تفسير سورة الحجرات

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الحجرات من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

٤٩ – سورة الحجرات
قال المهايميّ : سميت بها لدلالة آيتها على سلب إنسانية من لا يعظم رسول الله غاية التعظيم، ولا يحترمه غاية الاحترام. وهو من أعظم مقاصد القرآن.
وهي مدنية، وآيها ثمان عشرة.
وقد انفردت هذه السورة بآداب جليلة، أدّب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به نبيه صلى الله عليه وسلم، من التوقير والتبجيل.

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ قال ابن جرير: أي يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله، ونبوّة نبيّه صلّى الله عليه وسلّم، لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله، وأمر رسوله.
محكيّ عن العرب: فلان يقدم بين يدي إمامه، بمعنى يعجل الأمر والنهي دونه.
انتهى.
وتُقَدِّمُوا إما متعد حذف مفعوله، لأنه أريد به العموم، أو أنه نزل منزلة اللازم لعدم القصد إلى المفعول، كما تقول: فلان يعطي ويمنع. أو هو لازم، فإن (قدم) يرد بمعنى (تقدم) كبيّن، فإنه متعد، ويكون لازما بمعنى تبيّن.
وفي هذه الجملة تجوّزان:
أحدهما- في (بين اليدين)، فإن حقيقته ما بين العضوين، فتجوز بهما عن الجهتين المقابلتين لليمين والشمال، قريبا منه بإطلاق اليدين على ما يجاورهما ويحاذيهما. فهو من المجاز المرسل، ثم استعيرت الجملة استعارة تمثيلية للقطع بالحكم بلا اقتداء، ومتابعة لمن يلزم متابعته، تصويرا لهجنته وشناعته، بصورة المحسوس، كتقدم الخادم بين يدي سيده في مسيره، فنقلت العبارة الأولى، بما فيها من المجاز، إلى ما ذكر، على ما عرف في أمثاله- هذا محصل ما في (الكشاف) و (شروحه).
قال ابن كثير: معنى الآية: لا تسرعوا في الأشياء قبله، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور، حتى يدخل في عموم هذا الأدب
حديث معاذ رضي الله عنه. قال له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين بعثه إلى اليمن: بم تحكم؟ قال: بكتاب الله تعالى. قال صلّى الله عليه وسلّم: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال صلّى الله عليه وسلّم: فإن لم تجد؟ قال رضي الله عنه: أجتهد
515
رأيي! فضرب في صدره وقال: الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله. وقد رواه أحمد «١» وأبو داود «٢» والترمذيّ «٣» وابن ماجة.
والغرض منه أنه أخر رأيه ونظره واجتهاده إلى ما بعد الكتاب والسنة، ولو قدمه قبل البحث عنهما، لكان من باب التقديم بين يدي الله ورسوله. انتهى.
وقد جوز أن يكون المراد (بين يدي رسول الله) وذكر (الله) لبيان قوة اختصاصه به تعالى، ومنزلته منه، تمهيدا وتوطئة لما بعده. وقد أيد هذا، بأن مساق الكلام لإجلاله صلّى الله عليه وسلّم.
تنبيه:
قال ابن جرير: بضم التاء من قوله لا تُقَدِّمُوا قرأ قراءة الأمصار، وهي القراءة التي لا أستجيز القراءة بخلافها، لإجماع الحجة من القراء عليها. وقد حكى عن العرب: قدّمت في كذا وتقدمت في كذا. فعلى هذه اللغة لو كان قيل (لا تقدموا) بفتح التاء، كان جائزا. انتهى. وبه قرأ يعقوب فيما نقل عنه.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في التقديم أو مخالفة الحكم. والأمر بالتقوى على أثر ما تقدم، بمنزلة قولك للمقارف بعض الرذائل: لا تفعل هذا، وتحفظ مما يلصق العار بك. فتنهاه أولا عن عين ما قارفه، ثم تعمّ وتأمره بما لو امتثل أمرك فيه، لم يرتكب تلك الغفلة، وكل ما يضرب في طريقها، ويتعلق بسببها- أشار له الزمخشريّ-.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي فحقيق أن يتّقى ويراقب.
تنبيه:
في (الإكليل) : قال إلكيا الهراسيّ: قيل نزلت في قوم ذبحوا قبل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فأمرهم أن يعيدوا الذبح. وعموم الآية النهي عن التعجيل في الأمر والنهي، دونه.
ويحتج بهذه الآية في اتباع الشرع في كل شيء. وربما احتج به نفاة القياس، وهو باطل منهم. ويحتج به في تقديم النص على القياس. انتهى.
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٢٣٠.
(٢) أخرجه في: الأقضية، ١١- باب اجتهاد الرأي في القضاء حديث رقم ٣٥٩٢.
(٣) أخرجه في: الأحكام، ٣- باب حدثنا هناد، حديث رقم ١٣٢٧.
516
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ أي: إذا نطق ونطقتم، فلتكن أصواتكم قاصرة عن الحدّ الذي يبلغه صوته، ليكون عاليا لكلامكم، لا أن تغمروا صوته بلغطكم، وتبلغوا أصواتكم إلى أسماع الحاضرين قبل صوته، فإن ذلك من سوء الأدب بمكان كبير وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أي بل تعمدوا في مخاطبته القول اللين، القريب من الهمس، الذي يضادّ الجهر، كما تكون مخاطبة المهيب المعظم. وروي عن مجاهد تفسيره بندائه باسمه، أي لا تنادوه كما ينادي بعضكم بعضا: يا محمد! يا محمد! بل يا نبيّ الله! يا رسول الله! ونظر فيه شراح (الكشاف) بأن ذكر الجهر حينئذ لا يظهر له وجه، إذ الظاهر أن يقال: لا تجعلوا خطابه كخطاب بعضكم لبعض، كما مر في قوله لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: ٦٣]. انتهى.
ولك أن تقول: إنما أفرغ هذا المعنى المرويّ عن مجاهد في قالب ذاك اللفظ الكريم جريا على سنة التنزيل في إيثار أرق الألفاظ والجمل، وألطفها في ذلك، فإن أسلوبه فوق كل أسلوب وقد قال: إذا جاءك التفسير عن مجاهد فحسبك به أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ أي مخافة أن تحبط أعمالكم، برفع صوتكم فوق صوته، وجهركم له بالقول كجهركم لبعضكم وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أي لا تعلمون ولا تدرون بحبوطها.
تنبيه:
استدلت المعتزلة بالآية على أن الكبائر محبطة للأعمال، لأن المذكور في الآية كبيرة محبطة ولا فرق بينها وبين غيرها. ولما كان عند أهل السنة، المحبط للأعمال هو الكفر خاصة، تأولوا الآية بأنها للتغليظ والتخويف، إذ جعلت بمنزلة الكفر المحبط، أو هي للتعريض بالمنافقين المقاصدين بالجهر والرفع الاستهانة، فإن فعلهم محبط قطعا.
وقال الناصر: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت على الإطلاق. ومعلوم أن حكم النهي الحذر مما يتوقع في ذلك من إيذاء النبيّ عليه الصلاة والسلام. والقاعدة المختارة أن إيذاءه عليه الصلاة والسلام يبلغ مبلغ الكفر المحبط للعمل باتفاق.
فورد النهي عما هو مظنة لأذى النبيّ عليه الصلاة والسلام، سواء وجد هذا المعنى أو لا، حماية للذريعة، وحسما للمادة. ثم لما كان هذا المنهيّ عنه- وهو رفع الصوت- منقسما إلى ما يبلغ ذلك المبلغ أولا، ولا دليل يميز أحد القسمين عن الآخر، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا، وخوّف أن يقع فيما هو محبط للعمل، وهو البالغ حد الإيذاء، إذ لا دليل ظاهر يميزه. وإن كان، فلا يتفق تمييزه في كثير من الأحيان.
وإلى التباس أحد القسمين بالآخر وقعت الإشارة بقوله أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ. وإلا فلو كان الأمر على ما تعتقده المعتزلة، لم يكن لقوله وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ موقع. إذ الأمر بين أن يكون رفع الصوت مؤذيا، فيكون كفرا محبطا قطعا، وبين أن يكون غير مؤذ، فيكون كبيرة محبطة على رأيهم قطعا. فعلى كلا حاليه، الإحباط به محقق، إذن فلا موقع لإدغام الكلام بعدم الشعور، مع أن الشعور ثابت مطلقا- والله أعلم-.
ثم قال: وهذا التقرير الذي ذكرته يدور على مقدمتين، كلتاهما صحيحة:
إحداهما- أن رفع الصوت من جنس ما يحصل به الإيذاء، وهذا أمر يشهد به النقل والمشاهدة الآن، حتى إن الشيخ ليتأذى برفع التلميذ صوته بين يديه. فكيف برتبة النبوة وما تستحقه من الإجلال والإعظام.
المقدمة الأخرى- أن إيذاء النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كفر. وهذا أمر ثابت قد نص عليه أئمتنا- يعني المالكية- وأفتوا بقتل من تعرض لذلك كفرا، ولا تقبل توبته، فما أتاه أعظم عند الله وأكبر، والله الموفق. انتهى.
ولا يخفى أن الإنصاف هو الوقوف مع ما أوضحه النص وأبانه، فكل موضع نص فيه على الإحباط وجب قبوله بدون تأويل، وامتنع القياس عليه، لأنه مقام توعد وخسران، ولا مجال للرأي في مثل ذلك. هذا ما أعتقده وأراه. والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ٣]
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ أي يبالغون في خفضها عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى قال ابن جرير: أي اصطفاها وأخلصها للتقوى يعني
لاتقائه بأداء طاعته، واجتناب معاصيه، كما يمتحن الذهب بالنار، فيخلص جيدها، ويبطل خبثها لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ أي ثواب جزيل، وهو الجنة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ٤]
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤)
إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ أي يدعونك مِنْ وَراءِ أي خارج الْحُجُراتِ أي عند كونك فيها، استعجالا لخروجك إليهم، ولو بترك ما أنت فيه من الأشغال أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ لا يفعله محتشم، ولا يفعل لمحتشم، فلا يراعون حرمة أنفسهم، ولا حرمتك، ونسب إلى الأكثر، لأنه قد يتبع عاقل جماعة الجهال، موافقة لهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ٥]
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ أي لأن خروجه باستعجالهم ربما يغضبه، فيفوتهم فوائد رؤيته وكلامه. وإن صبروا استفادوا فوائد كثيرة، مع اتصافهم بالصبر، ورعاية الحرمة لنبيهم وأنفسهم وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن تاب من معصية الله، بندائك كذلك، وراجع أمر الله فيه وفي غيره.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: قد ذكر أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميميّ، فيما أورده غير واحد.
روى الإمام أحمد «١» عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن الأقرع بن حابس أنه نادى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد! يا محمد! (وفي رواية: يا رسول الله!) فلم يجبه. فقال: يا رسول الله! إن حمدي لزين، وإن ذمّي لشين، فقال: ذاك الله عز وجل.
وروى ابن إسحاق، في ذكر سنة تسع، وهي المسماة سنة الوفود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما افتتح مكة، وفرغ من تبوك، وأسلمت ثقيف، وبايعت، ضربت إليه وفود
(١) أخرجه في المسند ٣/ ٤٨٨.
519
العرب من كل وجه، فكان منهم وفد بني تميم. فلما دخلوا المسجد نادوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من وراء حجراته: أن اخرج إلينا يا محمد! فآذى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من صياحهم، فخرج إليهم. ثم ساق ابن إسحاق نبأهم مطولا ثم قال: وفيهم نزل من القرآن إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ.
الثاني- الْحُجُراتِ بضمتين، وبفتح الجيم، وبسكونها. وقرئ بهنّ جميعا: جمع (حجرة). وهي الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها. فعلة بمعنى مفعولة، كالغرفة والقبضة.
قال الزمخشريّ: والمراد حجرات نساء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وكانت لكل واحدة منهن حجرة. ومناداتهم من ورائها يحتمل أنهم قد تفرّقوا على الحجرات، متطلبين له، فناداه بعض من وراء هذه، وبعض من وراء تلك، وأنهم قد أتوها حجرة حجرة، فنادوه من ورائها. وأنهم نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها. ولكنها جمعت إجلالا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولمكان حرمته. والفعل- وإن كان مسندا إلى جميعهم- فإنه يجوز أن يتولّاه بعضهم، وكان الباقون راضين، فكأنهم تولوه جميعا.
الثالث- قال الزمخشريّ: ورود الآية على النمط الذي وردت عليه، فيه ما لا يخفى على الناظر من بينات إكبار محل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإجلاله.
منها- مجيئها على النظم المسجل على الصائحين به، بالسفه والجهل، لما أقدموا عليه.
ومنها- لفظ الْحُجُراتِ وإيقاعها، كناية عن موضع خلوته ومقيله مع بعض نسائه.
ومنها- المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الذي تبين به ما استنكر عليهم.
ومنها- التعريف باللام دون الإضافة.
ومنها- أن شفع ذمهم باستجفائهم واستركاك عقولهم، وقلة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهوينا للخطب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتسلية له، وإماطة لما تداخله من إيحاش تعجرفهم، وسوء أدبهم، وهلم جرا... من أول السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمل كيف ابتدئ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله، متقدمة على الأمور كلها، من غير حصر ولا تقييد. ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر، كأن الأول بساط للثاني، ووطاء لذكره. ثم
520
ذكر ما هو ثناء على الذين تحاموا ذلك، فغضوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند الله. ثم جيء على عقب ذلك بما هو أطم، وهجنته أتم، من الصياح برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا، لينبه على فظاعة ما أجروا إليه، وجسروا عليه، لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول، حتى خاطبه جلّة المهاجرين والأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغا. ومن هذا وأمثاله يقتطف ثمر الألباب، وتقتبس محاسن الآداب، كما يحكى عن أبي عبيد- ومكانه من العلم والزهد وثقة الرواية ما لا يخفى- أنه قال: ما دققت بابا على عالم قط، حتى يخرج في وقت خروجه. انتهى.
الرابع- قال ابن كثير: قال العلماء: يكره رفع الصوت عند قبره صلّى الله عليه وسلّم، كما كان يكره في حياته، لأنه محترم حيّا، وفي قبره صلّى الله عليه وسلّم. وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد ارتفعت أصواتهما، فحصبهما. ثم ناداهما فقال: من أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف. قال:
لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربا. انتهى.
الخامس- روى البخاريّ «١» عن عبد الله بن الزبير أنه قدم ركب من بني تميم على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال أبو بكر: أمّر القعقاع بن معبد، وقال عمر: أمّر الأقرع بن حابس.
فقال أبو بكر: ما أردت إلا خلافي! فقال عمر: ما أردت خلافك! فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما. فنزل في ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.. حتى انقضت الآية.
وفي رواية: فأنزل الله في ذلك يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ...
الآية.
قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعد هذه الآية حتى يستفهمه. وقد انفرد بهاتين الروايتين البخاريّ دون مسلم.
قال الحافظ ابن حجر: وقد استشكل ذلك! قال ابن عطية: الصحيح أن سبب نزول هذه الآية كلام جفاة الأعراب.
قال ابن حجر: قلت: لا يعارض ذلك هذا الحديث، فإن الذي يتعلق بقصة
(١) أخرجه في: التفسير، ٤٩- سورة الحجرات، ٢- باب إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ، حديث ١٩٤٢.
521
الشيخين في تخالفهما في التأمير هو أول السورة لا تُقَدِّمُوا ولكن لما اتصل بها قوله لا تَرْفَعُوا تمسك عمر منها بخفض صوته. وجفاة الأعراب الذين نزلت فيهم هم من بني تميم، والذين يختص بهم، وقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ. انتهى.
وتقدم لنا مرارا الجواب عن أمثاله، بأن قولهم: نزلت الآية في كذا، قد يكون المراد به الاستشهاد على أن مثله مما تتناوله الآية، لا أنه سبب لنزولها.
قال الإمام ابن تيمية: قولهم نزلت هذه الآية في كذا، يراد به تارة سبب النزول، ويراد به تارة أن ذلك داخل في الآية، وإن لم يكن السبب. كما تقول: عنى بهذه الآية كذا. انتهى.
وبه يجاب عما يرويه كثير من تعدد سبب النزول، فاحفظه، فإنه من المضنون به على غير أهله. ولو وقف عليه ابن عطية لما ضعف رواية البخاريّ، ولما تمحل ابن حجر لتفكيك الآيات بجعل بعضها لسبب. وبعضها لآخر، في قصة واحدة. وبالله التوفيق. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أي: فاستظهروا صدقه من كذبه، بطريق آخر كراهة أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ أي قوما براء مما قذفوا به بغية أذيتهم بجهالة لاستحقاقهم إياها، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ أي فتندموا على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب.
تنبيهات:
الأول- قال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط، حين بعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على صدقات بني المصطلق. وقد روي ذلك من طرق. ومن أحسنها ما
رواه الإمام أحمد «١» في مسنده من رواية مالك
(١) أخرجه في المسند ٤/ ٢٧٩.
522
عن ابن المصطلق، وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله عنها.
قال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن سابق، حدثنا عيسى بن دينار، حدثني أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعيّ رضي الله عنه يقول: قدمت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة، فأقررت بها وقلت:
يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام، وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وأرسل إليّ يا رسول الله رسولا إبّان كذا وكذا ليأتيك بما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبّان الذي أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول، فلم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله، فدعا بسروات قومه، فقال لهم: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان وقّت لي وقتا يرسل إليّ رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
وبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة. فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق، فرجع حتى أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة، وأراد قتلي. فضرب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم البعث إلى الحارث. فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث، وفصل من المدينة، لقيهم الحارث، فقالوا: هذا الحارث! فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان بعث إليك الوليد بن عقبة، فزعم أنك منعته الزكاة، وأردت قتله! قال: لا، والذي بعث محمدا بالحق، ما رأيته بتة، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: منعت الزكاة، وأردت قتل رسولي؟! قال: لا، والذي بعثك بالحق! ما رأيته بتة، ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم! خشيت أن تكون كانت سخطة من الله تعالى ورسوله. قال: فنزلت الحجرات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ... إلى قوله: حَكِيمٌ.
وقال مجاهد وقتادة: أرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك (زاد قتادة: وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام) فبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم، وأمره أن يتثبّت ولا يعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلا، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالدا رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم. فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه. فرجع إلى
523
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «التثبّت من الله، والعجلة من الشيطان»
. وكذا ذكر غير واحد من السلف، منهم ابن أبي ليلى، ويزيد بن رومان، والضحاك، ومقاتل، وغيرهم في هذه الآية، أنها نزلت في الوليد بن عقبة- والله أعلم- انتهى.
قال ابن قتيبة في (المعارف) : الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية ابن عبد شمس، وهو أخو عثمان لأمه، أروى بنت كريز. أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مصدقا إلى بني المصطلق، فأتاه فقال: منعوني الصدقة! وكان كاذبا.
فأنزل الله هذه الآية. وولّاه عمر على صدقات بني تغلب، وولّاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص، فصلى بأهلها صلاة الفجر، وهو سكران، أربعا، وقال: أزيدكم؟! فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان، فعزله وحدّه. ولم يزل بالمدينة حتى بويع عليّ، فخرج إلى الرقّة فنزلها، واعتزل عليّا ومعاوية. ومات بناحية الرّقة.
الثاني- في (الإكليل) : في الآية ردّ خبر الفاسق، واشتراط العدالة في المخبر، راويا كان، أو شاهدا، أو مفتيا. ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل. قال ابن كثير: ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون، لأنا إنما أمرنا بالتثبّت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال.
الثالث- في قوله تعالى فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ فائدتان:
إحداهما- تقرير التحذير وتأكيده. ووجهه هو أنه تعالى لما قال أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ قال بعده: وليس ذلك مما لا يلتفت إليه، ولا يجوز للعاقل أن يقول:
هب أني أصبت قوما، فماذا عليّ؟ بل عليكم منه الهم الدائم، والحزن المقيم. ومثل هذا الشيء واجب الاحتراز منه.
والثانية- مدح المؤمنين. أي لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها، بل تصبحون نادمين عليها- أفاده الرازيّ-.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ٧]
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ قال ابن جرير: يقول تعالى ذكره لأصحاب نبيّ
524
الله صلّى الله عليه وسلّم: واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله أن فيكم رسول الله، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل، وتفتروا الكذب، فإن الله يخبره أخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقوّمه على الصواب في أموره.
لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ قال الطبريّ: أي لو كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعمل في الأمور بآرائكم، ويقبل منكم ما تقولون له، فيطيعكم، لنالكم عنت- يعني الشدة والمشقة- في كثير من الأمور، بطاعته إياكم، لو أطاعكم، لأنه كان يخطئ في أفعاله، كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق، أنهم قد ارتدوا ومنعوا الصدقة وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وأصاب من دمائهم وأموالهم، كان قد قتل وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله، وأخذتم من المال ما لا يحل له ولكم أخذه من أموال قوم مسلمين، فنالكم من الله بذلك عنت.
والعنت: المشقة أو الهلاك أو الإثم أو الفساد.
تنبيه:
(أنّ) بما في حيزها سادة مسدّ مفعولي اعْلَمُوا باعتبار ما قيد به من الحال، وهو قوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ.. إلخ، فإنه حال من الضمير المجرور في فِيكُمْ المستتر فيه. والمعنى: أنه فيكم كائنا على حالة يجب تغييرها، أو كائنين على حالة كذلك، وهي أنكم تودّون أن يتبعكم في كثير من الحوادث، ولو فعل ذلك لوقعتم في الجهل والهلاك. وفيه إيذان بأن بعضهم زين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقع في بني المصطلق، وأنه لم يطع رأيهم هذا. ويجوز أن يكون لَوْ يُطِيعُكُمْ مستأنفا. إلا أن الزمخشريّ منع هذا الاحتمال، قال: لأدائه إلى تنافر النظم، لأنه لو اعتبر لَوْ يُطِيعُكُمْ... إلخ كلاما برأسه، لم يأخذ الكلام بحجز بعض، لأنه لا فائدة حينئذ في قوله: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ إذا قطع عما بعده. وأجيب بجواز أن يقصد به التنبيه على جلالة محله صلّى الله عليه وسلّم، وأنهم لجهلهم بمكانه مفرّطون فيما يجب له من التعظيم، وفي أن شأنهم أن يتبعوه، ولا يتبعوا آراءهم، حتى كأنهم جاهلون بأنه بين أظهرهم، فوضح جواز الاستئناف، والوقف على رَسُولَ اللَّهِ.
وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ أي فما أجدركم أن تطيعوا رسول الله وتأتمّوا به، فيقيكم الله بذلك من العنت فيما لو استتبعتم رأي رسول الله لرأيكم وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ أي بالله وَالْفُسُوقَ يعني الكذب وَالْعِصْيانَ أي مخالفة أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وتضييع ما أمر الله به.
525
أُولئِكَ أي الموصوفون بمحبة الإيمان، وتزينه في قلوبهم، كراهتهم المعاصي هُمُ الرَّاشِدُونَ أي السالكون طريق الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ٨]
فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨)
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً أي إحسانا منه، ونعمة أنعمها عليكم. قال القاشانيّ:
كان فضلا بعنايته بهم في الأزل، المقتضية للهداية الروحانية الاستعدادية المستتبعة لهذه الكمالات في الأبد. ونعمة بتوفيقه إياهم للعمل بمقتضى تلك الهداية الأصلية، وإعانته بإفاضة الكمالات المناسبة لاستعداداتهم، حتى اكتسبوا ملكة العصمة الموجبة لكراهة المعصية. وهو تعليل ل (حبّب) و (كرّه) وما بينهما اعتراض، أو نصب بفعل مضمر، أي جرى ذلك فضلا، أو يبتغون فضلا.
وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي ذو علم بالمحسن والمسيء، وحكمة في تدبير خلقه، وتصريفهم فيما شاء من قضائه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ٩]
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٩)
وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا أي تقاتلوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما قال ابن جرير: أي بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه، لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل.
فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى أي فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله، له وعليه، وتعدت ما جعل الله عدلا بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما، فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي أي تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ أي ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه فَإِنْ فاءَتْ أي رجعت الباغية، بعد قتالكم إياهم، إلى الرضا بحكم الله في كتابه فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ أي بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلا بين خلقه وَأَقْسِطُوا أي اعدلوا في كل ما تأتون وتذرون. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ أي فيجازيهم أحسن الجزاء.
526
تنبيهات:
الأول- قال القاشانيّ: الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا، والركون إلى الهوى، والانجذاب إلى الجهة السفلية، والتوجه إلى المطالب الجزئية. والإصلاح إنما.
يكون من لزوم العدالة في النفس التي هي ظل المحبة، التي هي ظل الوحدة. فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما، على تقدير بغيهما. والقتال مع الباغية على تقدير بغي إحداهما، حتى ترجع. لكون الباغية مضادة للحق، دافعة له.
وقد روي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه بالنعال والأيدي، لا بالسيوف، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فأتاهم فحجز بينهم وأصلح. روي ذلك من طريق عديدة، مما يقوي أن القتال الذي نزلت فيه كان حقيقيّا.
ويروى عن الحسن أن الاقتتال بمعنى الخصومة، والقتال بمعنى الدفع مجازا.
قال- فيما رواه الطبريّ عنه-: كانت تكون الخصومة بين الحيين، فيدعوهم إلى الحكم، فيأبون أن يجيبوا، فأنزل الله وَإِنْ طائِفَتانِ إلى قوله فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي... الآية. يقول: ادفعوا إلى الحكم، فكان قتالهم الدفع. انتهى. ولا يخفى أن المادة قد تحمل على حقيقتها ومجازها فتتسع لهما. وقد قال اللغويون: ليس كل قتال قتلا. وقد يفضي الخصام إلى القتل، فلا مانع أن يراد من الآية ما هو أعم، لتكون الفائدة أشمل- والله أعلم-.
الثاني- في (الإكليل) : في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي، وقتال البغاة وهو شامل لأهل مكة كغيرهم، وأن من رجع منهم وأدبر لا يقاتل، لقوله حَتَّى تَفِيءَ. انتهى.
وقد روى سعيد عن مروان قال: صرخ صارخ لعليّ يوم الجمل: لا يقتل مدبر ولا يذفف على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن.
وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم، وأنه لا يغنم لهم مال، ولا تسبى لهم ذرية، لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم. وعصمة الأموال تابعة لدينهم، ولذا يجب رد ذلك إليهم إن أخذ منهم. ولا يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال. ومن قتل من أهل البغي غسل وكفن وصلي عليه، فإن قتل العادل كان شهيدا، فلا يغسل ولا يصلى عليه، لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به، كشهيد معركة الكفار.
527
وإن أظهر قوم رأي الخوارج. مثل تكفير من ارتكب كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، ولم يجتمعوا لحرب، لم يتعرّض لهم. وإن جنوا جناية وأتوا حدّا، أقامه عليهم.
وإن اقتتلت طائفتان لعصبية، أو طلب رئاسة، فهما ظالمتان. لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلف على الأخرى.
هذه شذرة مما جاء في (الإقناع) و (شرحه) وتفصيله ثمة.
الثالث- قال في (شرح الإقناع) : في الآية فوائد: منها أنهم لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان. وأنه أوجب قتالهم. وأنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم.
وإجازة كل من منع حقّا عليه. والأحاديث بذلك مشهورة: منها ما روى عبادة بن الصامت قال: بايعنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على السمع والطاعة، في المنشط والمكره، وأن لا ننازع الأمر أهله (متفق عليه) «١». وأجمع الصحابة على قتالهم، فإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة، وعليّا قاتل أهل الجمل، وأهل صفّين. انتهى.
وتدل الآية أيضا على وجوب معاونة من بغى عليه، لقوله فَقاتِلُوا، وعلى وجوب تقديم النصح، لقوله فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما، وعلى السعي في المصالحة، وذلك ظاهر.
الرابع- وجه الجمع في اقْتَتَلُوا، مع أنه قد يقال: مقتضى الظاهر (اقتتلتا) هو الحمل على المعنى دون اللفظ، لأن الطائفتين في معنى القوم والناس. والنكتة في اعتبار المعنى أولا. واللفظ ثانيا عكس المشهور في الاستعمال، ما قيل إنهم أولا في حال القتال مختلطون مجتمعون، فلذا جمع أولا ضميرهم، وفي حال الإصلاح متميزون متفارقون، فلذا ثنى الضمير ثانيا وسرّ قرن الإصلاح الثاني بالعدل، دون الأول، لأن الثاني لوقوعه بعد المقاتلة مظنة للتحامل عليهم بالإساءة، أو لإبهام أنهم لما أحوجوهم للقتال استحقوا الحيف عليهم.
الخامس- (أقسط) الرباعيّ همزته للسلب. أي أزيلوا الجور، واعدلوا.
بخلاف (قسط) الثلاثيّ، فمعناه جار. قال تعالى:
(١)
أخرجه البخاري في: الفتن، ٢- باب قول النبي. ﷺ «سترون بعدي أمورا تنكرونها» حديث رقم ٢٥٤٧.
وأخرجه مسلم في: الإمارة، حديث ٤١ و ٤٢.
528
أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الجن: ١٥]، وهذا هو المشهور- خلافا للزجاج- في جعلهما سواء- أفاده الكرخيّ-. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٠]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ استئناف مقرر لما قبله من الأمر بالإصلاح، فإن من لوازم الإخوة أن يصطلحوا.
قال الشهاب: وتسمية المشاركة في الإيمان أخوّة تشبيه بليغ، أو استعارة شبه المشاركة فيه بالمشاركة في أصل التوالد، لأن كلّا منهما أصل للبقاء، إذ التوالد منشأ الحياة، والإيمان منشأ البقاء الأبديّ في الجنان.
فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ أي إذا اقتتلا بأن تحملوهما على حكم الله، وحكم رسوله.
قال القاشانيّ: بيّن تعالى أن الإيمان الذي أقل مرتبته التوحيد والعمل، يقتضي الأخوة الحقيقية بين المؤمنين، للمناسبة الأصلية، والقرابة الفطرية، التي تزيد على القرابة الصورية، والنسبة الولادية، بما لا يقاس، لاقضائه المحبة القلبية، لا المحبة النفسانية، المسببة عن التناسب في اللحمة. فلا أقل من الإصلاح الذي هو من لوازم العدالة، وأحد خصالها، إذ لو لم يعدوا عن الفطرة، ولم يتكدروا بغواشي النشأة، لم يتقاتلوا، ولم يتخالفوا. فوجب على أهل الصفاء، بمقتضى الرحمة والرأفة والشفقة اللازمة للأخوة الحقيقية، الإصلاح بينهما، وإعادتهما إلى الصفاء. انتهى.
تنبيه:
وضع الظاهر موضع المضمر مضافا إلى المأمورين، للمبالغة في التقرير والتخصيص. وتخصيص الاثنين بالذكر دون الجمع، لأن أقل من يقع بينهم الشقاق اثنان. فإذا لزمت المصالحة بين الأقل، كانت بين الأكثر ألزم، لأن الفساد في شقاق الجمع، أكثر منه في شقاق الاثنين- أفاده القاضي والزمخشريّ-.
وفي معنى الآية أحاديث كثيرة:
كحديث «١»
(المسلم أخو المسلم لا يظلمه
(١) أخرجه البخاري في: المظالم والغصب، ٣- باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه، حديث ١٢٠٢، عن ابن عمر. [.....]
ولا يسلمه).
وحديث «١»
(والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه).
وحديث «٢»
(مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر).
وحديث «٣»
(المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا) وشبّك بين أصابعه صلّى الله عليه وسلّم
- وكلها في الصحاح-.
وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي خافوا مخالفة حكمه، والإهمال فيه، ليرحمكم فيفصح عن سالف آثامكم، ويثيبك رضوانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ١١]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (١١)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ أي لا يهزأ رجال من رجال، فيروا أنفسهم خيرا من المسخور منهم عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ أي الساخرات.
قال أبو السعود: فإن مناط الخيرية في الفريقين، ليس ما يظهر للناس من الصور والأشكال ولا الأوضاع والأطوار التي عليها يدور أمر السخرية غالبا. بل إنما هو الأمور الكامنة في القلوب، فلا يجترئ أحد على استحقار أحد، فلعله أجمع منه، لما نيط به من الخيرية عند الله تعالى، فيظلم نفسه بتحقير من وقره الله تعالى، والاستهانة بمن عظمه الله تعالى. ومن أهل التأويل من خص السخرية بما يقع من الغنيّ للفقير.
وآخرون بما يعثر من أحد على زلة أو هفوة، فيسخر به من أجلها.
قال الطبريّ: والصواب أن يقال إن الله عمّ، بنهيه المؤمنين من أن يسخر بعضهم من بعض، جميع معاني السخرية. فلا يحل لمؤمن أن يسخر من مؤمن، لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك.
(١) أخرجه مسلم في: الذكر، حيث رقم ٣٨، عن أبي هريرة.
(٢) أخرجه البخاري في الأدب، ٢٧- باب رحمة الناس والبهائم، حديث ٢٣٢٢، عن النعمان بن بشير.
(٣) أخرجه البخاري في: الصلاة، ٨٨- باب تشبيك الأصابع في المسجد وغيره، حديث رقم ٣١٩، عن أبي موسى.
530
وقد عدّ الغزاليّ في (الإحياء) السخرية من آفات اللسان، وأوضح معناها بما لا مطلب وراءه فننقله هنا تتميما للفائدة، قال رحمه الله.
الآفة الحادية عشرة- السخرية والاستهزاء: وهذا محرم مهما كان مؤذيا، كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ... الآية. ومعنى السخرية:
الاستهانة والتحقير والتنبيه على العيوب والنقائص، على وجه يضحك منه. وقد يكون ذلك بالمحاكاة في الفعل والقول، وقد يكون بالإشارة والإيماء. وإذا كان بحضرة المستهزأ به لم يسم ذلك غيبة، وفيه معنى الغيبة.
وقالت عائشة رضي الله عنها: حاكيت، فقال لي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: والله ما أحب أني حاكيت إنسانا، ولي كذا وكذا.
وقال ابن عباس في قوله تعالى يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها [الكهف: ٤٩]، إن الصغيرة التبسم بالاستهزاء بالمؤمن، والكبيرة القهقهة بذلك وهذا إشارة إلى أن الضحك على الناس من جملة الذنوب الكبائر.
وقال معاذ بن جبل: قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: من عيّر أخاه بذنب قد تاب منه، لم يمت حتى يعمله.
وكل هذا يرجع إلى استحقار الغير، والضحك عليه، والاستهانة به، والاستصغار له. وعليه نبه قوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ. أي لا تستحقره استصغارا، فلعله خير منك. وهذا إنما يحرم في حق من يتأذى به. فأما من جعل نفسه مسخرة، وربما فرح من أن يسخر به، كانت السخرية في حقه من جملة المزح. ومنه ما يذم وما يمدح. وإنما المحرم استصغار يتأذى به المستهزأ به، لما فيه من التحقير والتهاون، وذلك تارة بأن يضحك على كلامه إذا تخبط فيه ولم ينتظم، أو على أفعاله إذا كانت مشوشة، كالضحك على حفظه وعلى صنعته أو على صورته وخلقته، إذا كان قصيرا أو ناقصا، لعيب من العيوب، فالضحك من جميع ذلك داخل في السخرية المنهيّ عنها. انتهى.
لطيفة:
قال أبو السعود: القوم مختص بالرجال، لأنهم القوّام على النساء (والأحسن المهمات) وهو في الأصل إما جمع قائم كصوم وزور في جمع صائم وزائر. أو مصدر
531
نعت به فشاع في الجمع. وأما تعميمه للفريقين في مثل قوم عاد وقوم فرعون، فإما للتغليب، أو لأنهن توابع. واختيار الجمع لغلبة وقوع السخرية في المجامع. والتنكير إما لتعميم أو للقصد إلى نهي بعضهم عن سخرية بعض، لما أنها مما يجري بين بعض وبعض.
وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ أي لا يعيب بعضكم على بعض ولا يطعن.
قال الشهاب: ضمير تَلْمِزُوا للجمع بتقدير مضاف فيه. وأَنْفُسَكُمْ عبارة عن بعض آخر من جنس المخاطبين، وهم المؤمنون، فجعل ما هو من جنسهم بمنزلة أنفسهم، كما في قوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: ١٢٨]، وقوله: وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [النساء: ٢٩]، فأطلق الأنفس على الجنس استعارة.
ففي اللفظ الكريم تجوّز، وتقدير مضاف. والنهي على هذا مخصوص بالمؤمنين، وهو مغاير لما قبله، وإن كان مخصوصا بالمؤمنين أيضا بحسب المفهوم، لتغاير الطعن والسخرية، فلا يقال إن الأول مغن عنه، إذ السخرية ذكره بما يكره على وجه مضحك بحضرته، وهذا ذكره بما يكره مطلقا. أو هو تعميم بعد التخصيص، كما يعطف العام على الخاص، لإفادة الشمول. وقيل: إنه من عطف العلة على المعلول، أو اللمز مخصوص بما كان على وجه الخفية، كالإشارة. أو هو من عطف الخاص على العام لجعل الخاص كجنس آخر مبالغة. انتهى.
وقيل: معنى الآية: لا تفعلوا ما تلمزون به، فإن من فعل ما استحق به اللمز، فقد لمز نفسه.
قال الشهاب: ف أَنْفُسَكُمْ على ظاهره والتجوّز في قوله تَلْمِزُوا. فهو مجاز ذكر فيه المسبّب، وأريد السبب. والمراد: لا ترتكبوا أمرا تعابون به. وضعف بأنه بعيد من السياق، وغير مناسب لقوله وَلا تَنابَزُوا، كما في (الكشف)، وكونه من التجوّز في الإسناد، إذ أسند فيه ما للمسبب إلى السبب، تكلف ظاهر. وكذا كونه كالتعليل للنهي السابق، لا يدفع كونه مخالفا للظاهر. وكذا كون المراد به لا تتسببوا في الطعن فيكم، بالطعن على غيركم، كما في الحديث «١» (من الكبائر أن يشتم الرجل والديه)، إذ فسّر بأنه إذا شتم والدي غيره، شتم الغير والديه أيضا.
وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ أي ولا تداعوا بالألقاب التي يكره النبز بها الملقب فقد
(١) أخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ١٤٦، عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
532
روي أنه عنى بها قوم كانت لهم أسماء في الجاهلية، فلما أسلموا كانوا يغضبون من الدعاء بها رواه أحمد «١» وأبو داود. وفسره بعض السلف بقول الرجل للرجل: يا فاسق، يا منافق!، وبعض بتسمية الرجل بالكفر بعد الإسلام، وبالفسوق بعد التوبة. والآية- كما قال ابن جرير-: تشمل ذلك كله قال: لأن التنابز بالألقاب هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة.
بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ قال الزمخشريّ: الِاسْمُ هاهنا بمعنى الذكر. من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته.
وحقيقته ما سما ذكره، وارتفع بين الناس. ألا ترى إلى قولهم: أشاد بذكره؟ كأنه قيل بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب ارتكاب هذه الجرائر، أن يذكروا بالفسق. وفي قوله: بَعْدَ الْإِيمانِ ثلاثة أوجه:
أحدها- استقباح الجمع بين الإيمان وبين الفسق الذي يأباه الإيمان ويحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة، الصبوة.
والثاني- أنه كان في شتائمهم لمن أسلم من اليهود: يا يهوديّ! يا فاسق! فنهوا عنه، وقيل لهم: بئس الذكر، أن تذكروا الرجل بالفسق واليهودية بعد إيمانه.
والجملة على هذا التفسير متعلقة بالنهي عن التنابز.
والثالث- أن يجعل من فسق غير مؤمن، كما تقول للمتحوّل عن التجارة إلى الفلاحة: بئست الحرفة، الفلاحة بعد التجارة. انتهى.
واختار ابن جرير الثالث، لا ذهابا لرأي المعتزلة من أن الفاسق غير مؤمن، كما أنه غير كافر، فهو في منزلة بين المنزلتين بل لأن السياق يقتضي ختم الكلام بالوعيد، فإن التقليب بما يكرهه الناس أمر مذموم لا يجتمع مع الإيمان، فإن شعار الجاهلية. وعبارته: يقول تعالى ذكره: ومن فعل ما نهينا عنه، وتقدم على معصيتنا بعد إيمانه، فسخر من المؤمنين، ولمز أخاه المؤمن، ونبزه بالألقاب، فهو فاسق بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ يقول: فلا تفعلوا فتستحقوا، إن فعلتموه، أن تسموا فساقا، بئس الاسم الفسوق. وترك ذكر ما وصفنا من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ عليه. ثم ضعف القول الثاني وقال: وغير ذلك من التأويل أولى بالكلام، وذلك أن الله تقدم بالنهي عما تقدم النهي عنه في أول هذه الآية،
(١) أخرجه في المسند ٤/ ٢٦٠.
533
فالذي هو أولى أن يختمها بالوعيد لمن تقدم على بغيه، أو بقبيح ركوبه ما ركب مما نهي عنه، لا أن يخبر عن قبح ما كان التائب أتاه من قبل توبته، إذ كانت الآية لم تفتتح بالخبر عن ركوبه ما كان ركب قبل التوبة من القبيح، فيختم آخرها بالوعيد عليه، أو بالقبيح. انتهى.
وَمَنْ لَمْ يَتُبْ أي من نبزه أخاه بما نهى الله عن نبزه به من الألقاب، أو لمزه إياه، أو سخريته منه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي الذين ظلموا أنفسهم فأكسبوها العقاب بركوبهم ما نهوا عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٢]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (١٢)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ أي كونوا على جانب منه. وذلك بأن تظنوا بالناس سوءا، فإن الظانّ غير محقق. وإبهام (الكثير) لإيجاب الاحتياط والتورع فيما يخالج الأفئدة من هواجسه، إذ لا داعية تدعو المؤمن للمشي وراءه، أو صرف الذهن فيه، بل من مقتضى الإيمان ظن المؤمنين بأنفسهم الحسن. قال تعالى:
لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ [النور: ١٢]. نعم! من أظهر فسقه، وهتك ستره، فقد أباح عرضه للناس. ومنه ما روي: من ألقى جلباب الحياء، فلا غيبة له. ولذا قال الزمخشريّ: والذي يميز الظنون التي يجب اجتنابها عما سواها، أن كل ما لم تعرف له أمارة صحيحة، وسبب ظاهر، كان حراما واجب الاجتناب. وذلك إذا كان المظنون به ممن شوهد من الستر والصلاح، وأونست منه الأمانة في الظاهر، فظنّ الفساد والخيانة به محرم، بخلاف من اشتهره الناس بتعاطي الريب، والمجاهرة بالخبائث.
إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ وهو ظن المؤمن بالمؤمن الشر، لا الخير إِثْمٌ أي مكسب للعقاب، لأن فيه ارتكاب ما نهي عنه.
قال حجة الإسلام الغزاليّ في (الإحياء) في بيان تحريم الغيبة بالقلب: اعلم أن سوء الظن حرام، مثل سوء القول. فكما يحرم عليك أن تحدّث غيرك بلسانك بمساوئ الغير، فليس لك أن تحدّث نفسك، وتسيء الظن بأخيك. قال: ولست
534
أعني به إلا عقد القلب، وحكمه على غيره بسوء الظن. فأما الخواطر وحديث النفس، فهو معفوّ عنه، بل الشك أيضا معفوّ عنه. ولكن المنهيّ عنه أن يظن. والظن عبارة عما تركن إليه النفس، ويميل إليه القلب. فقد قال تعالى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ. قال: وسبب تحريمه أن أسرار القلوب، لا يعلمها إلا علام الغيوب، فليس لك أن تعتقد في غيرك سوءا إلا إذا انكشف لك بعيان لا يقبل التأويل. فعند ذلك لا يمكنك أن لا تعتقد ما علمته وشاهدته. وما لم تشاهده بعينك، ولم تسمعه بأذنك، ثم وقع في قلبك، فإنما الشيطان يلقيه إليك، فينبغي أن تكذّبه فإن أفسق الفساق. إلى أن قال: فلا يستباح ظن السوء إلا بما يستباح به المال، وهو بعين مشاهدة، أو بينة عادلة. انتهى.
ولما كان من ثمرات سوء الظن التجسس، فإن القلب لا يقنع بالظن، ويطلب التحقيق فيشتغل بالتجسس، ذكر سبحانه النهي عنه، إثر سوء الظن لذلك، فقال تعالى: وَلا تَجَسَّسُوا قال ابن جرير: أي لا يتبع بعضكم عورة بعض، ولا يبحث عن سرائره، يبتغي بذلك الظهور على عيوبه، ولكن اقنعوا بما ظهر لكم من أمره، وبه فاحمدوا أو ذموا، لا على ما تعلمونه من سرائره.
يقال: تجسس الأمر إذا تطلبه، وبحث عنه، كتلمس. قال الشهاب: الجس (بالجيم) كاللمس، فيه معنى الطلب، لأن من يطلب الشيء يمسه ويجسه، فأريد به ما يلزمه. واستعمل التفعل للمبالغة فيه.
قال الغزاليّ: ومعنى التجسس أن لا يترك عباد الله تحت ستر الله. فيتوصل إلى الاطلاع، وهتك الستر، حتى ينكشف له ما لو كان مستورا عنه، كان أسلم لقلبه ودينه.
وقد روي في معنى الآية أحاديث كثيرة. منها
حديث «١»
أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خطب فرفع صوته حتى أسمع العواتق في خدورهن، فقال: «يا معشر من آمن بلسانه، ولم يخلص الإيمان إلى قلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين، فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه، ولو في جوف بيته».
وفي الصحيح» عنه صلّى الله عليه وسلّم: «لا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانا».
(١) أخرجه الترمذي في: البرّ والصلة، ٨٥- باب ما جاء في تعظيم المؤمن، عن ابن عمر.
(٢) أخرجه البخاري في: النكاح، ٤٥- باب لا يخطب على خطبة أخيه حتى ينكح أو يدع، حديث رقم ٢١٢٥، عن أبي هريرة.
535
وروى أبو داود «١» أن ابن مسعود رضي الله عنه أتى برجل، فقيل له: هذا فلان، تقطر لحيته خمرا! فقال: إنا قد نهينا عن التجسس، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به- والرجل سماه ابن أبي حاتم في روايته: الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
وروى أبو داود «٢» عن معاوية قال: سمعت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم».
فقال أبو الدرداء رضي الله عنه:
كلمة سمعها معاوية من رسول الله، نفعه الله بها.
وروى الإمام أحمد «٣» عن دجين، كاتب عقبة، قال: قلت لعقبة: إنا لنا جيرانا يشربون الخمر، وأنا داع لهم الشّرط فيأخذونهم! قال: لا تفعل، ولكن عظهم وتهددهم! قال: ففعل فلم ينتهوا. قال: فجاءه دجين فقال: إني نهيتهم فلم ينتهوا، وإني داع لهم الشّرط فتأخذهم! فقال له عقبة: ويحك! لا تفعل، فإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها» !.
وروى أبو داود «٤» عن أبي أمامة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم».
قال الأوزاعيّ: ويدخل في التجسس استماع قوم وهم له كارهون.
وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي لا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب، ما يكره المقول فيه ذلك، أن يقال له في وجهه. يقال: غابه واغتابه، كغاله واغتاله، إذا ذكره بسوء في غيبته. أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ؟ أي فلو عرض عليكم، نفرت عنه نفوسكم، وكرهتموه. فلذا ينبغي أن تكرهوا الغيبة. وفيه استعارة تمثيلية، مثّل اغتياب الإنسان لآخر بأكل لحم الأخ ميتا.
لطائف:
الأولى- قال الزمخشريّ: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إلخ تمثيل وتصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفظع وجه وأفحشه، وفيه مبالغات شتى: منها- الاستفهام الذي معناه التقرير (وهو يفيد المبالغة من حيث إنه لا يقع في كلام مسلم
(١) أخرجه أبو داود في: الأدب، ٣٧- باب في النهي عن التجسس، حديث رقم ٤٨٩٠.
(٢) أخرجه أبو داود في: الأدب، ٣٧- باب في النهي عن التجسس، حديث ٤٨٨٨.
(٣) أخرجه في المسند ٤/ ١٤٧.
(٤) أخرجه في: الأدب، ٣٧- باب في النهي عن التجسس، حديث رقم ٤٨٨٩.
536
عند كل سامع، حقيقة أو ادعاء) ومنها- جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. ومنها- إسناد الفعل إلى (أحدكم) والإشعار بأن أحدا من الأحدين لا يحب ذلك.
ومنها- أن لم يقتصر تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان، حتى جعل الإنسان أخا.
ومنها- أن لم يقتصر على أكل لحم الأخ، حتى جعل ميتا. انتهى.
وقال ابن الأثير في (المثل السائر) في بحث الكناية: فمن ذلك قوله تعالى أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ إلخ فإنه كنى عن الغيبة بأكل الإنسان لحم إنسان آخر مثله، ثم لم يقتصر على ذلك حتى جعله ميتا، ثم جعل ما هو الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة. فهذه أربع دلالات واقعة على ما قصدت له، مطابقة للمعنى الذي وردت من أجله. فأما جعل الغيبة كأكل لحم الإنسان لحم إنسان آخر مثله، فشديد المناسبة جدا، لأن الغيبة إنما هي ذكر مثالب الناس، وتمزيق أعراضهم. وتمزيق العرض مماثل لأكل الإنسان لحم من يغتابه، لأن أكل اللحم تمزيق على الحقيقة.
وأما جعله كلحم الأخ فلما في الغيبة من الكراهة، لأن العقل والشرع مجتمعان على استكراهها، آمران بتركها، والبعد عنها. ولما كانت كذلك جعلت بمنزلة لحم الأخ في كراهته. ومن المعلوم أن لحم الإنسان مستكره عند إنسان آخر، إلا أنه لا يكون مثل كراهة لحم أخيه. فهذا القول مبالغة في استكراه الغيبة. وأما جعله ما هو في الغاية من الكراهة موصولا بالمحبة، فلما جبلت عليه النفوس من الميل إلى الغيبة، والشهوة لها، مع العلم بقبحها فانظر أيها المتأمل إلى هذه الكناية تجدها من أشد الكنايات شبها، لأنك إذا نظرت إلى كل واحدة من تلك الدلالات الأربع التي أشرنا إليها، وجدتها مناسبة لما قصدت له. انتهى.
الثانية- الفاء في قوله تعالى فَكَرِهْتُمُوهُ فصيحة في جواب شرط مقدّر.
والمعنى: إن صح ذلك، أو عرض عليكم هذا، فقد كرهتموه، فما ذكر جواب للشرط، وهو ماض فيقدر معه (قد) ليصح دخول الفاء على الجواب الماضي، كما في قوله تعالى: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ [الفرقان: ١٩]، وضمير فَكَرِهْتُمُوهُ للأكل، وقد جوز كونه للاغتياب المفهوم منه. والمعنى: فاكرهوه كراهيتكم لذلك الأكل. وعبر عنه بالماضي للمبالغة، فإذا أوّل بما ذكر يكون إنشائيا غير محتاج لتقدير (قد) - أفاده الشهاب-.
الثالثة- قال ابن الفرس: يستدل بالآية على أنه لا يجوز للمضطر أكل ميتة
537
الآدميّ لأنه ضرب به المثل في تحريم الغيبة، ولم يضرب بميتة سائر الحيوان. فدل على أنه في التحريم فوقها. ومن أراد استيفاء مباحث الغيبة فعليه (بالإحياء) للغزاليّ، فإنه جمع فأوعى.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي خافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظن السوء والتجسس عما ستر والاغتياب وغير ذلك من المناهي. إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ أي يقبل توبة التائبين إليه، ويتكرم برحمته عن عقوبتهم بعد متابهم.
ثم نبه تعالى، بعد نهيه عن الغيبة واحتقار الناس بعضهم لبعض، على تساويهم في البشرية، كما قال ابن كثير، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٣]
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (١٣)
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى أي من آدم وحواء. أو من ماء ذكر من الرجال، وماء أنثى من النساء. أي: من أب وأم، فما منكم أحد إلا وهو يدلي بمثل ما يدلي به الآخر، سواء بسواء، فلا وجه للتفاخر والتفاضل في النسب.
وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا قال ابن جرير: وجعلناكم متناسبين، فبعضكم يناسب بعضا نسبا بعيدا، وبعضكم يناسب بعضا نسبا قريبا. ليعرف بعضكم بعضا في قرب القرابة منه وبعده، لا لفضيلة لكم في ذلك، وقربة تقربكم إلى الله، بل كما قال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ أي أشدكم اتقاء له وخشية بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا، ولا أكثركم عشيرة.
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ أي بظواهركم وبواطنكم، وبالأتقى والأكرم، وغير ذلك، لا تخفى عليه خافية.
تنبيهات:
الأول- حكى الثعالبيّ في (فقه اللغة) في تدريج القبيلة من الكثرة إلى القلة عن ابن الكلبيّ عن أبيه: أن الشّعب (بفتح الشين) أكبر من القبيلة، ثم القبيلة، ثم العمارة، (بكسر العين) ثم البطن، ثم الفخذ. وعن غيره: الشعب، ثم القبيلة، ثم الفصيلة، ثم العشيرة، ثم الذرية، ثم العترة، ثم الأسرة. انتهى.
538
وقال الشيخ ابن برّي: الصحيح في هذا ما رتبه الزبير بن بكار وهو: الشعب، ثم القبيلة، ثم العمارة، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة، قال أبو أسامة: هذه الطبقات على ترتيب خلق الإنسان، فالشعب أعظمها، مشتق من شعب الرأس، ثم القبيلة من قبيلة الرأس لاجتماعها، ثم العمارة وهي الصدر، ثم البطن، ثم الفخذ، ثم الفصيلة وهي الساق. وزاد بعضهم العشيرة فقال:
أقصد الشّعب فهو أكثر حيّ عددا في الحواء ثم القبيلة
ثم يتلوهما العمارة ثم ال بطن والفخذ بعدها والفصيلة
ثم من بعدها العشيرة لكن هي في جنب ما ذكرنا قليله
فخزيمة شعب، وكنانة قبيلة، وقريش عمارة، وقصيّ بطن، وهاشم فخذ، والعباس فصيلة. وسميت (الشعوب) لأن القبائل تشعبت منها. و (الشعوب) جمع شعب، بفتح الشين.
قال أبو عبيد البكريّ في (شرح نوادر أبي علي القالي) : كل الناس حكى الشعب في القبيلة بالفتح، وفي الجبل بالكسر، إلا بندار فإنه رواه عن أبي عبيدة بالعكس. نقله الزبيديّ في (تاج العروس).
الثاني- في الآية الاعتناء بالأنساب، وأنها شرعت للتعارف، وذم التفاخر بها، وأن التقيّ غير النسيب، يقدم على النسيب غير التقيّ، فيقدم الأورع في الإمامة على النسيب غيرهما.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن وهب قال: سألت مالكا عن نكاح الموالي العربية فقال: حلال، ثم تلا هذه الآية، فلم يشترط في الكفاءة الحرية- نقله في (الإكليل).
وقال ابن كثير: استدل بالآية، من ذهب إلى أن الكفاءة في النكاح لا تشترط، ولا يشترط سوى الدين.
الثالث- أفاد قوله تعالى: لِتَعارَفُوا حصر حكمة جعلهم شعوبا وقبائل فيه.
أي إنما جعلناكم كذلك ليعرف بعضكم بعضا، فتصلوا الأرحام، وتبينوا الأنساب والتوارث، لا للتفاخر بالآباء والقبائل.
قال الشهاب: الحصر مأخوذ من التخصيص بالذكر، والسكوت في معرض البيان.
539
وقال القاشانيّ: معنى قوله تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ لا كرامة بالنسب، لتساوي الكل في البشرية المنتسبة إلى ذكر وأنثى. والامتياز بالشعوب والقبائل إنما يكون لأجل التعارف بالانتساب، لا للتفاخر، فإنه من الرذائل. والكرامة لا تكون إلا بالاجتناب عن الرذائل الذي هو أصل التقوى. ثم كلما كانت التقوى أزيد رتبة، كان صاحبها أكرم عند الله، وأجل قدرا. فالمتقي عن المناهي الشرعية، التي هي الذنوب، في عرف ظاهر الشرع، أكرم من الفاجر، وعن الرذائل الخلقية كالجهل والبخل والشره والحرص والجبن، أكرم من المجتنب عن المعاصي الموصوف بها. انتهى.
الرابع-
روي في معنى الآية أحاديث كثيرة، منها ما رواه البخاريّ «١» عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أيّ الناس أكرم؟ قال: «أكرمهم عند الله أتقاهم.
قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف نبيّ الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله. قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: فعن معادن العرب تسألوني؟
قالوا: نعم. قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا»
.
وروى مسلم «٢» عنه أيضا: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم.
وروى الإمام «٣» أحمد عن أبي ذر قال: إن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال له: انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود، إلا أن تفضله بتقوى الله.
وروى البزار في مسنده عن حذيفة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «كلكم بنو آدم، وآدم خلق من تراب، ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم، أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان».
وروى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن ابن عمر أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال في خطبته يوم فتح مكة: «أيها الناس! إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها. فالناس رجلان: رجل برّ تقيّ كريم على الله تعالى، ورجل فاجر يتّقى، هين على الله تعالى. إن الله عزّ وجلّ يقول: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى..
الآية»
.
(١) أخرجه في: الأنبياء، ٨- باب قول الله تعالى وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا، حديث رقم ١٥٨٧.
(٢) أخرجه مسلم في: البرّ والصلة والآداب. حديث رقم ٣٤. عن أبي هريرة.
(٣) أخرجه في المسند في ٥/ ١٥٨. [.....]
540
وبقيت أحاديث أخر ساقها ابن كثير، فانظرها.
وروى الطبريّ عن عطاء قال: قال ابن عباس: ثلاث آيات جحدهن الناس: الإذن كله وقال: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ وقال الناس: أكرمكم أعظمكم بيتا. قال عطاء: نسيت الثالثة.
ولما كانت طليعة السورة في الحديث عن جفاة الأعراب، والإنكار على مساوئ أخلاقهم، ثم تأثرها من المناهي عن المنكرات التي تكثر فيهم، ما كانوا فيها هم المقصود أولا وبالذات، ثم غيرهم ثانيا وبالعرض ختمها بتعريف أن من كان على شاكلتهم في ارتكاب تلك المناهي، فهو ممن لم يخامر فؤاده الإيمان، ثم بيان من المؤمن حقّا، ليفقهوا أن الأمر ليس كما يزعمون، فقال سبحانه وتعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٤]
قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٤)
قالَتِ الْأَعْرابُ أي المحدث عنهم في أول السورة آمَنَّا أي بالله ورسوله، فنحن مؤمنون، زعما أن التلفظ بمادة الإيمان هو عنوان كل مكرمة وإحسان. قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا أي لستم مؤمنين، وإن أخبرتم عنه، لأن الإيمان قول وعمل. وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا أي انقدنا ودخلنا في السلم خوف السباء والقتل وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ أي لأنه لو حل الإيمان في القلوب لتأثر منه البدن، وظهر عليه مصداقه من الأعمال الصالحة، والبعد من ركوب المناهي، فإن لكل حق حقيقة، ولكل دعوى شاهد. فإن قيل: في قوله وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ بعد قوله قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا شبه التكرار من غير استقلال بفائدة متجددة؟ والجواب: إن فائدة قوله لَمْ تُؤْمِنُوا تكذيب دعواهم، وقوله وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ توقيت لما أمروا به أن يقولوه، كأنه قيل لهم: ولكن قولوا أسلمنا حين لم تثبت مواطأة قلوبكم لألسنتكم، لأنه كلام واقع موقع الحال من الضمير في قُولُوا. وما في لَمَّا من معنى التوقع، دال على أن هؤلاء قد آمنوا فيما بعد، فلا تكرار. هذا ما أشار له الزمخشريّ، واختار كون الجملة حالا، لا مستأنفة، إخبارا منه تعالى، فإنه غير مفيد لما ذكر.
تنبيهات:
الأول- قال في (الإكليل) : استدل بالآية من لم ير الإيمان والإسلام مترادفين،
541
بل بينهما عموم وخصوص مطلق، لأن الإسلام الانقياد للعمل ظاهرا، والإيمان تصديق القلب كما قال وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ. انتهى.
وهذا الاستدلال في غاية الضعف. لأن ترادفهما شرعا لا يمنع من إطلاقهما بمعناهما اللغويّ في بعض المواضع. وإبانة ذلك موكولة إلى القرائن، وهي جلية، كما هنا. وإلا فآية إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [آل عمران: ١٩]، أكبر مناد على اتحادهما. ومن اللطائف أن يقال في الإيمان والإسلام ما قالوه في الفقير والمسكين، إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا. والإيمان والإسلام وأمثالهما ألفاظ شرعية محضة، ولم يطلقها الشرع إلا على القول والعمل، كما أوضح ذلك الإمام ابن حزم في (الفصل) فانظره.
الثاني- قال في (الإكليل) : في الآية رد على الكرامية في قولهم إن الإيمان هو الإقرار باللسان، دون عقد القلب، وهو ظاهر. وقد استوفى الرد عليهم كغيرهم، الإمام ابن حزم في (الفصل)، فراجعه.
الثالث- قيل، مقتضى الظاهر أن يقول: قل لا تقولوا آمنا ولكن قولوا أسلمنا.
أو: لم تؤمنوا ولكن أسلمتم. فعدل عنه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان والجزم بإسلامهم، وقد فقد شرط اعتباره شرعا. وقيل: إنه من الاحتباك، وأصله: لم تؤمنوا فلا تقولوا آمنا، ولكن أسلمتم، فقولوا أسلمنا، فحذف من كل منهما نظير ما أثبت في الآخر. والأول أبلغ لأنهم ادعوا الإيمان فنفي عنهم، ثم استدرك عليه فقال: دعوا ادعاء الإيمان، وادّعوا الإسلام، فإنه الذي ينبغي أن يصدر عنكم على ما فيه، فنفى الإيمان، وأثبت لهم قول الإسلام دون الاتصاف به، وهو أبلغ مما ذكر من الاحتباك، مع سلامته من الحذف بلا قرينة- هذا ما في القاضي وحواشيه.
وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي فتأتمروا لأوامرهما، وتنتهوا عما نهياكم عنه.
والخطاب لهؤلاء الأعراب القائلين آمنا لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً أي لا يظلمكم من أجور أعمالكم شيئا، ولا ينقصكم من ثوابها.
قال الزمخشريّ: يقال (ألته السلطان حقه أشد الألت) وهي لغة غطفان. ولغة أسد، وأهل الحجاز- لاته ليتا- وحكى الأصمعيّ عن أم هشام السلولية أنها قالت:
الحمد لله الذي لا يفات ولا يلات ولا تصمه الأصوات. وقرئ باللغتين لا يَلِتْكُمْ و (لا يألتكم). ونحوه في المعنى فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً [الأنبياء: ٤٧].
542
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أي لمن أطاعه وتاب إليه من سالف ذنوبه، فأنيبوا إليه أيها الأعراب، وتوبوا من النفاق، واعقدوا قلوبكم على الإيمان، والعمل بمقتضياته، يغفر لكم ويرحمكم.
ثم بين تعالى الإيمان، وما به يكون المؤمن مؤمنا، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٥]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (١٥)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا أي لم يقع في نفوسهم شك فيما آمنوا به من وحدانية الله ونبوّة نبيه، وألزموا نفوسهم طاعة الله، وطاعة رسوله، والعمل بما وجب عليهم من فرائض الله بغير شك في وجوب ذلك عليهم.
وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي جاهدوا المشركين بإنفاق أموالهم، وبذل مهجهم في جهادهم، على ما أمرهم الله به من جهادهم، وذلك سبيله، لتكون كلمة الله العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى- قاله ابن جرير: وقدّمنا مرارا أن قصر (سبيل الله) على غزو الكفار المعتدين، من باب قصر العام على أهم أفراده وأعلاها، وإلا فسبيل الله يعم العبادات والطاعات كلها، لأنها في سبيله وجهته.
قال الشهاب: وقدم الأموال، لحرص الإنسان عليها، فإن ماله شقيق روحه.
وجاهَدُوا بمعنى: بذلوا الجهد. أو مفعوله مقدر، أي العدوّ أو النفس والهوى.
أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ أي الذين صدقوا في ادّعاء الإيمان، لظهور أثر الصدق على جوارحهم، وتصديق أفعالهم وأقوالهم. وفيه تعريض يكذب أولئك الأعراب في ادعائهم الإيمان وإفادة للحصر. أي: هم الصادقون، لا هؤلاء، أو إيمانهم إيمان صدق وجد.
تنبيهات:
الأول- قال في (الإكليل) : في الآية دليل على أن الأعمال من الإيمان. وقدمنا أن هذا ما لا خلاف فيه بين السلف، وليراجع في ذلك ما بسطه ابن حزم رحمه الله في (الفصل).
الثاني- قال القاشانيّ: في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ.. الآية إشارة إلى
الإيمان المعتبر الحقيقيّ، وهو اليقين الثابت في القلب المستقر الذي لا ارتياب معه، لا الذي يكون على سبيل الخطرات، فالمؤمنون هم الموقنون الذين غلبت ملكة اليقين قلوبهم على نفوسهم، ونورتها بأنوارها، فتأصلت فيها ملكة القلوب حتى تأثرت بها الجوارح، فلم يمكنها إلا الجري بحكمها، والتسخر لهيأتها، وذلك معنى قوله: وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بعد نفي الارتياب عنهم، لأن بذل المال والنفس في طريق الحق هو مقتضى اليقين الراسخ، وأثره في الظاهر. انتهى.
الثالث- قال في (الكشاف) : فإن قلت: ما معنى (ثم) هاهنا، وهي للتراخي.
وعدم الارتياب يجب أن يكون مقارنا للإيمان، لأنه وصف فيه، لما بينت من إفادة الإيمان معنى الثقة والطمأنينة التي حقيقتها التيقن وانتفاء الريب؟ قلت: الجواب على طريقين:
أحدهما- أن من وجد منه الإيمان ربما اعترضه الشيطان، أو بعض المضلين، بعد ثلج الصدر، فشككه وقذف في قلبه ما يثلم يقينه. أو نظر هو نظرا غير سديد يسقط به على الشك، ثم يستمر على ذلك، راكبا رأسه، لا يطلب له مخرجا.
فوصف المؤمنون حقّا بالبعد عن هذه الموبقات. ونظيره قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا.
والثاني- أن الإيقان وزوال الريب، لما كان ملاك الإيمان، أفرد بالذكر بعد تقدم الإيمان تنبيها على مكانه. وعطف على الإيمان بكلمة التراخي، إشعارا باستقراره في الأزمنة المتراخية المتطاولة غضّا جديدا. انتهى.
يعني: أنه إما لنفي الشك عنهم فيما بعد، فدل على أنهم كما لم يرتابوا أولا لم تحدث لهم ريبة، فالتراخيّ زمانيّ لا رتبيّ على ما مرّ في قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا.
أو عطفه عليه عطف جبريل على الملائكة، تنبيها على أصالته في الإيمان، حتى كأنه شيء آخر. فثم دلالة على استمراره قديما وحديثا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٦]
قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٦)
قُلْ أي لهؤلاء الأعراب القائلين بأفواههم آمَنَّا. أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ أي أتخبرونه بقولكم آمَنَّا، بطاعتكم إياه لتكونوا مع المؤمنين عنده، ولا تبالون بعلمه بما أنتم عليه، من التعليم، بمعنى الإعلام والإخبار، فلذا تعدى
للثاني بالباء. وقيل: تعدى بها لتضمين معنى الإحاطة أو الشعور. وفيه تجهيل لهم وتوبيخ. أي لأن قولهم آمَنَّا إن كان إخبارا للخلق فلا دليل على صدقه، وإن كان للحق تعالى فلا معنى له، لأنهم كيف يعلمونه، وهو العالم بكل شيء، كما قال وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ قال ابن جرير: هذا ما تقدم من الله إلى هؤلاء الأعراب بالنهي عن أن يكذبوا ويقولوا غير الذي هم عليه من دينهم. يقول: الله محيط بكل شيء عالم به، فاحذروا أن تقولوا خلاف ما يعلم من ضمائركم، فينالكم عقوبته، فإنه لا يخفى عليه شيء.
ثم أشار إلى نوع آخر من جفائهم، مختوما بتوعدهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٧]
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٧)
يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا أي انقادوا وكثّروا سواد أتباعك. قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي بإسلامكم، إذ لا ثمرة منه إليّ مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ [الإسراء: ١٥]، بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي في قولكم آمَنَّا لكن علم الله من قلوبكم أنكم كاذبون، لاطلاعه على الغيوب، كما قال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الحجرات (٤٩) : آية ١٨]
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٨)
إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ قال ابن جرير يقول تعالى ذكره: إن الله أيها الأعراب لا يخفى عليه الصادق منكم من الكاذب، ومن الداخل منكم في ملة الإسلام رغبة فيه، ومن الداخل فيه رهبة من الرسول وجنده، فلا تعلّمونا دينكم وضمائر صدوركم، فإن الله لا يخفى عليه شيء في خبايا السموات والأرض.
تنبيهات:
الأول-
روى الحافظ أبو بكر البزار عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا رسول الله! أسلمنا وقاتلتك العرب، ولم نقاتلك. فقال
545
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن فقههم قليل، وإن الشيطان ينطق على ألسنتهم- ونزلت هذه الآية-.
وقال ابن زيد: هذه الآيات نزلت في الأعراب. ولا يبعد أن يكون المحدث عنهم في آخر السورة من جفاة الأعراب، غير المعنيّين أولها، وإنما ضموا إليهم لاشتراكهم معهم في غلظة القول وخشونته، ويحتمل أن يكون النبأ لقبيلة واحدة- والله أعلم.
الثاني- في قوله تعالى بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ الآية، ملاحظة المنة لله، والفضل في الهداية، والقيام بواجب شكرها، والاعتراف بها، كما
قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم للأنصار يوم حنين «١» :«يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلّالا فهداكم الله بي، وكنتم متفرّقين فألّفكم الله بي. وكنتم عالة فأغناكم الله بي» ؟
- كلما قال شيئا، قالوا: الله ورسوله أمنّ.
وما ألطف قول أبي إسحاق الصابي في طليعة كتاب له، بعد الثناء على الله تعالى: وبعث إليهم رسلا منهم يهدونهم إلى الصراط المستقيم، والفوز العظيم، ويعدلون بهم عن المسلك الذميم، والمورد الوخيم، فكان آخرهم في الدنيا عصرا، وأولهم يوم الدين ذكرا، وأرجحهم عند الله ميزانا، وأوضحهم حجة وبرهانا، وأبعدهم في الفضل غاية، وأبهرهم معجزة وآية، محمد صلّى الله عليه وسلّم تسليما، الذي اتخذه صفيّا وحبيبا، وأرسله إلى عباده بشيرا ونذيرا، على حين ذهاب منهم مع الشيطان، وصدوف عن الرحمن، وتقطيع للأرحام، وسفك للدماء الحرام، واقتراف للجرائم، واستحلال للمآثم. أنوفهم في المعاصي حمية، ونفوسهم في غير ذات الله أبية، يدعون معه الشركاء، ويضيفون إليه الأكفاء، ويعبدون من دونه ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنهم شيئا. فلم يزل صلّى الله عليه وسلّم يقذف في أسماعهم فضائل الإيمان، ويقرأ على قلوبهم قوارع القرآن، ويدعوهم إلى عبادة الله باللطف لمّا كان وحيدا، وبالعنف لمّا وجد أنصارا وجنودا. لا يرى للكفر أثرا إلا طمسه ومحاه، ولا رسما إلا أزاله وعفّاه، ولا حجة مموّهة إلا كشفها ودحضها، ولا دعامة مرفوعة إلا حطها ووضعها، حتى ضرب الحق بجرانه، وصدع ببيانه، وسطع بمصباحه، ونصع بأوضاحه، واستنبط
(١) أخرجه البخاري في: المغازي، ٥٦- باب غزوة الطائف، حديث رقم ١٩٣١، عن عبد الله بن زيد ابن عاصم
546
الله هذه الأمة من حضيض النار، وعلّاها إلى ذروة الصلحاء والأبرار، واتصل حبلها بعد البتات، والتأم شملها بعد الشتات، واجتمعت بعد الفرقة، وتوادعت بعد الفتنة، فصلى الله عليه صلاة زاكية نامية، رائحة غادية، منجزة عدته، رافعة درجته.
الثالث- قال الرازيّ: هذه السورة فيها إرشاد المؤمنين إلى مكارم الأخلاق.
وهي إما مع الله تعالى، أو مع الرسول صلّى الله عليه وسلّم، أو مع غيرهما من أبناء الجنس. وهم على صنفين: لأنهم إما أن يكونوا على طريقة المؤمنين، وداخلين في رتبة الطاعة، أو خارجا عنها، وهو الفاسق. والداخل في طائفتهم، السالك لطريقتهم، إما أن يكون حاضرا عندهم، أو غائبا عنهم، فهذه خمسة أقسام:
أحدها- يتعلق بجانب الله.
وثانيها- بجانب الرسول.
وثالثها- بجانب الفسّاق.
ورابعها- بالمؤمن الحاضر.
وخامسها- بالمؤمن الغائب.
فذكر الله تعالى في هذه السورة خمس مرات يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، وأرشد في كل مرة إلى مكرمة مع قسم من الأقسام الخمسة.
فقال أولا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وذكر الرسول كان لبيان طاعة الله، لأنها لا تعلم إلا بقول رسول الله.
وقال ثانيا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ لبيان وجوب احترام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم.
وقال ثالثا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ لبيان وجوب الاحتراز عن الاعتماد على أقوالهم، فإنهم يريدون إلقاء الفتنة بينكم، وبيّن ذلك عند تفسير قوله: وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا.
وقال رابعا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ وقال وَلا تَنابَزُوا لبيان وجوب ترك إيذاء المؤمنين في حضورهم، والإزراء بحالهم ومنصبهم.
وقال خامسا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وقال: وَلا تَجَسَّسُوا وقال: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً لبيان وجوب الاحتراز
547
عن إهانة جانب المؤمن حال غيبته، وذكر ما لو كان حاضرا لتأذى. وهو في غاية الحسن من الترتيب.
فإن قيل: لم لم يذكر المؤمن قبل الفاسق لتكون المراتب متدرجة. الابتداء.
بالله ورسوله ثم بالمؤمن الحاضر ثم بالمؤمن الغائب ثم الفاسق؟.
نقول: قدم الله ما هو الأهم على ما دونه، فذكر جانب الله، ثم جانب الرسول، ثم ذكر ما يفضي إلى الاقتتال بين طوائف المسلمين بسبب الإصغاء إلى كلام الفاسق، والاعتماد عليه، فإنه يذكر كل ما كان أشد نفارا للصدور. وأما المؤمن الحاضر أو الغائب فلا يؤذي المؤمن إلى حدّ يفضي إلى القتال. ألا ترى أن الله تعالى ذكر عقيب نبأ الفاسق، آية الاقتتال فقال وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا؟
انتهى.
548
فهرس الجزء الثامن
من كتاب تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل
549
فهرس الجزء الثامن سورة الروم الآيات ١- ٦ ٤ الآيتان ٧ و ٨ ٥ الآيات ٩- ١٢ ٦ الآيات ١٣- ١٨ ٧ الآيات ١٩- ٢١ ٨ الآيات ٢٢- ٢٥ ٩ الآيتان ٢٦ و ٢٧ ١١ الآيات ٢٨- ٣٢ ١٣ الآيات ٣٣- ٣٦ ١٤ الآية ٣٧ ١٥ الآيتان ٣٨ و ٣٩ ١٦ الآية ٤٠ ١٧ الآيات ٤١- ٤٣ ١٨ الآيات ٤٤- ٥٠ ١٩ الآيات ٥١- ٥٣ ٢٠ الآيتان ٥٤ و ٥٥ ٢١ الآيتات ٥٦ و ٥٧ ٢٢ الآيات ٥٨- ٦٠ ٢٣ سورة لقمان الآيات ١- ٦ ٢٥ الآيات ٧- ١٢ ٢٦ الآيتان ١٣ و ١٤ ٢٨ الآية ١٥ ٢٩ الآيتان ١٦ و ١٧ ٣٠ الآيتان ١٨ و ١٩ ٣١ الآيات ٢٠- ٢٦ ٣٣ الآيات ٢٦- ٣٢ ٣٤ الآية ٣٣ ٣٥ الآية ٣٤ ٣٦ سورة السجدة الآيات ١- ٥ ٣٨ الآيات ٦- ١٢ ٣٩ الآيات ١٣- ١٦ ٤١ الآيات ١٧- ٢٢ ٤٢ الآيات ٢٣- ٢٧ ٤٣ الآيتان ٢٨ و ٢٩ ٤٤ الآية ٣٠ ٤٥
551
سورة الأحزاب الآيات ١- ٤ ٤٧ الآية ٥ ٤٩ الآية ٦ ٥١ الآية ٧ ٥٢ الآيتان ٨ و ٩ ٥٣ الآيات ١٠- ١٣ ٥٤ الآيات ١٤- ١٩ ٥٦ الآيتان ٢٠ و ٢١ ٥٧ الآيتان ٢٢ و ٢٣ ٥٨ الآيتان ٢٤ و ٢٥ ٥٩ الآيات ٢٦- ٢٨ ٦٤ الآيات ٢٩- ٣٣ ٦٦ الآيتان ٣٤ و ٣٥ ٧٥ الآية ٣٦ ٧٦ الآيتان ٣٧- ٣٩ ٧٩ الآية ٤٠ ٨٠ الآيتان ٤١ و ٤٢ ٨٩ الآية ٤٣ ٩٠ الآيات ٤٤- ٤٩ ٩١ الآية ٥٠ ٩٤ الآية ٥١ ٩٦ الآية ٥٢ ٩٧ الآية ٥٣ ٩٩ الآية ٥٤ ١٠١ الآية ٥٥ ١٠٤ الآية ٥٦ ١٠٦ الآية ٥٧ ١١٠ الآية ٥٨ ١١١ الآية ٥٩ ١١٢ الآيات ٦٠- ٦٢ ١١٤ الآيات ٦٣- ٦٦ ١١٦ الآيات ٦٧- ٦٩ ١١٧ الآيتان ٧٠ و ٧١ ١٢٣ الآية ٧٢ ١٢٤ الآية ٧٣ ١٢٥ سورة سبأ الآيتان ١ و ٢ ١٣٢ الآية ٣ ١٣٣ الآيات ٤- ٨ ١٣٤ الآية ٩ ١٣٥ الآيات ١٠- ١٢ ١٣٦
552
الآيتان ١٣ و ١٤ ١٣٧ الآيتان ١٥ و ١٦ ١٣٨ الآيات ١٧- ١٩ ١٣٩ الآيتان ٢٠ و ٢١ ١٤٢ الآية ٢٢ ١٤٣ الآية ٢٣ ١٤٤ الآية ٢٤ ١٤٥ الآية ٢٥ ١٤٦ الآيتان ٢٦ و ٢٧ ١٤٧ الآية ٢٨ ١٤٨ الآيات ٢٩- ٣١ ١٤٩ الآيات ٣٢- ٣٥ ١٥٠ الآيتان ٣٦ و ٣٧ ١٥١ الآيات ٣٨- ٤١ ١٥٢ الآيتان ٤٢ و ٤٣ ١٥٣ الآيات ٤٤- ٤٦ ١٥٤ الآيات ٤٧- ٤٩ ١٥٥ الآيات ٥٠- ٥٢ ١٥٦ الآيتان ٥٣ و ٥٤ ١٥٧ سورة فاطر الآيات ١- ٣ ١٥٩ الآيات ٤- ٨ ١٦٠ الآيتان ٩ و ١٠ ١٦١ الآية ١١ ١٦٢ الآيات ١٢- ١٤ ١٦٣ الآيات ١٥- ١٨ ١٦٤ الآيات ١٩- ٢٣ ١٦٥ الآيات ٢٤- ٢٧ ١٦٦ الآية ٢٨ ١٦٧ الآيات ٢٩- ٣٢ ١٦٨ الآيات ٣٣- ٣٧ ١٦٩ الآيات ٣٨- ٤٣ ١٧٠ الآيتان ٤٤ و ٤٥ ١٧١ سورة يس الآيات ١- ٥ ١٧٣ الآيات ٦- ٩ ١٧٤ الآية ١٠ ١٧٥ الآيات ١١- ١٤ ١٧٦ الآيات ١٥- ٢٠ ١٧٧ الآيات ٢١- ٢٥ ١٧٨ الآيات ٢٦- ٢٩ ١٧٩ الآيات ٣٠- ٣٢ ١٨٢ الآيات ٣٣- ٣٦ ١٨٣ الآيات ٣٧- ٤٠ ١٨٤
553
الآية ٤١ ١٨٦ الآيات ٤٢- ٤٥ ١٨٧ الآيات ٤٦- ٤٩ ١٨٨ الآيات ٥٠- ٥٥ ١٨٩ الآيات ٥٦- ٦٠ ١٩٠ الآيات ٦١- ٦٥ ١٩١ الآية ٦٦ ١٩٢ الآيات ٦٧- ٦٩ ١٩٣ الآيات ٧٠- ٧٤ ١٩٤ الآيات ٧٥- ٧٨ ١٩٥ الآيتان ٧٩ و ٨٠ ١٩٦ الآيات ٨١- ٨٣ ١٩٧ سورة الصافات الآيات ١- ٤ ٢٠٠ الآيات ٥- ٧ ٢٠١ الآيات ٨- ١٠ ٢٠٢ الآية ١١ ٢٠٤ الآيات ١٢- ١٨ ٢٠٥ الآيات ١٩- ٢٤ ٢٠٦ الآيات ٢٥- ٣٥ ٢٠٧ الآيات ٣٦- ٤٧ ٢٠٨ الآيات ٤٨- ٥٣ ٢٠٩ الآيات ٥٤- ٦٢ ٢١٠ الآيات ٦٣- ٦٧ ٢١١ الآيات ٦٨- ٧٠ ٢١٢ الآيات ٧١- ٧٩ ٢١٣ الآيات ٨٠- ٨٣ ٢١٤ الآيات ٨٤- ٨٨ ٢١٥ الآيات ٨٩- ٩٦ ٢١٦ الآيات ٩٧- ١٠١ ٢١٧ الآيات ١٠٢- ١٠٥ ٢١٨ الآيات ١٠٦- ١١٣ ٢١٩ الآيات ١١٤- ١١٨ ٢٢٤ الآيات ١١٩- ١٢٧ ٢٢٥ الآيات ١٢٨- ١٣٩ ٢٢٦ الآيات ١٤٠- ١٤٤ ٢٢٧ الآيات ١٤٥- ١٤٩ ٢٢٨ الآيات ١٥٠- ١٥٤ ٢٢٩ الآيات ١٥٥- ١٥٨ ٢٣٠ الآيتان ١٥٩ و ١٦٠ ٢٣١ الآيات ١٦١- ١٦٤ ٢٣٢ الآيات ١٦٥- ١٧٠ ٢٣٣
554
الآيات ١٧١- ١٧٦ ٢٣٤ الآيات ١٧٧- ١٨١ ٢٣٥ الآية ١٨٢ ٢٣٦ سورة ص الآيات ١- ٣ ٢٣٩ الآيات ٤- ٧ ٢٤٠ الآيتان ٨ و ٩ ٢٤١ الآيتان ١٠ و ١١ ٢٤٢ الآية ١٢ ٢٤٣ الآيتان ١٣ و ١٤ ٢٤٤ الآيات ١٥- ١٧ ٢٤٥ الآيات ١٨- ٢١ ٢٤٦ الآيات ٢٢- ٢٥ ٢٤٧ الآية ٢٦ ٢٥٣ الآية ٢٧ ٢٥٤ الآيتان ٢٨ و ٢٩ ٢٥٥ الآيات ٣٠- ٣٢ ٢٥٦ الآية ٣٣ ٢٥٧ الآيات ٣٤- ٣٩ ٢٦٠ الآية ٤٠ ٢٦١ الآيات ٤١- ٤٣ ٢٦٢ الآية ٤٤ ٢٦٣ الآيتان ٤٥ و ٤٦ ٢٦٦ الآيات ٤٧- ٥٠ ٢٦٧ الآيات ٥١- ٥٤ ٢٦٨ الآيات ٥٥- ٦٠ ٢٦٩ الآيات ٦١- ٦٣ ٢٧٠ الآيات ٦٤- ٦٧ ٢٧١ الآيتان ٦٨ و ٦٩ ٢٧٢ الآية ٧٠ ٢٧٣ الآيات ٧١- ٧٤ ٢٧٤ الآيات ٧٥- ٧٨ ٢٧٥ الآيات ٧٩- ٨٦ ٢٧٦ الآيتان ٨٧ و ٨٨ ٢٧٧ سورة الزّمر الآيات ١- ٤ ٢٧٩ الآيات ٥- ٧ ٢٨٠ الآيتان ٨ و ٩ ٢٨١ الآية ١٠ ٢٨٢ الآيات ١١- ١٥ ٢٨٣ الآيات ١٦- ١٩ ٢٨٤ الآيات ٢٠- ٢٢ ٢٨٥ الآيات ٢٣- ٢٥ ٢٨٦ الآيات ٢٦- ٢٩ ٢٨٧
555
الآيات ٣٠- ٣٢ ٢٨٨ الآيات ٣٣- ٣٨ ٢٨٩ الآيات ٣٩- ٤٢ ٢٩٠ الآيات ٤٣- ٤٦ ٢٩١ الآيات ٤٧- ٥٢ ٢٩٢ الآيات ٥٣- ٥٨ ٢٩٣ الآيات ٥٩- ٦٦ ٢٩٤ الآية ٦٧ ٢٩٥ الآيتان ٦٨ و ٦٩ ٢٩٦ الآيات ٧٠- ٧٣ ٢٩٧ الآيتان ٧٤ و ٧٥ ٢٩٨ سورة غافر الآيات ١- ٥ ٣٠١ الآيات ٦- ١٠ ٣٠٢ الآية ١١ ٣٠٣ الآيات ١٢- ١٥ ٣٠٤ الآيات ١٦- ٢٥ ٣٠٥ الآيات ٢٦- ٢٨ ٣٠٦ الآية ٢٩ ٣٠٧ الآيات ٣٠- ٣٣ ٣٠٨ الآيات ٣٤- ٣٧ ٣٠٩ الآيات ٣٨- ٤٢ ٣١٠ الآيتان ٤٣ و ٤٤ ٣١١ الآيات ٤٥- ٤٨ ٣١٢ الآيات ٤٩- ٥٢ ٣١٣ الآيات ٥٣- ٥٦ ٣١٤ الآيتان ٥٧ و ٥٨ ٣١٥ الآيتان ٥٩ و ٦٠ ٣١٦ الآيات ٦١- ٦٤ ٣١٧ الآيات ٦٥- ٦٧ ٣١٨ الآيات ٦٨- ٧٤ ٣١٩ الآيات ٧٥- ٧٨ ٣٢٠ الآيات ٧٩- ٨٢ ٣٢١ الآيات ٨٣- ٨٥ ٣٢٢ سورة فصلت الآيات ١- ٤ ٣٢٤ الآيات ٥- ٨ ٣٢٥ الآيات ٩- ١١ ٣٢٦ الآيتان ١٢ و ١٣ ٣٢٨ الآيات ١٤- ١٦ ٣٢٩ الآيات ١٧- ١٩ ٣٣٠ الآيتان ٢٠ و ٢١ ٣٣١ الآية ٢٢ ٣٣٣ الآيات ٢٣- ٢٦ ٣٣٤
556
الآيتان ٢٧ و ٢٨ ٣٣٥ الآيتان ٢٩ و ٣٠ ٣٣٦ الآيتان ٣١ و ٣٢ ٣٣٧ الآية ٣٣ ٣٣٨ الآية ٣٤ ٣٤٠ الآيات ٣٥- ٣٧ ٣٤١ الآيات ٣٨- ٤١ ٣٤٢ الآيتان ٤٢ و ٤٣ ٣٤٣ الآية ٤٤ ٣٤٤ الآيات ٤٥- ٤٧ ٣٤٥ الآيات ٤٨- ٥٠ ٣٤٦ الآيات ٥١- ٥٣ ٣٤٧ الآية ٥٤ ٣٤٨ سورة الشورى الآيات ١- ٣ ٣٥٠ الآيات ٤- ٧ ٣٥١ الآيات ٨- ١٠ ٣٥٢ الآية ١١ ٣٥٣ الآيتان ١٢ و ١٣ ٣٥٨ الآيتان ١٤ و ١٥ ٣٥٩ الآية ١٦ ٣٦٠ الآيات ١٧- ٢٠ ٣٦١ الآيات ٢١- ٢٣ ٣٦٢ الآية ٢٤ ٣٦٦ الآيات ٢٥- ٢٨ ٣٦٨ الآية ٢٩ ٣٦٩ الآيتان ٣٠ و ٣١ ٣٧٠ الآيات ٣٢- ٣٨ ٣٧١ الآيات ٣٩- ٤٢ ٣٧٢ الآية ٤٣ ٣٧٣ الآيات ٤٤- ٤٧ ٣٧٤ الآيات ٤٨- ٥٠ ٣٧٥ الآيات ٥١- ٥٣ ٣٧٦ سورة الزخرف الآيات ١- ٨ ٣٧٩ الآيات ٩- ١٤ ٣٨٠ الآيات ١٥- ١٧ ٣٨١ الآيات ١٨- ٢١ ٣٨٢ الآيات ٢٢- ٢٤ ٣٨٥ الآيات ٢٥- ٢٧ ٣٨٦ الآيات ٢٨- ٣٢ ٣٨٧ الآيات ٣٣- ٣٥ ٣٨٨ الآيات ٣٦- ٣٨ ٣٩٠ الآيات ٣٩- ٤٢ ٣٩١
557
الآيات ٤٣- ٤٥ ٣٩٢ الآيات ٤٦- ٥٠ ٣٩٣ الآيات ٥١- ٥٨ ٣٩٤ الآيتان ٥٩ و ٦٠ ٣٩٥ الآيات ٦١- ٦٤ ٣٩٦ الآيات ٦٥- ٦٧ ٣٩٨ الآيتان ٦٨ و ٦٩ ٣٩٩ الآيات ٧٠- ٧٣ ٤٠٠ الآيات ٧٤- ٧٩ ٤٠١ الآيات ٨٠- ٨٢ ٤٠٢ الآيات ٨٣- ٨٦ ٤٠٣ الآيات ٨٧- ٨٩ ٤٠٤ سورة الدخان الآيات ١- ٦ ٤٠٧ الآيات ٧- ١٢ ٤٠٨ الآيات ١٣- ١٦ ٤١٢ الآية ١٧ ٤١٥ الآيات ١٨- ٢٢ ٤١٦ الآيات ٢٣- ٢٨ ٤١٧ الآيات ٢٩- ٣١ ٤١٨ الآيات ٣٢- ٣٦ ٤١٩ الآية ٣٧ ٤٢٠ الآيتان ٣٨ و ٣٩ ٤٢١ الآيات ٤٠- ٤٧ ٤٢٢ الآيات ٤٨- ٥٤ ٤٢٣ الآيات ٥٥- ٥٩ ٤٢٤ سورة الجاثية الآيات ١- ٦ ٤٢٦ الآيات ٧- ١٣ ٤٢٧ الآيات ١٤- ١٦ ٤٢٨ الآيات ١٧- ١٩ ٤٢٩ الآيات ٢٠- ٢٢ ٤٣٠ الآيتان ٢٣ و ٢٤ ٤٣١ الآيات ٢٥- ٣١ ٤٣٣ الآيات ٣٢- ٣٥ ٤٣٤ الآيتان ٣٦ و ٣٧ ٤٣٥ سورة الأحقاف الآيات ١- ٤ ٤٣٧ الآيتان ٥ و ٦ ٤٣٨ الآيتان ٧ و ٨ ٤٣٩ الآية ٩ ٤٤٠ الآية ١٠ ٤٤١ الآيتان ١١ و ١٢ ٤٤٣ الآيات ١٣- ١٥ ٤٤٤
558
الآية ١٦ ٤٤٥ الآيات ١٧- ١٩ ٤٤٦ الآيتان ٢٠ و ٢١ ٤٤٨ الآيات ٢٢- ٢٥ ٤٤٩ الآية ٢٦ ٤٥٠ الآيتان ٢٧ و ٢٨ ٤٥١ الآيات ٢٩- ٣٢ ٤٥٢ الآيات ٣٣- ٣٥ ٤٦١ سورة محمد ﷺ الآيتان ١ و ٢ ٤٦٤ الآيتان ٣ و ٤ ٤٦٥ الآيات ٥- ١٠ ٤٦٩ الآيات ١١- ١٥ ٤٧٠ الآيات ١٦- ١٨ ٤٧١ الآية ١٩ ٤٧٢ الآية ٢٠ ٤٧٣ الآية ٢١ ٤٧٤ الآيات ٢٢- ٢٤ ٤٧٥ الآيتان ٢٥ و ٢٦ ٤٧٦ الآيات ٢٧- ٣١ ٤٧٧ الآيات ٣٢- ٣٥ ٤٧٨ الآيتان ٣٦ و ٣٧ ٤٧٩ الآية ٣٨ ٤٨٠ سورة الفتح الآية ١ ٤٨٢ الآية ٢ ٤٨٤ الآيات ٣- ٦ ٤٨٥ الآيات ٧- ٩ ٤٨٦ الآية ١٠ ٤٨٧ الآية ١١ ٤٩٢ الآيات ١٢- ١٤ ٤٩٤ الآية ١٥ ٤٩٥ الآيتان ١٦ و ١٧ ٤٩٦ الآية ١٨ ٤٩٧ الآيات ١٩- ٢١ ٤٩٩ الآيتان ٢٢ و ٢٣ ٥٠٠ الآية ٢٤ ٥٠١ الآية ٢٥ ٥٠٢ الآية ٢٦ ٥٠٤ الآية ٢٧ ٥٠٥ الآية ٢٨ ٥٠٨ الآية ٢٩ ٥٠٩
559
سورة الحجرات الآية ١ ٥١٥ الآية ٢ ٥١٧ الآية ٣ ٥١٨ الآيتان ٤ و ٥ ٥١٩ الآية ٦ ٥٢٢ الآية ٧ ٥٢٤ الآيتان ٨ و ٩ ٥٢٦ الآية ١٠ ٥٢٩ الآية ١١ ٥٣٠ الآية ١٢ ٥٣٤ الآية ١٣ ٥٣٨ الآية ١٤ ٥٤١ الآية ١٥ ٥٤٣ الآية ١٦ ٥٤٤ الآيتان ١٧ و ١٨ ٥٤٥
560

[المجلد التاسع]

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة ق
وتسمى سورة (الباسقات). وهي مكية بالإجماع. وآيها خمس وأربعون آية.
قال ابن كثير: وهذه السورة هي أول الحزب المفصل على الصحيح، وقيل: من الحجرات. وأما ما يقوله العوام أنه من (عمّ) فلا أصل له، ولم يقله أحد من العلماء المعتبرين فيما نعلم. والدليل ما رواه أوس بن حذيفة قال: سألت أصحاب رسول الله ﷺ كيف يحزبون القرآن؟ فقالوا: ثلاث، وخمس، وسبع، وتسع، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة وحزب المفصل وحده. فإذا عددت ثمانيا وأربعين سورة فالتي بعدهن سورة (ق) بيانه:
ثلاث: البقرة وآل عمران والنساء.
وخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة.
وسبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل.
وتسع: سبحان والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان.
وإحدى عشرة: الشعراء والنمل والقصص والعنكبوت والروم ولقمان وألم السجدة وسبأ وفاطر ويس.
وثلاث عشرة: الصافات وص والزمر وغافر وحم السجدة وحم عسق والزخرف والدخان والجاثية والأحقاف والقتال والفتح والحجرات.
ثم بعد ذلك الحزب المفصل، كما قاله الصحابة رضي الله عنهم، فتعيّن أن أوّله سورة (ق).
3
وروى الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن أن عمر بن الخطاب سأل أبا واقد الليثيّ: ما كان رسول الله ﷺ يقرأ في العيد؟ قال: ب (ق) و (اقتربت).
وروى مسلم وغيره، عن أم هشام بنت حارثة بن النعمان قالت: ما حفظت (ق) إلا من رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان يخطب بها كل جمعة.
وفي رواية: كان يقرؤها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس.
والقصد أن رسول الله ﷺ كان يقرأ بهذه السورة في المجامع الكبار، كالعيد والجمع، لاشتمالها على ابتداء الخلق والبعث والنشور والمعاد والقيام والحساب والجنة والنار والثواب والعقاب والترغيب والترهيب. انتهى.
4
Icon