تفسير سورة الإسراء

تفسير الثعلبي
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب الكشف والبيان عن تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعلبي .
لمؤلفه الثعلبي . المتوفي سنة 427 هـ
مكية. وهي ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفاً، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، ومائة وإحدى عشرة آية.
روى زيد بن أسلم عن أبيه عن أَبي أُمامةَ عن أُبي بنِ كعب قال : قال رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) :( من قرأ سورة بني إسرائيل، فَرَقَّ قلبه عند ذكر الوالدين، أُعطي في الجنة قنطارين من الأجر، والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية، والأوقية منها خير من الدنيا ( وما فيها ) ).

سورة بني إسرائيل (الإسراء)
مكية. وهي ستة ألف وأربعمائة وستون حرفا، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، ومائة وإحدى عشر آية
روى زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي أمامة عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين أعطى في الجنة قنطارين من الأجر والقنطار ألف أوقية ومائتا أوقية والاوقية منها خير من الدنيا [وما فيها] » [١٥] «١».

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١ الى ٣]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا.
عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تفسير سُبْحانَ اللَّهِ. قال: «تنزيه الله عن كل سوء»
ويكون سبحان بمعنى التعجب.
قال الأعشى:
أقول لما جاءني فخر... سبحان من علقمة الفاخر
وفي بعض الحديث تفسير سُبْحانَ اللَّهِ: براءة الله من السوء «٢».
فالآية متضمنة للمعنيين جميعا.
مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ. اختلفوا فيه: قال بعضهم: كان أسراء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسجد مكة.
(١) مجمع البيان: ٦/ ٢١٣.
(٢) في هامش المخطوط: سبحان علم التسبيح كعثمان للرجل وانتصابه فعل مضمر متروك إظهاره تقديره: سبح الله سبحان ثم ذكر سبحان منزلة الفعل [فدل] على التنزيه من جميع القبائح التي يفعلها أعداءه.
54
يدل عليه ما
روى قتادة عن أنس عن مالك بن صعصعة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «بينما أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان إذ أتاني جبرئيل بالبراق... »
وذكر حديث المعراج [١٦] «١».
وقال الآخرون: عرج برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من دار أم هاني بنت أبي طالب أخت علي (رضي الله عنه) وزوجها هبيرة بن أبي وهب المخزومي.
وقالوا: معنى قوله مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ من الحرم، لأن الحرم كله مسجد.
يدل عليه ما
روى الكلبي عن أبي صالح عن باذان عن أم هاني بنت أبي طالب أنها كانت تقول: ما أسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا وهو في بيتي نائم عندي تلك الليلة فصلى في بيتي العشاء الآخرة فصليت معه، ثمّ قمت فنمت وتركته في مصلاه فلم انتبه حتّى أنبهني لصلاة الغداة، قال:
«قومي يا أم هاني أحدثك العجب» [١٧].
فقلت: كل حديثك العجب بأبي أنت وأمي فقام وصلى الغداة فصليت معه فلما انصرف قال: «يا أم هاني لقد صليت معكم العشاء الآخرة كما رأيت بعد نومك ثمّ أتاني جبرئيل وأنا في مصلاي هذا فقال: يا محمّد أخرج فخرجت إلى الباب فإذا بملك راكب على دابة فقال لي:
اركب فركبت فسارت بي إلى بيت المقدس، فإذا أتيت على واد طالت يدا الدابة وقصرت رجلاها، فإذا أتيت على عقبة طالت رجلاها وقصرت يداها حتّى إذا انتهيت إلى بيت المقدس فصليت فيه ثمّ صليت صلاة الغداة معكم الآن كما تروني»
«٢».
قال مقاتل: كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة.
إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يعني بيت المقدس، سمّي أقصى لأنه أبعد المساجد التي تزار الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ بالماء والأنهار والأشجار والثمار.
وقال مجاهد: سمّاه مباركا لأنه مقرّ الأنبياء، وفيه مهبط الملائكة والوحي، وهو الصخرة، ومنه يحشر الناس يوم القيامة.
لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا عجائب أمرنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
وأما حديث المسرى، فاقتصرت به على الأخبار المأثورة المشهورة دون المناكير والأحاديث الواهية الأسانيد وجمعتها على نسق واحد مختصر، ليكون أعلى في الاستماع وأدنى إلى الانتفاع، وهو ما
روى الزهري عن ابن سلمة بن عبد الرحمن قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
(١) راجع الدر المنثور: ٤/ ١٥٧، وتاريخ بغداد: ١١/ ٢٥٧. [.....]
(٢) مجمع الزوائد: ١/ ٧٧، والمعجم الأوسط: ٤/ ١٦٥.
55
وروى السدي عن محمّد بن السائب عن باذان عن ابن عبّاس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: دخل كلام بعضهم في بعض قالوا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما كانت ليلة أسري بي وأنا بمكة بين النائم واليقظان، جاءني جبرئيل (عليه السلام) فقال يا محمّد قم فقمت فإذا جبرئيل ومعه ميكائيل فقال جبرئيل لميكائيل: ائتني بطشت من ماء زمزم لكيما [وعطر قلبه] «١» وأشرح له صدره قال: فشق بطني فغسله ثلاث مرات واختلف إليه ميكائيل بثلاث طشات من ماء زمزم، فشرح صدري ونزع ما كان فيه من غل وملاه حلما وعلما وإيمانا وختم بين كتفيّ بخاتم النبوة، ثمّ أخذ جبرئيل بيدي حتّى انتهى بي إلى سقاية زمزم فقال لملك: ائتني بنور من ماء زمزم ومن ماء الكوثر، فقال:
توضأ فتوضأت ثمّ قال لي: انطلق يا محمّد. قلت: إلى اين؟ قال: إلى ربك ورب كل شيء، فأخذ بيدي وأخرجني من المسجد فإذا أنا بالبراق- دابة فوق الحمار ودون البغل- خدّه كخد الإنسان وذنبه كذنب البعير وعرفه كعرف الفرس وقوائمه كقوائم الإبل وأظلافه كأظلاف البقر وصدره كأنه ياقوتة حمراء وظهره كأنه درة بيضاء عليه رحل من رحائل الجنة، وله جناحان في فخذيه يمر مثل البرق خطوة منتهى طرفه فقال لي: اركب، وهي دابة إبراهيم التي كان يزور عليها البيت الحرام.
قال: فلما وضعت يديّ عليه شمس «٢» واستعصى عليّ، فقال جبرئيل: مه يا براق، فقال البراق: يا جبرئيل [مس ظهري] «٣» فقال جبرئيل: هل مسست [ظهرا] «٤» قال: لا والله إلّا إني مررت يوما على [نصاب إبل] فمسحت يدي على رؤسهما وقلت:
إن قوما يعبدونكما من دون الله ضلال. فقال جبرئيل: يا براق أما تستحي فوالله ما ركبك مذ كنت قط نبي أكرم على الله من محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: فارتعش البراق وأنصب عرقا حياء مني، ثمّ خفض لي حتى لزق بالأرض، فركبته واستويت عليه قام بي جبرئيل نحو المسجد الأقصى بخطوا البراق مدّ البصر يرسل إلى جنبي لا يفوتني ولا أفوته حينا أنا في مسيري إذا جاءني نداء عن يميني قال: يا محمّد على رسلك أسلك بقولها ثلاثا فلم أرفق عليه ثمّ مضيت حتّى جاوزته، فإذا أنا بامرأة عجوز رفعت لي عليها من كل زينة وبهجة تقول: يا محمّد إليّ، فلم ألتفت إليها وقلت: يا جبرئيل من هذا الذي ناداني عن يميني؟ فقال: داعية اليهود والذي نفسي بيده لو أجبته لتهودت أمتك من بعدك والذي ناداك من يسارك داعية النصارى، والذي نفسي بيده لو أجبت لتنصّرت أمتك من بعدك، فأما التي رفعت لك بهجتها وزينتها فهي الدنيا لو التويت إليها لاختارت أمتك الدنيا على الآخرة.
(١) هكذا في الأصل.
(٢) شمست الدابة: شردت وجمحت وضعت ظهرها.
(٣) هكذا في الأصل.
(٤) هكذا في الأصل.
56
ثمّ أتيت بإناءين أحدهما اللبن والآخر خمرة فقيل لي: اشرب أيهما شئت، فأخذت اللبن فشربته. فقال لي جبرئيل: أصبت الفطرة أنت وأمتك، أما إنك لو أخذت الخمر لخمرت أمتك من بعدك قال: ثمّ سار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسار معه جبرئيل فأتى على قوم يزرعون ويحصدون في يوم واحد، كلما حصدوا عاد كما كان، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: من هؤلاء؟ فقال: هؤلاء المهاجرون في سبيل الله يضاعف لهم الحسنة سبعمائة ضعف، وما أنفقوا مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ.
قال: ثمّ أتى على قوم يرضخ رؤسهم بالصخر كلما رضخت عادت كما كانت لا يفتر عنهم من ذلك شيئا. قال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الذين تتثاقل رؤوسهم عن الصلاة المكتوبة.
ثمّ أتى على قوم إقبالهم رقاع وعلى أدبارهم رقاع فيسرحون كما تسرح الأنعام إلى الضريع، والزقوم قد صف جهنم وحجارتها فقال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟
فقال: هؤلاء الذين لا يؤدون صدقات أموالهم ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ... وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «١» ثمّ أتى على قوم بين أيديهم لحم في قدر نضيج طيب ولحم آخر خبيث، فجعلوا يأكلون الخبيث ويدعون النضيج الطيب، قال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ فقال: هذا الرجل من يكون عنده المرأة حلالا طيبا فأتى امرأة خبيثة فيبيت معها حتّى يصبح، فالمرأة تقوم من عند زوجها حلالا طيبا فتأتي الرجل الخبيث فتبيت معه حتّى تصبح، ثمّ أتى على [امرأة] في الطريق لا يمر بها ثوب إلا شقته ولا شيء آخر إلا فتّته. فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا مثل أمتك يقعدون على الطريق فيقطعون بمثل وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ «٢» الآية ثمّ أتى على رجل جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يزيد عليها فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا الرجل من أمتك عليه أمانات الناس لا يقدر على أدائها وهو يزيد عليها، ثمّ أتى على قوم يقرض ألسنتهم وشفاههم بمقاريض من حديد، كلما قرضت عادت كما كانت. قال: ما هؤلاء يا جبرئيل؟ قال هؤلاء خطباء الفتنة، ثمّ أتى على حجر صغير يخرج منه ثور عظيم فجعل الثور يريد أن يرجع من حيث خرج فلا يستطيع.
قال: ما هذا؟ قال: هذا الرجل من أمتك يتكلم الكلمة العظيمة ثمّ يندم عليها ولا يستطيع أن يردها. قال: ثمّ أتى واد فوجد ريحا طيبة باردة وصوتا. قال: ما هذه الريح الطيبة وما هذا الصوت؟ قال: هذا صوت الجنة، فقال: ربّ أرني بما وعدتني فقد كثر غرفي واستبرقي وحريري وسندسي وعبقري ولؤلؤي ومرجاني وفضتي وذهبي وأكوابي وصحافي وأباريقي وفواكهي وعسلي ولبني وخمري ومائي، فأتني بما وعدتني. فقال: لك كل مؤمن ومؤمنة من آمن بي وبرسلي
(١) سورة فصّلت: ٤٦.
(٢) سورة الأعراف: ٥٦.
57
وعمل صالحا ولم يشرك بي ولم يتخذ من دوني أندادا، ومن خشيني فهو آمن ومن سألني أعطيته ومن أقرضني جزيته ومن توكل عليّ كفيته، إني أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا لا أخلف الميعاد قد أفلح المؤمنين تبارك اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ قال: قد رضيت. قال ثمّ أتى على واد فسمع صوتا منكرا ووجد ريحا منتنه فقال: ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا صوت جهنم تقول: [يا ربّ آتني] «١» ما وعدتني فقد كثرت سلاسلي وأغلالي وسعيري وحميمي وضريعي وغساقي وعذابي، وقد بعد قعري واشتد حرّي ائتني بما وعدتني، قال: لك كل مشرك ومشركة وكافر وكافرة وكل خبيث وخبيثة وكل جبار لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ.
قالت: قد رضيت يا رب، ثمّ سار ومعه جبرئيل فقال له جبرئيل: انزل فصل. قال: فنزلت وصليت، فقال: أتدري أين صليت؟ صليت بطيبة وإليها المهاجرة إلى الله. ثمّ قال: انزل فصلّ قال فنزلت فصليت فقال: أتدري أين صليت! صليت بطور سيناء حيث كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى ثمّ قال:
انزل فصل، قال: فنزلت فصليت. فقال: أتدري أين صليت؟ صليت ببيت لحم حيث ولد عيسى (عليه السلام) قال: ثمّ مضينا حتّى أتينا بيت المقدس فلما انتهيت إليه إذا أنا بملائكة قد نزلوا من السماء يتلقونني بالبشارة والكرامة من عند رب العزة يقولون: السلام عليك يا أول ويا آخر ويا حاشر، قال: قلت يا جبرئيل ما تحيتهم إياي؟ قال: إنك أول من تنشر عنه الأرض وعن أمتك، وأول شافع وأول مشفع وإنك آخر الأنبياء وإن الحشر لك وبأمتك يعني حشر يوم القيامة».
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثمّ جاوزناهم حتّى انتهينا إلى باب المسجد، فأنزلني جبرئيل وربط البراق بالحلقة الي كانت تربط بها الأنبياء (عليه السلام) بحطام عليه من حرير الجنة، فلما دخلت الباب إذا أنا بالأنبياء والمرسلين» [١٨] «٢».
وفي حديث أبي العالية: «أرواح الأنبياء والمرسلين الذين بعثهم الله قبلي من لدن إدريس ونوح إلى عيسى قد جمعهم الله عزّ وجلّ، فسلموا عليّ وحيوني بمثل تحية الملائكة قلت:
يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: إخوتك الأنبياء، زعمت قريش أن لله شريكا، واليهود والنصارى أن لله ولدا، سل هؤلاء المرسلين هل لله شريك؟ وذلك قوله تعالى وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ «٣»
فأقرّوا بالربوبية لله تعالى ثمّ جمعهم والملائكة صفوفا فقدمني وأمرني أن أصلي بهم فصليت بهم ركعتين. ثمّ إن الأنبياء أثنوا على ربهم فقال إبراهيم (عليه السلام) الحمد لله الذي اتخذني خليلا وأعطاني مُلْكاً عَظِيماً وجعلني
(١) عن تفسير الطبري: ١٥/ ١٢.
(٢) راجع تفسير الطبري: ١٥/ ١٠- ١٦.
(٣) سورة الزخرف: ٤٥.
58
أُمَّةً قانِتاً يؤتم بي وأنقذني من النار وجعلها عليّ بَرْداً وَسَلاماً. ثمّ إن موسى (عليه السلام) أثنى على ربّه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي كلمني تكليما وجعل هلاك فرعون منه ونجاة بني إسرائيل على يديّ، وجعل من أمتي قوما يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ. ثمّ إن داود (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي جعل لي ملكا عظيما وعلمني الزبور وألان لي الحديد وسخر لي الجبال يسبحن والطير وأعطاني الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ. ثمّ إن سليمان (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الحمد لله الذي سخر لي الرياح وسخر لي جنود الشياطين يعملون لي ما شئت مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ، وعلمني منطق الطير وآتاني من كل شيء فضلا وآتاني ملكا عظيما لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي وجعل ملكي ملكا طيبا ليس عليّ فيه حساب.
ثمّ إن عيسى (عليه السلام) أثنى على ربه فقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الذي جعلني كلمة منه وجعلني أخلق مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وجعلني أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ
ورفعني وطهرني وأعاذني وأمّي مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فلم يكن للشيطان علينا سبيل.
ثمّ إن محمدا صلّى الله عليه وسلّم قال: كلكم قد أثنى على ربه وأنا مثن على ربي فقال: الحمد لله الذي أرسلني رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ وكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وأنزل عليّ القرآن (فيه بيان كل شيء) وجعل أمتي خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «١» وجعل أمتي أُمَّةً وَسَطاً «٢» وجعل أمتي هم الأولون والآخرون وشرح لي صدري ووضع عني وزري ورفع لي ذكري وجعلني فاتحا وخاتما.
فقال إبراهيم (عليه السلام) : بهذا أفضلكم محمّد، ثمّ أتى بآنية ثلاثة مغطاة أفواهها: إناء فيه ماء فقيل له: اشرب فشرب منه يسيرا، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه لبن فقيل له: اشرب فشرب منه حتّى روى، ثمّ دفع إليه إناء آخر فيه خمر فقيل له: اشرب، فقال: لا أريده قد رويت. فقال له جبرئيل: قد أصبت أما إنها ستحرم على أمتك، ولو شربت منها لم يتبعك من أمتك إلّا قليل، ولو رويت من الماء لغرقت وغرقت أمتك ثمّ أخذ جبرئيل (عليه السلام) بيدي فانطلق بي إلى الصخرة فصعد بي إليها فإذا معراج إلى السماء لم أر مثله حسنا وجمالا لم ينظر الناظرون إلى شيء قط أحسن منه. ومنه تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ أصله على صخرة بيت المقدس ورأسه ملتصق بالسماء إحدى عارضيه ياقوتة حمراء والأخرى زبرجدة خضراء درجة من فضة ودرجة من ذهب ودرجة من زمرد مكلل بالدر والياقوت وهو المعراج الذي ينطلق منه ملك الموت لقبض الأرواح [لمغاراتهم فيمنكم شخص أسرعت] «٣» عنه المعرفة إذا عاينه لحسنه، فاحتملني جبرئيل حتّى
(١) سورة البقرة: ١٤٣.
(٢) سورة آل عمران: ١١٠.
(٣) هكذا في الأصل.
59
وضعني على جناحه ثمّ ارتفع بي إلى سماء الدنيا من ذلك المعراج، فقرع الباب فقيل: من؟
قال: أنا جبرئيل. قال: ومن معك؟ قال: محمّد.
قال: أوقد بعث محمّد؟ قال: نعم. قال: مرحبا به حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء ففتح الباب ودخلنا. قال: فبينما أنا أسير في السماء الدنيا إذ رأيت ديكا له زغب أخضر ورأس أبيض بياض ريشه كأشد بياض ما رأيته قط، وزغب أخضر تحت ريشه كأشد خضرة ما رأيتها قط وإذا رجلا في تخوم الأرض السابعة السفلى ورأسه عند العرش مثنيّ عنقه تحت العرش له جناحان من منكبيه إذا نشرهما جاوز المشرق والمغرب فإذا كان في بعض [الميل] نشر جناحيه وخفق بهما، وصرخ بالتسبيح لله عزّ وجلّ يقول سبحان الملك القدوس الكبير المتعال لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، فإذا فعل ذلك سبّحت ديكة الأرض كلها وخفقت بأجنحتها وأخذت في الصراخ فإذا سكن ذلك الديك في السماء سكنت ديكة الأرض كلها، ثمّ إذا هاج بنحو ما فعلوا في السماء صاحت ديكة الأرض جوابا له بالتسبيح لله عزّ وجلّ بنحو قوله.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لم أزل منذ رأيت ذلك الديك مشتاقا إليه أن أراه ثانية».
قال: ثمّ مررت بملك نصف جسده مما يلي رأسه نار والنصف الآخر ثلج وما بينهم رتق، فلا النار يذيب الثلج ولا الثلج يطفئ النار، وهو قائم ينادي بصوت له حسن رفيع: اللهم مؤلف بين الثلج والنار ألف بين قلوب عبادك المؤمنين.
فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: ملك من الملائكة يقال له حبيب وكلّه الله بأكناف السماوات وأطراف الأرضين، ما أنصحه لأهل الأرض هذا قوله منذ خلقه الله تعالى. قال: ثمّ مررت بملك آخر جالس على كرسي قد جمع الدنيا بين ركبتيه، وفي يديه لوح مكتوب من نور ينظر فيه لا يلتفت يمينا ولا شمالا ينظر فيه كهيئة الحزين. فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ ما مررت أنا بملك أنا أشد خوفا منه شيء من هذا؟ قال: وما يمنعك كلّنا بمنزلتك، هذا ملك الموت دائب في قبض الأرواح وهو أشد الملائكة عملا وأدأبهم. قلت: يا جبرئيل كل من مات نظر إلى هذا؟
قال: نعم. قلت: كفى بالموت من طامة. فقال: يا محمّد ما بعد الموت أطمّ وأعظم، قلت: يا جبرئيل أدنني من ملك الموت أسلم عليه وأساله فأدناني منه فسلمت عليه فأومى إليّ فقال له جبرئيل: هذا محمّد نبي الرحمة ورسول العرب فرحب بي وحياني وأحسن بشارتي وإكرامي.
وقال: أبشر يا محمّد فإني ارى الخير كله في أمتك. فقلت: الحمد لله المنان بالنعم، ما هذا اللوح الذي بين يديك؟ قال: مكتوب فيه آجال الخلائق.
قلت: فأين أسماء من قبضت أرواحهم في الدهور الخالية؟ قال: تلك في لوح آخر قد علمت خلقها، ولذلك أصنع بكل ذي روح إذا قبضت روحه خلّفت عليها، فقلت: يا ملك
60
الموت سبحان الله كيف تقدر على قبض أرواح جميع أهل الأرض وأنت في مكانك هذا لا تبرح؟ قال: ألا ترى أن الدنيا كلها بين ركبتي وجميع الخلائق بين عيني ويداي يبلغان المشرق والمغرب وخلقهما فإذا نفد أجل عبد من عباد الله نظرت إليه وإلى أعواني فإذا نظر أعواني من الملائكة اليّ فنظرت إليه عرفوا أنه مقبوض فعمدوا إليه يعالجون نزع روحه فإذا بلغ الروح الحلقوم علمت ذلك ولا يخفى عليّ شيء من أمري، أمددت يدي إليه فقبضته فلا يلي قبضه غيري، فذلك أمري وأمر ذوي الأرواح من عباد الله.
قال: إنما أبكاني حديثه وأنا عنده ثمّ جاوزنا فمررنا بملك آخر ما رأيت من الملائكة خلقا مثله عابس الوجه كريه المنظر شديد البطش ظاهر الغضب، فلما نظر رغبت منه شيئا وسألته فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ فإني رعبت منه رعبا شديدا قال: فلا تعجب أن ترعب منه كلنا بمنزلتك في الرعب منه، هذا مالك خازن النار لم يتبسم قط ولم يزل منذ ولّاه الله عزّ وجلّ جهنم يزداد كل يوم غضبا وغيظا على أعداء الله عزّ وجلّ وأهل معصيته لينتقم منهم، قلت:
ادنني منه. فأدناني منه فسلم عليه جبرئيل فلم يرفع رأسه فقال جبرئيل: يا مالك هذا محمّد رسول العرب فنظر اليّ وحياني وبشرني بالخير. فقلت: مذ كم أنت واقف على جهنم؟ فقال: مذ خلقت حتّى الآن وكذلك إلى أن تقوم الساعة فقلت: يا جبرئيل مرة ليرني طرفا من النار فأمره ففعل فخرج منه لهب ساطع أسود معه دخان مكدر مظلم امتلأ منه الآفاق فرأيت هولا عظيما وأمرا فظيعا أعجز عن صفته لكم فغشي عليّ وكاد يذهب نفسي، فضمّني جبرئيل وأمر أن يرد النار فردّها.
قال صلّى الله عليه وسلّم: «فجاوزناها فمررنا بملائكة كثيرة لا يحصى عدتهم إلّا الله عزّ وجلّ منهم وجوه بين كتفيه ووجوه في صدره في كل وجه أفواه والسن، فهو يحمد الله ويسبحه بتلك الألسن ورأيت من أجسامهم وخلقهم وعبادتهم أمرا عظيما، ثمّ جاوزناها فإذا برجل تام الخلق لم ينقص من خلقه شيء كما ينقص من خليقة الناس عن يمينه باب تخرج منه ريح طيبة وعن شماله باب تخرج منه ريح خبيثة إذا نظر إلى الباب الذي عن يمينه ضحك فإذا نظر إلى الباب الذي عن شماله بكى بحزن، فقلت: يا جبرئيل من هذا وما هذان البابان؟ قال: هذا أبوك آدم (عليه السلام) هذا الباب عن يمينه باب الجنة إذا نظر إلى من يدخل من ذريته الجنة ضحك واستبشر، والباب الذي عن شماله باب جهنم إذا نظر إلى من يدخل من ذريته جهنم بكى وحزن قال: ثمّ صعدنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبرئيل (عليه السلام) فقيل: من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمّد، قيل: وقد أرسله الله.
قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء، فدخلنا فإذا بشابين فقلت: يا جبرئيل من هذان الشابان؟ فقال: هذا عيسى ويحيى أبناء الخالة.
61
قال: ثمّ صعدت إلى السماء الثالثة فاستفتح فقالوا: من هذا؟
قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا:
حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخلنا فإذا برجل قد فضّل على الناس بالحسن كأفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب قلت: من هذا يا جبرئيل؟
قال: هذا أخوك يوسف (عليه السلام) ».
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثمّ صعد بي إلى السماء الرابعة فاستفتح قالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل، قالوا:
ومن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، فدخلنا فإذا برجل من حاله [كذا] فقلت: من هذا يا جبرئيل؟ قال: «هذا إدريس رفعه الله مَكاناً عَلِيًّا وهو مسند ظهره إلى دواوين الخلائق التي فيها أمورهم.
قال: ثمّ صعد بي إلى السماء الخامسة فاستفتح قالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل: قالوا: من معك؟ قال: محمّد قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء.
قال: ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس وحوله قوم يقصّ عليهم فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ ومن هؤلاء الذين حوله؟ قال: هذا هارون [المحبب] وهؤلاء الذين حوله بنو إسرائيل»
.
قال «ثمّ صعدنا إلى السماء السادسة فاستفتح فقالوا: من هذا؟ قال: جبرئيل. قالوا: ومن معك؟ قال: محمّد؟ قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم قالوا: حياه الله من أخ ومن خليفة فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ثمّ دخلنا فإذا برجل جالس فجاوزناه فبكى الرجل فقلت: يا جبرئيل من هذا؟ قال: هذا موسى. قلت: فما له يبكي؟ قال: يزعم بنو إسرائيل أني أكرم بني آدم على الله عزّ وجلّ، وهذا رجل من بني آدم وقد خلفني في دنياه وأنا في آخرتي فلو أنه بنفسه لم أبال ولكن مع كل نبي أمته».
قال: «ثمّ صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح فقيل من هذا؟ قال: جبرئيل. قيل ومن معك؟ قال: محمّد. قالوا: وقد أرسل محمّد؟ قال: نعم. قالوا: حيّاه الله من أخ ومن خليفة، فنعم الأخ ونعم الخليفة ونعم المجيء جاء، ثمّ دخلنا فإذا برجل [أشمط] جالس على كرسي عند باب الجنة وعنده قوم جلوس [بيض] الوجوه أمثال القراطيس، وقوم في ألوانهم شيء [... ] «١»
فقام الذين في ألوانهم شيء فدخلوا نهرا فاغتسلوا فيه فخرجوا منه وقد خلص من ألوانهم شيء،
(١) بياض في المخطوط، وفي تفسير الطبري: (١٥/ ١٥) الكلام متصل، وفي مجمع الزوائد (١/ ٧١) زيادة: قال عيسى يعني أبا جعفر الرازي: وسمعته مرة يقول: سود الوجوه. [.....]
62
ثمّ دخلوا نهرا آخر فاغتسلوا فيه فخرجوا وقد خلص من ألوانهم وصارت مثل ألوان أصحابهم فجاءوا فجلسوا إلى جنب أصحابهم فقلت: يا جبرئيل من هذا الأشمط ومن هؤلاء وما هذه الأنهار؟ قال: هذا أبوك إبراهيم (عليه السلام) أوّل من شمط على الأرض، وأما هؤلاء البيض الوجوه فقوم لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ، فأما هؤلاء الذين في ألوانهم شيء فقوم خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً فتابوا فتاب الله عليهم، وأما الأنهار الثلاثة فأولها رحمة الله والثاني نعمة الله والثالث سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً قال: فإذا إبراهيم مستند إلى بيت فسالت جبرئيل، فقال: هذا البيت المعمور يدخل فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا إليه آخر ما عليهم.
قال: فاتي بي جبرئيل حتّى انتهينا إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بشجرة لها أوراق الواحدة منها مغطية الدنيا بما فيها وإذا شقها مثل هلال هجر تخرج من أصلها أربعة أنهار نهران ظاهران ونهران باطنان فسألت عنها جبرئيل فقال: أما الباطنان ففي الجنة وأما الظاهرين فالنيل والفرات ويخرج أيضا من أصلها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وهي على حد السماء السابعة مما الجنة وعروقها وأغصانها تحت الكرسي.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «انتهيت إلى سدرة المنتهى وأنا أعرف أنها سدرة المنتهى وأعرف ورقها وثمرها فغشيها من نور الله ما غشيها وغشيتها الملائكة كأنهم جراد من ذهب من خشية الله تعالى فلما غشيها ما غشيها تحولت حتّى ما يستطيع أحد منعها، قال: وفيها ملائكة لا يعلم عدّتهم إلّا الله عزّ وجلّ، ومقام جبرئيل في وسطها فلما انتهيت إليها قال لي جبرئيل: تقدم.
فقلت: أقدم من؟ تقدم أنت يا محمّد فإنك أكرم على الله مني، فتقدمت وجبرئيل على أثري حتّى انتهى بي إلى حجاب فراس الذهب فحرك الحجاب. فقال: من ذا؟ قال: أنا جبرئيل ومعي محمّد. قال الملك: الله أكبر فأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني وخلف جبرئيل فقلت له:
إلى أين؟ قال: يا محمّد وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ إن هذا منتهى الخلائق، وإنما أذن لي في الدنو إلى الحجاب لاحترامك ولجلالك»
.
قال: «فانطلق بي الملك أسرع من طرفة عين إلى حجاب اللؤلؤ فحرك الحجاب. قال الملك: من وراء الحجاب: من هذا؟ قال: أنا صاحب فراس الذهب وهذا محمّد رسول العرب معي.
فقال الملك: الله اكبر وأخرج يده من تحت الحجاب فاحتملني حتّى وضعني بين يديه فلم أزل كذلك من حجاب إلى حجاب حتّى جاوزوا بي سبعين حجابا غلظ كل حجاب مسيرة خمسمائة عام وما بين الحجاب إلى الحجاب مسيرة خمسمائة عام، ثمّ دلّى لي رفرف أخضر يغلب ضوءه ضوء الشمس فالتمع بصري ووضعت على ذلك الرفرف ثمّ احتملني حتّى وصلني إلى العرش فلما رأيت العرش اتضح كل شيء عند العرش فقربني الله إلى سند العرش وتدلى لي
63
قطرة من العرش فوقف على لساني فما ذاق الذائقون شيئا قط أحلى منها فأنبأني الله عزّ وجلّ بها نبأ الأولين والآخرين وأطلق الله لساني بعد ما كلّ من هيبة الرحمن، فقلت: التحيات لله والصلوات الطيبات. فقال الله تعالى: سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، فقلت:
السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، فقال: يا محمّد هل تعلم فيم اختصم الملأ «١» الأعلى؟
فقلت: أنت أعلم يا رب بذلك وبكل شيء وأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ. قال: اختلفوا في الدرجات والحسنات، فهل تدري يا محمّد ما الدرجات وما الحسنات؟
قلت: أنت أعلم يا رب. قال: الدرجات إسباغ «٢» الوضوء في المكروهات والمشي على الأقدام إلى الجماعات وانتظار الصلوات بعد الصلاة والحسنات إفشاء السلم وإطعام الطعام والتهجد بالليل والناس نيام ثمّ قال: يا محمّد آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ؟ قلت: نعم أي رب. قال: ومن؟ قلت: والمؤمنين كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «٣» كما فرقت اليهود والنصارى. فقال: ماذا قالوا؟
قلت: قالُوا: سَمِعْنا قولك وَأَطَعْنا أمرك. قال: صدقت فسل تعط. قال: فقلت:
غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ «٤» قال: قد غفرت لك ولأمتك سل تعطه؟
فقلت: رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا قال: قد رفعت الخطأ والنسيان عنك وعن أمتك وما استكرهوا عليه، قلت: رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ قال: قد فعلت ذلك بك وبأمتك. قلت ربنا وَاعْفُ عَنَّا من الخسف وَاغْفِرْ لَنا من القذف وَارْحَمْنا من المسخ أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ «٥» قال: قد فعلت ذلك لك ولأمتك، ثمّ قيل: لي سل.
فقلت: يا رب إنك اتخذت إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، وكلمت مُوسى تَكْلِيماً، ورفعت إدريس مَكاناً عَلِيًّا، وآتيت سليمان مُلْكاً عَظِيماً، وآتيت داوُدَ زَبُوراً، فما لي يا رب؟
قال ربي: يا محمّد اتخذتك خليلي كما اتخذت إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وكلمتك كما كلمت مُوسى تَكْلِيماً وأعطيتك فاتحة الكتاب وخواتيم البقرة وكانا من كنوز العرش ولم أعطها نبيا قبلك، وأرسلتك إلى أهل الأرض جميعا أبيضهم وأسودهم وإنسهم وجنّهم ولم أرسل إلى جماعتهم نبيا قبلك وجعلت الأرض كلها برّها وبحرها طهورا ومسجدا لك ولأمتك وأطعمتك وأمتك الفيء
(١) المليء: الجماعة منه.
(٢) السابغ: الكامل، إسباغ الوضوء إتمامه. الصحاح.
(٣) سورة البقرة: ٢٨٥.
(٤) سورة البقرة: ٢٨٥.
(٥) سورة البقرة: ٢٨٦.
64
ولم أطعمه أمة قبلهم ونصرتك بالرعب على عدوك مسيرة شهر، وأنزلت عليك سيد الكتب كلها ومهيمنا عليها قُرْآناً فَرَقْناهُ ورفعت لَكَ ذِكْرَكَ فتذكر كلما ذكرت في شرائع ديني، وأعطيتك مكان التوراة المثاني ومكان الإنجيل المبين ومكان الزبور الحواميم، وفضلتك بالمفصّل وشرحت لك صدرك ووضعت عنك وزرك وجعلت أمتك خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ وجعلهم أُمَّةً وَسَطاً وجعلتهم الأولين وهم الآخرون فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ».
قال صلّى الله عليه وسلّم: «ثمّ فوّض لي بعهد بعدها أمور لم يؤذن لي أن أخبركم بها ثمّ فرضت عليّ وعلى أمتي في كل يوم وليلة خمسون صلاة فلما شهد اليّ بعهده وتركني عنده ما شاء قال لي: إرجع إلى قومك فبلغهم عني فحملني الرفرف الأخضر الذي كنت عليه يخفضني ويرفعني حتّى أهوى بي إلى سدرة المنتهى فإذا أنا بجبرئيل (عليه السلام) أبصره خلفي بقلبي كما أبصر بعيني أمامي، فقال لي جبرئيل: ابشر يا محمّد فإنك خير خلق الله وصفوته من النبيين حياك الله بما لم يحيي به أحدا من خلقه لا ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا ولقد وضعك مكانا لم يصل إليه أحد من أهل السماوات والأرض فهنّاك الله كرامته وما حباك من المنزلة الأثيرة والكرامة الفائقة، فخذ ذلك واشكر فإن الله منعم يحب الشاكرين.
فحمدت الله على ذلك ثمّ قال لي جبرئيل: انطلق يا محمّد إلى الجنة حتّى أريك ما لك فيها فتزداد بذلك في الدنيا زهادة إلى زهادتك وفي الآخرة رغبة إلى رغبتك فسرنا نهوي منفضين أسرع من السهم والريح حتّى وصلنا بإذن الله إلى الجنة فهدأت نفسي [وثاب] إليّ فؤادي وأنشأت أسأل جبرئيل عما كنت رأيت [في الجنة] من البحور والنار والنور وغيرها، فقال:
سبحان الله تلك سرادقات عرش رب العزة التي أحاطت بعرشه فهي سترة الخلائق من نور الحجب ونور العرش لولا ذلك لأحرق نور العرش ونور الحجب من تحت العرش من خلق الله وما لم تره أكثر وأعجب، قلت: سبحان الله ما أكثر عجائب خلقه.
قلت: يا جبرئيل ومن الملائكة الذين رأيتهم في تلك البحور الصفوف بعد الصفوف كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ؟
قال: يا رسول الله هم الروحانيون الذين يقول الله: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ ومنهم الروح الأعظم، ثمّ بعد ذلك قلت: يا جبرئيل فمن الصف الواحد الذين في البحر الأعلى فوق الصفوف كلها قد أحاطوا بالعرش؟ قال: هم الكروبيون أشراف الملائكة وعظمائهم ولا يجتري أحد من الملائكة أن ينظر إلى ملك من الكروبيين وهم أعظم شأنا من أن أصف صفتهم لك وكفى ما رأيت منهم، ثمّ طاف بي جبرئيل في الجنة بإذن الله فما نزل منها مكانا إلّا رأيته وأخبرني عنه فرأيت القصور من الدر والياقوت والإستبرق والزبرجد ورأيت الأشجار من الذهب الأحمر قضبانهم اللؤلؤ وعروقهن الفضة راسخة في المسك فلأنا أعرف بكل قصر وبيت وغرفة وخيمة ونهر وثمر في الجنة مني بما في مسجدي هذا.
65
قال: ورأيت نهرا يخرج من أصله ماء أشد بياضا من اللبن واحلى من العسل على رضراض درّ وياقوت ومسك أذفر. فقال جبرئيل: هذا الكوثر الذي أعطاك الله عزّ وجلّ وهو التسنيم يخرج من دورهم وقصورهم وبيوتهم وغرفهم يمزجون بها أشربتهم من اللبن والعسل والخمر فذلك قوله وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ... عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «١» الآية.
ثمّ انطلق بي يطوف في الجنة حتّى انتهينا إلى شجرة لم أر شجرة مثلها، فلما وقفت تحتها رفعت رأسي فإذا أنا لا أرى شيئا من خلق ربي غيرها لعظمها وتفرق أغصانها ووجدت فيها ريحا طيبة لم أشم في الجنة ريحا أطيب منها فقلّبت بصري فيها فإذا ورقها حلل طرائف من ثياب الجنة من بين أبيض وأحمر وأخضر وثمارها أمثال القلال العظام من كل ثمرة خلقها الله في السماوات والأرضين من ألوان شتى وطعوم شتى وريح شتى، فعجبت من تلك الشجرة وما رأيت من حسنها. قلت: يا جبرئيل ما هذه الشجرة؟ قال: هذه التي ذكرها الله عزّ وجلّ [بشرى] طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ولكثير من أمتك ورهطك في ظلها حسن مقيل ونعيم طويل ورأيت في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر كل ذلك مفروغ عنه معدّ إنما ينتظر به صاحبه من أولياء الله عزّ وجلّ وما غمني الذي رأيت قلت: لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ.
ثمّ عرض عليّ النار حتّى نظرت إلى أغلالها وسلاسلها وحيّاتها وعقاربها وغساقها ويحمومها، فنظرت فإذا أنا بقوم لهم مشافر كمشافر الإبل وقد وكّل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثمّ يجعل في أفواههم صخرا من نار تخرج من أسافلهم. قلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟ قال: هؤلاء الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً. ثمّ انطلقت فإذا أنا بنقر لهم بطون كأنها البيوت وهم على سابلة آل فرعون فإذا مرّ بهم آل فرعون ثاروا فيميل بأحدهم بطنه فيقع فيتوطأهم آل فرعون بأرجلهم وهم يعرضون على النار غُدُوًّا وَعَشِيًّا. قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء أكلة الربا ومثلهم كمثل الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ «٢» ثمّ انطلقت فإذا أنا بنساء معلقات بثديهن منكسات أرجلهن. قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هن اللاتي يزنين ويقتلن أولادهن.
ثمّ أخرجني من الجنة فمررنا بالسموات منحدرا من السماء إلى السماء حتّى أتيت على موسى فقال: فما فرض الله عليك وعلى أمتك؟ قلت: خمسين صلاة. فقال موسى: أنا أعلم بالناس منك وأني [سرت] «٣» الناس بني إسرائيل وعالجتهم أشد المعالجة وأن أمتك أضعف الأمم فارجع إلى ربك واسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لن تطيق ذلك. قال: فرجعت إلى ربي [١٩].
(١) سورة المطففين: ٢٧.
(٢) سورة البقرة: ٢٧٥.
(٣) هكذا في المخطوط، ولم نجده في المصادر.
66
وفي بعض الأخبار: «فرجعت فأتيت سدرة المنتهى فخررت ساجدا، قلت: يا رب فرضت عليّ وعلى امتي خمسين صلاة ولن أستطيع أن أقوم بها ولا أمتي فخفّف عني عشرا. فرجعت إلى موسى فسألني فقلت: خفف عني عشرا. قال: ارجع إلى ربك فأسأله التخفيف فإن أمتك أضعف الأمم فإني قد لقيت من بني إسرائيل شدة. قال: فرجعت فردّها إلى ثلاثين فما زلت بين ربي وبين موسى (عليه السلام) حتى جعلها خمس صلوات فأتيت موسى (عليه السلام) فقال: إرجع إلى ربك فأسأله التخفيف. فقلت: فإني قد رجعت إلى ربي حتّى استحيت وما أنا براجع إليه، قال:
فنوديت أني يوم خلقت السماوات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلوات، ولا يبدل القول لدي فخمسة بخمسين فقم بها أنت وأمتك إني قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي وأجزي بالحسنة عشر أمثالها لكل صلاة عشر صلوات. قال: فرضيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم كل الرضا وكان موسى (عليه السلام) من أشدهم عليه حين مرّ به وخيرهم لهم حين رجع إليه.
ثمّ انصرفت مع صاحبي وأخي جبرئيل لا يفوتني ولا أفوته حتّى انصرف بي إلى مضجعي وكان كل ذلك ليلة واحدة من لياليكم هذه فأنا سيد ولد آدم ولا فخر، وبيدي لواء الحمد يوم القيامة ولا فخر وإليّ مفاتيح الجنة يوم القيامة ولا فخر، وأنا مقبوض عن قريب بعد الذي رأيت فإني رأيت من آيات ربي الكبرى ما رأيت وقد أحببت اللحوق بربي عزّ وجلّ ولقاء من رأيت من إخواني، وما رأيت من ثواب الله لأوليائه وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى «١»
.
قال: فلما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به وكان بذي طوى قال: «يا جبرئيل إن قومي لا يصدقونني».
قال: يصدقك أبو بكر وهو الصديق (رضي الله عنه).
قال ابن عبّاس وعائشة رضى الله عنهما: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما كانت ليلة أسري بي وأصبحت بمكة قطعت بأمري وعرفت إن الناس تكذبني».
قال: فقعد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم معتزلا حزينا فمرّ به أبو جهل عدو الله فأتاه فجلس إليه، وقال كالمستهزي: هل استفدت من شيء؟ قال: «نعم إني أسري بي الليلة» قال: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس» قال: ثمّ أصبحت بين ظهرانينا. قال: «نعم» فكان أبو جهل ينكر مخافة أن يجحده، الحديث. قال: أتحدث قومك ما حدثتني؟
قال: «نعم» قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلمّوا.
قال: فانتقضت المجالس فجاءوا حتّى جلسوا إليهما. قال: حدّث قومك ما حدثتني. قال:
«نعم إنّي أسري بي الليلة». قالوا: إلى أين؟ قال: «إلى بيت المقدس». قال: ثمّ أصبحت بين
(١) سورة القصص: ٦٠.
67
ظهرانينا قال: «نعم». قال: فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا للكذب، فارتد ناس ممن كان آمن به وصدقه وسعى رجال من المشركين إلى أبي بكر (رضي الله عنه) فقالوا: هل لك في صاحبك يزعم أنه أسرى به الليلة إلى بيت المقدس؟.
قال: أوقد قال؟ قالوا: نعم. قال: لئن كان قال ذلك لقد صدق. قالوا: تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس في ليلة وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني لأصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في عدوه وروحه. فلذلك سمي أبو بكر الصديق (رضي الله عنه).
قال: وفي القوم من قد سافر هناك ومن قد اتى المسجد، فقالوا: هل تستطيع أن تصف لنا المسجد؟ قال: «نعم».
قال: فذهبت أنعت وأنعت فما زلت أنعت حتّى التبس عليّ.
قال: فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتّى وضع دون دار عقيل أو عقال «١» فنعت المسجد وأنا أنظر إليه. فقال القوم: أما النعت فو الله قد أصاب.
ثمّ قالوا: يا محمّد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا من قولك، هل لقيت فيها شيئا؟ قال:
«نعم مررت على عير بني فلان وهي بالروجاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قعب من ماء فعطشت فأخذته فقربته ثمّ وضعته كما كان فاسألوهم هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا إليه».
قالوا: إن هذه آية واحدة. قال: «ومررت بعير فلان وفلان وفلان راكبان قعودا لهما ببني مرة ففر بكرهما مني فرمى بفلان فانكسرت يده فسلوهما عن ذلك.
قالوا: وهذه آية أخرى.
قالوا: أخبرنا عن عيرنا نحن؟ قال: «مررت بها بالنعيم»
. قالوا: فما عدتها وأحمالها وغنمها؟ قال: «كنت في شغل من ذلك ثمّ مثلت لي فكأنه بالجزورة وبعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها» فقال: «نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان تقدمها جعل أورق عليه خزارتان مخيطتان يطلع عليكم عند طلوع الشمس».
قالوا: وهذه آية، ثمّ خرجوا يشدّون نحو [الثلاثة] وهم يقولون: والله لقد قص محمّد شيئا وبيّنه حتّى أتوا كدا فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبون، إذ قال قائل منهم:
هذا الشمس قد طلعت. وقال الآخر: وهذه الإبل قد طاعت يتقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال لهم، فلم يؤمنوا ولم يفلحوا وقالوا: ما سَمِعْنا بِهذا قط إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ.
آخر المعراج ولله الحمد والمنة.
(١) راجع تفسير الطبري: ١٥/ ١٠ إلى ١٨.
68
فإن قيل: إنما قال الله سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى فلم قال: إنه أسرى إلى السماء.
فالجواب أنه قال: إنما قال: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى كان ابتدأ أمر المعراج كان المسري، والعروج كان بعد الإسراء، وقد أخبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو الصادق المصدق، والحكمة فيه والله أعلم أنه لو أخبر ابتدأ بعروجه إلى السماء لاشتد إنكارهم وعظم ذلك في قلوبهم ولم يصدقوه، فأخبر بيت المقدس بها فلما تمكن ذلك في قلوبهم وبان لهم صدقة وقامت الحجة عليهم له، أخبر بصعوده إلى السماء العليا وسدرة المنتهى وبقرينة حتّى دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ كما أسرينا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ الآية يعني أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا ربّا وشريكا وكفيلا.
قرأه العامّة: يتخذوا بالياء، يعني قلنا لهم لا يتخذوا.
وقرأ ابن عبّاس ومجاهد وأبو عمر: بالياء واختاره أبو عبيد قال: لأنه خبر عنهم ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ فأنجيناهم من الطوفان إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً.
قال المفسرون: كان نوح (عليه السلام) إذا لبس ثوبا يأكل طعاما أو شرب شرابا. قال:
الحمد لله، فسمّي عَبْداً شَكُوراً.
روى النظر بن شقي عن عمران بن سليم قال: إنما سمي نوح (عليه السلام) عَبْداً شَكُوراً لأنه كان إذا أكل طعاما قال: الحمد لله الذي أطعمني ولو شاء أجاعني، فإذا شرب قال: الحمد لله الذي سقاني ولو أشاء أظماني وإذا اكتسى قال: الحمد لله الذي كساني ولو أشاء أعراني، فإذا اهتدى قال: الحمد لله الذي هداني ولو أشاء لما هداني فإذا قضى حاجته قال: الحمد لله الذي أخرج عني الأذى في عافية ولو شاء لحبسه.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤ الى ٨]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله حَصِيراً.
روى سفيان بن سهيل عن منصور بن المعتمر عن ربعي بن خراش قال: سمعت حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن بني إسرائيل لما اعتدوا وعتوا وقتلوا الأنبياء بعث الله عليهم
69
ملك فارس بخت نصر، وكان الله ملكه سبعمائة سنة فسار إليهم حتّى دخل بيت المقدس فحاصرها ففتحها وقتل على دم يحيى بن زكريا (عليه السلام) سبعين ألف، ثمّ سبى أهلها وسلب حلي بيت المقدس واستخرج منها سبعين ألفا ومائة عجلة من حلي [حتى أورده بابل] «١» ».
قال حذيفة: يا رسول الله لقد كانت بيت المقدس عظيما عند الله قال: «أجل بناه سليمان ابن داود من ذهب وياقوت وزبرجد، وكان بلاطه ذهبا وبلاطه فضة وبلاطه من ذهبا أعطاه الله ذلك وسخر له الشياطين يأتونه بهذه الأشياء في طرفة عين فسار بخت نصر بهذه الأشياء حتّى نزل بها بابل وأقام بنو إسرائيل في يديه مائة سنة يستعبدهم المجوس وأبناء المجوس فهم الأنبياء وأبناء الأنبياء، ثمّ إن الله تعالى رحمهم فأوحى إلى ملك من ملوك فارس يقال له كورس وكان مؤمنا أن سر إلى بقايا ببني إسرائيل حتّى يستنقذهم فسبا كورش بني إسرائيل وحلي بيت المقدس حتّى رده إليه، فأقام بنو إسرائيل مطيعين لله مائة سنة ثم إنهم عادوا في المعاصي فسلط عليهم ملكا يقال له: إنطياخوش فغزا بني إسرائيل حتّى أتى بهم بيت المقدس فسبا أهلها وأحرق بيت المقدس وقال لهم: يا بني إسرائيل إِنْ عُدْتُمْ في المعاصي عُدْنا عليكم بالسبي، فعادوا في المعاصي فسلط الله عليهم ملكا رومية يقال له: ماقسير بن إسبيانوس فغزاهم في البر والبحر فسباهم وسبا حلي بيت المقدس وأحرق بيت المقدس».
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فهذا من صفة حلي بيت المقدس ويرده المهدي إلى بيت المقدس وهو ألف سفينة وسبعمائة سفينة يرمى بها على يافا حتّى ينقل إلى بيت المقدس هديها يجمع الله الأولين والآخرين» [٢٠] «٢».
وقال محمّد بن إسحاق بن يسار: كان مما أنزل الله على موسى في خبر عن بني إسرائيل في أحداثهم وما هم فاعلون بعده وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله حَصِيراً فكانت بنو إسرائيل وفيهم الأحداث والذنوب، وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم متعطفا عليهم محسنا إليهم، فكان أول ما أنزل بهم بسبب ذنوبهم من تلك الوقائع كما أخبر على لسان موسى (عليه السلام) أن ملكا منهم كان يدعى صديقة كان الله عزّ وجلّ إذا ملك الملك عليهم بعث الله نبيا يسدده ويرشده ويكون فيما بينه وبين الله تعالى: فيتحدث إليهم في أمرهم لأنزل عليهم الكتب، إنما يؤمرون باتباع التوراة والأحكام التي فيها وينهونهم عن المعصية ويدعونهم إلى ما تركوا من الطاعة، فلما ملك الله ذلك الملك بعث الله شعياء بن أمصيا وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وعيسى، وشعياء هو الذي بشّر بعيسى ومحمّد صلّى الله عليه وسلّم فقال: ابشروا [... ] «٣» الآن يأتيك راكب
(١) عن تفسير الطبري: ١٥/ ٢٩.
(٢) راجع تفسير الطبري: ١٥/ ٢٩- ٣٠.
(٣) كلمة غير مقروءة.
70
الحمار ومن بعده راكب البعير، فملك ذلك الملك بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه عظمت الأحداث وشعياء معه، بعث الله عليهم سنحاريب ملك بابل مع ستمائة ألف راية، فأقبل سائرا حتّى أقبل حول بيت المقدس والملك مريض في ساقه قرحة فجاء إليه شعياء فقال: يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل قد نزل هو وجنوده بستمائة ألف قد هابهم الناس وفرقوا منهم، فكبر ذلك على الملك. فقال: يا نبي الله هل أتاك وحي من الله فيما حدث فتخبرنا به كيف يفعل الله بنا وبسنحاريب وجنوده.
فقال له النبي (عليه السلام) : لم يأت وحي فبيناهم إلى ذلك أوحى الله تعالى إلى شعياء النبي (عليه السلام) أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي بوصيته ويستخلف على ملكه من شاء من أهل بيته، فأتى شعياء صدّيقة وقال له: إن ربك قد أوحى إليك إن أمرك أن توصي بوصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت. فلما قال ذلك شعياء لصديقة أقبل على القبلة وصلى ودعا وبكى فقال وهو يصلي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص متوكل رصين وظن صادق: اللهمّ رب الأرباب وإله الآلهة قدوس المتقدس يا رحمن يا رحيم يا رؤوف الذي لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ أكرمتني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني بسري وعلانيتي لك وأن الرحمن استجاب له وكان عبدا صالحا، فأوحى الله إلى شعياء وأمره أن يخبر صديقة الملك أن ربه قد استجاب له وقبل منه ورحمه وقد أخر أجله خمس عشر سنة فأنجاه من عدوه سنحاريب ملك بابل وجنوده فأتاه شعياء النبي (عليه السلام) وأخبره بذلك، فلما قال ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا وقال: يا إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبّحت وكرمت وعظمت، أنت الذي تعطي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ، عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أنت الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين، أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت ضري فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقه فيأمر عبدا من عبيده فيأتيه بالتين فيجعله على قرحه فيشفى ويصبح قديرا، ففعل ذلك فشفى، وقال الملك لشعياء: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا.
فقال الله لشعياء: قل له إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلّا سنحاريب وخمسة نفر من كتّابه.
فلما أصبحوا جاءه صارخ فصرخ على باب المدينة: يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك فأخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا، فلما خرج الملك التمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمسة من كتّابه أحدهم بخت نصّر، فجعلوهم في الجوامع ثمّ أتوا بهم ملك بني إسرائيل فلما رآوهم خرّ ساجدا حين طلعت الشمس إلى العصر، ثمّ قال لسنحاريب: كيف ترى فعل ربنا بكم؟ ألم نقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم
71
غافلون؟ فقال سنحاريب: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي رحمكم بها قبل أن أخرج من بلادك فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلّا قلة عقلي ولو سمعت وأطعت ما غزوتكم ولكن الشقوة غلبت عليّ وعلى من معي. فقال صديقه: الحمد لله ربّ العزة الذي [كفاناكم] بما شاء أن يبقك لي من معك لكرامة لك عليه وإنما أبقاك ومن معك ليزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من ورائكم بما رأيتم من فعل ربنا، فلذلك وذم من معك [آتون] على الله من دم قراد لو قتلت، ثمّ إن ملك بني إسرائيل أمر أمير جيشه فقذف في رقابهم الجوامع وطاف بهم سبعين ما حول بيت المقدس [وامليا] «١» وكان يرزقهم في كل يوم خبزتين من الشعير لكل رجل منهم.
فقال سنحاريب لملك بني إسرائيل: القتل خير مما يفعل بنا فأفعل ما أمرت، فأمر بهم الملك إلى سجن القتل فأوحى الله إلى شعياء النبي (عليه السلام) : أن قل لملك بني إسرائيل ليرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من ورائهم وليكرمهم ويحملهم حتى يبلغوا بلادهم، فبلغ شيعا [للملك ذلك] ففعل، فخرج سنحاريب ومن معه حتّى قدموا بابل فلمّا قدموا جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله بجنوده، فقال له كهانته وسحرته: يا ملك [بابل] «٢» قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم فلم تطعنا، وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم، وكان أمر سنحاريب مما خوفوا، ثمّ كفاهم الله إياه تذكرة وعبرة ثمّ لبث سنحاريب بعد ذلك سبع سنين ثمّ مات، واستخلف [بعده] ابن ابنه على ما كان عليه، فعمل فيهم بمثل عمل جده وقضى في الملك حتّى قتل بعضهم [بعضا عليه] ونبيهم شعياء معهم لا يذعنون إليه ولا يقبلون منه، فلما فعلوا ذلك قال الله لشعياء: قم في قومك أوح على لسانك.
فلما قام النبي (عليه السلام) أطلق الله لسانه بالوحي، فقال: يا سماء استمعي ويا أرض انصتي حتّى فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمة واصطنعهم لنفسه وخصهم بكرامته وفضلهم على عباده واستقبلهم بالكرامة وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسرها وداوى مريضها وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضهم بعضا حتّى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر كسير، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون من أين جاءهم الخير، أن البعيد مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الآري الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وأن هؤلاء القوم لا يدرون من أين جاءهم الخير وهم أولوا الألباب والعقول ليسوا بقرا ولا حميرا، وإني ضارب لهم مثلا فليستمعوا، قل لهم: كيف ترون في أرض كانت
(١) بلدة في ناحية الشام. [.....]
(٢) زيادة عن تفسير الطبري: ١٥/ ٣٢.
72
خواء زمانا خربة مواتا لا عمران فيها وكان لها رب حكيم قوي، فأقبل عليها بالعمارة وكره أن تخرب أرضه فأحاط عليها جدارا وشيّد فيها قصرا وأنبط نهرا وصنف فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيما ذا رأي وهمة ومتعة حفيظا قويا أمينا وأنتظرها فلما أطلعت جاء طلعها خروبا قالوا: بئست الأرض هذه، نرى أن يهدم جدارها وقصورها ويدفن نهرها ويقبض قيّمها ويحرق غرسها حتّى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا لا عمران فيها.
قال الله لهم: فإن الجدار ذمتي وإن القصر شريعتي وإن النهر كتابي وإن القيّم نبيّ وإن الغرّاس هم وإن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وإنهم مثل ضربه الله تعالى لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم وليس ينالني اللحم ولا أكله، ويدعون أن يتقربون إليّ بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرّمتها فأيديهم مخضوبة منها، وثيابهم متزملة بدمائها، يشيدون لي البيوت مساجدا ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم ويدنسونها، فأي حاجة إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، أم أي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر فيها وأسبّح ولتكون معلما لمن أراد أن يصلي فيها، يقولون: لو كان الله يقدر على أن يجمع ألفتنا لجمعها، ولو كان الله يقدر على [أن] يفقّه قلوبنا لفقهها فأعمد إلى عودين يابسين، ثمّ ائت بهما ناديهما في أجمع ما يكونون فقل للعودين: إن الله يأمركما أن تكونا عودا واحدا ففعل، ذلك في مجلسه اختلطا فصارا واحدا، فقال الله لهم: إني قد قدرت على أن أفقه العيدان اليابسة وعلى أن أؤالف بينهما فكيف لا أقدر على أن أجمع إلفهتم إن شئت، أم كيف لا أقدر على أن أفقّه قلوبهم وأنا الذي صورتها.
يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تقبل صلاتنا وتصدقنا فلم تزك صدقاتنا، ودعونا بمثل [حنين الحمام] وبكينا مثل عواء الذئب في مكان ذلك لا نسمع ولا يستجاب لنا قال الله: فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم، ألست أسمع السامعين وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين؟ الآن ذلّت يدي؟
قلت: كيف ويداي مبسوطتان بالخير أنفق كيف أشاء ومفاتح الخزائن عندي لا يفتحها غيري أو لأن رحمتي ضاقت فكيف ورحمتي وسعت كل شيء، إنما يتراحم المتراحمون بفضلها أو لأن [البخل يعتريني] أو لست أكرم الأكرمين والفتاح بالخيرات؟ أجود من أعطي وأكرم من سئل لو أن هؤلاء القوم نظروا لأنفسهم بالحكمة التي نورت في قلوبهم فنبذوها واشتروا بها الدنيا إذا لأبصروا من حيث أتو وإذا لأيقنوا أن أنفسهم [هي] أعدى العداة فيهم، فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور [ويتقوون] عليه بطعمة الحرام؟ وكيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني وينتهك محارمي، أم كيف تزكوا عندي صدقاتهم؟ وهم يتصدقون بأموال غيرهم وإنما أؤجر عليها أهلها المغصوبين، أم كيف أستجيب لهم دعاءهم؟ وإنما هو قول بألسنتهم
73
والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداع اللين وأنا أسمع قول المستضعف المسكين، وإن من علامة رضاي رضا المساكين، فلو رحموا المساكين وقربوا الضعفاء وأنصفوا المظلوم ونصروا المغصوب والمغلوب وأعدلوا الغائب [وأدوا] إلى اليتيم والأرملة والمسكين وكل ذي حق حقه، ثمّ لو كان ينبغي أن أكلم البشر إذا لكلّمتهم، وإذا لكنت نور أبصارهم وسمع آذانهم ومعقول قلوبهم وإذا لدعمت أركانهم وكنت قوة أيديهم وأرجلهم، وإذا لبثت ألسنتهم وعقولهم.
يقولون: لمّا سمعوا كلامي وبلغتهم رسالاتي: إنها أقاويل متقولة وأحاديث متوارثة وتأليف كما يؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاءوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا وأن يطلعوا على علم الغيب، لاطلعوا بما توحي إليهم الشياطين وكلمهم ويستخفى بالذي يقول ويسرّ وهم يعملون أني أعلم غيب السماوات والأرض وأعلم ما يبدون وما كنتم يكتمون وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض قضاء أثبته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع، فإن صدّقوا بما ينتحلون من علم الغيب فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.
وإن كانوا يقدرون على أن يقولوا ما يشاءون فليألفوا مثل الحكمة التي أدبّر بها أمر ذلك القضاء إن كنتم صادقين فإنّي قد قضيت يوم خلقت السماوات والأرض أن أجعل النبوة في الإجراء وأن أجعل الملك في الدعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء والثروة في الأقلاء [والمدائن في الفلوات] والآجام في المغوز والبردة في الغيطان، والعلم في الجهلة والحكم في الأميين فسلهم متى هذا ومن القيّم بها وعلى يد من أسنّه ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون، فإني باعث لذلك نبيّا أحيا ليس أعمى من عميان ولا ضالا من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا [بصخاب] في الأصوات [ولا متزين بالفحش] ولا قوال للخنى أسدده لكل جميل أهب له كل خلق [كريم] أجعل السكينة لباسه والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقولة والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه والعدل والمعروف سيرته والحق شريعته والهدى امامه والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة وأعلم به بعد الجهالة، ثمّ أرفع به بعد [الخمالة] وأشهر به بعد النكرة وأكثر به بعد القلة وأغني به بعد المعيلة وأجمع به بعد الفرقة وأولف به قلوبا مختلفة وأهواء متشتتة وأمما متفرقة وأجعل أمته خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر إيمانا بي وتوحيدا لي وإخلاصا بي يصلون لي قياما وقعودا وركعا وسجودا ويقاتلون في سلبي صفوفا وزحوفا ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء رضواني، ألهمتهم التكبير والتوحيد والتسبيح والحمد والمدحة والتمجيد لي في مساجدهم ومجالسهم ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم، يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأسواق ويطهرون لي الوجوه والأطراف ويعقدون في الأنصاف، قربانهم دماؤهم وأناجيلهم في صدورهم
74
رهابين في الليل ليوث في النهار، ذلك فضلي أديته من أشاء وأنا ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ.
فلما فرغ نبيهم شعياء إليهم من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيت شجرة وانفلقت له فدخل فيها [وأدركه الشيطان الشجرة] فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتّى قطعوها وقطعوه في وسطها، [فاستخلف الله] على بني إسرائيل بعد قتلهم شعياء رجلا منهم يقال له ناشية بن أموص وبعث لهم الخضر نبيا- واسم الخضر ارميا بن حلفيا- وكان من سبط هارون بن عمران فأما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فقام [عنها وهي تهتز] خضراء، فقال الله لأرميا حين بعثه نبيا إلى بني إسرائيل: يا أرميا من قبل أن أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصورك في بطن أمك قدستك ومن قبل أن أخرجك من بطن أمك طهرتك، وذكر الحديث بطوله في خطبة أرميا لقومه وفتياه التي أفتى به، ودخول بخت نصر وجنوده بيت المقدس فوطئ الشام كما ذكرنا في سورة البقرة.
فلما رأى ارميا ذلك طار حتّى خالط الوحش ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس فوطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتّى أفناهم وخرب بيت المقدس، ثمّ أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم قربته تراب ثمّ يقذفه في بيت المقدس فقذفوا فيه التراب حتّى ملؤه، ثم انصرف راجعا إلى أرض بابل واحتمل معه سبايا بني إسرائيل وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم فجمعوا عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم بسبعين ألف صبي.
فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمهم فيهم قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها [وأقسم بيننا] فلولا الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل، ففعل فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمة وكان من أولئك الغلمان دانيال، وحنانيا، وعزاريا، وماشايل وسبعة آلاف من أهل بيت داود وأحد عشر ألفا من سبط يوسف بن يعقوب وأخيه ابن يامين، وثمانية ألف من سبط أشر بن يعقوب، وأربعة عشر الفا من سبط زبالون بن يعقوب [ونفتال] بن يعقوب وأربعة ألف من سبط [يهوذا] بن يعقوب [وأربعة] ألف من سبط [روبيل ولاوي] ابني يعقوب ومن بقي من بني إسرائيل وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق: فثلثا أقر بالشام وثلثا سبي وثلثا قتل.
وذهب بأبيه بيت المقدس حتّى أقدمها بابل وذهبت بالصبيان التسعين الألف حتّى أقدمهم بابل، فكانت هذه الواقعة الأولى التي أنزل الله ببني إسرائيل بأحداثهم وظلمهم «١» وذلك قول الله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني بخت نصر وأصحابه.
ما يروى عن حجاج عن ابن جريج عن يعلي بن مسلم عن سعيد بن جبير قال: كان رجل
(١) بتمامه في تفسير الطبري: ٣/ ٤٠- ٤٩، و ١٥/ ٥٢- ٤٥.
75
من بني إسرائيل يقرأ حتّى إذا بلغ بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بكى وفاضت عيناه ثمّ أطبق المصحف وقال: أي رب أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني إسرائيل على يديه فأري في المنام مسكينا ببابل يقال له: بخت نصر فانطلق بمال [وبأعبد له] وكان رجلا موسرا [وقيل له أين] تريد؟
قال: أريد التجارة حتّى نزل دارا ببابل [فاستكبر] إلها ليس فيها أحد غيره فجعل يدعو المساكين ويتلطف بهم حتى لا يأتيه أحد فقال: هل بقي غيركم مسكين؟ قالوا: نعم مسكين [يفتح الفلان مريض] يقال له: بخت نصر، فقال لغلمانه: انطلقوا حتى أتاه، فقال: ما أسمك؟
قال: بخت نصر، فقال لغلمانه احتملوه فنقل عليه فمرّضه حتّى برأ فكساه وأعطاه نفقة ثمّ أذن الإسرائيلي بالرحيل فبكى بخت نصر، فقال الإسرائيلي: ما يبكيك؟
قال: أبكي إنك فعلت بي ما فعلت ولا أجد شيئا أجزيك، قال: بلى شيئا يسرا إن ملكت أطعتني فجعل لا يتبعه فيما سأل فقال: تستهزئ بي ولا يمنعه أن يعطيه ما سأل إلّا أنه يرى أنه يستهزئ به قبلي الإسرائيلي، فقال: لقد علمت ما يمنعك أن تعطيني ما سألتك إلّا أن الله يريد أن ينفذ ما قد قضى وكتب في كتابه وضرب الدهر من ضربه.
قال صيحورا ملك فارس ببابل: لو إنا بعثنا طليعة إلى الشام قالوا: وما ضرك لو فعلت؟
قال فمن ترون قال: فلان فبعث رجلا وأعطاه مائة ألف وخرج بخت نصر في مطبخه لا يخرج إلّا ليأكل في مطبخه.
فلما قدم الشام رأى صاحب الطليعة أكثر أرض الله فرسا ورجالا [جاء وقد كسر] ذلك في ذرعه فلم يسأل قال: فجعل بخت نصر يجلس مجالس أهل الشام فيقول: ما يمنعكم أن تغزوا بابل فإذا غزوتموها ما دون بيت مالها شيء.
قالوا: لا نحسن القتال، قال: ولو أنكم غزوتهم قالوا: لا نحسن القتال ولا نقاتل حتّى أنفذ مجالس أهل الشام، ثمّ رجعوا فأخبر الطليعة ملكهم بما رأى وجعل بخت نصر يقول لفوارس الملك: لو دعاني الملك لأخبرته غير ما أخبره فلان، فرفع ذلك إليه فدعاه فأخبره الخبر وقال: إن فلانا لما رأى أكثر أرض الله فرسا ورجالا جلدا كبر ذلك في روعه ولم يسألهم عن شيء، قال: لم أدع مجلسا شيئا بالشام [الآجال وأصله] فقلت لهم: كذا وكذا، فقالوا لي: كذا وكذا.
قال سعيد بن جبير: وقال صاحب الطليعة لبخت نصر: إن صحبتني أعطي لك مائة ألف وتنزع عما قلت. قال: لو أعطيتني بيت مال بابل لما نزعت فضرب الدهر من ضربة، فقال الملك: لو بعثنا جريدة خيل إلى الشام، فإن وجدوا مساغا وإلا انثنوا ما قدورا عليه، قال: وما ضرّك لو فعلت، قال: فمن ترون؟ قالوا: فلان. قال: هل الرجل الذي [أخبرني بما أخبرني]
76
فدعا بخت نصر فأرسله وانتخب معه أربعمائة ألف من فرسانهم فانطلقوا فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ [فسبوا] ما شاء الله ولم [يخرّبوا] ولم يقتلوا، ومات [صيحون فقالوا] : استخلفوا رجلا، قالوا: على رسلكم حتّى يأتي أصحابكم فإنهم فرسانكم لن ينقضوا عليكم شيئا، أمهلوا فأمهلوا حتّى جاء بخت نصر [بالسبي] وما معه فقسمه في الناس، فقالوا: ما رأينا أحدا أحق بالملك من هذا فملكوه «١».
وقال السدي بإسناده: إن رجلا من بني إسرائيل رأى في النوم أن خراب بيت المقدس هلاك بني إسرائيل [خلي إليّ] غلام يتيم ابن أرملة من أهل بابل يدعى بخت نصر وكانوا يصدقون فيصدق، فأقبل يسأل عنه حتّى [نزل على أبيه] وهو يحتطب فلما جاءوا على رأسه حزمة من حطب ألقاها ثمّ قعد في جانب من البيت فكلمه ثمّ أعطاه ثلاثة دراهم، فقال: اشتر بهذا طعاما وشرابا واشترى بدرهم لحما وبدرهم خبزا وبدرهم خمرا، فأكلوا وشربوا حتّى كان اليوم الثاني فعل به مثل ذلك، حتّى إذا كان اليوم الثالث فعل به ذلك، ثمّ قال: إني أحب أن [تكتب لي أمانا] إن كانت ملكت يوما من الدهر، فقال: أتسخر مني؟ قال: إني لا أسخر بك [ولكن ما عليك لن تتخذ] بها عندي مريدا فكلمته أية، فقالت: يا ملك إن كان مالا لم ينقصك شيئا فيكتب به أمانا، فقال: أرأيت إن جئت والناس حولك قد حالوا بيني وبينك فاجعل لي آية تعرفني بها، قال: ترفع صحيفتك على قصبة فأعرفك بها فكساه وأعطاه.
ثمّ إن ملك بني إسرائيل كان يكرم يحيى بن زكريا (عليهما السلام) ويدني مجلسه ويستشيره في أمره ولا يقطع أمرا دونه [فإنه هوى] أن يتزوج ابنة امرأة له، فسأل عن ذلك يحيى فنهاه عن نكاحها، قال: لست أرضاها لك، فبلغ ذلك أمها فحقدت على [يحيى] حين نهاه أن يتزوج ابنتها [فذهبت إلى جارية] حين حس الملك على شرابه، فألبستها ثيابا رقاقا خضراء وطيبتها وألبستها من الحلي وألبستها فوق ذلك كساء أسود فأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه وأن تتعرض له فإن راودها عن نفسها أتت عليه حتّى يعطيها ما سألته، فإذا أعطاها ذلك سألته أن يأتي برأس يحيى بن زكريا (عليهما السلام) في طشت، ففعلت فجعلت تسقيه وتعرض له فلما أخذ منه الشراب راودها عن نفسها، فقالت: لا [أقبل] حتّى تعطيني ما أسألك، قال: ما تسألين؟ قالت: أسألك أن تبعث إليّ يحيى بن زكريا فتأتي برأسه في هذا الطشت، فقال الملك: سليني غير هذا.
قالت: ما أريد إلّا هذا، فلما أبت عليه بعث إليه فأتى برأسه [والرأس يتكلم] في الطشت حين وضع بين يديه وهي تقول [لا يحل لك]، فلما أصبح إذا دمه يغلي فأمر بتراب فألقى عليه فرمى الدم فوقه فلم يزل يلقي عليه من التراب حتّى بلغ سور المدينة وهو يغلي وبلغ صيحابين فثار في الناس وأراد أن يبعث إليهم جيشا أو يؤمر عليهم رجلا.
(١) تفسير الطبري: ١٥/ ٣٩ وتصويب العبارة منه.
77
فأتاه بخت نصر فكلمه وقال: إن الذي كنت أرسلته تلك المرة ضعيف وأني قد دخلت المدينة وسمعت كلام أهلها [فأبعثني] فبعثه فسار بخت نصر حتّى إذا بلغوا ذلك المكان [تحصنوا] منه في مدائنهم فلم يطقهم فلما اشتدّ عليهم المقام وجاع أصحابه أرادوا الرجوع، فخرجت إليه عجوزا من عجائز بني إسرائيل فقالت: أين أمير الجند؟ فأتى بها إليه فقالت له: إنه قد بلغني أنك تريد [.....] «١» ثمّ ترجع بجندك قبل أن تفتح هذه المدينة، قال: نعم، قد طال مقامي وجاع أصحابي فلست أستطيع المقام فوق الذي كان مني، فقالت: أرأيتك إن فتحت لك المدينة أتعطيني ما أسألك [فتقتل] من أمرتك بقتله وتكف إن أمرتك أن تكف؟ قال لها: نعم، قالت: إذا أصبحت فأقسم جندك أربعة أرباع ثمّ أقم على كل زاوية ربعا ثمّ ارفعوا أيديكم إلى السماء فنادوا: إنا نستفتحك يا الله بدم يحيى بن زكريا فإنها سوف تساقط، ففعلوا فتساقطت المدينة ودخلوا من جوانبها فقالت له: كف يدك وأقبل على هذا الدم حتّى يسكن وانطلقت به إلى دم يحيى وهو على [تراب كثيرة] فقتل عليه حتّى سكن فقتل سبعين ألفا فلما سكن الدم، قالت له: كف يدك فإن الله تعالى إذا قتل نبي لم يرض حتّى يقتل من قتله ومن رضى قتله، وأتاه صاحب الصحيفة بصحيفة فكف عنه وعن أهل بيته وخرب بيت المقدس وأمر أن يطرح الجيفة فيه، وقال: من طرح جيفة فيه فله جزيته تلك السنة وأعانه الله على خرابة الروم من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى.
فلما خربه بخت نصر ذهبت معه بوجوه بني إسرائيل وأشرافهم وذهب بدانيال وعليا وعزاريا وميشائيل هؤلاء كلهم من أولاد الأنبياء وذهب معه برأس جالوت، فلما قدم أرض بابل وجد صحابين قد مات فملك مكانه وكان أكرم الناس عليه دانيال وأصحابه حسدهم المجوس على ذلك فوشوا بهم إليه وقالوا: إن دانيال وأصحابه لا يعبدون إلهك وإنما يعبدون غيره ولا يأكلون ذبيحتك فدعاهم فسألهم فقالوا: أجل إن لنا ربا نعبده ولسنا نأكل من ذبيحتكم فأمر بحد فخدّ لهم فألقوا فيه وهم ستة وألقى معهم سبعا ضاريا ليأكلهم، ففعلوا ذلك فانطلقوا ليأكلوا ويشربوا فذهبوا فأكلوا وشربوا ثمّ راحوا فوجدوهم جلوسا والسبع معترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحدا ولم ينكأه شيئا ووجدوا معهم رجلا فعدوهم فوجدوهم سبعة فقالوا: ما بال هذا السابع وإنما كانوا ستة فخرج إليهم السابع وكان ملكا من الملائكة فلطمه لطمة فصار في الوحش ومسخه الله سبع سنين فيه.
ثمّ إن بخت نصر رأى رؤيا عبّرها له دانيال (عليه السلام)، وهو ما روى إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل أنه سمع راهبا يقول: إن بخت نصر رأى في آخر زمانه صنما رأسه من ذهب وصدره من فضة وبطنه من نحاس وفخذاه من حديد وساقاه من فخار، ثمّ رأى
(١) كلمة غير مقروءة.
78
حمرا من السماء وقع عليه قذفه ثمّ أتاه الحجر حتّى ربا فملىء ما بين المشرق والمغرب، ورأى شجرة أصلها في الأرض وفروعها في السماء ثمّ رأى رجلا بيده فأس، وسمع مناديا ينادي:
اضرب بجذعها لتفرق الطير من فروعها وتفرق الدواب والسباع من تحتها، وأنزل [....] «١»
عبرها له دانيال (عليه السلام).
قال: أما الصنم الذي رأيت فأتيت الرأس الذهب فأنت أفضل الملوك، وأما الصدر الذي [رأيت] من فضة فابنك يملك من [بعدك]، وأما البطن الذي رأيت من نحاس فذلك يكون من بعد [ابنك] وأما رأيت من الفخذ من حديد فهو ملك أهل فارس يكون ملكهم شديدا مثل الحديد، وأما الرجل من فخار فتفرق أهل فارس فرقتين ولا يكون فيهم حينئذ قوام كما لم يلين قوام الصنم على رجلين من فخار، وأما الحجر الذي ربا حتّى ملأ ما بين المشرق والمغرب فنبي يبعثه الله في آخر الزمان فيفرق ملكهم كله «٢» فيربوا ملكه حتّى يكون ما بين المشرق والمغرب.
وأما الشجر الذي رأيت والطير الذي عليها والسباع والدواب التي تحتها وما أمر [بقطعها فيذهب] ملكك فيردك الله طائرا يكون شرا ملك الطير ثمّ يردك ثورا ملك الدواب ثمّ يردك الله أسدا ملك السباع والوحش سبع سنين كان مسخه كله سبع سنين. في ذلك كله قلبك قلب إنسان حتّى تعلم أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وهو يقدر على الأرض ومن عليها، وما رأيت أصلها [قائما] «٣» فإن ملكك قائم، فمسخ بخت نصر نسرا من الطير وثورا من الدواب وأسدا من السباع ثمّ ردّ الله إليه ملكه فأمن ودعا الناس إلى الله.
[وسئل وهب بن منبه] أكان مؤمنا؟ قال: وجدت أهل الكتاب قد اختلفوا فيه، فمنهم من قال: مات مؤمنا، ومنهم قال: أحرق بيت الله وكتبه وقيد الأنبياء، وغضب الله عليه غضبا، فلم يقبل منه حينئذ توبته.
وقال بخت نصر لما رجع إلى صورته ثانية بعد المسخ [فردّ الله] إليه ملكه: كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه فحسدتهم المجوس وقالوا لبخت نصر: إن دانيال إذا شرب الخمر لم يملك نفسه أن يبول، وكان ذلك فيهم عارا فجعل لهم بخت نصر طعاما فأكلوا وشربوا وقال للبواب: أنظر أول من يخرج عليك ليبول فاضربه بالطبرزين «٤» وإن قال: أنا بخت نصر، فقل:
كذبت بخت نصر أمرني به فحبس الله عن دانيال البول وكان أول من قام من القوم يريد البول بخت نصر وكان مدلا وكان ليلا، فقام يسحب ثيابه فلما رآه البوّاب شد عليه فقال: أنا بخت
(١) كلمة غير مقروءة.
(٢) هكذا في الأصل.
(٣) هكذا في الأصل.
(٤) الطبرزين: آلة من السلاح تشبه الطبر والفأس.
79
نصر قال: كذبت بخت نصر أمرني أن أقتل أول من يخرج فضربه فقتله «١».
وأما محمّد بن إسحاق بن يسار فإنه قال: في هلاك بخت نصر غير ما قال السدي، وذلك أنه قال بإسناده: لما أراد الله [......] ليبعث فقال لمن كان في [......] «٢» وكان يعذبه من بني إسرائيل: أن أتتم هذا البيت الذي خربته وهؤلاء الناس الذين قلت من هم وما هذا البيت، فقالوا: هذا بيت الله ومسجد من مساجده وهؤلاء أهله، كانوا من [ذراري الأنبياء] وظلموا [وتعذروا] «٣» وعصوا عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السماوات والأرض ورب الخلق كلهم يكرههم ويمنعهم [ويحرمهم]، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم الله وسلط عليهم غيرهم.
قال: فأخبروني ما الذي يطلع بي إلى السماء العليا لعلي أطلع عليها فأقبل من فيها واتخذها ملكا فإني قد [فرغت] من الأرض ومن فيها، قالوا: ما يقدر عليه أحد من الخلائق، قال: لتفعلن [أو لأقتلنكم عن آخركم] «٤» فبكوا إلى الله وتضرعوا إليه، فبعث الله عليه بقدرته بعوضة ليرى ضعفه وهو انه فدخلت في منخره ثمّ سلفت في منخره حتّى عضت بأم الدماغ، فما كان [يقر ولا يسكن] «٥» حتّى توجأ له رأسه على أم دماغه فلما عرف الموت قال لخاصته من أهله: إذا مت فشقوا رأسي وانظروا ما هذا الذي قتلني، فلما مات شق رأسه فوجد البعوضة عاضة بأم دماغه، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه ويحيى الله من كان بقي في يديه من بني إسرائيل وترحم عليهم وردهم إلى إيليا والشام فبنوا فيها وأربوا وكثروا حتّى كانوا على أحسن ما كانوا عليه.
ويزعمون أن الله تعالى اختار توليت الموتى الذين قتلوا ولحقوا بهم، ثمّ إنهم لما رجعوا إلى الشام وقد أحرق التوراة [وليس معهم عهد] من الله جدد الله توراته وردها عليهم على لسان عزيز (عليه السلام) وقد مضت القصة، فهذا الذي ذكرت جميع أمر بخت نصر على ما جاء في التفسير المعتمد في أخبار الأنبياء، إلّا أن رواية من روى أن بخت نصر هو الذي غزا بني إسرائيل عند [قتلهم] يحيى بن زكريا غلط [أهل السير] والأخبار والعلم بأمور الماضين من أهل الكتاب والمسلمين، ذلك أنهم مجمعون على أن بخت نصر غزا بني إسرائيل عند قتلهم نبيهم شعياء وفي عهد أورميا بن حلفيا (عليه السلام) وهي الوقعة الأولى التي قال الله فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني بخت نصر وجنوده، قالوا ومن عهد أروميا
(١) بتمامه في تفسير الطبري مع تفاوت: ١٥/ ٤٥.
(٢) كلام غير مقروء.
(٣) هكذا في الأصل.
(٤) هكذا في الأصل.
(٥) هكذا في الأصل.
80
وتخريب بخت نصر بيت المقدس إلى عهد يحيى بن زكريا أربعمائة وإحدى وستون سنة، وذلك أنهم يعدون من لدن تخريب بخت نصر بيت المقدس إلى حين [عمارته في عهد كوسك] «١» سبعين سنة، ثمّ من بعد عمرانه إلى ظهور الإسكندر على بيت المقدس وحيازة ملكها إلى مملكة الإسكندر ثمانية وثمانين سنة، ثمّ من بعد مملكة الإسكندر إلى موت يحيى بن زكريا (عليه السلام) بثلاثمائة وثلاث وستون، ويروى بثلاثمائة سند وثلاث سنين.
وإنما الصحيح من ذلك ما ذكر محمّد بن إسحاق بن يسار قال: كثر عن بني إسرائيل بعد ما عمرت الشام وعادوا إليها بعد اخراب بخت نصر إياها وسبيهم منها، فجعلوا بعد ذلك يحدثون الأحداث بعد مهلك عزيز (عليه السلام) ويتوب الله عليهم وبعث الله فيهم الأنبياء وفريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتّى كان آخر من بعث الله فيهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى وكانوا من بيت آل داود، فمات زكريا وقتل يحيى بسبب رغبة الملك عن نكاح ابنته، في قول عبد الله ابن الزبير وابنة أخته في قول السدي وابنة أخيه في قول ابن عبّاس.
وهو الأصح إن شاء الله، لما روى الأعمش عن المنهال عن سعيد بن جبير قال: بعث عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا في اثنى عشر من الحواريين يعلمون الناس، وكان مما نهوهم نكاح بنت الأخ، قال: وكانت لملكهم ابنت أخ تعجبه يريد أن يتزوجها وكانت لها في كل يوم حاجة يقضيها، وذكر الحديث بطوله في مقتل يحيى «٢».
رجعنا إلى حديث ابن إسحاق، فلما رفع الله موسى من بين أظهرهم وقتلوا يحيى بن زكريا، وبعض الناس يقول: قتلوا زكريا انبعث عليهم ملك من ملوك بابل يقال له: خردوس فسار إليهم بأهل بابل حتّى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رؤوس جنوده يدعى [نبور زاذان] صاحب القتل فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظهرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتّى تسيل دماؤهم في وسط عسكري، إلّا أني لا أجد أحدا أقتله، فأمره ان يقتلهم حتّى يبلغ ذلك منهم نبور زاذان، فدخل بيت المقدس وكان في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم [فوجد فيها دما يغلي] فسألهم عنه، قالوا: هذا دم قربان قربناه فلم يقبل منا فلذلك هو يغلي كما تراه ولقد قربنا منذ ثمانمائة سنة القربان فتقبل منا إلّا هذا القربان، قال: ما صدقتموني الخبر قالوا له: لو كان كأول زماننا لقبل منا ولكنه قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يتقبل منا فذبح منهم [نبور زاذان] على ذلك الدم سبعمائة وسبعون رأسا من رؤسائهم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيعهم وأزواجهم فذبحهم «٣» على الدم فلم يرد ولم يهدأ
(١) كذا في تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٢٠ وعند الطبري: كيرش. [.....]
(٢) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٢١٩.
(٣) هكذا في الأصل.
81
فلما رأى نبور زاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: ويلكم يا بني إسرائيل اصدقوني واصبروا على أمر ربكم [فقد طال] ما ملكتم في الأرض، تفعلون فيها ما شئتم قبل أن لا أترك نافخ نار لا أنثى ولا ذكر إلا قتلته فلما [رأوا الجهد] وشدة القتل صدقوه القول فقالوا له: إن هذا دم نبي منا كان ينهاها عن أمور كثيرة من سخط الله فلو أطعناه فيها لكان أرشد لنا وكان يخبرنا بالملك فلم نصدقه فقتلناه فقال لهم نبور زاذان: ما كان اسمه؟ قال: يحيى بن زكريا، قال: وهل صدقتموني، بمثل هذا ينتقم منكم ربكم، فلما رأى نبور زاذان أنهم قد صدقوه خرّ ساجدا وقال لمن حوله:
أغلقوا أبواب المدينة واجمعوا من كان هاهنا من جيش خردوس وخلا في بني إسرائيل.
قال: يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما قد أصاب قومك من أجلك وما قتل منهم من أجلك فاهدأ بأذن الله قبل أن لا يبقي من قومك أحد، فهدأ دم يحيى بن زكريا بإذن الله، ورفع نبور زاذان عنهم القتل [وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل وصدقت به وأيقنت أنه لا رب غيره، ولو كان معه آخر لم يصلح ولو كان له شريك لم تستمسك السموات والأرض، ولو كان له ولد لم يصلح، فتبارك وتقدس وتسبح وتكبر وتعظم ملك الملوك الذي له ملك السموات السبع والأرض وما فيهن وما بينهن، وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فله الحكم والعلم والعزة والجبروت وهو الذي بسط الأرض وألقى فيها رواسي لئلا تزول، فكذلك ينبغي لربي أن يكون ويكون ملكه] «١» فأوحى الله تعالى إلى رؤس من رؤوس بقية الأنبياء أن نبور زاذان حبور «٢» صدوق.
وأن نبور زاذان قال لبني إسرائيل: يا بني إسرائيل إن عدو الله خردوس أمرني أن أقتل منكم حتّى تسيل دماءكم وسط عسكره وإني لست أستطيع أن أعصيه قالوا له: افعل ما أمرت به فأمرهم فحفروا خندقا وأمر بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتّى سال الدم في العسكر وأمر بالقتلى الذين كانوا قتلوا قبل ذلك فطرحوا على ما قتل من مواشيهم حتّى كانوا فوقهم، فلم يظن خردوس إلا أن ما كان في الخندق من بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره أرسل إلى نبور زاذان أن أرفع عنهم القتل فقد بلغني دماؤهم [وقد انتقمت منهم لما فعلوا] «٣» ثمّ انصرف عنهم إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاده، وهو الوقعة الاخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ الآيات.
وكانت الوقعة الأولى: بخت نصر وجنوده ثمّ ردّ الله لهم الكرة عليهم وكانت الوقعة الاخيرة خردوس وجنوده فلم [.....] همام بعد ذلك [.....]. فانتقل الملك بالشام
(١) راجع تفسير الطبري: ١٥/ ٥٥.
(٢) الحبور بالعبرانية: حديث الإيمان.
(٣) راجع تفسير الطبري: ١٥/ ٥٥.
82
ونواحيها إلى الروم واليونان، ثم إن بني إسرائيل كثروا وانتشروا بعد ذلك وكانت لهم ببيت المقدس [بزواجها] على غير وجه الملك وكانوا في أهبة ومنعة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث وانتهكوا المحارم وضربوا الحدود فسلط الله عليهم ططوس بن سيبانو الرومي، فأخرب بلادهم وطردهم عنها ونزع الله عنهم الملك والرئاسة وضرب عليهم الذلة، فليسوا في أمة من الأمم إلّا وعليهم [الصغار] والملك في غيرهم وبقي بيت المقدس خرابا إلى أيام عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عمّره المسلمين بأمره.
وروى أبو عوانة عن أبي بشير قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله تعالى وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ الآيات، فقال: أما الذين فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ فكان مرحا بن الجزري فإذا جاء إلى قوله تَتْبِيراً فكان جالوت الجزري شعبة من [.....] «١».
ثمّ قال: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ إلى قوله تَتْبِيراً قال: هذا بخت نصر الذي خرب بيت المقدس.
ثمّ قال لهم بعد ذلك عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ [على هذا ثمّ] «٢» وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال فعادوا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك الروم ثمّ عادوا أيضا فعيد عليهم فبعث الله عليهم ملك [......] «٣» ثمّ عادوا أيضا فعيد عليهم سابور ذو الأكتاف.
قتادة في هذه الآية (وَقَضَيْنا) قضى على القوم كما تسمعون فبعث عليهم في الأولى جالوت، فسبى وقتل وخرب وجاسوا خِلالَ الدِّيارِ،... ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ يعني يا بني إسرائيل الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ والملك في زمان داود (عليه السلام) فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ آخر الكرتين بعث الله عليهم بخت نصر أبغض خلق الله، فسبى وقتل وخرب بيت المقدس وسامهم سوم العذاب، ثمّ قال عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ «٤» فعاد الله إليهم برحمته ثمّ عاد [الله إليهم بشر] «٥» بما عذبهم، فبعث الله عليهم ما شاء أن يبعث من آفته وعقوبتة، ثمّ بعث الله عليهم هذا الحي من العرب كما قال: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «٦» [....] «٧».
(١) كلام غير مقروء.
(٢) هكذا في الأصل.
(٣) كلمة غير مقروءة.
(٤) هكذا في الأصل.
(٥) هكذا في الأصل.
(٦) سورة الأعراف: ١٦٧.
(٧) كلام غير مقروء.
83
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أي أخبرناهم وعلمناهم في ما آتيناهم من الكتب.
وقال ابن عبّاس وقتادة: يعني وقضينا عليكم، وعلى هذا التأويل يكون (إلى) بمعنى (على) وبمعنى بالكتاب اللوح المحفوظ، لَتُفْسِدُنَّ قيل: لام القاسم مجازة: والله لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ بالمعاصي لَتَعْلُنَّ ولتستكبرن ولتظلمن الناس عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعني أولي المرتين واختلفوا فيها فعلى قول قتادة: إفسادهم في المرة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة [وحكموا] ربهم ولم يحفظوا أمر نبيهم موسى (عليه السلام) وركبوا المحارم وتعدوا على الناس.
وقال السدي: في خبر ذكره عن أبي مالك وأبي جهل عن ابن عبّاس وعن أمية الهمذاني عن ابن مسعود: إن أول الفسادين قتل زكريا.
وقال ابن إسحاق: إن إفسادهم في المرة الأولى قتلهم شعياء بن أمصيا في عهد أرمياء في الشجرة.
وقال ابن إسحاق: إن بعض أهل العلم أخبره أن زكريا مات موتا ولم يقتل وأن المقتول هو شعياء (عليه السلام).
بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا يعني [جالوت الجزري] وجنوده وهو الذي قتله داود.
قال قتادة: وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس، وقال أبو المعلى ويعلى «١» عن سعيد بن جبير: هم صحاريب من أهل نينوى، وهي الموصل.
أبو بشير عنه: صرخان الخزري، وقال: ابن إسحاق: بخت نصر البابلي وأصحابه.
أُولِي بَأْسٍ يعني بطش، وفي الحرب شَدِيدٍ فَجاسُوا أي خافوا وداروا.
قال ابن عبّاس: مشوا، الفراء: قتلوكم بين بيوتكم.
وأنشد لحسان:
ومنا الذي لاقى بسيف محمّد فجاس به الأعداء عرض العساكر
أبو عبيدة: طلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخبار أي يطلبها «٢».
القتيبي: [عاشوا وقتلوا] وأفسدوا «٣».
(١) هكذا في الأصل.
(٢) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٢١٦. [.....]
(٣) راجع زاد المسير لابن الجوزي: ٥/ ٨ ونسبه لأبي عبد الرحمن.
84
ابن جرير: طافوا من الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين وجائين فجمع التأويلات.
وقرأ ابن عبّاس: فحاسوا بالحاء ومعناها واحد.
خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا قضاء كائنا لا خلف فيه ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ الرجعة والدولة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً عددا.
قال القتيبي: والنفير من نفر «١» مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، يقال: النفير والنافر، وأصله القدير والقادر.
إِنْ أَحْسَنْتُمْ يا بني إسرائيل أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لها ثوابا ونفعها وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها أي فعليها كقوله فَسَلامٌ لَكَ أي عليك.
وقال محمّد بن جرير: قالها كما قال بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي إليها، وقيل: فَلَها الجزاء والعقاب.
وقال الحسين بن الفضل: يعني فَلَها رب يغفر الإساءة «٢».
فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي المرة الآخرة من إفسادكم وذلك على قصدهم قتل عيسى (عليه السلام) يحيى حين رفع، وقتلهم يحيى بن زكريا (عليه السلام) فسلط الله عليهم الفرس والروم [...........] «٣» قتلوهم وسبوهم ونفوهم عن بلادهم وأخذوا بلادهم وأموالهم فذلك قوله لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي ليحزن، واختلف القراء فيه،
فقرأ الكسائي: لنسوؤ بالنون وفتح الهمزة على التعظيم اعتبارا، وَقَضَيْنا وبَعَثْنا ورَدَدْنا وأمددنا وجعلنا.
وروى ذلك عن علي (رضي الله عنه)
: وتصديق هذه القراءة قرأ أبي بن كعب: لنسؤنّ وجوهكم بالنون وحرف التأكيد.
وقرأ أهل الكوفة: بالياء على التوحيد، ولها وجهان: أحدهما ليسؤ الله وجوهكم، والثاني ليسؤ [العدو] وجوهكم.
وقرأ الباقون: لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ بالياء وضم الهمزة على الجمع، بمعنى ليسؤ العباد أولي بأس شديد وجوهكم وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعني بيت المقدس ونواحيه كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا وليهلكوا أو ليدمروا ما عَلَوْا غلبوا عليه [تدميرا] تَتْبِيراً عَسى لعلّ رَبُّكُمْ يا بني إسرائيل أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد انتقامهم منكم وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا.
(١) هكذا في الأصل.
(٢) تفسير القرطبي: ١٠/ ٢١٧.
(٣) كلام غير مقروء.
85
قال ابن عبّاس: وَإِنْ عُدْتُمْ إلى المعصية عُدْنا إلى العقوبة، فعادوا فبعث الله عليهم محمدا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعطون الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ... وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً معينا سجنا ومحبسا من الحصر وهو الحبس، والعرب تسمى [النخيل] حصورا والملك حصيرا [لأنه محجوب محبوس] «١» عن الناس.
قال لبيد:
وقماقم غلب الرقاب كأنهم... جن لدى باب الحصير قيام
أي باب الملك ومنه: انحصر في الكلام إذا [احتبس عليه] وأعياه، والرجل الحصور عن النساء وحصر الغائط.
قال الحسن وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي فراشا ومهادا، ذهب إلى الحصير الذي يفرش، وذلك أن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا، وهو وجه حسن وتأويل صحيح.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩ الى ١٦]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣)
اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي الطريقة التي [هي أسد وأعدل وأصوب] «٢» وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وهو الجنة وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وهي النار وَيَدْعُ الْإِنْسانُ حذفت الواو هنا في اللفظ والخط ولم يحذف في المعنى لأنها في موضع رفع وكان حذفها باستقالتها اللام الساكنة كقوله سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «٣» يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ «٤»، ويُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ ويُنادِ الْمُنادِ... فَما تُغْنِ النُّذُرُ ومعنى الآية وَيَدْعُ الْإِنْسانُ على [ماله وولده ونفسه بالسوء] وقوله عند الضجر
(١) هكذا في الأصل.
(٢) تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٢٥.
(٣) سورة العلق: ١٨.
(٤) سورة الشورى: ٢٤.
86
والغضب: اللهم العنه اللهم أهلكه دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي كدعائه ربه أن يهب له العافية والنعمة ويرزقه السلامة في نفسه وماله وولده [بالشر لهلك] ولكن الله بفضله لا يستجيب له في ذلك، نظيره قوله تعالى وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا عجلا بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه.
قال مجاهد وجماعة من المفسرين، وقال ابن عبّاس: [يريد] ضجرا لا صبرا له على سراء ولا ضرّاء.
وقال قوم من المفسرين: أراد الإنسان آدم.
قال سلمان الفارسي: أول ما خلق الله من آدم رأسه، فجعل ينظر وهو يخلق جسده فلما كان عند العصر بقيت رجلاه لو يبث فيها الروح، فقال: يا رب عجّل قبل الليل فذلك قوله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا.
وروى الضحاك عن ابن عبّاس قال: لما خلق الله رأس آدم نظر إلى جسده فأعجبه، فذهب لينهض فلم يقدر، فهو قول الله وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا [وقيل: المراد آدم فإنه لما انتهى الروح إلى سرته ذهب لينهض فسقط،
يروى أنه علم وقع أسيرا إلى سودة بنت زمعة فرحمته لأنينه فأرخت من كتافه فهرب فدعا النبي عليها بقطع اليد ثم ندم فقال: اللهم إنما أنا بشر فمن دعوت عليه فاجعل دعائي رحمة له فنزلت هذه الآية] «١»
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ دلالتين وعلامتين على وحدانيتنا ووجودنا وكمال علمنا وقدرتنا وعدد السنين والحساب فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ
قال أبو الطفيل: سأل ابن الكواء عليا (رضي الله عنه) فقال: ما هذا السواد في القمر؟ فقال علي: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً وهو المحو «٢».
وقال ابن عباس: الله نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر سبعين جزءا فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءا والقمر على جزء واحد «٣».
وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ وهي الشمس مُبْصِرَةً [منيرة مضيئة] «٤».
(١) عن هامش المخطوط.
(٢) تفسير الطبري: ١٥/ ٦٤.
(٣) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٢٧.
(٤) هكذا في الأصل.
87
وقال أبو عمرو بن العلا: يعني بصرها.
قال الكسائي: هو من قول العرب أبصر النهار إذا أضاء وصار بحالة يبصرها.
وقال بعضهم: هو كقولهم: [رجل خبيث مخبث إذا كان أصحابه خبثاء ورجل مضعف إذا كانت دوابه ضعافا فكذلك النهار مبصرا إذا كان أهله بصراء] «١».
لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ إلى قوله فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بينّاه تبيينا.
مقاتل بن علي عن عكرمة عن ابن عبّاس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن الله تعالى لما أبرم خلقه فلم يبق من خلقه غير آدم خلق شمسا من نور عرشه وقمرا فكانا جميعا شمسان فأما ما كان في سابق علم الله أن يدعها شمسا فإنه خلقها مثل الدنيا ما بين مشارقها ومغاربها وأما ما كان في سابق علمه أن يطمسها فيحولها قمرا فخلقها دون الشمس من العظيم ولكن إنما يرى صغرهما من شدة ارتفاع السماء وبعدها من الأرض، فلو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولا النهار من الليل ولا كان يدرك الأجير إلى متى يعمل ومتى يأخذ أجره ولا يدري الصائم إلى متى يصوم ومتى يفطر، ولا تدري المرأة كيف تعتد ولا يدري المسلمون متى وقت صلاتهم ومتى وقت حجهم، ولا يدري الديان متى يحل دينهم ولا تدري الناس متى يبذرون ويزرعون لمعاشهم ومتى يسكنون لراحة أبدانهم فكان الرب سبحانه أنظر لعباده وأرحم بهم فأرسل جبرائيل [فأمّر] جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور، فذلك قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً [والسواد] «٢» الذي ترونه في جوف القمر يشبه الخطوط، فهو أثر المحو «٣».
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال ابن عباس: وما قدر عليه [من خير وشر] فهو ملازمه أينما كان «٤».
الكلبي ومقاتل: خيره وشره معه لا يفارقه حتّى يحاسب به [وتلا الحسن: عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ] ثمّ قال يا بن آدم بسطت لك صحيفتك ووكل بك ملكان أحدهما عن يمينك والآخر [عن يسارك فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك، وأما الذين عن شمالك فيحفظ سيئاتك فاعمل ما شئت أقلل أو أكثر حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك حتى تخرج يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً] «٥».
(١) مقوّمة من تفسير القرطبي والمخطوط لا يقرأ.
(٢) هكذا في الأصل. [.....]
(٣) ذكره ابن الجوزي مختصرا في الموضوعات: ١/ ١٣٩.
(٤) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٢٩.
(٥) تفسير الطبري: ١٥/ ٦٩.
88
مجاهد: عمله ورزقه، وعنه: ما من مولود يولد إلّا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد.
وقال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قضى عليه [أنه] عامله في ما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وإنّما عبر عنه بالطائر على عادة العرب كما كانت تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها «١».
أبو عبيد والعيني: أراد بالطائر حظه من الخير والشر عن قولهم طار منهم فلان بكذا أيّ جرى له الطائر بكذا.
وقرأ الحسن ومجاهد وأبو رجاء: طئره في عنقه بغير ألف وإنّما خص عنقه دون سائر أعضائه، لأن العنق موضع السمات وموضع القلائد والأطراف وغير ذلك مما يشين أو يزين، فجرى كلام العرب [بنسبة الأشياء اللازمة] «٢» إلى الأعناق فيقولون هذا في عنقي حتّى أخرج منه وهذا الشيء [لازم صليت] عنقه.
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً قرأ الحسن ومجاهد وابن محيصن ويعقوب: وَيَخْرُجُ بفتح الياء وضم الراء على معنى ويخرج له الطائر يوم القيامة كتابا نصب كِتاباً على الحال، ويحتمل أن يكون معناه ويخرج له الطائر فيصير كتابا.
وقرأ أبو جعفر: وَيُخْرَجُ بضم الياء وفتح الراء على غير تسمية الفاعل ومجازه ويخرج له الطائر كتابا.
وقرأ يحيى بن وثاب: وَيُخْرِجُ أي ويخرج الله.
وقرأ الباقون: بنون مضمومة وكسر الراء على معنى ونحن نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً ونصب كِتاباً بإيقاع الإخراج عليه واحتج أبو عمرو لهذه القراءة بقوله أَلْزَمْناهُ...
يَلْقاهُ قرأ أبو عامر وأبو جعفر: تُلَقَّاهُ بضم التاء وتشديد القاف يعني تلقى الإنسان ذلك الكتاب أي [يؤتى]. وقرأ الباقون: بفتح الياء أي يراه.
مَنْشُوراً نصب على الحال.
عن بسطام بن مسلم قال: سمعت أبا النباج يقول سمعت أبا السوار العدوي يقرأ هذه الآية ثمّ قال: نشرتان وعليه ما حييت يا ابن آدم فصحيفتك منشورة فاعمل فيها ما شئت، فإذا مت طويت ثمّ إذا بعثت نشرت.
(١) تفسير الطبري: ١٥/ ٦٦.
(٢) هكذا في الأصل.
89
اقْرَأْ كِتابَكَ يعني فيقال له اقرأ كتابك كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً محاسبا مجازيا.
قتادة: سيقرأ يومئذ كل من لم يكن في الدنيا [مجازيا] «١».
وقال الحسن: [قد عدل والله عليك] من جعلك حسيب نفسك.
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لها نوليه وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأن عليها عقابه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ولا يحمل حامله عمل أخر من الأثام وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا إقامة للحجة عليهم بالآيات التي تقطع عذرهم وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها.
قرأ عثمان النهدي وأبو رجاء العطاردي وأبو العالية [وأبو جعفر] ومجاهد: أَمَّرْنا بتشديد الميم أيّ خلطنا [شرارها] «٢» فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكتهم.
وقرأ الحسن وقتادة وأبو حياة الشامي ويعقوب: آمرنا ممدودة أي أكثرنا.
وقرأ الباقون: بكسر الميم، أي أمرناهم بالطاعة فعصوا، ويحتمل أن يكون بمعنى جعلناهم أمرا لأن العرب تقول أمر غير مأمور أي غير مؤمر، ويجوز أن يكون بمعنى أكثر ما يدل عليه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «خير المال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة»
«٣» [٢١] «٤» أراد بالمأمورة كثرة النسل ويقال للشيء الكثير: أمر، والفعل منه أمر يأمرون أمرا إذا كثروا.
وقال لبيد:
كل بني حرة مصيرهم... قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا،... يوما يصيروا للهلك والنفذ
واختاره أبو عبيد وأبو حاتم وقرأه العامّة.
وقال أبو عبيد: إنما اخترنا هذه القراءة، لأن المعاني الثلاثة تجتمع فيها يعني الأمر والأمارة والكثرة، مُتْرَفِيها
[.........] «٥» وهم أغنياؤها ورؤساءها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
يوجب عليها العذاب فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
فجزيناهم [وأهلكناهم إهلاكا بأمر فيه أعجوبة].
(١) هكذا في الأصل.
(٢) هكذا في الأصل.
(٣) السكة: الطريقة المصطفة من النخل والمأبورة الملقحة، والمعنى: خير المال نتاج وزرع.
(٤) الآحاد والمثاني للضحاك: ٢/ ٤٢٤، والمعجم الكبير: ٧/ ٩١.
(٥) كلمة غير مقروءة ولعلها: خلق.
90
روى معمر عن الزهري قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوما على [زينب] وهو يقول: «لا إله إلّا الله للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه» قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون، قال: «نعم إذا كثر الخبث» «١» [٢٢].
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٧ الى ٢٥]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ تخوف كفار مكة وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً وقد اختلفوا في مبلغ مدة القرن:
قال عبد الله بن أبي: وفي القرن عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أول قرن كان وآخرهم يزيد بن معاوية.
وروى محمّد بن القاسم عن عبد الله بن بشير المازني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وضع يده على رأسه وقال: «سيعيش هذا الغلام قرنا» فقلت: كم القرن؟ قال: «مائة سنة».
قال محمّد بن القاسم: ما زلنا نعدّ له حتّى [تمت] مائة سنة ثمّ مات.
وقال الكلبي: القرن ثمانون سنة.
وروى عمر بن شاكر عن ابن سيرين قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «القرن أربعون سنة» [٢٣].
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ يعني الدنيا فعبرنا بحرف عن الاسم، أراد بالدار العاجلة عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ من البسط والتقدير لِمَنْ نُرِيدُ أن يفعل به ذلك [أوّل] إهلاكه، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ في الآخرة يَصْلاها يدخلها مَذْمُوماً مَدْحُوراً مطرودا مبعدا وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وعمل لها عملها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً مقبولا غير مكفور كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ أيّ نمد كل الفريقين، من يريد العاجلة ومن يريد الآخرة
(١) تفسير الطبري: ١٥/ ٧٣.
91
فيرزقهما جميعا مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ ثمّ يختلف بهما الحال في المال وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ممنوعا [محبوسا] «١» عن عباده انْظُرْ يا محمّد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الرزق والعمل، يعني طالب العاجلة وطالب الآخرة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد به غيره فَتَقْعُدَ فتبقى مَذْمُوماً مَخْذُولًا وَقَضى أمر رَبُّكَ.
قال ابن عبّاس وقتادة والحسن قال زكريا بن سلام: جاء رجل إلى الحسن وقال إنه طلق امرأته ثلاثا، فقال: إنك عصيت ربك وبانت منك امرأتك، فقال الرجل: قضى الله ذلك عليّ.
قال الحسن وكان فصيحا: ما قضى الله، أي ما أمر الله وقرأ هذه الآية وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فقال الناس: تكلم الحسن في [القدر].
وقال مجاهد وابن زيد: وأوصى ربك، ودليل هذا التأويل
قراءة علي وعبد الله وأبيّ:
ووصى ربك.
وروى أبو إسحاق [الكوفي] عن شريك بن مزاحم أنه قرأ: ووصى ربك وقال: إنهم [ادنوا] الواو بالصاد فصارت قافا.
وقال الربيع بن أنس: [وأوجب] «٢» رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأمر بالأبوين إحسانا برا بهما وعطفا عليهما إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ الكسائي بالألف، وقرأ الباقون: يَبْلُغَنَّ بغير الألف على الواحدة وعلى هذه القراءة قوله أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما كلام [مستأنف] كقوله عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ «٣» وقوله وَأَسَرُّوا النَّجْوى «٤» ثمّ ابتدأ فقال: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ فيه ثلاث لغات بفتح الفاء [حيث قد رفع] «٥» وهي قراءة أهل مكة والشام واختيار يعقوب وسهيل.
و (أُفٍّ) بالكسر والتنوين وهي قراءة أهل المدينة وأيوب وحفص.
و (أُفِّ) مكسور غير منون وهي قراءة الباقين من القراء، وكلها لغات معروفة معناها واحد.
قال ابن عبّاس: هي كلمة كراهة. مقاتل: الكلام الرديء الغليظ.
أبو عبيد: أصل الأف والتف الوسخ على الأصابع إذا فتلته وفرق الآخرون بينهما فقيل
(١) هكذا في الأصل.
(٢) هكذا في الأصل.
(٣) سورة المائدة: ٧١. [.....]
(٤) سورة طه: ٦٢.
(٥) هكذا في الأصل.
92
الأف ما يكون في المغابن من العرق والوسخ، والتف ما يكون في الأصابع، وقيل: الأف وسخ الأذن والتف وسخ [الأظفار] وقيل: الأف وسخ الظفر والتف ما رفعت يدك من الأرض من شيء حقير.
وَلا تَنْهَرْهُما لا تزجرهما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً حسنا جميلا.
وقال ابن المسيب: كقول العبد المذنب للسيد الفظ «١».
وقال عطاء: لا تسمهما ولا تكنّهما وقل لهما: يا أبتاه ويا أماه.
مجاهد في هذه الآية: إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان ويحدثان فلا تتعذرهما «٢».
ولا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ حين ترى الأذى وتميط عنهما الخراء والبول كما كانا يميطانه عنك صغيرا [ولا تؤذهما] «٣» [وروى سعيد بن المسيب: أن [العاق] يموت ميتة سوء،
وقال رجل لرسول الله (صلى الله عليه وآله) : إن أبوي بلغا من الكبر أني أوليهما ما وليا مني في الصغر فهل قضيتهما؟ قال (صلى الله عليه وآله) :[ «لا فإنهما كانا يفعلان لك وهما يحبان بقاءك وأنت تفعل وأنت تريد موتهما» ] «٤» [٢٤].
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ.
قال عروة بن الزبير: إن لهما حتّى لا يمتنع من شيء أحياه.
مقاتل: ألن لهما جانبك فاخضع لهما.
وقرأ الحسن وسعيد بن جبير وعاصم الجحدري: جَناحَ الذِّلِّ بكسر الذال أي [لا تستصعب معهما].
وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً.
قال ابن عبّاس: هو منسوخ بقوله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى الآية.
روى شعبة عن يعلى بن عطاء عن أبيه عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«رضى الله تعالى مع رضا الوالدين وسخط الله مع سخط الوالدين» [٢٥] «٥».
(١) راجع تفسير الطبري: ١٥/ ٨٤.
(٢) هكذا في الأصل.
(٣) هكذا في الأصل.
(٤) عن هامش المخطوط.
(٥) سبل السلام للعسقلاني: ٤/ ١٦٤، والدر المنثور: ٤/ ١٧٢.
93
عطاء عن عائشة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يقال للعاق اعمل ما شئت إني لا أغفر لك ويقال للبار اعمل ما شئت وإني أغفر لك» [٢٦] «١».
روى عطاء عن ابن عبّاس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «من أمسى مرضيا لوالديه وأصبح أمسى وأصبح له بابان مفتوحان إلى الجنة، وإن أمسى وأصبح مسخطا لوالديه أصبح وله بابان إلى النار وان واحدا فواحد» [٢٧] «٢».
فقال رجل: يا رسول الله وإن ظلماه؟ قال: «وإن ظلماه»، ثلاث مرات.
وروى رشيد بن سعد عن أبي هاني الخولاني عن أبي عمر [القصبي] «٣» قال: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله دلني على عمل أعمله يقربني إلى الله؟ قال: «هل لك والدة ووالد؟» قال: نعم. قال: «فإنما يكفي مع البر بالوالدين العمل [اليسير] » [٢٨].
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من بر الوالدين وعقوقهما إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أبرارا مطيعين فيما أمركم الله به بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين، وغير ذلك من فرائض الله فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ بعد المعصية والهفوة غَفُوراً.
وقال سعيد بن جبير في هذه الآية: هو الرجل يكون منه المبادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلّا الخير، فإنه لا يؤخذ به.
واختلف المفسرون في معنى الأوابين:
فقال سعيد بن جبير: الراجعين إلى الخير، سعيد بن المسيب: الذي يذنب ثمّ يتوب ثمّ يذنب ثمّ يتوب.
مجاهد عن عبيد بن عمر: هو الذي يذكر ذنوبه في الخلا فيستغفر الله تعالى عنها.
عمرو بن دينار: هو الذي يقول: اللهم اغفر لي ما أصبت في [مجلسي] هذا.
ابن عبّاس: الراجع إلى الله فيما [لحق به وينويه] «٤» والأبواب فعال من أوب إذا رجع.
قال عبيد بن الأبرص: وكل ذي غيبة يؤوب وغائب الموت لا يؤوب.
وقال عمرو بن شرحبيل: وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عبّاس دليله قوله يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ «٥».
(١) كنز العمال: ١٦/ ٤٧٦.
(٢) تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٤٥.
(٣) هكذا في الأصل.
(٤) هكذا في الأصل.
(٥) سورة سبأ: ١٠.
94
الوالبي: عنه المطيعين المخبتين.
قتادة: المصلين. عون العقيلي: هم الذين يصلون صلاة الضحى.
ابن المنكدر: بين المغرب والعشاء.
روى ابن إدريس عن أبيه عن سعيد بن جبير قال: الأوابين الرغابين.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٦ الى ٤٣]
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣)
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ يعني صلة الرحم. وقال بعضهم: عني بذلك قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
روى السدي عن ابن الديلمي قال: قال علي بن الحسين لرجل من أهل الشام أقرأت القرآن؟ قال نعم؟ قال: أفما قرأت في بني إسرائيل وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ قال: انكم القرابة الذين أمر الله أن يؤتى حقه؟ قال: نعم.
وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ يعني مار الطريق، وقيل: الضيف وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ولا تنفق مالك في المعصية.
وروى سلمة بن كهيل عن أبي [عبيدة] عن ابن الضرير أنه سأل ابن مسعود ما التبذير؟
فقال: إنفاق المال في غير حقه «١».
(١) تفسير مجاهد: ١/ ٣٦١.
95
وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في [الحق ما كان] تبذيرا، فلو أنفق يدا في باطل كان تبذيرا به.
وقال شعيب: كنت أمشي مع أبي إسحاق في طريق الكوفة، فأتى على دار تبنى بجص وآجر فقال: هذا التبذير في قول عبد الله: إنفاق المال في غير حقه «١».
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أولياؤهم وأعوانهم، والعرب تقول: لكل [من يلزم] سنّة قوم وتابع أمرهم هو أخوهم وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً جحود النعمة.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الآية
نزلت في منجع وبلال وصهيب وسالم وخباب، كانوا يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأحايين ما يحتاجون إليه ولا يجد لهم متسعا، فيعرض عنهم حياء منهم
فأنزل الله عزّ وجلّ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ يعني وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم حقوقهم عند مسألتهم إياك ما لا يجد إليه سبيلا حياء منهم.
ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ ابتغاء رزق من الله تَرْجُوها أن يأتيك فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً ليّنا وعدهم وعدا جميلا وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً الآية.
قال جابر بن عبد الله: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قاعد فيما بين الصحابة أتاه صبي فقال: يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعا، ولم يكن عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلّا قميصه، فقال الصبي: من ساعة إلى ساعة يظهر يعد وقتا آخر، فعاد إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا، فأذن بلال للصلاة فانتظروا فلم يخرج فشغل قلوب الصحابة فدخل عليه [بعضهم فرآه] عاريا فأنزل الله تعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ «٢» يعني ولا تمسك يدك عن النفقة في الحق، كالمشدودة يده على عنقه فلا يقدر على مدها والإعطاء.
وَلا تَبْسُطْها بالعطاء كُلَّ الْبَسْطِ فتعطي جميع ما تملك فَتَقْعُدَ مَلُوماً يلومك سائلوك إذا لم تعطيهم مَحْسُوراً منقطعا بك لا شيء عندك تنفقه، فقال: حسرته بالمسألة إذا [أكلّته] «٣» ودابة حسيرة إذا كانت كالة [رازحة] «٤» وحسير البصر إذا كل، قال الله يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ «٥» وقال قتادة: نادما على ما سلف منك «٦».
(١) تفسير الطبري: ١٥/ ٩٤. [.....]
(٢) أسباب النزول للواحدي: ١٩٤.
(٣) كذا في المخطوط.
(٤) هكذا في الأصل.
(٥) سورة الملك: ٤.
(٦) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٥١.
96
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ يقتر ويضيق إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً نظيرها قوله: [ولو وسع] «١» الله الرزق لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ الآية وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ضيق وإقتار نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يأدون بناتهم خشية الفاقة فنهاهم الله تعالى عن ذلك وأخبرهم أن رزقهم ورزق بناتهم على الله تعالى إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً اختلف القراء فيه:
فقرأ أبو جعفر وابن عامر: بفتح الخاء والطاء والهمزة مقصورة.
وقرأ ابن كثير: بكسر الخاء وفتح الطاء ومد الهمزة.
وقرأ الآخرون: بكسر الخاء وجزم الطاء، وكلها لغات بمعنى واحد، ويكون اسما ومصدرا.
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا. وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قتلها إِلَّا بِالْحَقِّ وبحقها بما
روى حميد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله، فإذا قالوها [عصموا] في دمائهم وأموالهم إلّا بحقها وحسابهم على الله» [٢٩] قيل: وما حقها؟ قال: زنا بعد إحصان وكفر بعد إيمان وقتل نفس فيقتل بها «٢».
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً قوة وولاية على قاتل وليه فإن لما استفاد منه فقتله وأن الله أخل الدية وإن شاء عفا عنه فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ قرأ حمزة والكسائي وخلف: تسرف بالتاء أي فلا تسرف أيها القاتل، ويجوز أن يكون الخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمراد منه الأيمة والأمة من بعده، ومن قرأ بالياء رجع إلى المولى.
واختلفوا في الإسراف ما هو: فقال ابن عبّاس: لا يقتل غير قاتله.
قال الحسن وابن زيد: كانت العرب في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل، لم يرضوا أن يقتلوا قاتل صاحبهم حتّى يقتلوا أشرف من الذي قتله، فيعمد ولي المقتول إلى الشريف من قبيلة القاتل فيقتله بوليه ويترك القاتل، فنهى الله عن ذلك،
وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إن من أعتى الناس على الله جل ثناؤه قتل غير قاتله أو قتل بدخن الجاهلية أو قتل في حرم الله» [٣٠] «٣».
وقال الضحاك: كان هذا بمكة ونبي الله صلّى الله عليه وسلّم بها، وهو أول شيء نزل من القرآن في شأن القتل وكان المشركون من أهل مكة يقتلون أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال الله: من قتلكم من المشركين
(١) هكذا في الأصل.
(٢) تفسير الطبري: ١٥/ ١٠٣.
(٣) المصدر السابق: ١٥/ ١٠٦.
97
فلا يحملنكم قتله إياكم على أن لا تقتلوا إلا قاتلكم، فلا يقتلوا له أبا أو أخا أو أحدا فإن كانوا من المشركين فلا يحملنكم ذلك [................] «١» على فلا تقتلوا إلا قاتلكم «٢».
وهذا قبل أن تنزل سورة براءة وقبل أن يؤمروا بقتال المشركين.
وقال سعيد بن جبير: لا يقبل [........] على العدة.
قتادة وطارق بن حبيب وابن كيسان: [لا يمثل به].
إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً اختلفوا في هذه الكناية [إلى من ترجع فقيل: ترجع] على ولي المقتول، هو المنصور على القاتل [فيدفع الامام] إليه القاتل، فإن شاء قتل وإن شاء عفا عنه وإن شاء أخذ الدية، وهذا قول قتادة.
وقال الآخرون: (مَنْ) راجعة إلى المقتول في قوله وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً يعنى أن المقتول [منصور] في الدنيا بالقصاص وفي الآخرة [بالتوبة] وهو قول مجاهد.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إلى قوله مَسْؤُلًا عنه، وقيل معناه: كان مظلوما وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ.
قرأ أهل الكوفة: القسطاس بكسر القاف.
الباقون: بفتحه وهو الميزان مثل القرطاس، والقسطاس معناه الميزان صغيرا كان أو كبيرا «٣».
مجاهد: هو العدل بالرومية. وقال الحسن: هو القبان.
ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة.
[قال الحسن] : ذكر لنا أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يقدر رجل على حرام ثمّ يدعه ليس لديه «٤» إلا مخافة الله إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك» [٣١] «٥».
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ قال قتادة: لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمعه وعلمت ولم تعلمه وهذه رواية على عن ابن عبّاس.
(١) كلام غير مقروء.
(٢) هكذا في الأصل.
(٣) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٥٧.
(٤) في المصدر: به.
(٥) كنز العمال: ١٥/ ٧٨٧، وتفسير الطبري: ١٥/ ١٠٩.
98
قال مجاهد: ولا ترم أحدا بما ليس لك به علم، وهي رواية عطية عن ابن عبّاس «١».
وقال ابن الحنفية: هو شهادة الزور.
قال [القتيبي] : لا تتبع الحدس والظنون، وكلها متقاربة، وأصل القفو البهت والقذف بالباطل. ومنه
قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نحن بنو النضر بن كنانة لا نقفوا أمنا ولا ننتفي من أبينا» «٢».
وقال النابغة:
ومثل الدمى شم العرانين ساكن بهن الحياء لا يشعن التقافيا «٣»
وقال الكميت:
فلا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفوا الحواصين أن [قفينا] «٤»
وقال [القتيبي] : فهو مأخوذ من القفاء كأنه يقفوا الأمور ويكون في أقفائها يعقبها [ويتتبعها] ويتعرفها. يقال: قفوت أثره على وزن دعوت والنهي منه لا يقف، كقولك: لا تدع.
وحكى الفراء عن بعضهم: أن أصله من القيافة، وهو اتباع الأثر وإذا كان كذلك وجب أن يكون (وَلا تَقْفُ) بضم القاف وسكون الفاء مثل: ولا تقل، قال: والعرب تقول: قفوت أثرها وقفت مثل قولهم: قاع الجمل الناقة إذا ركبها وقعا، وعاث وعاثا واعتام واعتمى واحتاج ماله واحتجا.
قال الشاعر:
ولو إني رميتك من قريب لعاقك «٥» من دعاء الذئب عاق
أي عانق.
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي كل هذه الجوارح والأعضاء ما يقل تلك.
كقول الشاعر، وهو جرير:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام «٦»
(١) راجع زاد المسير لابن الجوزي: ٥/ ٢٧. [.....]
(٢) المعجم الكبير للطبراني: ١/ ٢٣٦، والطبقات الكبرى: ١/ ٢٢ بلفظ: ولا ندعي لغير أبينا.
(٣) التقافيا: التقاذف، والبيت في تفسير الطبري نسبه لبعض البصريين: ١٥/ ١١٠.
(٤) هكذا في الأصل.
(٥) هكذا في الأصل.
(٦) راجع تفسير الطبري: ١٥/ ١١١.
99
ويجوز «١» أن يكون راجع «٢» إلى أصحابها وأربابها.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً بطرا وفخرا وخيلاء، وهو تفسير المشي لا نعته فإن ذلك أخرجه على المصدر قل لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تقطعها بكعبيك حتّى تبلغ آخرها، يقال فلان أخرق الأرض من فلان إذا كان أكثر سفرا وعزة.
وقال روبة:
وقائم [الأعماق] «٣» خاوي المخترق
أي المقطع وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي [لن تساويها بطولك ولا تطاولك] وأخبر أن صاحبه لا ينال به شيئا [.....] «٤». عنه غيره كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً.
قرأ الحسن ويحيى بن يعمر وابن عمر وأهل الكوفة: سَيِّئُهُ على الاضافة، بمعنى كل هذا الذي ذكرنا من قوله وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.
(كان سيئة) أي سيء بما ذكرنا ووعدنا عليك عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً، قالوا: لأن فيما ذكره الله من قوله وَقَضى رَبُّكَ إلى هذا الموضع أمورا مأمورات بها ومنهيات عنها، واختار أبو عبيد هذه القراءة لما ذكرنا من المعنى، ولأن في قراءة أبي حجة لها، وهي ما روى أبو عبيد عن حجاج عن هارون في قراءة [أبي بن كعب] (كان سيئاته) قال: فهذه تكون بإضافة سيئة منوّنة منصوبة، بمعنى كل ذلك الذي ذكرنا ووعدنا من قوله وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ إلى هذا الموضع كان سيئة لا حسنة في فجعلوا «كلا» محيطا بالمنهي عنه دون غيره «٥».
فإن قيل: هلا جعلت مكروها خبر ثان، قلنا: في الكلام تقديم وتأخير تقديره: كل ذلك كان مكروها سيئة، وقيل هو فعل [.....] كالبدل لا على الصفة، مجازة: كل ذلك كان سيئة وكان مكروها.
وقال أهل الكوفة: رجع إلى المعنى، لأن السيئة الذنب وهو [غير حقيقي] ذلِكَ الذي ذكرنا [ووعدنا] «٦» مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ إلى قوله مَدْحُوراً مطرودا مبعدا من كل نصير والمراد به غيره.
(١) هكذا في الأصل.
(٢) كلمة غير مقروءة.
(٣) هكذا في الأصل.
(٤) كلمة غير مقروءة.
(٥) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٦٢.
(٦) هكذا في الأصل.
100
قال الكلبي: [الثمان عشرة] آية كانت في ألواح موسى وهي عشر آيات في التوراة.
أَفَأَصْفاكُمْ اختاركم واختصكم رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً بنات إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً يخاطب مشركي العرب حيث قالوا: الملائكة بنات الله.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا قرأه العامّة: بالتشديد على التكثير.
وقرأ الحسن: صَرَفْنا بالتخفيف.
فِي هذَا الْقُرْآنِ يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والأعلام.
سمعت أبا القاسم الحسين يقول: بحضره الإمام أبي الطيب لقوله تعالى صَرَّفْنا معنيان أحدهما: لم يجعله نوعا واحدا، بل وعدا ووعيدا وأمرا ونهيا ومحكما ومتشابها وناسخا ومنسوخا وأخبارا وأمثالا، مثل تصريف الرياح من صبا ودبور وجنوب وشمال، وتصريف الأفعال من الماضي إلى المستقبل ومن الفاعل إلى المفعول ونحوها.
والثاني: لم ينزله مرة واحدة بل [نجوما] مثل قوله وَقُرْآناً فَرَقْناهُ ومعناه أكثرنا صرف جبرئيل إليك «١».
لِيَذَّكَّرُوا. قرأ يحيى والأعمش وحمزة والكسائي لِيَذْكُرُوا مخففا.
وقرأ الباقون: بالتشديد وإختيار أبو عبيد أي ليتذكروا وَما يَزِيدُهُمْ أي التصريف والتذكير إِلَّا نُفُوراً ذهابا وتباعدا عن الحق قُلْ يا محمّد لهؤلاء المشركين لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ.
قرأ ابن كثير وحفص: يَقُولُونَ بالياء. الباقون: بالتاء.
إِذاً لَابْتَغَوْا لطلبوا يعني الآلهة القربة إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا فالتمست الزلفة عنده.
قال قتادة: يقول لو كان [الأمر] كما يقولون إذا لعرفوا الله فضله ومقربته عليهم، فامضوا ما يقربهم إليه.
وقال الآخرون: إذا لطلبوا مع الله منازعة وقتالا، كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض، ثم نزه نفسه، فقال سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ.
الأعمش وحمزة والكسائي، واختاره أبو عبيد عنهم بالتاء عُلُوًّا كَبِيراً ولم يقل تعاليا كقوله [وجعل] «٢» إليه سبيلا.
(١) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٦٥.
(٢) هكذا في الأصل.
101

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٤ الى ٥٢]

تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ قرأ الحسن: وأبو عمرو ويعقوب وحمزة والكسائي وحفص: بالتاء، غيرهم: يسبح بالياء واختاره أبو عبيد [.....] «١» وهو التأنيث ومعنى التسبيح التنزيه والطاعة والالتزام بالربوبية وكونها دالة على وجوده وتوحيده.
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ.
قال ابن عبّاس: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ حي.
وقال الحسن والضحاك: يعني كل شيء فيه الروح.
قال قتادة: يعني الحيوانات والنباتات [........] «٢».
قال عكرمة: الشجرة تسبح والأسطوانة لا تسبح.
قال أبو الخطاب: كنا مع يزيد الرقاشي ومعه الحسن في فقدموا الخوان فقال يزيد الرقاشي يا أبا سعيد يسبح هذا الخوان؟ فقال كان يسبح مرة «٣»
وقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: « [ما سبحت عصا إلا ترك] التسبيح» [٣٢].
وقال إبراهيم: الطعام يسبح.
وروى موسى بن عبيدة عن زيد بن أسلم عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«الا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحا قال لابنه: يا بني آمرك أن تقول: سبحان الله وبحمده فإنها صلاة الخلق وتسبيحهم [وبها يرزق الخلق] » [٣٣] «٤».
(١) كلمة غير مقروءة. [.....]
(٢) كلمة غير مقروءة.
(٣) راجع تفسير الطبري: ١٥/ ١١٦.
(٤) مصنف ابن أبي شيبة: ٧/ ٦٨، وكتاب الدعاء للطبراني: ٤٨٨ بتفاوت.
102
قال الله وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ «١».
قال وهب: إن [.........] «٢» إلا وقد كان يسبح لله ثلاثمائة سنة.
وروى عبد الله بن [...........] «٣» عن المقداد بن معد يكرب قال: إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الجوزة لتسبح ما لم ترفع من موضعها، فإذا رفعت ترك التسبيح، وإن الورق يسبح مادام على الشجرة، فإذا سقط ترك التسبيح وإن الماء ليسبح مادام ماءا فإذا [تغير] ترك التسبيح، وإن الثوب يسبح مادام جديدا فإذا وسخ ترك التسبيح، وإن الوحش إذا صاحت سبحت فإذا سكتت تركت التسبيح، وإن الثوب [الخلق] لينادى في أول النهار: اللهمّ اغفر لمن [.......] «٤».
وروى أبو عتبة عن ثابت البنائي عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخذ كفا من حصى فسبحن في يد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتّى سمعنا التسبيح، ثمّ صبّهن في يد أبي بكر حتّى سمعنا التسبيح ثمّ صبهن في عمر حتّى سمعنا التسبيح، ثمّ صبّهن في يد عثمان حتّى سمعنا التسبيح، ثم صبّهن في أيدينا فما سبحت في أيدينا.
وعن جعفر بن محمّد عن أبيه قال: «مرض النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتاه جبرئيل بطبق فيها رمان وعنب فتناول النبي صلّى الله عليه وسلّم فسبح، ثمّ دخل الحسن والحسين فتناولا فسبح العنب والرمان، ثمّ دخل عليّ فتناول منه فسبح أيضا، ثمّ دخل رجل من أصحابه فتناول فلم يسبح، فقال جبرئيل: إنما يأكل هذا نبي أو وصي أو ولد نبي» [٣٤] «٥».
وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ يعني لا تعلمون تسبيح ما عدا من تسبيح بلغاتكم وألسنتكم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ يا محمّد [على] المشركين جَعَلْنا بَيْنَكَ بينهم حجابا يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به.
قتادة: هو حجاب مستور، والمستور يعني الساتر كقوله إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا الآية مفعول بمعنى فاعل.
وقيل: معناه مَسْتُوراً عن أعين الناس فلا يرونه. وفسّره بعض المفسرين: بالكتاب عن الأعين الظاهرة [فلا يرونه ولا يخلصون] إلى أدلته.
(١) المصدر السابق.
(٢) كلمة غير مقروءة.
(٣) كلمة غير مقروءة.
(٤) كلمة غير مقروءة.
(٥) مناقب آل أبي طالب: ٣/ ١٦٠، والشفا للقاضي عياض مختصرا: ١/ ٣٠٧.
103
عطاء عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ جاءت امرأة أبي لهب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر (رضي الله عنه) فقال: يا رسول الله لو تنحيت عنها لئلا تسمعك ما يؤذيك، فإنها امرأة بذيئة.
فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه سيحال بيني وبينها» فلم تره فقالت لأبي بكر: يا أبا بكر هجاني صاحبك قال: والله ما ينطق بالشعر ولا يقوله.
فقالت: وإنك لمصدقه فاندفعت راجعة. قال أبو بكر: يا رسول الله أما رأتك؟ قال: «لا ما زال ملك بيني وبينها يسترني حتى ذهبت» [٣٥] «١».
وروى الكلبي عن رجل من [أهل الشام] «٢» عن كعب في هذه الآية قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يستتر من المشركين بثلاث آيات: الآية التي في الكهف جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً «٣» والآية التي في النحل أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ إلى قوله هُمُ الْغافِلُونَ «٤».
والآية التي في الجاثية أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ إلى قوله غِشاوَةً «٥» فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأهن يستتر من المشركين.
قال كعب: فحدثت بهن رجلا من أهل الشام فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأ بهنّ فخرج هاربا وخرجوا في طلبه حتّى كانوا يكونون على طريقه ولا يبصرونه.
قال الكلبي: حدثت به رجلا بالري فأسر بالديلم فمكث فيهم ما شاء الله أن يمكث ثمّ قرأهنّ وخرج هاربا وخرجوا في طلبه حتّى جعل ثيابهم لتلتمس ثيابه فما يبصرونه.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ يقول: وإذا قلت: لا إله إلّا الله في القرآن وحده وأنت تتلوه وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً كارهين له معرضين عنها.
حدثنا أبو الجوزاء عن ابن عبّاس في قوله وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً قال: هم الشياطين «٦» والنفور جمع نافر مثل قاعد وقعود وجالس وجلوس، وجائز أن يكون مصدرا أخرج على غير لفظه إذا كان قوله وَلَّوْا بمعنى نفروا، فيكون معناه [نُفُوراً] «٧».
(١) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٦٩.
(٢) هكذا في الأصل.
(٣) سورة الكهف: ٢٥
(٤) سورة النحل: ١٠٨.
(٥) سورة الجاثية: ٢٣.
(٦) راجع تفسير الطبري: ١٥/ ١١٩. [.....]
(٧) هكذا في الأصل.
104
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ لن يقرأ القرآن وَإِذْ هُمْ نَجْوى متناجون في أمرك، بعضهم يقول: هو مجنون، وبعضهم يقول: هو كاهن، وبعضهم: ساحر، وبعضهم:
شاعر إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بمعنى الوليد بن المغيرة وأصحابه حين رجع إليه كفار مكة من أمر محمّد وشاوروه فقال إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مطبوبا، وقيل: مخدوعا، وقال أبو عبيدة: [مَسْحُوراً] يعني رجلا له سحر يأكل ويشرب مثلكم والسحر الرئة يقول العرب للجبان:
قد سحره ولكل من أكل وشرب من آدمي وغيره مسحور ومسحر.
قال الشاعر امرئ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
أي: نغذي ونعلل.
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ شبّهوا ذلك الأشباه.
فقالوا: شاعر وساحر وكاهن ومجنون فَضَلُّوا فجالوا وجاروا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا مخرجا ولا يهتدون إلى طريق الحق «١».
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً بعد الموت وَرُفاتاً.
قال ابن عبّاس: غبارا.
قال مجاهد: ترابا، والرفات ما تكسر وبلا من كل شيء، كالفتات والحطام والرضاض.
أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً. قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً في الشدة والقوة أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة وبعثكم وعملكم على [..........] إحياؤه فإنه يجيئه، وقيل: ما يليه من بعد ورائهم الموت، وقيل: السموات والأرض، وقيل: أراد به البعث وقيل الموت.
وقال أكثر المفسرين: ليست في نفس بني آدم أكبر من الموت، يقول: لو كنتم الموت لأميتنكم ولأبعثنكم.
سفيان عن مجاهد وعكرمة في قوله أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قالا: الموت.
وروى المعمر عن مجاهد قال: السماء والأرض والجبال يقول كونوا ما شئتم فإن الله يميتكم ثمّ يبعثكم فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا خلقا جديدا بعد الموت قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي يحركون رؤوسهم متعجبين ومستهزئين يقال: نغضت سنه إذا حركت وأقلعت من أصله.
(١) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٧٣.
105
قال الراجز:
أبغض نحوي رأسه وأقنعا
وقال آخر:
لما رأسني الغضت لي الرأسا
وقال الحجاج:
[أمسك بقضبا لابني] «١» مستهدجا.
وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً يعني هو قريب لأن عسى من الله واجب نظيره قوله لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً «٢»، ولَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ «٣».
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ من قبوركم إلى [موقف يوم القيامة] فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ. قال ابن عباس: بأمره.
قتادة: بمعرفته وطاعته، ويحمدونه [وهو مستحق] للحمد.
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ في الدنيا في قبولكم إِلَّا قَلِيلًا
زيد بن أسلم عن أبيه عن ابن عمرو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس على أهل لا إله إلّا الله وحشة في قبرهم ولا حشرهم، كأني بأهل لا إله إلّا الله وهم ينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «٤» الآية» [٣٦] «٥».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٣ الى ٥٩]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)
(١) هكذا في الأصل.
(٢) سورة الأحزاب: ٦٣.
(٣) سورة الشورى: ١٧.
(٤) سورة فاطر: ٣٤.
(٥) تفسير ابن كثير: ٣/ ٤٩.
106
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ نزلت في عمر بن الخطاب، وذلك أن رجلا من العرب شتمه فأمره الله تعالى بالعفو.
الكلبي: كان المشركون يؤذون أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالقول والفعل، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية على ذلك.
وَقُلْ لِعِبادِي المؤمنين يَقُولُوا للكافرين الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يعني الكلمة التي هي أحسن لا تكافئهم.
قال الحسن: يقول هداك الله يرحمك الله، وهذا قبل أن أمروا بالجهاد.
وقيل: الأحسن كلمة الإخلاص لا إله إلّا الله إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ يفتري، وألقى بينهما العداوة ويعزى بينهم إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ يوفقكم فتؤمنوا أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ يميتكم على الشرك فيعذبكم، قاله ابن حريج «١».
وقال الكلبي: إن الله يرحمكم فيحفظكم من أهل مكة، وإن يشأ يعذبكم فيسلطهم عليكم وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وكفيلا، نسختها آية القتال وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فجعلهم مختلفين في أخلاقهم من أمورهم وأحوالهم ومالهم، كما يختلف بعض المتقين على بعض.
قتادة: في هذه الآية اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً، فقال لعيسى كُنْ فَيَكُونُ وأتى سليمان ملكا عظيما لا ينبغي لأحد من بعده، وأتى داوُدَ زَبُوراً كتابا علمه داود فيه دعاء وتحميد وتمجيد وليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود وغفر [لمحمد] ما تقدم من ذنبه وما تأخر قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنها آلهة مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا [عنكم] «٢» إلى غيركم، قيل: هو ما أصابهم من القحط سبع سنين.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ. قتادة عن عبد الله بن عبد الزنجاني عن ابن مسعود أنه قرأ أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ تَبْتَغُونَ بالتاء.
وقرأهما الباقون: بالياء يَبْتَغُونَ.
إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ القربة إلى ربهم أَيُّهُمْ أَقْرَبُ إليه وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً قال ابن عبّاس ومجاهد وأكثر العلماء: هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم.
(١) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٢٧٨.
(٢) هكذا في الأصل.
107
وقال عبد الله بن مسعود: كان نفر من الانس يعبدون نفرا من الجن، فأسلم الجن ولم يعلم الانس الذين كانوا يعبدونهم بإسلامهم فتمسكوا بعبادتهم فغيرهم الله بذلك وأنزل هذه الآية.
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ يعني وما من قرية إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أي مخربوها ومهلكوا أهلها بالسيف أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا.
وقال بعضهم: هذه الآية عامة.
قال مقاتل: أما الصالح فبالموت وأما الطالح فبالعذاب.
قال ابن عبّاس: إذا ظهر الزنا والربا في أهل قرية أذن الله في هلاكها.
كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً مكتوبا وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ.
قال ابن عبّاس: قال أهل مكة: اجعل لنا الصفا ذهبا، فأوحى الله الى رسوله: إن شئت أن تستأني بهم فعلت وإن شئت أوتيهم ما سألوا، فعلت، فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم. فقال صلّى الله عليه وسلّم: لا بل أستأني بهم فأنزل الله تعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ التي سألها كفار قومك إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك أهلكتهم أيضا لأن من خسفنا في الأمم إذا سألوا الآيات فيأتيهم ثم لم يؤمنوا أن نعذبهم ونهلكهم ولا نمهلهم
، فإن الأوّل في محل النصب وقوع المنبع عليه، وإن الثانية في محل رفع ومجاز الأول: سمعنا إرسال الآيات إلّا تكذيب الأولين بها قالوا وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً مضيئة بينة فَظَلَمُوا بِها أي [قروا] «١» بها إنها من عند الله وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ بالعبر والدلالات إِلَّا تَخْوِيفاً للعباد ليؤمنوا ويتذكروا فإن لم يفعلوا عذبوا.
قال قتادة: إن الله يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعيون أو يذكرون أو يرجعون، ذكر أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال: يا أيها الناس إن الله ليس يعتبكم فأعتبوه.
وروى محمّد بن يوسف عن الحسن في قوله عزّ وجلّ وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً قال الموت الذريع.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٠ الى ٧٢]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤)
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وهو مانعك منهم وحافظك فلا تهبهم وأمض لما أمرك به في تبليغ رسالته، قاله أكثر المفسرين.
قال ابن عبّاس: يعني أحاط علمه بهم فلا يخفى عليه منهم شيء.
(١) هكذا في الأصل.
108
مقاتل والبراء: أَحاطَ بِالنَّاسِ يعني أهل مكة أي أنها ستفتح لك.
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.
قال قوم: هي رؤيا عين وهو ما أرى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج من العجائب والآيات فكان ذلك فتنة للناس، فقوم أنكروا وكذبوا، وقوم ارتدوا، وقوم صدقوا، والعرب تقول: [رأيت بعيني] رؤية ورؤيا وعلى هذا يحمل حديث معاوية أنه كان إذا سئل عن مسرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: كانت رؤيا من الله صادقة أي [رؤيا عيان] أرى الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم وما ذكرنا من تأويل الآية، قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وأبي مالك وقتادة ومجاهد والضحاك وابن زيد وابن جريج وعطية وعكرمة وعطية عن ابن عبّاس.
وقال آخرون: هي ما أرى الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسرى بروحه دون بدنه فلما قصها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أصحابه [........] «١» من أصحاب المسلمين وطعن فيها ناس من المنافقين. وهو ما
روى جرير بن حازم عن أبي رجاء العطاردي، يحدث عن سمرة بن جندب قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا صلى الغداة أستقبل الناس [بوجهه] فقال: «هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا» ؟ فإن كان أحدا رأي تلك الليلة رؤيا قصها عليه فيقول فيها ما شاء الله أن يقول فسألنا يوما. فقال: «هل رأى منكم أحد الليلة رؤيا»، قلنا: لا، قال: «لكني أتاني الليلة آيتان فقالا لي: انطلق فانطلقت معهما فأخرجاني إلى أرض مستوية فإذا رجل مستلقي على قفاه ورجل قائم بيده صخرة فشدخ بها رأسه [فيتبع] الحجر فإذا ذهب يأخذه عاد رأسه كما كان فهو يصنع به مثل ذلك، فقلت: ما هذا؟
قالا: انطلق فانطلقت معهما فأتينا على رجل مستلق لقفاه يرمش عينه، فإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد فإذا هو يأخذ أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه وعينه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه ثمّ يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ذلك فما يفرغ من ذلك حتّى يصبح ذلك الجانب كما كان ثمّ يعود إليه، فقلت لهما: سبحان الله ما هذا؟ قالا لي: انطلق فانطلقت معهما فأتيا على بيت مبني مثل بناء التنور أعلاه ضيق [وأسفله واسع] يوقد فيه النار فأطلعنا فيه فإذا فيه رجال ونساء عراة وإذا هم يأتيهم لهب من أسفل منهم فإذا أتاهم ذلك اللهب من أسفل [ضجّوا]، قلت لهما: ما هؤلاء؟
قالا لي: انطلق فانطلقنا فأتينا على نهر من دم أحمر وإذا في البحر سابح يسبح فإذا على شاطئ النهر رجل عنده حجارة كثيرة وإذا ذلك السابح يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر له فاه فيلقمه حجرا فيذهب فيسبح ما يسبح ثمّ يرجع إليه كما رجع إليه فيفغر له فاه «٢»
فألقمه حجرا قال: فقلت ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقت فأتينا على رجل كريه المرآة كأكره ما رأيت
(١) كلمة غير مقروءة.
(٢) هكذا في الأصل.
109
رجلا وإذا هو عنده نار [يحشها ويسعى] حولها قلت لهما: ما هذا؟ قالا: انطلق فانطلقنا فأتينا على روضة [معتمة] فيها من كل نوع الربيع وإذا شجرة عظيمة وفي أصلها شيخ طويل فإذا حوله صبيان كأكثر ولدان رأيتهم قط. قال: قلت ما هؤلاء؟ قالا: انطلق فانطلقنا فأتينا على دوحة عظيمة لم أر دوحة قط أعظم منها [ولا أحسن] قالا لي: أرق فارتقينا فانتهينا إلى مدينة مبنية من ذهب ولبن فضة فأتينا باب المدينة فاستفتحناها ففتح لنا فدخلناها فتلقانا فيها رجال شطر من خلقهم [كأحسن] ما رأيت [وشطر كأقبح] ما رأيت، قالا لهم: اذهبوا فقعوا في ذلك النهر وإذا نهر معترض يجري كأنه المخيض من البياض فذهبوا فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا وقد ذهب السوء عنهم فصاروا في أحسن صورة قال: فقلت لهما [والله] إني ما رأيت مثل الليلة عجبا فما هذا الذي رأيت قالا إنا [سنخبرك أما الذي] «١» أتيت عليه يشدخ رأسه بالحجر فإنه رجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة وأما الذي أتيت عليه يشرشر شدقه وعينه ومنخره إلى قفاه فإنه [رجل يغدوا] «٢» من بيته فيكذب [الكذبة تبلغ الآفاق] «٣».
وأما الرجل والنساء العراة الذين في مثل التنور فإنهم الزناة والزواني، وأما الرجل الذي يسبح في النهر ويلقم الحجارة فإنه آكل الربا، وأما الرجل الكريه المرأة الذي عنده النار يحشها فإنه مالك خازن النار، وأما الرجل الطويل الذي في [الروضة] فإبراهيم (عليه السلام) وأما الولدان الذين حوله فكل مولود يولد على الفطرة.
(١) هكذا في الأصل.
(٢) هكذا في الأصل. [.....]
(٣) مستدركة عن الدر المنثور.
110
أما القوم الذين كانوا شطر خلقهم حسنا وشطر قبيحا فإنهم قوم خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً فتجاوز الله عنهم، وأما الروضة فهي جَنَّاتِ عَدْنٍ وأما المدينة التي دخلت فدار الشهداء.
قال: بينما بصري صعدا فإذا مثل الذبابة البيضاء، قالا لي: ها هو ذا منزلك، وأنا جبرئيل وهذا ميكائيل. فقلت: بارك الله فيكما دعاني أدخل داري، فقالا: إنه قد بقي لك ولم تستكمله ولو استكملته دخلت دارك [٣٧] «١».
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عبّاس قال: هي رؤيا التي رأى أنه يدخل مكة عام الحديبية هو وأصحابه وهو يومئذ بالمدينة فعجّل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم السير إلى مكة قبل الأجل فردّه المشركون.
فقال ناس: قد ردّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كان حدثنا إنه سيدخلها فكانت رجعته فتنتهم وقد كان في العام المقبل سار إليها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخلها فأنزل الله عزّ وجلّ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ.
سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن حذيفة عن سعيد بن المسيب، من قول الله تعالى وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال: أرى بني أمية على المنابر فساءه ذلك فقيل له إنها الدنيا يعطونها [فتزوى] عنه إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال: بلاء للناس.
وروى عبد المهيمن عن بن عبّاس عن سهل بن سعد عن أبيه عن جده قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتّى مات، فأنزل الله في ذلك وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ المذكورة فِي الْقُرْآنِ يعني شجرة الزقوم
، ومجاز الآية: الشجرة الملعونة المذكورة في القرآن، ونصب الشَّجَرَةَ عطفا بها على الرُّؤْيَا تأويلها: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلّا فتنة للناس فكانت فتنتهم في الرؤيا ما ذكرت، وفتنتهم في الشجرة الملعونة أن أبا جهل قال- لما نزلت هذه الآية: أليس من الكذب ابن أبي كبشة أن يوعدكم بحرق الحجارة ثمّ يزعم إنه ينبت فيها شجرة وأنتم تعلمون إن النار تحرق الشجرة فما يقولون في الزقوم.
فقال عبد الله بن [الزبوي] «٢» : إنها الزبد والتمر بلغة بربرة.
(١) بطوله في تفسير الدر المنثور: ٣/ ٢٧٤ بتفاوت يسير.
(٢) هكذا في الأصل.
111
فقال أبو جهل: يا جارية زقمينا فأتته بالزبد والتمر، فقال: يزعموا يا قوم فإن هذا ما يخوفكم به محمّد والله ما يعلم الزقوم إلّا الزبد والتمر، فأنزل الله تعالى إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ «١» ووصفها في الصافات فقال: إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ «٢» أي خلقت من النار وحذيت بها وأنزل الله وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً.
وروى ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن مولى لبني هاشم حدثه إن عبد الله بن الحرث ابن نوفل [أرسل] «٣» إلى ابن عبّاس: نحن الشجرة الملعونة في القرآن؟ قال: فقال: الشجرة الملعونة هي هذه الشجرة التي تلتوي على الشجر يعني الكشوث «٤».
فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً يعني من طين.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عبّاس قال: بعث رب العزة إبليس فأخذ كفا من أديم الأرض من عذبها وملحها فخلق منه آدم فكل شيء خلقه من عذبها فهو صائر إلى السعادة وإن كان ابن كافرين، وكل شيء خلقه من ملحها فهو صائر إلى الشقاوة وإن كان ابن نبيين.
قال: ومن ثمّ قال إبليس: أأسجد لمن خلقت طينا أيّ هذه الطينة أنا جئت بها، ومن ثمّ سمي آدم لأنه خلق من أديم الأرض «٥».
قالَ إبليس أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي فضلته لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وأمهلتني لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أيّ لأستولين على أولاده ولأحتوينهم ولأستأصلنهم بالإضلال ولأجتاحنهم.
يقال: [احتنك] فلان ما عند فلان من علم أو كمال مما استقصاه وأخذه كله، واحتنك الجراد الزرع إذا أكله كله.
قال الشاعر:
أشكوا إليك سنة قد أجحفت وأحنكت أموالنا واجتلفت
ويقال: هو من قول العرب حنّك الدابة يحنكها إذا شد في حنكها الأسفل حبلا يقودها به حتى يثبت.
إِلَّا قَلِيلًا يعني المعصومين الذين استثناهم الله في قوله إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ
(١) سورة الدخان: ٤٣، ٤٤.
(٢) سورة الصافات: ٦٤.
(٣) هكذا في الأصل.
(٤) راجع تفسير القرطبي: ١٥/ ٢٨٦.
(٥) تفسير الطبري: ١٥/ ١٤٥.
112
«١» قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاءك وجزاء أتباعك جَزاءً مَوْفُوراً وأمرا مكملا وَاسْتَفْزِزْ [استولي] واستخف واستزل واستمل مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم بِصَوْتِكَ.
قال ابن عبّاس وقتادة: بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية فهو من جند إبليس.
وقال مجاهد: بالغناء والمزامير.
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي اجمع وصح. مقاتل: استفز عنهم.
بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي ركبان جندهم ومشاتهم.
قال المفسرون: كل راكب وماش في معاصي الله.
ابن عبّاس ومجاهد وقتادة: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس، فما كان من راكب يقاتل في معصية فهو من خيل إبليس، وما كان من راجل يقاتل في معصية الله فهو من رجل إبليس والرجل الرجالة.
وقرأ حفص: وَرَجِلِكَ بكسر الراء، وهما لغتان يقال: راجل ورجل مثل تاجر وتجر، وراكب وركب.
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ قال قوم: هو كل مال أصيب من حرام وأنفق في حرام، وهذا قول مجاهد والحسن وسعيد بن جبير وعبد الرحمن بن زيد، ورواية عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاس.
عطاء بن أبي رباح: هو الربا. قتادة: ما كان المشركون يحرمونه من الأنعام كالبحائر «٢» والسوايب والوصيلة والحوامي وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس.
وقال الضحاك: هو ما كان يذبحونه لآلهتهم.
وَالْأَوْلادِ.
قال بعضهم: هم أولاد الزنا، وهو قول مجاهد والضحاك ورواية عطية عن ابن عبّاس.
الوالبي عنه: هو ما قبلوا من أولادهم وأتوا فيهم الحرام.
الحسن وقتادة: عدو الله شاركهم في أموالهم وأولادهم فمجّسوا وهوّدوا ونصّروا وصبّغوا غير صبغة الإسلام «٣».
(١) سورة الحجر: ٤٢.
(٢) واحدتها: بحيرة.
(٣) تفسير الطبري: ١٥/ ١٥٢.
113
أبو صالح عن ابن عبّاس: مشاركته إياهم في الأولاد وتسميتهم أولادهم عبد الحرث وعبد شمس وعبد فلان.
وَعِدْهُمْ ومنّهم الجميل في طاعتك. قال الله وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً باطلا وخديعة لأنه لا يغني عنهم من عذاب الله إذا نزل بهم شيئا كقوله إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ «١».
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا. رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي [يسوي ويجري].
لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ إلى قوله وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ أصابكم [الجهد] فِي الْبَحْرِ وخفتم الغرق ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ إلا دعاؤكم إياه فلم تجدوا ما يكفيكم سواه فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من البحر وأخرجكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن الايمان والطاعة وكفرتم بما جاءكم وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أَفَأَمِنْتُمْ بعد ذلك أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ يغيبكم ويذهبكم في جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً حجارة تمطر عليكم من السماء كما أمطر على قوم لوط.
وقال أبو عبيد والقتيبي: الحاصب الذي يرمي بالحصباء، وهي الحصا الصغار.
قال الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام يضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ في البحر تارَةً مرة أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي قاصفا وهي الريح الشديدة.
قال ابن عبّاس وقال أبو عبيدة: هي التي تقصف كل شيء أيّ تدقّه وتحطّمه وهي التي تقصف الشجر أي تكسره فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً ناصرا ولا ثائرا.
واختلف القراء في هذه الآية. فقرأ ابن كثير وأبو عمرو: نخسف ونرسل ونعيدكم ونغرقكم كلها بالنون لقوله (عَلَيْنا).
وقرأ الباقون: كلها بالياء لقوله (إِيَّاهُ). إلّا أبا جعفر فإنه قرأ (تغرقكم) بالتاء يعني الريح.
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ ميمون بن مهران عن ابن عبّاس في قوله وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال: كل شيء يأكل بفيه إلّا ابن آدم يأكل بيديه، وعنه أيضا بالعقل.
الضحاك: بالنطق وثمّ التمييز.
(١) سورة إبراهيم: ٢٢.
114
عطاء: تعديل العامّة وامتدادها، يمان: بحسن الصورة.
محمّد بن كعب: بأن جعل محمّدا منهم، وقيل: الرجال باللحي والنساء بالذواب.
محمّد بن جرير: بتسليطهم على غيرهم من الخلق وتسخير سائر الخلق لهم.
وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني لذيذ المطاعم والمشارب.
مقاتل: السمن والزبد والتمر والحلاوى وجعل رزق غيرهم ما لا يخفى عليكم.
وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا.
قال قوم: قوله: (كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا) استثناء للملائكة.
قال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم غير طائفة من الملائكة جبرئيل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت وأشباههم.
وقال الآخرون: المراد به جميع من خلقنا فالعرب قد تضع الأكبر والكثير في موضع الجمع والكل، كقول الله عزّ وجلّ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ «١» والمراد به جميع الشياطين.
معمر عن زيد بن أسلم، في قوله تعالى وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال: قالت: الملائكة ربنا إنك أعطيت بني آدم الدنيا يأكلون فيها ويتمتعون ولم تعطنا ذلك فأعطنا في الآخرة، فقال:
وعزتي وجلالي لا أجعل ذرية من خلقت بيدي كما قلت لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
حماد بن سلمة عن أبي المهرم قال: سمعت أبا هريرة يقول: المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده.
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال مجاهد وقتادة: بنبيهم، يدل عليه ما
روى السدي عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله تعالى يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال: بنبيهم.
وقال أبو صالح وأبو نضر والضحاك وابن زيد: بكتابهم الذي أنزل عليهم وهي
رواية ابن أبي نجيح عن مجاهد وعن علي بن الحسين بن علي المرتضى (عليهم السلام) عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال: «يؤتى كل قوم بإمام زمانهم وكتاب ربهم وسنّة نبيهم» [٣٨].
أبو العالية والحسن: بأعمالهم، ودليل هذا التأويل قوله تعالى في سياق الآية
(١) سورة الشعراء: ٢٢٢- ٢٢٣
115
فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ الآية ونظيرها قوله وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ فسمي الكتاب إماما.
روى ابن شهاب عن حميد بن عبد الرحمن عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من أنفق زوجين في سبيل الله نودي من الجنة يا عبد الله هذا خير فمن كان من باب الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب [الريان] ».
فقال أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما علي من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى من تلك الأبواب كلها أحد؟ قال: «نعم، وأرجو أن تكون منهم» [٣٩] «١».
وتصديق هذا القول أيضا حديث الألوية والرايات.
باذان وسعيد بن جبير عن ابن عبّاس: بِإِمامِهِمْ الذي دعاهم في الدنيا إلى الضلالة أو الهدي.
عليّ بن أبي طلحة: بأئمتهم في الخير والشر.
قال الله تعالى وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا «٢» قال: وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ «٣»، وقيل: لمعبودهم.
محمّد بن كعب: بأمهاتهم.
قالت الحكماء: في ذلك ثلاثة أوجه من الحكمة أحدها: لأجل عيسى (عليه السلام)، والثاني: أخيار الشرف الحسن والحسين (عليهما السلام)، والثالث: لئلا يفضح أولاد الزنا.
فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ إلى قوله تعالى فِي هذِهِ أَعْمى اختلفوا في هذه الإشارة.
فقال قوم: هي راجعة إلى النعم التي عددها الله في هذه الآيات.
عكرمة: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عبّاس فسأله رجل عن هذه الآية فقال: اقرأ ما قبلها رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ إلى قول الله سَبِيلًا فقال ابن عبّاس: من كان في هذه النعم التي رأى وعاين أعمى فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا.
وقال آخرون: هي راجعة إلى الدنيا يقول مَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا أَعْمى عن قدرة الله وآياته فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى.
(١) صحيح البخاري: ٢/ ٢٢٧، وصحيح مسلم: ٣/ ٩١. [.....]
(٢) سورة الأنبياء: ٧٣.
(٣) سورة القصص: ٤١.
116
وقال أبو بكر الوراق: مَنْ كانَ فِي هذِهِ الدنيا أَعْمى عن حجته فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى عن جنته.
وقال الحسن: من كان في الدنيا ضالا كافرا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا، لأنه لم يتب في الدنيا ففي الآخرة لا تقبل توبته.
واختلف القراء في هذين الحرفين. فأمالها أهل الكوفة وفخمها الآخرون.
وأمّا أبو عمرو فكان يكسر الأول ويفتح الآخر يعني فهو في الآخرة أشد عمي لقوله:
وَأَضَلُّ سَبِيلًا هي اختيار أبي عبيدة.
قال الفراء: حدثني بالشام شيخ من أهل البصرة إنه سمع من العرب تقول: ما أسود شعره.
قال الشاعر:
أما الملوك فأنت اليوم الأمم لؤما وأبيضهم سربال طباخ «١»
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٧]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ الآية اختلفوا في سبب نزولها.
فقال سعيد بن جبير: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يستلم الحجر الأسود فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك حتّى تلم بآلهتنا فحدث نفسه وقال: ما عليّ أن ألمّ بها والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعونني أستلم الحجر فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
قتادة: ذكر لنا أن قريشا خلوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة إلى الصباح يكلمونه ويخيرونه ويسودونه ويقارنونه وكان في قولهم أن قالوا: إنك تأتي بشيء لا يأتي به أحد من الناس وأنت سيدنا فأين سيدنا فما زالوا يكلمونه حتّى كاد يقاربهم في بعض ما يريدون ثمّ عصمه الله تعالى من ذلك وأنزل هذه الآية.
مجاهد: مدح آلهتهم وذكرها ففرحوا. ابن [جموح] : أتوه وقالوا له: أئت آلهتنا فأمسها فذلك قوله شَيْئاً قَلِيلًا.
ابن عبّاس: قدم وفد ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال.
(١) لسان العرب: ٧/ ١٢٤، والمستدرك: ٤/ ٥٥١.
117
قال: ما هن؟ فقالوا: لا ننحني في الصلاة ولا نكسر أصناما بأيدينا [وتمتعنا باللات] سنة.
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاعة للات فإني غير ممتعكم بها «١» » [٤٠].
فهنا قالوا لرسول الله: فإنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعطه غيرنا فإن كرهت ذلك وخشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك، فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعاهم ليؤمنوا، فعرف عمر (رضي الله عنه) أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان لما سألوه فقال: ما لكم آذيتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أحرق الله أكبادكم إن رسول الله لا يدع الأصنام في أرض العرب إما أن تسلموا وإما أن ترجعوا فلا حاجة لنا فيكم «٢».
فأنزل الله تعالى هذه الآية ووعدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يعطيهم ذلك.
عطية عنه قالت ثقيف للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أجّلنا سنة حتّى نقبض ما تهدي لآلهتنا فإذا قبضنا التي تهدى لآلهتنا كسرناها وأسلمنا، فهمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يؤجلهم فأنزل الله تعالى وَإِنْ كادُوا وقد هموا لَيَفْتِنُونَكَ ليستزلونك ويصرفونك عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ لتختلف عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لو فعلت ما دعوك إليه لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي والوك وصافوك
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ على الحق بعوننا لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ تميل إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا ولو فعلت ذلك إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ المحتضر أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعّفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً ناصرا يمنعك من عذابنا.
قال قتادة: فلما نزلت هذه الآيات، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» [٤١].
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليستخفونك مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها الآية.
قال الكلبي: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة حسدت اليهود مقامه بالمدينة وكرهوا قربه منهم فأتوا فقالوا: يا محمّد أنبي أنت؟ قال: نعم، قالوا: والله لقد علمت ما هذه بأرض الأنبياء وإن أرض الأنبياء الشام، وكأنى بها إبراهيم و [الأنبياء] : فان كنت نبيا مثلهم فأت الشام وقد علمنا إنما يمنعك الخروج إليها مخافتك الروم وإن الله سيمنعك بها من الروم إن كنت رسوله وهي الأرض المقدسة وإن الأنبياء لا يكونوا بهذا البلد.
فعسكر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ثلاثة أميال من المدينة وأربعة أميال، وفي بعض الروايات إلى
(١) هكذا في الأصل.
(٢) تاريخ المدينة لابن شبة: ٢/ ٥١١، والسيرة النبوية لابن كثير: ٤/ ٥٦.
118
ذي الحليفة، حتّى ترتاد ويجتمع عليه أصحابه [وينظر] «١» إليه الناس. فأنزل الله عزّ وجلّ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ التي كنت بها وهي أرض المدينة «٢».
وروى شهر بن حوشب عن عبد الرحمن بن الحكم: إن اليهود أتوا نبي الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم إن كنت صادقا أنك نبي فالحق بالشام فإنها أرض المحشر والنشر وأرض الأنبياء فصدّق رسول الله ما قالوا وقد كان في غزوة تبوك لا يريد بذلك إلّا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه آية من سورة بني إسرائيل بعدها ختمت السورة وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ الآية وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال: فيها خيلك وملكك وفيها مبعثك.
قال مجاهد وقتادة: همّ أهل مكة عمدا بإخراج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة ولو فعلوا ذلك لما توطنوا ولكن الله كفهم عن إخراجه حتّى أمره ولقلما لبثوا مع ذلك بعد خروج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة حتّى أهلكهم الله يوم بدر «٣».
وهذا التأويل أليق بالآية لأن ما قبلها خبر من أهل مكة ولم يجد لليهود ذكر ولأن هذه السورة مكية.
وقيل: هم الكفار كلهم كادوا أن يستخفوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينالوا منه ما أملوا من الظفر ولو أخرجوه من أرض العرب لم يميلوا أن يقيموا فيها على كفرهم بل أهلكوا بالعذاب فذلك قوله وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خَلْفَكَ أي بعدك وهي قراءة أبي عمرو وأهل الحجاز واختاره أبو عبيد.
وقرأ الباقون: خِلافَكَ واختاره أبو حاتم اعتبارا بقوله فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ «٤» ومعناه أيضا بعدك.
قال الشاعر:
عفت الديار خلافها فكأنما بسط الشواطب منهن حصيرا
أيّ بعدها.
إِلَّا قَلِيلًا حتّى تهلكوا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أيّ كسنّتنا فيمن أرسلنا
(١) هكذا في الأصل.
(٢) هذا من أوضح المفتريات أن يدع الرسول الأعظم الوحي ويأخذ من اليهود، فإن الإنسان العادي الساذج لا يأخذ بهذا القول فكيف بنبي الهدى الذي لا ينطق عن الهوى، والذي هو أعقل العرب وأسيسها والمعصوم عن الزلل، كما أجمعت عليه الفرق الإسلامية وثبت في محله.
(٣) راجع تفسير الطبري: ١٥/ ١٦٦.
(٤) سورة التوبة: ٨١.
119
قبلك من رسلنا إذا يكذبهم الأمم أهلكناهم بالعذاب ولا يعذبهم مادام فيهم بين أظهرهم فإذا خرج نبيهم من بين أظهرهم عذبناهم وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا تبديلا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٨ الى ٨٤]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ قال إبراهيم النخعي ومقاتل بن حيان والسدي ويمان وابن زيد: دلوكها غروبها.
قال الشاعر:
هذا مقام قدمي رياح... غدوة حتّى هلكت براح
أي غربت الشمس، وبراح اسم للشمس مثل قطام وجذام ورفاش.
ويروى، براح بكسر الباء يعني إن الناظر يضع كفه على حاجبه من شعاعها لينظر ما بقي من غبارها، ويقال ذلك للشمس إذا غاب.
قال ذو الرمة:
مصابيح ليست باللواتي يقودها... نجوم لا بالأفلات الدوالك
ودليل هذا التأويل حديث عبد الله بن مسعود إنه كان إذا غرب الشمس صلى المغرب وأفطر إن كان صائما ويحلف بالله الذي لا إله إلّا هو أن هذه الساعة لميقات هذه الصلاة وهي التي قال الله أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ.
وقال ابن عمرة وابن عبّاس وجابر بن عبد الله وأبو العالية وعطاء وقتادة ومجاهد والحسن ومقاتل وجعفر بن محمّد وعبيد بن حجر: دلوكها زوالها
، وبه قال الشافعي (رضي الله عنه)، يدل عليه
حديث أبي مسعود عقبة بن عمرو قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتاني جبرئيل لدلوك الشمس حين زالت الشمس فصلى بي الظهر» [٤٢] «١».
(١) تفسير الطبري: ١٥/ ١٧١.
120
وقال أبو برزة: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي الظهر إذا زالت الشمس ثمّ تلا هذه الآية أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ.
قال جابر بن عبد الله: دعوت النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن شاء من أصحابه فطعموا عندي ثمّ خرجوا حين زالت الشمس فخرج النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: «أخرج يا أبا بكر فهذا حين دلكت الشمس».
وعلى هذا التأويل يكون الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها، فدلوك الشمس صلاة الظهر والعصر، وغسق الليل صلاتا العشاء، وتصديق هذا التفسير إن جبرئيل (عليه السلام) حين علم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كيفية الصلاة إنما بدأ بصلاة الظهر.
وروى محمّد بن عمار عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «جاءني جبرئيل صلّى الله عليه وسلّم فصلى صلاة الظهر حين زاغت الشمس ثمّ جاءني فصلى العصر حين كان ظل كل شيء مثله، ثمّ صلى بي المغرب حين غربت الشمس ثمّ صلى بي العشاء حين غاب الشفق ثمّ جاءني فصلى بي الصبح حين طلع الفجر، ثمّ جاءني في الغد فصلى بي الظهر حين كان ظل كلّ شيء مثله ثمّ صلى بي العصر حين كان ظل كلّ شيء مثليه ثمّ صلى بي المغرب حين غربت الشمس ثمّ صلى بي العشاء حين ذهب ثلث الليل ثمّ صلى بي الصبح حين أسفر ثمّ قال: هذه صلاة النبيين من قبلك فألزمهم» [٤٣] «١».
عطاء بن أبي رياح عن جابر قال: أن جبرئيل أتى النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلمه مواقيت الصلاة فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى الظهر حين زالت الشمس وآتاه حين كان الظل مثل شخصه فصنع كما صنع فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى العصر.
ثمّ أتاه حين وجبت فصلى المغرب وقد تقدم جبرئيل ورسول الله خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى المغرب ثمّ أتاه حين غاب الشفق فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى العشاء ثمّ أتاه جبرئيل حين انشق الفجر فتقدم جبرئيل ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم خلفه والناس خلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فصلى الغداة ثمّ أتاه اليوم الثاني حين كان ظل الرجل مثل شخصه فصنع مثل ما صنع بالأمس صلى الظهر. ثمّ أتاه حين كان ظل الرجل منّا مثل شخصيه فصنع كما صنع بالأمس فصلى العصر ثمّ أتاه حين وجبت الشمس فصنع كما صنع بالأمس فصلى المغرب متمنيا ثمّ تمنا ثمّ قمنا فأتاه فصنع كما صنع بالأمس صلى العشاء.
ثمّ ابتدأ الفجر وأصبح والنجوم بادية مشتبكة فصنع كما صنع بالأمس فصلى الغداة ثمّ قال: ما بين هاتين الصلاتين وقت.
(١) المصنف لعبد الرزاق: ١/ ٥٣٢ ح ٢٠٢٩.
121
وعن نافع بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عبّاس إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتاني جبرئيل عند باب الكعبة مرتين فصلى الظهر حين كان الفيء مثل الشراك ثمّ صلى العصر حين كان كل شيء بقدر ظله ثمّ صلى المغرب حين أفطر الصائم ثمّ صلى العشاء حين غاب الشفق ثمّ صلى الصبح حين حرم الطعام والشراب على الصائم ثمّ صلى الظهر في المرة الأخيرة حين كان كل شيء بقدر ظله لوقت العصر بالأمس، ثمّ صلى العصر حين كان ظل شيء مثليه ثمّ صلى المغرب للوقت الأول لم يؤخرها ثمّ صلى العشاء الأخيرة حين ذهب ثلث الليل ثمّ صلى الصبح حين أسفره ثمّ التفت فقال: يا محمّد هذا وقت الأنبياء من قبلك، الوقت فيما بين هذين الوقتين» [٤٤] «١».
إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ إقباله بظلامه.
قال ابن عبّاس: بدو الليل. قتادة: صلاة المغرب.
مجاهد: غروب الشمس. أبو عبيدة: سواده.
ابن قيس الرقيات:
إن هذا الليل قد غسقا فاشتكيت الهم والأرقا «٢»
وقيل: غسق يغسق غسوقا «٣».
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أيّ صلاة الفجر فسمى الصلاة قرآنا لأنها لا تجوز إلّا بقرآن، وقيل: يعني قُرْآنَ الْفَجْرِ ما يقرأ به في صلاة الفجر.
وانتصاب القرآن من وجهين: أحدهما: أنه عطف على الصلاة أي أقم قرآن الفجر، قاله الفراء، وقال أهل البصرة: على [الإغراء] «٤» أي وعليك بقرآن الفجر.
وقال بعضهم: اجتماعه وبيانه وحينئذ يكون مجاز أقم الصلاة لدلوك الشمس بقرآن الفجر.
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً يشهد ملائكة الليل وملائكة النهار ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار، وفي هذه الآية دليل واضح على تعلق وجوب الصلاة بأول الوقت فاستحباب التغليس بصلاة الفجر.
الزهوي عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ويجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الصبح» «٥».
(١) المصدر السابق ح ٢٠٢٨.
(٢) لسان العرب: ١٠/ ٢٨٨.
(٣) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٣٠٤. [.....]
(٤) هكذا في الأصل.
(٥) كنز العمال: ٧/ ٥٥٣ ح ٢٠٢١٨، ومسند أحمد: ٢/ ٢٦٦.
122
قال: يقول أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً).
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أي قم بعد نومك وصل.
قال المفسرون: لا يكون التهجد إلّا بعد النوم يقال: تهجد إذا سهر، وهجد «١» إذا نام.
وقال بعض أهل اللغة: يقال تهجد إذا نام وتهجد إذا سهر وهو من الاضداد.
روى حميد بن عبد الرحمن بن عوف: عن رجل من الأنصار إنه كان مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر وقال: لأنظرنّ كيف يصلي النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: فنام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثمّ استيقظ فرفع رأسه إلى السماء فتلا أربع آيات من سورة آل عمران: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ... لَآياتٍ ثمّ أهوى بيده إلى القربة وأخذ مسواكا فاستنّ به ثمّ توضأ ثمّ صلى ثمّ نام ثمّ استيقظ، فصنع كصنيعه أول مرة، ويزعمون أنه التهجد الذي أمره الله تعالى «٢».
نافِلَةً لَكَ قال ابن عبّاس: خاصة لك، مقاتل بن حيان: كرامة وعطاء لك.
ابن عبّاس: فريضتك.
وقال: أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بقيام الليل خاصة وكتبت عليه، ويكون معنى النافلة على هذا القول فريضة فرضها الله عليك فضلا عن الفرائض التي فرضها الله علينا زيادة.
وقال قتادة: تطوعا وفضيلة «٣».
وقال بعض العلماء: كانت صلاة الليل فرضها عليه في الابتداء ثمّ رخص له في تركها فصارت نافلة «٤».
وقال مجاهد: والنافلة للنبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة من أجل أنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهو نافلة لك من أجل أنه لا يعمل ذلك كفارة لذنوبهم، فهي نوافل له وزيادة للناس يعملون ويصلون ما سوى المكتوبة لذنوبهم في كفارتها فليست للناس نوافل.
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
قال أهل التأويل: عسى ولعلّ من الله جزاء لأنه لا يدع أن يفعل لعباده ما أطمعهم فيه من الجزاء على طاعاتهم لأنه ليس من صفته الغرور، ولو أن رجلا قال لآخر: اهدني والزمني لعلي أن أنفعك فلزمه ولم ينفعه مع إطماعه فيه ووعده لكان عارا له وتعالى الله عن ذلك، وأما المقام المحمود فالمقام الذي يشفع فيه لأمته يحمده فيه الأولون والآخرون.
(١) الهجود النوم منه.
(٢) السنن الكبرى: ٦/ ٨٤ ح ١٠١٣٩.
(٣) تفسير الطبري: ١٥/ ١٧٩.
(٤) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٣٠٩.
123
عاصم بن أبي النجود عن زيد عن عبد الله قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كنت متخذا خليلا لاتخذت ابن أبي قحافة خليلا ولكن صاحبكم خليل الله ثمّ قرأ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً» [٤٥] «١».
وعن حذيفة بن اليمان قال: يجمع الناس في صعيد واحد فلا تكلم نفس فتكون أول من يدعو محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وبك وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجا منك إلّا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت فذلك قوله تعالى عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
قتادة عن مأمون بن مالك عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا فيأتون آدم (عليه السلام) فيقولون: يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله عزّ وجلّ بيده وأسجد لك ملائكته وعلّمك أسماء كل شيء فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من هذا المكان فيقول لهم لست هناك، ويذكر ذنبه الذي أصابه فيستحي ربّه من ذلك ولكن ائتوا نوحا فإنه أول الرسل بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون نوحا فيقول لست هناك ويذكر خطيئته وسؤاله ربه هلاك قومه فيستحي ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتون إبراهيم (عليه السلام) فيقول: لست هناك ولكن ائتوا موسى عبدا كلمه الله وأعطاه التوراة فيأتون موسى (عليه السلام) فيقول: لست هناك، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس فيستحي من ذلك فيقول ائتوا عيسى عبد الله ورسوله هو كلمة الله وروحه فيأتون عيسى (عليه السلام) فيقول لست هناك ولكن ائتوا محمّدا عبدا غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر فيأتونني فأقوم وأمشي بين سماطين من المؤمنين حتّى أستأذن على ربي فيؤذن لي فإذا رأيت ربي خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ثمّ يقول: ارفعك رأسك ثم يقول: قل يسمع وسلّ تعط واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حدا فأدخلهم الجنة، ثمّ أعود إليه الثانية فإذا رأيت ربي وقعت أو خررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ قال: ارفع يا محمّد رأسك قل يسمع وسل تعطه واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأحمد بتحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحدّ لي حدا فأدخلهم الجنة.
ثمّ أعود إليه الثالثة فإذا رأيت ربي وقعتا وخررت ساجدا لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثمّ يقال ارفع يا محمّد رأسك قل تسمع وسل تعطه واشفع فشفع فأرفع رأسي فأحمده تحميد يعلمنيه ثمّ أشفع فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة ثمّ أعود إليه الرابعة، وأقول يا رب ما بقي إلّا من حبسه القرآن.
قال أنس بن مالك: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وكان في
(١) علل الدارقطني: ٥/ ٣٢٠، وضعيف سنن الترمذي: ٤٩٠ ح ٧٥٣.
124
قلبه من الخير ما يزن شعيرة ثمّ يخرج من النار من قال لا إله إلّا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» [٤٦] «١».
وروى أبو عاصم محمّد بن أبي أيوب الثقفي عن يزيد بن صهيب قال: كنت قد شغلني رأي من رأى الخوارج وكنت رجلا شابا، قال: فخرجنا في عصابة ذوي عدد يزيد أن يحج ثمّ يخرج على الناس فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله يحدث القوم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس إلى سارية وإذا هو قد ذكر الجهنميين فقلت له: يا صاحب رسول الله ما هذا الذي تحدث والله عزّ وجلّ يقول: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وكُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها.
فقال لي: تقرأ القرآن؟ قلت: نعم فقال: فهل سمعت مقام محمّد المحمود الذي يبعثه الله فيه؟ قلت: نعم، قال: فإنه مقام محمّد صلّى الله عليه وسلّم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار «٢».
ثمّ نعت وضع الصراط ومرور الناس عليه قال: وأخاف أن لا أكون حفظت ذلك غير أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها، قال: فيخرجون كأنهم عيدان السماسم فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه فيخرجون كأنهم القراطيس. قال: فرجعنا وقلنا أيرون كهذا الشيخ يكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فو الله ما خرج منا غير رجل واحد.
الزهري عن علي بن حسين قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إذا كان يوم القيامة مدّ الأرض مدّ الأديم [بالعكاظي] «٣» حتّى لا يكون لبشر من الناس إلّا موضع قدميه» [٤٧].
قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «فأكون أنا أول من يدعى وجبرئيل عن يمين الرحمن والله ما رآه قبلها، وأقول: يا رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إليّ فيقول الله تعالى: صدق، ثمّ أشفع فأقول يا رب عبادك عبدوك في أطراف الأرض قال: وهو المقام المحمود» [٤٨] «٤».
وروى سفيان عن سلمة بن سهيل عن أبي الزعراء قال: قال عبد الله: يكون أول شافع يوم القيامة روح القدس جبرئيل ثمّ إبراهيم ثمّ موسى ثمّ عيسى ثمّ يقوم نبيكم صلّى الله عليه وسلّم رابعا فلا يشفع أحد بعده فيما يشفع فيه وهو المقام المحمود «٥».
سعيد بن عروبة عن قتادة عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن بالبراق قال لجبرائيل: والذي بعثك بالحق لا يركبني حتّى يضمن لي الشفاعة.
(١) بطوله في تفسير ابن كثير: ٣/ ٦٠.
(٢) إلى هنا في تفسير الدر المنثور: ٤/ ١٩٨.
(٣) هكذا في الأصل.
(٤) تفسير الطبري: ١٥/ ١٨٣.
(٥) تفسير الطبري: ١٥/ ١٨٠.
125
عبد الله بن إدريس عن عبد الله عن نافع عن ابن عمرو قال: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
قال: يدنيني فيقعدني معه على العرش.
ابن فنجويه: أجلسني معه على سريره.
أبو أسامة عن داود بن يزيد [الأزدي] عن أبيه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: «الشفاعة» [٤٩].
عاصم عن أبي وائل عن عبد الله قال: إن الله تعالى اتخذ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق على الله ثمّ قرأ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: يقعده على العرش.
وروى سعيد الجروي عن سيف السدوي عن عبد الله بن سلام قال: إذا كان يوم القيامة يؤتي نبيكم صلّى الله عليه وسلّم فيقعد بين يدي الرب عزّ وجلّ على الكرسي.
وروى ليث عن مجاهد في قوله عزّ وجلّ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال:
يجلسه على العرش.
قال الأستاذ الإمام أبو القاسم الثعلبي: هذا تأويل غير مستحيل لأن الله تعالى كان قبل خلقه الأشياء قائما بذاته ثمّ خلق الأشياء من غير حاجة له إليها، بل إظهارا لقدرته وحكمته ليعرف وجوده وحده وكمال علمه وقدرته بظهور أفعاله المتقنة بالحكمة، وخلق لنفسه عرشا استوى عليه كما يشاء من غير أن صار له مما شاء أو كان له العرش مكان بل هو الآن على الصفة التي كان عليها قبل أن خلق المكان والزمان، فعلى هذا القول سواء أقعد محمدا صلّى الله عليه وسلّم على العرش أو على الأرض لأن استواء الله على العرش ليس بمعنى الاستقبال والزوال أو تحول الأحوال من القيام والقعود أو الحال الذي يشغل العرش، بل هو مستو على عرشه كما أخبر عن نفسه بلا كيف، وليس إقعاده محمّدا صلّى الله عليه وسلّم على العرش موجبا له صفة الربوبية أو مخرجا إياه من صفة العبودية بل هو رفع لمحله وإظهار لشرفه وتفضيل له على غيره من خلقه، وأما قولهم: في الأخبار معه، فهو شابه قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «١» ورَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ «٢» ونحوهما من الآيات، كل ذلك راجع إلى الرتبة والمنزلة لا إلى المكان والجهة والله أعلم.
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ قرأه العامّة: بضم الميمين على معنى الإدخال والإخراج.
(١) سورة الأعراف: ٢٠٥.
(٢) سورة التحريم: ١١. [.....]
126
وقرأ الحسن: بفتحهما على معنى الدخول والخروج.
واختلف المفسرون في تأويلها.
فقال ابن عبّاس والحسن وقتادة أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ المدينة وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ من مكة نزلت حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة
فروى أبو حمزة الثمالي عن جعفر بن محمّد عن محمّد بن المنكدر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «حين دخل الغار رَبِّ أَدْخِلْنِي يعني الغار مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي من الغار مُخْرَجَ صِدْقٍ إلى المدينة» [٥٠] «١».
وقال الضحاك: وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ من مكة آمنا من المشركين أَدْخِلْنِي مكة مُدْخَلَ صِدْقٍ ظاهرا عليها بالفتح.
عطية عن ابن عبّاس أَدْخِلْنِي القبر مُدْخَلَ صِدْقٍ عند الموت وَأَخْرِجْنِي من القبر مُخْرَجَ صِدْقٍ عند البعث.
الكلبي أَدْخِلْنِي المدينة مُدْخَلَ صِدْقٍ حين أدخلها بعد أن قصد الشام وَأَخْرِجْنِي منها إلى مكة افتحها لي.
مجاهد أَدْخِلْنِي في أمرك الذي أدخلتني به من النبوة مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي منه مُخْرَجَ صِدْقٍ.
قتادة عن الحسن: أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ في طاعتك وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ بالصدق أي سالما غير مقصر فيها.
وقيل: معناه أَدْخِلْنِي حيث ما أدخلتني بالصدق وَأَخْرِجْنِي بالصدق أي لتجعلني ممن أدخل بوجه وأخرج بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون أمينا عند الله.
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً مجاهد: حجة بينة.
قال الحسن: يعني ملكا قويا ينصرني به على من والاني وعزّا ظاهرا أقيم به دينك، قال:
فوعده الله تعالى لينزعن ملك فارس والروم وعزتهما فجعله له.
قتادة: إن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلّا بسلطان فسأل سُلْطاناً نَصِيراً بكتاب الله وحدوده، وفرائضه وإقامة دينه وإن السلطان رحمة من الله جعلها من أظهر عباده لا يقدر بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم.
وقيل: هو فتح مكة.
(١) تفسير أبي حمزة الثمالي: ٢٣٧ ح ١٨٧ عن الثعلبي.
127
وروى موسى بن إسماعيل عن حماد عن الكلبي في قوله وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً قال: سلطانه النصير.
عتاب بن أسيد بن أبي العيص بن أمية: استعمله رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل مكة [قال له:] انطلق فقد استعملتك على أهل الله يعني مكة فكان شديدا على [المنافقين] ليّنا للمؤمنين.
قال: لا والله لا أعلم متخلفا ينطلق عن الصلاة في جماعة إلّا ضربت عنقه فإنه لا يتخلف عنها إلّا منافق.
فقال أهل مكة: يا رسول الله تستعمل على آل الله عتاب بن أسيد أعرابيا حافيا؟
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إني رأيت فيما يرى النائم، كأن عتاب بن أسيد أتى باب الجنة فأخذ بحلقه الباب ففلقها «١» لا شديدا حتّى فتح له فدخلها فأعز الله به الإسلام لنصرته المؤمنين على من يريد ظلمهم فذلك السلطان النصير» [٥١] «٢».
وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ يعني أتى وَزَهَقَ الْباطِلُ أي ذهب الشيطان وهلكه، قاله قتادة.
وقال السدي: الحقّ الإسلام، والباطل الشرك. وقيل: الحق دين الرحمن والباطل الأوثان.
وقال ابن جريح: الحق الجهاد والقتال.
إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ذاهبا.
يقال: زهقت نفسه إذا خرجت وزهق السهم إذا جاوز الفرض فاستمر على جهته.
قال ابن مسعود وابن عبّاس: لما افتتح رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مكة وجد حول البيت ثلاثمائة وستين صنما، صنم كل قوم بحيالهم ومعه مخصرة فجعل يأتي الصنم فيطعن في عينه أو في بطنه ثمّ يقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً بجعل الصنم ينكب لوجهه وجعل أهل مكة يتعجبون، ويقولون فيما بينهم ما رأينا رجلا أسحر من محمّد.
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي بيان من الضلالة والجهالة بيّن للمؤمن ما يختلف فيه ويشكل عليه، فيشفي به من الشبهة ويهدي به من الحيرة وإذا فعل ذلك رحمه الله، فهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها كما يشفي المريض إذا زالت العلل عنه.
قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه.
(١) في الإصابة: ٤/ ٣٥٧: فقعقها.
(٢) كنز العمال: ١١/ ٧٣٧ ح ٣٣٦٠٤ بتفاوت.
128
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً لأنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه.
وقال همام: سمعت قتادة يقول: ما جالس هذا القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان ثمّ قرأ هذه الآية.
وروت ساكنة بنت الجرود قالت: سمعت رجاء الغنوي يقول: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله» [٥٢] «١».
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن ذكرنا وَنَأى بِجانِبِهِ وتباعدنا بنفسه.
وقال عطاء: تعظم وتكبر.
واختلف القراء في هذا الحديث، فقرأ أبو عمر وعاصم ونافع وحمزة في بعض الروايات عنهم: بفتح النون وكسر الهمزة على الإمالة.
وقرأ الكسائي وخلف وحمزة في سائر الروايات: بكسرهما، اتبعوا الكسرة.
وقرأ أكثرهم: بفتحهما على التفخيم وهي اللغة العالية.
وقرأ أبو جعفر وعامر: بالنون ولها وجهان: أحدهما: مقلوبة من نأي كما يقال رأى وراء، والثاني: إنها من النوء وهو النهوض والقيام ويقال أيضا للوقوع الجلوس نوء وهو من الاضداد.
وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ الشدة والضر كانَ يَؤُساً قنوطا قُلْ يا محمّد كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ.
قال ابن عبّاس: على ناحيته. مجاهد: على حدته.
الحسن وقتادة: على نيته. ابن زيد: على دينه.
مقاتل: على [جدلته] «٢». الفراء: على طريقة التي جبل عليها.
أبو عبيدة والقتيبي: على خليقته وطبيعته.
وهو من الشكل، يقال: لست على شكلي وشاكلتي، وقيل: على سبيله الذي اختاره لنفسه، وقيل: على اشتباهه من حولهم، أشكل عليّ الأمر أي اشتبه، وكل هذه الأقاويل متقاربة.
يقول العرب: طريق ذو شواكل إذا ينشعب الطرق [منه]، ومجاز الآية: كل يعمل ما يشبهه، كما قيل في المثل السائر: كل امرئ يشبه فعله ما فعل المروء فهو أهله.
(١) تفسير القرطبي: ١٠/ ٣١٨.
(٢) هكذا في الأصل.
129
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٥ الى ٨٩]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ.
الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة وهو متكئ على عسيب فمرّ بقوم من اليهود، فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم:
لا تسألوه، فقام متكأ على العسيب، قال عبد الله، وأنا خلفه فظنيت أنه يوحي إليه فقال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
فقال بعضهم لبعض: قلنا لكم لا تسألوه
، وفي غير الحديث عن عبد الله، قالوا: فكذلك نجد مثله إن الروح من أمر الله تعالى.
وقال ابن عبّاس: قالت اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم أخبرنا ما الروح وكيف يعذب الروح في الجسد ولم يكن نزل فيهم شيء؟ فلم يجبهم فأتاه جبرئيل (عليه السلام) بهذه الآية.
ويروى أن اليهود اجتمعوا فقالوا لقريش حين سألوهم عن شأن محمّد وحاله سألوا محمدا عن الروح. وعن فتية فقدوا في الزمان الأوّل، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها، فإن أجاب في ذلك كله فهو نبي وإن لم يجب من ذلك كله فليس بنبي، وإن أجاب في بعض ذلك وأمسك عن البعض فهو نبي فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عنها فأنزل الله عزّ وجلّ فيما سألوه عن الفتية قوله أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ «١» إلى آخر القصة.
وأنزل عن الجواب الذي بلغ شرق الأرض وغربها وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ «٢» إلى آخر القصة.
وأنزل في الروح قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ الآية.
واختلفوا في هذا الروح المسئول عنه ما هو: فقال الحسن وقتادة: هو جبرئيل.
قال قتادة: وكان ابن عبّاس يكتمه.
(١) سورة الكهف: ٩.
(٢) سورة الكهف: ٨٣.
130
وروى أبو الميسرة ممن حدثه عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قال: في قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ الآية، قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة، يسبح الله عزّ وجلّ بتلك اللغات كلها، يخلق من كل تسبيحة ملك يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
ابن عبّاس: الروح خلق من خلق الله صورهم على صور بني آدم، وما نزل من السماء ملك إلّا ومعه واحد من الروح أبو صالح: الروح كهيئة الإنسان وليسوا بناس.
مجاهد: الروح على صورة بني آدم لهم أيد وأرجل ورؤوس يأكلون الطعام وليسوا بملائكة.
سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش ولو شاء أن بلغ السماوات السبع والأرضين السبع ومن فيها بلقمة واحدة لفعل صورة، خلقه على صورة الملائكة وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، فيقوم يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد لولا أن سندس الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السماوات من نوره.
وقال قوم: هو الروح المركب في الخلق الذي يفقده [فأوهم وبوجوده مقاديم] «١» وقال بعضهم: أراد بالروح القرآن وذلك
أن المشركين قالوا: يا محمّد من أتاك بهذا القرآن، فأنزل الله تعالى بهذه الآية وبيّن أنه من عنده
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يعني القرآن ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا ناصرا ينصرك ويرده عليك.
وقال الحسن: وَكِيلًا ناصرا يمنعك منا إذا أردناك.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ يعني لكن لا يشاء ربك رحمة من ذلك، إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً.
هشام بن عروة عن أبيه عن عبد الله بن عمرو: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج وهو معصوب الرأس من وجع فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: «أيها الناس ما هذه الكتب التي يكتبون الكتاب غير كتاب الله يوشك أن يغضب الله لكتابه فلا يدع ورقا إلّا قليلا إلّا أخذ منه».
قالوا: يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات يومئذ؟ قال: «من أراد الله به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلّا الله» [٥٣] «٢».
وروى شداد بن معقل عن عبد الله بن مسعود قال: إن أول ما تفقدون من دينكم الأمانة
(١) هكذا في المخطوط.
(٢) مجمع الزوائد: ١/ ١٥٠، وكتاب الدعاء للطبراني: ٤٣٧.
131
وآخر ما تفقدون الصلاة والمصلين قوم لا دين لهم، وإن هذا القرآن تصبحون يوما وما معكم منه شيء، فقال رجل: كيف يكون ذلك يا أبا عبد الرحمن وقد أثبتناه في قلوبنا وأثبتناه في مصاحفنا نعلمه أبناءنا ويعلمه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة.
قال: يسري به في ليلة فيذهب بما في المصاحف ما في القلوب [فتصبح الناس كالبهائم] ثمّ قرأ عبد الله وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية «١».
وروى موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ناجية بن عبد الله بن عتبة عن أبيه عن عبد الله قال: أكثروا الطواف بالبيت قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه وأكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع؟ قالوا: هذه المصاحف يرفع فكيف بما في صدور الرجال.
قال: يسري عليه ليلا يصبحون منه فقراء [وينسون] قول لا إله إلّا الله فيتبعون في قول أهل الجاهلية وإشعارهم فذلك حين يقع عليهم القول.
وعن عبد الله بن عمرو قال: لا يقوم الساعة حتّى يرفع القرآن من حيث نزل له دوي كدوي النحل فيقول الله تعالى: ما بالك، فيقول: منك خرجت وإليك أعود أتلي ولا يعمل فيّ.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ لا يقدرون على ذلك.
قال السدي: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ لأنه غير مخلوق ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله.
وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً عونا.
نزلت هذه الآية حين قال الكفار: لو شئنا لَقُلْنا مِثْلَ هذا فأكذبهم الله تعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ إلى قوله إِلَّا كُفُوراً جحودا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٠ الى ١٠٠]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
(١) راجع تفسير القرطبي: ١٠/ ٣٢٥.
132
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً.
عكرمة عن ابن عبّاس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحرث وأبا البحتري بن هشام، والأسود بن المطلب وزمعة ابن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا- أو من اجتمع منهم- بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة.
فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمّد وكلموه وخاصموه حتّى تعذروا فيه، فبعث إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريعا وهو [يظن بأنه] بدا لهم في أمره بداء، وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم.
فقالوا: يا محمّد إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء وعنّت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلّا وقد جئته فيما بيننا [وبينك]، وإن كنت إنما جئت بهذا الحدث تطلب به مالا حظنا لك من أموالنا حتّى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا، وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك به رأي قد غلب عليك- فكانوا يسمون من الجن من يأتي الإنسان بالخير والشر فربما كان ذلك- بذلنا أموالنا في طلب الطب لك حتّى نبرئك منه أو نعذر فيك.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم أطلب به أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فأن تقبلوا مني ما جئتكم فهو حظكم في الدنيا والآخرة وأن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» [٥٤] «١».
فقالوا: يا محمّد وإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت إنه ليس من الناس أحد أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق
(١) خلق أفعال العباد للبخاري: ٨١، وأسباب النزول للواحدي: ١٩٨.
133
وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن ممن يبعث لنا فيهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله وأنه بعثك رسولا كما تقول.
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتّى يحكم الله بيني وبينكم» [٥٥] «١».
قالوا: فإن لم تفعل هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكا يصدقك وسله فيجعل لك تيجان وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك فإذن نراك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه.
فقال لهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « [ما أنا بفاعل] ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بَشِيراً وَنَذِيراً» [٥٦].
قالوا: فأسقط السماء [عَلَيْنا كِسَفاً] كما زعمت أن ربك [إن] شاء فعل.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك» [٥٧].
قالوا: قد بلغنا إنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن، وإنّا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمّد أما والله لا نتركك وما بلغت منا حتّى نهلكك أو تهلكنا.
وقال قائل منهم لن نؤمن لك حتّى تأتينا بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا.
فلما قالوا ذلك قام النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله بن عمرو بن محروم وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال له: يا محمّد عرض عليك ما عرضوا فلم تقبل منهم ثمّ سألوك لأنفسهم أمرا فليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك، ثمّ سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فلم تفعل، فوالله لا أومن بك أبدا حتّى تتخذ إلى السماء سلما ثمّ ترقى فيه وأنا أنظر حتّى تأتيها وتأتي بنسخة مصورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت ألّا أصدقك، ثمّ انصرف وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
فقال: أبو جهل، حين قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا معشر قريش إن محمّد قد أتى إلا ما ترون من عيب ديننا وشتم آلهتنا وسفه أحلامنا وسبّ آباءنا فإني أعاهد الله لأجلسنّ له عند الحجر قدر ما أطيق حمله وإذا سجد في صلاته رضخت به رأسه.
(١) تفسير الطبري: ١٥/ ٢٠٦، وتفسير الدر المنثور: ٤/ ٢٠٢.
134
وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا لما فاته من متابعة قومه ولما رأى من مباعدتهم فأنزل الله تعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ «١» «٢».
قال أهل الكوفة: (تَفْجُرَ) خفيفة بفتح التاء وضم الجيم، واختاره أبو حاتم لأن الينبوع واحد.
[قرأ] الباقون بالتشديد على التفعيل، واختاره أبو عبيد ولم يختلفوا في الثانية أنها مشددة لأجل الأنهار لأنها جمع، والتشديد يدل على التكثير من الأرض يعني أرض مكة يَنْبُوعاً يعني عيونا هو مفعول من نبع الماء.
أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها وسطها تَفْجِيراً [رقيقا] أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً قرأ أكثر قراء العراق: بسكون السين أي قطعة أجمع كسفه وهو جمع الكثير، مثل تمرة وتمر وسدرة وسدر.
تقول العرب: أعطني كسفة من هذا الثوب أي قطعة، ويقال: منه جاءنا ببريد كسف أي قطع خبز، وقيل: أراد جاثيا.
وفتح الباقون السين، وهو القطع أيضا جمع القليل للكسفة.
أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا.
قال ابن عبّاس: كفيلا. الضحاك: ضامنا. مقاتل: شهيدا.
مجاهد: جمع القبيلة أيّ بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة.
قتادة: عيانا. الفراء: هو من قول العرب: لقيت فلانا قبلا وقبلا أي معاينة.
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب وأصله الزينة.
مجاهد: كنت لا أدري ما الزخرف حتّى رأيته في قراءة ابن مسعود: بيت من ذهب.
أَوْ تَرْقى تصعد فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أيّ من أجل رقيك صعودك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أمرنا فيه باتباعك قُلْ يا محمّد سُبْحانَ رَبِّي.
وقرأ أهل مكة والشام: قال سبحان ربي يعني محمد صلّى الله عليه وسلّم هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا وليس ما سألتم في طوق البشر ولا قدرة الرسل وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ جهلا منهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا وإن الأولى في محل النصب والثانية في
(١) بطوله في تفسير الطبري: ١٥/ ٢٠٦، ٢٠٥.
(٢) زاد المسير لابن الجوزي: ٥/ ٦١. [.....]
135
محل الرفع وفي الآية اختصار فتأويلها هلّا بعث الله ملكا رسولا فأجابهم الله تعالى قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ مستوطنين مقيمين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لأن الملائكة إنما تبعث إلى الملائكة ويراهم الملائكة قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إنه رسوله إليكم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً إلى قوله أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ دونهم وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ.
شيبان عن قتادة عن أنس: إن رجلا قال: يا رسول الله كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال نبي الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الذي أمشاه على رجاله قادر أن يمشيه على وجهه [في النار] » [٥٨] «١».
وروى حماد بن سلمة عن علي بن يزيد عن أوس بن خالد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف: صنفا مشاة وصنفا ركبان وصنفا يمشون على وجوههم».
قيل: يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» [٥٩] «٢».
عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا إن قيل: وكيف وصف الله عزّ وجلّ هؤلاء يأتيهم يوم القيامة عمي وصم وبكم، وقال تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ «٣» فقال: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وقال دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً والجواب عنه ما قال ابن عبّاس: عُمْياً لا يرون شيئا يسرهم، بُكْماً لا ينطقون بحجة، صُمًّا لا يسمعون شيئا يسرهم.
وقال الحسن: هذا حين [جاءتهم] الملائكة وحين يساقون إلى الموقف عمي العيون وزرقها سود الوجوه إلى أن يدخلوا النار.
مقاتل: هذا حين يقال لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ، فيصيرون بأجمعهم عميا بكما صما لا يرون ولا يسمعون ولا ينطقون بعد ذلك.
وقيل: عُمْياً لا يبصرون الهدى، وَبُكْماً لا ينطقون بخير، وَصُمًّا لا يسمعون الحق.
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ قال ابن عبّاس: [سكنت] مجاهد: [طفيت] قتادة: لانت وضعفت.
زِدْناهُمْ سَعِيراً وقودا ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً
(١) مسند أحمد: ٣/ ٢٢٩، وصحيح ابن حبان: ١٦/ ٣١٦ ح ١٧٣٢١.
(٢) مسند أحمد: ٢/ ٣٦٣.
(٣) سورة الكهف: ٥٣.
136
فأجابهم الله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ في عظمها وشدتها وكثرة أجزائها وقوتها قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في صغرهم وضعفهم نظيره قوله لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «١» وقوله أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ «٢».
وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا أي وقتا لعذابهم وهلاكهم لا رَيْبَ فِيهِ إنه إليهم، وقيل: إن هذا جواب لقولهم أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً، وقيل: هو يوم القيامة، وقيل: هو الموت الذي يعاينونه فَأَبَى الظَّالِمُونَ الكافرون إِلَّا كُفُوراً جحودا قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أيّ أملاك ربي وأمواله وأراد بالرحمة هاهنا الرزق إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم وحبستم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي الفاقة، وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا ممسكا ضيقا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠١ الى ١١١]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥)
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠)
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ قال ابن عبّاس والضحاك: هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم.
وقال: عكرمة: مطر، الوراق وقتادة ومجاهد والشعبي وعطاء: هي الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والعصا واليد والسنون ونقص من الثمرات.
وعن محمّد بن كعب القرظي قال: سألني عمر بن عبد العزيز عن الآيات التسع، فقلت:
الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ وعصا موسى ويده والطمس والبحر.
فقال عمر: وأنا أعرف إن الطمس إحداهن.
(١) سورة المؤمن: ٥٧.
(٢) سورة النازعات: ٢٧
137
قال محمّد بن كعب: إن رجل منهم كان مع أهله في فراشه وقد صار حجرين، وإن المرأة منهم لقائمة تختبز وقد صارت حجرا، وإن المرأة منهم لفي الحمام وإنها تصير حجرا.
فقال عمر: كيف يكون الفقه إلّا هكذا ثمّ دعا بخريطة فيها أشياء مما كانت أصيبت لعبد العزيز بن مروان بمصر حين كان عليها من بقايا آل فرعون فأخرج منها البيضة مشقوقة [قطعا] وإنها لحجر وأخرج الجوزة مشقوقة وإنها لحجر وأخرج أشباه ذلك من الفواكه وإنها لحجارة، وأخرج دراهم ودنانير وفلوسا وإنها لحجارة. فعلى هذا القول يكون الآيات بمعنى الدلالات والمعجزات.
وقال بعضهم: هي بمعنى آيات الكتاب.
روى شعبة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن سلمة عن صفوان بن غسان المرادي: إن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتّى نسأل هذا النبي، فقال الآخر: لا تقل نبي لأنه لو سمع صارت له أربعة أعين فأتياه فسألاه عن هذه الآية وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ.
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا تشركوا بالله شيئا ولا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ولا تزنوا ولا تَأْكُلُوا الرِّبَوا ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرقوا ولا تقذفوا المحصنة ولا تولوا يوم الزحف، وعليكم خاصة في اليهود أن لا يتعدوا في السبت» [٦٠] «١».
فقبّلوا يده [ورجله] «٢» وقالوا: نشهد أنّك نبي، قال: «فما يمنعكم أن تتبعوني؟» قالوا: إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي، وإنّا نخاف إن اتبعناك تقتلنا اليهود «٣».
فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ موسى (عليه السلام)، وهو قراءة العامة، وروى حنظلة السّدوسي عن شهر بن حوشب عن ابن عباس أنّه قرأ فَسَأَلَ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ على الخبر وقال: سأل موسى فرعون أن يخلّي سبيل بني إسرائيل ويرسلهم معه.
فقال له فرعون: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي قد سحروك، قاله الكلبي، وقال ابن عباس: مخدوعا، وقال محمّد بن جرير: يعطي علم السحر فهذه العجائب التي يفعلها من سحرك، وقال الفرّاء وأبو عبيد: ساحرا فوضع المفعول موضع الفاعل، كما يقال: هو مشؤوم وميمون أي شائم ويامن، وقيل: معناه: وإنّي لأعلمك يا موسى بشرا ذا سحر، أي له رئة «٤».
قال موسى: لَقَدْ عَلِمْتَ قراءة العامة بفتح التاء خطابا لفرعون، وقرأ الكسائي بضم التاء وهي قراءة علي.
(١) الدر المنثور: ٤/ ٢٠٤، وفتح القدير: ٣/ ٢٦٥.
(٢) زيادة من المصدر.
(٣) تفسير الطبري: ١٥/ ٢١٦، ومسند أحمد: ٤/ ٢٤٠.
(٤) فتح القدير: ٤/ ٦٣، ومختار الصحاح: ١٥٦.
138
روى شعبة عن أبي إسحاق عن رجل من مراد عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) أنه قرأها:
لَقَدْ عَلِمْتُ برفع التاء وقال: والله ما علم عدو الله ولكن موسى هو الذي علم، قال: فبلّغت ابن عباس فقال: إنها لَقَدْ عَلِمْتَ تصديقا لقوله: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ.
قال أبو عبيد: والمأخوذ عندنا نصب التاء، وهو أصح من المعنى الذي احتجّ به ابن عباس، ولأن موسى (عليه السلام) لا يحتج بأن يقول علمت أنا وهو الرسول الداعي، ولو كان مع هذا كلّه تصح تلك القراءة [عن علي] لكانت حجة، ولكنها ليست تثبت عنه إنما هي عن رجل مجهول، ولا نعلم أحدا من القرّاء تمسك بها غير الكسائي، والرجل المرادي الذي روى عنه أبو إسحاق هو كلثوم المرادي «١».
ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ الآيات التسع إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ جمع بصيرة وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال ابن عباس: يعني ملعونا، مجاهد: هالكا، قتادة: مهلكا «٢».
وروى عيسى بن موسى عن عطية العوفي في قوله: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال:
مبدّلا «٣»، ابن زيد: مخبولا، لا عقل لك، مقاتل: مغلوبا، ابن كيسان: بعيدا عن الخيرات، وروى سفيان بن حصين عن الحسن في قوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال [سلاحا] «٤» في القطيفة.
قال مجاهد: دخل موسى على فرعون في يوم شات وعليه قطيفة له فألقى موسى عصاه فرأى فرعون جانبي البيت بين [فقميها]، ففزع فرعون وأحدث في قطيفته.
وعن إبراهيم بن سعيد الجوهري قال: كنت قائما على رأس المأمون وهو يناظر رجلا فسمعته يقول: يا مثبور، ثم أقبل عليّ فقال: يا إبراهيم ما معنى: يا مثبور؟ قلت: لا أدري، فقال: حدّثني الرشيد قال: حدّثني أمير المؤمنين المنصور فسمعته يقول لرجل يا مثبور، فقلت له: يا أمير المؤمنين ما معنى مثبور؟ قال: قال ميمون بن مهران قال ابن عباس في قوله: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال: ناقص العقل، قال الفرّاء: يعني مصروفا ممنوعا من الخير، والعرب تقول: ما ثبرك عن هذا الحق؟ أي ما منعك عنه وصرفك، وثبره الله يثبره ومثبره وهو لغتان، وقال ابن الزهري: الغليظ الأرب إذا بارى الشيطان في سنن الغي ومن مال ميله مثبور.
فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ يعني يخرجهم، أي بني إسرائيل مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مصر والشام.
(١) راجع الثقات لابن حبان: ٧/ ٤٦١.
(٢) كذا في المخطوط، وفي تفسير الطبري: مالكا، كما عن مجاهد.
(٣) كذا في المخطوط، وفي تفسير الطبري: مالكا، كما عن مجاهد.
(٤) تفسير الطبري: ١٥/ ١٩.
139
فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً ونجّينا موسى وقومه وَقُلْنا لهم مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد هلاك فرعون وقومه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ يعني مصر والشام فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وهي الساعة جِئْنا بِكُمْ من قبوركم الى موقف القيامة لَفِيفاً مختلطين وقد التفّ بعضكم ببعض لا تتعارفون ولا ينحاز [أحدكم] إلى قبيلته وحيّه، وهو من قول الجيوش إذا اختلطوا، وكل شيء اختلط بشيء تعطّف به والتفّ.
وقال مجاهد والضحاك: (لَفِيفاً) أي جميعا، ووحّد اللفيف وهو خبر عن الجمع لأنه بمعنى المصدر كقول القائل: لففته لفا ولفيفا.
وقال الكلبي فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني مجيء عيسى ابن مريم من السماء جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً وقال البزّار: من هاهنا وهاهنا، يقول: جميعا.
وهذه القصة تعزية لنبيّنا صلّى الله عليه وسلّم وتقوية لقلبه، يقول الله تعالى: كما أنزلت عليك القرآن فكذبك كفار قومك من مكة كذلك آتيت موسى التوراة فكذبه فرعون وقومه، وكما أراد أهل مكة أن يستفزّوك منها، كذلك أراد فرعون أن يستفزّ موسى وبني إسرائيل من مصر، فأنجيناهم منهم وأظفرتهم عليهم، وكذلك أظفرتك على أعدائك، وأتمّ نعمتي عليك وعلى من اتّبعك نصرة للدين وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ، فأنجز الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده وله الحمد والمنّة.
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ يعني القرآن وَما أَرْسَلْناكَ يا محمد إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً. وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي وأنزلناه قرآنا ففصّلناه.
قرأ ابن عباس: فرّقناه بالتشديد وقال: لأنه لم ينزل مرة واحدة وانما أنزل [نجوما] في عشرين سنة، وتصديقه قراءة أبي بن كعب وقرآنا فرّقناه عليك، وقرأ الباقون بالتخفيف كقوله فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ.
قال ابن عباس فصّلناه، قال الحسن: فرّق الله به بين الحق والباطل، وقرأ الآخرون:
بيّناه.
لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي تؤدة ومهل في ثلاث وعشرين سنة وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا. قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا أمر وعد وتهديد إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن وخروج محمد صلّى الله عليه وسلّم وهم مؤمنو أهل الكتاب إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن يَخِرُّونَ يسقطون لِلْأَذْقانِ على الأذقان وهي جمع الذقن وهو مجتمع اللحيين، قال ابن عباس أراد الوجوه سُجَّداً. وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا قال مجاهد: هم ناس من أهل الكتاب حين سمعوا ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم خرّوا سجدا وقالوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ أي وقد كان وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ نزول القرآن خُشُوعاً وخضوعا وتواضعا لربّهم.
140
قال عبد الأعلى التيمي: من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن لا يكون أوتي علما ينفعه، وتلا هذه الآية «١»، نظيرها قوله: إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا «٢».
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الآية،
قال ابن عباس: تهجّد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده: يا الله يا رحمن يا رحيم، فقال المشركون: كان محمد يدعو إلها واحدا فهو الآن يدعوا إلهين اثنين الله والرحمن، والله ما نعرف الرحمن إلّا رحمن اليمامة يعنون مسيلمة الكذاب، فأنزل الله عزّ وجلّ هذه الآية.
قال ميمون بن مهران: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في أول ما أوحي إليه يكتب: باسمك اللهم حتى نزلت هذه الآية: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فكتب: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه فما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية «٣».
الضحاك: قال أهل الكتاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إنّك لتقلّ ذكر الرحمن وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فأنزل الله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ الآية «٤».
أَيًّا ما تَدْعُوا من هذين الاسمين ومن جميع أسمائه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى [.....] مجازه: أيّا تدعوا، كقوله: عَمَّا قَلِيلٍ «٥» وجُنْدٌ ما هُنالِكَ.
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها
قال ابن عباس: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا صلّى بأصحابه رفع صوته بالقرآن، فإذا سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن ومن أنزله ومن تلا به «٦» كما حكاه القرآن: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «٧» ربما صفّروا ليغلّطوا النبي صلّى الله عليه وسلّم ويخلطوا عليه قراءته فأنزل الله تعالى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي في الصلاة فيسمع المشركون فيؤذوك، ولا تُخافِتْ بِها فلا يسمع أصحابك حتى يأخذوا عنك «٨».
وقال سعيد: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجهر بقراءة القرآن في المسجد الحرام، فقالت قريش: لا تجهر بالقراءة فتؤذي آلهتنا فنهجو ربك
، وقال مقاتل: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلّي في دار أبي سفيان بن حرب عند الصفا، يجهر بقرائته فمرّ به أبو جهل فقال: لا تفتر على الله، فجعل يخفت
(١) سنن الدارمي: ١/ ٨٨، وتفسير الثعالبي: ٤/ ١٥٤. [.....]
(٢) سورة مريم ٥٨.
(٣) أسباب النزول للواحدي: ٢٠٠.
(٤) المصدر السابق.
(٥) سورة المؤمنون: ٤٢.
(٦) تفسير الطبري: ١٥/ ٢٣٠، وفيه: ومن جاء به.
(٧) سورة فصلت: ٢٦.
(٨) تفسير الطبري: ١٥/ ٢٣٠.
141
صوته، فقال أبو جهل للمشركين: ألا ترون ما فعلت بابن أبي كبشة، رددته عن قراءته فأنزل الله تعالى هذه الآية «١».
وروى [علقمة] عن ابن سيرين في هذه الآية قال: كان أبو بكر (رضي الله عنه) يخافت بالقراءة في الصلاة ويقول: أناجي ربي، وقد علم بحاجتي، وكان عمر بن الخطاب يرفع صوته ويقول:
أزجر الشيطان وأوقظ المنان، فأمر أبو بكر حين نزلت هذه الآية أن يرفع صوته شيئا، وأمر عمر أن يخفض شيئا «٢».
وقالت عائشة رضي (رضي الله عنه) : نزلت هذه الآية في التشهد، كان الأعرابي يجهر فيقول:
التحيات لله والصلوات ويرفع بها صوته، فنزلت هذه الآية، وقال الحسن: [لا تراء] بصلاتك في العلانية ولا [تسئها] في السر.
الوالبي عن ابن عباس: لا تصلّ مرائيا الناس، ولا تدعها مخافة الناس، ابن زيد: كان أهل الكتاب يخافتون في الصلاة، لم يجهر أحدهم بالحرف فيصيح ويصيح من وراءه، فنهاه الله أن يصيح كما يصيحون، وخافت كما يخافتون، والسبيل الذي بين ذلك الذي بيّن له جبرئيل في الصلاة.
وقال: علي والنخعي ومجاهد وابن مكحول: هي في الدعاء «٣»
، [وبه
قال أشعث عن] عطية «٤» عن ابن عباس، وقال عبد الله بن شدّاد: كان أعراب من بني تميم إذا سلّم النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: «اللهم ارزقنا»، فقال لهم: أتجهرون؟ فأنزل الله هذه الآية.
ابن وهب عن عمرو بن الحرث عن دراج أبي السمح أن شيخا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حدّثه أن رسول الله قال في هذه الآية: «إنما أنزلت في الدعاء، يقول: لا ترفع صوتك في الدعاء عند استغفارك واذكر ذنوبك فيسمع منك فتعبّر بها وتخافت في الصوت والسكون» [٦١]،
ومنه يقال للميّت إذا برد خفت.
وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ أي بين الجهر والإخفات سَبِيلًا وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً قال الحسين بن الفضل: يعني الذي عرّفني أنّه لم يتخذ ولدا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ قال مجاهد: لم يذل فيحتاج الى ولي يتعزز به.
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً وعظّمه أن يكون له شريك أو ولي، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: قول العبد: «الله أكبر» خير من الدنيا وما فيها.
(١) زاد المسير ٥/ ٧٠.
(٢) تفسير الطبري: ١٥/ ٢٣٢.
(٣) يراجع تفسير ابن كثير: ٣/ ٧٣.
(٤) في تفسير ابن كثير: عكرمة عن ابن عباس.
142
وروى سهل بن معاذ عن أبيه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «آية العزّ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً» [٦٢] الى آخره.
وروى سفيان بن وكيع عن سفيان بن عيينة عن عبد الكريم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أفصح الغلام من بني عبد المطلب علّمه هذه الآية سبع مرات «١».
وروى محمد بن سلمة عن عبد الحميد بن واصل قال: من قرأ آخر بني إسرائيل كتب الله له من الأجر ملء السموات والأرض لأن الله يقول فيمن زعم أن له ولدا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً «٢» قال: فيكتب له من الأجر على قدر ذلك.
(١) المصنف لابن أبي شيبة: ١/ ٣٨٣.
(٢) سورة مريم: ٩٠- ٩١.
143
Icon