تفسير سورة الأنفال

التفسير الوسيط للزحيلي
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب التفسير الوسيط المعروف بـالتفسير الوسيط للزحيلي .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

تفسير سورة الأنفال
حكم الأنفال
يترتب على المعارك الحربية آثار كثيرة في الأموال والأشخاص، ولكل حالة حكم معين في القرآن الكريم، ومن هذه الأحكام حكم الأنفال أي الغنائم الحربية، وكانت أول مشكلة نشأت في موضوع الأنفال بعد معركة بدر، تساءل الناس عن مستحقيها وكيفية قسمتها.
أخرج الإمام أحمد وابن حبان والحاكم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها، فسألوا الرسول صلّى الله عليه وسلّم، كيف تقسم؟ ولمن الحكم فيها، أهي للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا؟ فنزلت الآية التالية
في مطلع سورة الأنفال المدنية ما عدا (٣٠- ٣٦) فمكية:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١ الى ٤]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
«١» «٢» «٣» «٤» [الأنفال: ٨/ ١- ٤].
الأنفال: هي الغنائم، وهي جمع نفل أو نفل، وهو الزيادة على الواجب، وسميت
(١) الغنائم والمراد هنا غنائم بدر.
(٢) أحوالكم الاجتماعية.
(٣) خافت وفزعت.
(٤) يفوضون أمورهم إلى الله.
772
الغنيمة نفلا لأنها زيادة على القيام بالجهاد وحماية الدين والدعاء إلى الله عز وجل.
ومعنى الآية: يسألك الناس أيها الرسول عن حكم الأنفال لمن هي وكيف تقسم؟
فقل لهم: إن حكمها لله أولا يحكم فيها بما يريد، ثم للرسول يقسمها بينكم كما أمر الله، فأمرها مفوض إلى الله ورسوله، ثم جاء تبيان تفصيلي لمصارف الغنيمة في آية أخرى وهي:
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ [الأنفال: ٨/ ٤١] أي إن الخمس لهؤلاء المحتاجين المذكورين في هذه الآية، والأربعة الأخماس الباقية للغانمين، أما اليوم بعد تنظيم الجيوش النظامية ودفع رواتب دائمة للجند، فتكون الغنائم للدولة.
وإذا كان أمر الغنائم لله ورسوله، فاتقوا الله سبحانه في أقوالكم وأفعالكم، وأصلحوا ذات بينكم من الأحوال حتى تتآلف النفوس، وأطيعوا الله ورسوله في الغنائم وغيرها من كل أمر أو نهي، أو قضاء وحكم.
هذه الأمور الثلاثة: تقوى الله، وإصلاح ذات البين وإطاعة أوامر الله ورسوله يتوقف عليها صلاح الجماعة الإسلامية، إن كنتم مؤمنين، أي مصدقين كلام الله وكاملي الإيمان، فإن التصديق يقتضي الامتثال، وكمال الإيمان يوجب هذه الخصال الثلاث.
ثم ذكر الله تعالى صفات المؤمنين بحق الذين يلتزمون هذه الخصال الثلاث، هذه الصفات هي:
١- الذين إذا ذكر الله أمامهم خافت قلوبهم، وامتلأت خشية لجلاله وعظمته، وهابت وعيده وتذكرت وعده للمحسنين أعمالهم.
٢- والذين إذا قرئت عليهم آيات القرآن، زادتهم إيمانا وتصديقا، وإقبالا على العمل الصالح لأن كثرة الأدلة والتذكير بها يوجب زيادة اليقين وقوة الاعتقاد.
773
٣- والذين هم يتوكلون على ربهم وحده، وإليه يلجأون ولا يرجون غيره، ولا يقصدون إلا إياه، ولا يطلبون الحوائج إلا منه، ولكن ذلك التوكل ليس بمعنى التواكل وإنما التوكل يكون بعد اتخاذ الأسباب من عمل وسعي وجدّ واجتهاد، أما ترك الأسباب أو الوسائل المطلوبة عقلا وعادة فهو جهل بمفهوم التوكل.
٤- والذين يقيمون الصلاة، أي يؤدونها كاملة الأركان والشروط من قيام وركوع وسجود وتلاوة وأذكار، في مواقيتها المحددة لها شرعا، مع خشوع القلب، وسكون النفس، ومناجاة الرحمن، وتدبر قراءة القرآن.
٥- والذين ينفقون بعض أموالهم في سبيل الله، سبيل الخير ومن أجل مصلحة الأمة وفي سبيل تقويتها وانتشال المحتاجين من وهدة الفقر وألم الحرمان، والإنفاق يكون بإخراج الزكاة المفروضة، وأداء الصدقات التطوعية، والنفقات الواجبة على الأهل والقرابة القريبة كالآباء والأمهات، والمندوبة للقرابة البعيدة ومن أجل تحقيق مصالح الأمة وجهاد العدو، فإن الأموال وودائع وأمانات ثقيلة عند الإنسان، لا بد أن يفارقها يوما ما.
وجزاء هؤلاء المؤمنين المتصفين بالأوصاف الخمسة المتقدمة أنهم دون غيرهم المؤمنون حق الإيمان، ولهم درجات أي منازل متفاوتة في الجنان بحسب أعمالهم ونواياهم ولهم مغفرة، أي يغفر الله لهم السيئات، ويشكر لهم الحسنات، ولهم رزق كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة، والكريم: وصف لكل شيء حسن.
خروج المسلمين إلى موقعة بدر
من الطبيعي أن يتهيب المسلمون في أول لقاء لهم مع معسكر قريش، بسبب قلتهم وضعف استعدادهم وقلة إمكاناتهم، وكثرة عدوهم وقوته ووفرة أسلحته، لذا كان
774
خروجهم لمعركة بدر الكبرى على كراهية وتردد، لكن الله تعالى أعلم بما يريد، فهو الذي يهيئ الأسباب، ويدبر الأمور، وما على المؤمنين إلا الامتثال ومجاهدة النفس وتخطي حاجز الخوف أو الوهم. وصف الله حالة المؤمنين في الخروج إلى غزوة بدر بقوله:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ الى ٨]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
«١» «٢» [الأنفال: ٨/ ٥- ٨].
سبب النزول فيما
رواه ابن أبي حاتم وغيره عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال لنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ونحن بالمدينة، وبلغه أن عير «٣» أبي سفيان قد أقبلت: ما ترون فيها، لعل الله يغنمناها ويسلّمنا؟ فخرجنا فسرنا يوما أو يومين، فقال: ما ترون فيهم؟ فقلنا: يا رسول الله، ما لنا طاقة بقتال القوم، إنما خرجنا للعير، فقال المقداد: لا تقولوا كما قال قوم موسى: اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون، فأنزل الله: كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ
والمعنى: إن كراهية بعض الصحابة لحكم الأنفال وإن رضوا به، مثل كراهيتهم لخروجك أيها النبي من بيتك بالحق إلى القتال في بدر، فهم رضوا بحكم الأنفال على كره، كما رضوا بخروجك للقتال في بدر على كره أيضا. أي إن بعض صحابتك كانوا كارهين للأمرين معا: قسمة الغنائم أو الأنفال، والخروج للقتال في بدر. وكانت
(١) أي البأس والسلاح الذي فيه الحدة والقوة.
(٢) آخرهم.
(٣) العير: الإبل التي تحمل الميرة. [.....]
775
الكراهية من الشبان فقط، لأنهم هم الذين قاتلوا وغنموا، فكرهوا قسمة الغنائم بين المجاهدين بالتساوي. وكرهوا قتال قريش لخروجهم من المدينة بقصد الغنيمة. غير مستعدين للقتال، لكن في امتثال أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم الخير والمصلحة والرشاد.
يجادلك هؤلاء الشبيبة المؤمنون في الحق وهو قتال مشركي قريش، مفضلين عليه أخذ العير، أي قافلة أبي سفيان المحملة بالميرة والحبوب والقادمة من الشام، بعد ما تبين الصواب وظهر لهم الحق، بإخبارك أنهم سينتصرون على كل حال، وأن الله وعدك إحدى الطائفتين: العير أو النفير، وبما أن العير أي الإبل قد نجت، فلم يبق إلا النفير، أي قتال المشركين. وكأنهم لشدة فزعهم ورعبهم من قتال الأعداء سائرون إلى الموت، وهم يشاهدون أسبابه وينظرون إليها.
لكن أيها المؤمنون اذكروا حين وعدكم الله إحدى الطائفتين: العير أو النفير، لكي تكون السلطة والغلبة لكم. وتتمنون أن تكون لكم غير ذات الشوكة، أي السلاح والقوة والمنعة وهي قافلة العير، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، وعبر القرآن عن هذه القافلة بهذا التعبير أو الوصف لكراهتهم القتال وطمعهم في المال.
والشوكة وهي القوة كانت في النفير، أي جيش قريش لكثرة عددهم وتفوق عدتهم وأسلحتهم.
ويريد الله لكم أيها المؤمنون غير هذا الذي تريدون من أخذ تجارة القافلة، وهو مقابلة النفير الذي له الشوكة والقوة وهو جيش المشركين، لينهزموا وتنتصروا، ويثّبت الله الحق ويعليه بكلماته، أي بآياته المنزلة على رسوله في محاربة المشركين ذوي الشوكة والمنعة، ويعليه بإمداد المؤمنين بالملائكة لنصرة المسلمين وكتائب المجاهدين المؤمنين. ويريد الله أيضا أن يهلك المعاندين، ويستأصل شأفة وآخر المشركين، ويمحق قوتهم ويبدد آثارهم.
776
فعل الله ما فعل ودبر، ووعد بما وعد، وأنجز النصر للمؤمنين، ليحق الحق ويبطل الباطل، أي ليثبت الإسلام ويظهره، ويمحق الكفر والشرك ويزيله، ولو كره المجرمون، أي المعتدون الطغاة، ولا يكون ذلك بمجرد الاستيلاء على العير، قافلة الإبل، بل بقتل أئمة الكفر وزعماء الشرك.
وتكرار إحقاق الحق في آيتين متواليتين ليس تكرارا خاليا من المعنى، وإنما هناك معنيان متباينان، المعنى الأول: لبيان مراد الله وأن هناك تفاوتا بنيه وبين مراد الصحابة. والمعنى الثاني: لبيان الداعي والغرض من التوجيه نحو القتال وهو إظهار الغلبة للمؤمنين القلائل على الكافرين الكثيرين ذوي القوة والبأس.
أهم أسباب النصر في معركة بدر
أراد الله سبحانه وتعالى تثبيت أركان الإسلام وقواعده في بداية تكوين دولته وإعلاء كلمته، بإعلاء الحق وإبطال الباطل في قوله سبحانه: لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال: ٨/ ٨] وبعد هذا الإعلان الإلهي، أبان الله تعالى أن نصر المؤمنين في موقعة بدر لأسباب أهمها ثلاثة: هي الإمداد بالملائكة، وإلقاء النعاس للراحة بعد عناء السفر، وإنزال المطر لتطهير نفوس المسلمين ماديا ومعنويا، وكل نصر يحتاج لأسباب مادية ومعنوية، قال الله تعالى:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٩ الى ١٤]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
«١» «٢» «٣»
(١) أي متّبعين بعضهم بعضا.
(٢) يجعله كالغشاء أو الغطاء.
(٣) أمنا من الله.
777
«١» «٢» «٣» »
«٥» [الأنفال: ٨/ ٩- ١٤].
سبب نزول هذه الآيات: ما
رواه الإمام أحمد والترمذي وغيرهم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه، وهم ثلاث مائة ونيف (أو وبضعة عشر رجلا) ونظر إلى المشركين، فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم القبلة، وعليه رداؤه وإزاره، ثم قال: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة- الجماعة- من أهل الإسلام، فلا تعبد في الأرض أبدا» قال: فما زال يستغيث ربه ويدعوه، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه فردّاه (أو فألقاه على منكبيه) ثم التزمه من ورائه، ثم قال: يا نبي الله، كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله عز وجل: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ فلما كان يومئذ، التقوا، فهزم الله المشركين، فقتل منهم سبعون رجلا، وأسر منهم سبعون رجلا.
والمعنى: اذكروا أيها المؤمنون حين استغاثتكم ربكم، قائلين: «اللهم انصرنا على عدونا، يا غياث المستغيثين أغثنا» فأجاب الله دعاءكم بأني ممدكم بألف من أعيان الملائكين، يتبع بعضهم بعضا، ألفا بعد ألف، حتى صاروا خمسة آلاف.
وما جعل الله إرسال الملائكة إلا بشرى لكم معشر المؤمنين بأنكم منصورون،
(١) الرجز: العذاب، والمراد به هنا وساوس الشيطان التي تمقت.
(٢) يشدّ ويقوي.
(٣) الخوف والفزع.
(٤) كل الأطراف.
(٥) خالفوا وعصوا.
778
ولتسكن قلوبكم من الاضطراب أو القلق العارض لكم، وليس النصر الحقيقي إلا من عند الله، لا من عند غيره أبدا، إن الله عزيز أي قوي لا يغالب، حكيم، لا يضع شيئا في غير موضعه.
والأشهر أن الملائكة قاتلت بالفعل يوم بدر، وهو الراجح في السنة النبوية، وهذا لا يقلل من أهمية قتال المؤمنين ببسالة وشجاعة تامة، واستماتة وإيمان متين، خلّد ذكرهم، وجعلهم أمثولة البطولات النادرة، هذه هي النعمة الأولى على المسلمين يوم بدر وهي إمدادهم بالملائكة.
واذكروا نعمتين أخريين هما إلقاء النعاس تخفيفا من عناء التعب وتحقيقا للأمن من مخاوف العدو الذي هالهم كثرته وقلتهم، وذلك في ليلة القتال من الغد، ثم إنزال المطر عليكم من السماء للتطهير من الدنس والرجس وإذهاب وساوس الشيطان ولإرواء العطش، لأن الكفار يوم بدر سبقوا المؤمنين إلى النزول حول ماء بدر، وبقي المؤمنون لا ماء لهم، وحقق الله بهاتين النعمتين تسكين القلوب واطمئنان النفوس وحملها على الصبر، وتثبيت الأقدام على أرض الرمال من غير غوص فيها.
واذكروا أيها المؤمنون أيضا حين يوحي الله إلى الملائكة: أني مع المؤمنين بالإعانة والنصر، فانصروهم وثبّتوهم وقووا عزائمهم، وأني سألقي في قلوب الكفار الرعب والهلع، فاضربوا رؤوسهم التي فوق الأعناق واقطعوها، وابتروا الأصابع والمفاصل والأطراف: وهي الأيدي والأرجل ذات البنان أي الأصابع. وهذا تعليم لكيفية القتال بضرب المقاتل وغير المقاتل.
ذلك المذكور من النصر والتأييد للنبي والمؤمنين بسبب أن المشركين شاقّوا الله ورسوله، أي عادوهما وخالفوهما، حيث صاروا في شق أو جانب والمؤمنون في الجانب الآخر، ومن يعادي الله والرسول، ويخالف أوامرهما، فإن له عدا الهزيمة
779
والخزي في الدنيا العذاب الشديد في الآخرة، وذلكم العقاب أو العذاب من الضرب والقتل الذي عجلته لكم أيها الكافرون بسبب معاداتكم الله ورسوله، فذوقوه عاجلا، ولكم في الآخرة عذاب جهنم إن أصررتم على الكفر. والتعبير بذوق العذاب لمعرفة أن ما نالهم في الدنيا من هزيمة وآلام هو يسير بالنسبة للعذاب العظيم المعدّ لهم في الآخرة.
قواعد وتوجيهات حربية
القرآن الكريم دستور المسلمين العام وقانونهم الأساسي في كل شيء، فهو كما اشتمل على أحكام التشريع من عقائد وعبادات ومعاملات، اشتمل أيضا على الأخلاق والآداب الاجتماعية، وعلى التوجيهات الحربية والسلمية، وقواعد القتال بمناسبة معركة بدر الكبرى، مثل الثبات أمام العدو، وتحريم الفرار من الزحف في مواجهة الأعداء إلا لمصلحة حربية، قال الله تعالى:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ الى ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» «٦» «٧» [الأنفال: ٨/ ١٥- ١٩].
(١) زاحفين نحوكم لقتالكم.
(٢) مظهرا الانهزام ثم يكرّ.
(٣) منضما إليها لقتال العدو.
(٤) رجع متلبسا به.
(٥) لينعم عليهم بالنصر والأجر.
(٦) مضعف. [.....]
(٧) تطلبوا النصر لفئة.
780
المقصود من هذه الآيات: يا أيها المصدقون بالله ورسوله، إذا اقتربتم من عدوكم حال كونهم زاحفين نحوكم لقتالكم، أي متقابلي الصفوف والأشخاص فلا تفرّوا منهم أبدا، مهما كثر عددهم، وأنتم قلة، بأن كانوا مثلي أو ضعف المؤمنين، واثبتوا لهم وقاتلوهم، فالله معكم عليهم.
لا يجوز الانهزام أمامهم بحال إلا لمصلحة حربية بأن يتحرف المقاتل لقتال، أي يظهر أنه منهزم، ثم يكرّ أو ينعطف عليه مرة أخرى ليقتله، وهذه مكيدة حربية مشروعة، أو يتحيز المقاتل لفئة أخرى من جماعته، أي ينضم لجماعة إسلامية أخرى تؤيده وتساعده، لمقاتلة العدو معا، وما عدا هاتين الحالتين يحرم الفرار من الزحف أمام العدو، ومن يخالف هذا وينهزم، يرجع مصحوبا بغضب الله وسخطه، ومأواه في الآخرة جهنم، وبئس المصير أي المرجع هي. وهذا دليل على أن الفرار من الزحف أمام العدو من كبائر المعاصي، ويؤيده ما
جاء في حديث البخاري ومسلم: «اجتنبوا السبع الموبقات- أي المهلكات- وذكر منها التولي يوم الزحف».
ثم أبان القرآن الكريم أمرا مهما في عقيدة الإسلام في القتال ألا وهي أن المقاتلين لا يستقلون بقتل العدو، وإنما الخلق والاختراع في جميع حالات القتل إنما هي لله تعالى، ليس للقاتل فيها شيء، وإنما هو مجرد وسيلة وأداة، فالفعّال الحقيقي هو الله:
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي إن افتخرتم بقتلهم في بدر، فأنتم لم تقتلوهم بقوتكم وعدتكم، ولكن الله قتلهم بأيديكم، لأنه هو الذي أنزل الملائكة، وألقى الرعب في قلوبهم، وحقق النصر والظفر لكم.
وسبب نزول هذه الآية: أن أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما صدورا (رجعوا) عن بدر، ذكر كل واحد منهم ما فعل، فقال: قتلت كذا، وفعلت كذا، فجاء من ذلك
781
تفاخر، ونحو ذلك، فنزلت الآية: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ أي إن الله هو المؤثر الحقيقي الفعال في تحقيق النتائج. وأما فعل البشر فهو القيام بالأسباب الظاهرة المقدورة لهم، التي كلفهم بها ربهم، كجميع أفعال العباد الاختيارية. بل وما رميت به أيها النبي مشركي قريش حين رميت في بدر، ولكن الله رماهم.
نزلت هذه الآية حين رمى النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم بدر قبضات من حصى وتراب، رمى بها في وجوه القوم وتلقاءهم ثلاث مرات، وقال المشركون: شاهت الوجوه، فلم يبق عين مشرك إلا دخلها منه شيء.
وتكررت هذه الفعلة أيضا يوم حنين. رمى الله المشركين وقتلهم ليكبتهم، وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا، أي ليعرّف المؤمنين نعمته عليهم من إظهارهم على عدوهم، مع كثرة عدوهم وقلة عددهم، ليعرفوا حقه وفضله، ويشكروا بذلك نعمته، ويصيبهم ببلاء حسن، أي يختبرهم بما حققه لهم من النصر والغنيمة والعزة. إن الله سميع لكل قول، ومنه استغاثتكم ودعاؤكم، عليم بوجه الحكمة في جميع أفعاله، لا إله إلا هو.
ذلكم الأمر المتقدم من قتل الله الأعداء ورميه إياهم لإعلامهم أن الله موهن كيد الكافرين، أي مضعف كيد الكافرين في المستقبل، ومحبط مكرهم وتدبيرهم ومدمر جميع أوضاعهم.
ثم خاطب الله الكفار أهل مكة على سبيل التهكم والسخرية قائلا لهم: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ أي إن تستنصروا وتطلبوا نصر الفئة المحقة على الفئة المبطلة، فقد جاءكم ما سألتم، وتم النصر للأعلى والأهدى، وحدث الهلاك والذلة للأدنى والأضل، ثم حذرهم الله وأنذرهم بأنه إن تنتهوا عن الكفر والتكذيب بالله والرسول، وعداوة النبي، فهو خير لكم في الدنيا والآخرة وأجدى من الحرب التي
782
جربتموها وما أحدثت من قتل وأسر، وإن تعودوا لمحاربته وقتاله، وإلى ما كنتم من الكفر والضلالة، نعد إلى نصر النبي وهزيمتكم، ولن تفيدكم جماعتكم شيئا ولو كثرت، لأن الكثرة ليست دائما من وسائل النصر أمام القلة، فقد يحدث العكس، والله مع المؤمنين بالنصر والتأييد والتوفيق إلى النجاح، كما قال تعالى: إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (١٧٣)
[الصافات: ٣٧/ ١٧٣].
وجوب الطاعة لله والرسول
هناك تلازم واضح في شريعة القرآن بين الإيمان أو التصديق بالله تعالى وبرسوله، وبين وجوب طاعة الله والرسول، فلا يعقل بحال من الأحوال أن يكون هناك شيء من التناقض أو المخالفة، فكل من آمن بشيء وأحبه وجب عليه طاعته واحترام أوامره، ومما لا شك فيه أن الإيمان مصدر خير، فيكون داعيا إلى كل خير، ومن مستلزمات كون الشيء خيرا الإقبال عليه وملازمته، لذا جاءت الآيات القرآنية مقترنة دائما بين الخطاب بصفة الإيمان وما يدعو إليه ويقتضيه من طاعة الآمر ومحبته، كما في هذه الآيات:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
«١» [الأنفال: ٨/ ٢٠- ٢٣].
يتعهد الحق تبارك وتعالى عباده بالتربية والتوجيه، والتذكير وعقد المقارنات أو
(١) الدوابّ: كل ما يدبّ على الأرض، فهو يشمل أنواع الحيوان بجملته.
783
الموازنات بين أهل الإيمان وأهل الكفر والعصيان، فإذا كان الشأن في غير المؤمنين ألا يسمعوا لأوامر الله ورسوله، وألا يطيعوا مطالبهما، فإن شأن المؤمنين والامتثال والطاعة، تحقيقا للسعادة، وللظفر برضوان الله وجنته، لذا أمر الله عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله، وزجر عن مخالفته والتشبه بالكافرين المعاندين.
ومعنى الآية: يا أيها المتصفون بالإيمان، المصدقون بالله والرسول، أطيعوا الله والرسول في كل ما دعاكم إليه من أحكام التشريع في الدنيا والآخرة، والدعوة إلى جهاد الأعداء وترك الركون إلى الراحة والمال والشهوات والأهواء. ولا تتركوا الطاعة بحال، فإذا أمركم الله بالجهاد وبذل المال وغيرهما، امتثلتم، والحال أنكم تسمعون كلامه ومواعظه، وتعلمون ما دعاكم إليه القرآن من الأحكام والآداب والمواعظ، والمراد بالسماع: هو ما يفيد ويدفع إلى العمل، وهو سماع تدبر وفهم وتأمل في المسموع، وهذا هو شأن المؤمنين، بأن يقولوا: سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ [البقرة: ٢/ ٢٨٥]. وشأن غير المؤمنين أن يقولوا: سمعنا وعصينا.
فاحذروا أن تكونوا مثل غير المؤمنين الذين قالوا: سمعنا وهم لا يسمعون، وهم المنافقون والمشركون، فإنهم يتظاهرون بالسماع والاستجابة، والواقع أنهم لا يسمعون أبدا.
ثم أخبر الله تعالى عن هؤلاء العتاة المتمردين غير السامعين لأوامر الله والرسول بأنهم شر الناس أو المخلوقات عند الله عز وجل، وأنهم أخس المنازل لديه، وأشبه بالدواب، وشرّ المخلوقات التي تدب على الأرض عند الله الصمّ الذين لا يسمعون الحق فيتبعونه، ولا ينطقون بالحق ولا يفهمونه، ولا يعقلون الفرق بين الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، والإسلام والكفر، أي فكأنهم لتعطيلهم وسائط المعرفة وهي الحواس التي تكون طريقا للنفع والفائدة والخير،
784
فقدوا هذه القوى والمشاعر المدركة، وهم لو استخدموا عقولهم متجردين عن التقليد والعصبية الجاهلية، لاهتدوا إلى الحق والصواب، وأدركوا الصالح المفيد لهم وهو الإسلام، إلا أنهم في الواقع فقدوا صفة الإنسان، لأنهم لا يعقلون الأمور والمصالح الدائمة، ووصفهم الله بالصمم والبكم وسلب العقول.
روي أن هذه الآية نزلت في طائفة من بني عبد الدار، وظاهرها العموم فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بهذه الأوصاف.
ثم أخبر الله تعالى بأن عدم سمعهم وهداهم إنما هو بما علمه الله منهم وسبق من قضائه عليهم، بما عرفه من اختيارهم وتوجههم. فلو علم الله في نفوسهم ميلا إلى الخير والاستعداد للإيمان والاهتداء بنور الإسلام والنبوة لأفهمهم، وأسمعهم بتوفيقه كلام الله ورسوله سماع تدبر وتفهم واتعاظ، ولكن لا خير فيهم لأنه تعالى يعلم أنه لو أسمعهم أي أفهمهم، لتولوا عن ذلك قصدا وعنادا بعد فهمهم ذلك، وهم معرضون عنه من قبل ذلك، بقلوبهم والعمل به، فهم في الواقع لا خير فيهم أصلا.
وإذا سلب الإنسان أهليته واستعداده وخواصه في إدراك الخير والعمل بمقتضاه، لم يعد كفئا لأي شيء، ولم يرج منه نفع أو خير، وكان أحق باتصافه بالصفة غير الإنسانية، وهذا هو تشبيه القرآن لهؤلاء بالدواب الذين لا يعقلون ولا يفهمون.
الاستجابة لدعوة القرآن
القرآن الكريم دعوة صريحة حاسمة للسعادة الدائمة، والحياة الأبدية، لأنه تضمن نظام الدين الذي هو أساس الأنظمة وسبب الفلاح والصلاح وقاعدة التحضر والتمدن والاجتماع الفاضل، ولقد كان القرآن العظيم سبب عزة العرب والمسلمين قاطبة، وباعث نهضتهم وطريق الحفاظ على وجودهم وكرامتهم واستقلالهم، ودحر
785
كل أساليب الاستعمار الحاقد البغيض، قال الله تعالى مبينا مقصد القرآن العام:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
«١» [الأنفال: ٨/ ٢٤- ٢٦].
تتضمن الآيات الأمر القاطع للمؤمنين بإجابة الله والرسول بالإصغاء والطاعة وما تضمنه القرآن من أوامر ونواه، لأن دعوة الله والرسول دعوة لما يحييكم حياة طيبة أبدية مشتملة على سعادة الدنيا والآخرة، وفيها صلاحكم وخيركم، وفيها كل حق وصواب، وذلك شامل القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة، والأمر للوجوب، ومن لم يمتثل أحكام القرآن فهو ميت لا حياة فيه، كما قال الله تعالى: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [الأنعام: ٦/ ١٢٢]. والغارق في الضلال والكفر والجهل ميت مجازا وإن كان في الظاهر حيا.
إن دعوة القرآن دعوة إحياء بالعزة والغلبة والظفر، فسمي ذلك حياة، والحياة العزيزة الكريمة في الدنيا بالتزام أحكام القرآن متصلة بحياة الآخرة. ثم حذر القرآن الكريم من التراخي في طاعة أوامر الله ورسوله، فقال: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ أي بادروا إلى الاستجابة قبل ألا تتمكنوا منها بزوال العقل، وقد أراد بالقلب العقل أي يحول بين المرء وعقله، حتى لا يدري ما يصنع.
وهذا دليل حسي واضح على أن قدرته وإحاطته وعلمه تتداخل بين المرء وقلبه،
(١) يستلبوكم.
786
وتحول بين الإنسان وفكره. والمصير في النهاية أن جميع الناس مجموعون إلى الله في الآخرة للحساب.
وبعد هذا التحذير حذر الله تعالى من الفتن فقال: وَاتَّقُوا فِتْنَةً أي احذروا الوقوع في الفتنة وهي الاختبار والمحنة التي يعم فيها البلاء المسيء وغيره، ولا يخص بها أهل المعاصي أو مرتكبي الذنوب، بل يعمهم وغيرهم والله شديد العذاب لمن عصاه. قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلت هذه الآية في أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقال: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر فيما بينهم، فيعمهم الله بالعذاب.
والمراد بها عموم الناس، فالله يريد أن يحذر جميع المؤمنين من فتنة إن أصابت لم تخص الظلمة فقط، بل تصيب الكل من ظالم وبريء، وهذا وعيد لكل من تأول آية أو حكما قرآنيا، أو خالف هدي الله وشرعه.
ثم نبّه الله المؤمنين والعرب خاصة قبل الإسلام إلى ما أنعم به عليهم، وعدّد نعمه وإحسانه عليهم، قائلا: واذكروا حالكم حين كنتم قلائل فكثّركم، ومستضعفين خائفين، فقواكم ونصركم، وفقراء فرزقكم من الطيبات، وهذا كان حال المؤمنين قبل الهجرة من مكة إلى المدينة، لقد كان أولئك المؤمنون قلة مستضعفين في مكة، والمشركون أعزة كثرة يذيقون المؤمنين سوء العذاب، وكان المؤمنون خائفين غير مطمئنين، يخافون أن يتخطفهم الناس، أي يأخذهم المشركون بسرعة خاطفة للقتل والسلب، كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم المكي، كما قال الله تعالى:
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت: ٢٩/ ٦٧].
ثم امتن الله عليكم أيها المؤمنون، فجعل لكم مأوى تتحصنون به في المدينة، وأيديكم، أي أعانكم يوم بدر وغيره بنصره المؤزر، وسيؤيدكم بنصره على من سواكم خارج الجزيرة العربية بالغلبة على الروم والفرس، ورزقكم من الطيبات رزقا حسنا
787
مباركا فيه، وأحل لكم الغنائم، كي تشكروا هذه النعم الجليلة. والغرض من الآيات التذكير بالنعمة لتكون حاملا لهم على إطاعة الله وشكر الفضل الإلهي.
تحريم الخيانة وفضل التقوى
خيانة الله والرسول والأمانات العامة والخاصة من أخطر الانحرافات التي تهدد مصير الأمة ووحدتها وإشاعة الثقة فيما بين أبنائها، لذا حذر القرآن الكريم من أنواع الخيانة مطلقا، وألزم الناس بتقوى الله، لأن بالتقوى حفاظا على الوجود الإنساني الكريم ونصرا ونجاة، قال الله تعالى مبينا تحريم الخيانة وفضل التقوى:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
«١» «٢» [الأنفال: ٨/ ٢٧- ٢٩].
نزلت الآية: لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ في. أبي لبابة مروان بن عبد المنذر، وكان حليفا لبني قريظة من اليهود، وقد بعثه النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة، لينزلوا على حكمه، فاستشاروه، فأشار عليهم أنه الذبح، لأن عياله وماله وولده كانوا عندهم، وذلك بعد أن حاصرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم إحدى وعشرين ليلة، بعد أن نقضوا العهد وحاربوا النبي في غزوة الخندق، وأدرك أبو لبابة أنه خان الله والرسول.
قال الزهري: فلما نزلت الآية شد نفسه على سارية من سواري المسجد، وقال:
(١) ابتلاء ومحنة.
(٢) نجاة ومخرجا.
788
والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علي، فمكث تسعة أيام أو سبعة أيام، لا يذوق فيها طعاما حتى خرّ مغشيا عليه. ثم تاب الله عليه.
وقال عطاء عن جابر بن عبد الله- فيما أخرجه ابن جرير وابن المنذر وأبو الشيخ-: سبب نزول الآية: أن رجلا من المنافقين كتب إلى أبي سفيان بن حرب بخبر من أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية. وعلى أي حال فإن الآية نزلت في خيانة بعض الخائنين.
ومعناها: يا أيها الذين أظهروا الإيمان، أو يا أيها المصدقون بالله ورسوله وقرآنه، لا تخونوا الله بتعطيل فرائضه وإهمال أوامره في السر، وتعدي حدوده ومحارمه، ولا تخونوا الرسول بتجاوز أوامره ومخالفة نواهيه، وتضييع ما استحفظ لديكم من أسرار، ولا تخونوا أماناتكم التي تؤتمنون عليها، بأن لا تحفظوها، وذلك يشمل الودائع المالية والأسرار العامة والخاصة بفرد من الأفراد. والأمانة تشمل كل ما يؤتمن الإنسان عليه من دينه وعبادته وحقوق الآخرين، فكل من أخل بواجبه فقد خان الأمانة، فلا تخونوا أيها المؤمنون أمانات غيركم، سواء كانت معاملات مالية، أو شؤونا أدبية أو سياسية أو عهدا من العهود، أو مصلحة وطنية، والحال أنكم تعلمون خطر الخيانة وسوء عاقبتها في الدنيا والآخرة.
ولما كان سبب الإقدام على الخيانة هو حب المال والنفس والولد، نبّه الله تعالى على أنه يجب الاحتراز عن مضار ذلك الحب، فقال تعالى: أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي إن الأموال والأولاد محنة من الله وابتلاء، أي اختبار من ربكم، ليرى كيف العمل في جميع ذلك، ويقيم الدليل عليكم مع علمه تعالى بما يصدر منكم سلفا، فاحذروا التفريط في حدود الله وشرائعه، واعلموا أن ثواب الله وعطاءه الجزيل وجناته خير لكم من الأموال والأولاد، فإنه قد يوجد منهم عدو، وأكثرهم
789
لا يغني عنكم شيئا، فعليكم أن تؤثروا ثواب ربكم، بمراعاة شرعه ودينه في الأموال والأولاد، وألا تحملكم على توريط أنفسكم في مخاطر الخيانة وأضرارها.
والعاصم لكم من الوقوع في المضار والمخاطر هو تقوى الله، أي اتباع أوامره، واجتناب نواهيه، ثم وعد الله المؤمنين بشرط الاتقاء وإطاعة الله، فإن تتقوا الله، يؤتكم فرقانا، أي فرقا بين حقكم وباطل من ينازعكم أي بالنصرة والتأييد عليهم، وإن تتقوا الله يمح عنكم ذنوبكم وسيئاتكم السابقة، ويسترها عن الناس، ويطهركم من الآثام والخطايا، ويؤتكم الثواب الجزيل، والله صاحب الفضل الواسع والعطاء العظيم، وما أكثر الأوامر القرآنية بالتقوى، فهذه الآية مثل آية أخرى هي: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٨) [الحديد: ٥٧/ ٢٨].
كيد المشركين في مكة للنبي صلّى الله عليه وسلّم
لم يترك المشركون القرشيون نوعا من الأذى إلا ألحقوه بالنبي صلّى الله عليه وسلّم، ومن أشد وأخطر ألوان الأذى تلك المؤامرة الخطيرة التي أجمعوا عليها في اجتماع قريش في دار الندوة بمحضر إبليس في صورة شيخ نجدي، على ما نص ابن إسحاق في سيرته وهي اتفاقهم على قتل الرسول عليه الصلاة والسلام على يد زمرة من مختلف القبائل العربية، وصف الله لنا هذه المكائد والمؤامرات بقوله سبحانه:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
«١» «٢»
(١) المكر: المخاتلة والتداهي والتآمر.
(٢) أي يحبسوك بالقيد حتى لا تتحرك.
790
«١» [الأنفال: ٨/ ٣٠- ٣١].
نزلت الآية الأولى: وَإِذْ يَمْكُرُ في شأن اجتماع قريش في دار الندوة.
أخرج ابن أبي حاتم وابن إسحاق عن ابن عباس قال: إن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من أهل نجد، سمعت بما اجتمعتم له، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأي أو نصح، قالوا: أجل، فادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا في شأن هذا الرجل، فقال قائل: احبسوه في وثاق، ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير ونابغة، فإنما هو كأحدهم.
فقال عدو الله الشيخ النجدي: لا والله، ما هذا لكم برأي، والله ليخرجن رائد من مجلسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم، ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، فانظروا في غير هذا الرأي.
فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم، واستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع.
فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم- ثم استعرض العرب- ليجتمعن عليه، ثم ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم، ويقتل أشرافكم.
قالوا: صدق والله، فانظروا غير هذا، فقال أبو جهل: والله لأشيرنّ عليكم
(١) أكاذيبهم المسطورة في كتبهم.
791
برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره، قالوا: وما هذا؟ قال: تأخذون من كل قبيلة وسيطا شابا جلدا (أي قويا) ثم نعطي كل غلام منهم سيفا صارما يضربونه ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرق دمه في القبائل كلها، فلا أظن أن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلهم، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل (أي الدية) واسترحنا وقطعنا أذاه عنا.
فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأي، القول ما قال الفتى، لا أرى غيره، فتفرقوا على ذلك، وهم مجمعون له، فأتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيته تلك الليلة، وأذن الله عند ذلك في الخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة، يذكّره نعمته عليه: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا
وهذه أسباب الهجرة النبوية من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة.
ومعنى الآية: واذكر أيها النبي حينما اجتمع المشركون لتدبير مؤامرة خطيرة عليك وعلى دعوتك، فذلك أمر يستحق الشكر على النعمة، ويدعو للعبرة والعظة، ويدل على صدق دعوتك وتأييد ربك لك في وقت المحنة.
لقد دبروا لك إحدى مكائد ثلاث: إما الحبس الذي يحول بينك وبين دعوة الناس، وإما القتل بطريق جميع القبائل، وإما الطرد والإخراج من البلاد. إنهم يمكرون بك، أي يخفون المكائد لك، ويخفي الله ما أعد لهم من الجزاء والعذاب على مكرهم، والله خير المدبرين وأمضى المخططين والمنفذين وأقدرهم وأعزهم جانبا، لأن تدبيره نصر للحق وعدل مطلق. هذا مكرهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم.
وهناك مكر بالدين والقرآن وهو ما قال الله تعالى: وَإِذا تُتْلى أي إذا تليت آيات القرآن الواضحة، قالوا جهلا وعنادا وسفها واستكبارا: لو نشاء لقلنا مثل هذا من القصص والأنبياء، فإن هذه إنما هي أساطير من قد تقدم، أي قصصهم المكتوبة المسطورة من دون تمحيص ولا نظام، يتعلم منها ويتلوها على الناس. نزلت
792
هذه الآية في النضر بن الحارث الذي كان يقول في كتاب الله ما يقول، ومن أقاويله:
ما جاء في هذه الآية: ما هذا إلا أساطير القدماء، ونسب هذا القول للقرشيين، لأن النضر كان من أنبلهم وأفهمهم والمأخوذ بقوله، فكان إذا قال قولا، ردده كثير منهم واتبعوه عليه، حسبما يفعل الناس دائما بعلمائهم وفقهائهم.
إكرام العرب بالنبي صلّى الله عليه وسلّم
قد يظن بعض الأذكياء أنهم بذكائهم واغترارهم بفهمهم يستطيعون إدراك كل شيء، وفهم وقول كل شيء، متناسين أن القدرة العقلية البشرية محدودة متناهية، لا تتجاوز نطاقا معينا، ومن هؤلاء المغرورين بذكائهم ومعرفتهم بعض العرب مثل النضر بن الحارث الذي كان كثير السفر إلى فارس والحيرة، وكان يسمع قصص الرهبان والأناجيل، ويسمع أخبار رستم واسبنديار، فلما سمع القرآن، ورأى فيه من أخبار الأنبياء والأمم قال: لو شئت لقلت مثل هذا. وقال عن القرآن: إن هذا إلا أساطير الأولين،
فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: ويلك إنه كلام رب العالمين، فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة من السماء، فنزلت الآيات التالية
تحكي قوله وترده إلى صوابه وتبين فضل النبي على العرب:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
793
«١» [الأنفال: ٨/ ٣٢- ٣٥].
لقد تعددت ألوان المكر من المشركين بالنبي صلّى الله عليه وسلّم حتى اضطر إلى الهجرة، وتمادوا في غيهم وضلالهم وحاولوا المكر في دين محمد، سواء بادعاء القدرة على الإتيان بمثل القرآن أو بوصفه بأنه أساطير الأولين، أي قصص السابقين المسطورة في الكتب دون تمحيص ولا تثّبت من صحتها.
وهذه الآيات إخبار من الله تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وادعائهم الباطل حين سماع آيات الله تتلى عليهم، فقالوا حسدا لمحمد على لسان زعمائهم مثل النضر بن الحارث وأبي جهل بن هشام: لو شئنا لقلنا مثل القرآن، فأمر الله نبيه أن يقول: واذكر يا محمد حين قالت قريش: اللهم إن كان هذا هو الحق المنزل من عندك، فعاقبنا بإنزال حجارة ترجمنا بها من السماء، كما عاقبت أصحاب الفيل، أو ائتنا بعذاب أليم أي مؤلم، سوى ذلك.
ولكن الله تعالى جلت حكمته ورحمته أمهلهم بالعذاب إكراما لنبي الله محمد صلّى الله عليه وسلم، وأخبرهم معلنا فضله عليهم: وما كان من مقتضى سنة الله ورحمته وحكمته أن يعذبهم، والرسول موجود بينهم، لأنه إنما أرسله رحمة للعالمين، لا عذابا ونقمة، وما عذّب الله أمة ونبيها فيها، وكذلك ما كان الله ليعذبهم عذاب الاستئصال في الدنيا الذي عذّب بمثله بعض الأمم السالفة، وهم يستغفرون، أي إن بعض المؤمنين ما يزالوا يجاورون الكفار في مكة بعد الهجرة وهم يطلبون من الله المغفرة، أو أن بعض أولاد الكفار المولودين منهم يؤمنون بالله ويستغفرونه، أو أنهم في أثناء طوافهم بالكعبة كانوا يقولون: غفرانك، ولا عذاب في الدنيا مع الاستغفار.
(١) أي صفيرا وتصفيقا.
794
ويمكن أن يعذبهم الله بعذاب دون عذاب الاستئصال، فقال تعالى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي من الممكن القريب أن يعذبهم الله بعذاب آخر غير الاستئصال، بسبب أنهم يمنعون الناس عن المسجد الحرام، ولو لأداء مناسك الحج وتعظيم البيت الحرام.
ومن كانت هذه حالته بصد الناس عن المسجد الحرام لم يكن وليا نصيرا للمسجد، ولا يستحق تولي أمره، وإنما هم يستحقون القتل بالسيف والمحاربة، وهذا رد لمزاعم قريش الذين كانوا يقولون: نحن أولياء البيت الحرام، نصد من نشاء، وندخل من نشاء، سلب الله منهم الولاية على البيت الحرام، وأعلمهم أنهم ليسوا أولياءه، فما أولياؤه وأحباؤه وحماته إلا المتقون المؤمنون المسلمون، ولكن أكثر الكفار المشركين حمقى جهلاء لا يعلمون أنهم ليسوا بأولياء البيت الحرام، بل يظنون أنهم أولياؤه.
وسبب عدم أهلية المشركين لولاية البيت الحرام: هو عدم تعظيمهم له في الحقيقة، فلم تكن صلاتهم عند البيت وتقرّبهم وعبادتهم إلا تصفيرا وتصفيقا، لا يحترمون حرمة البيت، ولا يعظمونه حق التعظيم، قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفّر وتصفّق.
ومن كان هذا شأنه فهو أحق بسلب الولاية منه على البيت الحرام، وأجدر بالعقاب والعذاب، فليذوقوا القتل والأسر يوم معركة بدر، بسبب كفرهم وأفعالهم التي لا يقدم عليها إلا الكفرة، وهذا هو العذاب الذي طلبوه سفها منهم وطيشا وتحديا وعنادا.
795
عاقبة الإنفاق الخاسرة
يقدم كثير من الناس أحيانا على أعمال مادية طائشة لا تحقق مصلحة، ولا تجلب منفعة، بسبب الحمق والسفه، أو بسبب التعصب الأعمى والحقد الدفين، فيذهب المال هدرا، وتتبدد الثروة هباء منثورا، وعندها يقع الندم، وكل ذلك سهل في أمور الدنيا، فإن الإنفاق للصد عن سبيل الله ومقاومة شرعه ومحاربة القيم التي نزلت بها شرائع الله، يكون أسوأ عاقبة، وأشد وبالا في الآخرة، لأن فيها العذاب الشديد، قال الله تعالى واصفا بعض تصرفات مشركي قريش في هذا المجال:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
«١» «٢» «٣» [الأنفال: ٨/ ٣٦- ٣٧].
سبب نزول هذه الآية- فيما رواه ابن جرير وابن أبي حاتم- أن أبا سفيان أنفق في غزوة أحد على الأحابيش (الجنود المرتزقة) وغيرهم أربعين أوقية من الذهب، أو نحو هذا. والأوقية: أربعون مثقالا من الذهب، والمثقال (٢٥، ٤ غم).
وقال الضحاك وغيره: إن هذه الآية نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر، الذين كانوا يذبحون يوما عشرا (من الإبل) ويوما تسعا من الإبل.
فالمشركون بقيادة أبي سفيان أنفقوا المال الكثير في بدر وأحد، وقالوا: يا معشر قريش، إن محمدا قد وتركم (نقصكم) وقتل رجالكم، فأعينونا بهذا المال (أي مال العير الذي نجا قبل موقعة بدر) على حربه، لعلنا ندرك منه ثأرا.
(١) ندما وتأسفا.
(٢) أي يساقون ويجمعون إلى جهنم، والحشر: جمع الناس وغيرهم.
(٣) فيجمعه ملقى بعضه على بعض.
796
ولكن الله تعالى أخبرهم بأن هذه النفقة ستكون وبالا عليهم في الدنيا والآخرة، وتصف الآية ذلك، ومعناها: إن الذين كفروا بالله ورسوله يقصدون من الإنفاق صدّ الناس عن اتّباع محمد، وهو سبيل الله تعالى، وحين ينفقون أموالهم تكون عاقبة هذا الإنفاق في النهاية لحرب النبي صلّى الله عليه وسلّم والصدّ عن دينه ندما وحسرة، فكأنها في ذاتها تصير ندما وتنقلب حسرة، أي أنها لا تحقق المقصود، وإنما تؤدي إلى عكسه، وهو الوقوع في الحسرة والندامة، كما قال الله تعالى في شأن صاحب الجنة (البستان) التي أحرقها الله بسبب كفره: فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً [الكهف: ١٨/ ٤٢] لأنه مال ضائع في سبيل الشيطان، ولا يؤدي إلى النصر، وإنما على العكس مصيره إلى الهزيمة، فهم يغلبون وينكسرون، كما قال الله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (٢١) [المجادلة: ٥٨/ ٢١].
هذا عذابهم في الدنيا: ضياع المال والهزيمة: وعذابهم في الآخرة: أنهم يساقون إلى جهنم، إذا أصرّوا على كفرهم وماتوا وهم كفار، لأن منهم من أسلم وحسن إسلامه.
أما المسلمون المؤمنون إذا أنفقوا أموالهم في سبيل الله، فيتحقق إما النصر في الدنيا، وإما الثواب في الآخرة، أو الأمران معا وسعادة الدارين.
هذه مقارنة واضحة تبين فائدة الإنفاق في سبيل الخير، وضرر الإنفاق في سبيل الشر والشيطان، والله تعالى في قضائه وقدره وعلمه الأزلي كتب النصر للمؤمنين، والهزيمة للكافرين وضياع أموالهم، وإيقاع الحسرة والألم في قلوبهم، ليميز أي يفصل الفريق الخبيث من الفريق الطيب، أي يفرّق بين الفريقين وهما فريق الكافرين، وفريق المؤمنين، أو فريق أهل الشقاء وفريق أهل السعادة، ويجعل الخبيث بعضه متراكما فوق بعض في جهنم، أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.
797
أوضحت الآيتان حصاد أهل الإيمان، فهم بجهادهم الصادق، وعملهم المخلص يتبوءون الدرجات العالية في جنان الخلد، وأهل الكفر والضلال يطوي التاريخ صفحتهم من الوجود، ويعتبرهم مثلا للتخلف والانزواء والضياع في الدنيا، ووقودا للنار في الآخرة، بسبب سوء أعمالهم وقبح أفعالهم، ومقاومتهم رسالة الحق والخير والإصلاح.
الترغيب في الإيمان
إن من الخطأ الكبير أن يتعجل المصلحون عقاب المنحرفين، ويتجهموا في وجههم ويتنكروا لهم، ولكن الحكمة والمصلحة أنه لا بد من الصبر والحلم، والعفو والصفح، والترغيب والتشويق، ليقبل الناس على الخير عن طواعية واختبار. وهذا الاتجاه هو الذي سلكه القرآن في تربية الدعاة إلى الله والإسلام، حيث رغّب غير المؤمنين بالإيمان بوسائل مختلفة، وفتح لهم باب الرحمة الواسعة والفضل الكبير، بتجاوز الماضي والعفو عن السيئات السابقة، فقال الله تعالى مقررا هذا المنهج التربوي الأصيل:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
«١» «٢» [الأنفال: ٨/ ٣٨- ٤٠].
هذا أمر من الله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للكفار هذا المعنى الذي تضمنته ألفاظ
(١) عادة الله في مكذبي الرسل.
(٢) شرك أو اختبار. [.....]
798
قوله سبحانه: إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ والمقصود: قل أيها الرسول للذين كفروا كأبي سفيان وأصحابه القرشيين: إن ينتهوا عما هم فيه من الكفر والمقاومة والعناد ومعاداة الإسلام ونبيه، ويدخلوا في الإسلام ويؤمنوا حق الإيمان، يغفر لهم ما قد سبق من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم، كما
جاء في الحديث الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أحسن في الإسلام، لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية، ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر»
وفي حديث صحيح آخر: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «الإسلام يجبّ ما قبله، والتوبة تجب ما كان قبلها».
فإن عاندوا وأصروا على الكفر، خسروا الدنيا والآخرة، لذا حذرهم الله وأعلمهم أنهم إن يعودوا إلى حظيرة الكفر والصد عن سبيل الله والعناد وقتال أهل الحق والإيمان، ويستمروا على ما هم عليه، طبّقت عليهم سنة الله المطردة في الأمم السابقة وهي تدمير وإهلاك المكذبين السابقين الذين كذبوا الأنبياء وتحزبوا ضدهم، كما حدث لقريش يوم بدر وغيره، وظهر وعد الله القائل: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) [غافر: ٤٠/ ٥١].
إذا لم ينفع الترغيب جاء الوعيد الشديد بالدمار لكل من عتا وتكبر، وبغى وتجبر.
إن أولئك الذين بقوا متحصنين في خندق الكفر ولم تنفعهم الموعظة والكلمة الطيبة جديرون بالعقاب وهو القتال، لذا أمر الله بقتالهم إذا أصروا على كفرهم، فقال سبحانه: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ.. أي وقاتلوا أيها المسلمون قتالا عنيفا أعداءكم المشركين المعاندين، حتى لا يبقى شرك أبدا، والفتنة هي الشرك كما قال ابن عباس وغيره، وحتى لا يعبد إلا الله وحده، ولا يفتن مؤمن عن دينه، ويخلص التوحيد لله، فتعلن كلمة: لا إله إلا الله، وتمتد ظلال الحرية في آفاقها،
799
ويتمكن الناس من النظر الطليق والفكر الحر غير المقيد بما يحقق لهم سعادة الدنيا والآخرة، وهذا تحديد دقيق للغرض من القتال: وهو التمكين من حرية التدين، وإزالة حواجز الفكر، وقيود الظلم والاضطهاد، فلا يكره أحد على ترك عقيدته، وإنما يكون قبوله الإسلام عن طواعية وحرية واختيار، عملا بالتوجيه القرآني: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ [البقرة: ٢/ ٢٥٦].
فإن انتهوا عن الكفر وعن قتال المؤمنين والدعاة إلى الله، فكفّوا عنهم وإن لم تعلموا بواطنهم، فإن الله بما يعملون بصير، أي فإن الله عليم بأعمالهم، يجازيهم عليها بحسب علمه.
وإن تولوا وأعرضوا عن سماع دعوتكم، ولم ينتهوا عن كفرهم، فلا تعتنوا بأمرهم، واعلموا أن الله متولي أموركم وناصركم أيها المؤمنون، فلا تبالوا بهم، ومن كان الله مولاه وناصره، فلا يخشى شيئا، إنه نعم المولى ونعم النصير، فلا يضيع من تولاه، ولا يغلب من نصره الله، ولكن نصر الله مرهون بأمرين: الأول- الإعداد المادي والمعنوي للجهاد كما قال تعالى: وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:
٨/ ٦٠]. والثاني- نصرة دين الله وتطبيق شرعه وتنفيذ أحكامه، كما قال الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) [محمد: ٤٧/ ٧].
كيف كانت تقسم الغنائم؟
كانت الجيوش في الماضي غير نظامية، تعتمد على التطوع بالجهاد بالنفس والمال والسلاح، فكان المجاهد هو الذي يعدّ فرسه وسلاحه وينفق على نفسه أثناء الجهاد مع الأعداء، وكان هذا الوضع مستمرا في العصور الإسلامية حيث كان القتال بما يسمى اليوم بالسلاح الأبيض. فكان من العدل وضرورة التعويض والمكافأة أن يأخذ
800
المجاهدون أربعة أخماس الغنائم الحربية، ويوزع الخمس على خمسة أصناف من غير المجاهدين هم جزء من الأمة، والأمة الإسلامية متعاونة فيما بينها في السراء والضراء، قال الله تعالى مبينا حكم الغنيمة: وهي ما أخذ من الأعداء عنوة، والفيء ما أخذ صلحا:
[سورة الأنفال (٨) : آية ٤١]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
«١» [الأنفال: ٨/ ٤١].
أبان الله تعالى في مطلع سورة الأنفال أن حكم الغنائم أو الأنفال لله تعالى يحكم بها بمقتضى الحكمة والعدل، ويقسمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم على ما أمره الله تعالى به.
وجاءت هذه الآية في السورة نفسها مفصّلة لحكم الغنائم التي اختص الله هذه الأمة بإباحتها، أما قبل ذلك فكانت الغنائم لا تحل للمقاتلين، وإنما تنزل نار من السماء فتحرقها،
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم في الحديث الصحيح: «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي».
وحكم الغنائم في شريعتنا أنها تقسم أخماسا، فيجعل الخمس لمن ذكرتهم هذه الآية، والأربعة الأخماس الباقية للغانمين المقاتلين كما أوضحت السنة النبوية
فيما رواه الشافعي وابن أبي شيبة: «إنما الغنيمة لمن شهد الوقعة».
والغنيمة: هي ما دخلت في أيدي المسلمين من أموال الأعداء المشركين على سبيل القهر أو العنوة.
والراجح أن خمس الغنائم كان يقسم بموجب هذه الآية على خمسة أصناف. وقوله
(١) يوم بدر يوم الفرقان بين الحق والباطل.
801
سبحانه: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ افتتاح كلام للتبرك وتفخيم الأمور بذكر اسم الله وتعظيمه، وبحسب أمره وتفويضه شأن القسمة لرسوله، لأن كل شيء مفوض لله، فهو يحكم بما يشاء، ولله كل الدنيا والآخرة.
والأصناف الخمسة المذكورة في الآية هي ما يأتي:
١- سهم الرسول صلّى الله عليه وسلم، يضعه حيث يشاء في سبيل الله.
٢- سهم ذوي القربى: أي قرابة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل.
٣- سهم اليتامى: وهم أطفال المسلمين الذين هلك آباؤهم في سن الصغر، واليتم في بني آدم من قبل الآباء، وفي البهائم: من قبل الأمهات.
٤- سهم المساكين: وهم أهل الحاجة من المسلمين.
٥- ابن السبيل: وهو المجتاز سفرا قد انقطع به في الطريق، واحتاج إلى المال، سواء كان غنيا في بلده أو فقيرا، فإنه ابن السبيل، يسمى بذلك لملازمته السبيل.
والتوزيع لهؤلاء الأصناف الخمسة مثل واضح لتضامن الأمن من أجل تحقيق التكافل الاجتماعي بين المؤمنين. وهؤلاء أهم من يدفع إليهم، وللإمام بالإجماع أن ينفق في غير هذه الأصناف إن رأى ذلك.
وأربعة أخماس ما غنم يقسمه الإمام الحاكم على الجيش، حينما كان الجهاد تطوعا، وأما اليوم بعد تكوين الجيوش النظامية ودفع رواتب شهرية دائمة للجنود والضباط، فإن الغنائم الحربية تكون من حق الدولة.
ثم قال الله تعالى بعد بيان مصرف خمس الغنيمة: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي امتثلتم ما شرعنا لكم من اقتطاع الخمس للمحتاجين إن كنتم آمنتم بالله واليوم
802
الآخر، واقنعوا بالأخماس الأربعة الباقية إن صدقتم بالله وبما أنزله على رسوله يوم بدر الذي سمي بيوم الفرقان، أي يوم الفرق بين الحق والباطل، بإعزاز الإسلام وإذلال الشرك، فنصرنا المؤمنين يوم التقى الجمعان، أي فريقا المسلمين والكافرين، لسبع عشرة خلت من رمضان في السنة الثانية من الهجرة، وهو أول قتال شهده الرسول صلّى الله عليه وسلم، وهو يوم الوقعة التي قتل فيها صناديد قريش ببدر، والله على ذلك وغيره قادر مقتدر، يقدر على نصركم وأنتم قلّة، ولا يمتنع عليه شيء أراده، وينجز وعده لرسوله.
والمقصود من هذه الآية التحذير من تجاوز حدود الله في أي وقت، وليس المراد أخذ العلم فقط، بل العلم المقترن بالعمل والاعتقاد. والإيمان الحق بالله والرسول والمنزّل عليه وباليوم الآخر من دواعي العلم بأن لله حق التصرف في الأشياء، وله تفويض قسمة الغنائم وغيرها إلى رسوله لأن النصر من عند الله، وهو صاحب التشريع، يفعل ما يشاء بمقتضى الحكمة والمصلحة العامة.
فضل الله على المسلمين بنصرهم يوم بدر
إن من مقتضيات الأمانة ووحدة تاريخ المسلمين أن تظل الأمة تشعر بارتباطها الوثيق بالماضي ليكون عدة للحاضر والمستقبل، فتعلم مدى أفضال الله عز وجل على الفئة القليلة المؤمنة في صدر الإسلام، حيث نصرها ربها على الفئة الكثيرة الباغية الكافرة، ولا حجر على فضل الله، فإنه سبحانه يجدد منح هذا الفضل في كل زمان إذا كانت الأمة صامدة مجاهدة، صابرة قوية، عازمة على انتزاع النصر من الأعداء، مخلصة في القول والعمل، وهذه صفحة مشرفة تذكرنا بما تم من نصر يوم معركة بدر الكبرى، في قول الله تعالى:
803

[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٢ الى ٤٤]

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
«١» «٢» «٣» [الأنفال: ٨/ ٤٢- ٤٤].
يذكّرنا الله بالنعم العظيمة التي أمدنا بها، فاذكر أيها النبي حين التقى المؤمنون والمشركون في بدر، ذلك اللقاء الحاسم، واشكروه على نصره إياكم فيه، حينما كنتم في مواجهة رهيبة مع الأعداء، إذا كنتم معشر المسلمين في العدوة الدنيا، أي في شفير أو جانب الوادي القريبة من المدينة، الذي يتعذر المشي فيه، لأنها أرض رملية تسيخ فيها الأقدام، والمشركون نازلون في العدوة القصوى، أي في جانب الوادي الأخرى، البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة، وهي قريبة من الماء، ووادي بدر آخذ بين الشرق والقبلة منحرف إلى البحر، والركب أي عير أو قافلة أبي سفيان المحملة بالتجارة المحروسة بأربعين من قريش أسفل منكم، أي مما يلي جانب البحر أو ساحله، ولو تواعدتم أنتم والمشركون في مكان للقتال، لاختلفتم في الميعاد، خوفا من القتال، لقلتكم وقوة أعدائكم في العدد والعدد، ولكن تلاقيكم عن غير موعد ولا رغبة في القتال، ليقضي الله ما أراد بقدرته وحكمته وعلمه من إعزاز الإسلام ونصر أهله، وإذلال الشرك وخذلان أهله، ولينفذ ويحقق الله أمرا كان مبرما وواجبا أن يفعل، وهو نصر أوليائه المؤمنين، وقهر أعدائه الكافرين من بعد ذلك اللقاء، فيزداد المؤمنون إيمانا، وامتثالا لأمر الله، ويظهروا الشكر له.
(١) بحافة الوادي القريبة من المدينة.
(٢) بناحية الوادي البعيدة من المدينة.
(٣) لجبنتم عن القتال.
804
وكان لهذا اللقاء أثر آخر على المدى البعيد، وهو أن يموت من يموت من الكفار عن حجة بينة عاينها بالبصر، تثبت حقيقة الإسلام، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة، شاهدها بإعزاز الله دينه، لئلا يكون له حجة ومعذرة، أو ليقتل من قتل من كفار قريش وغيرهم ببيان من الله وإعذار بالرسالة، ويحيا أيضا ويعيش من عاش عن بيان منه أيضا، وإعذار لا حجة لأحد عليه، فالهلاك والحياة- على هذا التأويل- حقيقتان، فإن وقعة بدر من الآيات الواضحة التي ترسخ الإيمان، وتدفع إلى صالح الأعمال، وإن الله لسميع عليم، أي لا يخفى عليه شيء من أقوال الكافرين والمؤمنين، ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو سبحانه سميع لما قاله الكافرون، وعليم بأحوالهم، وسميع لدعاء المؤمنين وتضرعهم واستغاثتهم، وعليم بهم وبأنهم يستحقون النصر على أعدائهم، ويجازي كلا بما يسمع ويعلم.
واذكر أيها النبي فضلا آخر، إذ يريك الله الكفار في منامك قليلا، أي ضعفاء، فتخبر أصحابك بذلك، فتثبت قلوبهم، وتطمئن نفوسهم، ولو أراكهم كثيرا، أي أقوياء في الواقع لجبنتم عنهم، واختلفتم فيما بينكم، وتنازعتم في شأن القتال، فمنهم القوي الإيمان والعزيمة، ومنهم الضعيف الذي يخشى لقاء العدو.
ولكن الله سلّم من ذلك الفشل (الجبن) والتنازع، بأن أراكهم قليلا، إنه تعالى عليم بذات الصدور، أي بما تخفيه الصدور، وتنطوي عليه النفوس من شعور الضعف والجزع الذي يؤدي إلى الإحجام عن القتال، وعليم بالإيمان والكفر، فيجازي بحسب ذلك. واذكر أيها الرسول والمؤمنون الوقت الذي يريكم الله الكفار قبل القتال عددا قليلا، في رأي العين المجردة، حتى تجرأتم وارتفعت معنوياتكم، ويجعلكم بالفعل قلة في أعين الكفار، فيغتروا ولا يعدّوا العدة لكم، حتى قال أبو جهل: «إنما أصحاب محمد أكلة جزور، خذوهم أخذا، واربطوهم بالحبال».
805
لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي فعل الله كل ذلك ليمهد للحرب، فتكون سبيلا في علمه تعالى لنصرة المؤمنين وإعزاز الإسلام، وهزيمة الكافرين وإذلال الكفر والشرك، ثم إلى الله مصير الأمور ومردها.
آداب القتال وقواعده
يتطلب القتال التقيد بقواعد وآداب معينة كثيرة، لتحقيق النصر، والعز، ولأنه موقف حاسم حساس يحتاج لضوابط لها أهميتها في الموقف القتالي، وآثارها في صفوف المقاتلين، ومن المعلوم أن القرآن الكريم ليس كتابا دينيا فحسب، وإنما هو دستور رصين متين في العقيدة والعبادة، والأخلاق والأنظمة، والسلم والحرب، لذا اشتملت توجيهاته على وصايا حكيمة، ومبادئ قويمة في الجهاد، فقال الله تعالى:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
«١» «٢» [الأنفال: ٨/ ٤٥/ ٤٧].
هذه طائفة من الإرشادات والوصايا الإلهية تعدّ من ركائز قواعد القتال وأسسه الضرورية النابعة أصالة من وعاء الإيمان، لذا افتتحت بخطاب المؤمنين المصدقين بالله ورسوله، حتى وإن كانوا قلائل ضعفاء، والإيمان يمنح القوة ويرفع المعنويات، أما الكفر فشأن أهله الجبن وضعف المعنويات، حتى وإن انتصروا أحيانا.
وسبب نزول الآيات فيما رواه الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: لما
(١) أي قوتكم أو دولتكم.
(٢) طغيانا وأشرا.
806
خرجت قريش من مكة إلى بدر، خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا...
وأول هذه القواعد الحربية: الثبات أمام الأعداء، فإذا حاربتم أيها المؤمنون أعداءكم والتقيتم معهم في ميدان القتال، فالواجب عليكم أن تثبتوا في قتالهم، وتصمدوا للقائهم، وإياكم والفرار من الزحف، فالثبات فضيلة وركيزة أساسية، والفرار كبيرة موجبة للعقاب.
ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن أبي أوفى: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم انتظر في بعض أيامه التي لقي فيها العدو، حتى إذا مالت الشمس قام فيهم، فقال: «يا أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف».
والقاعدة الثانية: ذكر الله كثيرا في القلب واللسان، والتضرع والدعاء بالنصر والظفر، لأن النصر لا يحصل إلا بمعونة الله تعالى، وذكر الله في أثناء القتال يحقق معنى العبودية لله، ويشعر بمعنى الإيمان والتفويض لله والتوكل عليه، ويرفع الروح المعنوية، ويكون عونا على تحقيق النصر، لذا ختمت الآية بقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي إن هذا الثبات وذكر الله من وسائل الفوز بالأجر والثواب، والنصر على الأعداء، فإنكم بالثبات والذكر تنالون بغيتكم وتحققون آمالكم.
وذكر الله هنا ذكر خفي لأن رفع الأصوات في موطن القتال رديء مكروه، فأما إن كان من الجميع عند الحملة فحسن يهدئ، ويفت في عضد العدو.
روى أبو القاسم الطبراني عن زيد بن أرقم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله يحب الصمت عند ثلاث: عند تلاوة القرآن، وعند الزحف، وعند الجنازة» وكان الصحابة يكرهون الصوت في هذه المواطن الثلاثة.
والقاعدة الثالثة: طاعة الله والرسول في كل ما أمر به أو نهى عنه وهذا يستتبع
807
طاعة القائد لأن الطاعة من أسباب انتزاع النصر في القتال وغيره، فهي وسيلة الانضباط، وتوفير النظام، وقمع الفوضى، وتوقيت الأحداث بحسب ما يناسبها.
وإن من أهم قواعد الحرب في العصر الحاضر طاعة القائد، والمعروف لدى العسكريين: (نفّذ ثم اعترض).
والقاعدة الرابعة: وحدة الصف والكلمة والهدف، وترك التنازع والاختلاف، فإن وحدة الصف قوة وصلابة، والتنازع والاختلاف مدعاة للجبن والفشل والخيبة والهزيمة وتضييع القوة. قال الله تعالى في آية أخرى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) [الصف: ٦١/ ٤].
والقاعدة الخامسة: الصبر على الشدائد والمحن وتحمل بأس العدو، فإن الصبر سلاح القوي المقدام، والله يؤيد الصابرين ويعينهم وينصرهم، لذا قيل:
«الشجاعة: صبر ساعة».
والقاعدة السادسة: ترك التكبر والبطر: وهو الأشر وغمط النعمة وإهمال شكرها، وترك الرياء، وهو المباهاة والتصنّع بما يراه غيرك، وقد نهى الله المؤمنين عن التشبه بكفار قريش الذين خرجوا متبخترين متكبرين مرائين للقتال في بدر، دفعا للحق، وصدا عن سبيل الله والإسلام، وإظهارا للفخر والاستعلاء بنعمة القوة والغنى والزعامة، ومن أجل مراءاة الناس، أي المفاخرة والتكبر عليهم، يتمثل ذلك في قول أبي جهل، لما قيل له: إن العير (إبل الميرة) قد نجت فارجعوا، فقال: لا والله، لا نرجع حتى نرد ماء بدر، وننحر الجزر، ونشرب الخمر، وتعزف علينا القيان، وتتحدث العرب بمكاننا فيها يومنا أبدا.
هذه النصائح التي هي دليل على الإخلاص في النية والعمل تكفل النصر للمسلم أبدا، لذا تقيدت الآية بزجر المؤمنين عن التشبه بخصال الكفار، وذلك في قوله
808
تعالى: وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أي عالم بما جاؤوا به ولأجله، فيجازيهم عليه شر الجزاء في الدنيا والآخرة. وهذا وعيد وتهديد لمن بقي من الكفار، وتوضيح بأن القدر نافذ فيمن مضى بالقتل.
موقف الشيطان من الكفار
تتوالى نعم الله وأفضاله على المؤمنين الصادقين بالإمداد والعون والنصر، وإضعاف موقف العدو وتحطيم معنوياته، وبيان مصائر الأعداء حين القتل أو الموت بسبب سوء ما قدموا من أعمال، وما جنوا من سيئات بوضع العراقيل أمام مسيرة الحق والإيمان، وأساؤوا لأنفسهم وأتباعهم، قال الله تعالى مبينا موقف الشيطان من الأعداء في المعارك:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٨ الى ٥١]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)
«١» «٢» «٣» [الأنفال: ٨/ ٤٨- ٥١].
روي أن الشيطان يوم بدر تمثل لكفار قريش في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، من بني بكر بن كنانة، وكانت قريش تخاف من بني بكر أن يأتوهم من
(١) أي مجير لكم، فأنتم في ذمتي وحمايتي.
(٢) رجع إلى الوراء مدبرا.
(٣) أي اغتر هؤلاء المسلمون بدينهم وظنوا أنهم متغلبون على قريش، مع قلة عددهم وكثرة عدد قريش.
809
ورائهم، لأنهم قتلوا رجلا منهم، قال الضحاك: جاءهم إبليس يوم بدر برايته وجنوده، وألقى في قلوبهم أنهم لن ينهزموا، وهم يقاتلون على دين آبائهم.
والمعنى: واذكروا أيها المؤمنون المواقف المدهشة والعبر من مشاهد يوم بدر، وفي ذلك مشاهد ثلاثة: موقف الشيطان وهو إبليس نفسه كيف وسوس لكفار قريش ثم تخلص من المشركين وقت اشتداد المحنة، وموقف المنافقين الذين سخروا من المؤمنين لتهورهم قائلين: غرّ هؤلاء دينهم، وحال الكفار حين موتهم حيث تضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم.
المشهد الأول- أن الشيطان أتى بنفسه لمعسكر قريش بمكة، أو جاءهم وهم في طريقهم إلى بدر، وقد لحقهم خوف من بني بكر وكنانة لحروب كانت بينهم، جاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك من بني بكر، وهو سيد من ساداتهم، وقال لهم: إني مجير لكم، ولن تخافوا من قومي، وهم لكم أعوان على مقصدكم، ولن يغلبكم أحد، فسرّوا عند ذلك، ومضوا لطيّتهم «١»، وقال لهم: «أنتم تقاتلون عن دين الآباء ولن تعدموا نصرا» فلما التقى الجمعان كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما رأى الملائكة نكص على عقبيه، أي رجع هاربا إلى الوراء، أي أحجم، فقال له الحارث:
أتفرّ يا سراقة؟ فلم يلو عليه، أي لم يقم معه ولم ينتظره، ودفع في صدر الحارث، وذهب، فوقعت الهزيمة، وقال: إني أرى ما لا ترون من جند الملائكة، وأظهر الخوف من الله قائلا: إني أخاف الله، والله شديد العقاب في الدنيا والآخرة. وكان خوفه من الملائكة حتى لا تحرق جنوده. هذا موقف الشيطان من كفار قريش.
والمشهد الثاني- هو موقف المنافقين من المسلمين: فإن المنافقين والذين في قلوبهم مرض، أي شك ونفاق وحسد وحقد وبطر، قالوا عن المسلمين: اغتر هؤلاء
(١) أي نيتهم وحاجتهم.
810
المسلمون بدينهم، وتقووا به، وظنوا أنهم ينصرون من أجله، فخرجوا وهم ثلاث مائة وبضعة عشر إلى لقاء زهاء ألف من قريش، وهذا صحيح في موازين القوى العسكرية الظاهرية في أنظار الناس عادة، ولكنه في ميزان الله وتقديره قد يختلف التقدير، فقد تغلب الفئة القليلة الفئة الكثيرة، ولم يعلم المنافقون أن من يتوكل على الله حق التوكل، فهو حسبه وناصره ومؤيده، فإن الله عزيز قوي غالب على أمره، يعز أولياءه، ويذل أعداءه، حكيم في فعله، عليم بخلقه.
والمشهد الثالث- حال الكفرة وقت الموت، وهو حال يستدعي التعجب مما حلّ بالكفار يوم بدر، وفي ذلك وعيد لمن بقي منهم، إنه مشهد رهيب مذهل لا يوصف، حيث تقوم الملائكة بضرب الكفرة بعنف وسخط، يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد، وينزعون أرواحهم من أجسادهم بشدة وعنف قائلين لهم: ذوقوا عذاب الحريق، أي عذاب النار في الآخرة، وهو إنذار لهم بذلك العذاب. إن ذلك العذاب الشديد والضرب الأليم بسبب ما قدموا من أعمال سيئة، وارتكبوا من منكرات كالكفر والظلم في الدنيا، وهو جزاء حق وعدل، لا ظلم فيه لأن الله تعالى ليس بظلام للعبيد، ولا يظلم أحدا من خلقه، فهو سبحانه، الحكم العدل الذي لا يجور أبدا.
الموازنة بين عذاب المشركين وعذاب آل فرعون
يعقد القرآن الكريم مقارنة أو موازنة بين ألوان العذاب أو العقاب الذي يوقعه بأهل الضلال والكفر بسبب ما اقترفوا من آثام وسيئات، وهذه مقارنة بين عذاب المشركين المكيين وعذاب آل فرعون لأن الجزاء واحد والأسباب متشابهة، وفي ذلك عبرة للمعتبر، وموعظة لكل عاقل. قال الله تعالى:
811

[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٢ الى ٥٤]

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
[الأنفال: ٨/ ٥٢- ٥٤].
هذه الآيات تدل دلالة واضحة على عدالة الله وقوته وشدة عقابه، فإن الجزاء يكون من جنس العمل، وسنة الله ونظامه واحد في الأقوام، فكما عاقب الله آل فرعون بسبب كفرهم وذنوبهم، عاقب مشركي قريش الذين كذبوا بآيات الله وصدوا الناس عن دين الله، فإن عادة الله واحدة، فما حل بالعذاب بمشركي قريش بسبب كفرهم يشبه ما حل من عذاب بقوم فرعون والأمم المكذبة قبلهم، فجوزي المشركون بالقتل والسبي، كما جوزي من قبلهم بالإغراق أو الزلزال والخسف أو الصيحة أو الريح الصرصر العاتية، من قوم فرعون وآل عاد وثمود وقوم صالح ولوط والمؤتفكات.
إن هؤلاء الذين أهلكهم الله كفروا بآيات الله، وكذبوا برسل الله، فأخذهم الله بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر، لأن الله قوي لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، قوي عذابه، شديد عقابه لمن يستحق ذلك بظلمه.
روى البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الله تعالى ليملي للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته».
ثم أخبر الله تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، فذكر سبحانه: أن ذلك العذاب الناجم عن سوء
(١) أي كعادة، والمعنى كسنن آل فرعون أو كعادة الله فيهم.
812
العمل في الأقوام الغابرة، وإهلاك قريش بسبب كفرها بأنعم الله عليها، لأن سنة الله وحكمته اقتضت ألا يغير نعمته على قوم، حتى يغيروا ما بهم من الحال، فيكفروا النعمة، ويبطروا بها، فاستحقوا تبديل الأوضاع، كتبديل أهل مكة إطعامهم من جوع، وأمنهم من خوف، إن الله سميع لأقوال المخلوقات قاطبة، ولا سيما مكذبو الرسل، عليم بمن يستحق العقاب وبما يفعلون، فجميع الناس تحت رقابة الله وتصرفه.
وفي هذا تبيان واضح أن استحقاق النعم منوط بصلاح العقائد وحسن الأعمال والأخلاق، وأن زوال النعم يكون بسبب الكفر والفساد وسوء الأخلاق، إلا أن يكون الإنعام أحيانا استدراجا لأهل المعصية حتى يقعوا في بؤرة لا نجاة لهم منها، كما قال تعالى في آية أخرى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ [القلم: ٦٨/ ٤٤].
ثم أكد الله تعالى قانونه العام وسنته المطردة في إهلاك العصاة، وأن سبب العذاب المذكور أولا هو الكفر بآيات الله، أي إنكار الدلائل الإلهية الدالة على وحدانية الله، والسبب الثاني المذكور في الآية التالية هو التكذيب بآيات ربهم، أي إنكار وجوه التربية والإحسان والنعمة، مع كثرتها وتواليها عليهم، فقوله سبحانه:
بِآياتِ رَبِّهِمْ زيادة دلالة على كفران النعم وجحود الحق.
لقد أهلك الله تعالى الأمم السابقة العاصية بذنوبهم، وأغرق آل فرعون بكفرهم وضلالهم، وكان كل من مشركي قريش وآل فرعون ظالمي أنفسهم بالكفر والمعصية، وظالمي سائر الناس بسبب الإيذاء، وأن الله أهلكهم بسبب ظلمهم وذنوبهم، وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم، وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، أي كانوا هم الظالمين الذين عرّضوا أنفسهم لعذاب الله تعالى، ولا يظلم ربك أحدا.
813
وكان عذاب مشركي قريش مقصورا على القتل والسبي وسلب النعمة، وأما عذاب من قبلهم، فكان عذاب استئصال كإغراق آل فرعون، وتدمير قوم عاد بالريح العاتية، وإهلاك قوم ثمود بالصيحة الشديدة وهي الطاغية.
حال الذين ينقضون المعاهدات
إن الكلمة التي يلتزم بها الإنسان عهد وميثاق، وشرف وكرامة، وإنسانية سامية وحضارة عريقة وثقة بالذات، فإذا ما نقض الإنسان عهده وخان التزامه ولم يوف ببنود العهد والميثاق كان هابطا عن المستوى الإنساني، بل إن الدواب الذميمة تكون أفضل منه، وقد حكى القرآن الكريم حال بعض الناقضين عهودهم، والكافرين الذين تحتم عليهم بأنهم لا يؤمنون، فقال الله سبحانه:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٥ الى ٥٩]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
«١» «٢» «٣» «٤» «٥» [الأنفال: ٨/ ٥٥- ٥٩].
نزلت الآية في بني قريظة، قال ابن عباس: إنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وأعانوا عليه بالسلاح في بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية، فنقضوا العهد ومالؤوا الكفار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق، وركب زعيمهم كعب ابن الأشرف إلى مكة، فحالفهم على محاربة النبي صلّى الله عليه وسلم.
(١) تصادفنهم وتظفر بهم.
(٢) ففرّق وبدّد.
(٣) فاطرح إليهم عهدهم. [.....]
(٤) على استواء في العلم بنبذه.
(٥) نجوا من العذاب.
814
ومعنى الآيات: إن شر ما دبّ على وجه الأرض في حكم الله وعدله هم الذين كفروا ونقضوا العهد، فهم شر خلق الله لا تصافهم بصفتين: الإصرار على الكفر الدائم والعناد، ونقض العهد الذي عاهدوه وأكدوه بالأيمان. ولهم صفة ثالثة هي أنهم لا يتقون الله ولا يخافون منه في شيء ارتكبوه من الآثام، ولا يتقونه في غدرهم ونقض العهد.
إنهم كما وصفتهم الآية الكريمة شر من الدواب، لعدم وجود نفع منهم، فهم لا يؤمنون بالله إيمانا صحيحا، وتكرر منهم نقض العهد في كل مرة يعاهدون النبي صلّى الله عليه وسلم، وهو لا يتقون الله ربهم ولا يخافون حسابه، ويخرجون عن أحكام الله. هذا حالهم عند الله، وأما من نقض العهد منهم، فإن أمكنتك الفرصة منهم، وصادفتهم أو ظفرت بهم في الحرب، فاضربهم ضربة قاصمة تفرق بها جمع كل ناقض للعهد حتى يخافك من وراءهم من أهل مكة وغيرهم، افعل ذلك بهم لعل من خلفهم يتعظون ويرتدعون بهم.
ثم أبان الله حكم من ظهرت منهم بوادر الخيانة ونقض العهد بأمارة من الأمارات، فقال تعالى: وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ أي إن ظهرت أمارات الخيانة ونقض العهد من قوم، فألغ عهدهم، وأعلمهم بأنك قد نقضت عهدهم، وذلك حتى تستوي أنت وهم في العلم بنقض العهد حتى لا يتهموك بالغدر والخيانة. والنبذ: الرمي والرفض. والسواء: المساواة والاعتدال. وحينئذ فإن التزموا السلم لم يتعرض لهم، وإلا حوربوا. وبنو قريظة نقضوا العهد مرتين.
إن هذا الإخبار المكشوف بنقض العهد دليل على ثقة المسلمين بأنفسهم، وأنهم يترفعون عن الخيانة والغدر، وأن الغدر حطة ومذلة، والله لا يحب الخائنين، أي يجازيهم على الخيانة.
815
ثم أنذر الله تعالى الخائنين بما يحل بهم من عقاب، وبيّن حال من فات النبي صلّى الله عليه وسلم يوم بدر وغيره، لئلا يبقى حسرة في قلب هذا النبي الذي آذوه. ومضمون الإنذار:
لا يظنن الذين كفروا أنهم فاتوا وأفلتوا من الظفر بهم. ونجوا من عاقبة خيانتهم، وأنهم فاتونا فلا نقدر عليهم، بل هم تحت قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا، فلا يعجزوننا، كما جاء في آية أخرى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ [العنكبوت: ٢٩/ ٤] أي بئس ما يظنون. والمراد بذلك تطمين النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه منتقم ممن كفروا وآذوه، وقطع لأطماعهم بالتغلب على المؤمنين، وإنذار لهم بسوء المصير، وتعرضهم لشديد العقاب، فما عليك أيها النبي إلا الصبر، والله مع الصابرين.
الإعداد الحربي للعدو وإيثار السلم
القرآن الكريم دستور الأمة وهو يعلّمها ويرشدها لضرورة الاستعداد الحربي الدائم لقتال الأعداء، حتى في حال المسالمة والمعاهدة أو الصلح، لأن العدو لا يؤمن جانبه، ويجب الحذر الدائم من أعماله ومخططاته، فإن آثر الحرب كنا مستعدين له، وإن رغب في السلم سالمناه، ويلزم في كل حال الاستعانة بالله إذا راوغ العدو وحاول الخداع، قال الله تعالى مبينا هذه القواعد:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٠ الى ٦٢]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢)
«١» «٢» «٣»
(١) كل قوة في الحرب.
(٢) خيول الجهاد.
(٣) مالوا للمسالمة والمصالحة.
816
«١» [الأنفال: ٨/ ٦٠- ٦٢].
تضمنت الآيات قواعد أو مبادئ أربعة مهمة في العلاقات الدولية بين المسلمين وغيرهم، وهي خطاب لجميع المؤمنين:
القاعدة الأولى: الاستعداد الدائم لمواجهة الأعداء، بجميع أوجه الإعداد المادي والمعنوي والفني والمالي، بما يناسب كل عصر وزمان، لأن الجيش المقاتل درع البلاد وسياج الوطن، به يدفع العدوان، وتدحر قوى البغي والشر والتسلط، ولا يعقل أن نواجه الأعداء إلا بنفس المستوى الحربي والسلاح المتطور الذي تعتمد عليه الجيوش المحاربة، وبالقوى المماثلة المناظرة عند الآخرين، لذا وردت كلمة قُوَّةٍ نكرة في قوله تعالى: مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وهي تشمل مختلف أنواع القوى البرية والبحرية والجوية، من حيوان وسلاح وألبسة وآلات ونفقات وتقنيات متطورة، ولما كانت الخيول في الماضي هي أصل الحروب وأقوى القوى وحصون الفرسان، خصها الله بالذكر تشريفا لها، وإذا تغيرت الوسائل الحربية، تغير الواجب لإرهاب عدو الله وعدو المؤمنين الظاهر والعدو الخفي الذي نعلمه أو لا نعلمه وإنما يعلمه الله، فالإرهاب سبب الإعداد، وطريق تحصين البلاد وتوفير الأمن والسلامة.
والقاعدة الثانية: الإنفاق الضروري للتسليح لأن تحقيق النصر والإعداد الملائم لا يكون إلا بالمال، والإنفاق السخي هو سبيل توفير الأموال، وفيه ثواب عظيم عند الله تعالى في الدنيا والآخرة، سواء كان المال قليلا أو كثيرا في سبيل الله، فقد يجازي الله بعض المؤمنين المنفقين في الدنيا مجازاة مضافة إلى مجازاة الآخرة. وإذا توافر
(١) كافيك في رد خديعتهم.
817
المال الضروري لكل إعداد ومعركة، أمنت البلاد وأهلها، ولم يقعوا في ظلم الجوار وتسلط الأعداء، وكان للمنفقين في سبيل الله والجهاد الدرجة العليا في الآخرة، قال الله تعالى: وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [البقرة: ٢/ ٢٧٢].
والقاعدة الثالثة: إيثار السلم، فبعد توافر الإعداد الحربي والاستعداد التام للجهاد إن مال العدو إلى طلب الصلح أو المعاهدة، ورغب في السلم وآثره على الحرب والقتال، فالحكم قبول الصلح حسبما يرى الإمام الحاكم من المصلحة للإسلام والمسلمين، وإذا لم يغتصب العدو بلادنا وديارنا، فإنه في حال الغضب وتوافر القوة لا يجوز إقرار الغاضب على ظلمه، وإبقاء الديار في حوزته وتحت سلطانه، وإذا تم الاتفاق على الصلح، وجب التوكل على الله والثقة به، وتفويض الأمر إليه، دون خوف من مكر العدو وخديعته، فإن الله يحمي المؤمنين من مكيدة العدو أو مكره وغدره في جنوحه إلى السلم، والله سميع لما يقولون، عليم بما يفعلون. وقوله تعالى: وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أمر في ضمنه وعيد.
والقاعدة الرابعة: الاعتماد على الله في كل حال: فإن أراد العدو بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا، وأظهروا السلم وأبطنوا الغدر والخيانة، فلا تأبه أيها النبي بنياتهم الفاسدة، واجنح إلى السلم، فإن الله كافيك ومؤيدك بالنصر والغلبة، كما يؤيدك المؤمنون المخلصون وهم الأنصار. وهذا وعد محض من الله بالتأييد، وحسن ظن بمؤازرة المؤمنين، فعلى المؤمنين أن يكونوا دائما أقوياء العزم والعزيمة، ثابتي الجنان، فإن الله معهم بالنصر والمعونة إن نصروا دينه وشرعه، ولا شك أن هذا يقوي الروح المعنوية في الصف الإسلامي والجيش المؤمن، الذي نذر نفسه للجهاد في سبيل الله والحق والعدل وإعلاء كلمة الله، وأرخص النفس والمال النفيس من أجل إعلاء بناء المجد والحفاظ على صرح الإيمان وكيان المؤمنين.
818
توحيد الأمة وتحريضها على القتال
إن من أصعب الأمور الجسام توحيد الأمة وتوجيهها نحو هدف واحد، وكانت هذه المشكلة من أهم القضايا التي واجهها النبي صلّى الله عليه وسلّم في بدء الدعوة الإسلامية، واستطاع بإلهام من الله وحكمة وتوفيق أن يتغلب على هذه المعضلة، وأن يجعل من القبائل العربية أمة موحدة الصف، قوية البنيان، تتجه نحو هدف واحد وعدو واحد، وصف الله تعالى طريق الوصول إلى وحدة الأمة في قوله تعالى:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٣ الى ٦٦]
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
«١» [الأنفال: ٨/ ٦٣- ٦٦].
آية التأليف بين قلوب المؤمنين إشارة إلى العداوة التي كانت بين الأوس والخزرج في حروب بعاث، فألف الله تعالى قلوبهم على الإسلام، وردهم متحابين في الله، وهذا تذكير بنعمة الله على نبيه ولطفه به، فكما لطف به ربه أولا، فكذلك يفعل آخرا. لقد أيد الله رسوله بجند الإيمان من المهاجرين والأنصار، الذين دافعوا عنه دفاع الأبطال الشرفاء، والله بفضله هو الذي ألف بين قلوبهم، وجمعهم على كلمة الحق والشهادة، وغرس في قلوبهم التحابّ والتوادد بعد العداوة والبغضاء في الماضي الجاهلي، وصار كل تآلف في الله تابعا لذلك التآلف الكائن في صدر الإسلام،
روى الإمام أحمد عن سهل بن سعد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «المؤمن مألف، لا خير فيمن
(١) حثهم حثا بالغا.
819
لا يألف ولا يؤلف».
والتشابه في الصفات والأفعال هو سبب الألفة، فمن كان من أهل الخير ألف أشباهه وألفوه.
وكان التأليف بفعل الله، فلو أنفقت أيها النبي جميع ما في الأرض من أموال، ما استطعت تأليف قلوب العرب، وجمع كلمتهم، ولكن الله بهدايتهم للإيمان، وتوحيدهم على طريق سوي، حقق التأليف بينهم بقدرته وحكمته، إن الله قوي لا يغلب، حكيم في أفعاله. ومعلوم أن من أهم أسباب النصر هو التآلف واتحاد الكلمة.
ولم يقتصر التأليف على تسوية المنازعات الجاهلية القديمة، وإنما شمل تسوية المنازعات الناشئة بعد الإسلام، كالخلاف في شأن قسمة الغنائم.
وكما وعد الله رسوله بالنصر عند مخادعة الأعداء، وعده بالنصر والظفر في جميع الحالات في الدين والدنيا، لذا أخبر الله سبحانه بأنه كاف نبيه كل ما يهمه من شؤون وناصره ومؤيده على أعدائه، وإن كثرت أعدادهم وتزايدت أمدادهم، وكان عدد المؤمنين قليلا وعدتهم ضعيفة. ويؤيده أيضا أتباعه المؤمنون الذين بايعوه على الإيمان والجهاد والدفاع عنه وعن الإسلام. وقد نزلت آية: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.
ولكن توحيد الأمة وإن كان أساس القوة وبناء الجبهة الداخلية، فعليك أيضا أيها النبي أن تحرّض المؤمنين على القتال، ولما كان المؤمنون قلة في صدر الإسلام، أمر الواحد منهم أن يثبت في الحرب أمام عشرة من الكفار، فإن يكن منكم عشرون صابرون في القتال، ثابتون في مواقعهم، يغلبوا بإيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الأعداء، ليست عندهم هذه الخصال الثلاث، وإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا ألفا من الكفار، والسبب في هزيمتهم أنهم قوم جهلة لا يدركون حكمة الحرب، كما يدركها المؤمنون، فهم إنما يقاتلون بقصد مجرد التفوق والاستعلاء، والمؤمنون
820
يقاتلون لإعلاء كلمة الله، من إصلاح العقيدة، والتطهر من الوثنية، والتحلي بالأخلاق الفاضلة، وإظهار العبودية لله عز وجل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ثم خفف الله عن المؤمنين، فأمر الواحد منهم أن يثبت أمام اثنين من الأعداء، والمعنى:
الآن خفف الله عنكم لمرتبة أقل من المرتبة الشديدة الأولى، فإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله وقوته ومشيئته، والله دائما مع الصابرين بالمعونة والتأييد والرعاية.
وسبب النزول ما رواه البخاري وابن إسحاق عن ابن عباس قال: لما نزلت:
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شقّ ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ الواحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ..
الآية. قال: فلما خفف الله عنهم من العدّة، نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
أحكام الأسرى
تحتاج كل دولة في بدء تكوينها إلى بعض الأحكام الانتقالية الصارمة، لتثبيت وجودها ومنعتها وإظهار هيبتها وقوتها، فيرهبها العدو، ولا يطمع بها الصديق، ويخضع لها أتباعها في الداخل دون تباطؤ أو محاولة التهرب من سلطانها أو تنفيذ أوامرها، وهذا ما احتاجه المسلمون في مرحلة من مراحل الدعوة الإسلامية، وإشادة الدولة في المدينة المنورة، وذلك بالنسبة لمعاملة أسرى العدو، بعد أول معركة حاسمة، سميت يوم الفرقان وهو يوم بدر الكبرى، قال لله تعالى مبينا هذه المعاملة:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٧١]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
«١» «٢»
(١) الإثخان: الإكثار في القتل والمبالغة فيه.
(٢) حطامها بأخذ الفداء.
821
«١» [الأنفال: ٨/ ٦٧- ٧١] سبب نزول هذه الآيات يظهر فيما
رواه الإمام أحمد وغيره عن أنس بن مالك قال: استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأسارى يوم بدر، فقال: إن الله قد أمكنكم منهم، فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، اضرب أعناقهم، فأعرض عنه، فقام أبو بكر فقال: نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء، فأنزل الله: لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) الآيات.
هذه الآيات في رأي ابن عطية معاتبة من الله عز وجل لأصحاب نبيه صلّى الله عليه وسلم.
والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبي أسرى قبل الإثخان (الإكثار في القتل) والإخبار هو لهم، ولذلك استمر الخطاب ب تُرِيدُونَ والنبي صلّى الله عليه وسلّم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قط عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب. ودخل النبي صلّى الله عليه وسلّم في العتاب حين لم ينه عن ذلك، وعذره أنه كان مشغولا بظهور النصر، فترك النهي عن استبقاء الأسرى.
والرأي عند كثير من المفسرين: أن هذا التوبيخ إنما كان بسبب إشارة من أشار على النبي صلّى الله عليه وسلّم بأخذ الفدية، كما ذكر في سبب النزول المتقدم.
وعلى كل حال، فإن معنى الآيات في الظاهر: ما صح لنبي وما استقام له الأمر
(١) فمكّنك منهم يوم بدر.
822
باتخاذ الأسرى حتى يكثر القتل في الكفار ويبالغ فيه، لإظهار عزة الإسلام والمسلمين، وإرهاب الدولة أعداءها، واشتداد أمرها، فلا يتجرأ عليها أحد، ولا يتجسس عليها أحد من الأسرى العائدين لديارهم بفداء مالي. فالذين يرون قبول الفداء المالي إنما يريدون الحصول على عرض الدنيا، أي منافعها وأمتعتها، والله يريد لكم ثواب الآخرة الدائم، وما يؤدي إلى الجنة من أحكام زاجرة لإعزاز الدين وإرهاب الأعداء، وإعلاء كلمة الحق والعدل، وإقامة النظام الأصلح للبشرية، والله قوي يغلّب أولياءه على أعدائه، ويمكنهم منهم قتلا وأسرا، حكيم في أفعاله وأوامره، يشرع لكل حال ما يليق به ويخصه به.
لولا حكم من الله سبق إثباته في اللوح- وهو ألا يعاقب المخطئ في اجتهاده- لنالكم أيها المؤمنون فيما أخذتم من الفداء يوم بدر عذاب عظيم وقعة، وفي هذا تهويل خطر ما فعلوا.
وبعد هذا العتاب الإلهي على أخذ الفداء، أباح الله تعالى للمسلمين الانتفاع بالغنائم الحربية وهي الفدية المالية وغيرها، حال كون الشيء المغنوم حلالا طيبا بنفسه، لا حرمة فيه لذاته. واتقوا الله في مخالفة أوامره، ولا تعودوا لشيء من المخالفة، إن الله غفور للذنوب ومنها أخذ الفداء، رحيم بكم بإباحته لكم ما أخذتم، وقبوله التوبة عن عباده.
ثم أمر الله نبيه أن يخاطب الأسرى بقوله استمالة لهم وترغيبا لهم في الإسلام: إن يعلم الله في قلوبكم الآن أو في المستقبل خيرا، أي إيمانا وإخلاصا وتوبة عن الكفر وجميع المعاصي، يؤتكم خيرا مما أخذ منكم من الفداء، ويغفر لكم ما كان منكم من الشرك والسيئات، والله غفور لمن تاب من معاصيه، رحيم بالمؤمنين، فهو يمدهم بعونه وتوفيقه، وفي هذا حضّ على إعلان الإسلام وقبول دعوته.
823
وأما هؤلاء الأسرى فإن يريدوا خيانتك أيها النبي بإظهار الإسلام والمسالمة، ثم نقض ما عاهدوك عليه، فلا تخف خيانتهم، فإنهم قد خانوا الله من قبل بدر بالكفر، فأمكنك منهم يوم بدر، وإن عادوا إلى الخيانة فسيمكّنك الله منهم، ويسلّطك عليهم فتهزمهم، والله عليم بنواياهم، حليم في تدبيره وصنعه، فينصر المؤمنين على الكافرين.
الروابط الإسلامية
استأصل الإسلام منذ فجر دعوته الإصلاحية الكبرى كل المعاني والروابط القبلية والعنصرية والعرقية، وأحل محلها روابط أخلد وأقوى وأمتن، وهي روابط الإيمان والهجرة والجهاد والإيواء والنصرة وقرابة النسب أو الدم، وكان المسلمون في صدر الدعوة الإسلامية أصنافا أربعة في مواجهة الأعداء وهم:
١- المهاجرون الأولون قبل معركة بدر وقبل صلح الحديبية.
٢- الأنصار: أهل المدينة الذين آووا إخوانهم المهاجرين ونصرهم.
٣- المؤمنون الذين لم يهاجروا.
٤- المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
وهذا التصنيف هو ما ذكرته أواخر سورة الأنفال في قوله تعالى:
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٢ الى ٧٥]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
824
«١» [الأنفال: ٨/ ٧٢- ٧٥].
نزلت آية: وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ.. فيما روى الطبري وغيره في رجل قال: «نورّث أرحامنا المشركين». ونزلت آية وَأُولُوا الْأَرْحامِ فيما روى الطبري أيضا في إلغاء التوارث بالتعاقد والولاء، فكان الرجل يعاقد الرجل فيقول له: ترثني وأرثك.
ومقصد هذه الآيات تبيين منازل المهاجرين والأنصار والمؤمنين الذين لم يهاجروا، والكفار، والمهاجرين بعد صلح الحديبية، وبيان نسب بعضهم من بعض، حيث أحلّ الله قرابة الإسلام محل قرابة النسب والكفر، فقدم الله تعالى التنويه بالمهاجرين من مكة إلى المدينة، وهم أصل الإسلام، واتصفوا أي المهاجرون بصفات أربع:
صفة الإيمان الصادق بالله ورسوله، والهجرة في سبيله من أوطانهم، والجهاد بالمال والنفس والنفيس في سبيل الله، وأولية الإقدام على هذه الأفعال.
وهم أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر إلى صلح الحديبية سنة ست من الهجرة، فهم الأفضل والأكمل في الإسلام، لأنهم خرجوا من ديارهم وأموالهم، وتركوها في مكة، وجاؤوا لنصرة الله ورسوله وإقامة دينه، وفروا بدينهم من فتنة المشركين، إرضاء لله تعالى ونصرا لرسوله صلّى الله عليه وسلم، جاهدوا بأموالهم فأنفقوها في التعاون والدفاع عن دين الله، وجاهدوا بأنفسهم، فقاتلوا الأعداء، وصبروا على الأذى والشدائد.
(١) أصحاب القرابة.
825
ويأتي الأنصار في المرتبة الثانية بعد المهاجرين، فهم آووا الرسول والمهاجرين ونصروهم وأيدوهم، وقاتلوا معهم، وبذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل مرضاة الله.
واستحق المهاجرون والأنصار أن يوصفوا بأن بعضهم يتولى أمر البعض الآخر، كما يتولى أمر نفسه، ويكون كل منهم أحق بالآخر من كل أحد، لأن حقوقهم ومصالحهم مشتركة، لذا آخى النبي صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار، كل اثنين أخوان، وكانوا يتوارثون بهذا الإخاء المقدم على قرابة النسب، حتى تقوى المهاجرون بالتجارة وغيرها، فنسخ الله تعالى ذلك بآيات المواريث في سورة النساء.
ثم ذكر الله تعالى الصنف الثالث وهم المؤمنون الذين لم يهاجروا، وظلوا مقيمين مع المشركين في أرض الشرك في مكة قبل الفتح، وهؤلاء لا يجب على المسلمين مناصرتهم حتى يهاجروا إلى المدينة. وإذا طلبوا المناصرة على الأعداء، فينصرون إلا إذا كان الكفار المعادون معاهدين، فيجب الوفاء بعهدهم لأن الإسلام لا يبيح الغدر والخيانة، والله عليم مطلع على جميع الأعمال، فيجب التزام حدود الله وترك مخالفة أوامره.
وكان الكفار صفا واحدا في مواجهة المؤمنين، فلا توارث بين الفريقين، ويلزم احترام أحكام شرع الله، فإن لم تفعلوا أيها المؤمنون ما شرع الله لكم من موالاة المسلمين ومناصرتهم، تحصل فتنة عظيمة في الأرض: هي ضعف الإيمان وقوة الكفر، ويحصل فساد كبير: وهو سفك الدماء. وهذا يتطلب تماسك المؤمنين في مواجهة أعدائهم. والمؤمنون والمهاجرون والمجاهدون والأنصار هم أهل الإيمان الحق لهم مغفرة من ربهم ورزق وافر كريم في الجنة، وهو الدائم الذي لا ينقطع أبدا.
والصنف الرابع: هم الذين آمنوا وهاجروا بعد صلح الحديبية، وهم مع المؤمنين ومن المؤمنين، في الموالاة والتعاون والتناصر والفضل والجزاء، لكنهم في المرتبة دون السابقين الأولين من أهل الإيمان.
826
ثم ذكر الله تعالى ولاية الرحم والقرابة بعد ولاية الإيمان والهجرة، أي إن رابطة القرابة في الدم والنسب تكون سببا للتوارث والتناصر، وصارت هي المقدمة على رابطة الهجرة في عهدها السابق، وذلك في حكم الله الذي كتبه على عباده المؤمنين، والله عليم بكل الأشياء، ومحيط علمه بكل شيء من مصالح الدنيا والآخرة، وما على المؤمنين إلا الطاعة، فإن أخوة النسب والدم والإيمان صارت أخيرا سببا للتوارث، وإن كانت الأخوة في الله أولى وأحكم، وأبقى وأخلد. ووجب بهذه الآية الأخيرة آية أولي الأرحام: أن يرث الرجل قريبه وإن لم يكن مهاجرا معه.
827
Icon