا، وتقييد النهي بذلك لايضاح المراد بالملاقاة ولتفظيع أمر الإدبار لما أنه مناف لتلك الحال، كأنه قيل حيث أقبلتم فلا تدبروا وفيه تأمل والمراد من تولية الأدبار الانهزام فإن المنهزم يولي ظهره من انهزم منه، وعدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحا للانهزام وتنفيرا عنه. وقد يقال: الآية على حد وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء: ٣٢] والمعنى على تقدير الحالية من المفعول كما هو الظاهر واعتبار الكثرة في الزحف وكونها بالنسبة إليهم يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم أعداءكم الكفرة للقتال وهم جمع جم وأنتم عدد نزر فلا تولوهم أدباركم فضلا عن الفرار بل قابلوهم وقاتلوهم مع قلتكم فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء ووقته دُبُرَهُ فضلا عن الفرار.
وقرأ الحسن بسكون الباء إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أي تاركا موقفه إلى موقف أصلح للقتال منه، أو متوجها إلى قتال طائفة أخرى أهم من هؤلاء، أو مستطردا يريد الكر كما روي عن ابن جبير رضي الله تعالى عنه. ومن كلامهم:
نفر ثم نكر... والحرب كر وفر
وقد يصير ذلك من خدع الحرب ومكايدها، وجاء «الحرب خدعة» وأصل التحرف على ما في مجمع البيان الزوال عن جهة الاستواء إلى جهة الحرف، ومنه الاحتراف وهو أن يقصد جهة من الأسباب طالبا فيها رزقه أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي منحازا إلى جماعة أخرى من المؤمنين ومنضما إليهم وملحقا بهم ليقاتل معهم العدو، والفئة القطعة من الناس، ويقال: فأوت رأسه بالسيف إذا قطعته وما ألطف التعبير بالفئة هنا، واعتبر بعضهم كون الفئة قريبة للمتحيز ليستعين بهم، وكأنه مبني على المتعارف وكم يعتبر ذلك آخرون اعتبار للمفهوم اللغوي.
ويؤيده ما
أخرجه أحمد وابن ماجه وأبو داود والترمذي وحسنه والبخاري في الأدب المفرد واللفظ له عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: كنا في غزاة فحاص الناس حيصة قلنا: كيف نلقى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ فأتينا النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل صلاة الفجر فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا. نحن الفارون فقال: لا بل أنتم العكارون فقبلنا يده فقال عيه الصلاة والسلام: أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين ثم قرأ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ
والعكارون الكرارون إلى الحرب والعطافون نحوها.
وبما روي أنه انهزم من القادسية فأتى المدينة إلى عمر رضي الله تعالى عنه فقال: يا أمير المؤمنين هلكت فررت من الزحف فقال عمر رضي الله تعالى عنه: أنا فئتك، وبعضهم يحمل
قوله عليه الصلاة والسلام: «أنتم العكارون»
على تسليتهم وتطييب قلوبهم، وحمل الكلام كله في الخبرين على ذلك بعيد. نعم إن ظاهرهما يستدعي أن لا يكاد يوجد فار من الزحف، ووزن- متحيز- مفتعل لا مفتعل وإلا لكان متحوز لأنه من حاز يجوز وإلى هذا ذهب الزمخشري ومن تبعه، وتعقب بأن الإمام المرزوقي ذكر أن تدير تفعل مع أنه واوي نظر إلى شيوع ديار، وعليه فيجوز أن يكون تحيز
169
تفعل نظرا إلى شيوع الحيز بالياء، فلهذا لم يجىء تدور وتحوز، وذكر ابن جني أن ما قاله هذا الإمام هو الحق وأنهم قد يعدون المنقلب كالأصلي ويجرون عليه أحكامه كثيرا. لكن في دعواه نفي تحوز نظر، فإن أهل اللغة قالوا: تحوز وتحيز كما يدل عليه ما في القاموس، وقال ابن قتيبة: تحوز تفعل وتحيز تفعيل، وهذه المادة في كلامهم تتضمن العدول من جهة إلى أخرى من الحيز بفتح الحاء وتشديد الياء، وقد وهم فيه من وهم، وهو فناء الدار ومرافقها، ثم قيل لكل ناحية فالمستقر في موضعه كالجبل لا يقال له متحيز وقد يطلق عندهم على ما يحيط به حيز موجود، والمتكلمون يريدون به الأعم وهو كل ما أشير إليه فالعالم كله متحيز ونصب الوصفين على الحالية وإلا ليست عاملة ولا واسطة في العمل وهو معنى قولهم: وكانت كذلك لأنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال ولولا التفريغ لكانت عاملة أو واسطة في العمل على الخلاف المشهور وشرط الاستثناء المفرغ أن يكون في النفي أو صحة عموم المستثنى منه نحو قرأت إلا يوم كذا ومنه ما نحن فيه ويصح أن يكون من الأول باعتبار أن يولى بمعنى لا يقبل على القتال، ونظير ذلك ما قالوا في
قوله عليه الصلاة والسلام «العالم هلكى إلا العالمون» الحديث.
وجوز أن يكون على الاستثناء من المولين، أي من يولهم دبره إلا رجلا منهم متحرفا لقتال أو متحيزا فَقَدْ باءَ أي رجع بِغَضَبٍ عظيم لا يقادر قدره، وحاصله المولون إلا المتحرفين والمتحيزين لهم ما ذكر مِنَ اللَّهِ صفة غضب مؤكدة لفخامته أي بغضب كائن منه تعالى شأنه وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ أي بدل ما أراد بفراره أن يأوي إليه ينجيه من القتل وَبِئْسَ الْمَصِيرُ جهنم ولا يخفى ما في إيقاع البوء في موقع جواب الشرط الذي هو التولية مقرونا بذكر المأوى والمصير من الجزالة التي لا مزيد عليها، وفي الآية دلالة على تحريم الفرار من الزحف على غير المتحرف أو المتحيز،
وأخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «اجتنبوا السبع الموبقات قالوا: يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله تعالى والسحر وقتل النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق وأكل الربا وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف»
وجاء عده في الكبائر في غير ما حديث قالوا: وهذا إذا لم يكن العدو أكثر من الضعف لقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: ٦٦] الآية أما إذا كان أكثر فيجوز الفرار فالآية ليست باقية على عمومها وإلى هذا ذهب أكثر أهل العلم.
وأخرج الشافعي وابن أبي شيبة: عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال من فر من ثلاثة فلم يفر ومن فر من اثنين فقد فر، وسمي هذا التخصيص نسخا وهو المروي عن أبي رباح وعن محمد بن الحسن أن المسلمين إذا كانوا اثني عشر ألفا لم يجز الفرار، والظاهر أنه لا يجوز أصلا لأنهم لا يغلبون عن قلة كما في الحديث،
وروي عن عمر وأبي سعيد الخدري وأبي نضرة والحسن رضي الله تعالى عنهما وهي رواية عن الحبر أيضا أن الحكم مخصوص بأهل بدر،
وقال آخرون: إن ذلك مخصوص بما ذكر وبجيش فيه النبي صلّى الله عليه وسلّم وعللوا ذلك بأن وقعة بدر أول جهاد وقع في الإسلام ولذا تهيبوه ولو لم يثبتوا فيه لزم مفاسد عظيمة ولا ينافيه أنه لم يكن لهم فئة ينحازون إليها لأن النظم لا يوجب وجودها وأما إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم معهم فلأن الله تعالى ناصره، وأنت تعلم أنه كان في المدينة خلق كثير من الأنصار لم يخرجوا لأنهم لم يعلموا بالنفير وظنوها العير فقط وأن النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث إن الله تعالى ناصره كان فئة لهم، وقال بعضهم: إن الإشارة بيومئذ إلى يوم بدر لا تكاد تصح لأنه في سياق الشرط وهو مستقبل فالآية وإن كانت نزلت يوم بدر قبل انقضاء القتال فذلك اليوم فرد من أفراد يوم اللقاء فيكون عاما فيه لا خاصا به وإن نزلت بعده فلا يدخل يوم بدر فيه بل يكون ذلك استئناف حكم بعده وَيَوْمَئِذٍ إشارة إلى يوم اللقاء ودفع بأن مراد أولئك القائلين: إنها نزلت يوم بدر وقد قامت قرينة على تخصيصها ولا بعد فيه اهـ، وعندي أن السورة إنما نزلت بعد تمام القتال ولا دليل على
170
نزول هذه الآية قبله والتخصيص المذكور مما لا يقوم دليله على سياق ويد الله مع الجماعة والله تعالى أعلم.
هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ إذ لم يرتفع عنهم إذ ذاك حجاب الأفعال قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ أي حكمها مختص بالله تعالى وبالرسول مظهرية فَاتَّقُوا اللَّهَ بالاجتناب عن رؤية الأفيال رؤية فعل الله تعالى وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ بمحو صفحات نفوسكم التي هي منشأ صدور ما يوجب التنازع والتخالف وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ بفنائها ليتيسر لكم قبول الأمر بالإرادة القلبية الصادقة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ الإيمان الحقيقي إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ كذلك الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ بملاحظة عظمته تعالى وكبريائه وسائر صفاته وهو ذكر القلب وذكره سبحانه وتعالى بالأفعال ذكر النفس وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي خافت لإشراق أنوار تجليات تلك الصفات عليها وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إيمانا بالترقي من مقام العلم إلى العين.
وقد جاء أن الله تجلى لعباده في كلامه لو يعلمون وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إذ لا يرون فعلا لغيره تعالى، وذكر بعض أهل العلم أنه سبحانه وتعالى نبه أولا بقوله عز قائلا: وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ على بدء حال المريد لأن قلبه لم يقو على تحمل التجليات في المبدأ فيحصل له الوجل كضربة السعفة ويقشعر لذلك جلده وترتعد فرائصه، وأما المنتهي فقلما يعرض له ذلك لما أنه قد قوي قلبه على تحمل التجليات وألفها فلا يتزلزل لها ولا يتغير، وعلى هذا حمل السهروردي قدس سره ما روي عن الصديق الأكبر رضي الله تعالى عنه أنه رأى رجلا يبكي عند قراءة القرآن فقال: هكذا حتى قست القلوب حيث أراد حتى قويت القلوب إذ أدمنت سماع القرآن وألفت أنواره فما تستغربه حتى تتغير، ونبه ثانيا سبحانه وتعالى بقوله جل وعلا: زادَتْهُمْ إِيماناً على أخذ المريد في السلوك والتجلي وعروجه في الأحوال، وثالثا بقوله عز شأنه: وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ على صعوده في الدرجات والمقامات، وفي تقديم المعمول إيذان بالتبري عن الحول والقوة والتفويض الكامل وقطع النظر عما سواه تعالى، وفي صيغة المضارع تلويح إلى استيعاب مراتب التوكل كلها، وهو كما قال العارف أبو إسماعيل الأنصاري أن يفوض الأمر كله إلى مالكه ويعول على وكالته، وهو من أصعب المنازل، وهو دليل العبودية التي هي تاج الفخر عند الأحرار، والظاهر أن الخوف الذي هو خوف الجلال والعظمة يتصف به الكاملون أيضا ولا يزول عنهم أصلا وهذا بخلاف خوف العقاب فإنه يزول، وإلى ذلك الإشارة بما شاع
في الأثر «نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه»
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي صلاة الحضور القلبي وهي المعراج المعنوي إلى مقام القرب وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ من العلوم التي حصلت لهم بالسير يُنْفِقُونَ أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لأنهم الذين ظهرت فيهم الصفات الحقة وغدوا مرايا لها ومن هنا قيل: المؤمن مرآة المؤمن لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ من مراتب الصفات وروضات جنات القلب وَمَغْفِرَةٌ لذنوب الأفعال وَرِزْقٌ كَرِيمٌ من ثمرات أشعار التجليات الصفاتية، وقال بعض العارفين: المغفرة إزالة الظلمات الحاصلة من الاشتغال بغير الله تعالى والرزق الكريم الأنوار الحاصلة بسبب الاستغراق في معرفته ومحبته وهو قريب مما ذكرنا كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ متلبسا بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وهم المحتجبون برؤية الأفعال لَكارِهُونَ أي حالهم في تلك الحال كحالهم في هذه الحال يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ لك أولهم بالمعجزات إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ بالبراءة عن الحول والقوة والانسلاخ عن ملابس الأفعال والصفات النفسية فَاسْتَجابَ لَكُمْ عند ذلك أَنِّي مُمِدُّكُمْ من عالم الملكوت لمشابهة قلوبكم إياه حينئذ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ أي القوة السماوية وروحانياتها مُرْدِفِينَ لملائكة أخرى وهو إجمال ما في آل عمران وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي ما جعل الله تعالى الامداد إِلَّا بُشْرى أي بشارة لكم بالنصر وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ لما فيها من اتصالها
171
بما يناسبها وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ والأسباب في الحقيقة ملغاة إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ قوي على النصر من غير سبب حَكِيمٌ يفعله على مقتضى الحكمة وقد اقتضت فعله على الوجه المذكور إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ وهو هدو القوى البدنية والصفات النفسانية بنزول السكينة أَمَنَةً مِنْهُ أي أمنا من عنده سبحانه وتعالى وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ أي سماء الروح ماءً وهو ماء علم اليقين لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ عن حدث هواجس الوهم وجنابة حديث النفس وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وسوسته وتخويفه وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي يقويها بقوة اليقين ويسكن جأشكم وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ إذ الشجاعة وثبات الأقدام في المخاوف من ثمرات قوة اليقين إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ أي يمد الملكوت بالجبروت فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ لانقطاع المدد عنهم واستيلاء قتام الوهم عليهم فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ لئلا يرفعوا رأسا وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ لئلا يقدروا على المدافعة، وبعضهم جعل الإشارة في الآيات نفسية والخطاب فيها حسبما يليق له الخطاب من المرشد والسالك مثلا، ولكل مقام مقال، وفي تأويل النيسابوري نبذة من ذلك فارجع إليه إن أردته وما ذكرناه يكفي لغرضنا وهو عدم إخلاء كتابنا من كلمات القوم ولا نتقيد بآفاقية أو أنفسية والله تعالى الموفق للرشاد، ثم إنه تعالى عاد كلامه إلى بيان بقية أحكام الواقعة وأحوالها وتقرير ما سبق حيث قال سبحانه: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الخطاب للمؤمنين، والفاء قيل واقعة في جواب شرط مقدر يستدعيه ما مر من ذكر إمداده تعالى وأمره بالتثبيت وغير ذلك، كأنه قيل: إذا كان الأمر كذلك فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم وقدرتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بنصركم وتسليطكم عليهم وإلقاء الرعب في قلوبهم. وجوز أن يكون التقدير إذا علمتم ذلك فلم تقتلوهم على معنى فاعلموا أو فاخبركم أنكم لم تقتلوهم، وقيل: التقدير إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم لما روي أنهم لما انصرفوا من المعركة غالبين غائمين أقبلوا يتفاخرون يقولون: قتلت وأسرت وفعلت وتركت فنزلت. وقال أبو حيان ليست هذه الفاء جواب شرط محذوف كما زعموا وإنما هي للربط بين الجمل لأنه قال سبحانه: «فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ» وكان امتثال ما أمر به سببا للقتل فقيل فلم تقتلوهم أي لستم مستبدين بالقتل لأن الأقدار عليه والخلق له إنما هو لله تعالى، قال السفاقسي: وهذا أولى من دعوى الحذف. وقال ابن هشام: إن الجواب المنفي لا تدخل عليه الفاء.
ومن هنا مع كون الكلام على نفي الفاعل دون الفعل كما قيل ذهب الزمخشري إلى اسمية الجملة حيث قدر المبتدأ أي فأنتم لم تقتلوهم، وجعل بعضهم المذكور علة الجزاء أقيمت مقامه وقال: إن الأصل إن افتخرتم بقتلهم فلا تفتخروا به لأنكم لم تقتلوهم ونظائره كثيرة، ولعل كلام أبي حيان كما قال السفاقسي أولى، والخطاب في قوله سبحانه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى خطاب لنبيه عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين وهو إشارة إلى رميه صلّى الله عليه وسلّم بالحصى. يوم بدر وما كان منه.
فقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال لما طلعت قريش من العقنقل: هذه قريش جاءت بخيلائها وفخرها اللهم إني أسألك ما وعدتني فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فلما التقى الجمعان قال لعلي كرم الله تعالى وجهه: أعطني قبضة من حصباء الوادي فرمى بها وجوههم فقال: فلم يبق مشرك إلا شغل بعينه فانهزموا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم
وجاء من عدة طرق ذكرها الحافظ ابن حجر أن هذا الرمي كان يوم بدر، وزعم الطيبي أنه لم يكن إلا يوم حنين وأن أئمة الحديث لم يذكر أحد منهم أنه كان يوم بدر وهو كما قال الحافظ السيوطي ناشىء من قلة الاطلاع فإنه عليه الرحمة لم يبلغ درجة الحفاظ ومنتهى نظره الكتب الست ومسند أحمد ومسند الدارمي وإلا فقد ذكر المحدثون أن الرمي قد وقع في اليومين فنفي وقوعه في يوم بدر مما لا ينبغي، وذكر ما في حنين في هذه القصة من غير قرينة بعيد جدا، وما ذكره في تقريب ذلك ليس بشيء كما لا
172
يخفى على من راجعه وأنصف. ويرد نحو هذا على ما
روي عن الزهري. وسعيد بن المسيب من أن الآية إشارة إلى رميه عليه الصلاة والسلام يوم أحد فإن اللعين أبي بن خلف قصده عليه الصلاة والسلام فاعترض رجال من المسلمين له ليقتلوه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: استأخروا فاستأخروا فأخذ عليه الصلاة والسلام حربته بيده فرماه بها فكسر ضلعا من أضلاعه، وفي رواية خدش ترقوته فرجع إلى أصحابه ثقيلا وهو يقول: قتلني محمد فطفقوا يقولون: لا بأس عليك فقال: والله لو كانت بالناس لقتلتهم فجعل يخور حتى مات ببعض الطريق.
وما
أخرج ابن جرير عن عبد الرحمن بن جبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم ابن أبي الحقيق وذلك في خيبر دعا بقوس فأتي بقوس طويلة فقال عليه الصلاة والسلام: جيئوني بقوس غيرها فجاؤوه بقوس كبداء فرمى صلّى الله عليه وسلّم الحصن فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق في فراشه فأنزل الله تعالى الآية،
والحق المعول عليه هو الأول، وتجريد الفعل عن المفعول به لما أن المقصود بيان حال الرمي نفيا وإثباتا إذ هو الذي ظهر منه ما ظهر وهو المنشأ لتغير المرمي به في نفسه وتكثره إلى حيث أصاب عيني كل واحد من أولئك الجم الغفير شيء من ذلك، والمعنى على ما قيل: وما فعلت أنت يا محمد تلك الرمية المستتبعة لتلك الآثار العظيمة حقيقة حين فعلتها صورة ولكن الله تعالى فعلها أي خلقها حين باشرتها على أكمل وجه حيث أوصل بها الحصباء إلى أعينهم جميعا، واستدل بالآية على أن أفعال العباد بخلقه تعالى وإنما لهم كسبها ومباشرتها قال الإمام: أثبت سبحانه كونه صلّى الله عليه وسلّم راميا ونفى كونه راميا فوجب حمله على أنه عليه الصلاة والسلام رمى كسبا والله تعالى رمى خلقا، وقال ابن المنير: إن علامة المجاز أن يصدق نفيه حيث يصدق ثبوته ألا تراك تقول للبليد حمار ثم تقول ليس بحمار فلما أثبت سبحانه الفعل للخلق ونفاه عنهم دل على أن نفيه على الحقيقة وثبوته على المجاز بلا شبهة، فالآية تكفح بل تلفح وجوه القدرية بالرد، فإن قلت: إن أهل المعاني جعلوا ذلك من تنزيل الشيء منزلة عدمه وفسروه بما رميت حقيقة إذ رميت صورة والرمي الصوري موجود والحقيقي لم يوجد فلا تنزيل «أجيب» بأن الصوري مع وجود الحقيقي كالعدم وما هو إلا كنور الشمع مع شعشعة الشمس ولذا أتي بنفيه مطلقا كاثباته، وما ذكروه بيان لتصحيح المعنى في نفس الأمر وهو لا ينافي النكتة المبنية على الظاهر، ولذا قال في شرح المفتاح: النفي والإثبات واردان على شيء واحد باعتبارين فالمنفي هو الرمي باعتبار الحقيقة كما أن المثبت هو الرمي باعتبار الصورة، والمشهور حمل الرمي في حيز الاستدراك على الكامل وهو الرمي المؤثر ذلك التأثير العظيم، واعترض بأن المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل لتبادره منه وأما ما جرى على خلاف العادة وخرج عن طريق البشر فلا يتبادر حتى ينصرف إليه بل ذلك ليس من افراده «وأجيب» بأنا لا ندعى إلا الفرد الكامل من ذاك المطلق حسبما تقتضيه القاعدة، وكون ذلك الفرد جاريا على خلاف العادة وخارجا عن طوق البشر إنما جاء من خارج، ووصف الرمي بما ذكر بيان لكماله، ولا يستدعي ذلك أن لا يكون من أفراد المطلق ومن ادعاه فقد كابر. واعترض على التفسير الأول بأنه مشعر بتفسير رَمى في حيز الاستدراك بخلق الرمي وتفسير رَمَيْتَ في حيز النفي بخلقت الرمي، فحاصل المعنى حينئذ وما خلقت الرمي إذ صدر عنك صورة ولكن الله سبحانه خلقه، ويلزم منه صحة أن يقال مثلا: ما قمت ولكن الله سبحانه قام على معنى ما خلقت القيام إذ صدر عنك صورة ولكن الله تبارك وتعالى خلقه ولا أظنك في مرية من عدم صحة ذلك «وأجيب» بأن القياس يقتضي صحة ذلك إلا أن مدار الأمر على التوقيف. واعترض على ما يستدعيه كلام ابن المنير من أن المعنى وما رميت حقيقة إذ رميت مجازا ولكن الله تعالى رمى حقيقة بأن نفي الرمي حقيقة حين إثباته مجازا من أجلى البديهيات فأي فائدة في الاخبار بذلك، قيل: ومثل ذلك يرد على كلام الإمام لأن كسب العبد للفعل عندهم على المشهور عبارة عن محلية العبد للفعل من غير تأثير لقدرته في إيجاده ويؤول ذلك إلى
173
مباشرة له من غير خلق، فيكون المعنى وما خلقت الرمي إذ باشرت ولم تخلق وهو كما ترى وهو كما ترى، وبالجملة كلام أكثر أهل الحق في تفسير الآية والاستدلال بها وكذا بالآية قبلها على مذهبهم لا يخلو عن مناقشة ما، ولعل الجواب عنها متيسر لأهله.
وقال بعض المحققين: إنه أثبت له صلّى الله عليه وسلّم الرمي لصدوره عنه عليه الصلاة والسلام ونفي عنه لأن أثره ليس في طاقة البشر، ولذا عد ذلك معجزة حتى كأنه صلّى الله عليه وسلّم لا مدخل له فيه، فمبنى الكلام على المبالغة ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع لأن معناه الحقيقي غير مقصود، ولا يصح أن تخرج الآية على الخلق والمباشرة لأن جميع أفعال العباد بمباشرتهم وخلق الله تعالى فلا يكون للتخصيص بهذا الرمي معنى وله وجه وإن قيل عليه ما قيل وأنا أقول: إن للعبد قدرة خلقها الله تعالى له مؤثرة بإذنه فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن لا أنه لا قدرة له أصلا كما يقول الجبرية، ولا أن له قدرة غير مؤثرة كما هو المشهور من مذهب الأشاعرة، ولا أن له قدرة مؤثرة بها يفعل ما لا يشاء الله تعالى فعله كما يقول المعتزلة، وأدلة ذلك قد بسطت في محلها وألفت فيها رسائل تلقم المخالف حجرا، وليس إثبات صحة هذا القول وكذا القول المشهور عند الأشاعرة عند من يراه موقوفا على الاستدلال بهذه الآية حتى إذا لم تقم الآية دليلا يبقى المطلب بلا دليل.
فإذا كان الأمر كذلك فأنا لا أرى بأسا في أن يكون الرمي المثبت له صلّى الله عليه وسلّم هو الرمي المخصوص الذي ترتب عليه ما ترتب مما أبهر العقول وحير الألباب، وإثبات ذلك له عليه الصلاة والسلام حقيقة على معنى أنه فعله بقدرة أعطيت له صلّى الله عليه وسلّم مؤثرة بإذن الله تعالى إلا أنه لما كان ما ذكر خارجا عن العادة إذ المعروف في القدر الموهوبة للبشر أن لا تؤثر مثل هذا الأثر نفى ذلك عنه وأثبت لله سبحانه مبالغة، كأنه قيل: إن ذلك الرمي وإن صدر منك حقيقة بالقدرة المؤثرة بإذن الله سبحانه لكنه لعظم أمره وعدم مشابهته لأفعال البشر كأنه لم يصدر منك بل صدر من الله جل شأنه بلا واسطة، وكذا يجوز أن يكون المعنى وما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء ولكن الله تعالى رمى بالرعب، فالرمي المنفي أولا والمثبت أخيرا غير المثبت في الأثناء وعلى الوجهين يظهر بأدنى تأمل وجه تخالف أسلوبي الآيتين حيث لم يقل: وما رميت ولكن الله رمى ليكون على أسلوب فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم ولا فلم تقتلوهم إذ قتلتموهم ولكن الله قتلهم ليكون على أسلوب وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ولا يظهر لي نكتة في هذا التخالف على الوجوه التي ذكرها المعظم، وكونها الإشارة إلى أن الرمي لم يكن في تلك الوقعة كالقتل بل كان في حنين دونه على ما فيه مخالف لما صح من أن كلا الأمرين كان في تلك الوقعة كما علمت فتأمل فلمسلك الذهن اتساع: وقرىء «ولكن الله» بالتخفيف ورفع الاسم الجليل في المحلين وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ليعطيهم سبحانه من عنده إعطاء جميلا غير مشوب بالشدائد والمكاره على أن البلاء بمعنى العطاء كما في قول زهير:
وأرعن مثل الطود تحسب أنه وقوف لجاج والركاب تهملج
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم فأبلاهما خير البلاء الذي يبلي
واختار بعضهم تفسيره بالابلاء في الحرب بدليل ما بعده يقال: أبلى فلان بلاء حسنا أي قاتل قتالا شديدا وصبر صبرا عظيما، سمي به ذلك الفعل لأنه ما يخبر به المرء فتظهر جلادته وحسن أثره، واللام إما للتعليل متعلق بمحذوف متأخر فالواو اعتراضية أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة فعل ما فعل لا لشيء آخر غير ذلك مما لا يجديهم نفعا، وإما برمي فالواو للعطف على علة محذوفة أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي إلخ.
وقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لدعائهم واستغاثتهم أو لكل مسموع ويدخل فيه ما ذكر عَلِيمٌ أي
174
بنياتهم وأحوالهم الداعية للإجابة أو لكل معلوم ويدخل فيه ما ذكر أيضا تعليل للحكم ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، ومحله الرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف، وقوله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ معطوف عليه أي المقصد إبلاء المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وإبطال حيلهم، وقيل: المشار إليه القتل أو الرمي والمبتدأ الأمر أي الأمر ذلكم أي القتل أو الرمي فيكون قوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ إلخ من قبيل عطف البيان، وقيل: المشار إليه الجميع بتأويل ما ذكر. وجوز جعل اسم الإشارة مبتدأ محذوف الخبر وجعله منصوبا بفعل مقدر.
وقرأ ابن كثير ونافع وأبوبكر «موهّن» بالتشديد ونصب كيد. وقرأ حفص عن عاصم بالتخفيف والإضافة وقرأ الباقون بالتخفيف والنصب إِنْ تَسْتَفْتِحُوا خطاب للمشركين على سبيل التهكم فقد روي أنهم حين أرادوا الخروج تعلقوا بأستار الكعبة وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين واهد الفئتين وأكرم الحزبين.
وفي رواية أن أبا جهل قال حين التقى الجمعان: اللهم ربنا ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم. والأول مروي عن الكلبي والسدي، والمعنى إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ حيث نصر أعلاهما وأهداهما وقد زعمتم أنكم الأعلى والأهدى فالتهكم في المجيء أو فقد جاءكم الهلاك والذلة فالتهكم في نفس الفتح حيث وضع موضع ما يقابله وَإِنْ تَنْتَهُوا عن حراب الرسول عليه الصلاة والسلام ومعاداته فَهُوَ أي الإنهاء خَيْرٌ لَكُمْ من الحراب الذي ذقتم بسببه من القتل والأسر، ومبنى اعتبار أصل الخيرية في المفضل عليه هو التهكم وَإِنْ تَعُودُوا أي إلى حرابه عليه الصلاة والسلام نَعُدْ لما شاهدتموه من الفتح وَلَنْ تُغْنِيَ أي لن تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ جماعتكم التي تجمعونها وتستغيثون بها شَيْئاً من الإغناء أو المضار وَلَوْ كَثُرَتْ تلك الفئة، وقرىء «ولن يغني» بالياء التحتانية لأن تأنيث الفئة غير حقيقي وللفصل ونصب شيئا على أنه مفعول مطلق أو مفعول به، وجملة ولو كثرت في موضع الحال وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي ولأن الله تعالى معين المؤمنين كان ذلك أو والأمر أن الله سبحانه معهم، وقرأ الأكثر «وإن» بالكسر على الاستئناف، قيل: وهي أوجه من قراءة الفتح لأن الجملة حينئذ تذييل، كأنه قيل: القصد إعلاء أمر المؤمنين وتوهين كيد الكافرين وكيت وكيت، وإن سنة الله تعالى جارية في نصر المؤمنين وخذلان الكافرين، وهذا وإن أمكن اجراؤه على قراءة الفتح لكن قراءة الكسر نص فيه، ويؤيدها قراءة ابن مسعود «والله مع المؤمنين»، وروي عن عطاء.
وأبي بن كعب، وإليه ذهب أبو علي الجبائي أن الخطاب للمؤمنين، والمعنى إن تستنصروا فقد جاءكم النصر وإن تنتهوا عن التكاسل والرغبة عما يرغب فيه الرسول صلّى الله عليه وسلّم فهو خير لكم من كل شيء لما أنه مدار لسعادة الدارين وإن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار وتهييج العدو ولن تغني عنكم حينئذ كثرتكم إذ لم يكن الله تعالى معكم بالنصر والأمر أن الله سبحانه مع الكاملين في الإيمان، ويفهم كلام بعضهم أن الخطاب في تَسْتَفْتِحُوا وجاءَكُمُ للمؤمنين، وفيما بعده للمشركين ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جدا، وأيد كون الخطاب في الجميع للمؤمنين بقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا أي تتولوا، وقرىء بتشديد التاء عَنْهُ أي عن الرسول وأعيد الضمير إليه عليه الصلاة والسلام لأن المقصود طاعته صلّى الله عليه وسلّم، وذكر طاعة الله تعالى توطئة لطاعته وهي مستلزمة لطاعة الله تعالى لأنه مبلغ عنه فكان الراجع إليه كالراجع إلى الله تعالى ورسوله (١) وقيل: الضمير للجهاد، وقيل: للأمر الذي دل عليه الطاعة، والتولي مجاز، وقوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ جمل حالية واردة لتأكيد وجوب الانتهاء عن التولي
(١) قوله «ورسوله» كذا بخطه والأولى إسقاطها اهـ.
175
مطلقا لا لتقييد النهي عنه بحال السماع: أي لا تتولوا عنه والحال أنكم تسمعون القرآن الناطق بوجوب طاعته والمواعظ الزاجرة عن مخالفته سماع تفهم وإذعان، وقد يراد بالسماع التصديق، وقد يبقى الكلام على ظاهره من غير ارتكاب تجوز أصلا، وقوله سبحانه وَلا تَكُونُوا تقريرا لما قبله أي لا تكونوا بمخالفة الأمر والنهي كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا كالكفرة والمنافقين الذين يدّعون السماع وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي سماعا ينتفعون به لأنهم لا يصدقون ما سمعوه ولا يفهمونه حق فهمه والجملة في موضع الحال من ضمير قالوا، والمنفي سماع خاص لكنه أتى به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزلوا منزلة من لم يسمع أصلا بجعل سماعهم كالعدم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ استئناف مسوق لبيان كمال سوء حال المشبه بهم مبالغة في التحذير وتقريرا للنهي أثر تقرير، والدواب جمع دابة، والمراد بها إما المعنى اللغوي أو العرفي أي إن شر من يدب على الأرض أو شر البهائم عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وقضائه الصُّمُّ الذين لا يسمعون الحق الْبُكْمُ الذين لا ينطقون به، والجمع على المعنى، ووصفوا بذلك لأن ما خلق له الحاستان سماع الحق والنطق به وحيث لم يوجد فيهم شيء من ذلك صاروا كأنهم فاقدون لهما رأسا.
وتقديم الصم على البكم لما أن صممهم متقدم على بكمهم فإن السكوت عن النطق بالحق من فروع عدم سماعهم له كما أن النطق به من فروع سماعه، وقيل: التقديم لأن وصفهم بالصم أهم نظر إلى السابق واللاحق، ثم وصفوا بعدم التعقل في قوله تعالى: الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ تحقيقا لكمال سوء حالهم فإن الأصم الأبكم إذا كان له عقل ربما يفهم بعض الأمور ويفهمه غيره ويهتدي إلى بعض مطالبه. أما إذا كان فاقدا للعقل أيضا فقد بلغ الغاية في الشرية وسوء الحال، وبذلك يظهر كونهم شر الدواب حيث أبطلوا ما به يمتازون عنها وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ أي في هؤلاء الصم البكم خَيْراً أي شيئا من جنس الخير الذي من جملته صرف قواهم إلى تحري الحق واتباع الهدى لَأَسْمَعَهُمْ سماع تدبر وتفهم ولوقفوا على الحق وآمنوا بالرسول عليه الصلاة والسلام وأطاعوه وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ سماع تفهم وتدبر وقد علم أن لا خير فيهم لَتَوَلَّوْا ولم ينتفعوا به وارتدوا بعد التصديق والقبول وَهُمْ مُعْرِضُونَ لعنادهم، والجملة حال مؤكدة مع اقترانها بالواو، ومما ذكر يعلم الجواب عما قيل: إن الآية قياس اقتراني من شرطيتين ونتيجته غير صحيحة لما أنه أشير فيه أولا إلى منع القصد إلى القياس لفقد الكلية الكبرى، وثانيا إلى منع فساد النتيجة إذ اللازم لو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت لتولوا بعده قاله بعض المحققين، وفي المعنى والجواب من ثلاثة أوجه اثنان يرجعان إلى منع كون المذكور قياسا وذلك لاختلاف الوسط. أحدهما أن التقدير لأسمعهم سماعا نافعا ولو أسمعهم سماعا غير نافع لتولوا. والثاني أن يقدر ولو أسمعتهم على تقدير علم عدم الخير فيهم كما أشير إليه. والثالث إلى منع استحالة النتيجة بتقدير كونه قياسيا متحد الوسط، إذ التقدير ولو علم الله تعالى فيهم خيرا في وقت ما لتولوا بعد ذلك، ولا يخفى ضعف الجواب الأول لأنه لا قرينة على تقييد لو أسمعهم بالسماع الغير النافع ولأنه يحقق فيهم الاسماع الغير النافع إلا أن يقيد بالأسماع بعد نزول هذه الآية، وكذا ضعف الثالث لأن علمه تعالى بالخير ولو في وقت لا يستلزم التولي بل عدمه. وأما الجواب الثاني فهو قوي لأن الشرطية الأولى قرينة على تقييد الاسماع في الشرطية الثانية بتقدير علم عدم الخير فيهم، وذكر بعضهم في الجواب أن الشرطيتين مهملتان وكبرى الشكل الأول يجب أن تكون كلية ولو سلم فإنما ينتجان أي اللزومية لو كانتا لزوميتين وهو ممنوع ولو سلم فاستحالة النتيجة ممنوعة، أي لا نسلم استحالة الحكم باللزوم بين المقدم والتالي وإن كان الطرفان محالين لأن علم الله تعالى فيهم خيرا محال والمحال جاز أن يستلزم المحال وإن لم يوجد بينهما علاقة عقلية على ما هو التحقيق من عدم اشتراط العلاقة في استلزام المحال للمحال.
واعترض على أصل السؤال بأن لفظ لَوْ لم يستعمل في فصيح الكلام في القياس الاقتراني وإنما يستعمل في
176
القياس الاستثنائي المستثنى فيه نقيض التالي لأنها لامتناع الشيء غيره، ولهذا لا يصرح باستثناء نقيص التالي، وعلى الجواب بأن فيه تسليم كون ما ذكر قياسا ومنع كونه منتجا لانتفاء شرائط الانتاج وكيف يصح اعتقاد وقوع قياس في كلام الحكيم تعالى أهملت فيه شرائط الانتاج وإن لم يكن مراده تعالى قياسيته وذكر أن الحق قوله سبحانه: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً وارد على قاعدة اللغة يعني أن سبب عدم الإسماع عدم العلم بالخير فيهم ثم ابتداء قوله تعالى:
لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا كلاما آخر على طريقة- لو لم يخف الله تعالى لم يعصه- وحاصل ذلك أنه كلام منقطع عما قبله والمقصود منه تقرير قولهم في جميع الأزمنة حيث ادعى لزومه لما هو مناف له ليفيد ثبوته على تقدير الشرط وعدمه، فمعنى الآية حينئذ أنه انتفى الإسماع لانتفاء علم الخير وأنهم ثابتون على التولي في الشرطية الأولى اللزوم في نفس الأمر وفي الثانية ادعائي فلا يكون على هيئة القياس.
وقال العلامة الثاني: يجوز أن يكون التولي منفيا بسبب انتفاء الإسماع كما هو مقتضى أصل لَوْ لأن التولي بمعنى الاعراض عن الشيء كما هو أصل معناه لا بمعنى مطلق التكذيب والإنكار، فعلى تقدير عدم إسماعهم ذلك الشيء لم يتحقق التولي والاعراض عن الشيء فرع تحققه ولم يلزم من هذا تحقق الانقياد له لأن الانقياد للشيء وعدم الانقياد له ليسا على طرفي النقيض بل العدول والتحصيل لجواز ارتفاعهما بعدم ذلك الشيء وحاصله كما قيل: إنه إذا كان التولي بمعنى الاعراض يجوز أن يكون لَوْ بمعناه المشهور، ويكون المقصود الاخبار بأن انتفاء الثاني في الخارج لانتفاء الأول فيه كالشرطية الأولى ولا ينتظم منهما القياس إذ ليس المقصود منهما بيان استلزام الأول للثاني في نفس الأمر ليستدل بل اعتبار السببية واللزوم بينهما ليعلم السببية بين الانتفائين المعلومين في الخارج، وما يقال:
من أن انتفاء التولي خير وقد ذكر أن لا خير فيهم مجاب عنه بأن لا نسلم أن انتفاء التولي بسبب انتفاء الاسماع خير لأنه يجوز أن يكون ذلك بسبب عدم الأهلية للاسماع وهو داء عضال وشر عظيم، وإنما يكون خيرا لو كانوا من أهله بأن أسمعوا شيئا ثم انقادوا له ولم يعرضوا وهذا كما يقال: لا خير في فلان لو كانت به قوة لقتل المسلمين، فإن عدم قتل المسلمين بناء على عدم القوة والقدرة ليس خيرا فيه وإن كان خيرا له اهـ. ورده الشريف قدس سره بما تعقبه السالكوتي عليه الرحمة. نعم قال مولانا محمد أمين بن صدر الدين: إن حمل التولي هاهنا على معنى الاعراض غير ممكن لمكان قوله سبحانه: وَهُمْ مُعْرِضُونَ وأوجب أن يحمل إما على لازم معناه وهو عدم الانتقاء لأنه يلزم الاعراض أو على ملزومه وهو الارتداد لأنه يلزمه الاعراض فليفهم، وعن الجبائي أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
أحي لنا قصيا فإنه كان شيخا مباركا حتى يشهد لك ونؤمن بك، فالمعنى ولو أسمعهم كلام قصي إلخ، وقيل: هم بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه قاتلهم الله تعالى فقتلوا جميعا بأحد وكانوا أصحاب اللواء، وعن ابن جريج أنهم المنافقون وعن الحسن أنهم أهل الكتاب، والجملة الاسمية في موضع الحال من ضمير لَتَوَلَّوْا، وجوز أن تكون اعتراضا تذييلا أي وهم قوم عادتهم الاعراض يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تكرير النداء مع وصفهم بنعت الإيمان لتنشيطهم إلى الإقبال على الامتثال بما يريد بعده من الأوامر وتنبيههم على أن فيهم ما يوجب ذلك اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ بحسن الطاعة إِذا دَعاكُمْ أي الرسول إذ هو المباشر لدعوة الله تعالى مع ما أشرنا إليه آنفا لِما يُحْيِيكُمْ أي لما يورثكم الحياة الأبدية في النعيم الدائم من العقائد والأعمال أو من الجهاد الذي أعزكم الله تعالى به بعد الذل وقواكم به بعد الضعف ومنعكم به من عدوكم بعد القهر كما روي ذلك عن عروة بن الزبير، وإطلاق ما ذكر على العقائد والأعمال وكذا على الجهاد إما استعارة أو مجاز مرسل بإطلاق السبب على المسبب، وقال القتبي: المراد به
177
الشهادة وهو مجاز أيضا، وقال قتادة: القرآن، وقال أبو مسلم: الجنة، وقال غير واحد: هو العلوم الدينية التي هي مناط الحياة الأبدية كما أن الجهل مدار الموت الحقيقي، وهو استعارة مشهورة ذكرها الأدباء وعلماء المعاني.
وللزمخشري:
لا تعجبن لجهول حلته... فذاك ميت وثوبه كفن
واستدل بالآية على وجوب إجابته صلّى الله عليه وسلّم إذا نادى أحدا وهو في الصلاة، وعن الشافعي أن ذلك لا يبطلها لأنها أيضا إجابة، وحكى الروياني أنها لا تجب الصلاة بها، وقيل: إنه يقطع الصلاة إذا كان الدعاء لأمر يفوت بالتأخير كما إذا رأى أعمى وصل إلى بئر ولو لم يحذره لهلك، وأيد القول بالوجوب بما
أخرجه الترمذي. والنسائي عن أبي هريرة «أنه صلّى الله عليه وسلّم مر على أبي بن كعب وهو يصلي فدعاه فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك من إجابتي؟ قال: كنت أصلي.
قال: ألم تخبر فيما أوحي اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ قال: بلى ولا أعود إن شاء الله تعالى، ثم إنه صلّى الله عليه وسلّم قال له: لأعلمنك سورة أعظم سورة في القرآن الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ٢] هي السبع المثاني،
وأنت تعلم أنه لا دلالة فيه على أن إجابته صلّى الله عليه وسلّم لا تقطع الصلاة، وقال بعضهم: إن ذلك الدعاء كان لأمر مهم لا يحتمل التأخير وللمصلي أن يقطع الصلاة لمثله، وفيه نظر وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ عطف على استجيبوا، وأصل الحول كما قال الراغب تغير الشيء وانفصاله عن غيره، وباعتبار التغير قيل حال الشيء يحول وباعتبار الانفصال قيل حال بينهما كذا، وهذا غير متصور في حق الله تعالى فهو مجاز عن غاية القرب من العبد لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر لاتصاله بهما وانفصال أحدهما عن الآخر، وظاهر كلام كثير أن الكلام من باب الاستعارة التمثيلية، ويجوز أن يكون هناك استعارة تبعية، فمعنى يحول يقرب، ولا بعد في أن يكون من باب المجاز المرسل المركب لاستعماله في لازم معناه وهو القرب، بل ادعي أنه الأنسب، وإرادة هذا المعنى هو المروي عن الحسن وقتادة، فالآية نظير قوله سبحانه: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦].
وفيها تنبيه على أنه تعالى مطلع من مكنونات القلوب على ما قد يغفل عنه أصحابها، وجوز أن يكون المراد من ذلك الحث على المبادرة إلى إخلاص القلوب وتصفيتها، فمعنى يحول بينه وبين قلبه يميته فيفوته الفرصة التي هو واجدها وهي التمكن من إخلاص القلب ومعالجة أدوائه وعلله ورده سليما كما يريد الله تعالى، فكأنه سبحانه بعد أن أمرهم بإجابة الرسول عليه الصلاة والسلام أشار لهم إلى اغتنام الفرصة من إخلاص القلوب للطاعة وشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه الذي به يعقل في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه، وإلى هذا ذهب الجبائي.
وقال غير واحد: إنه استعارة تمثيلية لتمكنه تعالى من قلوب العباد فيصرفها كيف يشاء بما لا يقدر عليه صاحبها فيفسخ عزائمه ويغير مقاصده ويلهمه رشده ويزيغ عن الصراط السوي قلبه ويبدله بالأمن خوفا وبالذكر نسيانا، وذلك كمن حال بين شخص ومتاعه فإنه القادر على التصرف فيه دونه وهذا كما
في حديث شهر بن حوشب عن أم سلمة وقد سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن إكثاره الدعاء يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقال لها: يا أم سلمة إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين أصبعين من أصابع الله تعالى فمن شاء أقام ومن شاء أزاغ،
ويؤيد هذا التفسير ما
أخرجه ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن هذه الآية فقال عليه الصلاة والسلام: يحول بين المؤمن والكفر ويحول بين الكافر والهدى.
ولعل ذلك منه عليه الصلاة والسلام اقتصار على الأمرين اللذين هما أعظم مدار للسعادة والشقاوة وإلا فهذا من
178
فروع التمكن الذي أشرنا إليه ولا يختص أمره بما ذكر، وقد حال سبحانه بين العدلية وبين اعتقاد هذا فعدلوا عن سواء السبيل، وبين بعض الأفاضل ربط الآيات على ذلك بأنه تعالى لما نص بقوله عز من قائل: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ إلخ، على أن الإسماع لا ينفع فيهم تسجيلا على أولئك الصم البكم من على المؤمنين بما منحهم من الإيمان ويسر لهم من الطاعة، كأنه قيل: إنكم لستم مثل أولئك المطبوعين على قلوبهم فإنهم إنما امتنعوا عن الطاعة لأنهم ما خلقوا إلا للكفر فما تيسر لهم الاستجابة، وكلّ ميسر لما خلق له، فأنتم لما منحتم الإيمان ووفقتم للطاعة فاستجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما فيه حياتكم من مجاهدة الكفار وطلب الحياة الأبدية واغتنموا تلك الفرصة واعلموا أن الله تعالى قد يحول بين المرء وقلبه بأن يحول بينه وبين الإيمان وبينه وبين الطاعة ثم يجازيه في الآخرة بالنار، وتلخيصه أوليتكم النعمة فاشكروها ولا تكفروها لئلا أزيلها عنكم اهـ.
ولا يخفى ما فيه من التكليف، وقيل: إن القوم لما دعوا إلى القتال والجهاد وكانوا في غاية الضعف والقلة خافت قلوبهم وضاقت صدورهم فقيل لهم: قاتلوا في سبيل الله تعالى إذا دعيتم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه فيبدل الأمن خوفا والجبن جرأة. وقرىء «بين المرّ» بتشديد الراء على حذف الهمزة ونقل حركتها إليها وإجراء الوصل مجرى الوقف وَأَنَّهُ أي الله عز وجل أو الشأن إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ لا إلى غيره فيجازيكم بحسب مراتب أعمالكم التي لم يخف عليه شيء منها فسارعوا إلى طاعته وطاعة رسوله صلّى الله عليه وسلّم وبالغوا في الاستجابة، وقيل: المعنى أنه تحشرون إليه تعالى دون غيره فيجازيكم فلا تألوا جهدا في انتهاز الفرصة، أو المعنى أنه المتصرف في قلوبكم في الدنيا ولا مهرب لكم عنه في الآخرة فسلوا الأمر إليه عز شأنه ولا تحدثوا أنفسكم بمخالفته.
وزعم بعضهم أنه سبحانه لما أشار في صدر الآية إلى أن السعيد من أسعده والشقي من أضله وأن القلوب بيده يقلبها كيفما يشاء ويخلق فيها الدواعي والعقائد حسبما يريد ختمها بما يفيد أن الحشر إليه ليعلم أنه مع كون العباد مجبورين خلقوا مثابين معاقبين إما للجنة وإما للنار لا يتركون مهملين معطلين، وأنت تعلم أن الآية لا دلالة فيها على الجبر بالمعنى المشهور وليس فيها عند من أنصف بعد التأمل أكثر من انتهاء الأمور بالآخرة إليه عز شأنه.
179
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي لا تختص إصابتها لمن يباشر الظلم منكم بل تعمّه وغيره والمراد بالفتنة الذنب وفسر بنحو إقرار المنكر والمداهنة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وافتراق الكلمة وظهور البدع والتكاسل في الجهاد حسبما يقتضيه المعنى، والمصيب على هذا هو الأثر كالشآمة والوبال، وحينئذ إما أن يقدر أو يتجوز في إصابته، وجوز أن يراد به العذاب فلا حاجة إلى التقدير أو التجوز فيما ذكر لأن إصابته بنفسه، وكذا لا حاجة إلى ارتكاب تقدير في جانب الأمر ولا التزام استخدام ولا نافية، والجملة المنفية قيل جواب الأمر على معنى إن إصابتكم لا تصيب الظالمين منكم، واعترض بأن جواب الأمر إنما يقدر فعله من جنس الأمر المظهر لا من جنس الجواب ولو قدر ذلك وفاء بالقاعدة فسد المعنى، إذ يكون إن تتقوا الفتنة تعمكم إصابتها ولا تختص بالظالمين منكم وهو كما ترى، وأجيب بأن أصل الكلام واتقوا فتنة لا تصيبكم فإن أصابتكم لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة بل عمتكم فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر في جواب الأمر لتسببه منه، وسمي الأمر لأن المعاملة معه لفظا وفيه أن من البين أن عموم الإصابة ليس مسببا عن عدم الإصابة ولا عن الأمر وظاهر التعبير يقتضيه، وقال بعض المحققين: إن ذلك على رأي الكوفيين من تقدير ما يناسب الكلام وعدم التزام كون المقدر من جنس الملفوظ نفيا أو إثباتا فيقدرون في نحو لا تدن من الأسد يأكلك الإثبات أي إن تدن يأكلك وفي نحو اتقوا فتنة النفي أي إن لم تتقوا تصبكم. واعترض عليه بأن ذلك القائل لم يقدر لا هذا ولا ذاك وإنما قدر ما يستقيم به المعنى من غير نظر إلي مضمون الأمر أو نقيضه، وأجيب بأن مراده أن التقدير إن لم تتقوا تصبكم وإن أصابتكم لا تختص بالظالمين فأقيم جواب الشرط الثاني مقام جواب الشرط المقدر الذي هو نقيض الأمر لتسببه عنه، وما أورد على هذا من أنه لا حاجة إلى اعتبار الواسطة حينئذ إذ يكفي أن يقال: إن لم تتقوا لا تصب الظالمين خاصة فمع كونه مناقشة
180
لفظية مدفوع بأدنى تأمل لأن عدم اختصاص إصابة الفتنة بالظالمين كما يكون بعموم الإصابة لهم ولغيرهم كذلك يكون بعدم إصابتها لهم رأسا فلا بد من اعتبار الواسطة قطعا.
وقال بعض المتأخرين: مراد من قدر إن أصابتكم، إن لم تتقوا على مذهب من يرى تقدير النفي، لكنه عبر عنه بأصابت لتلازمها فلا يرد حديث الواسطة، نعم قيل: إن جواب الشرط متردد تأكيده بالنون إذ التأكيد يقتضي دفع التردد، وأجيب بأنه هنا (١) طلبي معنى فيؤكد كما يؤكد الطلبي وهو لا ينافيه التردد في وقوعه لأنه لا تردد في طلبه على أنه قيل: إنه وإن كان مترددا في نفسه لكونه معلقا بما هو متردد وهو الشرط لكنه ليس بمتردد بحسب الشرط، وعلى تقدير وقوعه فيليق به التأكيد بذلك الاعتبار، وأنت تعلم أن ابن جني رجح أن المنفي- بلا- يؤكد في السعة لشبهه بالنهي كما في قوله سبحانه: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ [النمل: ١٨] وقال ناصر الدين: إن هذا الجواب لما تضمن معنى النهي ساغ توكيده، ووجهه أن النفي إذا كان مطلوبا كان في معنى النهي وفي حكمه فيجوز فيه التأكيد كالنهي الصريح، ولا خفاء في أن عدم كونهم بحيث تصيبهم الفتنة مطلوب كما أن عدم كونهم يحطمهم سليمان وجنوده كذلك، وجوز أن تكون الجملة المنفية في موضع النصب صفة لفتنة، واعترض بأن فيه شذوذا لأن النون لا تدخل المنفي في غير القسم، وقد يجاب بأنك قد عرفت أن ابن جني وكذا بعض النحاة جوز ذلك، وقد ارتضاه ابن مالك في التسهيل، نعم ما ذكر كلام الجمهور.
وقال أبو البقاء وغيره: يحتمل أن تكون لا ناهية والجملة في موضع الصفة أيضا لكن على إرادة القول كقوله:
حتى إذا جن الظلام واختلط جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط
لأن المشهور أن الجملة الإنشائية نهيا كانت أو غيرها لا تقع صفة ونحوها إلا بتقدير القول، وقد صرحوا بأن قولك: مررت برجل أضربه بتقدير مقول فيه أضربه، وليس المقصود بالمقولية الحكاية بل استحقاقه لذلك حتى كأنه مقول فيه، ومن الناس من جوز الوصف بذلك باعتبار تأويله بمطلوب ضربه فلا يتعين تقدير القول، وأن تكون الجملة جواب قسم محذوف أي والله لا تصيبن خاصة بل تعم، وحينئذ يظهر أمر التأكيد، وأيد ذلك بقراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه. وزيد بن ثابت وأبيّ وابن مسعود والباقر والربيع وأبو العالية «لتصيبن» فإن الظاهر فيها القسمية، وقيل: إن الأصل- لا- الا أن الألف حذفت تخفيفا كما قالوا: أم والله، وقال بعضهم: أن «لا» في القراءة المتواترة هي اللام والألف تولدت من إشباع الفتحة كما في قوله:
فأنت من العواتك حين ترمى ومن ذم الرجال بمنتزاح
وكلا القولين لا يعول عليه، ويحتمل أن تكون نهيا مستأنفا لتقرير الأمر وتأكيده، وهو من باب الكناية لأن الفتنة لا تنهى عن الإصابة إذ لا يتصور الامتثال منها بحال، والمعنى حينئذ لا تتعرضوا للظلم فتصيبكم الفتنة خاصة ومن على تقدير كون لا ناهية سواء جعلت الجملة صفة أو مؤكدة للأمر بيانية لا تبعيضية لأنها لو اعتبرت كذلك لكان النهي عن التعريض للظلم مخصوصا بالظالمين منهم دون غيرهم فغير الظلم لا يكون منهيا عن التعرض له بمنطوق الآية وذلك شيء لا يراد. وأما على الوجوه الأخر من كون لا نافية لا ناهية سواء كان قوله سبحانه وتعالى: لا تُصِيبَنَّ صفة لفتنة كما هو الظاهر أو جواب الأمر أو جواب قسم فهي تبعيضية قطعا، إذ الآية على هذه التقادير جميعا
(١) وزعم بعضهم أن لا دعائية اهـ منه
181
مخبرة بأن إصابة الفتنة لا تخص بالظالمين بل تعم غيرهم أيضا، فلو بين الذين ظلموا بالمخاطبين لأفهمت أن الأصحاب رضي الله تعالى عنهم كلهم ظالمون وحاشاهم، ثم لا يخفى أن الخطاب إذا كان عاملا للأمة وفسرت الفتنة بإقرار المنكر لا يجيء الإشكال على عموم الإصابة بقوله سبحانه: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤، الإسراء: ١٥، فاطر: ١٨، الزمر: ٧] لأنه كما يجب على مرتكب الذنب الانتهاء عنه يجب على الباقين رفعه وإذ لم يفعلوا كانوا آثمين فيصيبهم ما يصيبهم لإثمهم.
وبدل للوجوب ما روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أمر الله تعالى المؤمنين أن لا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله تعالى بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم،
وأخرج الترمذي. وأبو داود عن قيس بن حازم عن أبي بكر رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يده أوشك أن يعمهم الله تعالى بعقاب»
وروى الترمذي أيضا عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهاهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون.
ومن ذهب إلى أن الخطاب خاص فسر الفتنة بافتراق الكلمة، وجعل ذلك إشارة إلى ما حدث بين أصحاب بدر يوم الجمل.
وممن ذهب إلى أنهم المعنيون السدي وغيره، وأخرج غير واحد عن الزبير قال: قرأنا هذه الآية زمانا وما نرى أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها، وقد أخرج نهيهم عن ذلك على أبلغ وجه وأقيم الظالمون مقام ضميرهم تنبيها على أن تعرض الفتنة وهي افتراق الكلمة من أشد الظلم لا سيما من هؤلاء الأجلاء، ثم فسر بضميرهم دلالة على الاختصاص وأكد بخاصة وكثيرا ما يشدد الأمر على الخاصة وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالف أمره وكذا من أقر من انتهك محارمه وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ أي في العدد، والجملة الاسمية للايذان باستمرار ما كانوا فيه من القلة وما يتبعها، وقوله سبحانه: مُسْتَضْعَفُونَ خبر ثان، وجوز أن يكون صفة لقليل، وقوله تعالى: فِي الْأَرْضِ أي في أرض مكة تحت أيدي كفار قريش والخطاب للمهاجرين، أو تحت أيدي فارس والروم والخطاب للعرب كافة مسلمهم وكافرهم على ما نقل عن وهب. واعترض بأنه بعيد لا يناسب المقام مع أن فارس لم تحكم على جميع العرب، وقوله تعالى: تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ خبر ثالث أو صفة ثانية لقليل وصف بالجملة بعد ما وصف بغيرها، وجوز أبو البقاء أن تكون حالا من المستكن في مستضعفون والمراد بالناس على الأول وهو الأظهر أما كفار قريش أو كفار العرب كما قاله عكرمة لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم، وعلى الثاني فارس والروم.
وأخرج الديلمي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال: أهل فارس،
والتخطف كالخطف الأخذ بسرعة، وفسر هنا بالاستلاب أي واذكروا حالكم وقت قلتكم وذلتكم وهوانكم على الناس وخوفكم من اختطافكم، أو اذكروا ذلك الوقت فَآواكُمْ أي إلى المدينة أو جعل لكم مأوى تتحصنون به من أعدائكم وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بمظاهرة الأنصار أو بإمداد الملائكة يوم بدر أو بأن قوى شوكتكم إذ بعث منكم من تضطرب قلوب أعدائكم من اسمه وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم ولم تطب إلا لهذه الأمة، وقيل: هي عامة في جميع ما أعطاهم من الأطعمة اللذيذة، والأول أنسب بالمقام والامتنان به هنا أظهر. والثاني متعين عند من يجعل الخطاب للعرب لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم الجليلة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ أصل الخون النقص كما أن أصل الوفاء الإتمام، واستعماله في ضد الأمانة لتضمنه إياه فإن الخائن ينقص المخون شيئا مما خانه فيه، اعتبر الراغب في الخيانة أن تكون سرا، والمراد بها هنا عدم العمل بما أمر الله تعالى به ورسوله عليه الصلاة
182
والسلام. وأخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن خيانة الله سبحانه بترك فرائضه والرسول صلّى الله عليه وسلّم بترك سنته وارتكاب معصيته.
وقيل: المراد النهي عن الخيانة بأن يضمروا خلاف ما يظهرون أو يغلوا في الغنائم وأخرج أبو الشيخ عن يزيد بن أبي حبيب رضي الله تعالى عنه أن المراد بها الإخلال بالسلاح في المغازي.
وذكر الزهري والكلبي «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حاصر يهود قريظة إحدى وعشرين ليلة- وفي رواية البيهقي- خمسا وعشرين. فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصلح. كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى إخوانهم بأذرعات من أرض الشام فأبى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعطيهم ذلك إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل لنا أبا لبابة رفاعة بن عبد المنذر وكان مناصحا لهم لأن ماله وولده وعياله كان عندهم. فبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم فقالوا: يا أبا لبابة ما ترى أننزل على حكم سعد بن معاذ فأشار بيده إلى حلقه يعني أنه الذبح فلا تفعلوا. قال أبو لبابة: والله ما زالت قدماي عن مكانهما حتى عرفت أني قد خنت الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام ثم انطلق على وجهه ولم يأت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وشد نفسه (١) على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله تعالى علي، فلما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خبره قال:
أما لو جاءني لاستغفرت له أما إذا فعل ما فعل فإني لا أطلقه حتى يتوب الله تعالى عليه فمكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عيه ثم تاب الله تعالى عليه فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك. فقال: والله لا أحل نفسي حتى يكون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يحلني فجاءه عليه الصلاة والسلام فحله بيده ثم قال أبو لبابة: إن تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي. فقال صلّى الله عليه وسلّم: يجزيك الثلث أن تصدق به ونزلت فيه الآية»

وقال السدي: كانوا يسمعون الشيء من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيفشونه حتى يبلغ المشركين فنهوا عن ذلك،
وأخرج أبو الشيخ وغيره عن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فأتى جبريل عليه السلام النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن أبا سفيان بمكان كذا وكذا فاخرجوا إليه واكتموا فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم مريدكم فخذوا حذركم فنزلت
وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ عطف على المجزوم أولا والمراد النهي عن خيانة الله تعالى والرسول وخيانة بعضهم بعضا، والكلام عند بعض على حذف مضاف أي أصحاب أماناتكم، ويجوز أن تجعل الأمانة نفسها مخونة، وجوز أبو البقاء أن يكون الفعل منصوبا بإضمار أن بعد الواو في جواب النهي كما في قوله:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
والمعنى لا تجمعوا بين الخيانتين والأول أولى لأن فيه النهي عن كل واحد على حدته بخلاف هذا فإنه نهي عن الجمع ولا يلزمه النهي عن كل واحد على حدته، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير الأمانات بالأعمال التي ائتمن الله تعالى عليها عباده، وقرأ مجاهد «أمانتكم» بالتوحيد وهي رواية عن أبي عمرو ولا منافاة بينها وبين القراءة الأخرى وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي تبعة ذلك ووباله أو أنكم تخونون أو أنتم علماء تميزون الحسن من القبيح، فالفعل إما متعد له مفعول مقدر بقرينة المقام أو منزل منزلة اللازم، قيل: وليس المراد بذلك التقييد على كل حال وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
لأنها سبب الوقوع في الاسم والعقاب، أو محنة من الله عز وجل يختبركم
(١) المشهور ان أبا لبابة ربط نفسه لتخلفه عن تبوك وحسنه ابن عبد البر اهـ منه
183
بها فلا يحملنكم حبها على الخيانة كأبي لبابة، ولعل الفتنة في المال أكثر منها في الولد ولذا قدمت الأموال على الأولاد، ولا يخفى ما في الأخبار من المبالغة.
وجاء عن ابن مسعود ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة لأن الله سبحانه يقول: وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ
إلخ فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله تعالى من مضلات الفتن، ومثله عن علي كرم الله تعالى وجهه وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لمن مال إليه سبحانه وآثر رضاه عليهما وراعى حدوده فيهما فأنيطوا هممكم بما يؤديكم إليه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ في كل ما تأتون وما تذرون يَجْعَلْ لَكُمْ بسبب ذلك الاتقاء فُرْقاناً أي هداية ونورا في قلوبكم تفرقون به بين الحق والباطل كما روي عن ابن جريج وابن زيد، أو نصرا يفرق بين المحق والمبطل بإعزاز المؤمنين وإذلال الكافرين كما قال الفراء، أو نجاة في الدارين كما هو ظاهر كلام السدي، أم مخرجا من الشبهات كما جاء عن مقاتل، أو ظهورا يشهر أمركم وينشر صيتكم كما يشعر به كلام محمد بن إسحاق- من بت أفعل كذا حتى سطع الفرقان- أي الصبح، وكل المعاني ترجع إلى الفرق بين أمرين، وجوز بعض المحققين الجمع بينها وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ أي يسترها في الدنيا وَيَغْفِرْ لَكُمْ بالتجاوز عنها في الأخرى فلا تكرار، وقد يقال: مفعول يغفر الذنوب وتفسر بالكبائر وتفسر السيئات بالصغائر، أو يقال: المراد ما تقدم وما تأخر لأن الآية في أهل بدر وقد غفر لهم.
ففي الخبر لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ تعليل لما قبله وتنبيه على أن ما وعد لهم على التقوى تفضل منه سبحانه وإحسان وأنها بمعزل عن أن توجب عليه جل شأنه شيئا، قيل: ومن عظيم فضله تعالى أنه يتفضل من غير واسطة وبدون التماس عوض ولا غيره سبحانه، ثم إنه عز وجل لما ذكر من ذكر نعمته بقوله تعالى: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ إلخ ذكر نبيه عليه الصلاة والسلام النعمة الخاصة به بقوله عز من قائل: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا فهو متعلق بمحذوف وقع مفعولا لفعل محذوف معطوف على ما تقدم أو منصوب بالفعل المضمر المعطوف على ذلك، أي واذكر نعمته تعالى عليك إذ أو اذكر وقت مكرهم بك لِيُثْبِتُوكَ بالوثاق ويعضده قراءة ابن عباس «ليقيدوك» وإليه ذهب الحسن ومجاهد وقتادة أو بالاثخان بالجرح من قولهم: ضربه حتى أثبته لا حراك به ولا براح، وهو المروي عن ابن أبان وأبي حاتم والجبائي، وأنشد:
فقلت ويحكم ما في صحيفتكم قالوا الخليفة أمسى مثبتا وجعا
أو بالحبس في بيت كما روي عن عطاء والسدي وكل الأقوال ترجع إلى أصل واحد هو جعله صلّى الله عليه وسلّم ثابتا في مكانه أعم من أن يكون ذلك بالربط أو الحبس أو الإثخان بالجراح حتى لا يقدر على الحركة، ولا يرد أن الإثخان إن كان بدون قتل ذكر له فيما اشتهر من القصة وإن كان بالقتل يتكرر مع قوله تعالى: أَوْ يَقْتُلُوكَ لأنا نختار الأول، ولا يلزم أن يذكر في القصة لأنه قد يكون رأى من لا يعتد برأيه فلم يذكروا المراد على ما تقتضيه أو يقتلوك بسيوفهم أَوْ يُخْرِجُوكَ أي من مكة، وذلك على ما
ذكر ابن إسحاق أن قريشا لما رأت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد كانت له شيعة وأصحاب من غيرهم من غير بلدهم ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا وأصابوا منهم منعة فحذروا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إليهم وعرفوا أنه قد أجمع لحربهم فاجتمعوا في دار الندوة وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمرا إلا فيها يتشاورون فيها ما يصنعون في أمره عليه الصلاة والسلام فلما اجتمعوا كما قال ابن عباس لذلك واتعدوا أن يدخلوا الدار ليتشاوروا فيها غدوا في اليوم الذي اتعدوا فيه وكان ذلك اليوم يسمى يوم الزحمة فاعترضهم إبليس عليه اللعنة في هيئة شيخ جليل عليه بدلة فوقف على باب الدار فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من
184
الشيخ؟ قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحا قالوا: أجل فادخل فدخل معهم وقد اجتمع أشراف قريش فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما رأيتم وإنا والله ما نأمنه قال: فتشاوروا ثم قال قائل (١) منهم: احبسوه في الحديد وأغلقوا عليه بابا ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم. فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا برأي والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتموه دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره فتشاوروا ثم قال قائل (٢) منهم: نخرجه من بين أظهرنا فننفيه من بلادنا فإذا خرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت. قال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا برأي ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به؟ والله لو فعلتم ذلك ما أمنت أن يحل على حي من العرب فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يبايعوه ثم يسير بهم إليكم فيطؤكم بهم في بلادكم فيأخذ أمركم من أيديكم ثم يفعل بكم ما أراد، دبروا فيه رأيا غيره. فقال أبو جهل: والله إن فيه لرأيا ما أراكم وقعتم عليه بعد. قالوا وما هو يا أبا الحكم؟ قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شابا جليدا نسيبا فينا ثم نعطي كل فتى منهم سيفا صارما ثم يعمدون إليه فيضربونه بها ضربة رجل واحد فيقتلونه فنستريح منه فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعا فرضوا منا بالعقل فعقلناه لهم قال فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل هو هذا الرأي لا أرى غيره فتفرقوا على ذلك، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكانهم قال لعلي كرم الله وجهه نم على فراشي وتسبح بردي هذا الحضرمي الأخضر فنم فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ينام في برده ذلك إذا نام، وأذن له عليه الصلاة والسلام في الهجرة فخرج مع صاحبه أبي بكر رضي الله تعالى عنه إلى الغار، وأنشد علي كرم الله تعالى وجهه مشيرا لما من الله تعالى به عليه:
وقيت بنفسي خير من وطئ الحصى ومن طاف بالبيت العتيق وبالحجر
رسول إله خاف أن يمكروا به فنجاه ذو الطول الإله من المكر
وبات رسول الله في الغار آمنا وقد صار في حفظ الإله وفي ستر
وبت أراعيهم وما يتهمونني وقد وطنت نفسي على القتل والأسر
وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ أي يرد مكرهم ويجعل وخامته عليهم أو يجازيهم عليه أو يعاملهم معاملة الماكرين وذلك بأن أخرجهم إلى بدر وقلل المسلمين في أعينهم حتى حملوا عليهم فلقوا منهم ما يشيب منه الوليد، ففي الكلام استعارة تبعية أو مجاز مرسل أو استعارة تمثيلية، وقد يكتفى بالمشاكلة الصرفة وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ إذ لا يعتد بمكرهم عند مكره سبحانه.
قال بعض المحققين: إطلاق هذا المركب الإضافي عليه تعالى إن كان باعتبار أن مكره جل شأنه أنفذ وأبلغ تأثيرا فالإضافة للتفضيل لأن لمكر الغير أيضا نفوذا وتأثيرا في الجملة، وهذا معنى أصل فعل الخير فتحصل المشاركة
(١) هو ابو البختري بن هشام اهـ منه.
(٢) هو أبو الأسود ربيعة بن عمير اهـ منه
185
فيه، وإذا كان باعتبار أنه سبحانه لا ينزل إلا الحق ولا يصيب إلا بما يستوجبه الممكور به فلا شركة لمكر الغير فيه فالإضافة حينئذ للاختصاص كما في- أعدلا بني مروان- لانتفاء المشاركة.
وقيل: هو من قبيل- الصيف أحر من الشتاء- بمعنى أن مكره تعالى في خيريته أبلغ من مكر الغير في شرّيته.
وادعى غير واحد أن المكر لا يطلق عليه سبحانه دون مشاكلة لأنه حيلة يجلب بها مضرة إلى الغير وذلك مما لا يجوز في حقه سبحانه.
واعترض بوروده من دون مشاكلة في قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ.
وأجيب بأن المشاكلة فيما ذكر تقديرية وهي كافية في الغرض، وفيه نظر،
فقد جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه «من وسع عليه في دنياه ولم يعلم أنه مكر به فهو مخدوع في عقله»
والمشاكلة التقديرية فيه بعيدة جد بل لا يكاد يدعيها منصف وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا التي لو أنزلناها على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا قائله النضر بن الحرث من بني عبد الدار على ما عليه جمهور المفسرين وكان يختلف إلى أرض فارس والحيرة فيسمع أخبارهم عن رستم، وإسفنديار وكبار العجم وكان يمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل، وإسناد القول إلى ضمير الجمع من إسناد فعل البعض إلى الكل لما أن اللعين كان رئيسهم وقاضيهم الذي يقولون بقوله ويعملون برأيه.
وقيل: قاله الذين ائتمروا في أمره عليه الصلاة والسلام في دار الندوة، وأيا ما كان فهو غاية المكابرة ونهاية العناد، إذ لو استطاعوا شيئا من ذلك فما منعهم من المشيئة؟ وقد تحداهم عليه الصلاة والسلام وقرّعهم بالعجز عشر سنين ثم قارعهم بالسيف فلم يعارضوا بما سواه مع أنفتهم واستنكافهم أن يغلبوا لا سيما في ميدان البيان فانهم كانوا فرسانه المالكين لأزمته الحائزين قصب السبق به.
واشتهر أنهم علقوا القصائد السبعة المشهورة على باب الكعبة متحدين بها، لكن تعقب (١) أن ذلك مما لا أصل له وإن اشتهر، وزعم بعضهم أن هذا القول كان منهم قبل أن ينقطع طمعهم عن القدرة على الإتيان بمثله، وليس بشيء إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع أسطورة على ما قاله المبرد كأحدوثة وأحاديث ومعناه ما سطر وكتب. وفي القاموس الأساطير الأحاديث لا نظام لها جمع اسطار وإسطير وأسطور وبالهاء في الكل. وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر وغيره وجمعه أسطر وسطور وأسطار وجمع الجمع أساطير ويحرك في الكل، وقال بعضهم: إن جمع سطر بالسكون أسطر وسطور وجمع سطر أسطار وأساطير، وهو مخالف لما في القاموس، والكلام على التشبيه، وأرادوا ما هذا إلا كقصص الأولين وحكاياتهم التي سطروها وليس كلام الله تعالى، وكأنه بيان لوجه قدرتهم على قول مثله لو شاؤوا.
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ قائل هذا النضر أيضا على ما روي عن مجاهد وسعيد بن جبير، وجاء في رواية أنه لما قال أولا ما قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم:
ويلك إنه كلام الله تعالى فقال ذلك. وأخرج البخاري. والبيهقي في الدلائل عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنهما أنه أبو جهل بن هشام. وأخرج ابن جرير عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس أن قريشا قال بعضها لبعض أكرم الله تعالى
(١) المتعقب الشهاب اهـ منه
186
محمدا صلّى الله عليه وسلّم من بيننا اللهم إن كان هذا هو الحق إلخ وهو أبلغ في الجحود من القول الأول لأنهم عدوا حقيته محالا فلذا علقوا عليها طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل ولو كانت ممكنة لفرّوا من تعليقه عليها، وما يقال إن إن للخلو عن الجزم فكيف استعملت في صورة الجزم؟ أجاب عنه القطب بأنها لعدم الجزم بوقوع الشرط ومتى جزم بعدم وقوعه عدم الجزم بوقوعه، وهذا كقوله تعالى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ [البقرة: ٢٣] وفيه بحث ذكره العلامة الثاني. واللام في الْحَقَّ قيل للعهد، ومعنى العهد في أنه الحق الذي ادعاه النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو أنه كلام الله تعالى المنزل عليه الصلاة والسلام على النمط المخصوص ومِنْ عِنْدِكَ ان سلم دلالته عليه فهو للتأكيد وحينئذ فالمعلق به كونه حقا بالوجه الذي يدعيه النبي صلّى الله عليه وسلّم لا الحق مطلقا لتجوزيهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل «كأساطير الأولين» وفي الكشاف أن قولهم: هو الحق تهكم بمن يقول على سبيل التخصيص والتعيين، هذا هو الحق، وزعم بعضهم أن هذا قول بأن اللام للجنس وأشار إلى أن الأولى حملها على العهد الخارجي على معنى الحق المعهود المنزل من عند الله تعالى هذا لا أساطير الأولين فالتركيب مفيد لتخصيص المسند إليه بالمسند على آكد وجه، وحمل كلام البيضاوي على ذلك وطعن في مسلك الكشاف بعدم ثبوت قائل أولا على وجه التخصيص يتهكم به. ولا يخفى ما فيه من المنع والتعسف وأمطر استعارة أو مجاز لأنزل، وقد تقدم الكلام في المطر والأمطار، وقوله سبحانه: مِنَ السَّماءِ صفة حجارة وذكره للإشارة إلى أن المراد بها السجيل والحجارة المسومة للعذاب،
يروى أنها حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم،
وجوز أن يكون الجار متعلقا بالفعل قبله، والمراد بالعذاب الأليم غير أمطار الحجارة بقرينة المقابلة، ويصح أن يكون من عطف العام على الخاص، وتعلق مِنْ عِنْدِكَ بمحذوف قيل: هو حال مما عنده أو صفة له، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والأعمش الْحَقَّ بالرفع على أن هو مبتدأ لا فصل، وقول الطبرسي: إنه لم يقرأ بذلك، ليس بذاك، ولا أرى فرقا بين القراءتين من جهة المراد بالتعريف خلافا لمن زعمه وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ جواب لكلمتهم الشنعاء وبيان لما كان الموجب لامهالهم وعدم إجابة دعائهم الذي قصدوا به ما قصدوا، واللام هي التي تسمى لام الجحود ولام النفي لاختصاصها بمنفي كان الماضية لفظا أو معنى، وهي اما زائدة أو غير زائدة والخبر محذوف، أي ما كان الله مريدا لتعذيبهم، وأيا ما كان فالمراد تأكيد النفي إما على زيادتها فظاهر وإما على عدم زيادتها وجعل الخبر ما علمت فلأن نفي إرادة الفعل أبلغ من نفيه، وقيل:
في وجه إفادة اللام تأكيد النفي هنا أنها هي التي في قولهم: أنت لهذه الخطة أي مناسب لها وهي تليق بك، ونفي اللياقة أبلغ من نفي أصل الفعل ولا يخلو عن حسن وإن قيل: إنه تكلف لا حاجة إليه بعد ما بينه النحاة في وجه ذلك، وحمل غير واحد العذاب على عذاب الاستئصال، واعترض بأنه لا دليل على هذا التقييد مع أنه لا يلائمه المقام وأجيب بمنع عدم الملاءمة، بل من أمعن النظر في كلامهم رآه مشعرا بطلب ذلك، والدليل على التقييد أنه وقع عليهم العذاب والنبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم كالقحط فعلم أن المراد به عذاب الاستئصال والقرينة عليه تأكيد النفي الذي يصرفه إلى أعظمه، فالمراد من الآية الإخبار بأن تعذيبهم عذاب استئصال، والنبي صلّى الله عليه وسلّم بين أظهرهم خارج عن عادته تعالى غير مستقيم في حكمه وقضائه، والمراد بالاستغفار في قوله سبحانه: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ اما استغفار من بقي بينهم من المؤمنين المستضعفين حين هاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وروي هذا عن الضحاك واختاره الجبائي، وقال الطيبي: إنه أبلغ لدلالته على استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة، وإسناد الاستغفار إلى ضمير الجميع لوقوعه فيما بينهم ولجعل ما صدر عن البعض كما قيل بمنزلة الصادر عن الكل فليس هناك تفكيك للضمائر كما يوهمه كلام ابن عطية.
187
وأما دعاء الكفرة بالمغفرة وقولهم غفرانك فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعا من عذابه جل شأنه ولو من الكفرة، وروي هذا عن يزيد بن رومان ومحمد بن قيس قالا: إن قريشا لما قالوا ما قالوا ندموا حين أمسوا فقالوا:
غفرانك اللهم، وأما التوبة والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره على معنى لو استغفروا لم يعذبوا كقوله تعالى: وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ [هود: ١١٧] وروي هذا عن السدي وقتادة وابن زيد، وجاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كل من الأقوال الثلاثة، وأيا ما كان فالجملة الاسمية في موضع الحال إلا أن القيد مثبت على الوجهين الأولين منفي على الوجه الأخير، ومبني الاختلاف في ذلك ما نقل عن السلف من الاختلاف في تفسيره، والقاعدة المقررة بين القوم في القيد الواقع بعد الفعل المنفي، وحاصلها على ما قيل: إن القيد في الكلام المنفي قد يكون لتقييد النفي وقد يكون لنفي التقييد بمعنى انتفاء كل من الفعل والقيد أو القيد فقط أو الفعل فقط، وقيل (١) : إن الدال على انتفاء الاستغفار هنا على الوجه الأخير القرينة والمقام لا نفس الكلام وإلا لكان معنى وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ نفى كونه فيهم لأن أمر الحالية مشترك بين الجملتين. وأطال الكلام في نفي تساوي الجملتين سؤالا وجوابا، ثم تكلف للتفرقة بما تكلف، واعترض عليه بما اعترض، والظاهر عندي عدم الفرق في احتمال كل من حيث إنه كلام فيه قيد توجه النفي إلى القيد.
ومن هنا قال بعضهم: إن المعنى الأولى لو كنت فيهم لم يعذبوا كما قيل في معنى الثانية: لو استغفروا لم يعذبوا، ويكون ذلك إشارة إلى أنهم عذبوا بما وقع لهم في بدر لأنهم اخرجوا النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة ولم يبق فيهم فيها إلا أن هذا خلاف الظاهر ولا يظهر عليه كون الآية جوابا لكلمتهم الشنعاء، وعن ابن عباس أن المراد بهذا الاستغفار استغفار من يؤمن منهم بعد، أي وما كان الله معذبهم وفيهم من سبق له من الله تعالى العناية أنه يؤمن ويستغفر كصفوان ابن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وأضرابهم، وعند مجاهد أن المراد به استغفار من في أصلابهم ممن علم الله تعالى أنه يؤمن، أي ما كان الله معذبهم وفي أصلابهم من يستغفر وهو كما ترى، ويظهر لي من تأكيد النفي في الجملة الأولى وعدم تأكيده في الجملة الثانية أن كون النبي صلّى الله عليه وسلّم فيهم ادعى حكمة لعدم التعذيب من الاستغفار، وحمل بعضهم التعذيب المنفي في الجملة الثانية بناء على الوجه الأخير على ما عدا تعذيب الاستئصال، وحمل الأول على التعذيب الدنيوي والثاني على الأخروي ليس بشيء وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي أي شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم أي لاحظ لهم في ذلك وهم معذبون لا محالة إذا زال المانع وكيف لا يعذبون وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وحالهم الصد عن ذلك حقيقة كما فعلوا عام الحديبية وحكما كما فعلوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه حتى ألجئوهم للهجرة، ولما كانت الآيتان يتراءى منهما التناقض زادوا في التفسير إذا زال ليزول كما ذكرنا، وأنت تعلم أنه إذا حمل التعذيب في كل على تعذيب الاستئصال احتيج إلى القول بوقوعه بعد زوال المانع وهو خلاف الواقع، وقال بعضهم في دفع ذلك: إن التعذيب فيما مر تعذيب الاستئصال وهنا التعذيب بقتل بعضهم، ونقل الشهاب عن الحسن والعهدة عليه أن هذه نسخت ما قبلها، والظاهر أنه أراد النفيين السابقين، والذي في الدر المنثور أنه وكذا عكرمة. والسدي قالوا: إن قوله سبحانه: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ منسوخ بهذه الآية، وأيا ما كان يرد عليه أنه لا نسخ في الأخبار إلا إذا تضمنت حكما شرعيا، وفي تضمن المنسوخ هنا ذلك خفاء، وقال محمد بن إسحاق: إن الآية الأولى متصلة بما قبلها على أنها حكاية عن المشركين فانهم كانوا يقولون: إن الله تعالى لا يعذبنا
(١) القائل السعد اهـ منه
188
ونحن نستغفر ولا يعذب سبحانه أمة ونبيها معها فقص الله تعالى ذلك على نبيه صلّى الله عليه وسلّم مع قولهم الآخر فكأنه قيل: وإذا قالوا اللهم إلخ وقالوا أيضا: كيت وكيت ثم رد عليهم بقوله سبحانه وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ على معنى أنهم يعذبون وإن كنت بين أظهرهم وإن كانوا يستغفرون، وفيه أن وقوع ذلك القول منهم في غاية البعد مع أن الظاهر حينئذ أن يقال: ليعذبنا ومعذبنا ونحن نسنغفر ليكون على طرز قولهم السابق، وأيضا الأخبار الكثيرة تأبى ذلك، فقد أخرج أبو الشيخ والحاكم وصححه والبيهقي في شعب الأيمان عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: كان فيكم إمامان مضى أحدهما وبقي الآخر وتلا وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ إلخ.
وجاء مثل ذلك عن ابن عباس وأبي موسى الأشعري،
وأخرج أبو داود والترمذي في الشمائل والنسائي عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقام عليه الصلاة والسلام فلم يكد يركع ثم ركع فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد ثم سجد فلم يكد يرفع ثم رفع وفعل في الركعة الأخرى مثل ذلك ثم نفخ في آخر سجوده ثم قال: رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وأنا فيهم؟ رب ألم تعدني أن لا تعذبهم وهم يستغفرون؟ ونحن نستغفرك ففرغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صلاته وقد انمحصت الشمس»
وذهب الجبائي إلى أن المنفي فيما مر عذاب الدنيا وهذا العذاب عذاب الآخرة أي إنه يعذبهم في الآخرة لا محالة وهو خلاف سياق الآية، وَما على ما عليه الجمهور وهو الظاهر استفهامية، وقيل: إنها نافية أي ليس ينفي عنهم العذاب مع تلبسهم بالصد عن المسجد الحرام وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي وما كانوا مستحقين ولاية المسجد الحرام مع شركهم، والجملة في موضع الحال من ضمير يصدون مبينة لكمال قبح ما صنعوا من الصدفان مباشرتهم للصد عنه مع عدم استحقاقهم لولاية أمره في غاية القبح، وهذا رد لما كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم فنصد من نشاء وندخل من نشاء إِنْ أَوْلِياؤُهُ أي ما أولياء المسجد الحرام إِلَّا الْمُتَّقُونَ من الشرك الذي لا يعبدون فيه غيره تعالى، والمراد بهم المسلمون وهذه المرتبة الأولى من التقوى، وما أشرنا إليه من رجوع الضميرين إلى المسجد هو المتبادر المروي عن أبي جعفر والحسن، وقيل: هما راجعان إليه تعالى، وعليه فلا حاجة إلى اعتبار الاستحقاق فيما تقدم آنفا إذ لم تثبت لهم ولاية الله تعالى أصلا بخلاف ولاية المسجد فإنهم كانوا متولين له وقت النزول فاحتيج إلى التأويل بنفي الاستحقاق، ويفسر المتقون حينئذ بما هو أخص من المسلمين لأن ولاية الله تعالى لا يكفي فيها الإسلام بل لا بد فيها أيضا من المرتبة الثانية من التقوى وإن وجدت المرتبة الثالثة منها فالولاية ولاية كبرى، وهذا ما نعرفه من نصوص الشريعة المطهرة والمحجة البيضاء التي ليلها كنهارها، وغالب الجهلة اليوم على أن الولي هو المجنون ويعبرون عنه بالمجذوب، صدقوا ولكن عن الهدى، وكلما أطبق جنونه وكثر هذيانه واستقذرت النفوس السلمة أحواله كانت ولايته أكمل وتصرفه في ملك الله تعالى أتم، وبعضهم يطلق الولي عليه وعلى من ترك الأحكام الشرعية ومرق من الدين المحمدي وتكلم بكلمات القوم وتزيا بزيهم، وليس منهم في عير ولا نفير، وزعم أن من أجهد نفسه في العبادة محجوبا ومن تمسك بالشريعة مغبونا، وإن هناك باطن يخالف الظاهر إذا هو عرف انحل القيد ورفع التكليف وكملت النفس:
وألقت عصاها واستقر بها النوى كما قرّ عينا بالإياب المسافر
ويسمون هذا المرشد، صدقوا ولكن إلى النار، والشيخ صدقوا ولكن النجدي، والعارف صدقوا ولكن بسباسب الضلال، والموحد صدقوا ولكن للكفر والإيمان، وقد ذكر مولانا حجة الإسلام الغزالي هذا النوع من الكفرة الفجرة وقال: إن قتل واحد منهم أفضل عند الله تعالى من قتل مائة كافر، وكذا تكلم فيهم الشيخ الأكبر قدس سره في الفتوحات بنحو ذلك:
189
إلى الماء يسعى من يغص بلقمة إلى أين يسعى من يغص بماء
والزمخشري جعل الْمُتَّقُونَ أخص من المسلمين على الوجه الأول أيضا وهو أبلغ في نفي الولاية عن المذكورين أي لا يصلح لأن يلي أمر المسجد من ليس بمسلم وإنما يستأهل ولايته من كان برا تقيا فكيف بالكفرة عبدة الأوثان وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن لا ولاية لهم عليه، وكأنه نبه سبحانه بذكر الأكثر على أن منهم من يعلم ذلك ولكن يجحده عنادا، وقد يراد بالأكثر الكل لأن له حكمه في كثير من الأحكام كما أن الأقل قد لا يعتبر فينزل منزلة العدم وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ أي المسجد الحرام الذي صدوا المسلمين عنه، والتعبير عنه بالبيت للاختصار مع الإشارة إلى أنه بيت الله تعالى فينبغي أن يعظم بالعبادة وهم لم يفعلوا إِلَّا مُكاءً أي صفيرا، وهو فعال بضم أوله كسائر أسماء الأصوات تجيء على فعال إلا ما شذ كالنداء من مكا يمكو إذا صفر، وقرىء مكا بالقصر كبكا وَتَصْدِيَةً أي تصفيقا، وهو ضرب اليد باليد بحيث يسمع له صوت، ووزنه تفعلة من الصد كما قال أبو عبيدة فحول إحدى الدالين ياء كما في تقضى البازي لتقضضه، ومن ذلك قوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ [الزخرف: ٥٧] أي يضجون لمزيد تعجبهم، وأنكر عليه، وقيل: هو من الصدأ وهو ما يسمع من رجع الصوت عند جبل ونحوه، والمراد بالصلاة اما الدعاء أو أفعال أخر كانوا يفعلونها ويسمونها صلاة، وحمل المكاء والتصدية عليها على ما يشير إليه كلام الراغب بتأويل ذلك بأنها لا فائدة فيها ولا معنى لها كصفير الطيور وتصفيق اللعب. وقد يقال: المراد أنهم وضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة التي تليق أن تقع عند البيت على حد:
تحية بينهم ضرب وجيع يروى أنهم كانوا إذا أرادوا النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يصلي يخلطون عليه بالصفير والتصفيق ويرون أنهم يصلون أيضا.
وروي أنهم كانوا يطوفون عراة الرجال والنساء مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفقون. وقال بعض القائلين: إن التصدية بمعنى الصد، والمراد صدهم عن القراءة أو عن الدين أو الصد بمعنى الضجة كما نقل عن ابن يعيش في قوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ والمأثور عن ابن عباس وجمع من السلف ما ذكرناه.
نعم روي عن ابن جبير: تفسير التصدية بصد الناس عن المسجد الحرام، وفيه بعد، وأبعد من ذلك تفسير عكرمة لها بالطواف على الشمال بل لا يكاد يسلم، والجملة معطوفة إما على وَهُمْ يَصُدُّونَ فتكون لتقرير استحقاقهم للعذاب ببيان أنهم صدوا ولم يقوموا مقام من صدوه في تعظيم البيت، أو على وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ فتكون تقرير لعدم استحقاقهم لولايته. وقرأ الأعمش. «صلاتهم» بالنصب وهي رواية عن عاصم. وأبان، وهو حينئذ خبر كان ومكاء بالرفع اسمها، وفي ذلك الإخبار عن النكرة بالمعرفة وهو من القلب عند السكاكي، وقال ابن جني: لا قلب ثم قال: لسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح وإنما جاءت منه أبيات شاذة لكن من وراء ذلك ما أذكره، وهو أن نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته. ألا تراك تقول: خرجت فإذا أسد بالباب، فتجد معناه فإذا الأسد بالباب ولا فرق بينهما، وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسدا واحدا معينا وإنّما تريد، واحدا من هذا الجنس، وإذا كان كذلك جاز هنا النصب والرفع جوازا قريبا كأنه قيل: وما كان صلاتهم إلا هذا الجنس من الفعل ولا يكون مثل قولك: كان قائم أخاك، لأنه ليس في قائم معنى الجنسية. وأيضا فإنه يجوز مع النفي ما لا يجوز مع الإيجاب. ألا تراك تقول: ما كان إنسان خيرا منك ولا تجيز كان إنسان خيرا منك، وتمام الكلام عليه في موضعه فَذُوقُوا الْعَذابَ يعني القتل والأسر يوم بدر كما روي عن الحسن. والضحاك، وقيل: عذاب الآخرة، وقيل: العذاب المعهود في قوله سبحانه: أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ [الأنفال: ٣٢] ولا تعيين، والباء في قوله تعالى: بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ للسببية، والفاء على تقدير أن لا
190
يراد من العذاب عذاب الآخرة للتعقيب، وعلى تقدير أن يراد ذلك للسببية كالباء وأمر اجتماعهما ظاهر، والمتبادر من الكفر ما يرجع الاعتقاد، وقد يراد به ما يشمل الاعتقاد والعمل كما يراد من الإيمان في العرف ذلك أيضا إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ نزلت على ما روي عن الكلبي والضحاك ومقاتل في المطعمين يوم بدر وكانوا اثني عشر رجلا: أبو جهل وعتبة وشيبة ابنا ربيعة بن عبد شمس ونبيه ومنبه ابنا الحجاج وأبو البختري بن هشام والنضر بن الحارث وحكيم بن حزام وأبي بن خلف وزمعة بن الأسود والحارث بن عامر بن نوفل والعباس ابن عبد المطلب وكلهم من قريش، وكان كل يوم يطعم كل واحد عشر جزر وكانت النوبة يوم الهزيمة للعباس، وروى ابن إسحاق أنها نزلت في أصحاب العير.
وذلك أنه لما أصيبت قريش يوم بدر ورجعوا إلى مكة مشى صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل في رجال من قريش أصيب آباؤهم وإخوانهم ببدر فكلموا أبا سفيان ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأرنا بمن أصيب منا ففعلوا، وعن سعيد بن جبير ومجاهد أنها نزلت في أبي سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من أحد الأحابيش ليقاتل بهم النبي صلّى الله عليه وسلّم سوى من استجاشهم من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية من الذهب وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا من الذهب، وفيهم يقول كعب بن مالك من قصيدة طويلة أجاب بها هبيرة بن أبي وهب:
فجئنا إلى موج من البحر وسطهم أحابيش منهم حاسر ومقنع
ثلاثة آلاف ونحن عصابة ثلاث مئين إن كثرنا فأربع
وسبيل الله طريقه، والمراد به دينه واتباع رسوله صلّى الله عليه وسلّم، واللام في لِيَصُدُّوا لام الصيرورة ويصح أن تكون للتعليل لأن غرضهم الصد عن السبيل بحسب الواقع وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم، وكأن هذا بيان لعبادتهم المالية بعد عبادتهم البدنية، والموصول اسم إن وخبرها على ما قال العلامة الطيبي في قوله تعالى: فَسَيُنْفِقُونَها وينفقون إما حال أو بدل من كفروا أو عطف بيان، واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدي الموصول مع صلته معنى الشرط كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ فهو جزاء بحسب المعنى، وفي تكرير الانفاق في الشرط والجزاء الدلالة على كمال سوء الانفاق كما في قوله تعالى: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: ١٩٢] وقولهم: من أدرك الصمان فقد أدرك المرعى، والكلام مشعر بالتوبيخ على الانفاق والإنكار عليه، قيل: وإلى هذا يرجع قول بعضهم إن مساق ما تقدم لبيان غرض الانفاق ومساق هذا لبيان عاقبته وأنه لم يقع بعد فليس ذلك من التكرار المحظور، وقيل: في دفعه أيضا: المراد من الأول الانفاق في بدر.
ويُنْفِقُونَ لحكاية الحال الماضية وهو خبر أن، ومن الثاني الانفاق في أحد، والاستقبال على حاله، والجملة عطف على الخبر لكن لما كان إنفاق الطائفة الأولى سببا لانفاق الثانية، أتى بالفاء لابتنائه عليه، وذهب القطب إلى هذا الاعراب أيضا على تقدير دفع التكرار باختلاف الغرضين، وذكر أن الحاصل أنا لو حملنا يُنْفِقُونَ على الحال فلا بد من تغاير الإنفاقين وإن حملناه على الاستقبال اتحدا، كأنه قيل: إن الذين كفروا يريدون أن ينفقوا أموالهم فسينفقونها، وحمل المنفق في الأول على البعض وفي الثاني على الكل لا أراه إلا كما ترى، وقوله سبحانه: ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً عطف على ما قبله، والتراخي زماني، والحسرة الندم والتأسف، وفعله حسر كفرح أي ثم تكون عليهم ندما وتأسفا لفواتها من غير حصول المطلوب، وهذا في بدر ظاهر. وأما في أحد فلأن المقصود لهم لم ينتج
191
بعد ذلك فكان كالفائت، وضمير تكون للأموال على معنى تكون عاقبتها عليهم حسرة، فالكلام على تقدير مضافين أو ارتكاب تجوز في الإسناد.
وقال العلامة الثاني: إنه من قبيل الاستعارة في المركب حيث شبه كون عاقبة انفاقهم حسرة بكون ذات الأموال كذلك وأطلق المشبه به على المشبه وفيه خفاء، ومن الناس من قال: إن إطلاق الحسرة بطريق التجوز على الانفاق مبالغة فافهم ثُمَّ يُغْلَبُونَ أي في مواطن أخر بعد ذلك وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي الذين أصروا على الكفر من هؤلاء ولم يسلموا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ أي يساقون لا إلى غيرها لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أي الكافر من المؤمن أو الفساد من الصلاح، واللام على الوجهين متعلقة بيحضرون وقد يراد من الخبيث ما أنفقه المشركون لعداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومِنَ الطَّيِّبِ ما أنفقه المسلمون لنصرته عليه الصلاة والسلام، فاللام متعلقة بتكون عليهم حسرة دون يحشرون، إذ لا معنى لتعليل حشرهم بتمييز المال الخبيث من الطيب، ولم تتعلق بتكون على الوجهين الأولين إذ لا معنى لتعليل كون أموالهم عليهم حسرة بتمييز الكفار من المؤمنين أو الفساد من الصلاح. وقرأ حمزة. والكسائي.
ويعقوب «ليميّز» من التمييز وهو أبلغ من الميز لزيادة حروفه. وجاء من هذا ميزته فتميز ومن الأول مزته فانمازوا. وقرىء شاذا فانمازوا اليوم أيها المجرمون [سورة ص: ٥٩] وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً أي يضم بعضه إلى بعض ويجمعه من قولهم: سحاب مركوم ويوصف به الرمل والجيش أيضا، والمراد بالخبيث إما الكافر فيكون المراد بذلك فرط ازدحامهم في الحشر، وإما الفساد فالمراد أنه سبحانه يضم كل صنف بعضه إلى بعض فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ كله، وجعل الفساد فيها بجعل أصحابه فيها، وأما المال المنفق في عداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجعله في جهنم لتكوى به جباههم وجنوبهم.
وقد يراد به هنا ما يعم الكافر وذلك المال على معنى أنه يضم إلى الكافر الخبيث ماله الخبيث ليزيد به عذابه ويضم إلى حسرة الدنيا حسرة الآخرة أُولئِكَ إشارة إلى الخبيث، والجمع لأنه مقدر بالفريق الخبيث أو إلى المنفقين الذين بقوا على الكفر فوجه الجمع ظاهر، وما فيه من معنى البعد على الوجهين للايذان ببعد درجتهم في الخبث.
هُمُ الْخاسِرُونَ أي الكاملون في الخسران لأنهم خسروا أنفسهم وأموالهم قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي المعهودين وهم أبو سفيان وأصحابه، واللام عند جمع للتعليل أي قل لأجلهم إِنْ يَنْتَهُوا عما هم فيه من معاداة الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالدخول في الإسلام يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ منهم من الذنوب التي من جملتها المعاداة والانفاق في الضلال، وقال أبو حيان: الظاهر أن اللام للتبليغ وأنه عليه الصلاة والسلام أمر أن يقول هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ هذه الجملة المحكية بالقول سواء قاله بهذه العبارة أم غيرها، وهذا الخلاف إنما هو على قراءة الجماعة وأما على قراءة ابن مسعود «ان تنتهوا يغفر لكم» بالخطاب فلا خلاف في أنها للتبليغ على معنى خاطبهم بذلك، وقرىء «نغفر لهم» على أن الضمير لله عزّ وجلّ وَإِنْ يَعُودُوا إلى قتاله صلّى الله عليه وسلّم أو إلى المعاداة على معنى إن داوموا عليها فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي عادة الله تعالى الجارية في الذين تحزبوا على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من نصر المؤمنين عليهم وخذلانهم وتدميرهم. وأضيفت السنة إليهم لما بينهما من الملابسة الظاهرة، ونظير ذلك قوله سبحانه: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا [الإسراء: ٧٧] فأضاف السنة إلى المرسلين مع أنها سنته تعالى لقوله سبحانه: وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا [الإسراء: ٧٧] باعتبار جريانها على أيديهم، ويدخل في الأولين الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر، وبعضهم فسره بذلك ولعل الأول أولى لعمومه ولأن السنة تقتضي التكرر في العرف وإن قالوا: العادة تثبت بمرة، والجملة على ما
192
في البحر دليل الجواب، والتقدير إن يعودوا انتقمنا منهم أو نصرنا المؤمنين عليهم فقد مضت سنة الأولين، وذهب غير واحد إلى أن المراد بالذين كفروا الكفار مطلقا، والآية حث على الإيمان وترغيب فيه، والمعنى أن الكفار ان انتهوا عن الكفر وأسلموا غفر لهم ما سلف منهم من الكفر والمعاصي وخرجوا منها كما تنسل الشعرة من العجين وإن عادوا إلى الكفر بالارتداد فقد رجع التسليط والقهر عليهم، واستدل بالآية على أن الإسلام يجب ما قبله، وأن الكافر إذا أسلم لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس، وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب لعموم الآية، واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبت عليه قبل إسلامه، وأخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك قال: لا يؤاخذ الكافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم وذلك لأن الله تعالى قال: إِنْ يَنْتَهُوا إلخ.
وقال بعض: إن الحربي إذا أسلم لم تبق عليه تبعة أصلا وأما الذمي فلا يلزمه قضاء حقوق الله تعالى وتلزمه حقوق العباد، ونسب إلى الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أن مذهبه في المرتد كمذهب المالكية في أنه إذا رجع إلى الإسلام لم تبق عليه تبعة وهو كالصريح في أن من عصى طول العمر ثم ارتد ثم أسلم لم يبق عليه ذنب.
ونسب بعضهم قول ذلك إليه رضي الله تعالى عنه صريحا وادعى أنه احتج عليه بالآية وأنه في غاية الضعف إذ المراد بالكفر المشار إليه في الآية هو الكفر الأصلي وبما سلف ما مضى في حال الكفر، وتعقب ذلك بأن أبا حنيفة ومالكا أبقيا الآية على عمومها
لحديث «الإسلام يهدم ما كان قبله»
وإنهما قالا: إن المرتد يلزمه حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى كما في كتاب أحكام القرآن لابن عبد الحق، وخالفهما الشافعي رضي الله تعالى عنه وقال: يلزمه جميع الحقوق، وأنا أقول ما ذكره ذلك البعض عن أبي حنيفة في العاصي المذكور في غاية الغرابة، وفي كتب الأصحاب ما يخالفه، ففي الخافية إذا كان على المرتد قضاء صلوات أو صيامات تركها في الإسلام ثم أسلم قال شمس الأئمة الحلواني: عليه قضاء ما ترك في الإسلام لأن ترك الصلاة والصيام معصية تبقى بعد الردة. نعم ذكر قاضيخان فيها ما يدل على أن بعض الأشياء يسقط عن هذا المرتد إذا عاد إلى الإسلام وأطال الكلام في المرتد ولا بأس بنقل شيء مما له تعلق في هذا المبحث إذ لا يخلو عن فائدة، وذلك أنه قال: مسلم أصاب مالا أو شيئا يجب به القصاص أو حد قذف ثم ارتد أو أصاب ذلك، وهو مرتد في دار الإسلام ثم لحق بدار الحرب وحارب المسلمين زمانا ثم جاء مسلما فهو مأخوذ بجميع ذلك ولو أصاب ذلك بعد ما لحق بدار الحرب مرتد أو أسلم فذلك كله موضوع عنه، وما أصاب المسلم من حدود الله تعالى كالزنا والسرقة وقطع الطريق ثم ارتد أو أصاب ذلك بعد الردة ثم لحق بدار الحرب ثم جاء مسلما فكل ذلك يكون موضوعا عنه إلا أنه يضمن المال في السرقة، وإذا أصاب دما في الطريق كان عليه القصاص، وما أصاب في قطع الطريق من القتل خطأ ففيه الدية على عاقلته إن أصابه قبل الردة وفي ماله أصابه بعدها، وإن وجب على المسلم حد الشرب ثم ارتد ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فانه لا يؤاخذ بذلك لأن الكفر يمنع وجوب الحد ابتداء فإذا اعترض منع البقاء وإن أصاب المرتد ذلك وهو محبوس لا يؤاخذ بحد الخمر والسكر ويؤاخذ بما سوى ذلك من حدود الله تعالى، ويتمكن الإمام من إقامة هذا الحد إذا كان في يده فإن لم يكن في يده حين أصاب ذلك ثم أسلم قبل اللحوق بدار الحرب فهو موضوع عنه أيضا انتهى، ومنه يعلم أن قولهم المرتد يلزمه حقوق العباد دون حقوق الله تعالى ليس على إطلاقه وتمام الكلام في الفروع، وأنت تعلم أن الوجه في الآية هو المطابق لمقتضى المقام وأن المتبادر من الكفر الكفر الأصلي.
و «الإسلام يهدم ما كان قبله»
بعض من حديث
أخرجه مسلم عن عمرو بن العاص قال: «أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: ابسط يمينك لأبايعك فبسط يمينه الشريفة قال: فقبضت يدي فقال:
عليه الصلاة والسلام ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط قال: تشترط ماذا؟ قلت: أشترط أن يغفر لي قال: أما
193
علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها وأن الحج يهدم ما كان قبله» الحديث.
والظاهر أن ما لا يمكن حملها في الكل على العموم كما لا يخفى فلا تغفل. وذكر بعضهم أن الكافر إذا أسلم يلزمه التوبة والندم على ما سلف مع الإيمان حتى يغفر له وفيه تأمل فتأمل وَقاتِلُوهُمْ عطف على قُلْ وعم الخطاب لزيادة ترغيب المؤمنين في القتال لتحقيق ما يتضمنه قوله سبحانه: فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ من الوعيد حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي لا يوجد منهم شرك كما روي عن ابن عباس. والحسن، وقيل: المراد حتى لا يفتتن مؤمن عن دينه وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ وتضمحل الأديان الباطلة كلها إما بهلاك أهلها جميعا أو برجوعهم عنها خشية القتل، قيل:
لم يجىء تأويل هذه الآية بعد وسيتحقق مضمونها إذا ظهر المهدي فإنه لا يبقى على ظهر الأرض مشرك أصلا على ما روي عن أبي عبد الله رضي الله عنه
فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر بقتالكم فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ الجملة قائمة مقام الجزاء أي فيجازيهم على انتهائهم وإسلامهم، أو جعلت مجازا عن الجزاء أو كناية أو فكونه تعالى بصيرا أمر ثابت قبل الانتهاء وبعده ليس معلقا على شيء. وعن يعقوب أنه قرأ «تعملون» بالتاء على أنه خطاب للمسلمين المجاهدين أي بما تعملون من الجهاد المخرج لهم إلى الإسلام، وتعليق الجزاء بانتهائهم للدلالة على أنهم يثابون بالسببية كما يثاب المباشرون بالمباشرة وَإِنْ تَوَلَّوْا ولم ينتهوا عن كفرهم فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أي ناصركم فثقوا به ولا تبالوا بمعاداتهم نِعْمَ الْمَوْلى لا يضيع من تولاه وَنِعْمَ النَّصِيرُ لا يغلب من نصره: هذا «ومن باب الإشارة في الآيات» فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ تأديب منه سبحانه لأهل بدر وهداية لهم إلى فناء الأفعال حيث سلب الفعل عنهم بالكلية، ويشبه هذا من وجه قوله سبحانه: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى والفرق أنه لما كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في مقام البقاء بالحق سبحانه إليه الفعل بقوله تعالى: إِذْ رَمَيْتَ مع سلبه عنه ب ما رَمَيْتَ وإثباته لله تعالى في حيز الاستدراك ليفيد معنى التفصيل في عين الجمع فيكون الرامي محمدا عليه الصلاة بالله تعالى لا بنفسه ولعلو مقامه صلّى الله عليه وسلّم وعدم كونهم في ذلك المقام الأرفع نسب سبحانه إليه صلّى الله عليه وسلّم ما نسب ولم ينسب إليهم رضي الله تعالى عنهم من الفعل شيئا، وهذا أحد أسرار تغيير الأسلوب في الجملتين حيث لم ينسب في الأولى ونسب في الثانية، بقي سر التعبير بالمضارع المنفي «بلم» في إحداهما والماضي المنفي «بما» في الأخرى فارجع إلى فكرك. فلعل الله تعالى يفتحه عليك: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً أي ليعطيهم عطاء جميلا وهو توحيد الأفعال، والمراد لهذا فعل ذلك إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بخطرات نفوسكم بنسبة القتل إليكم عَلِيمٌ بأنه القاتل حقيقة وكونكم مظهرا لفعله وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ لاحتجابهم بأنفسهم إِنْ تَسْتَفْتِحُوا الآية، قيل فيها: أي تفتحوا أبواب قلوبكم بمفاتيح الصدق والإخلاص وترك السوي في طلب التجلي فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ بالتجلي فإنه سبحانه لم يزل متجليا ولا يزال لكن لا يدرك ذلك إلا من فتح قلبه وَإِنْ تَنْتَهُوا عن طلب السوي فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لما فيه من الفوز بالمولى وَإِنْ تَعُودُوا إلى طلب الدنيا وزخارفها نَعُدْ إلى خذلانكم ونكلكم إلى أنفسكم وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ الدنيوية شَيْئاً مما لخاصته سبحانه وَلَوْ كَثُرَتْ لأنها كسراب بقيعة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ لأن ثمرة السماع الفهم والتصديق وثمرتهما الإرادة وثمرتها الطاعة فلا تصح دعوى السماع مع الاعراض وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ لكونهم محجوبين عن الفهم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ عن السماع الْبُكْمُ عن القبول الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ لماذا خلقوا وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً استعدادا صالحا لَأَسْمَعَهُمْ سماع تفهم وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ مع عدم علم الخير فيهم لَتَوَلَّوْا ولم ينتفعوا به وارتدوا سريعا إذ شأن العارض الزوال وهم معرضون بالذات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
194
اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ
بالتصفية إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وهو العلم بالله تعالى، وقد يقال: استجيبوا لله تعالى بالباطن والأعمال القلبية وللرسول بالظاهر والأعمال النفسية، أو استجيبوا لله تعالى بالفناء في الجمع وللرسول عليه الصلاة والسلام بمراعاة حقوق التفصيل إذا دعاكم لما يحييكم من البقاء وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ فيزول الاستعداد فانتهزوا الفرصة وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم على حسب مراتبكم وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً بل تشملهم وغيرهم بشؤم الصحبة وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ من حيث القدر لجهلكم مُسْتَضْعَفُونَ في أرض النفس تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أي ناس القوى الحسية لضعف نفوسكم فَآواكُمْ إلى مدينة العلم، وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ في مقام توحيد الأفعال وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي علوم تجليات الصفات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ذلك، وقد يقال: واذكروا أيها الأرواح والقلوب إذ كنتم قليلا ليس معكم غيركم إذ لم ينشأ لكم بعد الصفات والأخلاق والروحانية مُسْتَضْعَفُونَ في أرض البدن تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ من النفس وأعوانها فَآواكُمْ إلى حظائر قدسه وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ بالواردات الربانية وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وهي تجلياته سبحانه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ بترك
الإيمان وَالرَّسُولَ بترك التخلق بأخلاقه عليه الصلاة والسلام وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وهي ما رزقكم الله تعالى من القدرة وسلامة الآلات بترك الأعمال الحسنة أو لا تخونوا الله تعالى بنقض ميثاق التوحيد الفطري السابق والرسول عليه الصلاة والسلام بنقض العزيمة ونبذ العقد اللاحق وتخونوا أماناتكم من المعارف والحقائق التي استودع الله تعالى فيكم حسب استعدادكم بإخفائها بصفات النفس وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ قبح ذلك أو تعلمون أنكم حاملوها وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
يختبركم الله تعالى بها ليرى أتحتجبون بمحبتها عن محبته أو لا تحتجبون وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
لمن لا يفتتن بذلك ولا يشغله عن محبته يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ بالاجتناب عن الخيانة والاحتجاب بمحبة الأموال والأولاد يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً نورا تفرقون به بين الحق والباطل، وربما يقال: إن ذلك إشارة إلى نور يفرقون به بين الأشياء بأن يعرفوها بواسطته معرفة يمتاز بها بعضها عن بعض وهو المسمى عندهم بالفراسة. وفي بعض الآثار «اتقوا فراسة المؤمن فانه ينظر بنور من نور الله تعالى» وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وهي صفات نفوسكم وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذنوب ذواتكم وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فيجعل لكم الفرقان ويفعل ويفعل وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية جعلها بعضهم خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ومعناها ما ذكرناه سابقا، وجعلها بعضهم خطابا للروح وهو تأويل أنفسي، أي وإذ يمكر بك أيها الروح الذين كفروا وهي النفس وقواها لِيُثْبِتُوكَ ليقيدوك في أسر الطبيعة أَوْ يَقْتُلُوكَ بانعدام آثارك أَوْ يُخْرِجُوكَ من عالم الأرواح وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ لأنك الرحمة للعالمين وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ إذ لا ذنب مع الاستغفار ولا عذاب من غير ذنب وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ أي إنهم مستحقون لذلك كيف لا وهم يصدون المستعدين عن المسجد الحرام الذي هو القلب باغرائهم على الأمور النفسانية واللذات الطبيعية وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ لغلبة صفات أنفسهم عليهم إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ تلك الصفات وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك الحكم، وقال النيسابوري: ولكن أكثرهم أي المتقين لا يعلمون أنهم أولياؤه لأن الولي قد لا يعرف أنه ولي وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ وهو ذلك المسجد إِلَّا مُكاءً إلا وساوس وخطرات شيطانية «تم والحمد لله طبع الجزء التاسع من تفسير روح المعاني للعلامة الألوسي ويتلوه إن شاء الله الجزء العاشر مفتتحا بقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ وأسأل الله تعالى أن يوفقنا إلى إتمامه إنه على ما يشاء قدير»
195
وَتَصْدِيَةً وعزما على الأفعال الشنيعة إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ من الاستعداد الفطري في غير مرضاة الله تعالى لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ طريقه الموصل إليه فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً لزوال لذاتهم حتى يتكون نسيا منسيا ثُمَّ يُغْلَبُونَ لتمكن الأخلاق الذميمة فيهم فلا يستطيعون العدول عنها وَالَّذِينَ كَفَرُوا أي وهم، إلا أنه أقيم الظاهر مقام المضمر تعليلا للحكم الذي تضمنه قوله سبحانه: إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ وهم جهنم القطيعة قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا عما هم عليه يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ لمزيد الفضل وَقاتِلُوهُمْ أي قاتلوا أيها المؤمنون كفار النفوس فإن جهادها هو الجهاد الأكبر حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ مانعة عن الموصول إلى الحق وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ويضمحل دين النفس الذي شرعته فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم على ذلك والله تعالى الموفق لأوضح المسالك لا رب غيره ولا يرجى إلا خيره.
196
الجزء العاشر
197

بسم الله الرحمن الرحيم

199
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ روي عن الكلبي أنها نزلت في بدر وهو الذي يقتضيه كلام الجمهور، وقال الواقدي:
كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهرا من الهجرة.
و «ما» موصولة والعائد محذوف، وكان حقها أن تكون مفصولة وجعلها شرطية خلاف الظاهر وكذا جعلها مصدرية، وغنم في الأصل من الغنم بمعنى الربح، وجاء غنم غنما بالضم وبالفتح وبالتحريك وغنيمة وغنما بالضم وفي القاموس المغنم والغنيم والغنيمة بالضم الفيء، والمشهور تغاير الغنيمة والفيء، وقيل: اسم الفيء يشملهما لأنها راجعة إلينا ولا عكس فهي أخص، وقيل: هما كالفقير والمسكين، وفسروها بما أخذ من الكفار قهرا بقتال أو إيجاف فما أخذ اختلاسا لا يسمى غنيمة وليس له حكمها، فإذا دخل الواحد أو الاثنان دار الحرب مغيرين بغير إذن الإمام فأخذوا شيئا لم يخمس، وفي الدخول بإذنه روايتان والمشهور أنه يخمس لأنه لما أذن لهم فقد التزم نصرتهم بالامداد فصاروا كالمنعة، وحكي عن الشافعي رضي الله تعالى عنه في المسألة الأولى التخميس وإن لم يسم ذلك غنيمة عنده لإلحاقه بها، وقوله سبحانه: مِنْ شَيْءٍ بيان للموصول محله النصب على أنه حال من عائده المحذوف قصد به الاعتناء بشأن الغنيمة وأن لا يشذ عنها شيء، أي ما غنمتموه كائنا مما يقع عليه اسم الشيء حتى الخيط والمخيط خلا أن سلب المقتول لقاتله إذا نفله الإمام، وقال الشافعية: السلب للقاتل ولو نحو صبي وقن وإن لم يشترط له وإن كان المقتول نحو قريبه وإن لم يقاتل أو نحو امرأة أو صبي إن قاتلا ولو أعرض عنه للخبر المتفق عليه «ومن قتل قتيلا فله سلبه» نعم القاتل المسلم القن لذمي لا يستحقه عندهم وإن خرج بإذن الإمام.
وأجاب أصحابنا بأن السلب مأخوذ بقوة الجيش فيكون غنيمة فيقسم قسمتها،
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم لحبيب بن أبي سلمة: «ليس لك من سلب قتيلك إلا ما طابت به نفس إمامك»
وما رووه يحتمل نصب الشرع ويحتمل التنفيل فيحمل على الثاني لما رويناه، والأسارى يخير فيهم الإمام وكذا الأرض المغنومة عندنا وتفصيله في الفقه، والمصدر المؤول من أن المفتوحة مع ما في حيزها في قوله تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مبتدأ خبره محذوف أي فحق أو واجب أن لله
200
خمسه، وقدر مقدما لأن المطرد في خبرها إذا ذكر تقديمه لئلا يتوهم أنها مكسورة فأجري على المعتاد فيه، ومنهم من أعربه خبر مبتدأ محذوف أي فالحكم أن إلخ، والجملة خبر لأن الأولى، والفاء لما في الموصول من معنى المجازاة، وقيل: إنها صلة وأن بدل من أن الأولى، وروى الجعفي عن أبي عمرو «فإن» بالكسر وتقويه قراءة النخعي فلله خمسه ورجحت المشهورة بأنها آكد لدلالتها على إثبات الخمس وأنه لا سبيل لتركه مع احتمال الخبر لتقديرات كلازم وحق وواجب ونحوه، وتعقبه صاحب التقريب بأنه معارض بلزوم الإجمال. وأجيب بأنه ان أريد بالإجمال ما يحتمل الوجوب والندب والإباحة فالمقام يأبى إلا الوجوب وإن أريد ما ذكر من لازم وحق وواجب فالتعميم يوجب التفخيم والتهويل.
وقرىء «خمسه» بسكون الميم والجمهور على أن ذكر الله تعالى لتعظيم الرسول عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: ٦٢] أو لبيان أنه لا بد في الخمسية من إخلاصها له سبحانه وأن المراد قسمة الخمس على ما ذكر في قوله تعالى: وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ قيل ويكون قوله تعالى: لِلرَّسُولِ معطوفا على لِلَّهِ على التعليل الأول وبتقدير مبتدأ أي وهو أي الخمس للرسول إلخ على التعليل الثاني، وإعادة اللام في ذي القربى دون غيرهم من الأصناف الباقية لدفع توهم اشتراكهم في سهم النبي صلّى الله عليه وسلّم لمزيد اتصالهم به عليه الصلاة والسلام، وأريد بهم بنو هاشم وبنو المطلب المسلمون لأنه صلّى الله عليه وسلّم وضع سهم ذوي القربى فيهم دون بني أخيهما شقيقهما عبد شمس، وأخيهما لأبيهما نوفل مجيبا عن ذلك حين
قال له عثمان، وجبير بن مطعم: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله تعالى منهم أرأيت إخواننا من بني عبد المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة: نحن وبنو المطلب شيء واحد، وشبك بين أصابعه، رواه البخاري،
أي لم يفارقوا بني هاشم في نصرته صلّى الله عليه وسلّم جاهلية ولا إسلاما.
وكيفية القسمة عند الأصحاب أنها كانت على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على خمسة أسهم. سهم له عليه الصلاة والسلام. وسهم للمذكورين من ذوي القربى. وثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة الباقية، وأما بعد وفاته عليه الصلاة والصلام فسقط سهمه صلّى الله عليه وسلّم كما سقط الصفيّ وهو ما كان يصطفيه لنفسه من الغنيمة مثل درع وسيف وجارية بموته صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان يستحقه برسالته ولا رسول بعده صلّى الله عليه وسلّم وكذا سقط سهم ذوي القربى وإنما يعطون بالفقر وتقدم فقراؤهم على فقراء غيرهم ولا حق لأغنيائهم لأن الخلفاء الأربعة الراشدين قسموه كذلك وكفى بهم قدوة، وروي عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه أنه منع بني هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوج أيمكم ويخدم ما لا خادم له منكم فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن السبيل غني لا يعطى من الصدقة شيئا ولا يتيم موسر. وعن زيد بن علي كذلك قال: ليس لنا أن نبني منه القصور ولا أن نركب منه البراذين، ولأن النبي صلّى الله عليه وسلّم إنما أعطاهم للنصرة لا للقرابة كما يشير إليه جوابه لعثمان وجبير رضي الله تعالى عنهما وهو يدل على أن المراد بالقربى في النص قرب النصرة لا قرب القرابة، وحيث انتهت النصرة انتهى الإعطاء لأن الحكم ينتهي بانتهاء علته واليتيم صغير لا أب له فيدخل فقراء اليتامى من ذوي القربى في سهم اليتامى المذكورين دون أغنيائهم والمسكين منهم في سهم المساكين، وفائدة ذكر اليتيم مع كون استحقاقه بالفقر والمسكنة لا باليتيم دفع توهم أن اليتيم لا يستحق من الغنيمة شيئا لأن استحقاقها بالجهاد واليتيم صغير فلا يستحقها.
وفي التأويلات لعلم الهدى الشيخ أبي منصور أن ذوي القربى إنما يستحقون بالفقر أيضا، وفائدة ذكرهم دفع ما يتوهم أن الفقير منهم لا يستحق لأنه من قبيل الصدقة ولا تحل لهم، وفي الحاوي القدسي وعن أبي يوسف أن الخمس يصرف لذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل وبه نأخذ انتهى، وهو يقتضي أن الفتوى على الصرف إلى ذوي القربى الأغنياء فليحفظ، وفي التحفة أن هذه الثلاثة مصارف الخمس عندنا لا على سبيل الاستحقاق حتى
201
لو صرف إلى صنف واحد منهم جاز كما في الصدقات كذا في فتح القدير، ومذهب الإمام مالك رضي الله تعالى عنه أن الخمس لا يلزم تخميسه وأنه مفوض إلى رأي الإمام كما يشعر به كلام خليل وبه صرح ابن الحاجب فقال: ولا يخمس لزوما بل يصرف منه لآله عليه الصلاة والسلام بالاجتهاد ومصالح المسلمين ويبدؤون استحبابا كما نقل التتائي عن السنباطي بالصرف على غيرهم، وذكر أنهم بنو هاشم وأنهم يوفر نصيبهم لمنعهم من الزكاة حسبما يرى من قلة المال وكثرته، وكان عمر بن عبد العزيز يخص ولد فاطمة رضي الله تعالى عنها كل عام باثني عشر ألف دينار سوى ما يعطي غيرهم من ذوي القربى، وقيل: يساوي بين الغني والفقير وهو فعل أبي بكر رضي الله تعالى عنه، وكان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه يعطي حسب ما يراه، وقيل: يخير لأن فعل كل من الشيخين حجة.
وقال عبد الوهاب: إن الإمام يبدأ بنفقته ونفقته عياله بغير تقدير، وظاهر كلام الجمهور أنه لا يبدأ بذلك وبه قال ابن عبد الحكم، والمراد بذكر الله سبحانه عند هذا الإمام أن الخمس يصرف في وجوه القربات لله تعالى والمذكور بعد ليس للتخصيص بل لتفضيله على غيره ولا يرفع حكم العموم الأول بل هو قار على حاله وذلك كالعموم الثابت للملائكة وإن خص جبريل وميكائيل عليهما السلام بعد. ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه في قسمة الغنيمة أن يقدم من أصل المال السلب ثم يخرج منه حيث لا متطوع مؤنة الحفظ والنقل وغيرهما من المؤن اللازمة للحاجة إليها ثم يخمس الباقي فيجعل خمسة أقسام متساوية ويكتب على رقعة لله تعالى أو للمصالح وعلى رقعة للغانمين وتدرج في بنادق فما خرج لله تعالى قسم على خمس مصالح المسلمين كالثغور والمشتغلين بعلوم الشرع وآلاتها ولو مبتدين والأئمة والمؤذنين ولو أغنياء وسائر من يشتغل عن نحو كسبه بمصالح المسلمين لعموم نفعهم وألحق بهم العاجزون عن الكسب والعطاء إلى رأي الإمام معتبرا سعة المال وضيقه، وهذا هو السهم الذي كان لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم في حياته وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه مؤنة سنة ويصرف الباقي في المصالح، وهل كان عليه الصلاة والسلام مع هذا التصرف مالكا لذلك أو غير مالك؟ قولان ذهب إلى الثاني الإمام الرافعي وسبقه إليه جمع متقدمون قال: إنه عليه الصلاة والسلام مع تصرفه في الخمس المذكور لم يكن يملكه ولا ينتقل منه إلى غيره إرثا. ورد بأن الصواب المنصوص أنه كان يملكه. وقد غلط الشيخ أبو حامد من قال: لم يكن صلّى الله عليه وسلّم يملك شيئا وإن أبيح له ما يحتاج إليه، وقد يؤول كلام الرافعي بأنه لم ينف الملك المطلق بل الملك المقتضي للإرث عنه.
ويؤيد ذلك اقتضاء كلامه في الخصائص أنه يملك. وبنو هاشم. والمطلب، والعبرة بالانتساب للآباء دون الأمهات ويشترك فيه الغني والفقير لإطلاق الآية، وإعطائه عليه الصلاة والسلام العباس وكان غنيا والنساء، ويفضل الذكر كالإرث واليتامى، ولا يمنع وجود جد، ويدخل فيهم ولد الزنا والمنفي اللقيط على الأوجه ويشترط فقره على المشهور ولا بد في ثبوت اليتم والإسلام والفقر هنا من البينة، وكذا في الهاشمي، والمطلبي، واشترط جمع فيهما معها استفاضة النسبة والمساكين وابن السبيل ولو بقولهم بلا يمين. نعم يظهر في مدعي تلف مال له عرف أو عيال أنه يكلف بينة. ويشترط الإسلام في الكل والفقر في ابن السبيل أيضا وتمامه في كتبهم.
وتعلق أبو العالية بظاهر الآية الكريمة فقال: يقسم ستة أسهم ويصرف سهم الله تعالى لمصالح الكعبة أي إن كانت قريبة وإلا فإلى مسجد كل بلدة وقع فيها الخمس كما قاله ابن الهمام:
وقد روى أبو داود في المراسيل وابن جرير عنه أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ منه قبضة فيجعلها لمصالح الكعبة ثم يقسم ما بقي خمسة أسهم،
ومذهب الإمامية أنه ينقسم إلى ستة أسهم أيضا كمذهب أبي العالية إلا أنهم
قالوا: إن سهم الله تعالى وسهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وسهم ذوي القربى للإمام القائم مقام الرسول عليه الصلاة والسلام. وسهم ليتامى آل محمد صلّى الله عليه وسلّم. وسهم
202
لمساكينهم، وسهم لأبناء سبيلهم لا يشركهم في ذلك غيرهم ورووا ذلك عن زين العابدين. ومحمد بن علي الباقر رضي الله تعالى عنهم،
والظاهر أن الأسهم الثلاثة الأول التي ذكروها تخبأ في السرداب إذ القائم مقام الرسول قد غاب عندهم فتخبأ له حتى يرجع من غيبته، وقيل: سهم الله تعالى لبيت المال، وقيل: هو مضموم لسهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
هذا ولم يبين سبحانه حال الأخماس الأربعة الباقية وحيث بين جل شأنه حكم الخمس ولم يبينها دل على أنها ملك الغانمين. وقسمتها عند أبي حنيفة للفارس سهمان وللراجل سهم واحد. لما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعل كذلك، والفارس في السفينة يستحق سهمين أيضا وإن لم يمكنه القتال عليها فيها للتأهب، والمتأهب للشيء كالمباشر في المحيط، ولا فرق بين الفرس المملوك والمستأجر والمستعار وكذا المغصوب على تفصيل فيه، وذهب الشافعي ومالك إلى أن للفارس ثلاثة أسهم لما
روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أسهم للفارس ذلك
وهو قول الإمامين.
وأجيب بأنه
قد روي عن ابن عمر أيضا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قسم للفارس سهمين
فإذا تعارضت روايتاه ترجح رواية غيره بسلامتها عن المعارضة فيعمل بها، وهذه الرواية رواية ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
وفي الهداية أنه عليه الصلاة والسلام تعارض فعلاه في الفارس فنرجع إلى قوله عليه الصلاة والسلام وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «للفارس سهمان وللراجل سهم» وتعقبه في العناية بأن طريقة استدلاله مخالفة لقواعد الأصول فإن الأصل أن الدليلين إذا تعارضا وتعذر التوفيق والترجيح يصار إلى ما بعده لا إلى ما قبله وهو قال: فتعارض فعلاه فنرجع إلى قوله، والمسلك المعهود في مثله أن نستدل بقوله ونقول فعله لا يعارض قوله لأن القول أقوى بالاتفاق، وذهب الإمام إلى أنه لا سهم إلا لفرس واحد وعند أبي يوسف يسهم لفرسين، وما يستدل به على ذلك محمول على التنفيل عند الإمام كما أعطى عليه الصلاة والسلام سلمة بن الأكوع سهمين وهو راجل ولا يسهم لثلاثة اتفاقا إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ شرط جزاؤه محذوف أي إن كنتم آمنتم بالله تعالى فاعلموا أنه تعالى جعل الخمس لمن جعل فسلموه إليهم واقنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، وليس المراد مجرد العلم بذلك بل العلم المشفوع بالعمل والطاعة لأمره تعالى، ولم يجعل الجزاء ما قبل لأنه لا يصح تقدم الجزاء على الشرط على الصحيح عند أهل العربية، وإنما لم يقدر العمل قصرا للمسافة كما فعله النسفي لأن المطرد في أمثال ذلك أن يقدر ما يدل ما قبله عليه فيقدر من جنسه، وقوله سبحانه: وَما أَنْزَلْنا عطف على الاسم الجليل وما موصولة والعائد محذوف أي الذي أنزلناه عَلى عَبْدِنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، وفي التعبير عنه بذلك ما لا يخفى من التشريف والتعظيم، وقرىء «عبدنا» بضمتين جمع عبد، وقيل: اسم جمع له وأريد به النبي صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنون فإن بعض ما نزل نازل عليهم يَوْمَ الْفُرْقانِ هو يوم بدر فالإضافة للعهد، والفرقان بالمعنى اللغوي فإن ذلك اليوم قد فرق فيه بين الحق والباطل، والظرف منصوب بأنزلنا، وجوز أبو البقاء تعلقه بآمنتم، وقوله سبحانه: يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ بدل منه أو متعلق بالفرقان، وتعريف الجمعان للعهد، والمراد بهم الفريقان من المؤمنين والكافرين، والمراد بما أنزل عليه الصلاة والسلام من الآيات والملائكة والنصر على أن المراد بالانزال مجرد الإيصال والتيسير فيشمل الكل شمولا حقيقيا فالموصول عام ولا جمع بين الحقيقة والمجاز خلافا لمن توهم فيه، وجعل الإيمان بهذه الأشياء من موجبات العلم بكون الخمس لله تعالى على الوجه المذكور من حيث إن الوحي ناطق بذلك وإن الملائكة والنصر لما كانا منه تعالى وجب أن يكون ما حصل بسببهما من الغنيمة مصروفا إلى الجهات التي عينها الله سبحانه وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ومن آثار قدرته جل شأنه ما شاهدتموه يوم التقى الجمعان إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا بدل من يوم أو معمول لا ذكروا مقدرا، وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفا لقدير وليس بشيء، والعدوة
203
بالحركات الثلاث شط الوادي وأصله من العدو التجاوز والقراءة المشهورة الضم والكسر وهو قراءة ابن كثير وأبي عمرو ويعقوب.
وقرأ الحسن وزيد بن علي وغيرهما بالفتح وكلها لغات بمعنى ولا عبرة بإنكار بعضها والدُّنْيا تأنيث الأدنى أي إذ أنتم نازلون بشفير الوادي الأقرب إلى المدينة وَهُمْ
أي المشركون بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي البعدى من المدينة وهو تأنيث الأقصى، وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «القصيا» ومن قواعدهم أن فعلى من ذوات الواو إذا كان اسما تبدل لامه ياء كدنيا فإنه من دنا يدنو إذا قرب، ولم يبدل من قصوى على المشهور لأنه بحسب الأصل صفة ولم يبدل فيها للفرق بين الصفة والاسم، وإذا اعتبر غلبته وأنه جرى مجرى الأسماء الجامدة قيل قصيا وهي لغة تميم والأولى لغة أهل الحجاز، ومن أهل التصريف من قال: إن اللغة الغالبة العكس فإن كانت صفة أبدلت اللام نحو العليا وإن كانت اسما أقرت نحو حزوى قيل: فعلى هذا القصوى شاذة والقياس قصيا، وعنوا بالشذوذ مخالفة القياس لا الاستعمال فلا تنافي الفصاحة، وذكروا في تعليل عدم الابدال بالفرق أنه إنما لم يعكس الأمر وإن حصل به الفرق أيضا لأن الصفة أثقل فأبقيت على الأصل الأخف لثقل الانتقال من الضمة إلى الياء، ومن عكس أعطى الأصل للأصل وهو الاسم وغير في الفرق للفرع وَالرَّكْبُ أي العير أو أصحابها أبو سفيان وأصحابه وهم اسم جمع راكب لا جمع على الصحيح أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي في مكان أسفل من مكانكم يعني ساحل البحر، وهو نصب على الظرفية وفي الأصل صفة للظرف كما أشرنا إليه ولهذا انتصب انتصابه وقام مقامه ولم ينسلخ عن الوصفية خلافا لبعضهم وهو واقع موقع الخبر، وأجاز الفراء. والأخفش رفعه على الاتساع أو بتقدير موضع الركب أسفل، والجملة عطف على مدخول إذ، أي إذ أنتم إلخ وإذ الركب إلخ.
واختار الجمهور أنها في موضع الحال من الضمير المستتر في الجار والمجرور قبل، ووجه الاطناب في الآية مع حصول المقصود بأن يقال: يوم الفرقان يوم النصر والظفر على الأعداء مثلا تصوير ما دبر سبحانه من أمر وقعة بدر والامتنان والدلالة على أنه من الآيات الغر المحجلة وغير ذلك وهذا مراد الزمخشري بقوله: فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين وأن العير كان أسفل منهم الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدو وشوكته وتكامل عدته وتمهد أسباب العدة له وضعف شأن المسلمين والتياث أمرهم وأن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلا صنعا من الله تعالى ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله سبحانه وقوته وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كان فيها الماء وكانت أرضا لا بأس بها ولا ماء بالعدوة الدنيا وهي خبار تسوخ فيها الأرجل وكانت العير وراء ظهر العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم وتوطن نفوسهم على أن لا يبرحوا مواطنهم ولا يخلوا مراكزهم ويبذلوا منتهى نجدتهم وقصارى شدتهم وفيه تصوير ما دبر سبحانه من أمر تلك الوقعة، وليس السؤال عن فائدة الإخبار بما هو معلوم للمخاطب ليكون الجواب بأن فائدته لازمة كما ظنه غير واحد لما لا يخفى، وعلى هذا الطرز ذكر قوله تعالى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي لو تواعدتم أنتم وهم القتال وعلمتم حالهم وحالكم لاختلفتم أنتم في الميعاد هيبة منهم ويأسا من الظفر عليهم، وجعل الضمير الأول شاملا للجمعين تغليبا والثاني للمسلمين خاصة هو المناسب للمقام إذ القصد فيه إلى بيان ضعف المسلمين ونصرة الله تعالى لهم مع ذلك، والزمخشري جعله فيهما شاملا للفريقين لتكون الضمائر على وتيرة واحدة من غير تفكيك على معنى لو تواعدتم أنتم وأهل مكة لخالف بعضكم بعضا فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من تهيب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله تعالى من التلاقي
204
وسبب له ولا يخفى عدم مناسبته، وأمر التفكيك سهل وَلكِنْ تلاقيتم على غير موعد لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً وهو نصر المؤمنين وقهر أعدائهم كانَ مَفْعُولًا أي كان واجبا أن يفعل بسبب الوعد المشار إليه بقوله سبحانه: كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ
[الروم: ٤٧] أو كان مقدرا في الأزل.
وقيل: كان بمعنى صار الدالة على التحول أي صار مفعولا بعد أن لم يكن، وقوله سبحانه: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ بدل من لِيَقْضِيَ بإعادة الحرف أو متعلق بمفعولا.
وجوز أبو البقاء أيضا تعلقه بيقضي، واستطيب الطيبي الأول، والمراد بالبينة الحجة الظاهرة، أي ليموت من يموت عن حجة عاينها ويعيش من يعيش عن حجة شاهدها فلا يبقى محل للتعلل بالأعذار، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة والحجج الغر المحجلة، ويجوز أن يراد بالحياة الإيمان وبالموت الكفر استعارة أو مجازا مرسلا، وبالبينة إظهار كمال القدرة الدالة على الحجة الدافعة أي ليصدر كفر من كفر وإيمان من آمن عن وضوح بينة، وإلى هذا ذهب قتادة.
ومحمد بن إسحاق، قيل: والمراد بمن هلك ومن حي المشارف للهلاك والحياة أو من هذا حاله في علم الله تعالى وقضائه، والمشارفة في الهلاك ظاهرة، وأما مشارفة الحياة فقيل: المراد بها الاستمرار على الحياة بعد الوقعة، وإنّما قيل ذلك: لأن من حي مقابل لمن هلك، والظاهر أن عَنْ بمعنى بعد كقوله تعالى: عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ [المؤمنون: ٤٠]، وقيل: لما لم يتصور أن يهلك في الاستقبال من هلك في الماضي حمل من هلك على المشارفة ليرجع إلى الاستقبال، وكذا لما لم يتصور أن يتصف بالحياة المستقبلة من اتصف بها في الماضي حمل على ذلك لذلك أيضا، لكن يلزم منه أن يختص بمن لم يكن حيا إذ ذاك فيحمل على دوام الحياة دون الاتصاف بأصلها، فيكون المعنى لتدوم حياة من أشرف لدوامها، ولا يجوز أن يكون المعنى لتدوم حياة من حي في الماضي لأن ذلك صادق على من هلك فلا تحصل المقابلة إلا أن يخصص باعتبارها. وتكلف بعضهم لتوجيه المضي والاستقبال بغير ما ذكر مما لا يخلو عن تأمل، واعتبار المضي بالنظر إلى علم الله تعالى وقضائه والاستقبال بالنظر إلى الوجود الخارجي مما لا غبار عليه، وعَنْ لا يتعين كونها بمعنى بعد بل يمكن أن تبقى على معنى المجاوزة الذي لم يذكر البصريون سواه.
ونظير ذلك قوله تعالى: وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ [هود: ٥٣] بناء على أن المراد ما نتركها صادرين عن قولك كما هو رأي البعض، ويمكن أن تكون بمعنى على كما في قوله تعالى: فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ [محمد: ٣٨] وقول ذي الإصبع:
لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب عني ولا أنت دياني فتخزوني
وقرأ الأعمش «ليهلك» بفتح العين، وروي ذلك عن عاصم وهي على ما قال ابن جني في المحتسب شاذة مرغوب عنها لأن الماضي هلك بالفتح ولا يأتي فعل يفعل إلا إذا كان حرف الحلق في العين أو اللام فهو من اللغة المتداخلة.
وفي القاموس أن هلك كضرب ومنع وعلم وهو ظاهر في جواز الكسر والفتح في الماضي والمضارع.
نعم المشهور في الماضي الفتح وفي المضارع الكسر، وقرأ ابن كثير ونافع وأبو بكر ويعقوب «حيي» بفك الإدغام قال أبو البقاء: وفيه وجهان أحدهما الحمل على المستقبل وهي يحيى فكما لم يدغم فيه في الماضي. والثاني أن حركة الحرفين مختلفة فالأول مكسور والثاني مفتوح واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين، ولذلك أجازوا في الاختيار ضبب البلد إذا كثر ضبه، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة فكأن الياء الثانية ساكنة ولو سكنت لم يلزم الإدغام فكذلك إذا كانت في تقدير الساكن، والياء ان أصل وليست الثانية بدلا من واو، وأمام الحيوان فالواو فيه بدل
205
من الياء، وأما الحواء فليس من لفظ الحية بل من حوى يحوي إذا جمع وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أي بكفر من كفر وعقابه وإيمان من آمن وثوابه، ولعل الجمع بين الوصفين لاشتمال الكفر والإيمان على الاعتقاد والقول، أما اشتمال الايمان على القول فظاهر لاشتراط إجراء الأحكام بكلمتي الشهادة، وأما اشتمال الكفر عليه فبناء على المعتاد فيه أيضا إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مقدر باذكر أو بدل من يوم الفرقان، وجوز أن يتعلق بعليم وليس بشيء، ونصب قليلا على أنه مفعول ثالث عند الاجهوري أو حال على ما يفهمه كلام غيره.
والجمهور على أنه صلّى الله عليه وسلّم أري ما أري في النوم وهو الظاهر المتبادر، وحكمة إراءتهم إياه صلّى الله عليه وسلّم قليلين أن يخبر أصحابه رضي الله تعالى عنهم فيكون ذلك تثبيتا لهم، وعن الحسن أنه فسر المنام بالعين لأنها مكان النوم كما يقال للقطيفة المنامة لأنها ينام فيها فلم تكن عنده هناك رؤيا أصلا بل كانت رؤية، وإليه ذهب البلخي ولا يخفى ما فيه لأن المنام شائع بمعنى النوم مصدر ميمي على ما قال بعض المحققين أو في موضع الشخص النائم على ما في الكشف ففي الحمل على خلاف ذلك تعقيد ولا نكتة فيه، وما قيل: إن فائدة العدول الدلالة على الأمن الوافر فليس بشيء لأنه لا يفيد ذلك فالنوم في تلك الحال دليل الأمن لا أن يريهم في عينه التي هي محل النوم، على أن الروايات الجمة برؤيته صلّى الله عليه وسلّم إياهم مناما وقص ذلك على أصحابه مشهورة لا يعارضها كون العين مكان النوم نظرا إلى الظاهر، ولعل الرواية عن الحسن غير صحيحة فإنه الفصيح العالم بكلام العرب، وتخريج كلامه على أن في الكلام مضافا محذوفا أقيم المضاف إليه مقامه أي في موضع منامك مما يرتضيه اليقظان أيضا، والتعبير بالمضارع لاستحضاره الصورة الغريبة، والمراد إذ أراكهم الله قليلا وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أي لجبنتم وهبتم الإقدام، وجمع ضمير الخطاب في الجزاء مع افراده في الشرط إشارة كما قيل: إلى أن الجبن يعرض لهم لا له صلّى الله عليه وسلّم إن كان الخطاب للأصحاب فقط وإن كان للكل يكون من إسناد ما للأكثر للكل وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي أمر القتال وتفرقت آراؤكم في الثبات والفرار وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي أنعم بالسلامة من الفشل والتنازع.
إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي الخواطر التي جعلت كأنها مالكة للصدور، والمراد أنه يعلم ما سيكون فيها من الجراءة والجبن والصبر والجزع ولذلك دبر ما دبر وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا مقدر بمضمر خوطب به الكل بطريق التلوين والتعميم معطوف على ما قبل، والضميران مفعولا يرى وقليلا حال من الثاني، وإنما قللهم سبحانه في أعين المسلمين حتى قال ابن مسعود رضي الله تعالى عنه إلى من بجنبه: أتراهم سبعين؟ فقال: أراهم مائة تثبيتا وتصديقا لرسوله عليه الصلاة والسلام وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتى قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم أكلة جزور، وكان هذا التقليل في ابتداء الأمر قبل التحام القتال ليجترئوا عليهم ويتركوا الاستعداد والاستمداد ثم كثرهم سبحانه حتى رأوهم مثليهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويهابوا.
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كرر لاختلاف الفعل المعلل به إذ هو في الأول اجتماعهم بلا ميعاد وهنا تقليلهم ثم تكثيرهم، أو لأن المراد بالأمر ثم الالتقاء على الوجه المحكي، وهاهنا إعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وحزبه، هذا وذكر غير واحد أن ما وقع في هذه الواقعة من عظائم الآيات فإن البصر وإن كان قد يرى الكثير قليلا والقليل كثيرا لكن لا على ذلك الوجه ولا إلى ذلك الحد وإنما يتصور ذلك بصد الأبصار عن إبصار بعض دون بعض مع التساوي في الشرائط. واعترض بأن ما ذكر من التعليل مناسب لتقليل الكثير لا لتكثير القليل، وأجيب بأن تكثير القليل من جانب المؤمنين بكون الملائكة عليهم السلام ومن جانب الكفرة حقيقة فلا يحتاج إلى توجيه فيهما وإنما المحتاج إليه تقليل الكثير، وذكر في الكشاف طريقين لإبصار الكثير قليلا أن يستر الله
206
تعالى بعضه بساتر أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير كما خلق في عيون الحول ما يستكثرون به القليل فيرون الواحد اثنين، وعليه فيمكن أن يقال: إن رؤيتهم المؤمنين مثليهم من قبيل رؤية الأحول بل هي أعظم على تقدير أن يراد مثلي أنفسهم وحينئذ لا يحتاج إلى حديث رؤية الملائكة مع المؤمنين، وفي الانتصاف أن في ذلك دليلا بينا على أنه تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة غير موقوف على سبب من مقابلة أو قرب أو ارتفاع حجب أو غير ذلك، إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا لما أمكن أن يستتر عنهم البعض وقد أدركوا البعض، والسبب الموجب مشترك فعلى هذا يجوز أن يخلق الله تعالى الإدراك مع انتفاء هذه الأسباب ويجوز أن لا يخلقه مع اجتماعها فلا ربط إذن بين الرؤية وبينها في مقدور الله تعالى، وهي رادة على القدرية المنكرين لرؤيته تعالى لفقد شرطها وهو التجسم ونحوه، وحسبهم هذه الآية في بطلان زعمهم لكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، ثم إن رؤياه عليه الصلاة والسلام كانت في قول على طرز رؤية أصحابه رضي الله تعالى عنهم المشركين، وذكر بعض المحققين أنها كانت في مقام التعبير فلا يلزم أن تكون على خلاف الواقع، والقلة معبرة بالمغلوبية، والواقعة من الرؤيا منها ما يقع بعينه ومنها ما يعبر ويؤول، وتحقيق الكلام فيها يقتضي بسطا فتيقظ واستمع لما يتلى فنقول:
اعلم أن النفس الناطقة الإنسانية سلطان القوى البدنية وهي آلات لها وظاهر أن القوة الجسمانية تكل بكثرة العمر كالسيف الذي يكل بكثرة القطع فالنفس إذا استعملت القوى الظاهرة استعمالا كثيرا بحيث يعرض لها الكلال تعطلها لتستريح وتقوى كما أن الفارس إذا أكثر ركوب فرسه يرسله ليستريح ويرعى.
وهذا التعطل الحاصل باسترخاء الأعصاب الدماغية المتصلة بآلات الإدراك هو النوم وما يتراءى هناك هو الرؤيا إلا أن المتكلمين والحكماء المشائين والمتألهين من الإشراقيين والصوفية اختلفوا في حقيقتها إلى مذاهب، فذهب المعتزلة وجمهور أهل السنة من المتكلمين إلى أن الرؤيا خيالات باطلة، ووجه ذلك عند المعتزلة فقد شرائط الإدراك حالة النوم من المقابلة وانبثاث الشعاع وتوسط الشغاف والبنية المخصوصة إلى غير ذلك من الشرائط المعتبرة في الإدراك عندهم وعند الجماعة، وهم لم يشترطوا شيئا من ذلك أن الإدراك حالة النوم خلاف العادة وأن النوم ضد الإدراك فلا يجامعه فلا تكون الرؤيا إدراكا حقيقة، وقال الأستاذ أبو إسحاق: إن الرؤيا إدراك حق إذ لا فرق بين ما يجده النائم من نفسه من إبصار وسمع وذوق وغيرها من الإدراكات وما يجده اليقظان من إدراكاته فلو جاز التشكيك فيما يجده النائم لجاز التشكيك فيما يجده اليقظان ولزم السفسطة والقدح في الأمور المعلومة حقيقتها بالبديهة، ولم يخالف في كون النوم ضدا للادراك لكنه زعم أن الإدراكات تقوم بجزء من أجزاء الإنسان غير ما يقوم به النوم من أجزائه فلا يلزم اجتماع الضدين في محل.
وذهب المشاءون إلى أن المدرك في النوم يوجد في الحس المشترك الذي هو لوح المحسوسات ومجمعها فإن الحواس الظاهرة إذا أخذت صور المحسوسات الخارجية وأدتها إلى الحس المشترك صارت تلك الصور مشاهدة هناك ثم إن القوة المتخيلة التي من شأنها تركيب الصور إذا ركبت صورة فربما انطبعت تلك الصورة في الحس المشترك وصارت مشاهدة على حسب مشاهدة الصورة الخارجية فإن مدار المشاهدة الانطباع في الحس المشترك سواء انحدرت إليه من الخارج أو من الداخل، ثم إن القوة المتخيلة من شأنها التصوير دائما لا تسكن نوما ولا يقظة فلو خليت وطباعها لما فترت عن رسم الصور في الحس المشترك إلا أنه يصرفها عن ذلك أمران. أحدهما توارد الصور من الخارج على الحس المشترك إذ بعد انتقاشه بهذه الصورة لا يسمع أن ينتقش بالصورة التي تركبها المتخيلة.
وثانيهما تسلط العقل أو الوهم عليها بالضبط عند ما يستعملانها في مدركاتهما، ولا شك في انقطاع هذين الصارفين
207
عند النوم فيتسع لانتقاش الصور من الداخل فيكون ما يدركه النائم صورا مرتسمة في الحس المشترك وموجودة فيه وهو الرؤيا إلا أن منها ما هو صادق ومنها ما هو كاذب. أما الأولى فهي التي ترد تلك الصور فيها على الحس المشترك من النفس الناطقة، وبيانه أن صور جميع الحوادث ما كان وما يكون مرتسمة في المبادئ العالية التي يعبر عنها أرباب الشرع بالملائكة ومنطبعة بالنفوس المجردة الفلكية واتصال النفس المجردة بالمجرد لعلة الجنسية أشد من اتصالها بالقوى الجسمانية فمن شأنها أن تتصل بذلك وتنتقش بما فيه إلا أن اشتغالها بالحواس الظاهرة والباطنة واستغراقها بتدبير بدنها يمنعانها عن ذلك الاتصال والانتقاش لأن اشتغال النفس ببعض أفاعيلها يمنعها من الاشتغال بغيره، فإن الذي لا يشغله شأن عن شأن هو الله تعالى الواحد القهار، ولا يمكن إزالة العائق بالكلية إلا أنه يسكن اشتغالها بالإدراكات الحسية حالة النوم إذ في اليقظة ينتشر الروح إلى ظاهر البدن بواسطة الشرايين وينصب إلى الحواس حالة الانتشار ويحصل بها الإدراك فتشتغل النفس بتلك الإدراكات، وأما في النوم الذي هو أخ الموت فينحبس الروح إلى الباطن ويرجع عن الحواس الظاهرة بعد انصبابه إليها فتتعطل فيحصل للنفس أدنى فراغ فتتصل بتلك المبادئ اتصالا روحانيا معنويا وتنتقش ببعض ما فيها مما استعدت هي له كالمرايا إذا حوذي بعضها ببعض فانتقش في بعضها ما يتسع له مما انتقش في البعض الآخر فتدرك النفس مما ارتسم في تلك المبادئ ما يناسبها من أحوالها وأحوال ما يقارنها من الأقارب والأهل والولد والإقليم والبلد ماضيه وآتيه إلا أن هذا الإدراك لعدم تأديه من طرف الحس كلي فتحاكيه القوة المتخيلة التي جبلت محاكية لما يرد عليها بصورة جزئية مثالية خيالية مناسبة إياه فتحاكي ما هو خير بالنسبة إليها في صورة جميلة وما هو شر كذلك في صورة قبيحة هائلة على مراتب مختلفة ووجوه متعددة ومن ثمة قد ترى ذاتها بصفة جميلة صورية ومعنوية من الجمال والعلم والكرم والشجاعة وغير ذلك من الصفات المحمودة، وقد ترى ذاتها متصفة بأضداد ما ذكر، وقد ترى تلك الصفات في صورة ما غلبت الصفات عليه، بل قد ترى أنها نفسها صارت نوعا آخر لغلبة صفاته عليها، ومتى غلبت عليها الصفات الجميلة والأخلاق الحميدة ترى صورا جميلة وأشخاصا حميدة كذوي الجمال والعلماء والأولياء والملائكة، بل قد ترى أنها صارت عالما أو ملكا مثلا، ومتى غلبت عليها الصفات الذميمة ترى صورا هائلة كصورة غولية أو سبعية، وكذا رؤية حال من يقاربه من الأهل والولد والإقليم مثلا انها تراها باعتبار اختلاف المراتب والمناسبات على ما هي عليه في المضي أو الحال أو الاستقبال حتى لو اهتمت بمصالح الناس رأتها ولو كانت منجذبة الهمة إلى المعقولات لاحت لها أشياء منها، فمتى لم يكن اختلاف بين تلك الصورة وبين ما هي مأخوذة منه إلا بالكلية والجزئية كانت الرؤيا غير محتاجة إلى التعبير، والتجاوز عنها إلى ما يناسبها بوجه من المماثلة أو الضدية التي يقتضيها نحو الإلف والخلق والأسباب السماوية وغير ذلك من وجوه خفية لا يطلع عليها إلا الأفراد من أئمة التعبير، وإن كانت مخالفة لها لقصور يقع في المتخيلة إما لذاتها أو لعروض دهشة وحيرة لها مما ترى أو لغير ذلك كانت محتاجة إلى التعبير، وهو أن يرجع المعبر القهقرى مجردا لما يراه النائم عن تلك الصورة التي صورتها المتخيلة إلى أن ينتهي بمرتبة أو مراتب إلى ما تلقته النفس من تلك المبادئ فيكون الواقع، وقد يتفق سيما إذا كانه الرائي كثير الاهتمام بالرؤيا أن يعبر رؤياه في النوم الذي رآها فيه أو غيره، فهو إما بتذكره لما كانت الرؤيا حكاية عنه، وإما بتصوير المتخيلة حكاية رؤياه بحكاية أخرى، وحينئذ يحتاج إلى تعبيرين.
وأما الثانية فهي تكون لأشياء اما لأن النفس إذا أحست في حال اليقظة بتوسط الآلات الجسمانية بصور جزئية محسوسة أو خيالية وبقيت مخزونة في قوة الخيال فعند النوم الذي يخلص فيه الحس المشترك عما يرد عليه من الحواس الظاهرة ترسم في الحس المشترك ارتسام المحسوسات إما على ما كانت عليها وإما بصور مناسبة لها، أو لأن النفس أتقنت بواسطة المتخيلة صورة ألفتها فعند النوم تتمثل في الحس المشترك، أو لأن مزاج الدماغ يتغير فيتغير
208
مزاج الروح الحاملة للقوة المتخيلة فتتغير أفعال المتخيلة بحسب تلك التغيرات، ولذلك يرى الدموي الأشياء الحمر والصفراوي النيران والأشعة والسوداوي الجبال والأدخنة والبلغمي المياه والألوان البيض، ومن هذا القبيل رؤية كون بدنه أو بعض أعضائه في الثلج أو الماء أو النار عند غلبة السخونة أو البرودة عليه، ورؤية أنه يأكل أو يشرب أو يبول عند عروض الاحتياج إلى أحدها.
ومن العجائب في هذا الباب أنه إذا غلب المنى واحتاجت الطبيعة إلى دفعه تحتال باستعانة القوة المتخيلة إلى تصوير ما يندفع به من الصور الحسية وفي إرسال الريح الناشرة لآلة الجماع وإرادة حركاتها حتى يندفع بذلك ما أرادت اندفاعه، وقد يكون ذلك التوجه والاعتياد لا لغلبة المنيّ، فلهذا قد لا يندفع به شيء، وقد يعرض للروح اضطراب وتحريك من الأسباب الخارجة والداخلة فترى أمورا متغيرة متفرقة غير منضبطة فربما يتركب من المجموع صورة غير معهودة قلما يتصورها أحد أو يقع مثلها في الخارج، وقد يكون ذلك لاتصالات فلكية وأوضاع سماوية، فإذا كانت الرؤيا لأحد هذه الأمور تسمى أضغاث أحلام ولا تعبير لها ولا تقع.
وقد ذكروا أن أصدق الناس رؤيا أعدلهم مزاجا ومن كان مع ذلك منقطعا عن العلائق الشاغلة والخيالات الفاسدة معتادا للصدق متوجها إلى الرؤيا واستثباتها وكيفيتها كانت رؤياه أصح وأصدق وأكثر أحلام الكذاب والسكران والمغموم ومن غلب عليه سوء مزاج أو فكر أو خيالات فاسدة ومقتضيات قوى غضبية وشهوية كاذبة لا يعتمد عليها، ومن هنا قالوا: لا اعتماد على رؤيا الشاعر لتعوده الأكاذيب الباطلة والتخيلات الفاسدة.
وذهب بعض أصحاب المكاشفات وأرباب المشاهدات من الحكماء المتألهين والصوفية المنكرين لارتسام الصور في الخيال إلى أن الرؤيا مشاهدة النفس صورا خيالية موجودة في عالم المثال الذي هو برزخ بين عالم المجردات اللطيفة المسمى عندهم بعالم الملكوت، وبين عالم الموجودات العينية الكثيفة المسمى بعالم الملك، وقالوا: فيه موجودات متشخصة مطابقة لما في الخارج من الجزئيات مثل لها قائمة بنفسها مناسبة لما في العالمين المذكورين، أما لعالم الملك فلأنها صور جسمانية شبحية، وأما لعالم الملكوت فلأنها معلقة غير متعلقة بمكان وجهة كالمجردات حتى أنه يرى صورا مثالية لشخص واحد في مرايا متعددة بل في مواضع متكثرة كما يرى بعض الأولياء في زمان واحد في أماكن متعددة شرقية وغربية، ثم ان لتلك الصور مجالي مختلفة كالمرايا والماء الصافي، والقوى الجسمانية سيما الباطنة إذا انقطعت عن الاشتغال بالأمور الخارجية العائقة إذ بذلك يحصل لها زيادة مناسبة لذلك العالم كما للمتجردين عن العلائق البشرية، وإذا قويت تلك المناسبة كما للأنبياء عليهم السلام والأولياء الكمل قدس الله تعالى أسرارهم تظهر في القوى الظاهرة أيضا، ولهذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يشاهد جبريل عليه السلام حينما ينزل بالوحي والصحابة رضي الله تعالى عنهم حوله كانوا لا يشاهدونه. هذا واستشكل قول المتكلمين: إن الرؤيا خيالات باطلة بأنه قد شهد الكتاب والسنة بصحتها بل لم يكن أحد من الناس إلا وقد جربها من نفسه تجربة توجب التصديق بها.
وأجيب بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكا بالبصر رؤية وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع سمعا باطل فلا ينافي كونها أمارة لبعض الأشياء. وذكر حجة الإسلام الغزالي عليه الرحمة في شرح
قوله عليه الصلاة والسلام: «من رآني في المنام فقد رآني» الحديث
أنه ليس المراد
بقوله عليه الصلاة والسلام فقد رآني
رؤية الجسم بل رؤية المثال الذي صار آلة يتأدى بها المعنى الذي في نفسه إليه، ثم ذكر أن النفس غير المثال المتخيل، فالشكل المرئي ليس روحه صلّى الله عليه وسلّم ولا شخصه بل مثاله على التحقيق، وكذا رؤيته سبحانه نوما فإن ذاته تعالى منزهة عن الشكل والصورة لكن تنتهي تعريفاته
209
تعالى إلى العبد بواسطة مثال محسوس من نور أو غيره وهو آلة حقا في كونه واسطة في التعريف، فقول الرائي: رأيت الله تعالى نوما لا يعني به أنه رأى ذاته تعالى.
وقال أيضا: من رآه صلّى الله عليه وسلّم مناما لم يرد رؤيته حقيقة بشخصه المودع روضة المدينة بل رؤية مثاله وهو مثال روحه المقدسة عليه الصلاة والسلام.
قيل: ومن هنا يعلم جواب آخر للاشكال وهو أن مرادهم أن ما يرى في المنام ليس له حقيقة ثابتة في نفس الأمر كما أن المرئي في اليقظة كذلك بل هو مثال متخيل يظهره الله تعالى للنفس في المنام كما يظهر لها الأمور الغيبية بعد الموت والنوم والموت اخوان، ووصف ما ذكر بالباطل لعله من قبيل وصف العالم به في قول لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل وأنت تعلم أن ما ذكره حجة الإسلام ليس مما اتفق عليه علماؤه فقد ذهب جمع إلى أن رؤيته صلّى الله عليه وسلّم بصفته المعلومة إدراك على الحقيقة وبغيرها إدراك للمثال، على أن كلام المتكلمين ظاهر المخالفة للكتاب والسنة ولا يكاد يسلم تأويله عن شيء فتأمل. ولعل النوبة تفضي إلى ذكر زيادة كلام في هذا المقام.
وبالجملة إنكار الرؤيا على الإطلاق ليس في محله كيف وقد جاء في مدحها ما جاء. ففي صحيح مسلم: أيها الناس لم يبق من مبشرات النبوة إلا الرؤيا الصالحة يراها مسلم أو ترى له. وجاء في أكثر الروايات أنها جزء من ست وأربعين. ووجه ذلك بأنه عليه الصلاة والسلام عمل بها ستة أشهر في مبدأ الوحي وقد استقام ينزل عليه الوحي ثلاثا وعشرين سنة، ولا يتأتى هذا على رواية خمس وأربعين، وكذا على رواية سبعين جزءا أو رواية ست وسبعين وهي ضعيفة ورواية ست وعشرين وقد ذكرها ابن عبد البر ورواية النووي من أربعة وعشرين والله تعالى أعلم.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً أي حاربتم جماعة من الكفرة ولم يصفها سبحانه لظهور أن المؤمنين لا يحاربون إلا الكفار، وقيل: ليشمل بإطلاقه البغاة ولا ينافيه خصوص سبب النزول، ومنهم من زعم أن الانقطاع معتبر في معنى الفئة لأنها من فأوت أي قطعت والمنقطع عن المؤمنين إما كفار أو بغاة، وبني على ذلك أنه لا ينبغي أن يقال:
لم توصف لظهور إلخ وليس بشيء كما لا يخفى، واللقاء قد غلب في القتال كالنزال. وتصدير الخطاب بحرفي النداء والتنبيه إظهارا لكمال الاعتناء بمضمون ما بعده فَاثْبُتُوا للقائهم فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ [الأنفال: ١٥] والظاهر أن المراد إلا وأو على ما مر وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي في تضاعيف القتال، وفسر بعضهم هذا الذكر بالتكبير، وبعضهم بالدعاء ورووا أدعية كثيرة في القتال منها: اللهم أنت ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك فاقتلهم واهزمهم، وقيل: المراد بذكره سبحانه اخطاره بالقلب وتوقع نصره، وقيل: المراد اذكروا ما وعدكم الله تعالى من النصر على الأعداء في الدنيا والثواب في الآخرة ليدعوكم ذلك إلى الثبات في القتال لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تفوزون بمرامكم من النصر والمثوبة، والأولى حمل الذكر على ما يعم التكبير والدعاء وغير ذلك من أنواع الذكر، وفي الآية تنبيه على أن العبد ينبغي أن لا يشغله شيء عن ذكر مولاه سبحانه، وذكره جل شأنه في مثل ذلك الموطن من أقوى أدلة محبته جل شأنه، ألا ترى من أحب مخلوقا مثله كيف يقول:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تشرب من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها برقت كبارق ثغرك المتبسم
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ في كل ما تأتون وما تذرون ويندرج في ذلك ما أمروا به هنا وَلا تَنازَعُوا باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر وأحد. وقرىء «ولا تنازعوا» بتشديد التاء فَتَفْشَلُوا أي فتجبنوا عن عدوكم
210
وتضعفوا عن قتالهم. والفعل منصوب بأن مقدرة في جواب النهي، ويحتمل أن يكون مجزوما عطفا عليه، وقوله تعالى:
وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ بالنصب معطوف على فَتَفْشَلُوا على الاحتمال الأول. وقرأ عيسى بن عمر «ويذهب» بياء الغيبة والجزم وهو عطف عليه أيضا على الاحتمال الثاني. والريح كما قال الأخفش مستعارة للدولة لشبهها بها في نفوذ أمرها وتمشيه. ومن كلامهم هبت رياح فلان إذ دالت له الدولة وجرى أمره على ما يريد وركدت رياحه إذا ولت عنه وأدبر أمره وقال:
إذا هبت رياحك فاغتنمها... فإن لكل خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها... فما تدري السكون متى يكون
وعن قتادة وابن زيد أن المراد بها ريح النصر وقالا: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو.
وعن النعمان بن مقرن قال: شهدت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تميل الشمس وتهب الرياح،
وعلى هذا تكون الريح على حقيقتها، وجوز أن تكون كناية عن النصر وبذلك فسرها مجاهد وَاصْبِرُوا على شدائد الحرب إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالإمداد والإعانة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم بناء على المشهور من حيث إنهم المباشرون للصبر فهم متبوعون من تلك الحيثية.
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بعد أن أمروا بما أمروا من أحاسن الأعمال ونهوا عما يقابلها، والمراد بهم أهل مكة أبو جهل وأصحابه حين خرجوا لحماية العير بَطَراً أي فخرا وأشرا وَرِئاءَ النَّاسِ ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة. روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره أرسل إلى قريش أن ارجعوا فقد سلمت العير فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا ونشرب الخمور وتعزف علينا القينات ونطعم بها من حضرنا من العرب فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا بدل الخمور وناحت عليهم النوائح، بدل القينات وكانت أموالهم غنائم بدلا عن بذلها، ونصب المصدرين على التعليل، ويجوز أن يكونا في موضع الحال، أي بطرين مرائين، وعلى التقديرين المقصود نهي المؤمنين أن يكونوا أمثالهم في البطر والرياء وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص إذا قلنا: إن النهي عن الشيء أمر بضده.
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عطف على بَطَراً وهو ظاهر على تقدير أنه حال بتأويل اسم الفاعل لأن الجملة تقع حالا من غير تكلف وأما على تقدير كونه مفعولا له فيحتاج إلى تكلف لأن الجملة لا تقع مفعولا له، ومن هنا قيل: الأصل أن يصدوا فلما حذفت أن المصدرية ارتفع الفعل مع القصد إلى معنى المصدرية بدون سابك كقوله:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى... أي عن أن أحضر، وهو شاذ
واختير جعله على هذا استئنافا، ونكتة التعبير بالاسم أولا والفعل أخيرا أن البطر والرياء دأبهم بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ فيجازيهم عليه وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ مقدر بمضمر خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق التلوين على ما قيل، ويجوز أن يكون المضمر مخاطبا به المؤمنون والعطف على لا تكونوا، أي واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وغيرها بأن وسوس إليهم وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي ألقى في روعهم وخيل لهم أنهم يغلبون لكثرة عددهم وعددهم وأوهمهم ان اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم وحافظ عن السوء حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين، فالقول مجاز عن الوسوسة، والإسناد في إِنِّي جارٌ من قبيل الإسناد إلى السبب الداعي ولَكُمُ خبر لا أو صفة غالِبَ والخبر محذوف، أي لا غالب كائنا لكم موجود والْيَوْمَ معمول الخبر ولا يجوز
211
تعلق الجار بغالب وإلا لانتصب لشبهه بالمضاف حينئذ، وأجاز البغداديون الفتح وعليه يصح تعلقه به، ومِنَ النَّاسِ حال من ضمير الخبر لا من المستتر في غالِبَ لما ذكرنا، وجملة اني جار تحتمل العطف والحالية فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي تلاقى الفريقان وكثيرا ما يكنى بالترائي عن التلاقي وإنما أول بذلك لمكان قوله تعالى: نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ
أي رجع القهقري فإن النكوص كان عند التلاقي لا عند الترائي، والتزام كونه عنده فيه خفاء. والجار والمجرور في موضع الحال المؤكدة أو المؤسسة إن فسر النكوص بمطلق الرجوع، وأيا ما كان ففي الكلام استعارة تمثيلية، شبه بطلان كيده بعد تزيينه بمن رجع القهقهرى عما يخافه كأنه قيل: لما تلاقتا بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم.
وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ تبرأ منهم إما بتركهم أو بترك الوسوسة لهم التي كان يفعلها أولا وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى امداد الله تعالى المسلمين بالملائكة عليهم السلام، وإنما لم نقل خاف على نفسه لأن الوسوسة بخوفه عليهم أقرب إلى القبول بل يبعد وسوسته إليهم بخوفه على نفسه، وقيل:
إنه لا يخاف على نفسه لأنه من المنظرين وليس بشيء.
وقد يقال: المقصود من هذا الكلام أنه عظم عليهم الأمر وأخذ يخوفهم بعد أن كان يحرضهم ويشجعهم كأنه قال: يا قوم الأمر عظيم والخطب جسيم وإني تارككم لذلك وخائف على نفسي الوقوع في مهاوي المهالك مع أني أقدر منكم على القرار وعلى مراحل هذه القفار، وحينئذ لا يبعد أن يراد من الخوف الخوف على نفسه حيث لم يكن هناك قول حقيقة، وقال غير واحد من المفسرين: إنه لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينها وبين كنانة من الإحنة والحرب فكاد ذلك يثبطهم فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وكان من أشراف كنانة فقال لهم لا غالب لكم اليوم وإني جار لكم من بني كنانة وحافظكم ومانع عنكم فلا يصل إليكم مكروه منهم فلما رأى الملائكة تنزل من السماء نكص وكانت يده في يد الحارث بن هشام فقال له: إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحالة؟ فقال له: إني أرى ما لا ترون فقال: والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب فدفع في صدر الحارث وانطلق وانهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغه الخبر فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان، وروي هذا عن ابن عباس والكلبي والسدي وغيرهم، وعليه يحتمل أن يكون معنى قوله: إني أخاف الله إني أخاف أن يصيبني بمكروه من الملائكة أو يهلكني، ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله، وفي الموطأ: ما رئي الشيطان يوما هو أصغر فيه ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رئي يوم بدر فإنه قد رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة عليهم السلام، وما في كتاب التيجان من أن إبليس قتل ذلك اليوم مخرج على هذا وإلا فهو تاج سلطان الكذب، وروى الأول عن الحسن واختاره البلخي والجاحظ، وقوله سبحانه: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يحتمل أن يكون من كلام اللعين وأن يكون مستأنفا من جهته سبحانه وتعالى، وادعى بعضهم أن الأول هو الظاهر إذ على احتمال كونه مستأنفا يكون تقريرا لمعذرته ولا يقتضيه المقام فيكون فضلة من الكلام، وتعقب بأنه بيان لسبب خوفه حيث إنه يعلم ذلك فافهم إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ ظرف لزين أو نكص أو شديد العقاب، وجوز أبو البقاء أيضا أن يقدر اذكروا وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أي الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان بعد وبقي فيها شبهة، قيل: وهم فتية من قريش أسلموا بمكة وحبسهم آباؤهم حتى خرجوا معهم إلى بدر. منهم قيس بن الوليد بن المغيرة. والعاص بن منبه بن الحجاج. والحارث بن زمعة.
وأبو قيس بن الفاكه، فالمرض على هذا مجاز عن الشبهة.
وقيل: المراد بهم المنافقون سواء جعل العطف تفسيريا أو فسر مرض القلوب بالإحن والعداوات والشك مما هو
212
غير النفاق، والمعنى إذ يقول الجامعون بين النفاق ومرض القلوب، وقيل: يجوز أن يكون الموصول صفة المنافقين، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف لأن هذه صفة للمنافقين لا تنفك عنهم، أو تكون الواو داخلة بين المفسر والمفسر نحو أعجبني زيد وكرمه، وزعم بعضهم أن ذلك وهم وهو من التحامل بمكان إذ لا مانع من ذلك صناعة ولا معنى، والقول بأن وجه الوهم فيه أن المنافقين جار على موصوف مقدر أي القوم المنافقون فلا يوصف ليس بوجيه إذ للقائل أن يقول: إنه أجرى المنافقون هنا مجرى الأسماء مع أن الصفة لا مانع من أن توصف وقيام العرض بالعرض دون إثبات امتناعه خرط القتاد، ومن فسر الذين في قلوبهم مرض بأولئك الفئة الذين أسلموا بمكة قال: إنهم لما رأوا قلة المسلمين قالوا: غَرَّ هؤُلاءِ يعنون المؤمنين الذين مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دِينُهُمْ حتى تعرضوا لمن لا يدي لهم به فخرجوا وهم ثلاثمائة وبضعة عشر إلى زهاء الألف، وعلى احتمال جعله صفة للمنافقين يشعر كلام البعض أن القول لم يكن عند التلاقي، فقد روي عن الحسن أن هؤلاء المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هم يومئذ في المسلمين، وفي القلب من هذا شيء، فإن الذي تشهد له الآثار أن أهل بدر كانوا خلاصة المؤمنين وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ جواب لهم ورد لمقالتهم فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يذل من توكل عليه ولا يخذل من استجار به وإن قل حَكِيمٌ يفعل بحكمته البالغة ما تستبعده العقول، وتحار في فهمه ألباب الفحول. وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه أو أنه قائم مقامه وَلَوْ تَرى خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل أحد ممن له حظ من الخطاب، والمضارع هنا بمعنى الماضي لأن لَوْ الامتناعية ترد المضارع ماضيا كما أن ترد الماضي مضارعا، أي ولو رأيت إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ إلخ لرأيت أمرا فظيعا، ولا بد عند العلامة من حمل معنى المضي هنا على الفرض والتقدير، وليس المعنى على حقيقة المضي، قيل:
والقصد إلى استمرار امتناع الرؤية وتجدده وفيه بحث، وإذ ظرف لترى والمفعول محذوف، أي ولو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ، والْمَلائِكَةُ فاعل يتوفى، وتقديم المفعول للاهتمام به، ولم يؤنث الفعل لأن الفاعل غير حقيقي التأنيث، وحسن ذلك الفصل بينهما، ويؤيد هذا الوجه قراءة ابن عامر «تتوفى» بالتاء. وجوز أبو البقاء أن يكون الفاعل ضمير الله تعالى، والملائكة على هذا مبتدأ خبره جملة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ والجملة الاسمية مستأنفة، وعند أبي البقاء في موضع الحال، ولم يحتج إلى الواو لأجل الضمير، ومن يرى أنه لا بد فيها من الواو وتركها ضعيف يلتزم الأول، وعلى الأول يحتمل أن يكون جملة يضربون مستأنفة وأن تكون حالا من الفاعل أو المفعول أو منهما لاشتمالها على ضميريهما وهي مضارعية يكتفى فيها بالضمير كما لا يخفى. والمراد من وجوههم ما أقبل منهم، ومن قوله سبحانه: وَأَدْبارَهُمْ ما أدبر وهو كل الظهر. وعن مجاهد أن المراد منه أستاههم ولكن الله تعالى كريم يكني والأول أولى، وذكرهما يحتمل أن يكون للتخصيص بهما لأن الخزي والنكال في ضربهما أشد ويحتمل أن يراد التعميم على حد قوله تعالى: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ [الأعراف: ٢٠٥، الرعد: ١٥، النور: ٣٦] لأنه أقوى ألما، والمراد من الذين كفروا قتلى بدر كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره.
وروي عن الحسن أن رجلا قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك فقال عليه الصلاة والسلام: ذلك ضرب الملائكة.
وفي رواية عن ابن عباس ما يشعر بالعموم. فقد أخرج ابن أبي حاتم عنه أنه قال: آيتان يبشر بهما الكافر عند موته وقرأ وَلَوْ تَرى إلخ، ولعل الرواية عنه رضي الله تعالى عنه لم تصح وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ عطف على يَضْرِبُونَ بإضمار القول، أي ويقولون ذوقوا، أو حال من ضميره كذلك أي ضاربين وجوههم وقائلين ذوقوا، وهو على الوجهين من قول الملائكة، والمراد بعذاب الحريق عذاب النار في الآخرة، فهو
213
بشارة لهم من الملائكة بما هو أدهى وأمرّ مما هم فيه، وقيل كان مع الملائكة يوم بدر مقامع من حديد كلما ضربوا المشركين بها التهبت النار في جراحاتهم، وعليه فالقول للتوبيخ، والتعبير بذوقوا قيل: للتهكم لأن الذوق يكون في المطعومات المستلذة غالبا، وفيه نكتة أخرى وهو أنه قليل من كثير وأنه مقدمة كأنموذج الذائق. وبهذا الاعتبار يكون فيه المبالغة، وإن أشعر الذوق بقلته.
وذكر بعضهم: وهو خلاف الظاهر أنه يحتمل أن يكون هذا القول من كلام الله كما في [آل عمران: ١٨١] وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وجواب لَوْ محذوف لتفظيع الأمر وتهويله وتقديره ما أشرنا إليه سابقا، وقدره الطيبي لرأيت قوة أوليائه ونصرهم على أعدائه ذلِكَ أي الضرب والعذاب اللذان هما هما وهو مبتدأ خبره قوله تعالى: بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ والباء للسببية، وتقديم الأيدي مجاز عن الكسب والفعل، أي ذلك واقع بسبب ما كسبتم من الكفر والمعاصي، وقوله سبحانه: وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ قيل خبر مبتدأ محذوف، والجملة اعتراض تذييلي مقرر لمضمون ما قبلها، أي والأمر أنه تعالى ليس بمعذب لعبيده من غير ذنب من قبلهم، والتعبير عن ذلك بنفي الظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم قطعا على ما تقرر من قاعدة أهل السنة فضلا عن كونه ظلما بالغا لبيان كمال نزاهته تعالى بتصويره بصورة ما يستحيل صدوره عنه تعالى من الظلم.
وقال البيضاوي بيض الله غرة أحواله: هو عطف على ما للدلالة على أن سببيته مقيدة بانضمامه إليه إذ لولاه لأمكن أن يعذبهم بغير ذنوبهم. لا أن لا يعذبهم بذنوبهم، فإن ترك التعذيب من مستحقه ليس بظلم شرعا ولا عقلا حتى ينتهض نفي الظلم سببا للتعذيب وأراد بذلك الرد على الزمخشري عامله الله تعالى بعدله حيث جعل كلّا من الأمرين سببا بناء على مذهبه في وجوب الأصلح، فقوله: لا أن لا يعذبهم عطف على أن يعذبهم والمعنى أن سبب هذا القيد دفع احتمال أن يعذبهم بغير ذنوبهم لا احتمال أن لا يعذبهم بذنوبهم فإنه أمر حسن، وقوله للدلالة إلخ على معنى أن تعينه للسببية إنما يحصل بهذا القيد إذ بإمكان تعذيبهم بغير ذنب يحتمل أن يكون سبب التعذيب إرادة العذاب بلا ذنب، فحاصل معنى الآية أن عذابكم هذا إنما نشأ من ذنوبكم لا من شيء آخر. فلا يرد عليه ما قيل: كون تعذيب الله تعالى للعباد بغير ذنب ظلما لا يوافق مذهب الجماعة، وما قيل: إن هذا يخالف ما في آل عمران من أن سببيته للعذاب من حيث إن نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن ومعاقبة المسيء مدفوع بأن لنفي الظلم معنيين:
أحدهما ما ذكر من إثابة المحسن إلخ، والآخر عدم التعذيب بلا ذنب وكل منهما يؤول إلى معنى العدل فلا تدافع بين كلاميه. وأما جعله هناك سببا وهنا قيدا للسبب فلا يوجب التدافع أيضا فإن المراد كما ذكرنا فيما قبل بالسبب الوسيلة المحضة وهو وسيلة سواء اعتبر سببا مستقلا أو قيدا للسبب. ولمولانا شيخ الإسلام في هذا المقام كلام لا يخفى عليك رده بعد الوقوف على ما ذكرنا. وقد تقدم لك بسط الكلام فيه، ومن الناس من بين قول القاضي: للدلالة إلخ بقوله يريد أن سببية الذنوب للعذاب تتوقف على انتفاء الظلم منه تعالى فإنه لو جاز صدوره عنه سبحانه لأمكن أن يعذب عبيده بغير ذنوبهم. فلا يصلح أن يكون الذنب سببا للعذاب لا في هذا الصورة ولا في غيرها ثم قال: فإن قلت: لا يلزم من هذا إلا نفي انحصار السبب للعذاب في الذنوب لا نفي سببيتها له والكلام فيه إذ يجوز أن يقع العذاب في الصورة المفروضة بسبب غير الذنوب، ولا ينافي هذا كونها سببا له في غير هذه الصورة كما في أهل بدر.
فلا يتم التقريب.
قلت: السبب المفروض في الصورة المذكورة إن أوجب استحقاق العذاب يكون ذنبا لا محالة. والمفروض خلافه وإن لم يوجب فلا يتصور أن يكون سببا إذ لا معنى لكون شيء سببا إلا كونه مقتضيا لاستحقاقه له فإذا انتفى
214
هذا ينتفي ذلك، وبالجملة فمأل كون التعذيب من غير ذنب إلى كونه بدون السبب لانحصار السبب فيه انتهى.
ورد بأن قوله: وإن لم يوجب فلا يتصور أن يكون سببا ممنوع فإن السبب الموجب ما يكون مؤثرا في حصول شيء سواء كان عن استحقاقه أو لم يكن، ألا يرى أن الضرب بظلم والقتل كذلك سببان للإيلام والموت مع أنهما ليسا عن استحقاق، فاعتراض السائل واقع موقعه ولا يمكن التفصي عنه إلا بما قرر سابقا من معنى الآية، فإن المقام مقام تعيين السببية وتخصيصها للذنوب وذلك لا يحصل إلا بنفي صدور العذاب بلا ذنب منه سبحانه وتعالى، ومن هنا علم أن قوله: وبالجملة إلخ ليس بسديد فإن مبناه كون الاستحقاق شرطا للسببية وقد مر ما فيه مع ما فيه من المخالفة لكلام الأجلة من كون نفي الظلم سببا آخر للتعذيب لأن سببية نفي الظلم موقوفة على إمكان إرادة التعذيب بلا ذنب وكونها سببا للعذاب فكيف يكون مآل كون التعذيب بلا ذنب إلى كونه بدون السبب فتأمل فالمقام معترك الافهام، ثم أن المراد في نفي الآية نفس الظلم وإنما كثر توزيعا على الآحاد كأنه قيل: ليس بظالم لفلان ولا بظالم لفلان وهكذا فلما جمع هؤلاء عدل إلى ظلام لذلك، وجوز أن يكون إشارة إلى عظم العذاب على سبيل الكناية وذلك لأن الفعل يدل بظاهره على غاية الظلم إذا لم يتعلق بمستحقه فإذا صدر ممن هو أعدل العادلين دل على أنه استحق أشد العذاب لأنه أشد المسيئين. قال في الكشف: وهذا أوفق للطائف كلام الله تعالى المجيد، وفيه وجوه أخر مر لك بعضها، وقوله تعالى: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ خبر مبتدأ محذوف أي دأب هؤلاء كائن كدأب إلخ والجملة استئناف مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بشيء آخر حيث شبه حالهم بحال المعروفين بالإهلاك لذلك لزيادة تقبيح حالهم وللتنبيه على أن ذلك سنة مطردة فيما بين الأمم المهلكة، والدأب العادة المستمرة ومنه قوله:
وما زال ذاك الدأب حتى تجادلت هوازن وارفضت سليم وعامر
والمراد شأنهم الذي استمروا عليه مما فعلوا وفعل بهم من الأخذ كدأب آل فرعون المشهورين بقباحة الأعمال وفظاعة العذاب والنكال وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي من قبل آل فرعون وأصحابه من الأمم الذين فعلوا ما فعلوا ولقوا من العذاب ما لقوا كقوم نوح. وعاد. وأضرابهم، وقوله تعالى: كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ تفسير لدأبهم لكن بملاحظة أنه الذي فعلوه لا لدأب آل فرعون ومن بعدهم فإن ذلك معلوم منه بقضية التشبيه.
والجملة لا محل لها من الاعراب لما أشير إليه، وكذا على ما قيل: من أنها مستأنفة استئنافا نحويا أو بيانيا، وقيل: إنها حالية بتقدير قد فهي في محل نصب، وقوله سبحانه: فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ معطوفة عليها وحكمه في التفسير حكمها لكن بملاحظة الدأب الذي فعل بهم، والفاء لبيان كونه من لوازم جناياتهم وتبعاتها المتفرعة عليها.
وذكر الذنوب لتأكيد ما أفادته الفاء من السببية مع الإشارة إلى أن لهم مع كفرهم ذنوبا أخر لها دخل في استتباع العقاب، وجوز أن يراد بذنوبهم معاصيهم المتفرعة على كفرهم فيكون الباء للملابسة أي فأخذهم متلبسين بذنوبهم غير تائبين عنها، وجعل العذاب من جملة دأبهم مع أنه ليس مما يتصور مداومتهم عليه واعتيادهم إياه كما هو المعتبر في مدلول الدأب كما عرفت إما لتغليب ما فعلوه على ما فعل بهم أو لتنزيل مداومتهم على ما يوجبه من الكفر والمعاصي بمنزلة مداومتهم عليه لما بينهما من الملابسة التامة، وإلى كون المراد بدأبهم مجموع ما فعلوه وما فعل بهم يشير ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: إن آل فرعون أيقنوا بأن موسى عليه السلام نبي الله تعالى فكذبوه كذلك هؤلاء جاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم بالصدق فكذبوه فأنزل الله تعالى لهم عقوبة كما أنزل بآل فرعون، وإلى ذلك ذهب ابن الخازن وغيره، وقيل: المراد بدأبهم ما فعلوا فقط، وقيل: ما فعل بهم فقط، وليس بشيء.
وقوله سبحانه: إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ اعتراض مقرر لمضمون ما قبله من الأخذ أي أنه سبحانه لا يغلبه
215
غالب فيدفع عقابه عمن أراد معاقبته ذلِكَ إشارة إلى ما يفيده النظم الكريم من كون ما حل بهم من العذاب منوطا بأعمالهم السيئة غير واقع بلا سابقة ما يقتضيه، وهو مبتدأ خبره قوله سبحانه: بِأَنَّ اللَّهَ إلى آخره، والباء للسببية، والجملة مسوقة لتعليل ما أشير إليه أي ذلك كائن بسبب أن الله سبحانه لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها أي لم ينبغ له سبحانه ولم يصح في حكمته أن يكون بحيث يغير نعمة أي نعمة كانت جلت أو هانت أنعم بها عَلى قَوْمٍ من الأقوام حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي ذواتهم من الأعمال والأحوال التي كانوا عليها وقت ملابستهم للنعمة ويتصفوا بما ينافيها سواء كانت أحوالهم السابقة مرضية صالحة أو أهون من الحالة الحادثة كدأب كفرة قريش المذكورين حيث كانوا قبل البعثة كفرة عبدة أصنام مستمرين على حال مصححة لإفاضة نعم الامهال وسائر النعم الدنيوية عليهم كصلة الرحم والكف عن تعرض الآيات والرسل عليهم السلام فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم غيروها على أسوأ حال منها وأسخط حيث كذبوه عليه الصلاة والسلام وعادوه ومن تبعه من المؤمنين وتحزبوا عليهم وقطعوا أرحامهم فغير الله تعالى ما أنعم به عليهم من نعمة الامهال ووجه إليهم نبال العقاب والنكال، وقيل: إنهم لما كانوا متمكنين من الإيمان ثم لم يؤمنوا كان ذلك كأنه حاصل لهم فغيروه كما قيل في قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى [البقرة: ١٦، ١٧٥] ولا يخلو عن حسن. وجعل بعضهم الإشارة إلى ما حل بهم ثم إنه لما رأى أن انتفاء تغيير الله تعالى حتى يغيروا لا يقتضي تحقق تغييره إذا غيروا وأن العدم ليس سببا للوجود هنا وأيضا عدم التغيير صارف عما حل بهم لا موجب له بحسب الظاهر قال: إن السبب ليس منطوق الآية بل مفهومها، وهو جري عادته سبحانه على التغيير حين غيروا حالهم فالسبب ليس انتفاء التغيير، بل التغيير: قيل: وإنما أوثر التعبير بذلك لأن الأصل عدم التغيير من الله تعالى لسبق إنعامه ورحمته ولأن الأصل فيهم الفطرة وأما جعله عادة جارية فبيان لما استقر عليه الحال من ذلك لا أن كونه عادة له دخل في السببية، ولا يخفى أن ما ذكرناه أسلم من القيل والقال على أن ما فعله البعض لا يخلو بعد عن مقال فتدبر، وأصل يَكُ يكن فحذفت النون تخفيفا لشبهها بأحرف العلة أنها من الزوائد وهي تحذف من أحرف المجزوم فلذا حذفت هذه وهو مختص بهذا الفعل لكثرة استعماله وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ عطف على أَنَّ اللَّهَ إلخ داخل معه في حيز التعليل، أي وسبب أنه تعالى سميع عليم يسمع ويعلم جميع ما يأتون ويذرون من الأقوال والأفعال السابقة واللاحقة فيرتب على كل منها ما يليق من ابقاء النعمة وتغييرها. وقرىء «وإن الله» بكسر الهمزة فالجملة حينئذ استئناف مقرر لمضمون ما قبله كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ استئناف آخر على ما ذكره بعض المحققين مسوق لتقرير ما سيق له الاستئناف الأول بتشبيه دأبهم بدأب المذكورين لكن لا بطريق التكرير المحض بل بتغيير العنوان وجعل الدأب في الجانبين عبارة عما يلازم معناه الأول من تغيير الحال وتغيير النعمة أخذا مما نطق به قوله تعالى: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً
إلخ على دأب هؤلاء وشأنهم الذي هو عبارة عن التغييرين المذكورين كدأب أولئك حيث غيروا حالهم فغير الله تعالى نعمته عليهم فقول سبحانه:
كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ تفسير لدأبهم الذي فعلوه من تغييرهم لحالهم، وأشير بلفظ الرب إلى أن ذلك التغيير كان بكفران نعمه تعالى لما فيه من الدلالة على أنه مربيهم بالمنعم عليهم، وقوله سبحانه: فَأَهْلَكْناهُمْ تفسير لدأبهم الذي فعل بهم من تغييره تعالى ما بهم من نعمته جل شأنه.
وفي الإهلاك رمز إلى التغيير ولذا عبر به دون الأخذ المعبر به أولا وليس الأخذ مثله في ذلك، ألا ترى أنه كثيرا ما يطلق الإهلاك على إخراج الشيء عن نظامه الذي هو عليه ولم نر إطلاق الأخذ على ذلك، وقيل: إنما عبر أولا بالأخذ وهنا بالإهلاك لأن جنايتهم هنا الكفران وهو يقتضي أعظم النكال والإهلاك مشير إليه ولا كذلك ما تقدم وفيه
216
نظر، وأما دأب قريش فمستفاد مما ذكر بحكم التشبيه فلله تعالى در التنزيل حيث اكتفى في كل من التشبيهين بتفسير أحد الطرفين، وفي الفرائد أن هذا ليس بتكرير لأن معنى الأول حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر فأخذهم وأتاهم العذاب، ومعنى الثاني حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم وتغيير الله تعالى حالهم بسبب ذلك التغيير وهو أنه سبحانه أغرقهم بدليل ما قبله وما ذكرناه أتم تحريرا، واعترضه العلامة الطيبي بأن النظم الكريم يأباه لأن وجه التشبيه في الأول كفرهم المترتب عليه العقاب فكذلك ينبغي أن يكون وجهه في الثاني ما يفهم من قوله سبحانه: كَذَّبُوا إلخ لأنه مثله لأن كلا منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه صالحة لأن تكون وجه الشبه فتحمل عليه كما في قوله تعالى:
إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: ٥٩] وأما قوله سبحانه ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ إلخ فكالتعليل لحلول النكال معترض بين التشبيهين غير مختص بقوم بل هو متناول لجميع من يغير نعمة الله تعالى من الأمم السابقة واللاحقة فاختصاصه بالوجه الثاني دون الأول وإيقاعه وجها للتشبيه مع وجوده صريحا كما علمت بعيد عمن ذاق معرفة الفصاحتين ووقف على ترتيب النظم من الآيتين انتهى.
ولا يخفى أن هذا غير وارد على ما قدمناه عند التأمل. والقول في التفرقة بين الآيتين أن الأولى لبيان حالهم في استحقاقهم عذاب الآخرة والثانية لبيان استحقاقهم عذاب الدنيا، أو أن المقصود أولا تشبيه حالهم بحال المذكورين في التكذيب والمقصود ثانيا تشبيه حالهم بحالهم في الاستئصال، أو أن المراد فيما تقدم بيان أخذهم بالعذاب وهنا بيان كيفيته مما لا ينبغي أن يعول عليه. وقال بعض الأكابر: إن قوله سبحانه: كَدَأْبِ في محل النصب على أنه نعت لمصدر محذوف، أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا كائنا كدأب آل فرعون أي كتغييرهم على أن دأبهم عبارة عما فعلوه كما هو الأنسب بمفهوم الدأب، وقوله تعالى: كَذَّبُوا إلخ تفسير له بتمامه، وقوله سبحانه:
فَأَهْلَكْناهُمْ إلخ إخبار بترتب العقوبة عليه لا أنه من تمام تفسيره ولا ضير في توسط قوله عز شأنه: وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ بينهما سواء عطفا أو استئنافا، وفيه خروج الآية عن نمط أختها بالكلية. وأيضا لا وجه لتقييد التغيير الذي يترتب عليه تغيير الله تعالى بكونه كتغيير آل فرعون على أن كون الجار في محل النصب على أنه نعت بعيد مع وجود ذلك الفاصل وإن قلنا بجواز الفصل، ومن أنصف علم أن بلاغه التنزيل تقتضي الوجه الأول، والالتفات إلى نون العظمة في أهلكنا جريا على سنن الكبرياء لتهويل الخطب، وهذا لا ينافي النكتة التي أشرنا إليها سابقا كما لا يخفى، والكلام في الفاء وذكر الذنوب على طرز ما ذكرنا في نظيره، وقوله سبحانه: وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ عطف على فَأَهْلَكْناهُمْ وفي عطفه عليه مع اندراج مضمونه تحت مضمونه إيذان بكمال هول الإغراق وفظاعته وَكُلٌّ أي كل من الفرق المذكورين أو كل من هؤلاء وأولئك أو كل من آل فرعون وكفار قريش على ما قيل بناء على أن ما قبله في تشبيه دأب كفرة قريش بدأب آل فرعون صريحا وتعيينا وأن مثله يكفي قرينة للتخصيص كانُوا ظالِمِينَ أي أنفسهم بالكفر والمعاصي ولو عمم لكان له وجه أو واضعين للكفر والتكذيب مكان الإيمان والتصديق ولذلك أصابهم ما أصابهم إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ أي في حكمه وقضائه الَّذِينَ كَفَرُوا أي أصروا على الكفر ورسخوا فيه، وهذا شروع في بيان أحوال سائر الكفرة بعد بيان أحوال المهلكين منهم ولم يقل سبحانه شر الناس إيماء إلى أنهم بمعزل عن مجانستهم بل هم من جنس الدوابّ وأشرّ أفراده فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ حكم مترتب على تماديهم في الكفر ورسوخهم فيه وتسجيل عليهم بكونهم من أهل الطبع لا يلويهم صارف ولا يثنيهم عاطف جيء به على وجه الاعتراض، وقيل: عطف على الصلة مفهم معنى الحال كأنه قيل: إن شر الدواب الذين كفروا مصرّين على عدم الإيمان، وقيل: الفاء فصيحة أي إذا علمت أن أولئك شر الدواب فاعلم أنهم لا يؤمنون أصلا فلا تتعب نفسك، وقيل: هي للعطف وفي ذلك تنبيه على أن
217
تحقق المعطوف عليه يستدعي تحقق العطف حيث جعل ذلك مترتبا عليه ترتب المسبب على سببه والكل كما ترى الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ بدل من الموصول الأول أو عطف بيان أو نعت أو خبر مبتدأ محذوف أو نصب على الذم، وعائد الموصول قيل: ضمير الجمع المجرور، والمراد عاهدتهم ومن للايذان بأن المعاهدة التي هي عبارة عن إعطاء العهد وأخذه من الجانبين معتبرة هاهنا من حيث أخذه صلّى الله عليه وسلّم إذ هو المناط لما نعى عليهم من النقض لا إعطاؤه عليه الصلاة والسلام إياهم عهده كأنه قيل: الذين أخذت منهم عهدهم، وإلى هذا يرجع قولهم: إن من لتضمين العهد معنى الأخذ أي عاهدت آخذا منهم.
وقال أبو حيان: إنها تبعيضية لأن المباشر بعضهم لا كلهم، وذكر أبو البقاء أن الجار والمجرور في موضع الحال من العائد المحذوف، أي الذين عاهدتهم كائنين منهم، وقيل: هي زائدة وليس بذاك، وقوله سبحانه: ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ عطف على الصلة، وصيغة الاستقبال للدلالة على تعدد النقض وتجدده وكونهم على نيته في كل حال، أي ينقضون عهدهم الذي أخذ منهم فِي كُلِّ مَرَّةٍ أي من مرات المعاهدة كما هو الظاهر واختاره غير واحد، وجوز أن يراد في كل مرة من مرات المحاربة وفيه بحث وَهُمْ لا يَتَّقُونَ في موضع الحال من فاعل ينقضون، أي يستمرون على النقض والحال أنهم لا يتقون سبة الغدر ومغبته، أو لا يتقون الله فيه، وقيل: لا يتقون نصرة المسلمين وتسلطهم عليهم، والآية على ما قال جمع: نزلت في يهود قريظة عاهدوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن لا يمالئوا عليه فأعانوا المشركين بالسلاح فقالوا نسينا ثم عاهدهم عليه الصلاة والسلام فنكثوا ومالؤوهم عليه عليه الصلاة والسلام يوم الخندق وركب كعب إلى مكة فحالفهم على حرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأخرج أبو الشيخ عن سعيد بن جبير أنها نزلت في ستة رهط من يهود منهم ابن تابوت، ولعله أراد بهم الرؤساء المباشرين للعهد فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ شروع في بيان أحكامهم بعد تفصيل أحوالهم، والفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والثقف يطلق على المصادفة وعلى الظفر، والمراد به هنا المترتب على المصادفة والملاقاة، أي إذا كان حالهم كما ذكر فإما تصادفنهم وتظفرن بهم فِي الْحَرْبِ أي في تضاعيفها فَشَرِّدْ بِهِمْ أي فرق بهم مَنْ خَلْفَهُمْ أي من وراءهم من الكفرة، يعني افعل بهؤلاء الذين نقضوا عهدك فعلا من القتل والتنكيل العظيم يفرق عنك ويخافك بسببه من خلفهم ويعتبر به من سمعه من أهل مكة وغيرهم، وإلى هذا يرجع ما قيل: من أن المعنى نكل به ليتعظ من سواهم. وقيل: إن معنى شرد بهم سمع بهم في لغة قريش قال الشاعر:
أطوّف بالأباطح كل يوم مخافة أن يشرّد بي حكيم
وقرأ ابن مسعود. والأعمش «فشرذ» بالذال المعجمة وهو بمعنى شرد بالمهملة، وعن ابن جني أنه لم يمر بنا في اللغة تركيب شرذ والأوجه أن تكون الذال بدلا من الدال، والجامع بينهما أنهما مجهوران ومتقاربان، وقيل: إنه قلب من شذر، ومنه شذر مذر للمتفرق. وذهب بعض أهل اللغة إلى أنها موجودة ومعناها التنكيل ومعنى المهمل التفريق كما قاله قطرب لكنها نادرة، وقرأ أبو حيوة «من خلفهم» بمن الجارة، والفعل عليها منزل منزلة اللازم كما في قوله:
يجرح في عراقيبها نصلي فالمعنى افعل التشريد من ورائهم، وهو في معنى جعل الوراء ظرفا للتشريد لتقارب معنى من وفِي تقول: اضرب زيدا من وراء عمرو وورائه أي في ورائه، وذلك يدل على تشريد من في تلك الجهة على سبيل الكناية فإن إيقاع التشريد في الوراء لا يتحقق إلا بتشريد من وراءهم فلا فرق بين القراءتين الفتح والكسر إلا في المبالغة لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لعل المشردين يتعظون بما يعلمونه مما نزل بالناقضين فيرتدعون عن النقض قيل: أو عن الكفر
218
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد أثر بيان أحكام الناقضين له بالفعل، والخوف مستعار للعلم، أي وإما تعلمن من قوم معاهدين لك نقض عهد فيما سيأتي بما يلوح لك منهم من الدلائل فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي فاطرح إليهم عهدهم، وفيه استعارة مكنية تخييلية عَلى سَواءٍ أي على طريق مستو وحال قصد بأن تظهر لهم النقض وتخبرهم إخبارا مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد كيلا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا، فالجار والمجرور متعلق وقع حالا من المستكن في «انبذ» أي فانبذ إليهم ثابتا على سواء، وجوز أن يكون حالا من ضمير إليهم أو من الضميرين معا، أي حال كونهم كائنين على استواء في العلم بنقض العهد بحيث يستوي فيه أقصاهم وأدناهم، أو حال كونك أنت وهم على استواء في ذلك، ولزوم الإعلام عند أكثر العلماء الأعلام إذا لم تنقض مدة العهد أو لم يستفض نقضهم له ويظهر ظهورا مقطوعا به أما إذا انقضت المدة أو استفاض النقض وعلمه الناس فلا حاجة إلى ما ذكر، ولهذا غزا النبي صلّى الله عليه وسلّم أهل مكة من غير نبذ ولم يعلمهم بأنهم كانوا نقضوا العهد علانية بمعاونتهم بني كنانة على قتل خزاعة حلفاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ تعليل للأمر بالنبذ باعتبار استلزامه للنهي عن المناجزة التي هي خيانة فيكون تحذيرا للنبي صلّى الله عليه وسلّم منها».
وجوز أن يكون تعليلا لذلك باعتبار استتباعه للقتال بالآخرة فتكون حثّا له صلّى الله عليه وسلّم على النبذ أولا وعلى قتالهم ثانيا، كأنه قيل: وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم ثم قاتلهم إن الله لا يحب الخائنين وهم من جملتهم لما علمت حالهم، والأول هو المتبادر، وعلى كلا التقديرين المراد من نفي الحب إثبات البغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض بالنسبة إليه تعالى وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا بياء الغيبة وهي قراءة حفص. وابن عامر وأبي جعفر. وحمزة، وزعم تفرد الأخير بها وهم كزعم إنها غير نيرة، فقد نص في التيسير على أنه قرأ بها الأولان أيضا، وفي المجمع على أنه قرأ بها الأربعة، وقال المحققون: أنها أنور من الشمس في رابعة النهار لأن فاعل يحسبن الموصول بعده ومفعوله الأول محذوف أي أنفسهم وحذف للتكرار والثاني جملة سبقوا، أي لا يحسبن أولئك الكافرون أنفسهم سابقين أي مفلتين من أن يظفر بهم.
والمراد من هذا إقناطهم من الخلاص وقطع أطماعهم الفارغة من الانتفاع بالنبذ، والاقتصار على دفع هذا التوهم وعدم دفع توهم سائر ما تتعلق به أمانيهم الباطلة من مقاومة المؤمنين أو الغلبة عليهم للتنبيه على أن ذلك مما لا يحوم عليه عقاب وهمهم وحسبانهم وإنما الذي يمكن أن يدور في خلدهم حسبان المناص فقط، ويحتمل أن يكون الفاعل ضميرا مستترا، والحذف لا يخطر بالبال كما توهم، أي لا يحسبن هو أي قبيل المؤمنين أو الرسول أو الحاسب أو من خلفهم أو أحد، وهو معلوم من الكلام فلا يرد عليه أنه لم يسبق له ذكر، ومفعولا الفعل الذين كفروا وسبقوا، وحكي عن الفراء أن الفاعل الذين كفروا وأن سبقوا بتقدير أن سبقوا فتكون أن وما بعدها سادة مسد المفعولين، وأيد بقراءة ابن مسعود أنهم سبقوا.
واعترضه أبو البقاء وغيره بأن أن المصدرية موصول وحذف الموصول ضعيف في القياس شاذ في الاستعمال لم يرد منه إلا شيء يسير- كتسمع بالمعيدي خير من أن تراه- ونحوه فلا ينبغي أن يخرج كلام الله تعالى عليه.
وقرأ من عدا من ذكر تحسبن بالتاء الفوقية على أن الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أو لكل من له حظ في الخطاب والَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا مفعولاه ولا كلام في ذلك.
وقرأ الأعمش «ولا تحسب الذين» بكسر الباء وفتحها على حذف النون الخفيفة، وقوله تعالى: إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي لا يفوتون الله تعالى أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم تعليل للنهي على طريق الاستئناف. وقرأ
219
ابن عامر «أنهم» بفتح الهمزة وهو تعليل أيضا بتقدير اللام المطرد حذفها في مثله.
وقيل: الفعل واقع عليه، ولا صلة ويؤيده أنه قرىء بحذفها وسَبَقُوا حال بمعنى سابقين أي مفلتين هاربين.
وضعف بأن لا لا تكون صلة في موضع يجوز أن لا تكون كذلك وبأن المعهود كما قال أبو البقاء في المفعول الثاني لحسب في مثل ذلك أن تكون أن فيه مكسورة، وهذا على قراءة الخطاب لإزاحة ما عسى أن يحذر من عاقبة النبذ لما أنه إيقاظ للعدو وتمكين لهم من الهرب والخلاص من أيدي المؤمنين، وفيه نفي لقدرتهم على المقاومة والمقابلة على أبلغ وجه وآكده كما يشير إليه. وذكر الجبائي أن لا يُعْجِزُونَ على معنى لا يعجزونك على أنه خطاب أيضا للنبي عليه الصلاة والسلام ولا يخلو عن حسن، والظاهر أن عدم الإعجاز كيفما قدر المفعول إشارة إلى أنه سبحانه سيمكن منهم في الدنيا، فما روي عن الحسن أن المعنى لا يفوتون الله تعالى حتى لا يبعثهم في الآخرة غريب منه إن صح. وادعى الخازن أن المعنى على العموم على معنى لا يعجزون الله تعالى مطلقا اما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بعذاب النار. وذكر أن فيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيمن فاته من المشركين ولم ينتقم منه، وهو ظاهر على القول بأن الآية نزلت فيمن أفلت من فل المشركين، وروي ذلك عن الزهري. وقرىء «يعجزّون» بالتشديد.
وقرأ ابن محيصن «يعجزون» بكسر النون بتقدير يعجزونني فحذفت إحدى النونين للتخفيف والياء اكتفاء بالكسرة، ومثله كثير في الكتاب وَأَعِدُّوا لَهُمْ خطاب لكافة المؤمنين لما أن المأمور به من وظائف الكل أي أعدوا لقتال الذين نبذ إليهم العهد وهيئوا لحربهم كما يقتضيه السياق أو لقتال الكفار على الإطلاق وهو الأولى كما يقتضيه ما بعده مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أي من كل ما يتقوى به في الحرب كائنا ما كان، وأطلق عليه القوة مبالغة، وإنما ذكر هذا لأنه لم يكن لهم في بدر استعداد تام فنبهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما تفسير القوة بأنواع الأسلحة، وقال عكرمة: هي الحصون والمعاقل. وفي رواية أخرى عنه أنها ذكور الخيل.
وأخرج أحمد ومسلم وخلق كثير عن عقبة بن عامر الجهني قال: «سمعت النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول وهو على المنبر: «وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ألا إن القوة الرمي قالها ثلاثا»
والظاهر العموم إلا أنه عليه الصلاة والسلام خص الرمي بالذكر لأنه أقوى ما يتقوى به فهو من قبيل
قوله صلّى الله عليه وسلّم «الحج عرفة».
وقد مدح عليه الصلاة والسلام الرمي وأمر بتعلمه في غير ما حديث،
وجاء عنه الصلاة والسلام «كل شيء من لهو الدنيا باطل إلا ثلاثة: انتضالك بقوسك وتأديبك فرسك وملاعبتك أهلك فإنها من الحق»
وجاء في رواية أخرجها النسائي وغيره «كل شيء ليس من ذكر الله تعالى فهو لغو وسهو إلا أربع خصال مشى الرجل بين الغرضين وتأديب فرسه وملاعبته أهله وتعليم السباحة» وجاء أيضا «انتضلوا واركبوا وأن تنتضلوا أحب إليّ إن الله تعالى ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة الجنة: صانعه محتسبا والمعين به والرامي به في سبيل الله تعالى».
وأنت تعلم أن الرمي بالنبال اليوم لا يصيب هدف القصد من العدو لأنهم استعملوا الرمي بالبندق والمدافع ولا يكاد ينفع معهما نبل وإذا لم يقابلوا بالمثل عم الداء العضال واشتد الوبال والنكال وملك البسيطة أهل الكفر والضلال فالذي أراه والعلم عند الله تعالى تعين تلك المقابلة على أئمة المسلمين وحماة الدين، ولعل فضل ذلك الرمي يثبت لهذا الرمي لقيامه مقامه في الذب عن بيضة الإسلام ولا أرى ما فيه من النار للضرورة الداعية إليه إلا سببا للفوز بالجنة إن شاء الله تعالى، ولا يبعد دخول مثل هذا الرمي في عموم قوله سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ
220
الرباط قيل: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله تعالى على أن فعال بمعنى مفعول أو مصدر سميت به يقال:
ربط ربطا ورباطا ورابط مرابطة ورباطا. واعترض بأنه يلزم على ذلك إضافة الشيء لنفسه.
ورد بأن المراد أن الرباط بمعنى المربوط مطلقا إلا أنه استعمل في الخيل وخص بها فالإضافة باعتبار المفهوم الأصلي. وأجاب القطب بأن الرباط لفظ مشترك بين معاني الخيل وانتظار الصلاة بعد الصلاة والإقامة على جهاد العدو بالحرب، ومصدر رابطت أي لازمت فأضيف إلى أحد معانيه للبيان كما يقال: عين الشمس وعين الميزان، قيل: ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركا، وإذا كانت الإضافة من إضافة المطلق إلى المقيد فهي على معنى من التبعيضية، وجوز أن يكون جمع ربيط كفصيل وفصال أو جمع ربط ككعب وكعاب وكلب وكلاب. وعن عكرمة تفسيره بإناث الخيل وهو كتفسيره القوة بما سبق قريبا بعيد، وذكر ابن المنير أن المطابق للرمي أن يكون الرباط على بابه مصدرا، وعلى تفسير القوة بالحصون يتم التناسب بينه وبين رباط الخيل لأن العرب سمت الخيل حصونا وهي الحصون التي لا تحاصر كما في قوله:
ولقد علمت على تجنبي الردا أن الحصون الخيل لا مدر القرى
وقال:
وحصني من الأحداث ظهر حصاني وقد جاء مدحها فيما لا يحصى من الأخبار وصح «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة».
وأخرج أحمد عن معقل بن يسار، والنسائي عن أنس: لم يكن شيء أحب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد النساء من الخيل. وميز صلّى الله عليه وسلّم بعض أصنافها على بعض.
فقد أخرج أبو عبيدة عن الشعبي في حديث رفعه «التمسوا الحوائج على الفرس الكميت الأرثم المحجل الثلاث المطلق اليد اليمنى».
وأخرج أبو داود والترمذي وحسنه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «يمن الخيل في شقرها»
وأخرج مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يكره الشكال من الخيل»
واختلف في تفسيره ففي النهاية الشكال في الخيل أن تكون ثلاث قوائم محجلة وواحدة مطلقة تشبيها بالشكال الذي يشكل به الخيل لأنه يكون في ثلاث قوائم غالبا وقيل: هو أن تكون الواحدة محجلة والثلاث مطلقة، وقيل: هو أن تكون إحدى يديه وإحدى رجليه من خلاف محجلتين، وإنما كرهه عليه الصلاة والسلام تفاؤلا لأنه كالمشكول صورة، ويمكن أن يكون جرب ذلك الجنس فلم يكن فيه نجابة، وقيل: إذا كان مع ذلك أغر زالت الكراهة لزوال شبه الشكال انتهى.
ولا يخفى عليك أن حديث الشعبي يشكل على القول الأول إلا أن يقال: إنه يخصص عمومه وأن حديث التفاؤل غير ظاهر، والظاهر التشاؤم
وقد جاء «إنما الشؤم في ثلاث في الفرس والمرأة والدار»
وحمله الطيبي على الكراهة التي سببها ما في هذه الأشياء من مخالفة الشرع أو الطبع كما قيل: شؤم الدار ضيقها وسوء جيرانها وشؤم المرأة عقمها وسلاطة لسانها وشؤم الفرس أن لا يغزى عليها، لكن قال الجلال السيوطي في فتح المطلب المبرور: إن حديث التشاؤم بالمرأة والدار والفرس قد اختلف العلماء فيه هل هو على ظاهره أو مؤول؟ والمختار أنه على ظاهره وهو ظاهر قول مالك انتهى. ولا يعارضه ما
صح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: ذكر الشؤم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال عليه الصلاة والسلام: «إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس»
فإنه ليس نصا في استثناء نقيض المقدم وإن حمله عياض على ذلك لاحتمال أن يكون على حد
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «قد كان فيمن قبلكم من الأمم محدثون فإن يكن في أمتي منهم أحد فإنه عمر بن الخطاب»
وقد ذكروا هناك أن التعليق للدلالة على التأكيد والاختصاص ونظيره في ذلك:
221
إن كان لي صديق فهو زيد فإن قائله لا يريد به الشك في صداقة زيد بل المبالغة في أن الصداقة مختصة به لا تتخطاه إلى غيره ولا محظور في اعتقاد ذلك بعد اعتقاد أن المذكورات أمارات وأن الفاعل هو الله تبارك وتعالى. وقرأ الحسن «ومن ربط الخيل» بضم الباء وسكونها جمع رباط، وعطف ما ذكر على القوة بناء على المعنى الأول لها للايذان بفضلها على سائر أفرادها كعطف جبريل وميكال على الملائكة عليهم السلام تُرْهِبُونَ بِهِ أي تخوفون به، وعن الراغب أن الرهبة والرهب مخافة مع تحرز واضطراب وعن يعقوب أنه قرأ تُرْهِبُونَ بالتشديد.
وقرأ ابن عباس. ومجاهد «تخزون» والضمير المجرور لما استطعتم أو للاعداد وهو الأنسب، والجملة في محل النصب على الحالية من فاعل أعدوا أي أعدوا مرهبين به، أو من الموصول كما قال أبو البقاء، أو من عائده المحذوف أي أعدوا ما استطعتموه مرهبا به، وفي الآية إشارة إلى عدم تعين القتال لأنه قد يكون لضرب الجزية ونحوه مما يترتب على إرهاب المسلمين بذلك عَدُوَّ اللَّهِ المخالفين لأمره سبحانه وَعَدُوَّكُمْ المتربصين بكم الدوائر، والمراد بهم على ما ذكره جمع أهل مكة وهم في الغاية القصوى من العداوة، وقيل: المراد هم وسائر كفار العرب وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ أي من غيرهم من الكفرة، وقال مجاهد: هم بنو قريظة، وقال مقاتل وابن زيد: هم المنافقون، وقال السدي: هم أهل فارس.
وأخرج الطبراني وأبو الشيخ وابن المنذر وابن مردويه وابن عساكر وجماعة عن يزيد بن عبد الله بن غريب عن أبيه عن جده عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «هم الجن ولا يخبل الشيطان إنسانا في داره فرس عتيق» وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا،
واختاره الطبري وإذا صح الحديث لا ينبغي العدول عنه، وقوله سبحانه: لا تَعْلَمُونَهُمُ أي لا تعرفونهم بأعيانهم اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ لا غير في غاية الظهور وله وجه على غير ذلك وإطلاق العلم على المعرفة شائع وهم المراد هنا كما عرفت ولذا تعدى إلى مفعول واحد، وإطلاق العلم بمعنى المعرفة على الله تعالى لا يضر. نعم منع الأكثر إطلاق المعرفة عليه سبحانه وجوزه البعض بناء على إطلاق العارف عليه تعالى في نهج البلاغة وفيه بحث، وبالجملة لا حاجة إلى القول بأن الإطلاق هنا للمشاكلة لما قبله، وجوز أن يكون العلم على أصله ومفعوله الثاني محذوف أي لا تعلمونهم معادين أو محاربين لكم بل الله تعالى يعلمهم كذلك وهو تكلف، واختار بعضهم أن المعنى لا تعلمونهم كما عليه من العداوة وقال: إنه الأنسب بما تفيده الجملة الثانية من الحصر نظرا إلى تعليق المعرفة بالأعيان لأن أعيانهم معلومة لغيره تعالى أيضا وهو مسلم نظرا إلى تفسيره، وأما الاحتياج إليه في تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم ففيه تردد.
وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ جل أو قل فِي سَبِيلِ اللَّهِ وهي وجوه الخير والطاعة ويدخل في ذلك النفقة في الاعداد السابق والجهاد دخولا أوليا، وبعضهم خصص اعتبار للمقام يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي يؤدى بتمامه والمراد يؤدى إليكم جزاؤه فالكلام على تقدير المضاف أو التجوز في الإسناد وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ بترك الاثابة أو بنقص الثواب، وفي التعبير عن ذلك بالظلم مع أن له سبحانه أن يفعل ما يشاء للمبالغة كما مر.
وَإِنْ جَنَحُوا الجنوح الميل ومنه جناح الطائر لأنه يتحرك ويميل ويعدى باللام وبإلى أي وإن مالوا لِلسَّلْمِ أي الاستسلام والصلح وقرأ ابن عباس وأبو بكر بكسر السين وهو لغة فَاجْنَحْ لَها أي للسلم، والتأنيث لحمله على ضده وهو الحرب فإنه مؤنث سماعي. وقال أبو البقاء: إن السلم مؤنث ولم يذكر حديث الحمل وأنشدوا.
السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جرع
وقرأ الأشهب العقيلي «فاجنح» بضم النون على أنه من جنح يجنح كقعد يقعد وهي لغة قيس والفتح لغة تميم
222
وهي الفصحى، والآية قيل مخصوصة بأهل الكتاب فانها كما قال مجاهد والسدي نزلت في بني قريظة وهي متصلة بقصتهم بناء على أنهم المعنيون بقوله تعالى: الَّذِينَ عاهَدْتَ إلخ، والضمير في وَأَعِدُّوا لَهُمْ بهم، وقيل هي عامة للكفار لكنها منسوخة بآية السيف لأن مشركي العرب ليس لهم إلا الإسلام أو السيف بخلاف غيرهم فانه تقبل منهم الجزية، وروي القول بالنسخ عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وصحح أن الأمر فيمن تقبل منهم الجزية على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو سلم وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا أو يجابوا إلى الهدنة أبدا، وادعى بعضهم أنه لا يجوز للإمام أن يهادن أكثر من عشر سنين اقتداء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه صالح أهل مكة هذه المدة ثم إنهم نقضوا قبل انقضائها كما مر فذكر، وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي فوض أمرك إليه سبحانه ولا تخف أن يظهروا لك السلم وجوانحهم مطوية على المكر والكيد إِنَّهُ جل شأنه هُوَ السَّمِيعُ فيسمع ما يقولون في خلواتهم من مقالات الخداع الْعَلِيمُ فيعلم نياتهم فيؤاخذهم بما يستحقونه ويرد كيدهم في نحرهم وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ بإظهار السلم فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي محسبك الله وكافيك وناصرك عليهم فلا تبال بهم، فحسب صفة مشبهة بمعنى اسم الفاعل والكاف في محل جر كما نص عليه غير واحد وأنشدوا لجرير:
إني وجدت من المكارم حسبكم أن تلبسوا حر الثياب وتشبعوا
وقال الزجاج: إنه اسم فعل بمعنى كفاك والكاف في محل نصب، وخطأه فيه أبو حيان لدخول العوامل عليه وإعرابه في نحو بحسبك درهم ولا يكون اسم فعل هكذا هُوَ عزّ وجلّ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ استئناف مسوق لتعليل كفايته تعالى إياه صلّى الله عليه وسلّم فإن تأييده عليه الصلاة والسلام فيما سلف على الوجه الذي سلف من دلائل تأييده صلّى الله عليه وسلّم فيما سيأتي، أي هو الذي أيدك بإمداده من عنده بلا واسطة، أو بالملائكة مع خرقه للعادات وَبِالْمُؤْمِنِينَ من المهاجرين والأنصار على ما هو المتبادر.
وعن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه والنعمان بن بشير وابن عباس والسدي أنهم الأنصار رضي الله تعالى عنهم وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مع ما جبلوا عليه كسائر العرب من الحمية والعصبية والانطواء على الضغينة والتهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان حتى صاروا بتوفيقه تعالى كنفس واحدة.
وقيل: إن الأنصار وهم الأوس والخزرج كان بينهم من الحروب ما أهلك ساداتهم ودق جماجمهم ولم يكن لبغضائهم أمد وبينهم التجاور الذي يهيج الضغائن ويديم التحاسد والتنافس فأنساهم الله تعالى ما كان بينهم فاتفقوا على الطاعة وتصافوا وصاروا أنصارا وعادوا أعوانا وما ذاك إلا بلطيف صنعه تعالى وبليغ قدرته جل وعلا. واعترض هذا القول بأنه ليس في السياق قرينة عليه. وأجيب بأن كون المؤمنين مؤيدا بهم يشعر بكونهم أنصارا ولا يخفى ضعفه ولا تجد له أنصارا، وبالجملة ما وقع من التأليف من أبهر معجزاته عليه الصلاة والسلام لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي لتأليف ما بينهم ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لتناهي عداوتهم وقوة أسبابها، والجملة استئناف مقرر لما قبله ومبين لعزة المطلب وصعوبة المأخذ، والخطاب لكل واقف عليه لأنه لا مبالغة في انتفاء ذلك من منفق معين، وذكر القلوب للاشعار بأن التأليف بينها لا يتسنى وإن أمكن التأليف ظاهرا وَلكِنَّ اللَّهَ جلت قدرته أَلَّفَ بَيْنَهُمْ قلبا وقالبا بقدرته البالغة إِنَّهُ عَزِيزٌ كامل القدرة والغلبة لا يستعصي عليه سبحانه شيء مما يريد حَكِيمٌ يعلم ما يليق تعلق الإرادة به فيوجده بمقتضى حكمته عزّ وجلّ، ومن آثار عزته سبحانه تصرفه بالقلوب الأبية المملوءة من الحمية الجاهلية، ومن آثار حكمته تدبير أمورهم على وجه أحدث فيهم التواد والتحاب فاجتمعت كلمتهم، وصاروا جميعا كنانة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الذابين عنه بقوس واحدة، والجملة على ما قال الطيبي كالتعليل للتأليف هذا «ومن باب الإشارة
223
إلى الآيات» وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ إلى قوله سبحانه: وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ طبقه بعض العارفين على ما في الأنفس فقال: وَاعْلَمُوا أي أيها القوى الروحانية أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ من العلوم النافعة فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وهي كلمة التوحيد التي هي الأساس الأعظم للدين وَلِلرَّسُولِ الخاص وهو القلب وَلِذِي الْقُرْبى الذي هو السر وَالْيَتامى من القوة النظرية والعملية وَالْمَساكِينِ من القوى النفسانية وَابْنِ السَّبِيلِ الذي هو النفس السالكة الداخلة في الغربة السائحة في منازل السلوك النائية عن مقرها الأصلي باعتبار التوحيد التفصيلي والأخماس الأربعة الباقية بعد هذا الخمس من الغنيمة تقسم على الجوارح والأركان والقوى الطبيعية إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ تعالى الإيمان الحقيقي جمعا وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ وقت التفرقة بعد الجمع تفصيلا يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ من فريقي القوى الروحانية والنفسانية عند الرجوع إلى مشاهدة التفصيل في الجمع وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيتصرف فيه حسب مشيئته وحكمته إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا أي القريبة من مدينة العلم ومحل العقل الفرقاني وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي البعيدة من الحق وَالرَّكْبُ أي ركب القوى الطبيعية الممتازة أَسْفَلَ مِنْكُمْ معشر الفريقين وَلَوْ تَواعَدْتُمْ اللقاء لمحاربة من طريق العقل دون طريق الرياضة لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ لكون ذلك أصعب من خرط القتاد وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا مقدرا محققا فعل ذلك لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وهي النفس الملازمة للبدن الواجب الفناء وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وهي الروح المجردة المتصلة بعالم القدس الذي هو معدن الحياة الحقيقية الدائم البقاء، وبينة الأول تلك الملازمة وبينة الثاني ذلك التجرد والاتصال إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ أيها القلب فِي مَنامِكَ وهو وقت تعطل الحواس الظاهرة وهدو القوى البدنية قَلِيلًا أي قليلي القدر ضعاف الحال وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً في حال غلبة صفات النفس لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أمر كسرها وقهرها لانجذاب كل منكم إلى جهة وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي بحقيقتها فيثبت علمه بما فيها من باب الأولى وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وهم القوى النفسانية خرجوا من مقارهّم وحدودهم بَطَراً فخرا وأشرا وَرِئاءَ النَّاسِ وإظهارا للجلادة.
وقال بعضهم: حذر الله بهذه الآية أولياءه عن مشابهة أعدائه في رؤية غيره سبحانه وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهو التوحيد والمعرفة وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أي شيطان الوهم أَعْمالَهُمْ في التغلب على مملكة القلب وقواه وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أو همهم تحقيق أمنيتهم بأن لا غالب لكم من ناس الحواس وكذا سائر القوى وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أمدكم وأقويكم وأمنعكم من ناس القوى الروحانية فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ لشعوره بحال القوى الروحانية وغلبتها لمناسبته إياها من حيثية إدراك المعاني وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ لأني لست من جنسكم إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ من المعاني ووصول المدد إليهم من سماء الروح وملكوت عالم القدس إِنِّي أَخافُ اللَّهَ سبحانه لشعور ببعض أنواره وقهره، وذكر الواسطي بناء على أن المراد من الشيطان الظاهر، أن اللعين ترك ذنب الوسوسة إذ ذاك لكن ترك الذنب إنما يكون حسنا إذا كان إجلالا وحياء من الله تعالى لا خوفا من البطش فقط وهو لم يخف إلا كذلك وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ إذ صفاته الذاتية والفعلية في غاية الكمال اهـ بأدنى تغيير وزيادة. وذكر أن الفائدة في مثل هذا التأويل تصوير طريق السلوك للتنشيط في الترقي والعروج وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا وهم الذين غلبت عليهم صفات النفس الْمَلائِكَةُ أي ملائكة لميلهم إلى عالم الطبيعة ومضاعف الشهوة والحرص ويقولون لهم ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ وهو عذاب الحرمان وفوات المقصود ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ
224
يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ
أي حتى يفسدوا استعدادهم فلا تبقى لهم مناسبة للخير وحينئذ يغير سبحانه النعمة إلى النقمة لطلبهم إياها بلسان الاستعداد وإلا فالله تعالى أكرم من أن يسلب نعمة شخص مع بقاء استحقاقها فيه إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا لجهلهم بربهم وعصيانهم له دون سائر الدواب فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لغلبة شقاوتهم ومزيد عتوهم وغيهم الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ من مرات المعاهدة لأن ذلك شنشنة فيهم مع مولاهم، ألا ترى كيف نقضوا عهد التوحيد الذي أخذ منهم في منزل أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ العار ولا النار وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ قال أبو علي الروذباري: القوة هي الثقة بالله تعالى، وقال بعضهم: هي الرمي بسهام التوجه إلى الله تعالى عن قسيّ الخضوع والاستكانة هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ الذي لم يعهد مثله وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ يجذبها إليه تعالى وتخليصها مما يوجب العداوة والبغضاء، أو لكشفه سبحانه لها عن حجب الغيب حتى تعارفوا فيه والأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لصعوبة الأمر وكثافة الحجاب وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ والتأليف من آثار ذلك والله تعالى الهادي إلى سواء السبيل.
225
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ شروع في بيان كفايته تعالى إياه عليه الصلاة والسلام في جميع أموره وحده أو مع أمور المؤمنين أو في الأمور المتعلقة بالكفار كافة إثر بيان الكفاية في مادة خاصة وتصدير الجملة بحرفي النداء والتنبيه للنداء والتنبيه على الاعتناء بمضمونها، وإيراده عليه الصلاة والسلام بعنوان النبوة للاشعار بعلية الحكم كأنه قيل: يا أيها النبي حَسْبُكَ اللَّهُ أي كافيك في جميع أمورك أو فيما بينك وبين الكفرة من الحرب لنبوتك.
وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال الزجاج: في محل النصب على المفعول معه كقوله على بعض الروايات:
فحسبك والضحاك سيف مهند إذا كانت الهيجاء واشتجر القنا
وتعقبه أبو حيان بأنه مخالف لكلام سيبويه فانه جعل زيدا في قولهم: حسبك وزيدا درهم منصوبا بفعل مقدر أي وكفى زيدا درهم، وهو من عطف الجمل عنده انتهى، وأنت تعلم أن سيبويه كما قال ابن تيمية لأبي حيان لما احتج عليه بكلامه حين أنشد له قصيدة فغلطه فيها ليس نبي النحو فيجب اتباعه، وقال الفراء: إنه يقدر نصبه على موضع الكاف، واختاره ابن عطية، ورده السفاقسي بأن إضافته حقيقية لا لفظية فلا محل له اللهم إلا أن يكون من عطف التوهم وفيه ما فيه.
وجوز أن يكون في محل الجر عطفا على الضمير المجرور وهو جائز عند الكوفيين بدون إعادة الجار ومنعه البصريون بدون ذلك لأنه كجزء الكلمة فلا يعطف عليه، وأن يكون في محل رفع إما على أنه مبتدأ والخبر محذوف أي ومن اتبعك من المؤمنين كذلك أي حسبهم الله تعالى، وإما على أنه خبر مبتدأ محذوف أي وحسبك من اتبعك، وإما على أنه عطف على الاسم الجليل واختاره الكسائي وغيره. وضعف بأن الواو للجمع ولا يحسن هاهنا كما لم يحسن في ما شاء الله تعالى وشئت والحسن فيه ثم وفي الأخبار ما يدل عليه اللهم إلا أن يقال بالفرق بين وقوع ذلك منه تعالى وبين وقوعه منا. والآية على ما روي عن الكلبي نزلت في البيداء في غزوة بدر قبل القتال، والظاهر شمولها للمهاجرين والأنصار. وعن الزهري أنها نزلت في الأنصار.
وأخرج الطبراني وغيره عن ابن عباس وابن المنذر عن ابن جبير وأبو الشيخ عن ابن المسيب أنها نزلت يوم أسلم عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه مكملا أربعين مسلما ذكورا وإناثا هن ست وحينئذ تكون مكية.
ومَنِ يحتمل أن تكون بيانية وأن تكون تبعيضية وذلك للاختلاف في المراد بالموصول.
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ بعد أن بين سبحانه الكفاية أمر جل شأنه نبيه صلّى الله عليه وسلّم بترتيب بعض مباديها، وتكرير الخطاب على الوجه المذكور لاظهار كمال الاعتناء بشأن المأمور به، والتحريض الحث على الشيء.
وقال الزجاج: هو في اللغة أن يحث الإنسان على شيء حتى يعلم منه أنه حارض أي مقارب للهلاك، وعلى هذا فهو للمبالغة في الحث، وزعم في الدر المصون أن ذلك مستبعد من الزجاج، والحق معه، ويؤيده ما قاله الراغب من أن الحرض يقال لما أشرف على الهلاك والتحريض الحث على الشيء بكثرة التزيين وتسهيل الخطب فيه كأنه في الأصل إزالة الحرض نحو قذيته أزلت عنه القذى ويقال: أحرضته إذا أفسدته نحو أقذيته إذا جعلت فيه القذى، فالمعنى هنا يا أيها النبي بالغ في حث المؤمنين على قتال الكفار.
وجوز أن يكون من تحريض الشخص وهو أن يسميه حرضا ويقال له: ما أراك إلا حرضا في هذا الأمر ومحرضا
226
فيه، ونحوه فسقته أي سميته فاسقا، فالمعنى سمهم حرضا وهو من باب التهييج والالهاب، والمعنى الأول هو الظاهر.
وقرىء «حرص» بالصاد المهملة من الحرص وهو واضح.
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً شرط في معنى الأمر بمصابرة الواحد العشرة والوعد بأنهم إن صبروا غلبوا بعون الله تعالى وتأييده، فالجملة خبرية لفظا إنشائية معنى، والمراد ليصبرن الواحد لعشرة وليست بخبر محض، وجعلها الزمخشري عدة من الله تعالى وبشارة وهو ظاهر في كونها خبرية، والآية كما ستعلم قريبا إن شاء الله تعالى منسوخة، والنسخ في الخبر فيه كلام في الأصول، على أنه قد ذكر الإمام أنه لو كان الكلام خبرا لزم أن لا يغلب قط مائتان من الكفار عشرين من المؤمنين ومعلوم أنه ليس كذلك، والاعتراض عليه بأن التعليق الشرطي يكفي فيه ترتب الجزاء على الشرط في بعض الأزمان لا في كلها ليس بشيء كما بينه الشهاب، وذكر الشرطية الثانية مع انفهام مضمونها مما قبلها للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت لأن الحال قد تتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين والمائة الألف وكذا يقال فيما يأتي.
ويَكُنْ يحتمل أن يكون تاما والمرفوع فاعله ومِنْكُمْ حال منه أو متعلق بالفعل ويحتمل أن يكون ناقصا والمرفوع اسمه ومِنْكُمْ خبره، وقوله تعالى: مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بيان للألف، وقوله سبحانه: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ متعلق بيغلبوا أي بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى وباليوم الآخر لا يقاتلون احتسابا وامتثالا لأمر الله تعالى وإعلاء لكلمته وابتغاء لرضوانه كما يفعل المؤمنون وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية واتباع خطوات الشيطان وإثارة ثائرة البغي والعدوان فلا يستحقون إلا القهر والخذلان، وقال بعضهم: وجه التعليل بما ذكر أن من لا يؤمن بالله تعالى واليوم الآخر لا يؤمن بالمعاد والسعادة عنده ليست إلا هذه الحياة الدنيا فيشح بها ولا يعرضها للزوال بمزاولة الحروب واقتحام موارد الخطوب فيميل إلى ما فيه السلامة فيفر فيغلب، وأما من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة الفانية وإنما السعادة هي الحياة الباقية فلا يبالي بهذه الحياة الدنيا ولا يلتفت إليها فيقدم على الجهاد بقلب قوي وعزم صحيح فيقوم الواحد من مثله مقام الكثير انتهى.
وتعقب بأنه كلام حق لكنه لا يلائم المقام الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ أخرج البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: لما نزلت إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ إلخ شق ذلك على المسلمين إذ فرض عليهم أن لا يفر واحد من عشرة فجاء التخفيف، وكان ذلك كما قيل بعد مدة، وقيل: كان فيهم قلة في الابتداء ثم لما كثروا بعد نزول التخفيف وهل يعد ذلك نسخا أم لا؟ قولان اختار مكي الثاني منهما وقال: إن الآية مخففة، ونظير ذلك التخفيف على المسافر بالفطر، وذهب الجمهور إلى الأول وقالوا: إن الآية ناسخة وثمرة الخلاف قيل تظهر فيما إذا قاتل واحد عشرة فقتل هل يأثم أم لا، فعلى الأول لا يأثم وعلى الثاني يأثم، والضعف الطارئ بعد عدم القوة البدنية على الحرب لأنه قد صار فيهم الشيخ والعاجز ونحوهما وكانوا قبل ذلك طائفة منحصرة معلومة قوتهم وجلادتهم أو ضعف البصيرة والاستقامة وتفويض النصر إلى الله تعالى إذ حدث فيهم قوم حديثو عهد بالإسلام ليس لهم ما للمتقدمين من ذلك، وذكر بعضهم في بيان كون الكثرة سببا للضعف أن بها يضعف الاعتماد على الله تعالى والتوكل عليه سبحانه ويقوى جانب الاعتماد على الكثرة كما في حنين والأول هو الموجب للقوة كما يرشد إليه وقعة بدر، ومن هنا قال النصراباذي: إن هذا التخفيف كان للأمة دون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنه الذي يقول بك أصول وبك أجول، وتقييد التخفيف
227
بالآن ظاهر وأما تقييد علم الله تعالى به فباعتبار تعلقه، وقد قالوا: إن له تعلقا بالشيء قبل الوقوع وحال الوقوع وبعده وقال الطيبي: المعنى الآن خفف الله تعالى عنكم لما ظهر متعلق علمه أي كثرتكم التي هي موجب ضعفكم بعد ظهور قلتكم وقوتكم. وقرأ أكثر القراء «ضعفا» بضم الضاد وهي لغة فيه كالفقر والمكث.
ونقل عن الخليل أن الضعف بالفتح ما في الرأي والعقل وبالضم ما في البدن. وقرأ أبو جعفر «ضعفاء» جمع ضعيف، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر يكن المسند إلى المائة في الآيتين بالتاء اعتبار للتأنيث اللفظي، ووافقهم أبو عمرو ويعقوب في يكن في الآية الثانية لقوة التأنيث بالوصف بصابرة المؤنث وأما إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ فالجميع على التذكير فيه. نعم روي عن الأعرج أنه قرأ بالتأنيث وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ تذييل مقرر لمضمون ما قبله، وفي النظم الكريم صنعة الاحتباك قال في البحر: انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث أثبت قيدا في الجملة الأولى وهو صابرون وحذف نظيره من الثانية وأثبت قيدا في الثانية وهو مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وحذفه من الأولى ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية لدلالة السابقة عليه ثم ختم الآية بقوله سبحانه: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ مبالغة في شدة المطلوبية ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر اكتفاء بما قبله، انتهى.
وذكر الشهاب أنه بقي عليه أنه سبحانه ذكر في التخفيف بإذن الله وهو قيد لهما وأن قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ إشارة إلى تأييدهم وأنهم منصورون حتما لأن من كان الله تعالى معه لا يغلب، وأنا أقول: لا يبعد أن يكون في قوله تعالى: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ تحريض لهم على الصبر بالإشارة إلى أن أعداءهم إن صبروا كان الله تعالى معهم فأمدهم ونصرهم، وبقي في هذا الكلام الجليل لطائف غير ما ذكر فالله تعالى در التنزيل ما أعذب ماء فصاحته وأنضر رونق بلاغته ما كانَ لِنَبِيٍّ قرأ أبو الدرداء. وأبو حيوة «للنبي» بالتعريف والمراد به نبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو عليه الصلاة والسلام المراد أيضا على قراءة الجمهور عند البعض، وإنما عبر بذلك تلطفا به صلّى الله عليه وسلّم حتى لا يواجه بالعتاب، ولذا قيل: إن ذاك على تقدير مضاف أي لأصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل قوله تعالى الآتي: تُرِيدُونَ ولو قصد بخصوصه عليه الصلاة والسلام لقيل: تريد، ولأن الأمور الواقعة في القصة صدرت منهم لا منه صلّى الله عليه وسلّم وفيه نظر ظاهر، والظاهر أن المراد على قراءة الجمهور العموم ولا يبعد اعتباره على القراءة الأخرى أيضا وهو أبلغ لما فيه من بيان أن ما يذكر سنة مطردة فيما بين الأنبياء عليهم السلام، أي ما صح وما استقام لنبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى.
قرأ أبو عمرو ويعقوب «تكون» بالتاء الفوقية اعتبارا لتأنيث الجمع،
وعن أبي جعفر أنه قرأ أيضا «أسارى»
قال أبو علي: وقراءة الجماعة أقيس لأن أسيرا فعيل بمعنى مفعول، والمطرد فيه جمعه على فعلى كجريح وجرحى وقتيل وقتلى، ولذا قالوا في جمعه على أسارى: إنه على تشبيه فعيل بفعلان ككسلان وكسالى، وهذا كما قالوا كسلى تشبيها لفعلان بفعيل ونسب ذلك إلى الخليل، وقال الأزهري: إنه جمع أسرى فيكون جمع الجمع، واختار ذلك الزجاج وقال: إن فعلى جمع لكل من أصيب في بدنه أو في عقله كمريض ومرضى وأحمق وحمقى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ أي يبالغ في القتل ويكثر منه حتى يذل الكفر ويقل حزبه ويعز الإسلام ويستولي أهله، وأصل معنى الثخانة الغلظ والكثافة في الأجسام ثم استعير للمبالغة في القتل والجراحة لأنها لمنعها من الحركة صيرته كالثخين الذي لا يسيل، وقيل: إن الاستعارة مبنية على تشبيه المبالغة المذكورة بالثخانة في أن في كل منهما شدة في الجملة، وذكر في الأرض للتعميم، وقرىء «يثّخّن» بالتشديد للمبالغة في المبالغة تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا استئناف مسوق للعتاب، والعرض ما لا ثبات له ولو جسما.
وفي الحديث «الدنيا عرض حاضر»
أي لا ثبات لها، ومنه استعاروا العرض
228
المقابل للجوهر، أي تريدون حطام الدنيا بأخذكم الفدية، وقرىء «يريدون» بالياء، والظاهر أن ضمير الجمع لأصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي يريد لكم ثواب الآخرة أو سبب نيل الآخرة من الطاعة بإعزاز دينه وقمع أعدائه، فالكلام على حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، وذكر نيل في الاحتمال الثاني قيل: للتوضيح لا لتقدير مضافين، والإرادة هنا بمعنى الرضا، وعبر بذلك للمشاكلة فلا حجة في الآية على عدم وقوع مراد الله تعالى كما يزعمه المعتزلة، وزيادة لكم لأنه المراد، وقرأ سليمان بن جماز المدني «الآخرة» بالجر وخرجت على حذف المضاف وإبقاء المضاف إليه على جره، وقدره أبو البقاء عرض الآخرة وهو من باب المشاكلة وإلا فلا يحسن لأن أمور الآخرة مستمرة، ولو قيل: إن المضاف المحذوف على القراءة الأولى ذلك لذلك أيضا لم يبعد، وقدر بعضهم هنا كما قدرنا هناك من الثواب أو السبب، ونظير ما ذكره قوله:
أكل امرئ تحسبين أمرأ ونار توقّد في الليل نارا
وفي رواية من جر نار الأولى، وأبو الحسن يحمله على العطف على معمولي عاملين مختلفين وَاللَّهُ عَزِيزٌ يغلب أولياءه على أعدائه حَكِيمٌ يعلم ما يليق بكل حال ويخصه بها كما أمر بالإثخان ونهى عن أخذ الفدية حيث كان الإسلام غضّا وشوكة أعدائه قوية، وخير بينه وبين المن بقوله تعالى: فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [محمد: ٤] لما تحولت الحال واستغلظ زرع الإسلام واستقام على سوقه.
أخرج أحمد والترمذي وحسنه. والطبراني. والحاكم وصححه عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: «لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟ فقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله تعالى أن يتوب عليهم، وقال عمر رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله كذبوك وأخرجوك وقاتلوك قدمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله انظر واديا كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا. فقال العباس وهو يسمع ما يقول: قطعت رحمك، فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يردّ عليهم شيئا، فقال أناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن الله تعالى ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم عليه السلام قال: فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [إبراهيم: ٣٦] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى عليه السلام قال: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [المائدة: ١١٨] ومثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام إذ قال: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ [يونس: ٨٨] فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس: ٨٨] ومثلك يا عمر نوح إذ قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً أنتم عالة فلا يفلتن أحد إلا بفداء أو ضرب عنق، فقال عبد الله رضي الله تعالى عنه: يا رسول الله إلا سهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ الحجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: إلا سهيل بن بيضاء».
وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما «قال عمر رضي الله تعالى عنه: فهوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قالت وأخذ منهم الفداء، فلما كان الغد جئت فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر قاعدان يبكيان قلت: يا رسول الله أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد تباكيت لبكائكما؟ فقال رسول الله
229
عليه الصلاة والسلام: أبكي على أصحابك في أخذهم الفداء ولقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة لشجرة قريبة منه صلّى الله عليه وسلّم».
واستدل بالآية على أن الأنبياء عليهم السلام قد يجتهدون وأنه قد يكون الوحي على خلافه ولا يقرون على الخطأ، وتعقب بأنها إنما تدل على ذلك لو لم يقدر في ما كانَ لِنَبِيٍّ لأصحاب نبي ولا يخفى أن ذلك خلاف الظاهر مع أن الإذن لهم فيما اجتهدوا فيه اجتهاد منه عليه الصلاة والسلام إذ لا يمكن أن يكون تقليدا لأنه لا يجوز له التقليد، وأما أنها إنما تدل على اجتهاد النبي صلّى الله عليه وسلّم لا اجتهاد غيره من الأنبياء عليهم السلام فغير وارد لأنه إذا جاز له عليه الصلاة والسلام جاز لغيره بالطريق الأولى، وتمام البحث في كتب الأصول، لكن بقي هاهنا شيء وهو أنه قد جاء من اجتهد وأخطأ فله أجر ومن اجتهد وأصاب فله أجران إلى عشرة أجور فهل بين ما يقتضيه الخبر من ثبوت الأجر الواحد للمجتهد المخطئ وبين عتابه على ما يقع منه منافاة أم لا؟ لم أر من تعرض لتحقيق ذلك، وإذا قيل: بالأول لا يتم الاستدلال بالآية كما لا يخفى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ قيل: أي لولا حكم منه تعالى سبق إثباته في اللوح المحفوظ وهو أن لا يعذب قوما قبل تقديم ما يبين لهم أمرا أو نهيا، وروى ذلك الطبراني في الأوسط. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ورواه أبو الشيخ عن مجاهد أو المخطئ في مثل هذا الاجتهاد، وقيل: هو أن لا يعذبهم ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيهم أو أن لا يعذب أهل بدر رضي الله تعالى عنهم،
فقد روى الشيخان وغيرهما «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر رضي الله تعالى عنه في قصة حاطب وكان قد شهد بدرا: وما يدريك لعل الله تعالى اطلع على أهل بدر، وقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم»
وقريب من هذا ما روي عن مجاهد أيضا، وابن جبير وزعم أن هذا قول بسقوط التكليف لا يصدر إلا عمن سقط عنه التكليف، والعجب من الإمام الرازي كيف تفوه به لأن المراد أن من حضر بدرا من المؤمنين يوفقه الله تعالى لطاعته، ويغفر له الذنب لو صدر منه ويثبته على الإيمان الذي ملأ به صدره إلى الموافاة لعظم شأن تلك الوقعة إذ هي أول وقعة أعز الله تعالى بها الإسلام وفاتحة للفتوح والنصر من الله عزّ وجلّ، وليس الأمر في الحديث على حقيقته كما لا يخفى، وقيل: هو أن الفدية التي أخذوها ستصير حلالا لهم. واعترض بأن هذا لا يصلح أن يعد من موانع مساس العذاب فإن الحل اللاحق لا يرفع حكم الحرمة السابقة كما أن الحرمة اللاحقة كما في الخمر مثلا لا ترفع حكم الإباحة السابقة، على أنه قادح في تهويل ما نعي عليهم من أخذ الفداء كما يدل عليه قوله سبحانه: لَمَسَّكُمْ أي لأصابكم فِيما أَخَذْتُمْ أي لأجل أخذكم أو الذي أخذتموه من الفداء عَذابٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره.
وأجيب بأنه لا مانع من اعتبار كونها ستحل سببا للعفو ومانعا عن وقوع العذاب الدنيوي المراد بما في الآية وإن لم يعتبر في وقت من الأوقات كون المباح سيحرم سببا للانتقام ومانعا من العفو تغليبا لجانب الرحمة على الجانب الآخر، وحاصل المعنى أن ما فعلتم أمر عظيم في نفسه مستوجب للعذاب العظيم لكن الذي تسبب العفو عنه ومنع ترتب العذاب عليه إني سأحله قريبا لكم، ومثل ذلك نظرا إلى رحمتي التي سبقت غضبي يصير سببا للعفو ومانعا عن العذاب، وكأن الداعي لتكلف هذا الجواب أن ما ذكر أخرجه ابن أبي حاتم وابن مروديه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه وأخرجاهما والبيهقي وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أيضا، ولا يبعد عندي أن يكون المانع من مساس العذاب كل ما تقدم، وفي ذلك تهويل لما نعي عليهم حيث منع من ترتب مساس العذاب عليه موانع جمة ولولا تلك الموانع الجمة لترتب، وتعدد موانع شيء واحد جائز وليس كتعدد العلل واجتماعها على معلول واحد شخصي كما بين في موضعه، وبهذا يجمع بين الروايات المختلفة عن الخبر في بيان هذا الكتاب، وذلك بأن
230
يكون في كل مرة ذكر أمرا واحدا من تلك الأمور، والتنصيص على الشيء بالذكر لا يدل على نفي ما عداه وليس في شيء من الروايات ما يدل على الحصر فافهم، وقال بعضهم: إن المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم ونصركم لمسكم عذاب عظيم من أعدائكم بغلبتهم لكم وتسليطهم عليكم يقتلون ويأسرون وينبهون وفيه نظر، لأنه ان أريد بهذه الغلبة المفروضة الغلبة في بدر فالأخذ الذي هو سببها إنما وقع بعد انقضاء الحرب، وحينئذ يكون مآل المعنى لولا حكم الله تعالى بغلبتكم لغلبكم الكفار قبل بسبب ما فعلتم بعد وهو كما ترى، وإن أريد الغلبة بعد ذلك فهي قد مست القوم في أحد فإن أعداءهم قد قتلوا منهم سبعين عدد الأسرى وكان ما كان فلا يصح نفي المس حينئذ. نعم
أخرج ابن جرير عن محمد بن إسحاق أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عند نزول هذه الآية: «لو أنزل من السماء عذاب لما نجا منه غير عمر بن الخطاب وسعد بن معاذ لقوله: كان الإثخان في القتل أحب إلي»
وأخرجه ابن مردويه عن ابن عمر لكن لم يذكر فيه سعد بن معاذ وذلك يدل على أن المراد بالعذاب عذاب الدنيا غير القتل مما لم يعهد لمكان نزل من السماء، وحينئذ لا يرد أنه استشهد منهم بعدتهم لأن الشهادة لا تعد عذابا، لكن هذا لا ينفع ذلك القائل لأنه لم يفسر العذاب إلا بالغلبة وهي صادقة في مادة الشهادة فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ قال محيي السنة: روي أنه لما نزلت الآية الأولى كف أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيديهم عما أخذوا من الفداء فنزلت هذه الآية، فالمراد مما غنمتم إما الفدية وإما مطلق الغنائم، والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية وإلا فحل الغنيمة مما عداها قد علم سابقا من قوله سبحانه: وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ إلخ بل قال بعضهم: إن الحل معلوم قبل ذلك بناء على ما في كتاب الأحكام أن أول غنيمة في الإسلام حين أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه لبدر الأولى ومعه ثمانية رهط من المهاجرين رضي الله تعالى عنهم فأخذوا عيرا لقريش وقدموا بها على النبي صلّى الله عليه وسلّم فاقتسموها وأقرهم على ذلك.
ويؤيد القول بأن هذه الآية محللة للفدية ما أخرجه ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه مما هو نص في ذلك، وقيل: المراد بما غنمتم من غير اندراج فيها لأن القوم لما نزلت الآية الأولى امتنعوا عن الأكل والتصرف فيها تزهدا منهم لا ظنا لحرمتها إذ يبعده أن الحل معلوم لهم مما مر وليس بالبعيد والقول بأن القول الأول مما يأباه سياق النظم الكريم وسياقه ممنوع ودون إثباته الموت الأحمر.
والفاء للعطف على سبب مقدر، أي قد أبحت لكم الغنائم فكلوا مثلا، وقيل: قد يستغنى عن العطف على السبب المقدر بعطفه على ما قبله لأنه بمعناه، أي لا أؤاخذكم بما أخذتم من الفداء فكلوه، وزعم بعضهم أن الأظهر تقدير دعوا والعطف عليه، أي دعوا ما أخذتم فكلوا مما غنمتم وهو مبني على ما ذهب إليه من الآباء، وبنحو هذه الآية تشبث من زعم أن الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة، وضعف بأن الإباحة ثبتت هنا بقرينة أن الأكل إنما أمر به لمنفعتهم فلا ينبغي أن تثبت على وجه المضرة والمشقة، وقوله تعالى: حَلالًا حال من ما الموصولة أو من عائدها المحذوف أو صفة للمصدر أي أكلا حلالا، وفائدة ذكره وكذا ذكره قوله تعالى: طَيِّباً تأكيد الإباحة لما في العتاب من الشدة وَاتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ولذا غفر لكم ذنبكم وأباح لكم ما أخذتموه، وقيل: فيغفر لكم ما فرط منكم من استباحة الفداء قبل ورود الإذن ويرحمكم ويتوب عليكم إذا اتقيتموه يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ أي في ملكتكم واستيلائكم كأن أيديكم قابضة عليهم مِنَ الْأَسْرى الذين أخذتم منهم الفداء، وقرأ أبو عمرو وأبو جعفر من «الأسارى» إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً إيمانا وتصديقا كما قال ابن عباس يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء.
والآية على ما في رواية ابن سعد وابن عساكر نزلت في جميع أسارى بدر وكان فداء العباس منهم أربعين أوقية
231
وفداء سائرهم عشرين أوقية، وعن محمد بن سيرين أنه كان فداؤهم مائة أوقية والأوقية أربعون درهما وستة دنانير.
وجاء في رواية أنها نزلت في العباس رضي الله تعالى عنه،
وقد روي عنه أنه قال: كنت مسلما لكن استكرهوني فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن يكن ما تذكر حقا فالله تعالى يجزيك فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا فاد نفسك وابني أخويك نوفل بن الحارث وعقيل بن أبي طالب وحليفك عتبة بن عمرو فقلت: ما ذاك عندي يا رسول الله، قال عليه الصلاة: فأين الذي دفنت أنت وأم الفضل؟ فقلت لها: إني لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا فإن حدث بي حدث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله وقثم فقلت: ما يدريك فقال صلّى الله عليه وسلّم: أخبرني ربي فعند ذلك قال العباس: أشهد أنك صادق وأن لا إله إلا الله وأنك رسول الله إنه لم يطلع على ذلك أحد إلا الله تعالى ولقد دفعته إليها في سواد الليل»،
وروي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال بعد حين: أبدلني الله خيرا من ذلك لي الآن عشرون عبدا إن أدناهم ليضرب في عشرين ألفا وأعطاني زمزم وما أحب أن لي بها جميع أموال مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربكم بتأويل ما في قوله تعالى: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإنه وعد بالمغفرة مؤكد بالاعتراض التذييلي،
وروي أنه قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مال البحرين ثمانون ألفا فتوضأ صلّى الله عليه وسلّم وما صلى حتى فرقه وأمر العباس أن يأخذ منه فأخذ ما قدر على حمله، وكان رضي الله تعالى عنه يقول: هذا خير مما أخذ مني وأرجو المغفرة،
والظاهر أن الآية عامة لسائر الأسارى على ما يقتضيه صيغة الجمع، ولا يأبى ذلك رواية أنها نزلت في العباس لما قالوا من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقرأ الأعمش «يثبكم خيرا» والحسن وشيبة «مما أخذ منكم» على البناء للفاعل وَإِنْ يُرِيدُوا أي الأسرى خِيانَتَكَ أي نقض ما عاهدوك عليه من إعطاء الفدية أو أن لا يعودوا لمحاربتك ولا إلى معاضدة المشركين، ويجوز أن يكون المراد وأن يريدوا نكث ما بايعوك عليه من الإسلام والردة واستحباب دين آبائهم فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بالكفر ونقض ميثاقه المأخوذ على كل عاقل بل ادعى بعضهم أنه الأقرب فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي أقدرك عليهم حسبما رأيت في بدر فإن أعادوا الخيانة فاعلم أنه سيمكنك الله تعالى منهم أيضا فالمفعول محذوف، وقوله سبحانه:
فَقَدْ خانُوا قائم مقام الجواب، والجملة كلام مسوق من جهته تعالى لتسليته عليه الصلاة والسلام بطريق الوعد له صلّى الله عليه وسلّم والوعيد لهم، وَاللَّهُ عَلِيمٌ فيعلم ما في نياتهم وما يستحقونه من العقاب حَكِيمٌ يفعل كل ما يفعله حسبما تقتضيه حكمته البالغة إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا هم المهاجرون الذين هجروا أوطانهم وتركوها لأعدائهم في الله لله عزّ وجل وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ فصرفوها للكراع والسلاح وأنفقوها على المحاويج من المسلمين وَأَنْفُسِهِمْ بمباشرة القتال واقتحام المعارك والخوض في لجج المهالك فِي سَبِيلِ اللَّهِ قيل: هو متعلق بجاهدوا قيد لنوعي الجهاد، ويجوز أن يكون من باب التنازع في العمل بين هاجروا وجاهدوا ولعل تقديم الأموال على الأنفس لما أن المجاهدة بالأموال أكثر وقوعا وأتم دفعا للحاجة حيث لا يتصور المجاهدة بالنفس بلا مجاهدة بالمال، وقيل: ترتيب هذه المتعاطفات في الآية على حسب الوقوع فإن الأول الإيمان ثم الهجرة ثم الجهاد بالمال لنحو التأهب للحرب ثم الجهاد بالنفس وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا هم الأنصار آووا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وآثروهم على أنفسهم ونصروهم على أعدائهم أُولئِكَ أي المذكورون الموصوفون بالصفات الفاضلة، وهو مبتدأ وقوله تعالى: بَعْضُهُمْ إما بدل منهم، وقوله سبحانه: أَوْلِياءُ بَعْضٍ خبر وإما مبتدأ ثان وأَوْلِياءُ خبره والجملة خبر للمبتدأ الأول أي بعضهم أولياء بعض في الميراث على ما هو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
والحسن ومجاهد والسدي وقتادة فإنهم قالوا: آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار رضي الله تعالى عنهم فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري إذا لم يكن له بالمدينة ولي مهاجري ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير
232
المهاجري واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة ثم توارثوا بالنسبة بعد إذ لم تكن هجرة، فالولاية على هذا الوراثة المسببة عن القرابة الحكمية.
والآية منسوخة، وقال الأصم: هي محكمة، والمراد الولاية بالنصرة والمظاهرة وكأنه لم يسمع قوله تعالى:
فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ بعد نفي موالاتهم في الآية الآتية وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا كسائر المؤمنين ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي توليهم في الميراث وإن كانوا أقرب ذوي قرابتكم حَتَّى يُهاجِرُوا وحينئذ يثبت لهم الحكم السابق. وقرأ حمزة والأعمش ويحيى بن وثاب «ولايتهم» بالكسر، وزعم الأصمعي أنه خطأ وهو المخطئ فقد تواترات القراءة بذلك، وجاء في اللغة الولاية مصدرا بالفتح والكسر وهما لغتان فيه بمعنى واحد وهو القرب الحسي والمعنوي كما قيل، وقيل: بينهما فرق فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه والكسر ولاية السلطان ونسب ذلك إلى أبي عبيدة وأبي الحسن، وقال الزجاج: هي بالفتح النصرة والنسب وبالكسر للامارة، ونقل عنه أنه ذهب إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعات ولذا جاء فيها الكسر كالامارة، وذلك لما ذهب إليه المحققون من أهل اللغة من أن فعالة بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء ويجعل فيه كاللفافة والعمامة وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال كالكتابة والخياطة والزراعة والحراثة، وما ذكره من حديث التشبيه بالصناعات يحتمل أن يكون من الواضع بمعنى أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك فتكون حقيقة ويحتمل أن يكون من غيره على طرز تشبيه زيد بالأسد فحينئذ يكون هناك استعارة، وهي كما قال بعض الجلة: استعارة أصلية لوقوعها في المصدر دون المشتق وإن كان التصرف في الهيئة لا في المادة، ومنه أن الاستعارة الأصلية قسمان ما يكون التجوز في مادته وما يكون في هيئته وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ أي فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين أعداء الله تعالى وأعدائكم إِلَّا عَلى قَوْمٍ منهم بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فلا تنصروهم عليه لما في ذلك من نقض عهدهم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تخالفوا أمره ولا تتجاوزوا ما حده لكم كي لا يحل عليكم عقابه وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ آخر منهم أي في الميراث كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقال قتادة وابن إسحاق: في المؤازرة، وهذا بمفهومه مفيد لنفي الموارثة والمؤازرة بينهم وبين المسلمين وإيجاب ضد ذلك وان كانوا أقارب، ومن هنا ذهب الجمهور إلى
أنه لا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما، وأخرج ذلك ابن مروديه والحاكم وصححه عن أسامة رضي الله عنه أنه صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك وقرأ الآية،
ومن الناس من قال: إن المسلم يرث الكافر دون العكس وليس مما يعول عليه والفتوى على الأول كما تحقق في محله إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي إلا تفعلوا ما أمرتم به في الآيتين، وقيل: الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو الإرث أو النصر أو الاستنصار المفهوم من الفعل والأولى ما ذكرنا، وفي الأخير ما لا يخفى من التكلف.
تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ أي تحصل فتنة عظيمة فيها، وهي اختلاف الكلمة وضعف الإيمان وظهور الكفر وَفَسادٌ كَبِيرٌ وهو سفك الدماء على ما روي عن الحسن فالمراد فساد كبير فيها، وقيل: المراد في الدارين وهو خلاف الظاهر، وعن الكسائي أنه قرأ «كثير» بالمثلثة.
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا كلام مسوق للثناء على القسمين الأولين من الأقسام الثلاثة للمؤمنين وهم المهاجرون والأنصار بأنهم الفائزون بالقدح المعلى من الإيمان مع الوعد الكريم بقوله سبحانه: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لا يقادر قدرها وَرِزْقٌ كَرِيمٌ أي لا تبعة له ولا منة فيه،
233
وقيل: هو الذي لا يستحيل نجوا في الأجواف وهو رزق الجنة.
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ أي في بعض أسفاركم، والمراد بهم قيل: المؤمنون المهاجرون من بعد صلح الحديبية وهي الهجرة الثانية، وقيل: من بعد نزول الآية، وقيل: من بعد غزوة بدر، والأصح أن المراد بهم الذين هاجروا بعد الهجرة الأولى فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي من جملتكم أيها المهاجرون والأنصار، وفيه إشارة إلى أن السابقين هم السابقون في الشرف وأن هؤلاء دونهم فيه، ويؤيد أمر شرفهم توجيه الخطاب إليهم بطريق الالتفات، وبهذا القسم صارت أقسام المؤمنين أربعة، والتوارث إنما هو في القسمين الأولين على ما علمت، وزعم الطبرسي أن ذلك الحكم يثبت لهؤلاء أيضا فيكون التوارث بين ثلاثة أقسام، وجعل معنى مِنْكُمْ من جملتكم وحكمهم حكمكم في وجوب الموالاة والموارثة والنصرة ولم أره لأصحابنا.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ أي ذوو القرابة بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ آخر منهم في التوريث من الأجانب فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكمه أو في اللوح المحفوظ،
أخرج الطيالسي والطبراني وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: «آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه وورث بعضهم من بعض حتى نزلت هذه الآية فتركوا ذلك وتوارثوا بالنسب،
وأخرج ابن مروديه عنه رضي الله تعالى عنه قال: توارث المسلمون لما قدموا المدينة بالهجرة ثم نسخ ذلك بهذه الآية، واستدل بها على توريث ذوي الأرحام الذين ذكرهم الفرضيون، وذلك لأنها نسخ بها التوارث بالهجرة ولم يفرق بين العصبات وغيرهم فيدخل من لا تسمية لهم ولا تعصيب وهم- هم- وبها أيضا احتج ابن مسعود كما أخرجه ابن أبي حاتم. والحاكم على أن ذوي الأرحام أولى من مولى العتاقة، ولما سمع الحبر قال: هيهات هيهات أين ذهب؟ إنما كان المهاجرون يتوارثون دون الأعراب فنزلت، وخالفه سائر الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضا على ما قيل. وأنت تعلم أنه إذا أريد بكتاب الله تعالى آيات المواريث السابقة في سورة النساء أو حكمه سبحانه المعلوم هناك لا يبقى للاستدلال على توريث ذوي الأرحام بالآية وجه، وكذا ما قاله ابن الفرس من أنه قد يستدل بها لمن قال: إن القريب أولى بالصلاة على الميت من الوالي إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ومن جملته ما في تعليق التوارث بالقرابة الدينية أولا على الوجه السابق وبالقرابة النسبية آخرا من الحكم البالغة.
هذا «ومن باب الإشارة»
وَالَّذِينَ آمَنُوا الإيمان العلمي وَهاجَرُوا من أوطان نفوسهم وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ بإنفاقها حتى تخللوا بعباء التجرد والانقطاع إلى الله عزّ وجلّ وَأَنْفُسِهِمْ بإتعابها بالرياضة ومحاربة الشيطان وبذلها في سبيل الله تعالى وطريق الوصول إليه وَالَّذِينَ آوَوْا إخوانهم في الطريق ونصروهم على عدوهم بالامداد أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ بميراث الحقائق والعلوم النافعة وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا عن وطن النفس ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ فلا توارث بينكم وبينهم إذ ما عندكم لا يصلح لهم ما لم يستعدوا له وما عندهم يأباه استعدادكم حَتَّى يُهاجِرُوا كما هاجرتم فحينئذ يثبت التوارث بينكم وبينهم وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فإن الدين مشترك، وعلى هذا الطرز يقال في باقي الآيات والله تعالى ولي التوفيق وبيده أزمة التحقيق.
234
سورة التّوبة
بسم الله الرحمن الرحيم مدنية كما روى ابن عباس وعبد الله بن الزبير وقتادة وخلق كثير، وحكى بعضهم الاتفاق عليه.
وقال ابن الفرس: هي كذلك الا آيتين منها لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: ١٢٨] إلخ، وهو مشكل بناء على ما في المستدرك عن أبي بن كعب. وأخرجه أبو الشيخ في تفسيره عن علي بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من أن آخر آية نزلت لَقَدْ جاءَكُمْ إلخ، ولا يتأتى هنا ما قالوه في وجه الجمع بين الأقوال المختلفة في آخر ما نزل، واستثنى آخرون ما كانَ لِلنَّبِيِّ [التوبة: ١١٣] الآية بناء على ما ورد أنها نزلت في
قوله صلّى الله عليه وسلّم لأبي طالب: «لأستغفرن لك ما لم أنه عنك».
وقد نزلت كما قال ابن كيسان على تسع من الهجرة ولها عدة أسماء، التوبة لقوله تعالى فيها: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ [التوبة: ١١٧] إلى قوله سبحانه: وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا [التوبة: ١١٨]، والفاضحة. أخرج أبو عبيد وابن المنذر وغيرهما عن ابن جبير قال: قلت لابن عباس رضي الله تعالى عنهما سورة التوبة قال: التوبة هي الفاضحة ما زالت تنزل ومنهم ومنهم حتى ظننا أنه لا يبقى أحد منا إلا ذكر فيها، وسورة العذاب. أخرج الحاكم في مستدركه عن حذيفة قال: التي يسمون سورة التوبة هي سورة العذاب.
وأخرج أبو الشيخ عن ابن جبير قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه إذا ذكر له سورة براءة وقيل سورة التوبة قال: هي إلى العذاب أقرب ما أقلعت عن الناس حتى ما كادت تدع منهم أحدا، والمقشقشة. أخرج ابن مردويه وغيره عن زيد بن أسلم أن رجلا قال لعبد الله: سورة التوبة فقال ابن عمر: وأيتهن سورة التوبة فقال براءة فقال رضي الله تعالى عنه: وهل فعل بالناس الأفاعيل إلا هي ما كنا ندعوها إلا المقشقشة أي المبرئة ولعله أراد عن النفاق، والمنقرة. أخرج أبو الشيخ عن عبيد بن عمير قال: كانت براءة تسمى المنقرة نقرت عما في قلوب المشركين، والبحوث بفتح الباء صيغة مبالغة من البحث بمعنى اسم الفاعل كما روى ذلك الحاكم عن المقداد، والمبعثرة. أخرج ابن المنذر عن محمد بن إسحاق قال: كانت براءة تسمى في زمان النبي صلّى الله عليه وسلّم وبعده المبعثرة لما كشفت من سرائر الناس، وظن أنه تصحيف المنقرة من بعد الظن.
وذكر ابن الفرس أنها تسمى الحافرة أيضا لأنها حفرت عن قلوب المنافقين وروي ذلك عن الحسن، والمثيرة كما روي عن قتادة لأنها أثارت المخازي والقبائح، والمدمدمة كما روي عن سفيان عن عيينة، والمخزية والمنكلة والمشردة كما ذكر ذلك السخاوي وغيره، وسورة براءة. فقد أخرج سعيد بن منصور والبيهقي في الشعب، وغيرهما
235
عن أبي عطية الهمذاني قال: كتب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: تعلموا سورة براءة وعلموا نساءكم سورة النور، وهي مائة وتسع وعشرون عند الكوفيين ومائة وثلاثون عند الباقين.
ووجه مناسبتها للأنفال أن في الأولى قسمة الغنائم وجعل خمسها لخمسة أصناف على ما علمت وفي هذه قيمة الصدقات وجعلها لثمانية أصناف على ما ستعلم إن شاء الله تعالى، وفي الأولى أيضا ذكر العهود وهنا نبذها وأنه تعالى أمر في الأولى بالاعداد فقال سبحانه: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال: ٦٠] ونعى هنا على المنافقين عدم الاعداد بقوله عز وجل: وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً [التوبة: ٤٦] وأنه سبحانه ختم الأولى بإيجاب أن يوالي المؤمنين بعضهم بعضا وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكلية وصرح جل شأنه في هذه بهذا المعنى بقوله تبارك وتعالى: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة: ١] إلخ إلى غير ذلك من وجوه المناسبة.
وعن قتادة، وغيره أنها مع الأنفال سورة واحدة ولهذا لم تكتب بينهما البسملة، وقيل: وفي وجه عدم كتابتها أن الصحابة رضي الله تعالى عنهم اختلفوا في كونها سورة أو بعض سورة ففصلوا بينها وبين الأنفال رعاية لمن يقول هما سورتان ولم يكتبوا البسملة رعاية لمن يقول هما سورة واحدة، والحق أنهما سورتان إلا أنهم لم يكتبوا البسملة بينهما لما
رواه أبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن علي كرم الله تعالى وجهه من أن البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف،
ومثله عن محمد بن الحنفية. وسفيان بن عيينة، ومرجع ذلك إلى أنها لم تنزل في هذه السورة كأخواتها لما ذكر، ويؤيد القول بالاستقلال تسميتها بما مر.
واختار الشيخ الأكبر قدس سره في فتوحاته أنهما سورة واحدة وأن الترك لذلك قال في الباب الحادي والثلاثمائة بعد كلام: وأما سورة التوبة فاختلف الناس فيها هل هي سورة مستقلة كسائر السور أو هل هي وسورة الأنفال سورة واحدة فإنه لا يعرف كمال السورة إلا بالفصل بالبسملة ولم تجىء هنا فدل على أنها من سورة الأنفال وهو الأوجه وإن كان لتركها وجه وهو عدم المناسبة بين الرحمة والتبري ولكن ما له تلك القوة بل هو وجه ضعيف.
وسبب ضعفه أنه في الاسم الله من البسملة ما يطلبه والبراءة إنما هي من الشريك لا من المشرك فإن الخالق كيف يتبرأ من المخلوق ولو تبرأ منه من كان يحفظ وجوده عليه والشريك معدوم فتصح البراءة منه في صفة تنزيه، وتنزيه الله تعالى من الشريك والرسول صلّى الله عليه وسلّم من اعتقاد الجهل، ووجه آخر من ضعف هذا التأويل الذي ذكرناه وهو أن البسملة موجودة في أول سورة وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ [الهمزة: ١] ووَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ [المطففين: ١] وأين الرحمة من الويل انتهى، وقد يقال: كون البراءة من الشريك غير ظاهر من آيتها أصلا وستعلم إن شاء الله تعالى المراد منها، وما ذكره قدس سره في الوجه الآخر من الضعف قد يجاب عنه بأن هذه السورة لا تشبهها سورة فإنها ما تركت أحدا كما قال حذيفة إلا نالت منه وهضمته وبالغت في شأنه، أما المنافقون والكافرون فظاهر، وأما المؤمنون ففي قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ إلى الْفاسِقِينَ [التوبة: ٢٣- ٢٤] وهو من أشد ما يخاطب به المخالف فكيف بالموافق، وليس في سورة- ويل- ولا في تبت- ولا ولا، ولو سلّم اشتمال سورة على نوع ما اشتملت عليه لكن الامتياز بالكمية والكيفية مما لا سبيل لإنكاره ولذلك تركت فيها البسملة على ما أقول، والاسم الجليل وإن تضمن القهر الذي يناسب ما تضمنته السورة لكنه متضمن غير ذلك أيضا مع اقترانه صريحا بما لم يتضمنا سوى الرحمة، وليس المقصود إلا إظهار صفة القهر ولا يتأتى ذلك مع الافتتاح بالبسملة، ولو سلّم خلوص الاسم الجليل له. نعم إنه سبحانه لم يترك عادته في افتتاح السور هنا بالكلية حيث افتتح هذه السورة بالباء كما، افتتح غيرها بها في ضمن البسملة وإن كانت باء البسملة كلمة وباء هذه السورة جزء كلمة وذلك لسر دقيق يعرفه أهله، هذا ونقل
236
Icon