تفسير سورة الرّوم

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الروم من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مكية وهي ستون آية، وثمانمائة وتسع عشرة كلمة، وثلاثة آلاف وخمسمائة وأربعة وثلاثون حرفاً.
﴿ بسم الله ﴾ الذي يملك الأمر كله ﴿ الرحمان ﴾ الذي رحم الخلق كلهم بنصب الدلائل ﴿ الرحيم ﴾ الذي لطف بأوليائه.

وقوله تعالى :﴿ الم ﴾ تقدّم الكلام على ذلك في أوّل سورة البقرة، وقال البقاعي : لما ختم سبحانه وتعالى التي قبلها بأنه مع المحسنين قال :﴿ ألم ﴾ مشيراً بألف القيام والعلو ولام الوصلة وميم التمام إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل جبريل عليه الصلاة والسلام الذي هو وصلة بينه وبين أنبيائه عليهم السلام إلى أشرف خلقه محمد صلى الله عليه وسلم المبعوث لإتمام مكارم الأخلاق يوحي إليه وحياً معلماً بالشاهد والغائب فيأتي الأمر على ما أخبر به دليلاً على صحة رسالته وكمال علم مرسله وشمول قدرته ووجوب وحدانيته.
﴿ غلبت الروم ﴾ وهم أهل كتاب، غلبتهم فارس وليسوا أهل كتاب بل يعبدون الأوثان.
﴿ في أدنى الأرض ﴾ أي : أقرب أرض الروم إلى فارس بالجزيرة، التقى فيها الجيشان والبادي بالغزو الفرس ﴿ وهم ﴾ أي : الروم ﴿ من بعد غلبهم ﴾ أضيف المصدر إلى المفعول أي : غلبة فارس إياهم ﴿ سيغلبون ﴾ فارس.
﴿ في بضع سنين ﴾ وهو ما بين الثلاث إلى التسع أو العشر، فالتقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء الأوّل وغلبت الروم فارس، وسبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودّون أن تغلب فارس لأن أهل فارس كانوا مجوساً أميين، والمسلمون يودّون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليه رجلاً يقال له شهريار، وبعث قيصر جيشاً واستعمل عليه رجلاً يدعى بخنس، فالتقى مع شهريار بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب فغلبت فارس الروم، وبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يكره أن تظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح كفار مكة وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ولنظهرن عليكم فنزلت هذه الآية. فخرج أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فوالله لتظهرنّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم فقال له أبيّ بن خلف الجمحي : كذبت يا أبا فضيل فقال أبو بكر : أنت أكذب يا عدوّ الله فقال : اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه والمناحبة المراهنة فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما فإن ظهرت الروم على فارس غرمتَ وإن ظهرت فارس غرمتُ وجعلا الأجل ثلاث سنين، فجاء أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أبياً فقال : لعلك ندمت قال : لا فتعال أزايدك في الخطر وأمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين. وقيل : إلى سبع سنين قال : قد فعلت، فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه وقال : إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلاً فكفله له ابنه عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أبيّ بن خلف أن يخرج إلى أُحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال : والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبيّ بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بارزه، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم، وقيل كان يوم بدر فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ وجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال تصدّق به، وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوّة وأنّ القرآن من عند الله لأنه أنبأ عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
فإن قيل : كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار ؟ أجيب : بأن قتادة رحمه الله تعالى قال : كان ذلك قبل تحريم القمار، وقال الزمخشري : ومذهب أبي حنيفة ومحمد أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر رضي الله عنه بينه وبين أبي بن خلف. ولما كان تغلب ملك على ملك من الأمور الهائلة وكان الإخبار به قبل كونه أهول ذكر علة ذلك بقوله تعالى :﴿ لله ﴾ أي : وحده ﴿ الأمر من قبل ﴾ أي : قبل جولة فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس ﴿ ومن بعد ﴾ أي : بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم، .
ولما أخبر تعالى بهذه المعجزة أخبر بمعجزة أخرى بقوله تعالى :﴿ ويومئذ ﴾ أي : تغلب الروم على فارس ﴿ يفرح المؤمنون ﴾ أي : العريقون في هذا الوصف من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم.
﴿ بنصر الله ﴾ أي : الذي لا رادّ لأمره للروم على فارس، وقد فرحوا بذلك وعلموا به يوم وقوعه يوم بدر بنزول جبريل عليه السلام بذلك فيه مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه، قال السدي : فرح النبيّ صلى الله عليه وسلم والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك، وعن أبي سعيد الخدري : وافق ذلك يوم بدر وفي هذا اليوم نصر المؤمنون. ﴿ ينصرُ من يشاء ﴾ من ضعيف وقوي لأنه لا مانع له ولا يسأل عما يفعل، فالغلبة لا تدل على الحق بل الله قد يزيد ثواب المؤمن فيبتليه ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر قبل يوم المعاد ﴿ وهو العزيز ﴾ فلا يعز من عادى ولا يذل من والى، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بالضم.
ولما كان السياق لبشارة المؤمنين قال ﴿ الرحيم ﴾ فيخصهم بالأعمال الزكية والأخلاق المرضية.
﴿ وعد الله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال، مصدر مؤكد ناصبه مضمر أي : وعدهم الله ذلك وعداً بظهور الروم على فارس ﴿ لا يخلف الله ﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿ وعده ﴾ به، وهذا مقرّر لمعنى هذا المصدر، ويجوز أن يكون قوله تعالى :﴿ لا يخلف الله وعده ﴾ حالاً من المصدر فيكون كالمصدر الموصوف فهو مبين للنوع كأنه قيل : وعد الله وعداً غير مخلف ﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ لجهلهم وعدم تفكرهم ﴿ لا يعلمون ﴾ ذلك.
وقوله تعالى :﴿ يعلمون ﴾ بدل من قوله تعالى ﴿ لا يعلمون ﴾ وفي هذا الإبدال من النكتة أنه أبدله منه وجعله بحيث يقوم مقامه ويسدّ مسدّه ليعلمه أنه لا فرق بين عدم العلم الذي هو الجهل وبين وجود العلم الذي لا يجاوز الدنيا ﴿ ظاهراً من الحياة الدنيا ﴾ يفيد أن للدنيا ظاهراً وباطناً : فظاهرها : ما يعرفه الجهال من أمر معايشهم كيف يكسبون ويتجرون ومتى يغرسون ويزرعون ويحصدون وكيف يبنون ويعرشون، قال الحسن : إن أحدهم لينقر الدرهم بطرف ظفره فيذكر وزنه وهو لا يخطئ، وهو لا يحسن يصلي. وأمثال هذا العلم كثير وهو وإن كان عند أهل الدنيا عظيماً فهو عند الله حقير فلذلك حقره لأنهم ما زادوا فيه على أن ساووا البهائم في إدراكها ما ينفعها فتستجلبه بضروب من الحيل، وما يضرها فتدفعه بأنواع من الخداع، وأما علم باطنها : وهو أنها مجاز إلى الآخرة يتزوّد منها بالطاعة فهو ممدوح، وفي تنكير الظاهر إشارة إلى أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها ﴿ وهم ﴾ أي : هؤلاء الموصوفون خاصة ﴿ عن الآخرة ﴾ أي : التي هي المقصودة بالذات، وما خلقت الدنيا إلا للتوصل بها إليها ليظهر الحكم بالقسط وجميع صفات العز والكبر والجلال والإكرام ﴿ هم غافلون ﴾ أي : في غاية الاستغراق والإضراب عنها بحيث لا تخطر في خواطرهم.
تنبيه : هم الثانية يجوز أن تكون مبتدأً، وغافلون خبره، والجملة خبر هم الأولى، وأن تكون تكريراً للأولى، ﴿ وغافلون ﴾ خبراً للأولى، وأية كانت فذكرها مناد على أنهم معدن الغفلة عن الآخرة ومقرّها ومعلمها، وأنها منهم تنبع وإليهم ترجع.
﴿ أولم يتفكروا ﴾ أي : يجتهدوا في إعمال الفكر، وقوله تعالى ﴿ في أنفسهم ﴾ يحتمل أن يكون ظرفاً كأنه قيل : أَوَلَمْ يحدثوا الفكر في أنفسهم أي : في قلوبهم الفارغة من التفكر، والتفكر لا يكون إلا في القلوب، ولكنه زيادة تصوير لحال المتفكرين كقولك : اعتقده في قلبك وأضمره في نفسك. وأن يكون صلة أي : أو لم يتفكروا في أحوالها خصوصاً فيعلموا أن من كان منهم قادراً كاملاً لا يخلف وعده وهو إنسان ناقص فكيف بالإله الحق. ويعلموا أن الذي ساوى بينهم في الإيجاد من العدم وطورهم في أطوار الصور، وفاوت بينهم في القوى والقدر، وبين أحوالهم في الطول والقصر، وسلط بعضهم على بعض بأنواع الضرر، ومات أكثرهم مظلوماً قبل القصاص والظفر، لا بدّ في حكمته البالغة من جمعه العدل بينهم في جزاء من وفى أو غدر، أو شكر أو كفر. ففي ذلك دلالة على وحدانية الله تعالى وعلى الحشر، ثم ذكر تعالى نتيجة ذلك وعلله بقوله في أسلوب التأكيد لأجل إنكارهم. وعلى التقدير الأوّل يكون المتفكر فيه ﴿ ما خلق الله ﴾ أي : بعز جلاله وعلوه في كماله ﴿ السماوات والأرض ﴾ على ما هما عليه من النظام المحكم والقانون المتقن، قال البقاعي : وإفراد الأرض لعدم دليل حسي أو عقلي يدلهم على تعدّدها بخلاف السماء ا. ه وقد يردّ هذا بقوله تعالى :﴿ خلق سبع سماوات ومن الأرض مثلهنّ ﴾ ( الطلاق : ١٢ ) ﴿ وما بينهما ﴾ من المعاني التي بها كمال منافعهما ﴿ إلا ﴾ خلقاً متلبساً ﴿ بالحق ﴾ أي : الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع، فإذا ذكر البعث الذي هو مبدأ الآخرة التي هذا أسلوبها وجد الواقع في تصوير النطف ونفخ الروح وتمييز الصالح منهما للتصوير من الفاسد يطابق ذلك، وإذا تدبر النبات بعد أن كان هشيماً قد نزل عليه الماء فزها واهتز وربا وجده مطابقاً لأمر البعث، وإذا ذكر القدرة فرأى اختلاف الليل والنهار وسير الكواكب الصغار والكبار، وإمطار الأمطار وإجراء الأنهار، ونحو ذلك من الأسرار رآه مطابقاً لكل ما يخطر بالبال.
ولما كان عندهم أن هذا الوجود حياة وموت لا إلى نفاد قال تعالى ﴿ وأجل ﴾ لا بد أن ينتهي إليه ﴿ مسمى ﴾ أي : في العلم من الأزل، لذلك يفنى عند انتهائه وبعده البعث. ولما كانوا ينكرون أنهم على كفر أكد قوله تعالى ﴿ وإن كثيراً من الناس ﴾ مع ذلك على وضوحه ﴿ بلقاء ربهم ﴾ أي : الذي ملأهم إحساناً برجوعهم في الآخرة إلى العرض عليه للثواب والعقاب ﴿ لكافرون ﴾ أي : لا يؤمنون بالبعث بعد الموت.
فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى ههنا ﴿ وإن كثيراً من الناس ﴾ وقال من قبل ﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ ؟ أجيب : بأن فائدته أنه من قبل لم يذكر دليلاً على الأصلين وههنا قد ذكر الدلائل الراسخة والبراهين اللائحة، ولا شك في أن الإيمان بعد الدليل أكثر من الإيمان قبل الدليل. فبعد الدليل لابد أن يؤمن من ذلك جمع فلا يبقى الأكثر كما هو، فقال بعد إقامة الدليل : و﴿ إن كثيراً ﴾ وقال قبله :﴿ ولكن أكثر الناس ﴾ لأنه بعد الدليل لا يمكن الذهول عنه وهو السماوات والأرض لأن من البعيد أن يذهل الإنسان عن السماء التي فوقه والأرض التي تحته.
فلهذا ذكر ما يقع الذهول عنه وهو أمثالهم وحكاية أشكالهم فقال :﴿ أو لم يسيروا في الأرض ﴾ أي : سير اعتبار، وقوله تعالى ﴿ فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ﴾ من الأمم وهي إهلاكهم بتكذيبهم رسلهم تقريراً لسيرهم في أقطار الأرض، ونظرهم إلى آثار المدمرين كعاد وثمود ﴿ كانوا أشدّ منهم ﴾ أي : العرب ﴿ قوّة ﴾ أي : في أبدانهم وعقولهم ﴿ وأثاروا الأرض ﴾ أي : حرثوها وقلبوها للزرع والغرس والمعادن والمياه وغير ذلك ﴿ وعمروها ﴾ أي : أولئك السالفون ﴿ أكثر مما عمروها ﴾ أي : هؤلاء الذين أرسلت إليهم بل ليس لهم من إثارة الأرض وعمارتها كبير أمر، فإن بلاد العرب إنما هي في جبال سود، وفياف غبر، فما هو إلا تهكم بهم وبيان لضعف حالهم في دنياهم التي لا فخر لهم بغيرها ﴿ وجاءتهم رسلهم بالبينات ﴾ أي : بالحجج الظاهرات مثل ما أتاكم به رسولنا من وعودنا الصادقة وأمورنا الخارقة كأمر الإسراء وما أظهر فيه من الغرائب كالإخبار :«بأن العير تقدِم في يوم كذا يقدُمها جمل صفته كذا وغرائره كذا فظهر كذلك » وما آمنتم به كما لم يؤمن من كان أشدّ منكم قوّة ﴿ فما ﴾ أي : تسبب أنه ما ﴿ كان الله ﴾ أي : على ما لهم من أوصاف الكمال مريداً ﴿ ليظلمهم ﴾ بأن يفعل معهم فعل من تعدونه أنتم ظالماً بأن يهلكهم في الدنيا ثم يقتص منهم في القيامة قبل إقامة الحجة عليهم بإرسال الرسل بالبينات ﴿ ولكن كانوا ﴾ بغاية جهدهم ﴿ أنفسهم ﴾ أي : خاصة ﴿ يظلمون ﴾ أي : يجدّدون الظلم لها بإيقاع الضر موقع مجلب النفع.
﴿ ثم كان عاقبة ﴾ أي : آخر أمر ﴿ الذين أساؤوا ﴾ وقوله تعالى ﴿ السوأى ﴾ تأنيث الأسوأ وهو الأقبح كما أن الحسنى تأنيث الأحسن، والمعنى : أنهم عوقبوا في الدنيا بالدمار ثم إن عاقبتهم السوأى، إلا أنه وضع المظهر موضع المضمر، أي : العقوبة التي هي أسوأ العقوبات في الآخرة وهي جهنم التي أعدت للكافرين. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو عاقبة بالرفع على أنها اسم كان والسوأى خبرها، والباقون بالنصب على أنها خبر كان. وقيل : السوأى اسم لجهنم كما أن الحسنى اسم للجنة، وإساءتهم ﴿ أن ﴾ أي : بأن ﴿ كذبوا بآيات الله ﴾ أي : القرآن. وقيل : تفسير السوأى ما بعده وهو قوله تعالى ﴿ أن كذبوا ﴾ أي : ثم كان عاقبة المسيئين التكذيب، حملتهم تلك السيئات على أن كذبوا بآيات الله ﴿ وكانوا بها ﴾ مع كونها أبعد شيء عن الهزء ﴿ يستهزئون ﴾ أي : يستمرون على ذلك بتحديده في كل حين.
ولما كان حاصل ما مضى أنه تعالى قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء صرح بذلك في قوله تعالى :﴿ الله ﴾ أي : المحيط علماً وقدرة ﴿ يبدأ الخلق ﴾ أي : بدأ منه ما رأيتم وهو يجدد في كل وقت ما يريد من ذلك كما تشاهدون ﴿ ثم يعيده ﴾ أي : خلقهم بعد موتهم أحياء، ولم يقل يعيدهم لرده إلى الخلق ﴿ ثم إليه ترجعون ﴾ للجزاء فيجزيهم بأعمالهم، وقرأ أبو عمرو وشعبة بالياء على الغيبة على النسق الماضي والباقون بالتاء على الخطاب أي : إليه ترجعون معنى في أموركم كلها في الدنيا وإن كنتم لقصور النظر تنسبونها للأسباب، وحساً بعد قيام الساعة، وهي أبلغ من القراءة الأولى ؛ لأنها أنص على المقصود.
ولما ذكر الرجوع أتبعه ببعض أحواله بقوله تعالى :﴿ ويوم تقوم الساعة ﴾ سميت بذلك إشارة إلى عظيم القدرة عليها مع كثرة الخلائق على ما هم فيه من العظماء والكبراء والرؤساء ﴿ يبلس المجرمون ﴾ أي : يسكت المشركون لانقطاع حجتهم، فالإبلاس أن يبقى يائساً ساكتاً متحيراً. يقال : ناظرته فأبلس. ومنه الناقة المبلاس أي : التي لا ترغو، وقال مجاهد : مفتضحون، وقال قتادة : المعنى : ييأس المشركون من كل خير.
ولما كان الساكت ربما أغناه عن الكلام غيره نفي ذلك بقوله تعالى محققاً له بجعله ماضياً :﴿ ولم يكن ﴾ ومعناه لا يكون ﴿ لهم من شركائهم ﴾ أي : ممن أشركوهم بالله وهم الأصنام ﴿ شفعاء ﴾ ينقذونهم مما هم فيه ليتبين لهم غلطهم وجهلهم المفرط في قولهم : هؤلاء شفعاؤنا عند الله. ولما ذكر تعالى حال الشفعاء معهم ذكر حالهم مع الشفعاء بقوله تعالى :﴿ وكانوا بشركائهم ﴾ أي : خاصة ﴿ كافرين ﴾ أي : متبرئين منهم بأنهم ليسوا بآلهة، وقيل : كانوا في الدنيا كافرين بسببهم، وكتب شفعاء في المصحف بواو قبل الألف كما كتب علماء بني إسرائيل، وكذلك كتب السوأى بألف قبل الياء إثباتاً للهمزة على صورة الحرف الذي منه حركتها.
﴿ ويوم تقوم الساعة ﴾ أي : ويا له من يوم، وزاد في تهويله بقوله تعالى :﴿ يومئذٍ يتفرّقون ﴾ أي : المؤمنون الذين يفرحون بنصر الله والكافرون فرقة لا اجتماع بعدها.
هؤلاء في عليين وهؤلاء في أسفل سافلين كما قال عز من قائل :﴿ فأمّا الذين آمنوا ﴾ أي : أقروا بالإيمان بأنفسهم ﴿ وعملوا ﴾ تصديقاً لإقرارهم ﴿ الصالحات فهم ﴾ أي : خاصة ﴿ في روضة ﴾ وهي أرض عظيمة جداً منبسطة واسعة ذات ماء غدق ونبات معجب بهيج. هذا أصلها في اللغة، قال الطبري : ولا نجد أحسن منظراً ولا أطيب نشراً من الرياض اه والتنكير لإبهام أمرها وتفخيمه. والروضة عند العرب : كل أرض ذات نبات وماء. ومن أمثالهم : أحسن من بيضة في روضة، يريدون بيضة النعامة ﴿ يحبرون ﴾ قال أبو بكر بن عياش : التيجان على رؤوسهم، وقال أبو عبيدة : يسرون أي : على سبيل التجدد كل وقت سروراً تشرق له الوجوه وتبسم الأفواه وتزهر العيون فيظهر حسنها وبهجتها، فتظهر النعمة بظهور آثارها على أسهل الوجوه وأيسرها، وقال ابن عباس : يكرمون، وقال قتادة : ينعمون، وقال الأوزاعي عن يحيى ابن كثير : يحبرون هو السماع في الجنة، وقال الأوزاعي : إذا أخذ في السماع لم يبق في الجنة شجرة إلا وردت، وقال : ليس أحد من خلق الله أحسن صوتاً من إسرافيل، فإذا أخذ في السماع قطع على أهل سبع سماوات صلاتهم وتسبيحهم.
وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الجنة وما فيها من النعيم وفي آخر القوم أعرابيّ قال يا رسول الله هل في الجنة من سماع ؟ قال :«نعم يا أعرابي إنّ في الجنة نهراً حافتاه الأبكار من كل بيضاء خوصانية يتغنين بأصوات لم تسمع الخلائق بمثلها قط فذلك أفضل نعيم الجنة » قال الدارمي : فسألت أبا الدرداء بم يتغنين قال : بالتسبيح وروي «أن في الجنة لأشجاراً عليها أجراس من فضة فإذا أراد أهل الجنة السماع بعث الله ريحاً من تحت العرش فتقع في تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طرباً ».
﴿ وأما الذين كفروا ﴾ أي : غطوا ما كشفته أنوار العقول ﴿ وكذبوا ﴾ عناداً ﴿ بآياتنا ﴾ التي لا أصدق منها ولا أضوأ من أنوارها بما لها من عظمتنا وهو القرآن ﴿ ولقاء الآخرة ﴾ أي : بالبعث وغيره ﴿ فأولئك ﴾ أي : البغضاء البعداء ﴿ في العذاب ﴾ الكامل لا غيره ﴿ محضرون ﴾ أي : مدخلون لا يغيبون عنه.
﴿ فسبحان الله ﴾ أي : سبحوا الله تعالى بمعنى صلوا ﴿ حين تمسون ﴾ أي : حين تدخلون في المساء وفيه صلاتان : المغرب والعشاء ﴿ وحين تصبحون ﴾ أي : تدخلون في الصباح وفيه صلاة الصبح. وقوله تعالى.
وقوله تعالى :﴿ وله الحمد في السماوات والأرض ﴾ اعتراض ومعناه : يحمده أهلهما. وقوله تعالى ﴿ وعشياً ﴾ عطف على حين وفيه صلاة العصر ﴿ وحين تظهرون ﴾ أي : تدخلون في الظهيرة وفيه صلاة الظهر، قال نافع بن الأزرق لابن عباس : هل تجد الصلوات الخمس في مواقيتها في القرآن ؟ فقرأ هاتين الآيتين وقال : جمعت الآيتان الصلوات الخمس ومواقيتها، وإنما خص هذه الأوقات مع أن أفضل الأعمال أدومها ؛ لأنّ الإنسان لا يقدر أن يصرف جميع أوقاته إلى التسبيح لأنه محتاج إلى ما يعيشه من مأكول ومشروب وغير ذلك، فخفف الله عنه العبادة في غالب الأوقات وأمره بها في أوّل النهار ووسطه وآخره وفي أوّل الليل ووسطه فإذا صلى العبد ركعتي الفجر فكأنما سبح قدر ساعتين، وكذلك باقي الركعات وهن سبع عشرة مع ركعتي الفجر، فإذا صلى الإنسان الصلوات الخمس في أوقاتها فكأنما سبح الله سبع عشرة ساعة من الليل والنهار، بقي عليه سبع ساعات من جميع الليل والنهار وهي مقدار النوم، والنائم مرفوع عنه القلم فيكون قد صرف جميع أوقاته بالتسبيح في العبادة، أو بمعنى : نزهوه من السوء بالثناء عليه بالخير في هذه الأوقات لما يتجدد فيها من نعم الله تعالى الظاهرة.
عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة حطت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر » وعنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم :«من قال حين يصبح وحين يمسي سبحان الله وبحمده مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال وزاد عليه » وعنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :«كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمان سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم » وعن جويرية بنت الحارث زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها أنه خرج ذات غداة من عندها وكان اسمها برّة فحوّله رسول الله صلى الله عليه وسلم فسماها جويرية فكره أن يقال خرج من عند برّة، فخرج وهي في مسجدها أي : مصلاها، فرجع بعد ما تعالى النهار فقال :«مازلت في مجلسك هذا منذ خرجت بعد قالت نعم فقال لقد قلت بعدك أربع كلمات ثلاث مرات لو وزن بكلماتك لوزنتهن سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته ».
وعن سعد بن أبي وقاص قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«أيعجز أحدكم أن يكتسب في كل يوم ألف حسنة فسأله سائل من جلسائه كيف يكتسب كل يوم ألف حسنة قال : يسبح مائة تسبيحة فيكتب له ألف حسنة أو يحط عنه ألف خطيئة » وفي غير رواية مسلم ويحط بغير ألف.
ولما كان الإنسان عند الإصباح يخرج من سنة النوم إلى سنة الوجود وهي اليقظة، وعند العشاء يخرج من اليقظة إلى النوم أتبعه الإحياء والإماتة حقيقة بقوله تعالى :﴿ يخرج الحيّ ﴾ كالإنسان والطائر ﴿ من الميت ﴾ كالنطفة والبيضة ﴿ ويخرج الميت ﴾ كالبيضة والنطفة ﴿ من الحيّ ﴾ على عكس ذلك، أو يعقب الحياة الموت وبالعكس، وقيل : يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن ﴿ ويحيي الأرض ﴾ أي : بالمطر وإخراج النبات ﴿ بعد موتها ﴾ أي : يبسها ﴿ وكذلك ﴾ أي : ومثل هذا الإخراج ﴿ تخرجون ﴾ بأيسر أمر من الأرض بعد تفرّق أجسامكم فيها أحياء للبعث والحساب، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي الميت بكسر الياء المشددة، والباقون بالسكون، وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان بخلاف عنه بفتح التاء قبل الخاء وضم الراء على البناء للفاعل، والباقون بضمّ التاء وفتح الراء على البناء للمفعول.
﴿ ومن آياته ﴾ أي : ومن جملة علامات توحيده وكمال قدرته ﴿ أن خلقكم ﴾ أي : أصلكم وهو آدم عليه السلام ﴿ من تراب ﴾ لم يكن له أصلاً اتصاف ما بحياة، أو أنه خلقكم من نطفة، والنطفة من الغذاء، والغداء إنما يتولد من الماء والتراب ﴿ ثم ﴾ أي : بعد إخراجكم منه ﴿ إذا أنتم بشر تنتشرون ﴾ في الأرض كقوله تعالى ﴿ وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء ﴾ ( النساء : ١ ).
تنبيه : الترتيب والمهلة ههنا ظاهران، فإنهم يصيرون بشراً بعد أطوار كثيرة، وتنتشرون حال. وإذا هي الفجائية إلا أنّ الفجائية أكثر ما تقع بعد الفاء ؛ لأنها تقتضي التعقيب. ووجه وقوعها مع ثم بالنسبة إلى ما يليق بالحالة الخاصة أي : بعد تلك الأطوار التي قصها علينا في موضع آخر من كونها نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظماً مجرداً ثم عظماً مكسواً لحماً فاجأ البشرية والانتشار.
﴿ ومن آياته ﴾ أي : على ذلك ﴿ أن خلق لكم ﴾ أي : لأجلكم ليبقى نوعكم بالتوالد وفي تقديم الجار وهو قوله تعالى ﴿ من أنفسكم ﴾ أي : جنسكم بعد إيجادها من ذات أبيكم آدم عليه السلام ﴿ أزواجا ﴾ إناثاً هن شفع لكم دلالة ظاهرة على حرمة التزّوج من غير الجنس كالجن، قال البقاعي : والتعبير بالنفس أظهر في كونها من بدن الرجل أي : فخلق حواء من ضلع آدم ﴿ لتسكنوا ﴾ مائلين ﴿ إليها ﴾ بالشهوة والألفة من قولهم : سكن إليه إذا مال وانقطع واطمأن إليه، ولم يجعلها من غير جنسكم لئلا تنفروا منها، قال ابن عادل : والصحيح أنّ المراد من جنسكم كما قال تعالى ﴿ لقد جاءكم رسول من أنفسكم ﴾ ( التوبة : ١٢٨ ) ويدل عليه قوله تعالى ﴿ لتسكنوا إليها ﴾ يعني أنّ الجنسين المختلفين لا يسكن أحدهما إلى الآخر أي : لا تثبت نفسه معه ولا يميل قلبه إليه. ولما كان المقصود بالسكن لا ينتظم إلا بدوام الإلفة قال تعالى ﴿ وجعل ﴾ أي : صير بسبب الخلق على هذه الصفة ﴿ بينكم مودة ﴾ أي : معنى من المعاني يوجب أن لا يحب أحد من الزوجين أن يصل إلى صاحبه شيء يكرهه ﴿ ورحمة ﴾ أي : معنى يحمل كُلاّ على أن يجتهد للآخر في جلب الخير ودفع الضر، وقيل : المودّة كناية عن الجماع والرحمة عن الولد تمسكاً بقوله تعالى :﴿ ذكر رحمة ربك عبده زكريا ﴾ ( مريم، ٢ ) وقوله تعالى :﴿ ورحمة منا ﴾ ( مريم، ٢١ ) ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : الذي تقدم من خلق الأزواج على الحال المذكور وما يتبعه من المنافع ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات واضحات على قدرة فاعله وحكمته ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ أي : يستعملون أفكارهم على القوانين المحرّرة ويجتهدون في ذلك فيعلمون ما في ذلك من الحكم.
ولما بين تعالى دلائل الأنفس ذكر دلائل الآفاق بقوله تعالى :﴿ ومن آياته ﴾ أي : الدالة على ذلك ﴿ خلق السماوات ﴾ على علوها وإحكامها ﴿ والأرض ﴾ على اتساعها وإتقانها، وقدّم السماء على الأرض لأنّ السماء كالذكر لها. ولما أشار إلى دلائل الأنفس والآفاق ذكر ما هو من صفات الأنفس بقوله تعالى :﴿ واختلاف ألسنتكم ﴾ أي : لغاتكم من العربية والعجمية وغيرهما، ونغماتكم وهيآتها، فلا تكاد تسمع منطقين متفقين في همس ولا جهارة ولا شدّة ولا رخاوة ولا لكنة ولا فصاحة ولا غير ذلك من صفات النطق وأشكاله وأنتم من نفس واحدة ﴿ و ﴾ اختلاف ﴿ ألوانكم ﴾ من أبيض وأسود وأشقر وأسمر وغير ذلك من اختلاف الألوان وأنتم بنو رجل واحد وهو آدم عليه السلام، والحكمة في ذلك : أنّ الإنسان يحتاج إلى التمييز بين الأشخاص ليعرف صاحب الحق من غيره والعدو من الصديق ليحترز قبل وصول العدو إليه، وليقبل على الصديق قبل أن يفوته الإقبال عليه، وذلك قد يكون بالبصر فخلق اختلاف الصور، وقد يكون بالسمع فخلق اختلاف الأصوات، وأما اللمس والشم والذوق فلا يفيد فائدة في معرفة العدو والصديق فلا يقع التمييز بين كل واحد بشكله وحليته وصورته، ولو اتفقت الصور والأصوات وتشاكلت وكانت ضرباً واحداً لوقع التجاهل والالتباس ولتعطلت مصالح كثيرة وربما رأيت توأمين يشتبهان في الحلية فيروك الخطأ في التمييز بينهما، فسبحان من خلق الخلق على ما أراد وكيف أراد، وفي ذلك آية بينة حيث ولدوا من أب واحد وتفرعوا من أصل فذ وهم على الكثرة التي لا يعلمها إلا الله تعالى مختلفون متفاوتون. ولما كان هذا مع كونه في غاية الوضوح لا يختص بجنس من الخلق دون غيره قال ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم العالي الرتبة في بيانه وظهور برهانه ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات واضحات جداً على وحدانيته تعالى ﴿ للعالمين ﴾ أي : ذوي العقول والعلم لا يختص به صنف منهم دون صنف من جنّ ولا أنس ولا غيرهم، فهذا هو حكمة قوله تعالى هنا للعالمين وفيما تقدّم بقوله تعالى :﴿ لقوم يتفكرون ﴾، ( يونس : ٢٤ ) وقرأ حفص وحده بكسر اللام.
ولما ذكر تعالى بعض العرضيات اللازمة وهو الاختلاف ذكر الأعراض المفارقة ومن جملتها النوم بالليل والحركة في النهار طلباً للرزق كما قال تعالى :﴿ ومن آياته ﴾ الدالة على القدرة والعلم ﴿ منامكم ﴾ أي : نومكم ومكانه وزمانه الذي يغلبكم بحيث لا تستطيعون له دفعاً ﴿ بالليل والنهار ﴾ قيلولة ﴿ وابتغاؤكم من فضله ﴾ أي : منامكم في الزمانين لاستراحة القوى النفسانية وقوة القوى الطبيعية، وطلب معاشكم فيهما فإن كثيراً ما يكسب الإنسان بالليل، أو منامكم بالليل وابتغاؤكم بالنهار خلف، وضم بين الزمانين والفعلين بعاطفين وهما الواوان إشعاراً بأنّ كلاًّ من الزمانين وإن اختص بأحدهما فهو صالح للآخر عند الحاجة، ويؤيده آيات أخر كقوله تعالى ﴿ وجعلنا الليل لباساً ( ١٠ ) وجعلنا النهار معاشاً ﴾ ( النبأ : ١٠ ١١ ) وقوله تعالى :﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾ ( الإسراء : ١٢ ) ويكون التقدير هكذا : ومن آياته منامكم وابتغاؤكم بالليل والنهار من فضله. وأخر الابتغاء وقرنه في اللفظ بالفضل إشارة إلى أن العبد ينبغي أن لا يرى الرزق من كسبه وبحذقه بل من فضل ربه. ولهذا قرن الابتغاء بالفضل في كثير من المواضع منها قوله تعالى ﴿ فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله ﴾ ( الجمعة : ١٠ ) وقوله تعالى ﴿ ولتبتغوا من فضله ﴾.
تنبيه : قدم الله تعالى المنام بالليل على الابتغاء بالنهار في الذكر لأنّ الاستراحة مطلوبة لذاتها والطلب لا يكون إلا لحاجة، فلا يبتغي إلا محتاج في الحال أو خائف من المآل ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم العلي الرتبة من إيجاد النوم بعد النشاط والنشاط بعد النوم الذي هو الموت الأصغر وإيجاد كل من الملوين بعد إعدامهما، والجد في الابتغاء بعد المفارقة في التحصيل ﴿ لآيات ﴾ عديدة على القدرة والعلم لا سيما البعث ﴿ لقوم يسمعون ﴾ أي : من الدعاة والنصاح سماع تفهم واستبصار فإنّ الحكمة فيه ظاهرة.
تنبيه : قال هنا ﴿ آيات لقوم يسمعون ﴾ وقال تعالى من قبل ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ وقال تعالى ﴿ للعالمين ﴾ لأنّ المنام بالليل والابتغاء يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله تعالى، فلم يقل آيات للعالمين، ولأن الأمرين الأولين وهما اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم، والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة، فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدوام الإنسان فجعلهما آيات عليه، وأما قوله تعالى ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر. ومنها ما يكفي فيه مجرّد الفكرة، ومنها ما يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى أمثال حسية كالأشكال الهندسية لأنّ خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية، وأمّا المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد وقد يحتاج إلى مرشد معين لفكره فقال ﴿ لقوم يسمعون ﴾ ويجعلون بالهم من كلام المرشد.
ولما ذكر تعالى العرضيات اللازمة للأنفس والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق بقوله تعالى :﴿ ومن آياته ﴾ الدالة على عظيم قدرته ﴿ يريكم البرق ﴾ أي : إراءتكم له على هيئآت وكيفيات طال ما شاهدتموها تارة تأتي بما يضر وتارة بما يسر كما قال تعالى ﴿ خوفاً ﴾ أي : للإخافة من الصواعق المحرقة ﴿ وطمعاً ﴾ أي : وللإطماع في المياه العذبة ﴿ وينزل من السماء ماء ﴾ أي : الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ﴿ فيحيي به ﴾ أي : بذلك الماء خاصة لأنّ أكثر الأرض لا يسقى بغيره ﴿ الأرض ﴾ أي : بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان ﴿ بعد موتها ﴾ أي : يبسها ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم العالي القدر ﴿ لآيات ﴾ لاسيما على القدرة على البعث ﴿ لقوم يعقلون ﴾ أي : يتدبرون فيستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكوّنها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع.
تنبيه : كما قدّم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء، وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة، وهي أنّ البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال فيستعد له، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء، أو زرع يسوي مجاري الماء وأيضاً أهل البوادي لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب.
واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمقيمين في البلاد فهي ظاهرة للبادين، فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا ﴿ آيات لقوم يعقلون ﴾ وفيما تقدم ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ ؟ أجيب : بأنه لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أنّ ذلك بالطبيعة لأنّ المطرد أقوى إلى الطبيعة من المختلف، والبرق والمطر ليس أمراً مطرداً غير مختلف بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة، وفي وقت دون وقت، وتارة يكون قوياً وتارة يكون ضعيفاً، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هو آية لمن كان له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً.
ثم ذكر تعالى من لوازم السماء والأرض قيامهما بقوله تعالى :﴿ ومن آياته ﴾ أي : على تمام القدرة وكمال الحكمة ﴿ أن تقوم السماء والأرض بأمره ﴾ قال ابن مسعود، قامتا على غير عمد بأمره أي : بإرادته، فإنّ الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد وهذا من اللوازم، فإنّ الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه، وإنما أفرد السماء والأرض لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى لا تقبل النزاع ؛ لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ بالكل لأنه جنس.
تنبيه : ذكر تعالى من كل باب أمرين أما من الأنفس فقوله تعالى ﴿ خلقكم ﴾ ﴿ وخلق لكم ﴾ واستدل بخلق الزوجين، ومن الآفاق السماء والأرض فقال تعالى ﴿ خلق السماوات والأرض ﴾ ( الروم : ٢٢ ) ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البرق والأمطار، ومن لوازمهما قيام السماء والأرض ؛ لأنّ الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني يفيد الاستقرار، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين، فإنّ قول أحدهما يفيد الظنّ وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليه السلام ﴿ بلى ولكن ليطمئن قلبي ﴾ ( البقرة : ٢٦٠ ). فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى هنا ﴿ ومن آياته أن تقوم ﴾ ( الروم : ٢٥ ) وقال تعالى قبله ﴿ ومن آياته يريكم البرق ﴾ ( الروم : ٢٤ ) ولم يقل أن يريكم ليصير كالمصدر بأن ؟ أجيب : بأنّ القيام لما كان غير معتبر أخرج الفعل بأن عن الفعل المستقبل ولم يذكر معه الحروف المصدرية، فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ذكر ست دلائل وذكر في أربع منها ﴿ إنّ في ذلك لآيات ﴾ ولم يذكر في الأوّل وهو قوله تعالى ﴿ ومن آياته أن خلقكم من تراب ﴾ ولا في الآخر وهو قوله ﴿ من آياته أن تقوم السماء والأرض ﴾ ( الروم : ٢٥ ) ؟ أجيب : عن ذلك : أما عن الأوّل فلأنّ قوله بعده ﴿ ومن آياته أن خلق لكم ﴾ ( الروم : ٢١ ) أيضاً دليل الأنفس فخلق الأنفس، وخلق الأزواج من باب واحد على ما تقدّم من أنه تعالى ذكر من كل باب أمرين للتقرير والتوكيد، فلما قال في الثانية إنّ في ذلك لآيات كان عائداً إليهما، وأمّا في قيام السماء والأرض فلأنه ذكر في الآيات السماوية أنها آيات للعالمين ولقوم يعقلون وذلك لظهورها، فلما كان في أوّل الأمر ظاهراً ففي آخر الأمر بعد سرد الأدلة يكون أظهر فلم يميز أحداً في ذلك عن الآخر، ثم إنه تعالى لما ذكر الدليل على القدرة والتوحيد ذكر مدلوله وهو قدرته على الإعادة بقوله تعالى :﴿ ثم إذا دعاكم ﴾ وأشار إلى هوان ذلك القول عنده بقوله عز وجل ﴿ دعوة ﴾ أي : واحدة ﴿ من الأرض ﴾ بأن ينفخ إسرافيل في الصور للبعث من القبور فيها فيقول : أيها الموتى اخرجوا ﴿ إذا أنتم تخرجون ﴾ أي : منها أحياء بعد اضمحلالكم بالموت والبلا فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلا قامت تنظر كما قال تعالى ﴿ ثم نُفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ﴾ ( الزمر : ٦٨ ) فإن قيل : بم يتعلق من الأرض بالفعل أم بالمصدر ؟ أجيب : بهيهات إذا جاء نهر الله وهو الفعل بطل نهر معقل وهو المصدر، وثم إما لتراخي زمانه أو لعظم ما فيه. فإن قيل : ما الفرق بين إذا وإذا ؟ أجيب : بأنّ الأولى للشرط والثانية للمفاجأة وهي تنوب مناب الفاء في جواب الشرط، ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.
تنبيه : قال ههنا : إذا أنتم تخرجون وقال تعالى في خلق الإنسان أوّلاً ثم إذا أنتم بشر تنتشرون، لأنّ هناك يكون خلق وتقدير وتدريج حتى يصير التراب قابلاً للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر، وأمّا في الإعادة فلا يكون تدريج وتراخ بل يكون بدء خروج فلم يقل ههنا ثم.
ولما ذكر تعالى الآيات التي تدلّ على القدرة على الحشر الذي هو الأصل الآخر والوحدانية التي هي الأصل الأوّل أشار إليهما بقوله تعالى :﴿ وله من في السماوات والأرض ﴾ ملكاً وخلقاً ﴿ كل له قانتون ﴾ قال ابن عباس : كل له مطيعون في الحياة والفناء والموت والبعث وإن عصوا في العبادة، وقال الكلبي : هذا خاص بمن كان منهم مطيعاً، ونفس السماوات والأرضين له وملكه فكل له منقادون، فلا شريك له أصلاً.
ثم ذكر المدلول الآخر بقوله تعالى :﴿ وهو الذي يبدأ الخلق ﴾ أي : على سبيل التجديد كما تشاهدون، وأشار إلى تعظيم الإعادة بأداة التراخي فقال ﴿ ثم يعيده ﴾ أي : بعد الموت للبعث. وفي قوله تعالى ﴿ وهو أهون عليه ﴾ قولان أحدهما : أنها للتفضيل على بابها، وعلى هذا يقال : كيف يتصوّر التفضيل والإعادة والبداءة بالنسبة إلى الله تعالى على حدّ سواء ؟ وفي ذلك أجوبة أحدها : إنّ ذلك بالنسبة إلى اعتقاد البشر باعتبار المشاهدة من أنّ إعادة الشيء أهون من اختراعه لاحتياج الابتداء إلى إعمال فكر غالباً وإن كان هذا منتفياً عن الباري سبحانه وتعالى، فخوطبوا بحسب ما ألفوه. ثانيها : أنّ الضمير في عليه ليس عائداً على الله تعالى إنما يعود على الخلق أي : والعود أهون على الخلق أي : أسرع ؛ لأنّ البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن صارت إنساناً، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات فكأنه قيل : وهو أقصر عليه وأيسر وأقل انتقالاً، والمعنى : يقومون بصيحة واحدة فيكون أهون عليهم يعني : أن يقوموا نطفاً ثم علقاً ثم مضغاً إلى أن يصيروا رجالاً ونساء، وهي رواية الكلبيّ عن أبي صالح عن ابن عباس. ثالثها : أنّ الضمير في عليه يعود على المخلوق بمعنى : والإعادة أهون على المخلوق أي : إعادته شيئاً بعدما أنشأه، هذا في عرف المخلوقين فكيف ينكرون ذلك في جانب الله تعالى والثاني : أنّ أهون ليس للتفضيل بل هي صيغة بمعنى هين كقولهم : الله أكبر أي : كبير، وهي رواية العوفيّ عن ابن عباس، وقد يجيء أفعل بمعنى الفاعل كقول الفرزدق :
إنّ الذي سمك السماء بنى لنا بيتاً دعائمه أعز وأطول
أي : عزيزة طويلة وعود الضمير على الباري تعالى أولى ليوافق الضمير في قوله تعالى ﴿ وله المثل ﴾ أي : الوصف العجيب الشأن كالقدرة العامّة والحكمة الشاملة. قال ابن عباس : هو أنه ليس كمثله شيء، وقال قتادة : هو أنه لا إله إلا هو، قال البيضاوي : ومن فسره بلا إله إلا الله أراد به الوصف بالوحدانية ﴿ الأعلى ﴾ أي : الذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه.
ولما كان الخلق لقصورهم مقيدين بما لهم به نوع مشاهدة قال ﴿ في السماوات والأرض ﴾ أي : اللتين خلقهما ولم يستعصيا عليه فكيف يستعصي عليه شيء فيهما ﴿ وهو ﴾ أي : وحده ﴿ العزيز ﴾ أي : الذي إذا أراد شيئاً كان له في غاية الانقياد كائناً ما كان ﴿ الحكيم ﴾ أي : الذي إذا أراد شيئاً أتقنه فلم يقدر غيره إلى التوصل إلى بعض شيء منه، ولا تتمّ حكمة هذا الكون على هذه الصورة إلا بالبعث بل هي الحكمة العظمى ليصل كل ذي حق إلى حقه بأقصى التحرير.
ولما أبان من هذا أنه تعالى المنفرد بالملك بشمول العلم وتمام القدرة وكمال الحكمة اتصل بحسن أمثاله وإحكام مقاله وفعاله قوله تعالى :﴿ ضرب ﴾ أي : جعل ﴿ لكم ﴾ بحكمته أيها المشركون في أمر الأصنام وبيان الإبطال من يشرك بها وفساد قوله بأجلى ما يكون من التقرير ﴿ مثلاً ﴾ مبتدأ ﴿ من أنفسكم ﴾ التي هي أقرب الأشياء إليكم، ثم بين المثل بقوله تعالى :﴿ هل لكم ﴾ أي : يا من عبدوا مع الله غيره ﴿ مما ﴾ أي : من بعض ما ﴿ ملكت أيمانكم ﴾ أي : من العبيد والإماء الذين هم بشر مثلكم وعمم في النفي الذي هو المراد بالاستفهام بزيادة الجار بقوله تعالى :﴿ من شركاء ﴾ أي : في حالة من الحالات يسوغ لكم بذلك أن تجعلوا لله شركاء ﴿ في ما رزقناكم ﴾ من الأموال وغيرها مع ضعف ملككم فيه فائدة ﴿ في ﴾ مقطوعة عن ﴿ ما ﴾ ﴿ فأنتم ﴾ أي : يا معاشر الأحرار والعبيد ﴿ فيه ﴾ أي : الشيء الذي وقعت فيه الشركة ﴿ سواء ﴾ فيكون أنتم وهم شركاء يتصرّفون فيه كتصرّفكم مع أنهم بشر مثلكم. فإن قيل : أيُّ : فرق بين مِنْ الأولى والثانية والثالثة في قوله تعالى من أنفسكم ؟ أجيب : بأن الأولى : للابتداء كأنه قال : أخذ مثلاً وانتزعه من أقرب شيء منكم وهي من أنفسكم ولم يبعد، والثانية : للتبعيض، والثالثة : مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي، ثم بين المساواة بقوله تعالى :﴿ تخافونهم ﴾ أي : معاشر السادة في التصرّف في ذلك الشيء المشترك ﴿ كخيفتكم أنفسكم ﴾ أي : كما تخافون بعض من تشاركونه ممن يساويكم في الحرية والعظمة أن تتصرّفوا في الأمر المشترك بشيء لا يرضيه وبدون إذنه، وظهر أنّ حالكم في عبيدكم مثل له فيما أشركتموهم به موضح لبطلانه، فإذا لم ترضوا هذا لأنفسكم وهو أن تستوي عبيدكم معكم في الملك فكيف ترضونه لخالقكم في هذه الشركاء التي زعمتموها فتسوّونها به وهي من أضعف خلقه أفلا تستحيون ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا التفصيل العالي ﴿ نفصل الآيات ﴾ أي : نبينها، فإنّ التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها ﴿ لقوم يعقلون ﴾ أي : يتدبرون هذه الدلائل بعقولهم، والأمر لا يخفى بعد ذلك إلا على من لا عقل له.
﴿ بل اتبع الذين ظلموا ﴾ أي : أشركوا فإنهم وضعوا الشيء في غير موضعه. فعل الماشي في الظلام ﴿ أهواءهم ﴾ وهي ما تميل إليه نفوسهم ﴿ بغير علم ﴾ أي : جاهلين لا يكفهم، شيء فإن العالم إذا اتبع هواه ربما ردعه علمه، ثم بين تعالى أنّ ذلك بإرادته بقوله تعالى :﴿ فمن يهدي من أضل الله ﴾ أي : الذي له الأمر كله أي : لا يقدر أحد على هدايته ﴿ وما لهم من ناصرين ﴾ أي : مانعين يمنعونهم من عذاب الله لا من الأصنام ولا من غيرها.
ولما تحرّرت الأدلة وانتصبت الأعلام أقبل تعالى على خلاصة خلقه إيذاناً بأنه لا يفهم ذلك حق فهمه غيره بقوله سبحانه :﴿ فأقم وجهك ﴾ أي : قصدك كله ﴿ للدين ﴾ أي : أخلص دينك لله قاله سعيد بن جبير، وقال غيره : سدّد عملك، والوجه ما يتوجه إليه، وقيل : أقبل بكلك على الدين، عبر بالوجه عن الذات كقوله تعالى ﴿ كل شيء هالك إلا وجهه ﴾ ( القصص : ٨٨ ) أي : ذاته بصفاته. وقوله تعالى ﴿ حنيفاً ﴾ حال من فاعل أقم أو مفعوله أو من الدين، ومعنى حنيفاً أي : مائلاً إليه مستقيماً عليه ومل عن كل شيء لا يكون في قلبك شيء آخر، وهذا قريب من معنى قوله تعالى ﴿ ولا تكوننّ من المشركين ﴾ ( الأنعام، ١٤ ) وقوله تعالى ﴿ فطرت الله ﴾ أي : خلقته منصوب على الإغراء أو المصدر بما دلّ عليه ما بعدها وهي بتاء مجرورة، وقف عليها ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، ثم أكد ذلك بقوله تعالى :﴿ التي فطر الناس ﴾ قال ابن عباس : خلق الناس ﴿ عليها ﴾ وهو دينه وهو التوحيد. قال صلى الله عليه وسلم :«ما من مولود إلا وهو يولد على الفطرة وإنما أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه » فقوله على الفطرة على العهد الذي أخذه عليهم بقوله تعالى :﴿ ألست بربكم قالوا بلى ﴾ ( الأعراف : ١٧٢ ) وكل مولود في العالم على ذلك الإقرار وهي الحنيفية التي وقعت الخلقة عليها، وإن عبد غيره قال الله تعالى ﴿ ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولنّ الله ﴾ ( لقمان : ٢٥ ) وقال ﴿ ما نعبدهم إلا ليقرّبونا إلى الله زلفى ﴾ ( الزمر : ٣ ) ولكن لا عبرة بالإيمان الفطريّ في أحكام الدنيا وإنما يعتبر الإيمان الشرعيّ المأمور به، وهذا قول ابن عباس وجماعة من المفسرين، وقيل : الآية مخصوصة بالمؤمنين وهم الذين فطرهم الله تعالى على الإسلام، روي عن عبد الله بن المبارك قال : معنى الحديث : أن كل مولود يولد على فطرته أي : على خلقته التي جبل عليها في علم الله من السعادة والشقاء، وكل منهم صائر في العاقبة إلى ما فطر عليه وعامل في الدنيا بالعمل المشاكل لها، فمن علامات الشقاوة أن يولد بين يهوديين أو نصرانيين فيحملانه لشقائه على اعتقاده دينهما، وقيل : معنى الحديث : أنّ كل مولود يولد في مبدأ الفطرة على الخلقة أي : الجبلة السليمة والطبع المتهيء لقبول الدين، فلو ترك عليها لاستمرّ على لزومها ؛ لأنّ هذا الدين موجود حُسنه في العقول وإنما يعدل عنه من يعدل إلى غيره لآفة من النشوء والتقليد، فمن يسلم من تلك الآفات لم يعتقد غيره. ذكر هذه المعاني أبو سليمان الخطابي في كتابه.
ولما كانت سلامة الفطرة أمراً مستمرّاً قال تعالى :﴿ لا تبديل لخلق الله ﴾ أي : الملك الأعلى الذي لا كفء له فلا يقدر أحد أن يغيره، فمن حمل الفطرة على الدين قال معناه : لا تبديل لدين الله، فهو خبر بمعنى النهي أي : لا تبدّلوا دين الله. قاله مجاهد وإبراهيم. والمعنى : الزموا فطرة الله أي : دين الله واتبعوه ولا تبدّلوا التوحيد بالشرك، ومن حملها على الخلقة قال : معناه لا تبديل لخلق الله أي : ما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة، فلا يصير السعيد شقياً ولا الشقي سعيداً، وقال عكرمة : معناه تحريم إخصاء البهائم أي : في غير المأكول وفي المأكول الكبير، أمّا المأكول الصغير فإنه يجوز، ويلحق بالخصي المحرّم كل تغيير محرّم كالوشم ﴿ ذلك ﴾ أي : الشأن العظيم ﴿ الدين القيم ﴾ أي : المستقيم الذي لا عوج فيه توحيد الله تعالى ﴿ ولكن أكثر الناس لا يعلمون ﴾ أن ذلك هو الدين المستقيم لعدم تدبرهم.
وقوله تعالى :﴿ منيبين ﴾ أي : راجعين ﴿ إليه ﴾ تعالى فيما أمر به ونهى عنه حال من فاعل أقم، قال الزمخشريّ : فإن قلت : لم وحدّ الخطاب أوّلاً ثم جمع ؟ قلت : خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوّلاً، وخطاب الرسول خطاب لأمّته مع ما فيه من التعظيم للإمام، ثم جمع بعد ذلك للبيان والتلخيص ﴿ واتقوه ﴾ أي : خافوه فإنكم وإن عبدتموه فلا تأمنوا أن تزيغوا عن سبيله ﴿ وأقيموا الصلاة ﴾ أي : داوموا عليها وعلى أدائها في أوقاتها ﴿ ولا تكونوا من المشركين ﴾ أي : لا تكونوا ممن يدخل في عدادهم بمواددةٍ أو معاشرةٍ أو عملٍ تشابهونهم فيه، فإنه من تشبه بقوم فهو منهم، وهو عامّ في كل مشرك سواء كان بعبادة صنمٍ أو نارٍ أو غير ذلك.
وقوله تعالى ﴿ من الذين ﴾ بدل من المشركين بإعادة الجار ﴿ فرّقوا دينهم ﴾ أي : الذي هو الفطرة الأولى، فعبد كل قوم منهم شيئاً ودانوا ديناً غير دين مَن سواهم وهو معنى ﴿ وكانوا شيعاً ﴾ أي : فرقاً متخالفين كل واحدة منهم تتشايع من دان بدينها على من خالفهم حتى كفّر بعضهم بعضاً واستباحوا الدماء والأموال، فعلم قطعاً أنهم كلهم ليسوا على الحق، وقرأ حمزة والكسائي بألف بعد الفاء وتخفيف الراء، والباقون بغير ألف وتشديد الراء، فعلى القراءة الأولى فارقوا أي : تركوا دينهم الذي أمروا به.
ولما كان هذا أمر يتعجب من وقوعه زاده عجباً بقوله تعالى : استئنافاً ﴿ كل حزب ﴾ أي : منهم ﴿ بما لديهم ﴾ أي : عندهم ﴿ فرحون ﴾ أي : مسرورون ظناً منهم أنهم صادفوا الحق وفازوا به دون غيرهم.
ولما بين تعالى التوحيد بالدليل وبالمثل بين أنّ لهم حالة يعترفون بها وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدّة بقوله تعالى :
ولما بين تعالى التوحيد بالدليل وبالمثل بين أنّ لهم حالة يعترفون بها وإن كانوا ينكرونها في وقت وهي حالة الشدّة بقوله تعالى :﴿ وإذا مس الناس ضرّ ﴾ أي : قحط وشدّة ﴿ دعوا ربهم ﴾ أي : الذي لم يشركه في الإحسان إليهم أحد ﴿ منيبين ﴾ أي : راجعين من جميع ضلالاتهم ﴿ إليه ﴾ أي : دون غيره علماً منهم بأنه لا فرج لهم عند شيء غيره، قال الرازي : في اللوامع في أواخر العنكبوت : وهذا دليل على أنّ معرفة الرب في فطرة كل إنسان وأنهم إن غفلوا في السرّاء فلا شك أنهم يلوذون إليه في حال الضرّاء ﴿ ثم إذا أذاقهم منه رحمة ﴾ أي : خلاصاً من ذلك الضرّ ﴿ إذا فريق منهم بربهم ﴾ أي : المحسن إليهم دائماً المجدّد لهم هذا الإحسان من هذا الضر ﴿ يشركون ﴾ أي : فاجأ فريق منهم الإشراك بربهم الذي عافاهم، فإذا الفجائية وقعت جواب الشرط ؛ لأنها كالفاء في أنها للتعقيب، ولا تقع أوّل كلام، وقد تجامعها الفاء زائدة، فإن قيل : ما الحكمة في قوله ههنا إذا فريق منهم وقال في العنكبوت ﴿ فلما نجّاهم إلى البرّ إذا هم يشركون ﴾ ( العنكبوت : ٦٥ ) ولم يقل فريق ؟ أجيب : بأنّ المذكور هناك غير معين وهو ما يكون من هول البحر، والمتخلص منه بالنسبة إلى الخلق قليل، والذي لا يشرك منهم بعد الخلاص فرقة منهم فهم في غاية القلة، فلم يجعل المشركين فريقاً لقلة مَنْ خرج من الشرك، وأمّا المذكور ههنا الضرّ مطلقاً فيتناول ضرّ البحر والأمراض والأهوال، والمتخلص من أنواع الضرّ خلق كثير بل جميع الناس قد يكونون قد وقعوا في ضرّ ما فتخلصوا منه، والذي لا يبقى بعد الخلاص مشركاً من جميع الأنواع إذا جمع فهم خلق عظيم وهو جميع المسلمين، فإنهم تخلصوا من ضرّ ولم يبقوا مشركين، وأمّا المسلمون فلم يتخلصوا من ضرّ البحر بأجمعهم، فلما كان الناجي من الضرّ المؤمن جمعاً كثيراً سُمّي الباقي فريقاً.
وقوله تعالى :﴿ ليكفروا بما آتيناهم ﴾ يجوز أن تكون اللام فيه لام كي وأن تكون لام الأمر، ومعناه التهديد كقوله تعالى ﴿ اعملوا ما شئتم ﴾ ( فصلت، ٤٠ ) ثم خاطب هؤلاء الذين فعلوا هذا خطاب تهديد بقوله تعالى :﴿ فتمتعوا فسوف تعلمون ﴾ عاقبة تمتعكم في الآخرة وفي هذا التفات من الغيبة.
﴿ أم أنزلنا عليهم سلطاناً ﴾ أي : دليلاً واضحاً قاهراً أو ذا سلطان أي : ملك معه برهان، فقوله تعالى ﴿ فهو يتكلم ﴾ على الأوّل كلاماً مجازياً وعلى الثاني كلاماً حقيقياً، وعلى كلا الحالين هو جواب للاستفهام الذي تضمنته أم المنقطعة ﴿ بما ﴾ أي : بصحة ما ﴿ كانوا به يشركون ﴾ أي : فيأمرهم بالإشراك بحيث لا يجدوا بداً من متابعته لتزول عنهم الملامة، وهذا الاستفهام بمعنى الإنكار أي : ما أنزلنا بما يقولون سلطاناً، قال ابن عباس : حجة وعذراً، وقال قتادة : كتاباً يتكلم بما كانوا به يشركون أي : ينطق بشركهم.
ولما بين تعالى حال المشرك الظاهر شركه بيّن تعالى حال المشرك الذي دونه وهو مَنْ تكون عبادته للدنيا بقوله تعالى :﴿ وإذا ﴾ معبراً بأداء التحقيق إشارة إلى أنّ الرحمة أكثر من النقمة، وأسند الفعل إليه في مقام العظمة إشارة إلى سعة جوده فقال ﴿ أذقنا الناس رحمة ﴾ أي : نعمة من خصب وكثرة مطر وغنى ونحوه لا سبب لها إلا رحمتنا ﴿ فرحوا بها ﴾ أي : فرح بطر مطمئنين من زوالها ناسين شكر من أنعم بها، ولا ينبغي أن يكون العبد كذلك. فإن قيل : الفرح بالرحمة مأمور به قال تعالى :﴿ بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا ﴾ ( يونس، ٥٨ ) وههنا ذمّهم على الفرح بالرحمة ؟ أجيب : بأنه هناك فرحوا برحمة الله من حيث إنها مضافة إلى الله وههنا فرحوا بنفس الرحمة حتى لو كان المطر من غير الله لكان فرحهم به مثل فرحهم إذا كان من الله تعالى ﴿ وإن تصبهم سيئة ﴾ أي : شدّة من جدب وقلة مطر وفقر ونحوه ﴿ بما قدّمت أيديهم ﴾ من السيئات ﴿ إذا هم يقنطون ﴾ أي : ييأسون من رحمة الله وهذا خلاف وصف المؤمنين فإنهم يشكرونه عند النعمة ويرجونه عند الشدّة، وقرأ أبو عمرو والكسائي بكسر النون بعد القاف، والباقون بالفتح.
﴿ أو لم يروا ﴾ أي : يعلموا ﴿ أن الله يبسط الرزق ﴾ أي : يوسعه ﴿ لمن يشاء ﴾ امتحاناً ﴿ ويقدر ﴾ أي : يضيق لمن يشاء ابتلاء، وهذا شأنه دائماً مع الشخص الواحد في أوقات متعاقبة متباعدة ومتقاربة ومع الأشخاص ولو في الوقت الواحد، فلو اعتبروا حال قبضه سبحانه لم يبطروا، ولو اعتبروا حال بسطه لم يقنطوا بل كان حالهم الصبر في البلاء، والشكر في الرخاء، والإقلاع عن السيئة التي نزل بسببها القضاء.
ولما لم تغن عن أحد منهم في استجلاب الرزق قوّته وغزارة عقله ودقة مكره وكثرة حيله، ولا ضرّه ضعفه وقلة عقله وعجز حيلته وكان ذلك أمراً عظيماً ومنزعاً مع شدّة ظهوره وجلالته خفياً دقيقاً قال بعضهم :
كم عاقل عاقل أعيت مذاهبه وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
أشار سبحانه إلى عظمته بقوله مؤكداً لأنّ عملهم في شدّة اهتمامهم بالسعي في الدنيا عمل مَنْ يظنّ أنّ تحصيله إنما هو على قدر الاجتهاد في الأسباب ﴿ إن في ذلك ﴾ أي : الأمر العظيم من الإقتار في وقت والإغناء في آخر والتوسيع على شخص والتقتير على آخر، والأمن من زوال الحاضر من النعم مع تكرّر المشاهد للزوال في النفس والغير واليأس من حصولها عند المحنة مع كثرة وجدان الفرج وغير ذلك من أسرار آلائه ﴿ لآيات ﴾ أي : دلالات واضحات على الوحدانية لله تعالى وتمام العلم وكمال القدرة وأنه لا فاعل في الحقيقة إلا هو لكن ﴿ لقوم ﴾ أي : ذوي همم وكفاية القيام بما يحق لهم أن يقوموا به ﴿ يؤمنون ﴾ أي : يوجدون هذا الوصف ويديمون تجديده كل وقت لما يتواصل عندهم من قيام الأدلة بإدامة التأمّل والإمعان والتفكر والاعتماد في الرزق على من قال ﴿ ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مُدّكر ﴾ ( القمر : ١٧ )
أي : من طالب علم فيعان عليه، فلا يفرحون بالنعم إذا حصلت خوفاً من زوالها إذا أراد القادر ذلك، ولا يغتمون بها إذا زالت رجاء في إقبالها فضلاً من الرازق ؛ لأنّ أفضل العبادة انتظار الفرج بل همهم بما عليهم من وظائف العبادة واجبها ومندوبها، ومعرضون عما سوى ذلك قد وكلوا أمر الرزق إلى من تولى أمره وفرغ من قسمه وقام بضمانه وهو القدير العليم.
ولما أفهم ذلك عدم الاكتراث بالدنيا لأنّ الاكتراث بها لا يزيدها، والتهاون بها لا ينقصها قال تعالى مخاطباً لأعظم المتأهلين لتنفيذ أوامره :﴿ فآت ﴾ يا خير الخلق ﴿ ذا القربى ﴾ أي : القرابة ﴿ حقه ﴾ أي : من البرّ والصلة ؛ لأنه أحق الناس بالبر وصلة الرحم جوداً وكرماً ﴿ والمسكين ﴾ سواء كان ذا قرابة أم لا ﴿ وابن السبيل ﴾ وهو المسافر كذلك من الصدقة، وأمّة النبيّ صلى الله عليه وسلم تبع له في ذلك.
تنبيه : عدم ذكر بقية الأصناف يدلّ على أنّ ذلك في صدقة التطوّع، ودخل الفقير من باب أولى لأنه أسوأ حالاً من المسكين، فإن قيل : كيف تعلق قوله تعالى ﴿ فآت ذا القربى حقه ﴾ بما قبله حتى جيء بالفاء ؟ أجيب : بأنه لما ذكر أنّ السيئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل وما يجب أن يترك، وقد احتج أبو حنيفة بهذه الآية في وجوب النفقة للمحارم إذا كانوا محتاجين عاجزين عن الكسب، وعند الشافعي رضي الله عنه لا نفقة بالقرابة إلا على الولد والوالدين. قاس سائر القرابة على ابن العمّ ؛ لأنه لا ولادة بينهم.
ولما أمر بالإيثار رغب فيه بقوله تعالى :﴿ ذلك ﴾ أي : الإيثار العالي الرتبة ﴿ خير للذين يريدون وجه الله ﴾ أي : ذاته أو جهته وجانبه أي : يقصدون بمعروفهم إياه خالصاً لوجهه كقوله تعالى ﴿ إلا ابتغاء وجه ربه الاعلى ﴾ ( الليل، ٢٠ ) أي : يقصدون جهة التقرّب إلى الله تعالى لا جهة أخرى، والمعنيان متقاربان ولكن الطريقة مختلفة ﴿ وأولئك ﴾ أي : العالو الرتبة لغناهم عن كل فان ﴿ هم المفلحون ﴾ أي : الفائزون الذين لا يشوب فلاحهم شيء، وأمّا غيرهم فخائب : أمّا من لم ينفق فواضح.
وأما من أنفق على وجه الرياء فقد خسر ماله وأبقى عليه وباله كما قال تعالى :﴿ وما آتيتم من ربا ﴾ أي : مال على وجه الربا المحرّم بزيادة في المعاملة أو المكروه بعطية يتوقع بها مزيد مكافأة، وكان هذا مما حرم على النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى ﴿ ولا تمنن تستكثر ﴾ ( المدثر : ٦ ) أي : لا تعط وتطلب أكثر مما أعطيته تشريفاً له، وكره لعامّة الناس فسمي باسم المطلوب من الزيادة في المعاملة فالربا ربوان : فالحرام : كل قرض يؤخذ فيه أكثر منه أو يجرّ منفعة، والذي ليس بحرام أن يستدعي بهديته أو بهبته أكثر منها، وقرأ ابن كثير بقصر الهمزة بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا، والباقون بمدّها ﴿ ليربو ﴾ أي : يزيد ويكثر ذلك ﴿ في أموال الناس ﴾ أي : يحصل فيه زيادة تكون أموال الناس ظرفاً لها فهو كناية عن أنّ الزيادة التي يأخذها المرابي من أموالهم لا يملكها أصلاً، وقرأ نافع بتاء الخطاب بعد اللام مضمومة وسكون الواو، والباقون بالياء التحتية مفتوحة وفتح الواو ﴿ فلا يربو ﴾ أي : يزكوا وينموا فلا ثواب فيه ﴿ عند الله ﴾ أي : الملك الأعلى الذي له الغنى المطلق وصفات الكمال، وكل ما لا يربو عند الله فهو ممحوق لا وجود له فمآله إلى فناء وإن كثر ﴿ يمحق الله الربا ويربي الصدقات ﴾ ( البقرة : ٢٧٦ ) ولما ذكر ما زيادته نقص أتبعه ما نقصه زيادة بقوله ﴿ وما آتيتم ﴾ أي : أعطيتم ﴿ من زكاة ﴾ أي : صدقة، وعبر عنها بذلك ليفيد الطهارة والزيادة أي : تطهرون بها أموالكم من الشبه، وأبدانكم من موادّ الخبث، وأخلاقكم من الغلّ والدنس.
ولما كان الإخلاص عزيزاً أشار إلى عظمته بتكريره بقوله عز وجل ﴿ تريدون ﴾ أي : بها ﴿ وجه الله ﴾ أي : عظمة الملك الأعلى، فيعرفون من حقه ما يتلاشى عندهم كل ما سواه فيخلصون له ﴿ فأولئك هم المضعفون ﴾ أي : ذوو الإضعاف الذين ضاعفوا أموالهم في الدنيا بسبب ذلك بالحفظ والبركة، وفي الآخرة بكثرة الثواب عند الله من عشر أمثال إلى ما لا حصر له. ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوّة واليسار
ولما وضح بهذا أنه لا زيادة إلا فيما يزيده الله ولا تخير إلا فيما يختاره الله بين تعالى ذلك بطريق لا أوضح منه بقوله تعالى :﴿ الله ﴾ أي : بعظيم جلاله لا غيره ﴿ الذي خلقكم ﴾ أي : أوجدكم على ما أنتم عليه من التقدير لا تملكون شيئاً ﴿ ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم ﴾ أي : ممن أشركتم بالله ﴿ من يفعل من ذلكم ﴾ مشيراً إلى علوّ رتبته بأداة البعد وخطاب الكل.
ولما كان الاستفهام الإنكاريّ التوبيخي في معنى النفي قال مؤكداً له مستغرقاً لكل ما يمكن منه ولو قلّ جدّاً :﴿ من شيء ﴾ أي : يستحق هذا الوصف الذي تطلقونه عليه. ولما لزمهم قطعاً أن يقولوا : لا وعزتك ما لهم ولا لأحد منهم فعل شيء من ذلك، قال تعالى معرضاً عنهم منزهاً لنفسه الشريفة :﴿ سبحانه ﴾ أي : تنزه تنزهاً لا يحيط به الوصف من أن يكون محتاجاً إلى شريك ﴿ وتعالى ﴾ أي : علوّاً لا تصل إليه العقول ﴿ عما يشركون ﴾ في أن يفعلوا شيئاً من ذلك.
تنبيه : يجوز في خبر الجلالة الكريمة وجهان : أظهرهما : أنه الموصول بعدها، والثاني : أنه الجملة من قوله تعالى ﴿ هل من شركائكم ﴾ والموصول صفة والراجع من ذلكم لأنه بمعنى من أفعاله، ومن الأولى والثانية يفيدان شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال، والثالثة مزيدة لتعميم النفي، فكل منهما مستقلة بتأكيد لتعجيز الشركاء، وقرأ حمزة والكسائي بتاء الخطاب، والباقون بالياء التحتية.
ولما بين لهم تعالى من حقارة شركائهم ما كان حقهم به أن يرجعوا فلم يفعلوا أتبعه ما أصابهم به على غير ما كان في أسلافهم عقوبة لهم على قبيح ما ارتكبوا استعظاماً للتوبة بقوله تعالى :﴿ ظهر الفساد ﴾ أي : النقص في جميع ما ينفع الخلق ﴿ في البر ﴾ بالقحط والخوف وقلة المطر ونحو ذلك ﴿ والبحر ﴾ بالغرق وقلة الفوائد من الصيد ونحوه من كل ما كان يحصل منه. وقلة المطر كما تؤثر في البرّ تؤثر في البحر فتخلوا أجواف الأصداف من اللؤلؤ، وذلك لأنّ الصدف إذا جاء المطر يرتفع على وجه الماء وينفتح فما وقع فيه من المطر صار لؤلؤاً وقالوا : إذا انقطع القطر عميت دوابّ البحر، وقيل : المراد بالبرّ البوادي والمفاوز، وبالبحر المدائن والقرى التي على المياه الجارية، قال عكرمة : العرب تسمي المطر بحراً تقول : أجدب البرّ وانقطعت مادّة البحر، ثم بين سببه بقوله تعالى :﴿ بما كسبت أيدي الناس ﴾ أي : بسبب شؤم ذنوبهم ومعاصيهم كقوله تعالى ﴿ وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ﴾ ( الشورى : ٣٠ ) قال ابن عباس : الفساد في البرّ قتل أحد بني آدم أخاه، وفي البحر غصب الملك الجبار السفينة، قال الضحاك : كانت الأرض خضرة مونقة لا يأتي ابن آدم شجرة إلا وجد عليها ثمرة، وكان ماء البحر عذباً، وكان لا يقصد الأسد البقر والغنم، فلما قتل قابيل هابيل اقشعرّت الأرض وشاكت الأشجار وصار ماء البحر ملحاً زعاقاً، وقصد الحيوانات بعضها بعضا، وقال قتادة : هذا قبل مبعث نبينا صلى الله عليه وسلم امتلأت الأرض ظلماً، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم رجع راجعون من الناس، وقيل : أراد بالناس كفار مكة.
ولما ذكر تعالى علية البدائية ثنى بعلية الجزائية بقوله تعالى :﴿ ليذيقهم بعض الذي عملوا ﴾ كرماً وحلماً ويعفو عن كثير إمّا أصلاً ورأساً، وإمّا عن المعاجلة به، ويؤخره إلى وقت ما في الدنيا أو الآخرة، وقرأ قنبل بالنون بعد اللام، والباقون بالياء التحتية، ثم ثلث بالعلة الغائية بقوله تعالى :﴿ لعلهم يرجعون ﴾ أي : عما هم عليه.
ولما بين تعالى حالهم بظهور الفساد في أحوالهم بسبب فساد أقوالهم بين لهم ضلال أمثالهم وأشكالهم الذين كانت أفعالهم كأفعالهم بقوله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم :﴿ قل ﴾ أي : لهؤلاء الذين لا همّ لهم سوى الدنيا ﴿ سيروا في الأرض ﴾ فإنّ سيركم الماضي لكونه لم تصحبه عبرة عدمٌ ﴿ فانظروا ﴾ نظرَ اعتبار ﴿ كيف كان عاقبة الذين من قبل ﴾ أي : من قبل أيامكم لتروا منازلهم ومساكنهم خالية فتعلموا أنّ الله تعالى أذاقهم وبال أمرهم وأوقعهم في حفائر مكرهم ﴿ كان أكثرهم مشركين ﴾ أي : فلذلك أهلكناهم ولم تغن عنهم كثرتهم وأنجينا المؤمنين وما ضرّتهم قلتهم.
ولما نهى الله تعالى الكفار عما هم عليه أمر المؤمنين بما هم عليه وخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم ليعلم المؤمن فضيلة ما هو مكلف به فإنه أمر به أشرف الأنبياء بقوله تعالى :﴿ فأقم وجهك للدين القيم ﴾ أي : المستقيم وهو دين الإسلام ﴿ من قبل أن يأتي يوم ﴾ أي : عظيم ﴿ لا مردّ له ﴾ أي : لا يقدر أن يرده أحد. وقوله تعالى ﴿ من الله ﴾ يجوز أن يتعلق بيأتي أو بمحذوف يدل عليه المصدر أي : لا يردّه من الله أحد. والمراد به يوم القيامة لا يقدر أحد على رده من الله، وغيره عاجز عن رده فلا بد من وقوعه ﴿ يومئذ ﴾ أي : إذ يأتي ﴿ يصدّعون ﴾ أي : يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير.
ثم أشار إلى التفرّق بقوله تعالى :﴿ من كفر ﴾ أي : منهم ﴿ فعليه كفره ﴾ أي : وبال كفره ﴿ ومن عمل صالحاً ﴾ أي : بالإيمان وما يترتب عليه ﴿ فلأنفسهم يمهدون ﴾ أي : يوطئون منازلهم في القبور وفي الجنة بل وفي الدنيا فإن الله تعالى يعزهم بعز طاعته.
تنبيه : أظهر قوله تعالى صالحاً ولم يضمر لئلا يتوهم عود الضمير على من كفر وبشارة بأنّ أهل الجنة كثير وإن كانوا قليلاً ؛ لأنّ الله تعالى هو مولاهم فهو مزكيهم. وأفرد الشرط وجمع الجزاء في قوله تعالى ﴿ فلأنفسهم يمهدون ﴾ ( الروم : ٤٤ ) إشارة إلى أنّ الرحمة أعم من الغضب فتشمله وأهله وذريته، وفيه ترغيب في العمل من غير نظر إلى مساعد، وبأنه ينفع نفسه وغيره لأنّ المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً وأقل ما ينفع والديه وشيخه في ذلك العمل.
وقوله تعالى :﴿ ليجزي ﴾ أي : الله سبحانه وتعالى الذي أنزل هذه السورة لبيان أنه ينصر أولياءه لإحسانه لأنه مع المحسنين، ولذلك اقتصر هنا على ذكرهم بقوله تعالى :﴿ الذين آمنوا وعملوا الصالحات ﴾ أي : تصديقاً لإيمانهم ﴿ من فضله ﴾ علة ليمهدون أو ليصدعون، والاقتصار على جزاء الموصوفين للإشعار بأنه المقصود بالذات والاكتفاء عن فحوى قوله تعالى ﴿ إنه لا يحب الكافرين ﴾ فإن فيه إثبات البغض لهم فيعذبهم، والمحبة للمؤمنين فيثيبهم، وتأكيدُ اختصاص الصلاح المفهوم من ترك ضميرهم إلى التصريح بهم تعليل لهم، وقوله تعالى ﴿ من فضله ﴾ دال على أنّ الإثابة بمحض الفضل.
ولما ذكر تعالى ظهور الفساد والهلاك بسبب الشرك ذكر ظهور الصلاح ولم يذكر أنه بسبب العمل الصالح لأن الكريم لا يذكر لإحسانه عوضاً ويذكر لأضداده سبباً لئلا يتوهم به الظلم قال تعالى :﴿ ومن آياته ﴾ أي : دلالاته الواضحة ﴿ أن يرسل الرياح مبشرات ﴾ أي : بالمطر كما قال تعالى ﴿ بشراً بين يدي رحمته ﴾ ( الأعراف : ٥٧ ) أي : قبل المطر، وقيل : مبشرات بصلاح الأهوية والأحوال فإن الرياح لو لم تهب لظهر الوباء والفساد، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي الريح بالإفراد على إرادة الجنس، والباقون بالجمع وهي الجنوب والشمال والصبا ؛ لأنها رياح الرحمة، وأمّا الدبور فريح العذاب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :«اللهم اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » وقوله تعالى ﴿ وليذيقكم ﴾ أي : بها. ﴿ من رحمته ﴾ أي : من نعمته من المياه العذبة والأشجار الرطبة وصحة الأبدان وما يتبع ذلك من أمور لا يحصيها إلا خالقها، معطوف على مبشرات على المعنى كأنه قيل : ليبشركم وليذيقكم، أو على علة محذوفة دل عليها مبشرات، أو على يرسل بإضمار فعل معلل دل عليه أي : وليذيقكم أرسلها ﴿ ولتجري الفلك ﴾ أي : السفن في جميع البحار وما جرى مجراها عند هبوبها، وإنما زاد ﴿ بأمره ﴾ لأن الريح قد تهب ولا تكون موافقة فلا بدّ من إرساء السفن والاحتيال لحبسها، وربما عصفت وأغرقتها ﴿ ولتبتغوا ﴾ أي : تطلبوا ﴿ من فضله ﴾ من رزقه بالتجارة في البحر ﴿ ولعلكم ﴾ أي : ولتكونوا إذا فعل بكم ذلك على رجاء من أنكم ﴿ تشكرون ﴾ على ما أنعم عليكم من نعمه ودفع عنكم من نقمه.
تنبيه : قال تعالى في ظهر الفساد ﴿ ليذيقهم بعض الذي عملوا ﴾ ( الروم : ٤١ ) وقال ههنا ﴿ وليذيقكم من رحمته ﴾ فخاطبهم ههنا تشريفاً ولأنّ رحمته قريب من المحسنين وحينئذ فالمحسن قريب فيخاطب، والمسيء بعيد فلم يخاطب، وقال هناك ﴿ بعض الذي عملوا ﴾ فأضاف ما أصابهم إلى أنفسهم وأضاف ما أصاب المؤمن إلى رحمته فقال تعالى :﴿ من رحمته ﴾ لأنّ الكريم لا يذكر لرحمته وإحسانه عوضاً فلا يقول : أعطيتك لأنك فعلت كذا بل يقول : هذا لك مني، وأما ما فعلت من الحسنة فجزاؤه بعد عندي. وأيضاً فلو قال : أرسلت لسبب فعلكم لا يكون بشارة عظيمة، وأما إذا قال : من رحمته كان غاية البشارة، وأيضاً فلو قال : بما فعلتم لكان ذلك موهماً لنقصان ثوابهم في الآخرة، وأما في حق الكفار فإذا قال : بما فعلتم أنبأ عن نقصان عقابهم وهو كذلك وقال هناك ﴿ لعلهم يرجعون ﴾ وقال هنا :﴿ ولعلكم تشكرون ﴾ فالواو إشارة إلى توفيقهم للشكر في النعم.
وعطف على النعم قوله تعالى :﴿ ولقد أرسلنا ﴾ أي : بما لنا من القوة. وقال تعالى ﴿ من قبلك رسلاً ﴾ تنبيهاً على أنه خاتم النبيين بتخصيص إرسال غيره بما قبل زمانه وقال ﴿ إلى قومهم ﴾ إعلاماً بأنّ أمر الله إذا جاء لا ينفع فيه قريب ولا بعيد ﴿ فجاؤهم بالبينات ﴾ فانقسم قومهم إلى مسلمين ومجرمين ﴿ فانتقمنا ﴾ أي : فكانت معاداة المسلمين للمجرمين فينا سبباً ؛ لأنا انتقمنا بما لنا من العظمة ﴿ من الذين أجرموا ﴾ أي : أهلكنا الذين كذبوهم لإجرامهم وهو قطع ما أمرناهم بوصله. ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به قدمه تعجيلاً للسرور وتطييباً للنفوس فقال تعالى ﴿ وكان ﴾ أي : على سبيل الثبات والدوام ﴿ حقاً علينا ﴾ أي : مما أوجبناه بوعدنا الذي لا خلف فيه ﴿ نصر المؤمنين ﴾ أي : العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة، ولم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر فليعتدّ هؤلاء لمثل هذا وليأخذوا لمثل ذلك أهبة لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء، روى الترمذي وحسنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا قوله تعالى ﴿ وكان حقاً علينا نصر المؤمنين ﴾ قال البقاعي : فالآية من الاحتباك أي : وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء يكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كلٍ على ما حذف من الآخر، فحذف أوّلاً الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه.
ثم نبه تعالى على كمال قدرته فهو الناصر للمؤمنين بقوله تعالى :﴿ الله ﴾ أي : وحده ﴿ الذي يرسل ﴾ مرة بعد أخرى ﴿ الرياح ﴾ مضطربة هائجة بعد أن كانت ساكنة ﴿ فتثير سحاباً ﴾ أي : تزعجه وتنشره ﴿ فيبسطه ﴾ بعد اجتماعه ﴿ في السماء ﴾ أي : جهة العلو ﴿ كيف يشاء ﴾ في أيّ ناحية شاء قليلاً تارة كمسير ساعة وكثيراً أخرى كمسير أيام على حسب إرادته واختياره لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها ﴿ ويجعله ﴾ إذا أراد ﴿ كسفاً ﴾ أي : قطعاً غير متصل بعضها ببعض اتصالاً يمنع نزول الماء، وقرأ ابن عامر بسكون السين بخلاف عن هشام، والباقون بفتحها ﴿ فترى ﴾ بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامّ وفروج يا من هو من أهل الرؤية، أو يا أشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه ﴿ الودق ﴾ أي : المطر ﴿ يخرج من خلاله ﴾ أي : السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال ﴿ فإذا أصاب ﴾ أي : الله ﴿ به ﴾ أي : بالودق ﴿ من ﴾ أي : أرض من ﴿ يشاء ﴾ ونبه على أن ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد شيء أصلاً بقوله تعالى :﴿ من عباده ﴾ أي : الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم جديرون بملازمة شكره والخضوع لأمره ﴿ إذا هم يستبشرون ﴾ أي : يظهر عليهم البشر وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهوراً بالغاً عظيماً بما يرجونه مما يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين.
ثم بين تعالى عجزهم بقوله تعالى :﴿ وإن ﴾ أي : والحال أنهم ﴿ كانوا ﴾ في الزمن الماضي ﴿ من قبل أن ينزل عليهم ﴾ أي : المطر، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي. وقوله تعالى ﴿ من قبله ﴾ من باب التكرير والتأكيد كقوله تعالى ﴿ فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها ﴾ ( الحشر : ١٧ ) ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول بعدما استحكم بأسهم. وقوله تعالى ﴿ لمبلسين ﴾ إشارة إلى أنه تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك، وقبل الأولى ترجع إلى المطر والثانية إلى إنشاء السحاب فلا تأكيد.
﴿ فانظر إلى آثار رحمة الله ﴾ والرحمة : هي الغيث وأثرها هو النبات، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بألف بعد الثاء المثلثة، والباقون بغير ألف ورسمت رحمة هذه مجرورة، فوقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء ﴿ كيف يحيى ﴾ أي : الله ﴿ الأرض ﴾ بإخراج النبات ﴿ بعد موتها ﴾ أي : يبسها ﴿ إن ذلك ﴾ أي : القادر العظيم الشأن الذي قدر على إحياء الأرض ﴿ لمحيي الموتى ﴾ كلها من الحيوانات والنباتات أي : ما زال قادراً على ذلك كما قال تعالى ﴿ وهو على كل شيء ﴾ من ذلك وغيره ﴿ قدير ﴾ لأنّ نسبة القدرة منه سبحانه وتعالى إلى كل ممكن على حد سواء.
ولما بين أنهم عند توقف الخير يكونون آيسين وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها بقوله تعالى :﴿ ولئن أرسلنا ﴾ أي : بعد وجود هذا الأثر الحسن ﴿ ريحاً ﴾ عقيماً ﴿ فرأوه ﴾ أي : الأثر لأنّ الرحمة هي الغيث وأثرها هو النبات أو الزرع لدلالة السياق عليه ﴿ مصفراً ﴾ قد بدل وأخذ في التلف من شدّة يبس الريح إمّا بالحرّ أو البرد، وقيل : رأوا السحاب لأنه إذا كان مصفراً لم يمطر، ويجوز أن يكون الضمير للريح من التعبير بالسبب عن المسبب.
تنبيه : اللام موطئة للقسم دخلت على حرف الشرط. وقوله تعالى ﴿ لظلوا ﴾ أي : لصاروا ﴿ من بعده ﴾ أي : اصفراره ﴿ يكفرون ﴾ أي : بيأسهم من روح الله، جواب سدّ مسدّ الجزاء ولذلك فسر بالاستقبال.
تنبيه : سمى النافعة رياحاً والضارّة ريحاً لوجوه : أحدها : أنّ النافعة كثيرة الأنواع كثيرة الأفراد فجمعها لأن في كل يوم وليلة تهب نفحات من الرياح النافعة ولا تهب الريح الضارّة في أعوام بل الضارّة لا تهب في الدهور. ثانيها : أنّ النافعة لا تكون إلا رياحاً وأما الضارة فنفخة واحدة تقبل كريح السموم. ثالثها : جاء في الحديث أنّ ريحاً هبت فقال عليه الصلاة والسلام :«اللهمّ اجعلها رياحاً ولا تجعلها ريحاً » إشارة إلى قوله تعالى ﴿ فأرسلنا عليهم الريح العقيم ﴾ ( الذاريات : ٤١ ) وقوله تعالى ﴿ ريحاً صرصراً ﴾ إلى قوله ﴿ تنزع الناس ﴾ ( القمر : ٢٠ ).
ولما علم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وجوه الأدلة ووعد وأوعد لم يزدهم دعاؤه إلا فرارا وكفراً وإرصاداً قال تعالى :﴿ فإنك لا تسمع الموتى ﴾ أي : ليس في قدرتك إسماع الذين لا حياة لهم فلا نظر ولا سمع، أو موتى القلوب إسماعاً ينفعهم لأنه مما اختص به الله تعالى، وهؤلاء مثل الأموات ؛ لأنّ الله تعالى قد ختم على مشاعرهم ﴿ ولا تسمع الصم ﴾ أي : الذين لا سماع لهم ﴿ الدعاء ﴾ إذا دعوتهم.
ولما كان الأصم قد يحس بدعائك إذا كان مقبلاً بحاسة بصره قال تعالى ﴿ إذا ولوا ﴾ وذكر الفعل ولم يقل ولت إشارة إلى قوّة التولي لئلا يظنّ أنه أطلق على المجانبة مثلاً ولهذا قال تعالى ﴿ مدبرين ﴾ وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية في الوصل، والباقون بالتحقيق وإذا. وقف حمزة وهشام على الدعاء وأبدلا الهمزة ألفاً مع المدّة والتوسط والقصر.
﴿ وما أنت بهادي العمي ﴾ أي : بموجد لهم هداية ﴿ عن ضلالتهم ﴾ إذا ضلوا عن الطريق، وقرأ حمزة بتاء الخطاب مفتوحة وسكون الهاء والعمي بنصب الياء، والباقون بالباء الموحدة مكسورة وفتح الهاء والعمي بالخفض.
تنبيه : قد جعل الله تعالى الكافر بهذه الصفات وهو أنه شبهه أولاً بالميت، وإرشاد الميت محال والمحال أبعد من الممكن، ثم بالأصم وإرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم بالإشارة والإفهام بالإشارة صعب، ثم بالأعمى وإرشاد الأعمى أيضاً صعب فإنك إذا قلت له مثلاً : الطريق عن يمينك فإنه يدور إلى يمينه لكنه لا يبقى عليه بل يتحير عن قريب، فإرشاد الأصم أصعب. ولهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع لأنّ غايته الإفهام وليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة فإنّ المعدوم والغائب لا إشارة إليه، فبدأ أولاً بالميت لأنه أعلى ثم بالأدون منه وهو الأصم، وقيده بقوله تعالى :﴿ إذا ولوا مدبرين ﴾ ليكون أدخل في الامتناع لأنّ الأصم، وإن كان يفهم فإنما يفهم بالإشارة فإذا ولى لا يكون نظره إلى المشير، فامتنع إفهامه بالإشارة أيضاً ثم بأدنى منه وهو الأعمى لما مرّ. ثم قال تعالى ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ تسمع ﴾ أي : سماع إفهام وقبول ﴿ إلا من يؤمن بآياتنا ﴾ أي : القرآن فأثبت للمؤمن استماع الآيات فلزم أن يكون المؤمن حياً سميعاً بصيراً لأن المؤمن ينظر في البراهين ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة ويفعل ما يجب عليه ﴿ فهم مسلمون ﴾ أي : مطيعون كما قال تعالى عنهم ﴿ وقالوا سمعنا وأطعنا ﴾ ( البقرة : ٢٨٥ ).
ولما أعاد تعالى دليل الآفاق بقوله تعالى :﴿ الله الذي يرسل الرياح ﴾ أعاد دليلاً من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله بقوله تعالى :﴿ الله ﴾ أي : الجامع لصفات الكمال ﴿ الذي خلقكم من ضعف ﴾ أي : ماء ذي ضعف لقوله تعالى ﴿ ألم نخلقكم من ماء مهين ﴾ ( المرسلات، ٢٠ ) ﴿ ثم جعل من بعد ضعف ﴾ آخر وهو ضعف الطفولية ﴿ قوة ﴾ أي : قوّة الشباب ﴿ ثم جعل من بعد قوّة ضعفاً ﴾ أي : ضعف الكبر ﴿ وشيبة ﴾ أي : شيب الهرم وهي بياض في الشعر يحصل أوّله في الغالب في السنة الثالثة والأربعين وهو أوّل سنّ الاكتهال، والأخذُ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين وهو أوّل سنّ الشيخوخة، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى، وقرأ عاصم وحمزة بخلاف عن حفص بفتح الضاد في الثلاثة وهو لغة تميم، والباقون بالضم وهو لغة قريش.
ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها وكان من الناس من يطعن في السن وهو قويّ وأنتج ذلك كله لابدّ أن يكون التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة قال تعالى ﴿ يخلق ما يشاء ﴾ أي : من هذا وغيره ﴿ وهو العليم ﴾ بتدبير خلقه ﴿ القدير ﴾ على ما يشاء.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا ﴿ وهو العليم القدير ﴾ وقوله تعالى من قبل ﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾ والعزة إشارة إلى كمال القدرة والحكمة إشارة إلى كمال العلم فقدم القدرة هناك على العلم ؟ أجيب : بأنّ المذكور هناك الإعادة بقوله تعالى :﴿ وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم ﴾ ( الروم : ٢٧ ) لأنّ الإعادة بقوله تعالى : كن فيكون، فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم ههنا أظهر. ثم إنّ قوله تعالى ﴿ وهو العليم القدير ﴾ فيه تبشير وإنذار ؛ لأنه إذا كان عالماً بأحوال الخلق يكون عالماً بأحوال المخلوق فإن عملوا خيراً علمه، وإن عملوا شرّاً علمه، ثم إذا كان قادراً وعلم الخير أثاب وإذا علم الشرّ عاقب.
ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب اللذين هما بالقدرة والعلم قدم العلم، وأمّا الآية الأخرى فالعلم بتلك الأحوال قبل العقاب فقال :﴿ وهو العزيز الحكيم ﴾.
ولما ثبتت قدرته تعالى على البعث وغيره عطف على قوله أول السورة ﴿ ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون ﴾ :﴿ ويوم تقوم الساعة ﴾ أي : القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتة، أو إعلاماً بتيسيرها على الله تعالى، وصارت علماً عليها بالغلبة كالكوكب للزهرة ﴿ يقسم ﴾ أي : يحلف ﴿ المجرمون ﴾ أي : الكافرون. وقوله تعالى ﴿ ما لبثوا ﴾ جواب قوله تعالى يقسم وهو على المعنى إذ لو حكي قولهم بعينه لقيل ما لبثنا أي : في الدنيا ﴿ غير ساعة ﴾ استقلوا أجل الدنيا لما عاينوا في الآخرة، وقال مقاتل والكلبي : ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كما قال تعالى ﴿ كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ﴾ ( النازعات : ٤٦ ) وكما قال تعالى ﴿ كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار ﴾ ( الأحقاف : ٣٥ )
وقيل : فيما بين فناء الدنيا والبعث. وفي حديث رواه الشيخان :«ما بين النفختين أربعون » وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام ﴿ كذلك ﴾ أي : مثل ذلك الصرف عن حقائق الأمور إلى شكوكها ﴿ كانوا ﴾ في الدنيا كوناً هو كالجبلة لهم ﴿ يؤفكون ﴾ أي : يصرفون عن الحق في الدنيا، وقال مقاتل والكلبي : كذبوا في قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا بعث، والمعنى : أنّ الله تعالى أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء تبين لأهل الجمع أنهم كاذبون فيه.
ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم بقوله تعالى :﴿ وقال الذين أوتوا العلم والإيمان ﴾ وهم الملائكة والأنبياء والمؤمنين ﴿ لقد لبثتم في كتاب الله ﴾ أي : فيما كتب الله لكم في سابق علمه وقضائه، أو في اللوح المحفوظ، أو فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث فيكون في كتاب الله متعلق بلبثتم، وقال مقاتل وقتادة : فيه تقديم وتأخيره معناه : وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان لقد لبثتم ﴿ إلى يوم البعث ﴾ و( في ) ترد بمعنى ( الباء ) فردّوا ما قال هؤلاء الكفار وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم ﴿ فهذا يوم البعث ﴾ الذي أنكرتموه، وقراء نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء المثناة، والباقون بالإدغام.
تنبيه : سبب اختلاف الفريقين أنّ الموعود بوعد إذا ضرب له أجل إن علم أنّ مصيره إلى النار وهو الكافر يستقل مدّة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر، وإن علم أنّ مصيره إلى الجنة وهو المؤمن فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان، وفي هذه الفاء قولان : أظهرهما : أنها عاطفة هذه الجملة على لبثتم، وقال الزمخشريّ : هي جواب شرط مقدّر أي : إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث أي : فقد تبين بطلان ما قلتم.
ولما كان التقدير قد أتى فقد تبين أنه كما كنا به عالمين فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن، عطف عليه قوله تعالى ﴿ ولكنكم كنتم ﴾ أي : كوناً هو كالجبلة لكم في إنكاركم له ﴿ لا تعلمون ﴾ أي : ليس لكم علم أصلاً لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه والتوصل إليه بأسبابه فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك التكذيب اليوم.
ولما كانت الآيات دالة على أنّ هذه الدار دار عمل وأنّ الآخرة دار جزاء وأنّ البرزخ حائل بينهما فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى، تسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿ فيومئذ ﴾ أي : إذ يقع ذلك ويقول الذين أوتوا العلم تلك المقالة ﴿ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم ﴾ في إنكارهم له ﴿ ولا هم يستعتبون ﴾ أي : لا يطلب منهم الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى كما دعوا إليه في الدنيا، من قولهم : استعتبني فلان فأعتبته أي : استرضاني فأرضيته، وقرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتية لأنّ المعذرة بمعنى العذر ولأنّ تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما، والباقون بالتاء الفوقية.
ثم أشار تعالى إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبق من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم تقصير بقوله تعالى :﴿ ولقد ضربنا ﴾ أي : جعلنا ﴿ للناس في هذا القرآن ﴾ أي : في هذه السورة وغيرها ﴿ من كل مثل ﴾ أي : معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال، فإن طلبوا شيئاً آخر غير ذلك فهو عناد محض ؛ لأنّ من كذب دليلاً حقاً لا يصعب عليه تكذيب الدلائل بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل آخر بعد ذكره دليلاً جيداً مستقيماً ظاهراً لا إشكال عليه وعانده الخصم وهذا من العالم فكيف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.
فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذكروا أنواعاً من الدلائل ؟ أجيب : بأنهم سردوها سرداً ثم قرروا فرداً فرداً كمن يقول : الدليل عليه من وجوه الأوّل : كذا، والثاني : كذا، والثالث : كذا، وفي مثل هذا عدم الالتفات إلى عناد المعاند ؛ لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتنحط درجته، وإلى هذا أشار بقوله تعالى :﴿ ولئن ﴾ اللام لام قسم ﴿ جئتهم ﴾ يا أفضل الخلق ﴿ بآية ﴾ مثل العصا واليد لموسى عليه السلام ﴿ ليقولنّ الذين كفروا ﴾ منهم ﴿ إن ﴾ أي : ما ﴿ أنتم إلا مبطلون ﴾ أي : أصحاب أباطيل، فإن قيل : لم وحد في قوله تعالى ﴿ جئتهم ﴾ وجمع في قوله تعالى ﴿ إن أنتم ﴾ ؟ أجيب : بأنّ ذلك لنكتة وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال :﴿ ولئن جئتهم بآية ﴾ ( الروم، ٥٨ ) أي : جاءت بها الرسل فقال الكفار : ما أنتم أيها المدّعون الرسالة كلكم إلا كذا. وقال الجلال المحلي : إن أنتم أي : محمد وأصحابه، وأمّا الذين آمنوا فيقولون نحن بهذه الآية مؤمنون.
﴿ كذلك ﴾ أي : مثل هذا الطبع العظيم ﴿ يطبع الله ﴾ أي : الذي له العظمة والكمال ﴿ على قلوب الذين لا يعلمون ﴾ توحيد الله، فإن قيل : من لا يعلم شيئاً أي : فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه ؟ أجيب : بأنّ معناه أنّ من لا يعلم الآن فقد طبع على قلبه من قبل.
ثم إنه تعالى سلّى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى :﴿ فاصبر ﴾ أي : على إنذارهم مع هذا الجفاء والردّ بالباطل والأذى فإنّ الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا ﴿ إنّ وعد الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله بنصرك وإظهار دينك على الدين كله وفي كل ما وعد به ﴿ حق ﴾ أي : ثابت جدّاً يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان وتأتي به مطايا الحدثان.
ولما كان التقدير فلا تعجل عطف عليه قوله تعالى ﴿ ولا يستخفنك ﴾ أي : يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفاً من عواقب تأخيره وتنفيرك عن التبليغ ﴿ الذين لا يوقنون ﴾ أي : أذى الذين لا يصدقون بوعدنا من البعث والحشر وغير ذلك تصديقاً ثابتاً في القلب بل هم إما شاكون وأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف، أو مكذبون فهم بالغون في العداوة والتكذيب حتى أنهم لا يصدّقون في وعد الله بنصر الروم على فارس كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أنّ ذلك لا يكون. فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهاره عن قرب علموا كذبهم عياناً، وعلموا إن كان لهم علم أنّ الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهم صاغرون ويحشرون وهم داخرون.
﴿ وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلب ينقلبون ﴾ ( الشعراء، ٢٢٧ ) فقد انعطف آخر السورة على أوّلها واتصل به اتصال القريب بالقريب. وها أنا أسأل الله تعالى القريب المجيب أن يغفر ذنوب من كتب هذا وهو محمد الشربيني الخطيب ويفعل ذلك بوالديه وأولاده ومشايخه وكل محب له وحبيب، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ عن النبي صلى الله عليه وسلم :«من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك يسبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما صنع في يومه وليلته » حديث موضوع رواه الثعلبيّ في تفسيره والله تعالى أعلم بالصواب.
Icon