تفسير سورة المائدة

مراح لبيد
تفسير سورة سورة المائدة من كتاب مراح لبيد لكشف معنى القرآن المجيد المعروف بـمراح لبيد .
لمؤلفه نووي الجاوي . المتوفي سنة 1316 هـ

سورة المائدة
مدنية، مائة وعشرون آية، ألفان وثمانمائة وسبع وثلاثون كلمة، اثنا عشر ألفا ومائتان وستة أحرف
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ وهي جميع ما ألزمه الله تعالى عباده من التكاليف والأحكام الدينية، وما يعقدونه فيما بينهم من عقود الأمانات والمعاملات ونحوها مما يجب الوفاء به أو يحسن دينا أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ أي أحل لكم أحل البهيمة من الأنعام، وهي الأزواج الثمانية المعدودة في سورة الأنعام. وقيل: المعنى أحلت لكم ما يماثل الأنعام ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار وعدم الأنياب، وذلك كالظباء وبقر الوحش ونحوهما من صيد البرية كحمر الوحش فأضيفت البهيمة إلى الأنعام لحصول المشابهة أي أحلت لكم البهيمة الشبيهة بالأنعام. وقيل: المعنى أحلت لكم أجنة الأنعام. وهذان القولان مرويان عن ابن عباس، وهذا الثالث مروي أيضا عن ابن عمر وهذا الوجه يدل على صحة مذهب الشافعي في أن الجنين مذكى بذكاة الأم إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ في هذه السورة غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي إلا إن كانت الأنعام ميتة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو افترسها السبع أو ذبحت على غير اسم الله فهي محرمة وإلا أن تحلوا الصيد في حال إحرامكم أو في حال كونكم في الحرم فإنه لا يحل لكم ذلك إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (١) من التحليل وغيره لا اعتراض عليه ولا معقب لحكمه فموجب التكليف والحكم هو إرادته لا مراعاة المصالح يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً أي يا أيها الذين آمنوا أقروا بالإيمان لا تحلوا معالم دين الله. أي لا تهاونوا شيئا من فرائضه تعالى ولا تحلوا الشهر الحرام: ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم ورجب بالقتال فيه والغارة.
قال أبو السعود: والمراد بالشهر الحرام شهر الحج. وقال عكرمة: هو ذو القعدة. واختار ابن جرير أنه رجب لأنه أكمل الأشهر الأربعة. ولا تحلوا الهدي بالعصب أو بالمنع عن بلوغ محله، وهو ما أهدي إلى بيت الله من إبل أو بقر أو شاة. ولا تحلوا ذوات القلائد من الهدي
248
وهي: البدن. ولا تحلوا قوما قاصدين زيادة المسجد الحرام بصدهم عن ذلك بأي وجه كان.
وقرأ عبد الله «ولا آميّ البيت الحرام» بالإضافة حال كونهم مبتغين فضلا من ربهم بالتجارة المباحة، أو المعنى طالبين ثوابا من ربهم ورضوانا. وقرأ حميد بن قيس
الأعرج «تبتغون» بالتاء على خطاب المؤمنين. فالجملة حينئذ حال من الضمير في «لا تحلوا» وإضافة الرب إلى ضمير «الآمين» للإشارة إلى اقتصار التشريف عليهم وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا والأمر للإباحة أي وإذا خرجتم من الإحرام والحرم فلا جناح عليكم في اصطياد حيوان البرية وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا أي ولا يحملنكم بغضكم لقوم من أهل مكة بمنعهم، إياكم عن المسجد الحرام أي عن العمرة عام الحديبية على ظلمكم عليهم وانتقامكم منهم للتشفي من البغض.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير «إن صدوكم» بكسر الهمزة على أنه شرط معترض أغنى عن جوابه «لا يجرمنكم». والمعنى إن وقع صد مثل ذلك الصد الذي وقع عام الحديبية وهي سنة ست، على أن نزول هذه الآية عام الفتح وهو سنة ثمان غير مجمع عليه وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى أي على متابعة الأمر ومجانبة الهوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ أي المعصية للتشفي وَالْعُدْوانِ أي التعدي في حدود الله للانتقام. وَاتَّقُوا اللَّهَ في جميع الأمور ولا تستحلوا شيئا من محارمه إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢) لمن لا يتقيه فلا يطيق أحد عقابه حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ أي حرم عليكم أكل ما فارقته الروح من غير ذبح شرعي وكان أهل الجاهلية يقولون: إنكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله.
واعلم أن تحريم الميتة موافق لما في العقول، لأن الدم جوهر لطيف جدا فإذا مات الحيوان حتف أنفه احتبس الدم في عروقه، وتعفن وفسد وحصل من أكله مضار عظيمة، وَالدَّمُ أي السائل منه. فخرج الكبد والطحال وكان أهل الجاهلية يملؤون الأمعاء من الدم بصبه فيها ويشوونه ويطعمونه الضيف وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ.
قال أهل العلم الغذاء يصير جزءا من جوهر المغتذي فلا بد أن يحصل للمغتذي أخلاق وصفات من جنس ما كان حاصلا في الغذاء، والخنزير مطبوع على حرص عظيم ورغبة شديدة في المشتهيات فحرم أكله على الإنسان لئلا يتكيف بتلك الكيفية، ولذلك إن الفرنج لما واظبوا على أكل لحم الخنزير أورثهم الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المشتهيات وأورثهم عدم الغيرة.
فإن الخنزير يرى الذكر من الخنازير ينزو على الأنثى التي هي له ولا يتعرض له لعدم الغيرة. وأما الشاة فإنها حيوان في غاية السلامة فكأنها ذات عارية عن جميع الأخلاق فلذلك لا يحصل للإنسان بسبب أكل لحمها كيفية أجنبية عن أحوال الإنسان. وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي وما رفع
249
الصوت لغير الله عند ذبحه وكانوا يقولون عند الذبح باسم اللات والعزى وَالْمُنْخَنِقَةُ أي التي ماتت بانعصار الحلق فالمنخنقة على وجوه: منها: إن أهل الجاهلية كانوا يخنقون الشاة فإذا ماتت أكلوها. ومنها: ما يخنق بحبل الصائد. ومنها: ما يدخل رأسها بين عودين في شجرة فتختنق فتموت وَالْمَوْقُوذَةُ أي المضروبة إلى أن ماتت ويدخل في الموقوذة ما رمي بالبندق فمات، وهي معنى الميتة وفي معنى المنخنقة، لأنها ماتت ولم يسل دمها. وَالْمُتَرَدِّيَةُ أي الساقطة من علو إلى سفل فماتت ويدخل فيها ما إذا أصابه سهم وهو في الجبل فتسقط على الأرض فإنه يحرم أكله لأنه لا يعلم هل مات بالتردي أو بالسهم ولو رمى صيدا في الهواء بسهم فأصابه فإن سقط على الأرض ومات حل لأن الوقوع على الأرض من ضرورته، وإن سقط على شجر أو جبل ثم تردى منه فمات لم يحل لأنه من المتردية، إلا أن يكون السهم ذبحه في الهواء فيحل كيفما وقع لأن الذبح قد حصل قبل التردية وَالنَّطِيحَةُ أي ماتت بنطح شاة أخرى، وإنما دخلت «الهاء» في «النطيحة» لأنها صفة لمؤنث غير مذكور وهو الشاة كما تقول: رأيت قتيلة بني فلان بالهاء لأنك إن لم تدخل الهاء لم يعرف المقتول أرجل هو أم امرأة، بخلاف ما إذا ذكر الموصوف فإنه تحذف الهاء حينئذ كقولهم: كف خضيب، ولحية دهين وعين كحيل، وخصت الشاة لأنها من أعم ما يأكله الناس والكلام يمشي على الأغلب ويكون المراد الكل. وَما أَكَلَ السَّبُعُ منه فمات وهي، فريسة السبع.
قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا جرح السبع شيئا فقتله وأكل بعضه أكلوا ما بقي فحرمه الله تعالى إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ أي إلا ما أدركتم ذكاته وقد بقيت فيه حياة مستقرة من هذه الأشياء الخمسة.
وذلك بحيث يتحرك بالاختيار وإلا فلا يحل بتذكية لأن موته حينئذ يحال على السبب المتقدم على التذكية من الخنق وأكل السبع وغيرهما وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ أي على اعتقاد تعظيم النصب.
وقال ابن جريج: النصب ليس بأصنام فإن الأصنام أحجار مصوّرة منقوشة وهذه النصب أحجار كانوا ينصبونها حول الكعبة وكانوا يذبحون عندها للأصنام، وكانوا يلطخونها بتلك الدماء، ويضعون اللحوم عليها، ويعدون ذلك الذبح قربة فقال المسلمون: يا رسول الله كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم فنحن أحق أن نعظمه. وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم ينكره فأنزل الله تعالى لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها [الحج: ٣٧] وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي وحرم عليكم طلب معرفة ما قسم لكم من الخير والشر بواسطة ضرب القداح، وذلك أنهم إذا قصدوا سفرا أو غزوا أو تجارة، أو نكاحا أو أمرا آخر من معاظم الأمور ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها: أمرني ربي. وعلى الثاني: نهاني ربي. والثالث: خال عن الكتابة. فإن خرج الأمر أقدم على الفعل، وإن خرج النهي أمسك، وإن خرج الغفل أعاد العمل مرة أخرى ذلِكُمْ أي الاستقسام بالأزلام فِسْقٌ أي خروج عن الطاعة لأنه طلب لمعرفة الغيب وذلك حرام.
250
وروى أبو الدرداء عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: من تكهن أو استقسم أو تطير طيرة ترده عن سفره لم ينظر إلى الدرجات العلى من الجنة يوم القيامة
وذلك ضلال باعتقاد أنه طريق إلى الدخول في علم الغيب، وافتراء على الله تعالى إن كان مرادهم بربي هو الله تعالى. وقال قوم آخرون: إنهم كانوا يحملون تلك الأزلام عند الأصنام يعتقدون أن ما يخرج من الأمر والنهي على تلك الأزلام فبإرشاد الأصنام وإعانتهم، فلهذا السبب كان ذلك فسقا أي شركا وجهالة، وهذا القول أولى وأقرب كما قاله الفخر. الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي هذا الزمان انقطع رجاء كفار مكة من إبطال أمر دينكم فَلا تَخْشَوْهُمْ أي فلا تخافوا المشركين في خلافكم إياهم في الشرائع والأديان فإني أنعمت عليكم بالدولة القاهرة والقوة العظيمة، وصاروا مقهورين لكم ذليلين عندكم وَاخْشَوْنِ أي ومحضوا الخشية لي وحدي في ترك أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم ودينه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر والإظهار على الأديان كلها والحكم ببقائه إلى يوم القيامة وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بفتح مكة ودخولها آمنين وبانفراد المسلمين بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه، حتى حج المسلمون لا يخالطهم المشركون وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً أي اخترته لكم من بين الأديان وهو الدين المرضي عند الله تعالى لا غير فَمَنِ اضْطُرَّ إلى تناول شيء من هذه المحرمات فِي مَخْمَصَةٍ أي مجاعة يخاف معها الموت غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ أي غير معتمد لإثم بأن يأكلها فوق الشبع تلذذا كما قاله أهل العراق أو بأن يكون عاصيا بسفره كما قاله أهل الحجاز فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن أكل المحرم عند ما اضطر إلى أكله رَحِيمٌ (٣) بعباده حيث أحل لهم ذلك المحرم عند احتياجهم إلى أكله يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ من الصيد. والسائلون عاصم بن عدي وسعد بن خيثمة، وعويمر بن ساعدة كذا قال عكرمة كما أخرجه ابن جرير.
وقال ابن عباس: والسائل بذلك زيد بن مهلهل الطائي وعدي بن حاتم الطائي وكانا صيادين، وكذا قال سعيد بن جبير أخرجه ابن أبي حاتم قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وهو كل ما يشتهى عند أهل المروءة والأخلاق الجميلة ما لم تستخبثه الطباع السليمة ولم تنفر عنه مما لم يرد نص بتحريمه من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس مجتهد وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ أي وأحل لكم صيد ما علمتموه من الكواسب من سباع البهائم والطير كالكلب والباز مُكَلِّبِينَ أي معلمين الجوارح الصيد تُعَلِّمُونَهُنَّ حال ثانية من ضمير علمتم. والمقصود من التكرار المبالغة في اشتراط التعليم وأن تكون من يعلم الجوارح نحريرا في علمه موصوفا بالتأديب مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من طرق التعليم ومن الحيل في الاصطياد فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ أي كلوا بعض ما أمسكنه لكم وهو الذي لم يأكلن منه.
روي أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أدركته ولم
251
يقتل فاذبح واذكر اسم الله عليه، وإن أدركته وقد قتل ولم يأكل فكل فقد أمسك عليك، وإن وجدته قد أكل فلا تطعم منه شيئا فإنما أمسك على نفسه»
«١». وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ أي سموا على ما علمتم من الجوارح عند إرساله على الصيد كما
قال صلّى الله عليه وسلّم لعدي بن حاتم: «إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل»
«٢» أو سموا على ما أمسكن عند ذبحه. وقيل: المعنى سموا على أكل الصيد.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال لعمر بن أبي سلمة: «سمّ الله وكل مما يليك»
«٣». وَاتَّقُوا اللَّهَ أي واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل وتحريم ما حرمه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) فإنه تعالى يؤاخذكم سريعا في كل ما جل ودق الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ أي المستلذات المشتهيات لأهل المروءة والأخلاق الجميلة وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ فيحل لنا أكل ذبائح من تمسكوا بالتوراة والإنجيل إذا حلت المناكحة بيننا وبينهم فحل الذبيحة تابع لحل المناكحة ولو ذبح يهودي أو نصراني على اسم غير الله تعالى كالنصراني يذبح على اسم المسيح لم تحل ذبيحته بخلاف من تمسكوا بغير التوراة والإنجيل، كصحف إبراهيم فلا تحل ذبائحهم واتفق العلماء على أن المجوس قد سن بهم سنة أهل الكتاب في أخذ الجزية منهم دون أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم.
وروي عن ابن المسيب أنه قال إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس، وقال أبو ثور: إن أمره بذلك في الصحة فلا بأس وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فيحل لكم أن تطعموهم من طعامكم وتبيعوه منهم وَالْمُحْصَناتُ أي الحرائر العفائف مِنَ الْمُؤْمِناتِ أي حل لكم وذكرهن للحمل ما هو الأولى لا لنفي ما عداهن فإن نكاح الإماء المسلمات صحيح بالاتفاق، وكذا نكاح غير العفائف، وأما الإماء الكتابيات فهن كالمسلمات عند أبي حنيفة خلافا للشافعي وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي هن حل لكم أيضا وإن كنّ حربيات.
(١) رواه النسائي في كتاب الصيد، باب: الأمر بالتسمية عند الصيد، وأحمد في (م ٤/ ص ١٩٥).
(٢) رواه البخاري في كتاب الذبائح، باب: إذا أكل الكلب، ومسلم في كتاب الصيد، باب: ١، والترمذي في كتاب الصيد، باب: ١، والنسائي في كتاب الصيد، باب: إذا قتل الكلب، وابن ماجة في كتاب الصيد، باب: صيد الكلب، وأحمد في (م ١/ ص ٢٣١).
(٣) رواه البخاري في كتاب الأطعمة، باب: الأكل وما يليه، ومسلم في كتاب الأشربة، باب: ١٠٨، والترمذي في كتاب الأطعمة، باب: ٤٧، وابن ماجة في كتاب الأطعمة، باب: الأكل باليمين، والدارمي في كتاب الأطعمة، باب: التسمية على الطعام، والموطأ في كتاب صفة النبي، باب: ما جاء في الطعام والشراب.
252
قال الكثير من الفقهاء: إنما يحل نكاح الكتابية التي دانت بالتوراة والإنجيل قبل نزول القرآن فمن دان بذلك الكتاب بعد نزول القرآن خرج عن حكم الكتاب، وهذا مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه. وأما أهل المذاهب الثلاثة فلم يقولوا بهذا التفصيل بل أطلقوا القول بحل أكل ذبائح أهل الكتاب وحل التزويج من نسائهم ولو دخلوا في دين أهل الكتاب بعد نسخه إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وتقييد التحليل بإعطاء المهور يدل على تأكد وجوبها وعلى أن الأكمل بيانها لا هو شرط لصحة العقد إذ لا تتوقف على دفع المهر ولا على التزامه ومن تزوج امرأة وعزم على أن لا يعطيها صداقها كان في صورة الزاني وتسمية المهر بالأجر يدل على أن أقل الصداق لا يتقدر كما أن أقل الأجر لا يتقدر في الإجارات مُحْصِنِينَ أي متزوجين غَيْرَ مُسافِحِينَ أي غير معلنين بالزنا وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ أي ولا مسرين بالزنا بمن لها حليل وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ أي ومن يكفر بشرائع الله وبتكاليفه فقد بطل ثواب عمله الصالح سواء عاد إلى الإسلام أولا وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٥) إذا لم يعد إلى الإيمان بما نزل في القرآن حتى يموت على الكفر. أما إذا عاد إلى الإيمان بذلك قبل الموت فإن عمله لا يبطل فلا يجب إعادة صلاة وحج قد أتاهما قبل الردة. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي إذا أردتم الاشتغال بإقامة الصلاة وأنتم على غير وضوء فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ فإن صب الماء على المرفق حتى سال الماء إلى الكف فلا يجوز لأنه تعالى جعل المرافق غاية الغسل فجعله مبدأ الغسل خلاف الآية، كذا قال بعضهم.
وقال جمهور الفقهاء: إن ذلك لا يخل بصحة الوضوء إلا أنه يكون تركا للسنة وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ قيل: الباء فارقة بين حمل المسح بالكل والبعض كما في قولك: مسحت المنديل ومسحت يدي بالمنديل. فقولك: مسحت المنديل لا يصدق إلا عند مسحه بالكلية. وقولك:
مسحت بالمنديل يكفي في صدقه مسح اليدين بجزء من أجزاء ذلك المنديل وتحقيق هذه الباء أنها تدل على تضمين الفعل معنى الإلصاق فكأنه قيل: وألصقوا المسح برءوسكم وذلك لا يقتضي الاستيعاب وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ.
قرأ ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وعاصم في رواية أبي بكر عنه بالجر. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية حفص عنه بالنصب أما القراءة بالجر فهي معطوفة على الرؤوس فكما يجب المسح في الرؤوس كذلك في الأرجل، وإنما عطفت الأرجل على الممسوح للتنبيه على الإسراف في استعمال الماء فيها لأنها موضع صب الماء كثيرا. والمراد غسلها أو مجرورة بحرف جر محذوف متعلق بفعل محذوف تقديره وافعلوا بأرجلكم غسلا، وحذف حرف الجر وإبقاء الجر جائز ولا يجوز هذا الكسر على الجوار على أنه منصوب في المعنى عطف على المغسول لأنه
253
معدود في اللحن الذي قد يحمل لأجل الضرورة في الشعر ويجب تنزيه كلام الله عنه ولأنه يرجع إليه عند حصول الأمن من الالتباس كما في قول الشاعر:
كبير أناس في بجاد مزمل وفي هذه الآية لا يحصل الأمن من الالتباس، ولأنه إنما يكون بدون حرف العطف. وأما القراءة بالنصب فهي إما معطوفة على الرؤوس لأنه في محل نصب والعطف على الظاهر وعلى المحل جائز كما هو مذهب مشهور للنحاة وإما معطوفة على وجوهكم فظهر أنه يجوز أن يكون عامل النصب في قوله تعالى: وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله تعالى: وَامْسَحُوا وقوله تعالى:
فَاغْسِلُوا فإذا اجتمع العاملان على معمول واحد كان الأولى إعمال الأقرب حتى إن بعضهم لا يجوز أن يكون العامل فاغسلوا لما يلزم عليه من الفصل بين المتعاطفين بجملة مبينة حكما جديدا ليس فيها تأكيد للأول وليست هي اعتراضية فوجب أن يكون عامل النصب في قوله:
وَأَرْجُلَكُمْ هو قوله: وَامْسَحُوا فتدل هذه الآية على وجوب مسح الأرجل، لكن الأخبار الكثيرة وردت بإيجاب الغسل وهو مشتمل على المسح ولا ينعكس فكان الغسل أقرب إلى الاحتياط فوجب الرجوع إليه ويجب القطع بأن غسل الرجل يقوم مقام مسحها، وأيضا إن فرض الرجلين محدود إلى الكعبين والتحديد إنما جاء في الغسل لا في المسح وهذا جواب لقولهم ولا يجوز دفع وجوب مسح الرجل بالأخبار لأنها بأسرها من باب الآحاد ونسخ القرآن بخبر الواحد لا يجوز وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا أي فاغتسلوا ولحصول الجنابة سببان: نزول المني، والتقاء الختانين. فختان الرجل هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلفة وشفر المرأة محيطان بثلاثة أشياء: ثقبة في أسفل الفرج وهي مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد. وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهي مخرج البول لا غير، وموضع ختانها وهو فوق ثقبة البول. وهناك جلدة قائمة مثل عرف الديك وقطع هذه الجلدة هو ختانها فإذا غابت الحشفة حاذى ختانها ختانة وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى مرضا يضره الماء كجراحة أو جدري أَوْ عَلى سَفَرٍ أي مستقرين عليه أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أي الموضع الذي يقضي فيه حاجة الإنسان التي لا بد منها أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ بذكر أو غيره فَلَمْ تَجِدُوا يا معشر المسافرين والمحدثين حدثا أصغر أو أكبر ماءً بعد طلبه فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً أي فاقصدوا ترابا نظيفا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ بالضربة الأولى وَأَيْدِيَكُمْ بالضربة الثانية مِنْهُ أي التراب ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق بما فرض عليكم من الطهارة للصلاة وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ أي ليطهر قلوبكم عن صفة التمرد عن طاعة الله تعالى لأن الكفر والمعاصي نجاسات للأرواح، وذلك لأنه تعالى لما أمر العبد بإيصال الماء إلى هذه الأعضاء المخصوصة وكانت طاهرة لم يعرف العبد في هذا التكليف فائدة معقولة فلما انقاد لهذا التكليف كان ذلك الانقياد لمحض إظهار العبودية فأزال هذا الانقياد عن
254
قلبه آثار التمرد فكان ذلك طهارة وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ببيان كيفية الطهارة وهي نعمة الدين بعد ذكر نعمة الدنيا وهي إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح أو بالترخص في التيمم والتخفيف في حال السفر والمرض فاستدلوا بذلك على أنه تعالى يخفف عنكم يوم القيامة بأن يعفو عن ذنوبكم ويتجاوز عن سيئاتكم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦) نعمته وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي تأملوا في جنس نعم الله عليكم وهو إعطاء نعمة الحياة والصحة والعقل، والهداية والصون عن الآفات والإيصال إلى جميع الخيرات في الدنيا والآخرة فجنس نعمة الله جنس لا يقدر عليه غير الله فمتى كانت النعمة على هذا الوجه كان وجوب الاشتغال بشكرها أتم وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ بواسطة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وهو المواثيق التي جرت بين رسول الله والمسلمين في أن يكونوا على السمع والطاعة في المحبوب والمكروه مثل مبايعته صلّى الله عليه وسلّم مع الأنصار في أول الأمر ليلة العقبة ومبايعته صلّى الله عليه وسلّم مع عامة المؤمنين بيعة الرضوان تحت الشجرة في الحديبية وغيرهما.
وقال السدي: المراد بالميثاق الدلائل العقلية والشرعية التي نصبها الله تعالى على التوحيد والشرائع وهو اختيار أكثر المتكلمين وَاتَّقُوا اللَّهَ في نسيان نعمته ونقض ميثاقه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧) فلا تعزموا بقلوبكم على نقض تلك العهود فإنه إن خطر ببالكم فالله يعلم ذلك وكفى بالله مجازيا يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ بأن تقوموا لله بالحق في كل ما يلزمكم القيام به من العمل بطاعته واجتناب نواهيه شُهَداءَ بِالْقِسْطِ فلا تشهدوا بأمر مخالف للواقع بل اشهدوا بما في نفس الأمر والتكاليف محصورة في نوعين تعظيم أمر الله والشفقة على خلق الله فقوله تعالى: كُونُوا قَوَّامِينَ إشارة إلى النوع الأول وهو حقوق الله، وقوله تعالى:
شُهَداءَ بِالْقِسْطِ إشارة إلى الثاني وهو حقوق الخلق وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أي لا يحملنكم بغض قوم على أن تجوزوا عليهم وتجاوزوا الحد فيهم بل اعدلوا فيهم وإن أساؤوا عليكم. والمعنى إن الله تعالى أمر جميع الخلق بأن لا يعاملوا أحدا إلا على سبيل الإنصاف وترك الاعتساف اعْدِلُوا في عدوكم ووليكم هُوَ أي العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى أي إلى الاتقاء من معاصي الله تعالى أو إلى الاتقاء من عذاب الله وَاتَّقُوا اللَّهَ فيما أمركم ونهاكم إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم فيجازيكم على ذلك وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بالعدل والتقوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي إسقاط السيئات وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وهو إيصال الثواب وجملة قوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ بيان للوعد لا محل لها فكأنه قيل: وأي شيء وعده؟ فقال المجيب: لهم مغفرة وأجر عظيم وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠) أي ملازموها وهذه الجملة مستأنفة أتى بها جمعا بين الترغيب والترهيب إيفاء لحق الدعوة بالتبشير والإنذار
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
255
عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ
أي كونوا مواظبين على طاعة الله ولا تخافوا أحدا في إقامة طاعات الله تعالى وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وسبب نزول هذه الآية وجهان: الأول: أنها نزلت في واقعة عامة وذلك أن المشركين في أول الأمر- وهو في ضعف المسلمين- يريدون إيقاع البلاء والقتل والنهب بالمسلمين والله تعالى كان يمنعهم عن مطلوبهم إلى أن قوي الإسلام وعظمت شوكة المسلمين.
الثاني: أنها نزلت في واقعة خاصة. وفي هذا ثلاثة أوجه:
الأول: أنها نزلت في شأن يهود من بني قريظة أو بني النضير، وذلك أن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأبا بكر وعمر وعثمان وعليا دخلوا عليهم وقد كانوا عاهدوا النبي على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات فطلب منهم مالا قرضا لدية رجلين مسلمين أو معاهدين قتلهما عمرو بن أمية الضمري خطأ يحسبهما مشركين أو حربيين، فقالوا: اجلس حتى نطعمك ونعطيك ما تريد، ثم همّوا بالفتك برسول الله وبأصحابه فجاء عمرو بن جحاش برحى عظيمة ليطرحها عليه صلّى الله عليه وسلّم بموافقتهم، فأمسك الله تعالى يده، فنزل جبريل عليه صلّى الله عليه وسلّم وأخبره بذلك فقام في الحال مع أصحابه وخرجوا إلى المدينة.
والثاني:
عن قتادة أنها نزلت في قوم من العرب وهم بنو ثعلبة وبنو محارب أرادوا الفتك به صلّى الله عليه وسلّم وهو في غزوته فأرسلوا له أعرابيا ليقتله ببطن نخل، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نزل منزلا وتفرق أصحابه عنه يستظلون في شجر العضاه وعلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيفه بشجرة، فجاء أعرابي وسلّ سيف رسول الله ثم أقبل عليه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ قال صلّى الله عليه وسلّم: «الله» قالها ثلاثا فأسقطه جبريل من يده فأخذه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقال: «من يمنعك مني؟» «١» فقال: لا أحد ثم صاح رسول الله بأصحابه فأخبرهم ولم يعاقبه.
وفي رواية أن الأعرابي قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله، وعلى هذين القولين، فالمراد من قوله تعالى: اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ. تذكير نعمة الله عليهم بدفع الشر عن نبيهم فإنه لو حصل ذلك لكان من أعظم المحن.
والثالث: أنها نزلت في شأن المشركين أنهم رأوا رسول الله وأصحابه بعسفان في غزوة ذي أنمار، وهي غزوة ذات الرقاع وهي السابعة من مغازيه صلّى الله عليه وسلّم، وذلك أن المسلمين قاموا إلى صلاة الظهر بالجماعة فلما صلوا ندم المشركون في عدم إكبابهم عليهم وقالوا: ليتنا أوقعنا بهم في أثناء صلاتهم. فقيل لهم: إن للمسلمين بعد هذه الصلاة صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وآبائهم.
فهموا بأن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى صلاة العصر فرد الله تعالى كيدهم بأن أنزل جبريل بصلاة
(١) رواه أحمد في (م ٣/ ص ٣٦٥).
256
الخوف وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي إقرارهم أن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وهو المسند إليه أمور القوم وتدبير مصالحهم.
روي أن بني إسرائيل لما استقروا بمصر بعد هلاك فرعون أمرهم الله تعالى بالسير إلى أريحاء أرض الشام وقد سكنها الجبابرة الكنعانيون وقال لهم: «إني كتبتها لكم دارا فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها وإني ناصركم». وكان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا فاختار الله تعالى من كل سبط رجلا يكون نقيبا لهم وحاكما فيهم والنقباء الاثنا عشر كما قال ابن إسحاق هم شموع وشوقط، وكالب، وبعورك، ويوشع، ويعلى، وكرابيل، وكدي، وعمابيل، وستور، ويحيى، وآل. ثم إن هؤلاء النقباء بعثوا إلى مدينة الجبارين الذين أمر موسى عليه السلام بالقتال معهم ليقفوا على أحوالهم ويرجعوا بذلك إلى نبيهم موسى عليه السلام، فلما ذهبوا إليهم رأوا أجراما عظيمة وقوة وشوكة فهابوهم ورجعوا، فحدّثوا قومهم وقد نهاهم موسى عليه السلام أن يحدثوهم فنكثوا الميثاق إلا كالب ويوشع وهما اللذان قال الله تعالى في حقهما: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ [المائدة: ٢٣] الآية وَقالَ اللَّهُ لهؤلاء النقباء إِنِّي مَعَكُمْ بالعلم والقدرة فأسمع كلامكم وأرى أفعالكم وأعلم ضمائركم وأقدر على إيصال الجزاء إليكم لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ أي التي فرضت عليكم وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ أي زكاة أموالكم وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي أي بجميعهم وَعَزَّرْتُمُوهُمْ أي نصرتموهم بالسيف على الأعداء وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي صادقا من قلوبكم. والمراد بهذا الإقراض: الصدقات المندوبة، وخصها بالذكر تنبيها على شرفها وعلو مرتبتها. لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وهذا إشارة إلى إزالة العقاب وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهذا إشارة إلى إيصال الثواب فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ أي بعد أخذ الميثاق مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) أي أخطأ الطريق المستقيم الذي هو الدين الذي شرعه الله تعالى لهم فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ أي بسبب نقضهم ميثاقهم بتكذيب الرسل وقتل الأنبياء وكتمان صفة محمد صلّى الله عليه وسلّم لعناهم أخرجناهم من رحمتنا وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً أي منصرفة عن الانقياد للدلائل.
وقرأ حمزة والكسائي قسية بغير ألف بعد القاف وتشديد الياء أي رديئة يابسة بلا نور يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ يغيرون نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم وحكم الرجم بعد بيانه أي في التوراة وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي تركوا بعضا مما أمروا به في كتابهم وهو الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَزالُ يا أشرف الخلق تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي تظهر على خيانة صادرة من بني قريظة إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وهم الذين آمنوا كعبد الله بن سلام وأصحابه أو الذين بقوا على الكفر لكنهم بقوا على العهد ولم يخونوا فيه فَاعْفُ عَنْهُمْ أي لا تعاقبهم وَاصْفَحْ أي أعرض عن صغائر زلاتهم ما داموا باقين على العهد إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) إلى الناس.
257
قال ابن عباس: إذا عفوت فأنت محسن، وإذا كنت محسنا فقد أحبك الله وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ في الإنجيل باتباع محمد وبيان صفته وأن لا يعبدوا إلا الله ولا يشركوا به شيئا، كما أخذنا الميثاق على بني إسرائيل اليهود فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أي اتركوا نصيبا عظيما مما أمروا به في الإنجيل من الإيمان ونقضوا الميثاق فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي ألصقنا بين نصارى أهل نجران العداوة بالقتل والبغضاء في القلب بعد أن جعلناهم فرقا أربعة: نسطورية، والملكانية، واليعقوبية، والمرقوسية، فإن بعضهم يكفر بعضا إلى يوم القيامة وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ أي يخبرهم في الآخرة بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤) من المخالفة والخيانة والكتمان فيجازيهم عليه يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا معشر اليهود والنصارى قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد أفضل الخلق يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ أي تكتمون من التوراة والإنجيل كنعت محمد وآية الرجم في التوراة وبشارة عيسى بأحمد في الإنجيل وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ أي لا يظهر كثيرا مما تكتمونه إذا لم تدع حاجة دينية إلى إظهاره قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ أي رسول وهو محمد صلّى الله عليه وسلّم وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) وهو القرآن لما فيه من إبانة ما خفي على الناس من الحق يَهْدِي بِهِ أي بذلك الكتاب اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ وهو من كان مطلوبه من طلب الدين اتباع الدين الذي يرتضيه الله تعالى سُبُلَ السَّلامِ أي إلى طرق السلامة من العذاب وهو دين الإسلام، وهذا منصوب بنزع الخافض لأن «يهدي» يتعدى إلى الثاني ب «إلى» أو ب «اللام». وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ أي ظلمات فنون الكفر إِلَى النُّورِ أي نور الإيمان بِإِذْنِهِ أي بتوفيقه والباء تتعلق باتبع ولا يجوز أن تتعلق بيهدي ولا بيخرج إذ لا معنى لها حينئذ، فدلت الآية على أنه لا يتبع رضوان الله إلا من أراد الله منه ذلك وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦) أي يثبتهم على ذلك الدين بعد إجابة دعوة الرسول لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا وهم نصارى نجران إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وهذه المقالة لليعقوبية فإنهم قالوا:
إن الله قد يحل في بدن إنسان معين أو في روحه. وقيل: لم يصرح به أحد منهم ولكن مذهبهم يؤدي إليه حيث اعتقدوا اتصاف عيسى بصفاته الخاصة أي بأنه يخلق ويحيي ويميت ويدبر أمر العالم. قُلْ لهم يا أكرم الخلق: فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي فمن الذي يقدر على دفع شيء من أفعال الله تعالى ومنع شيء من مراده إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي إن عيسى مماثل لمن في الأرض في الصورة والخلقة والجسمية والتركيب وتغيير الصفات والأحوال، فلما سلمتم كونه تعالى خالقا للكل مدبرا للكل وجب أن يكون أيضا خالقا لعيسى وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ فتارة يخلق من غير أصل كخلق السموات والأرض، وتارة أخرى يخلق من أصل كخلق ما بينهما فينشئ من أصل ليس من جنسه كخلق آدم وكثير من الحيوانات ومن أصل من جنسه إما من ذكر وحده كخلق
258
حواء أو من أنثى وحدها كخلق عيسى عليه السلام، أو منهما كخلق سائر الناس ويخلق بلا توسط شيء من المخلوقات كخلق عامة المخلوقات وقد يخلق بتوسط مخلوق آخر كخلق الطير على يد عيسى عليه السلام معجزة له وكإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص على يده أيضا فيجب أن ينسب كله إليه تعالى لا إلى من أجرى ذلك على يده وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٧) وإظهار الاسم الجليل للتعليل وتقوية استقلال الجملة وَقالَتِ الْيَهُودُ أي إن يهود أهل المدينة وَالنَّصارى أي نصارى أهل نجران نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ أي إن اليهود لما زعموا أن عزيزا ابن الله. والنصارى زعموا أن المسيح ابن الله، ثم زعموا أن عزيرا والمسيح كانا منهم صار ذلك كأنهم قالوا: نحن أبناء الله كما يقول أقارب الملوك عند المفاخرة: نحن الملوك. فالمراد بأبناء الله خاصته وقال ابن عباس: إن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا جماعة من اليهود إلى دين الإسلام وخوّفهم بعقاب الله تعالى فقالوا: تخوّفنا بعقاب الله ونحن أبناء الله وأحباؤه. والذي قال تلك الكلمة من اليهود: نعمان ويحرى وشاس. قُلْ أي لهم يا أكرم الخلق إلزاما وتبكيتا: فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي إن صح ما زعمتم فلأي شيء يعذبكم في الدنيا بالقتل والأسر والمسخ وقد اعترفتم بأنه تعالى سيعذبكم في الآخرة أياما بعدد أيام عبادتكم العجل، ولو كان الأمر كما زعمتم لما صدر عنكم ما صدر ولما وقع عليكم ما وقع، فأنتم كاذبون لأن الأدب لا يعذب ولده والحبيب لا يعذب حبيبه بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ أي لستم كذلك بل أنتم بشر من جنس من خلقه الله تعالى من غير مزية لكم عليهم يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ أن يغفر له من أولئك المخلوقين وهم الذين آمنوا به تعالى وبرسله وتابوا من اليهودية والنصرانية وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ أن يعذبه منهم. وهم الذين كفروا به تعالى وبرسله وماتوا على اليهودية والنصرانية وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فمن كان ملكه هكذا وقدرته هكذا فكيف يستحق البشر الضعيف عليه تعالى حقا واجبا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (١٨) في الآخرة فيجزي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا أهل التوراة والإنجيل قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا محمد صلّى الله عليه وسلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ أي مبينا لكم الشرائع عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أي على حين انقطاع من الأنبياء.
فروي عن سلمان أنه قال: فترة ما بين عيسى ومحمد ستمائة سنة. أخرجه البخاري. وكان بينهما أربعة من الأنبياء ثلاثة من بني إسرائيل كما قال تعالى: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ [يس: ١٤] وواحد من العرب وهو خالد بن سنان وقال في حقه نبينا صلّى الله عليه وسلّم: «نبي ضيعه قومه» «١» أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ أي إنما بعثنا إليكم الرسول في وقت فترة من
(١) رواه الألباني في السلسلة الضعيفة (٢٧٩)، وابن سعد في الطبقات الكبرى (١: ٤٢)، وابن الجوزي في زاد المسير (٢: ٣٢٠)، وابن كثير في البداية والنهاية (٢: ٢٧١).
259
إرسال الرسل كراهة أن تقولوا إذا سئلتم عن أعمالكم يوم القيامة: ما جاءنا بشير بالجنة ولا نذير بالنار، وقد انقمست آثار الشرائع السابقة وانقطعت أخبارها فلا تعتذروا بذلك فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ كامل البشارة وَنَذِيرٌ كامل النذارة وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٩) فكان قادرا على الإرسال تترى كما أرسل الرسل بين موسى وعيسى وكان بينهما ألف وسبعمائة سنة وألف نبي وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ لأنه لم يبعث في أمة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء فمنهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه فانطلقوا معه إلى الجبل ومنهم أولاد يعقوب فإنهم كانوا على قول الأكثرين أنبياء وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً فقد تكاثر فيهم الملوك، ثم إن أقارب الملوك يقولون عند المفاخرة نحن الملوك.
قال السدي: أي وجعلكم أحرارا تملكون أنفسكم بعد ما كنتم في أيدي القبط يستعبدونكم. وقيل: كل من كان مستقلا بأمر نفسه ومعيشته ولم يكن محتاجا في مصالحه إلى أحد فهو ملك. وقال الضحاك: كانت منازلهم واسعة وفيها مياه جارية وكانت لهم أموال كثيرة فمن كان كذلك كان ملكا.
وعن أبي سعيد الخدري عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحدهم خادم وامرأة ودابة يكتب ملكا».
وقال قتادة: سموا ملوكا لأنهم كانوا أول من ملك الخدم ولم يكن قبلهم خدم. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص: من كان له امرأة يأوي إليها ومسكن يسكنه فهو غني، ثم إن كان له خادم بعد ذلك فهو من الملوك. وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (٢٠) من فلق البحر وإغراق العدو وإيراث أموالهم وإنزال المن والسلوى، وإخراج المياه العذبة من الحجر وتظليل الغمام فإن ذلك لم يوجد في غير بني إسرائيل
يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أي المباركة الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ أي وهبها الله لكم ميراثا من أبيكم إبراهيم عليه السلام.
روي أن سيدنا إبراهيم عليه السلام لما صعد جبل لبنان قال له الله تعالى: انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس وهو ميراث لذريتك. وكان بنو إسرائيل يسمون أرض الشام الموعد. قال ابن عباس: والأرض هي الطور وما حوله وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ أي لا ترجعوا إلى خلفكم أي إلى مصر خوف العدو فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (٢١) في الدين والدنيا لأنهم صاروا شاكين في صدق موسى عليه السلام فيصيروا كافرين بالإلهية والنبوة: فإن موسى قد أخبر أن الله تعالى جعل تلك الأرض لهم فكان ذلك وعدا بأن الله تعالى ينصرهم على العدو، ولأن الله تعالى منعهم عن المن والسلوى ثم بعث موسى عليه السلام اثني عشر نقيبا ليتجسسوا لهم عن أحوال تلك الأراضي فلما دخلوا تلك البلاد رأوا أجساما عظيمة هائلة، ثم انصرفوا إلى موسى عليه السلام فأخبروه بالواقعة فأمرهم أن يكتموا ما شاهدوه فلم يقبلوا قوله إلا رجلان منهم وهما يوشع وكالب فإنهما سهلا
260
الأمر وقالا: هي بلاد طيبة كثيرة النعم وقلوب القوم الذين فيها ضعيفة، وإن كانت أجسامهم عظيمة، وأما العشرة من النقباء فقد أوقعوا الجبن في قلوب الناس حتى أظهروا الامتناع من غزوهم ورفعوا أصواتهم بالبكاء. قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها أي في الطور، أو أريحا أو دمشق وفلسطين كما روى كل واحد من هذه الثلاثة عن ابن عباس قَوْماً جَبَّارِينَ أي طوالا عظماء أقوياء فلا تصل أيدي قوم موسى إليهم فسموهم جبارين لهذا المعنى وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها من غير صنع منافاته لا طاقة لنا بإخراجهم منها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها بسبب ليس منا فَإِنَّا داخِلُونَ (٢٢) قالوا هذا على سبيل الاستبعاد قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي يخافون الله تعالى في مخالفة أمره ونهيه أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالهداية والثقة بعون الله والاعتماد على نصرة الله وهما يوشع بن نون وهو الذي نبىء بعد موسى وهو ابن أخت موسى وكالب بن يوقنا، ختن موسى وهو بفتح اللام وكسرها. وقيل: هما رجلان من الجبابرة أسلما واجتمعا مع موسى والموصول عبارة عن الجبابرة وإليهم يعود العائد المحذوف. والتقدير: قال رجلان من الجبابرة الذين يخافهم بنو إسرائيل وهما رجلان منهم أنعم الله عليهما بالإيمان فآمنا ويشهد لهذا الوجه قراءة من قرأ «يخافون» على صيغة المبني للمفعول. ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ أي باب بلدهم. أي باغتوهم وضاغطوهم في المضيق وامنعوهم من البروز إلى الصحراء لئلا يجدوا للحرب مجالا فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ أي باب بلدهم فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ من غير حاجة إلى القتال فإنا شاهدنا أن قلوبهم ضعيفة وإن كانت أجسامهم عظيمة وإنما جزم هذان الرجلان بالغلبة لأنهما كانا جازمين بنبوة موسى، فلما أخبرهم موسى بأن الله تعالى أمرهم بالدخول في تلك الأرض قطعا بأن النصرة لهم والغلبة حاصلة في جهتهم وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا في حصول هذا النصر لكم بعد ترتيب الأسباب ولا تعتمدوا عليها فإنها غير مؤثرة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٣) بصحة نبوة موسى ومقرين بوجود الإله القادر مصدقين لوعده قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أي أرض الجبارين أَبَداً ما دامُوا فِيها أي أرضهم فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ إنما قالوا هذه المقالة على وجه التمرد عن الطاعة أي على وجه مخالفة أمر الله فهم فسقة فَقاتِلا هم إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (٢٤) عن القتال.
قالَ عليه السلام لما رأى منهم عنادا على طريق الحزن والشكوى إلى الله تعالى: رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي هارون أي لا أملك التصرف. ولا ينفذ أمري إلا في نفسي وأخي. وإنما قال ذلك تقليلا لمن يوافقه ويجوز أن يكون المعنى إلا نفسي ومن يواخيني في الدين فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٥) أي احكم لنا بما نستحقه واحكم على القوم الخارجين عن طاعتك بما يستحقونه وهو في معنى الدعاء عليهم. قالَ الله: يا موسى فَإِنَّها أي الأرض المقدسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أي ممنوع عليهم الدخول فيها أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ أي يتحيرون في البرية. وكان طول البرية تسعين فرسخا وقد تاهوا في تسعة فراسخ عرضا في ثلاثين
261
فرسخا طولا، وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام: «بي حلفت لأحرمن عليهم دخول الأرض المقدسة غير عبديّ يوشع وكالب ولأتيهنهم في هذه البرية أربعين سنة مكان كل يوم من الأيام التي تجسسوا سنة» - أي كانت مدة غيبة النقباء للتجسس أربعين- يوما «ولألقين جيفهم في هذه القفار» - أي مات أولئك العصاة فيها- «وأهلك النقباء العشرة فيها بعقوبات غليظة وأما بنوهم الذين لم يعملوا الشر فيدخلون تلك الأرض المقدسة» اه.
قال ابن عباس: وكلهم ستمائة ألف مقاتل وكانوا يسيرون كل يوم جادين فإذا أمسوا كانوا في الموضع الذي ارتحلوا عنه، وكان الغمام يظللهم من الشمس وكان عمود نور يطلع بالليل فيضيء لهم، وكان طعامهم المن والسلوى وماؤهم من الحجر الذي يحملون ولا تطول شعورهم. وهذه الإنعامات عليهم مع أنهم معاقبون لما أن عقابهم كان بطريق التأديب.
وروي أن موسى وهارون كانا معهم ولكن كان ذلك لهما راحة وسلامة كالنار لإبراهيم ولملائكة العذاب عليهم السلام وزيادة في درجتهما وعقوبة لهم ومشاهدتهم لهما حال العقوبة أبلغ فَلا تَأْسَ أي لا تحزن عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (٢٦).
قال مقاتل: إن موسى لما دعا عليهم أخبره الله تعالى بأحوال التيه، ثم إن موسى عليه السلام أخبر قومه بذلك فقالوا له: لم دعوت علينا؟ وندم موسى على ما عمل فأوحى الله إليه لا تأس على القوم الفاسقين فإنهم أحقاء بذلك لفسقهم وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ أي اذكر يا أكرم الخلق لقومك وأخبرهم خبر ابني آدم قابيل وهابيل ملتبسا بالصدق ليعتبروا به وهذه القصة دالة على أن كل ذي نعمة محسود فلما كانت نعم الله سيدنا محمد أعظم النعم كان أهل الكتاب استخرجوا أنواع المكر في حقه صلّى الله عليه وسلّم حسدا منهم، فكان ذكر هذه القصة تسلية من الله تعالى لرسوله. قال محمد بن إسحاق: إن آدم كان يغشي حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة فحملت بقابيل وأخته، فلم تجد عليهما وحما ولا وصبا ولا طلقا ولم تر دما وقت الولادة فلما هبطا إلى الأرض تغشاها، فحملت بهابيل وتوأمته فوجدت عليهما الوحم والصب والطلق والدم.
وقال بعضهم: غشي آدم حواء بعد مهبطهما إلى الأرض بمائة سنة فولدت له قابيل وأقليما في بطن، ثم هابيل ولبودا في بطن. فإن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلاما وجارية إلا شيئا فإنها وضعته مفردا عوضا عن هابيل، وجملة أولاد آدم تسعة وثلاثون في عشرين بطنا أولهم قابيل وتوأمته أقليما وآخرهم عبد المغيث وتوأمته أم المغيث، ويتزوج كل من الذكور غير توأمته. وأمر الله آدم أن يزوج قابيل لبودا أخت هابيل وينكح هابيل أقليما أخت قابيل- وهي أحسن من لبودا-
262
فذكر ذلك آدم فرضي هابيل وسخط قابيل وقال: هي أختي وأنا أحق بها ونحن من أولاد الجنة وهما من أولاد الأرض، فقال له آدم: إنها لا تحل لك فأبى أن يقبل ذلك وقال: إن الله لم يأمرك بهذا وإنما هو من رأيك. فقال لهما آدم: قربا لله قربانا فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بإقليما، وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت من السماء نار بيضاء فأكلتها، وإن لم تكن مقبولة لم تنزل النار وأكلته الطير والسباع فخرجا من عند آدم ليقربا القربان، وكان قابيل قرب صبرة من قمح رديء وهابيل قرب كبشا أحسن وقصد بذلك رضا الله تعالى، فوضعا قربانهما على جبل، ثم دعا آدم فنزلت نار من السماء فأكلت قربان هابيل. وقيل: رفع إلى الجنة فلم يزل يرعى فيها إلى أن فدي به إسماعيل عليه السلام إِذْ قَرَّبا أي كل منهما قُرْباناً وهو اسم لما يتقرب به إلى الله تعالى من ذبيحة أو صدقة فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وهو هابيل وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ وهو قابيل فأضمر لأخيه الحسد إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت وغاب فأتى قابيل لهابيل وهو في غنمه قالَ لهابيل:
لَأَقْتُلَنَّكَ فقال هابيل: ولم تقتلني؟ قال قابيل: لأن الله تقبّل قربانك وردّ قرباني وتريد أن تنكح أختي الحسناء وأنكح أختك الدميمة فيتحدث الناس بأنك خير مني ويفتخر ولدك على ولدي ف قالَ هابيل: وما ذنبي؟ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٢٧) أي إن حصول التقوى شرط في قبول القربان لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ أي والله لئن باشرت قتلي حسب ما أوعدتني به وتحقق ذلك منك ما أنا بفاعل مثله لك في وقت من الأوقات إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (٢٨) في قتلك كما
قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لمحمد بن مسلمة: «ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل»
«١». إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ أي أن تحمل إثم قتلي وإثمك الذي كان منك قبل قتلي. كما قاله ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة رضي الله عنهم فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ أي فتصير من أهل النار وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (٢٩).
وروي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحمل على الظالم فَطَوَّعَتْ لَهُ أي سهلت له نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ. قال ابن جريج: لما قصد قابيل قتل هابيل لم يدر كيف يقتله فتمثل له إبليس وقد أخذ طيرا فوضع رأسه على حجر ثم رضخه بحجر آخر وقابيل ينظر إليه فعلم منه القتل فوضع قابيل رأس هابيل بين حجرين وهو مستسلم صابر.
روي عن عمرو بن خير الشعياني قال: كنت مع كعب الأحبار على جبل دير متران فأراني لمعة حمراء سائلة في الجبل فقال: هاهنا قتل ابن آدم أخاه وهذا أثر دمه جعله الله آية للعالمين
(١) رواه أحمد في (م ٥/ ص ١١٠).
263
فَأَصْبَحَ أي صار مِنَ الْخاسِرِينَ (٣٠) بقتله دينا ودنيا لأنه أسخط والديه وبقي مذموما إلى يوم القيامة، ولأن له عقابا عظيما في الآخرة، ولما قتل قابيل هابيل تركه بالعراء ولم يدر ما يصنع به لأنه أول ميت من بني آدم على وجه الأرض فقصدته السباع لتأكله، فحمله قابيل على ظهره في جراب أربعين يوما وقيل: سنة
فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ أي يحفر الحفيرة بمنقاره ورجليه بعد قتل صاحبه، ثم ألقاه فيها وأثار التراب عليه فتعلم قابيل ذلك من الغراب لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ واللام إما متعلقة ببعث حتما والضمير المستكن عائد إلى الله تعالى أو متعلقة ب «يبحث» أو ب «بعث»، والضمير راجع للغراب. و «كيف» حال من ضمير «يوارى» العائد إلى قابيل كالضميرين البارزين وهو معمول ليواري، وجملته معلقة للرؤية البصرية أو العرفانية المتعدية لمفعول قبل تعديتها بهمزة النقل وبعده لاثنين، وحينئذ فكيف في محل المفعول الثاني سادة مسده، والمراد بالسوأة الجسد لقبحه بعد موته. قالَ أي قابيل:
يا وَيْلَتى أي يا هلاكي تعال. وهي كلمة تستعمل عند وقوع الداهية العظيمة ولفظها لفظ النداء كأن الويل غير حاضر له فناداه ليحضره. أي أيها الويل احضر فهذا أوان حضورك أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي أي فأغطي جسد أخي بالتراب أي لما قتل قابيل أخاه تركه بالعراء استخفافا به، ولما رأى الغراب يدفن غرابا ميتا رق قلبه وقال: إن هذا الغراب لما قتل ذلك الآخر أخفاه تحت الأرض أفأكون أقل شفقة من هذا الغراب فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (٣١) على حمله لهابيل على ظهره سنة لأنه لم يعلم الدفن إلا من الغراب وعلى قتله لأنه لم ينتفع بقتله ولأنه سخط عليه بسببه أبواه وإخوته فكان ندمه لأجل هذه الأسباب لا لكونه معصية وعلى استخفافه بهابيل بعد قتله لتركه في العراء. فلما رأى أن الغراب دفن غرابا ميتا ندم على قساوة قلبه وقال: هذا أخي لحمه مختلط بلحمي ودمه مختلط بدمي فإذا ظهرت الشفقة من الغراب على غراب ولم تظهر مني على أخي كنت دون الغراب في الرحمة والأخلاق الحميدة. فكان ندمه لهذه الأسباب لا لأجل الخوف من الله تعالى فلا ينفعه ذلك الندم. قيل: لما قتل قابيل هابيل هرب إلى عدن من أرض اليمن فأتاه إبليس وقال: إنما أكلت النار قربان هابيل لأنه كان يخدم النار ويعبدها فإن عبدتها أيضا حصل مقصودك فبنى بيت نار فعبدها وهو أول من عبد النار.
وروي أنه لما قتله اسود جسده وكان أبيض فسأله آدم عن أخيه فقال: ما كنت عليه وكيلا.
قال: بل قتلته ولذلك اسود جسدك ومكث آدم بعده مائة سنة لم يضحك قط مِنْ أَجْلِ ذلِكَ أي المذكور من أنواع المفاسد الحاصلة بسبب القتل الحرام وهي حصول خسارة الدين والدنيا، وحصول الندم والحسرة والحزن في القلب. والجار والمجرور متعلق ب «كتبنا» وهو ابتداء كلام فلا يوقف على اسم الإشارة فالوقف على قوله تعالى: مِنَ النَّادِمِينَ تام هذا عند جمهور المفسرين وأصحاب المعاني ويروى عن نافع أنه كان يقف على اسم الإشارة ويجعله من تمام
264
الكلام الأول فحينئذ الجار والمجرور متعلق بما قبله، واسم الإشارة عائد على القتل أي من أجل أن قابيل قتل هابيل ولم يواره بالتراب. كَتَبْنا أي أوجبنا في التوراة عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ أي الشأن مَنْ قَتَلَ نَفْساً واحدة من بني آدم بِغَيْرِ نَفْسٍ أي بغير قتل نفس يوجب الاقتصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أي أو بغير فساد يوجب إهدار الدم من كفر أو زنا أو قطع طريق.
وقرأ الحسن بنصب فساد بإضمار فعل أي أو عمل فسادا فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً في تعظيم أمر القتل العمد العدوان كما أن قتل كل الخلق أمر مستعظم عند كل أحد. فالمقصود مشاركة الأمرين في الاستعظام وكيف لا يكون مستعظما وقد قال تعالى وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء: ٩٣] وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ أي ومن خلص نفسا واحدة من المهلكات كالحرق والغرق، والجوع المفرط، والبرد والحر المفرطين.
قال ابن عباس أي وجبت له الجنة بعفو عن نفس كما لو عفا عن الناس جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ أي بني إسرائيل رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ أي المعجزات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ أي بعد مجيء الرسل وبعد ما كتبنا عليهم تحريم القتل لَمُسْرِفُونَ (٣٢) في القتل لا يبالون بعظمته فإنهم كانوا أشد الناس جراءة على القتل حتى كانوا يقتلون الأنبياء إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي إنما جزاء الذين يخالفون أحكام الله وأحكام رسوله، أو إنما مكافأة الذين يحاربون أولياء الله وأولياء رسوله وهم المسلمون وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي يعملون في الأرض مفسدين بالمعاصي وهو القتل وأخذ المال ظلما أَنْ يُقَتَّلُوا واحدا بعد واحد إن قتلوا أَوْ يُصَلَّبُوا ثلاثة أيام بعد القتل والصلاة عليهم. وقيل: يصلبون أحياء ثم يزج بطنهم برمح حتى يموتوا إن جمعوا بين أخذ المال والقتل. أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أي تقطع مختلفة بأن تقطع يده اليمنى ورجله اليسرى إن اقتصروا على أخذ المال من مسلم أو ذمي وكان المقدار بحيث لو قسم عليهم أصاب كلا منهم نصاب السرقة أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ إن أخافوا السبل.
قال أبو حنيفة: النفي من الأرض هو الحبس وهو اختيار أكثر أهل اللغة. قالوا:
والمحبوس قد يسمى منفيا من الأرض لأنه لا ينتفع بشيء من طيبات الدنيا ولذاتها ولا يرى أحدا من أحبابه فصار منفيا عن جميع اللذات والشهوات والطيبات، فكان كالمنفي في الحقيقة. وقال الشافعي: هذا النفي محمول على وجهين:
الأول: أن هؤلاء المحاربين إذا قتلوا وأخذوا المال فالإمام إن أخذهم أقام عليهم الحد،
265
وإن لم يأخذهم طلبهم أبدا فكونهم خائفين من الإمام هاربين من بلد إلى بلد هو المراد من النفي.
والثاني: القوم الذين يحضرون الواقعة ويكثرون جميع هؤلاء المحاربين ويخيفون المسلمين ولكنهم ما قتلوا وما أخذوا المال فإن الإمام يأخذهم ويعزرهم ويحبسهم، فالمراد بنفيهم من الأرض هو هذا الحبس لا غير.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في قوم هلال بن عويمر لأنهم قتلوا قوما من بني كنانة أرادوا الهجرة إلى رسول الله ليسلموا فقتلوهم وأخذوا ما كان معهم من السلب. وقيل: نزلت في قوم من عرينة وكانوا ثمانية نزلوا المدينة مظهرين للإسلام فمرضت أبدانهم واصفرت ألوانهم، فبعثهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى إبل الصدقة ليشربوا من أبوالها وألبانها فيصحوا فلما شربوا وصحوا قتلوا الراعي مولى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم واسمه يسار النوبي وساقوا الإبل وكانت خمسة عشر، فبعث النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عشرين فارسا أميرهم كرز بن جابر الفهري في طلبهم فجيء بهم وأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم وسمّرت أعينهم بأن أحمى مسامير الحديد وكحل بها أعينهم حتى ذهب ضوءها، وتركوا في الحرة حتى ماتوا ذلِكَ أي الحد لَهُمْ خِزْيٌ أي هوان وفضيحة فِي الدُّنْيا إذا لم تحصل التوبة. أما عند
حصول التوبة فإن هذا الحد لا يكون على جهة الاستخفاف بل يكون على جهة الامتحان وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٣٣) أي أشد مما يكون في الدنيا لمن لم يتب إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٤) أي إن ما يتعلق من تلك الأحكام بحقوق الله تعالى يسقط بعد هذه التوبة، وما يتعلق منها بحقوق الآدميين لا يسقط. فهؤلاء المحاربون إن قتلوا إنسانا ثم تابوا قبل القدرة عليهم كان ولي الدم على حقه في القصاص والعفو إلا أنه يزول وجوب القصاص بسبب هذه التوبة لا جوازه قصاصا، وإن أخذوا مالا وجب عليهم رده ولم يكن عليهم قطع اليد والرجل، وإن جمعوا بين القتل وأخذ المال فيسقط وجوب القتل ويجوز استيفاؤه ويجب ضمان المال. وعن علي رضي الله عنه: إن الحرث بن بدر جاءه تائبا بعد ما كان يقطع الطريق فقبل توبته، ودرأ عنه العقوبة، أما إذا تاب القاطع بعد القدرة فالتوبة لا تنفعه وتقام الحدود عليه.
وقال الشافعي رحمه الله: ويحتمل أن يسقط كل حد لله بالتوبة، لأن ماعزا لما رجم أظهر توبته فلما تمّموا رجمه ذكروا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «هلا تركتموه»
«١» وذلك يدل على أن التوبة تسقط عن المكلف كل ما يتعلق بحق الله تعالى وهذا التفصيل إنما يكون للمسلم أما إن كان القاطع كافرا سقطت عنه الحدود مطلقا لأن توبته تدرأ عنه العقوبة قبل القدرة وبعدها.
(١) رواه ابن ماجة في كتاب الحدود، باب: الرجم.
266
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ بترك المنهيات وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ بفعل المأمورات وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي في سبيل عبوديته وطريق الإخلاص في معرفته وخدمته لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٣٥) نبيل مرضاته وبالفوز بكراماته.
اعلم أن مجامع التكليف محصورة في نوعين: أحدهما: ترك المنهيات وهو المشار إليه بقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ. وثانيهما: فعل المأمورات وهو المشار إليه بقوله تعالى: وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ. والمراد بطلب الوسيلة إليه تعالى هو تحصيل مرضاته وذلك بالعبادات والطاعات. ولما أمر الله تعالى بترك ما لا ينبغي وبفعل ما ينبغي وكان الانقياد لذلك من أشق الأشياء على النفس وأشدها ثقلا على الطبع، لأن النفس لا تدعو إلا إلى المشتهيات واللذات المحسوسة أردف ذلك التكليف بقوله: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ أي بمحاربة أعدائه البارزة والكامنة، ثم إن من يعبد الله تعالى فريقان: منهم من يعبد الله لا لغرض سوى الله وهو المشار إليه بقوله تعالى: وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ ومنهم من يعبده للثواب مثلا وهو المشار إليه بقوله:
لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تفوزون بالمحبوب وتخلصون عن المكروه. إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ أي لو ثبت أن لكل واحد منهم ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي من أصناف أموالها وسائر منافعها قاطبة وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ أي ليجعلوا كلا منهما فدية لأنفسهم مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ أي من العذاب الواقع يومئذ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٣٦) تصريح بعدم قبول الفداء وتصوير للزوم العذاب فلا سبيل لهم إلى الخلاص منه.
وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «يقال للكافر يوم القيامة: أرأيت لو كان لك ملء الأرض ذهبا أكنت تفتدي به؟ فيقول: نعم، فيقال له: قد سئلت أيسر من ذلك فأبيت»
«١» يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ بتحويل حال إلى حال. وقيل: يتمنون الخروج إذا رفعهم لهب النار إلى فوق ويقصدونه. وقيل: يكادون يخرجون منها لقوة النار ودفعها لهم. وقيل: يريدون الخروج بقلوبهم كما قرأ بعضهم «أن يخرجوا» بالبناء للمفعول وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ أي الكافرين خاصة دون عصاة المؤمنين عَذابٌ مُقِيمٌ (٣٧) أي دائم لا ينقطع تارة بالبر وتارة بالحر وتارة بغيرهما. وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما أي أيمانهما من الكوع. كما يدل عليه قراءة ابن مسعود رضي الله عنه «والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهم» لأنه صلّى الله عليه وسلّم أتى بسارق وهو طعمة فأمر بقطع يمينه من الرسغ. جَزاءً بِما كَسَبا أي لجزاء فعلهما نَكالًا أي للإهانة والذم مِنَ اللَّهِ فجزاء مفعول من أجله وعامله فاقطعوا نكالا مفعول من أجله وعامله جزاء على طريقة الأحوال المتداخلة كما تقول: ضربت ابني تأديبا له، إحسانا إليه، فالتأديب علة للضرب والإحسان علة للتأديب وَاللَّهُ عَزِيزٌ في انتقامه
(١) رواه أحمد في (م ٣/ ص ٢٩١). [.....]
267
حَكِيمٌ (٣٨) في شرائعه وتكاليفه فَمَنْ تابَ إلى الله تعالى مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي سرقته وَأَصْلَحَ بأن يتوب بنية صالحة صادقة وعزيمة صحيحة خالية عن سائر الأغراض فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ أي يقبل توبته تفضلا منه وإحسانا لا وجوبا عليه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣٩) فلا يعذبه في الآخرة ولا يسقط عنه القطع بالتوبة بل يقطع على سبيل الامتحان عند الجمهور. وقيل: يسقط بها الحد. وقال الشافعي: إن عفا المستحق عنه قبل الرفع إلى الإمام سقط القطع أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والمالك له أن يتصرف في ملكه كيف شاء يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤٠) فيقدر على التصرف الكلي فيهما وفيما فيهما بحسب ما تقتضيه مشيئته تعالى ونحن نعتقد أن المغفرة تابعة للمشيئة في حق غير التائب
يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أي لا تبال بمسارعة المنافقين في الكفر وذلك بسبب احتيالهم في استخراج وجوه المكر في حق المسلمين وفي مبالغتهم في موالاة المشركين فإني ناصرك عليهم وكافيك شرهم.
وقرأ نافع «يحزنك» بضم الياء وكسر الزاي. وقرئ «يسرعون» من أسرع والباء متعلقة بقالوا لا بآمنا. قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في حق عبد الله بن أبي وأصحابه. وقيل: نزلت في عبد الله بن صوريا وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي إن هؤلاء القوم من اليهود لهم صفتان سماع الكذب في دين الله وفي طعن محمد صلّى الله عليه وسلّم من أحبارهم ونقله إلى عوامهم وسماع الحق منك، ونقله لأحبارهم ليحرفوه. أي فيكونوا وسائط بينك وبين قوم آخرين، والوسائط هم يهود بني قريظة كعب وأصحابه. والقوم الآخرون هم يهود خيبر فهم لا يقربون مجلسه صلّى الله عليه وسلّم لبغضهم إياه وتكبرهم. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي يضع هؤلاء الأحبار الجلد مكان الرجم، والطعن في محمد مكان المدح في التوراة يَقُولُونَ أي المحرفون وهم القوم الآخرون للسماعين لهم عند إلقائهم إليهم أقاويلهم الباطلة مشيرين إلى كلامهم الباطل: إِنْ أُوتِيتُمْ من جهة محمد هذا المحرف من جلد المحصن فَخُذُوهُ أي فاقبلوا منه وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا ولا تقبلوا منه.
قال المفسرون: إن رجلا وامرأة من أشراف أهل خيبر زنيا وهما محصنان وكان حد الزنا في التوراة الرجم، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما فأرسلوهما مع قوم منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن حكمه في الزنيين. وقالوا: إن أمركم بالجلد وتسويد الوجه فاقبلوا، وإن أمركم بالرجم فاحذروا ولا تقبلوا. فلما سألوا رسول الله عن ذلك نزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخذوا به. فقال له جبريل عليه السلام: اجعل بينك وبينهم ابن صوريا. فقال الرسول: «هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدك يقال له: ابن صوريا؟». قالوا: نعم. فقال: «هو أيّ
268
رجل فيكم؟» فقالوا: هو أعلم يهودي على وجه الأرض بما في التوراة. فقال: «فأرسلوا إليه» فأتاهم، فقال له النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنت ابن صوريا؟» قال: نعم. قال: «وأنت أعلم اليهود؟». قال:
كذلك يزعمون، فقال لهم النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أترضون به حكما؟» قالوا: نعم. فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
«أنشدك الله الذي لا إله إلا هو، الذي فلق البحر لموسى، ورفع فوقكم الطور وأنجاكم، وأغرق آل فرعون والذي أنزل عليكم كتابه وحلاله وحرامه هل تجدون فيه الرجم على من
أحصن؟»
. قال ابن صوريا: نعم. فوثب عليه سفلة اليهود، فقال: خفت إن كذبت أن ينزل علينا العذاب ثم سأل رسول الله عن أشياء كان يعرفها من علاماته فأجابه عنها، فقال ابن صوريا: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله النبيّ الأمي العربي الذي بشّر به المرسلون، ثم أمر رسول الله بالزانيين فرجما عند باب مسجده
وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ أي ضلالته كفره فَلَنْ تَمْلِكَ أي تستطيع لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً على دفعها أُولئِكَ أي اليهود والمنافقون الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ أي من رجس الكفر وخبث الضلالة لانهماكهم فيهما لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ أي ذل بالفضيحة للمنافقين بظهور نفاقهم بين المسلمين وخوفهم من قتل المسلمين إياهم والجزية والافتضاح لليهود بظهور كذبهم في كتمان التوراة وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (٤١) وهو الخلود في النار سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ الذين كانوا ينسبونه إلى التوراة أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي الحرام الذي يصل إليهم من الرشوة في الحكم ومهر البغي وعسيب الفحل، وكسب الحجام، وثمن الكلب، وثمن الخمر، وثمن الميتة وحلوان الكاهن، والاستئجار في المعصية.
روي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وابن عباس وأبي هريرة ومجاهد فَإِنْ جاؤُكَ متحاكمين إليك فيما شجر بينهم من الخصومات فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ومذهب الشافعي أنه يجب على حاكم المسلمين أن يحكم بين أهل الذمة إذا تحاكموا إليه لأن في إمضاء حكم الإسلام عليهم ذلالهم. فأما المعاهدون الذين لهم مع المسلمين عهد إلى مدة فليس بواجب على الحاكم أن يحكم بينهم بل يخيّر في ذلك. وهذا التخيير الذي في هذه الآية مخصوص بالمعاهدين ولو ترافع إلينا ذميان في شرب خمر لم نحدهما، وإن رضيا بحكمنا لأنهما لا يعتقدان تحريمهما ولو ترافع إلينا مسلم وذمي وجب الحكم بينهما إجماعا. وكذا الذمي مع المعاهدين وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً أي فإنهم كانوا لا يتحاكمون إليه صلّى الله عليه وسلّم إلا لطلب الأخف، فإذا أعرض عنهم وأبى الحكومة لهم شق عليهم إعراضه عنهم وصاروا أعداء له فلا تضره عداوتهم له فإن الله يعصمه من الناس وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي بالعدل الذي أمرت به إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (٤٢) أي يثيب العادلين في الحكم وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ استفهام تعجيب من الله لنبيه من تحكيمهم إياه صلّى الله عليه وسلّم لمن لا يؤمنون به وبكتابه. والحال أن الحكم منصوص عليه في كتابهم الذين يدعون الإيمان به وتنبيه على أنهم ما
269
قصدوا بالتحكيم معرفة الحق وإقامة الشرع، وإنما طلبوا ما هو أهون عليهم وإن لم يكن ذلك حكم الله على زعمهم ثم يعرضون عن حكمه صلّى الله عليه وسلّم الموافق لكتابهم من بعد التحكيم، والرضا بحكمه صلّى الله عليه وسلّم فقوله تعالى: وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ حال من فاعل يُحَكِّمُونَكَ. وقوله تعالى:
فِيها حُكْمُ اللَّهِ حال من التوراة. وقوله تعالى: ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ معطوف على يُحَكِّمُونَكَ.
وَما أُولئِكَ أي البعداء من الله بِالْمُؤْمِنِينَ (٤٣) بالتوراة وإن كانوا يظهرون الإيمان بها ولا بك ولا بمعتقدين في صحة حكمك وإن طلبوا الحكم منك وذلك دليل على أنه لا إيمان لهم بشيء وأن مقصودهم تحصيل منافع الدنيا فقط إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً أي بيان الأحكام والشرائع والتكاليف وَنُورٌ أي بيان للتوحيد والنبوة والمعاد يَحْكُمُ بِهَا أي انقادوا لحكم التوراة النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا أي انقادوا لحكم التوراة فإن من الأنبياء من لم تكن شريعته شريعة التوراة والذين كانوا منقادين لحكم التوراة هم الذين كانوا من مبعث موسى إلى مبعث عيسى عليهما السلام وبينهما ألف نبي وكلهم بعثوا بإقامة التوراة حتى يحدوا حدودها ويقوموا بفرائضها، ويحلوا حلالها ويحرموا حرامها.
وقال الحسن والزهري وعكرمة وقتادة والسدي: يحتمل أن يكون المراد بالنبيين الذين أسلموا هو سيدنا محمدا صلّى الله عليه وسلّم لأنه حكم على اليهوديين بالرجم، وكان هذا حكم التوراة وإنما ذكر بلفظ الجمع تعظيما له، ولأنه قد اجتمع فيه من خصال الخير ما كان حاصلا لأكثر الأنبياء. وقال ابن الأنباري هذا رد على اليهود والنصارى لأن بعضهم كانوا يقولون: الأنبياء كلهم يهود أو نصارى. فردّ الله عليهم بذلك. أي فإن الأنبياء ما كانوا موصوفين باليهودية والنصرانية بل كانوا مسلمين أي منقادين لتكاليف الله تعالى. وفي ذلك تنبيه على قبح طريقة هؤلاء اليهود المتأخرين فإن غرضهم من ادعاء الحكم بالتوراة أخذ الرشوة واستتباع العوام، وتعريض بهم بأنهم بعدوا عن الإسلام الذي هو دين الأنبياء عليهم السلام لِلَّذِينَ هادُوا متعلق بيحكم أي يحكمون بها فيما بين اليهود وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ أي ويحكم بها العلماء المجتهدون الذين انسلخوا عن الدنيا وسائر العلماء من ولد هارون الذين التزموا طريقة النبيين بِمَا اسْتُحْفِظُوا أي بسبب الذي استحفظوا من جهة النبيين مِنْ كِتابِ اللَّهِ وهو التوراة. فإن الأنبياء سألوا الربانيين والأحبار أن يحفظوا التوراة من التغيير والتبديل وذلك منهم عليهم السلام استخلاف لهم في إجراء أحكامها من غير إخلال بشيء منها وَكانُوا عَلَيْهِ أي ذلك الكتاب شُهَداءَ أي كان هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق وأنه من عند الله، فحقا كانوا يمضون أحكام التوراة ويحفظونها عن التحريف والتغيير. فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ أيها اليهود وَاخْشَوْنِ أي إياكم وأن تحرفوا كتابي للخوف من الناس والملوك والأشراف فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم وتستخرجوا الحيل في سقوط تكاليف الله تعالى عنهم فلا تكونوا خائفين
270
من الناس بل كانوا خائفين مني ومن عقابي في كتمان الأحكام ونعوت محمد صلّى الله عليه وسلّم وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا أي ولا تستبدلوا بآياتي التي في التوراة عرضا قليلا من الدنيا أي كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في المال والجاه وأخذ الرشوة فإن كل متاع الدنيا قليل وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (٤٤).
قال ابن عباس: ومن لم يبين ما بيّن الله في التوراة من نعت محمد وآية الرجم فأولئك هم الكافرون بالله والرسول والكتاب. وقال عكرمة: أي ومن لم يحكم بما أنزل الله منكرا له بقلبه وجاحدا له بلسانه فقد كفر، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله وأقر بلسانه ذلك إلا أنه حكم بضده فهو ظالم فاسق لتركه حكم الله تعالى وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أي فرضنا على نبي إسرائيل في التوراة أَنَّ النَّفْسَ مقتولة بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ مفقوءة بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ مجدوع بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ مقطوعة بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ مقلوعة بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ أي ذات قصاص إذا كانت بحيث تعرف المساواة كالشفتين، والذكر والأنثيين، والقدمين واليدين. فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رض في لحم أو كسر في عظم، أو جراحة في بطن يخاف منها التلف ففيه أرش وحكومة.
قرأ الكسائي «العين والأنف والأذن والسن والجروح» كلها بالرفع. وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو بنصب الكل غير «الجروح» فإنه بالرفع. وقرأ نافع وعاصم وحمزة بنصب الكل وخبر الجميع قصاص فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ أي بالقصاص من المستحقين فَهُوَ أي التصدق كَفَّارَةٌ لَهُ أي للمتصدق. يكفر الله تعالى بها ذنوبه أي إذا عفا المجروح أو ولي المقتول كان ذلك العفو كفارة للعافي كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم كان إذا خرج من بيته تصدق بعرضه على الناس»
«١».
وروى عبادة بن الصامت أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصدق من جسده بشيء كفّر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه»
. وقيل: إن المجني عليه إذا عفا عن الجاني صار ذلك العفو كفارة للجاني وسقط عنه ما لزمه فلا يؤاخذه الله تعالى بعد ذلك العفو، وأما المجني عليه الذي عفا فأجره على الله تعالى، ثم القاتل يتعلق به ثلاثة حقوق: حق لله تعالى، وحق للمقتول، وحق للولي فإذا سلم القاتل نفسه طوعا واختيارا إلى الولي ندما على ما فعل خوفا من الله تعالى وتوبة نصوحا، سقط حق الله تعالى بالتوبة وحق الأولياء بالاستيفاء أو الصلح أو العفو وبقي حق للمقتول يعوضه الله عنه
(١) رواه البغدادي في موضع أوهام الجمع والتفريق (١: ٢٧)، والألباني في إرواء الغليل (٨: ٣٢).
271
يوم القيامة عن عبده التائب، ويصلح بينه وبينه ولو سلم القاتل نفسه اختيارا من غير ندم وتوبة أو لم يمكن من نفسه بل قتل كرها فيسقط حق الوارث فقط ويبقى حق الله تعالى، لأنه لا يسقطه إلا التوبة ويبقى حق المقتول أيضا ويطالبه به في الآخرة، لأن القاتل لم يسلم نفسه تائبا ولم يصل منه للمقتول شيء وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٤٥) بالتقصير في حق النفس لإبقاء النفس في العقاب الشديد والتدين بترك حكم الله نهاية الظلم وهو الكفر لإنكار نعمة الله تعالى وجحدها وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ أي أتبعنا على آثار النبيين الذين يحكمون بالتوراة بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لما قبل عيسى مما أتى به موسى مِنَ التَّوْراةِ ومعنى كون عيسى مصدقا للتوراة أنه أقر بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى وأقر بأنه كان حقا واجب العمل به قبل ورود النسخ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً لاشتماله على الدلائل الدالة على التوحيد والتنزيه وبراءة الله تعالى عن الزوجة والولد والمثل والضد وعلى النبوة وعلى المعاد وَنُورٌ لأنه بيان للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي قبل الإنجيل مِنَ التَّوْراةِ وهذا المنصوب معطوف على محل فيه هدى وهو النصب على الحال، أي موافقا لما في التوراة من أصول الدين ومن بعض الشرائع ومن كون الإنجيل مبشرا بمبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم وَهُدىً لاشتماله على البشارة بمجيء محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو سبب لاهتداء الناس إلى النبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فهذه المسألة أشد المسائل احتياجا إلى البيان فالإنجيل يدل دلالة ظاهرة عليها لكثرة المنازعة بين المسلمين واليهود والنصارى في ذلك وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٤٦) لاشتماله على النصائح والزواجر وإنما خص الموعظة بالمتقين لأنهم الذين ينتفعون بها وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ من الدلائل الدالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن الأحكام التي لم تنسخ بالقرآن فإن الحكم بالأحكام المنسوخة ليس حكما بما أنزل الله فيه بل هو تعطيل له إذ هو شاهد بنسخها لأن شهادته بصحة ما ينسخها من الشريعة شهادة بنسخها.
وقرأ حمزة «وليحكم» بكسر اللام ونصب الفعل بأن مضمرة بعد لام كي وهو متعلق بمقدر. أي وآتيناه الإنجيل ليحكموا به. وقرأ الباقون «وليحكم» بسكون اللام وجزم الفعل بلام الأمر وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٤٧) أي الخارجون عن الإيمان إن كان مستهينا به وعن طاعة الله إن كان لاتباع الشهوات وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي القرآن بِالْحَقِّ أي ملتبسا بالصدق والجار والمجرور متعلق بمحذوف وقع حالا من الكتاب أو من فاعل أنزلنا أو من الكاف في إليك مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ أي لم تقدمه مِنَ الْكِتابِ أي من كل كتاب نزل من السماء سوى القرآن وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ أي شاهدا على الكتب كلها، لأن القرآن هو الذي لا ينسخ ولا يتطرق إليه التبديل والتحريف وإذا كان كذلك كانت شهادة القرآن على سائر الكتب بالصدق باقية.
272
وقرأ ابن محيصن ومجاهد «مهيمنا» بفتح الميم الثانية، فإن القرآن يصان عن التحريف والتبديل والحافظ هو الله تعالى فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أي بين جميع أهل الكتاب إذا ترافعوا إليك بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فإن ما أنزل الله إليك وهو القرآن مشتمل على جميع الأحكام الشرعية وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ و «عن» متعلقة «بلا تتبع» على تضمين معنى تتزحزح ونحوه أي لا تنحرف عما جاءك من الحق متبعا أهواءهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً أي لكل واحد من الأمم الثلاثة أمة موسى وأمة عيسى، وأمة محمد جعلنا منكم أيها الأمم شريعة وهي العبادة التي أمر الله بها عباده، ومنهاجا أي طريقا واضحا يؤدي إلى الشريعة، فالتوراة شريعة للأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى. والإنجيل شريعة من مبعث عيسى إلى مبعث سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم، والقرآن شريعة للموجودين من سائر المخلوقات في زمنه صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة ليس إلا والدين واحد وهو التوحيد وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في جميع الأعصار من غير اختلاف ولا نسخ ولا تحويل. أو المعنى لجعلكم ذوي أمة واحدة أي دين واحد وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ أي ولكن لم يشأ الله أن يجعلكم أمة واحدة بل شاء أن يختبركم فيما أعطاكم من الشرائع المختلفة المناسبة للأزمنة والجماعة. هل تعملون بها منقادين لله معتقدين أن اختلافها مبني على الحكم اللطيفة والمصالح النافعة لكم أم تتبعون الهوى وتقصرون في العمل؟ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي إذا كان الأمر كما ذكر فسارعوا يا أمة محمد إلى ما هو خير لكم في الدارين وابتدروه انتهازا للفرصة وحيازة لفضل السبق إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٤٨) في الدنيا من أمر الدين أي فيخبركم بما لا تشكون فيه من الجزاء الفاصل بين المحق والمبطل، والموفى والمقصر في العمل فإن الأمر سوف يرجع إلى ما يحصل معه اليقين، وذلك عنده مجازاة المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته. وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ أي بين أهل الكتاب إذا تحاكموا إليك بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وهذه الجملة معطوفة على الكتاب أي أنزلنا إليك الكتاب والحكم بينهم وذكر إنزال الحكم لتأكيد وجوب امتثال الأمر، أو على قوله بالحق أي أنزلنا إليك الكتاب بالحق وبالحكم وذكر إنزال الأمر بالحكم بعد الأمر الصريح به تأكيد للأمر وتفريش لما بعده، ولأن الآيتين حكمان أمر الله بهما جميعا لأنهم احتكموا إليه صلّى الله عليه وسلّم في زنا المحصن، ثم احتكموا في قتيل كان فيهم وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ في عدم الشريف بالوضيع وعدم قتل الرجل بالمرأة وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ أي يميلوك عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ويردوك إلى أهوائهم وكان بنو النضير إذا قتلوا من قريظة أدوا إليهم نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة، ويقتلون النفسين بالنفس ويفقئون العينين بالعين فغيروا حكم الله الذي أنزله في التوراة فما لهم يخالفون.
273
قال ابن عباس: إن كعب بن أسيد وعبد الله بن صوريا، وشاش بن قيس قال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه، أي نصرفه عن دينه فأتوه صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: يا أبا القاسم قد عرفت أنا أحبار اليهود وأنا إن اتبعناك اتبعنا اليهود كلهم وأن بيننا وبين قومنا خصومة فنتحاكم إليك فاقض لنا عليهم نؤمن بك فأتى ذلك رسول الله
صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية فقوله تعالى:
أَنْ يَفْتِنُوكَ بدل اشتمال من المفعول أي واحذرهم فتنتهم أو مضاف إليه لمفعول من أجله أي احذرهم مخافة أن يفتنوك أي يصرفوك عن الحق ويلقوك في الباطل فَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الحكم بما أنزل الله تعالى وأرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ أي أن يبتليهم بجزاء بعض ذنوبهم في الدنيا وهو أن يسلطك عليهم ويعذبهم في الدنيا بالقتل والجلاء والسبي فالقوم جوزوا في الدنيا ببعض ذنوبهم وذلك كاف في إهلاكهم وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ أهل الكتاب وغيرهم لَفاسِقُونَ (٤٩) أي خارجون عن دائرة الطاعات ومعادن السعادات أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ.
قرأ ابن عامر «تبغون» بالتاء على الخطاب. وقرأ السلمي برفع «حكم» على أنه مبتدأ. وقرأ قتادة «أبحكم» بالباء الجارة بدل الفاء. وقرئ «فحكم» بفتح الفاء والكاف. أي أفيطلبون حاكما كحكام الجاهلية. وهي إما الملة الجاهلية التي هي متابعة الهوى الموجبة للمداهنة في الأحكام.
وإما أهل الجاهلية.
قال مقاتل: كانت بين قريظة والنضير دماء قبل أن يبعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم فلما بعث وهاجر إلى المدينة تحاكموا إليه، فقالت بنو قريظة: بنو النضير إخواننا، أبونا واحد، وديننا واحد وكتابنا واحد فإن قتل بنو النضير منا قتيلا أعطونا سبعين وسقا من تمر، وإن قتلنا واحدا منهم أخذوا منا مائة وأربعين وسقا من تمر، وأروش جراحاتنا على النصف من أروش جروحاتهم فاقص بيننا وبينهم. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا أحكم أن دم القرظي كدم النضيري ليس لأحدهما فضل على الآخر في دم ولا عقل ولا جراحة». فغضب بنو النضير وقالوا: لا نرضى بحكمك فإنك عدوّ لنا فأنزل الله تعالى هذه الآية
وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٥٠) فإنهم هم الذين يعرفون أنه لا أحد أعدل من الله حكما ولا أحسن منه بيانا
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ أي لا تعتمدوا على الاستنصار بهم ولا تعاشروهم معاشرة الأحباب.
روي أن عبادة بن الصامت جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتبرأ عنده من موالاة اليهود، فقال عبد الله بن أبي رئيس المنافقين: لكني لا أتبرأ منهم لأني أخاف الدوائر. فنزلت هذه الآية. وقال السدي لما كانت واقعة أحد اشتد الأمر على طائفة من الناس وتخوفوا أن تدال عليهم الكفار فقال رجل من المسلمين: أنا ألحق بفلان اليهودي وآخذ منه أمانا إني أخاف أن تدال علينا اليهود.
274
وقال رجل آخر: أنا ألحق بفلان النصراني من أهل الشام وآخذ منه أمانا فأنزل الله هذه الآية. وقال عكرمة: نزلت في أبي لبابة بن المنذر بعثه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم إلى بني قريظة حين حاصرهم فاستشاروه في النزول وقالوا: ماذا يصنع بنا إذا نزلنا؟ فجعل إصبعه في حلقه، أي إنه يقتلكم بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي بعض كل فريق من ذينك الفريقين أولياء بعض آخر من ذلك الفريق لا من الفريق الآخر وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ يا معشر المؤمنين فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي فهو من أهل دينهم فإنه لا يوالي أحد أحدا إلا وهو عنه راض فإذا رضي عنه رضي دينه فصار من أهل دينه. وهذا على سبيل المبالغة في الزجر عن إظهار صور الموالاة لهم وإن لم تكن موالاة في الحقيقة، أو لأن الموالين كانوا منافقين إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥١) بموالاة الكفار.
روي عن أبي موسى الأشعري أنه قال: قلت لعمر بن الخطاب: إن لي كاتبا نصرانيا، فقال مالك: قاتلك الله ألا اتخذت حنيفا أما سمعت قول الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ قلت له دينه ولي كتابته. فقال: لا أكرمهم إذ أهانهم الله ولا أعزهم إذ أذلهم الله ولا أدنيهم إذ أبعدهم الله. قلت: لا يتم أمر البصرة إلا به، فقال: مات النصراني والسلام. والمعنى اجعله في ظنك أنه قد مات فما تعمل بعد موته؟ أي فاعمله الآن ميتا واستغن عنه بغيره فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ بالنفاق ورخاوة العقل في الدين كعبد الله بن أبي وأصحابه يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي في موادة يهود بني قينقاع ونصارى نجران لأنهم كانوا أهل ثروة يقرضونهم ويعينونهم على مهماتهم يَقُولُونَ معتذرين عنها إلى المؤمنين نَخْشى أي نخاف خوفا شديدا أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ من دوائر الدهر كالهزيمة والحوادث المخوفة وتكون الدولة للكفار وتقال الدائرة في المكروه كالجدب والقحط. وتقال الدولة في المحبوب. وقال الزجاج: أي نخشى أن لا يتم الأمر لمحمد فيدور الأمر كما كان قبل ذلك فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ لرسول الله على أعدائه وللمسلمين على أعدائهم وبإظهار الدين أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ بقطع أصل اليهود وبإخراجهم عن بلادهم. و «عسى» بمنزلة الوعد وهو من الله تعالى واجب فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (٥٢) أي فيصير هؤلاء المنافقون نادمين على ما حدّثوا به أنفسهم من أن الدولة أي الغلبة لأعداء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإنهم كانوا يشكّون في أمر الرسول ويقولون: لا نظن أنه يتم له أمره وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا.
قرأه عاصم وحمزة والكسائي بالرفع مع إثبات الواو كما في مصاحف أهل العراق على الاستئناف. وقرأ نافع وابن كثير وابن عامر بالرفع مع حذف الواو كما في مصاحف أهل الحجاز والشام. على أن الجملة مستأنفة استئنافا بيانيا في جواب سؤال نشأ من قوله تعالى: فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ كأن القائل يقول: فماذا يقول المؤمنون حينئذ؟ فقيل: يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا إلخ.
275
وقرأ أبو عمرو بالنصب مع الواو عطفا على «يصبحوا» لا على «يأتي» لأن ذلك القول إنما يصدر عن المؤمنين عند ظهور ندامة المنافقين لا عند إتيان الفتح فقط. والمعنى يقول المؤمنون مخاطبين لليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يولونهم ويرجون دولتهم عند مشاهدتهم لانعكاس رجائهم تعريضا بالمخاطبين أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ أي غاية أيمانهم إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ بالمعونة فإن المنافقين حلفوا لليهود بالمعاضدة كما حكى الله تعالى عنهم بقوله:
وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ أو المعنى يقول المؤمنون بعضهم لبعض مشيرين للمنافقين متعجبين من حالهم متبجحين بما منّ الله عليهم من إخلاص الإيمان عند مشاهدتهم لإظهارهم الميل إلى موالاة اليهود والنصارى أنهم كانوا يقسمون بالله جهد أيمانهم أنهم معنا في ديننا في السر ومن أنصارنا فالآن كيف صاروا موالين لأعدائنا محبين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم، وهذا أنسب لقراءة الرفع مع إثبات الواو على الاستئناف، أما المعنى الأول فهو أنسب لقراءة النصب ولقراءة الرفع مع حذف الواو، ولقراءة الرفع مع الواو بجعل عطف جملة على جملة والله أعلم. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ أي بطل ما أظهروه من الإيمان وبطل كل خير عملوه لأجل أنهم الآن أظهروا موالاة اليهود والنصارى فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (٥٣) في الدنيا والآخرة فاستحقوا اللعن في الدنيا والعقاب في الآخرة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ.
قرأ ابن عامر ونافع «يرتدد» بدالين من غير إدغام وهذا من الكائنات التي أخبر عنها القرآن قبل وقوعها. روي أنه ارتد عن الإسلام إحدى عشر فرقة ثلاثة في عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم:
الأولى: بنو مدلج ورئيسهم ذو الحمار- ويلقب بالأسود- كان له حمار يقول له: قف، فيقف! وسر، فيسير! وكانت نساء أصحابه يتعطرن بروث حماره وكان كاهنا ادعى النبوة. فكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى معاذ بن جبل وإلى سادات اليمن وأمرهم بالنهوض إلى حراب الأسود، فقتله فيروز الديلمي على فراشه. والثانية: بنو حنيفة باليمامة ورئيسهم مسيلمة الكذاب ادّعى النبوة في حياة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلما توفي بعث أبو بكر خالد بن الوليد في جيش كبير وقتل على يد وحشي الذي قتل حمزة رضي الله عنه. والثالثة: بنو أسد ورئيسهم طليحة بن خويلد ادّعى النبوة فبعث أبو بكر خالدا فهزمهم وأفلت طليحة فهرب نحو الشام، ثم أسلم أيام عمر وحسن إسلامه وسبع في عهد أبي بكر.
الأولى: فزارة قوم عيينة بن حصن.
والثانية: غطفان قوم قرة بن سلمة القشيري.
والثالثة: بنو سليم قوم الفجأة بن عبد ياليل.
276
والرابعة: بنو يربوع قوم مالك بن نويرة.
والخامسة: بعض تميم قوم سجاح بنت المنذر وهي ادّعت النبوة وزوجت نفسها لمسيلمة الكذاب.
والسادسة: كندة قوم الأشعث بن قيس:
والسابعة: بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد فكفى الله أمرهم على يد أبي بكر الصديق رضي الله عنه. وفرقة واحدة في عهد عمر وهي: غسان قوم جبلة بن الأيهم وذلك أن جبلة أسلم على يد عمر وكان يطوف، فوطئ رجل طرف ردائه فغضب فلطمه، فاشتكى الرجل إلى عمر فقضى له بالقصاص عليه إلا أن يعفو عنه. فقال: أنا أشتريها بألف، فأبى الرجل، فلم يزل يزيد في الفداء إلى أن بلغ عشرة آلاف، فأبى الرجل إلا القصاص فاستنظر عمر فأنظره، فهرب جبلة إلى الروم وارتد، والمراد بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ كما قال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضحاك وابن جريج: هم أبو بكر وأصحابه لأنهم الذين قاتلوا أهل الردة. ومعنى يُحِبُّهُمْ أي يلهمهم الطاعة ويثيبهم عليها. ومعنى وَيُحِبُّونَهُ أي يطيعون لأوامره تعالى ونواهيه أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أي عاطفين عليهم أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ أي شداد عليهم كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «أرحم أمتي بأمتي أبو بكر»
«١». وكان أبو بكر في أول الأمر حين كان رسول الله في مكة يذب عنه ويلازمه ويخدمه، ولا يبالي بأحد من جبابرة الكفار وشياطينهم، وفي وقت خلافته كان يبعث العسكر إلى المرتدين وإلى مانعي الزكاة حتى انهزموا وجعل الله ذلك مبدأ لدولة الإسلام يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي لنصرة دين الله وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فالواو للحال أي بخلاف المنافقين فإنهم كانوا يراقبون الكفار ويخافون لومهم، فمن كان قويا في الدين فلا يخاف في نصرة دين الله بيده ولسانه ولومة لائم وهذا الجهاد مشترك فيه بين أبي بكر وعلي، إلا أن حظ أبي بكر في الجهاد أتم، لأن مجاهدة أبي بكر مع الكفار في أول البعث. وفي ذلك الوقت كان الإسلام في غاية الضعف والكفر في غاية القوة وكان يجاهد الكفار ويذب عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بغاية وسعه.
وأما علي فإنه كان جهاده في بدر وأحد وفي ذلك الوقت كان الإسلام قويا وكانت العساكر مجتمعة فثبت أن جهاد أبي بكر كان أكمل من جهاد علي لوجهين: لتقدمه على جهاد علي في الزمان ولأنه كان وقت ضعف الإسلام ذلِكَ أي وصف القوم بالمحبة والشفقة والقوة والمجاهدة وانتفاء خوف اللومة الواحدة فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ أي كامل القدرة فلا يعجز عن هذا
(١) رواه أحمد في (م ٣/ ص ٢٨١)، وابن ماجة في المقدمة، باب: في فضائل أصحاب رسول الله.
277
الموعود عَلِيمٌ (٥٤) أي كامل العلم فيمتنع دخول الحق في أخباره ومواعيده إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ أي إنما ناصركم ومؤنسكم الله وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (٥٥) أي منقادون لجميع أوامر الله ونواهيه.
قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبادة بن الصامت حين تبرأ من موالاة اليهود، وقال:
أنا بريء إلى الله من حلف قريظة والنضير، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين. وقال جابر بن عبد الله: نزلت في عبد الله بن سلام وذلك أنه جاء إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن قومنا قريظة والنضير قد هجرونا وأقسموا أن لا يجالسونا، ولا نستطيع مجالسة أصحابك لبعد المنازل. فنزلت هذه الآية فقرأها النّبيّ عليه فقال: رضينا بالله ورسوله وبالمؤمنين أولياء.
والمراد بالمؤمنين المذكورين عامة المؤمنين. والمراد بذكر هذه الصفات تمييز المؤمنين عن المنافقين. وقيل: المراد أبو بكر. وقيل: علي لما روي أن عبد الله بن سلام قال: لما نزلت هذه الآية قلت: يا رسول الله أنا رأيت عليا تصدق بخاتمه على محتاج وهو راكع فنحن نتولاه وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (٥٦) أي ومن يتخذهم أولياء في النصرة فإنهم جند الله وجند الله هم الغالبون على أعدائهم بالحجة فإنها مستمرة أبدا، أما بالصولة والدولة فقد يغلبون يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً أي سخرية وَلَعِباً أي ضحكة مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ أي اليهود والنصارى وَالْكُفَّارَ أي المشركين كعبدة الأوثان أَوْلِياءَ في العون. والمعنى أن القوم لما اتخذوا دينكم هزوا وسخرية فلا تتخذوهم أحبابا وأنصارا فإن ذلك كالأمر الخارج عن العقل والمروءة.
روي أن رفاعة بن زيد وسويد بن الحرث أظهرا الإيمان ثم نافقا، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآية. وقرأ أبو عمرو والكسائي «والكفار» بالجر ويعضده قراءة أبي «ومن الكفار». وقراءة عبد الله «ومن الّذين أشركوا» فهم من جملة المستهزئين أيضا بخلاف قراءة الباقين بالنصب فلا يفيد أنهم منهم وإنما يستفاد ذلك من آية أخرى وَاتَّقُوا اللَّهَ في موالاتهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٥٧) أي حقا فإن قضية الإيمان توجب الاتقاء بلا شك وَأولئك الذين اتخذوا دين المسلمين هزوا ولعبا هم الذين إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ بالآذان والإقامة اتَّخَذُوها أي الصلاة والمناداة هُزُواً وَلَعِباً أي لما اعتدوا أنه ليس فيها فائدة ومنفعة في الدين والدنيا قالوا: إنها لعب.
روى الطبراني أن نصرانيا بالمدينة كان إذا سمع المؤذن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله قال: أحرق الله الكاذب، فدخل خادمه ذات ليلة بنار وأهله نيام فتطاير شرره في البيت فأحرقه وأهله. وقيل: كان المنافقون من اليهود يتضاحكون عند القيام إلى الصلاة تنفيرا للناس عنها.
278
وقيل: إن الكفار والمنافقين كانوا إذا سمعوا الآذان دخلوا على النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: يا محمد لقد ابتدعت شيئا لم يسمع بمثله فيما مضى! فإن كنت نبيا فقد خالفت الأنبياء قبلك فمن أين لك صياح كصياح العير؟ فما أقبح هذا الصوت وهذا الأمر فأنزل الله وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ [فصلت: ٣٣] الآية. وأنزل: وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية وقد دلّت هذه الآية على ثبوت الأذان بنص الكتاب العزيز لا بمنام الصحابة وحده وجملة وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها من الشرط، والجواب: صلة ثانية للموصول المجرور بمن البيانية وفي الحقيقة إن قوله: اتَّخَذُوها معطوف على أُوتُوا وإن قوله: إِذا نادَيْتُمْ ظرف له كأنه قيل: ومن الذين اتخذوها هزوا ولعبا وقت أذانكم والله أعلم. ذلِكَ أي الاستهزاء المذكور بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (٥٨) أي لو كان لهم عقل كامل لعلموا أن خدمة الخالق المنعم بغاية التعظيم لا تكون مهزوءا بها فإنه أحسن أعمال العباد وأشرف أفعالهم، ولذلك قال بعض الحكماء: أشرف الحركات الصلاة، وأنفع السكنات الصيام. قُلْ بل أشرف الخلق لليهود: يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ أي ما تكرهون من أحوالنا إلا الإيمان بالله وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا أي بالقرآن وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ أي بما أنزل من قبل إنزال القرآن من التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (٥٩).
وقرأ الجمهور «أن» بفتح الهمزة أي وما تكرهون من أوصافنا إلا إيماننا بما ذكر واعتقادنا بأن أكثركم خارجون عن الإيمان بما ذكر فإن الكفر بالقرآن مستلزم للكفر بما يصدقه بلا شك.
وقرأ نعيم بن ميسرة «إن» بالكسر على الاستئناف قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ أي مما قلتم لمحمد وأصحابه.
روي أنه أتى نفر من اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسألوه عن دينه فقال صلّى الله عليه وسلّم: «نؤمن بالله وما أنزل إلينا- إلى قوله- ونحن مسلمون» فحين سمعوا منه صلّى الله عليه وسلّم ذكر عيسى عليه السلام قالوا: لا نعلم شرا من دينكم. فنزلت هذه الآية
أي هل أخبركم بما هو شر مما تعتقدونه شرا. مَثُوبَةً أي عقوبة عِنْدَ اللَّهِ ف «مثوبة» تمييز ل «شر» بمعنى عقوبة للتهكم مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ف «من» موصولة بدل من «شر» أي من أبعده الله من رحمته وَغَضِبَ عَلَيْهِ أي سخط عليهم بانهماكهم بعد سنوح البينات وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ في زمن داود عليه السلام وهم أصحاب السبت وَالْخَنازِيرَ في زمن عيسى عليه السلام بعد أكلهم من المائدة فكفروا.
وروي أيضا أن المسخين كانا في أصحاب السبت لأن شبانهم مسخوا قردة ومشايخهم مسخوا خنازير وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أي من أطاع أحدا في معصية الله كالكهنة وهو معطوف على صلة من كقراءة أبي و «عبدوا الطاغوت» كما أفصح عن ذلك قراءة ابن مسعود «ومن عبدوا الطاغوت»، وكقراءة الأعمش والنخعي وعبد مبنيا للمفعول. وكذا على قراءة عبد بفتح العين
279
وضم الباء على وزن كرم أي صار الطاغوت معبودا من دون الله تعالى ورفع الطاغوت على هاتين القراءتين فالراجع إلى الموصول محذوف فيها أي عبد الطاغوت فيهم أو بينهم.
وقرأ حمزة وعبد الطاغوت بفتح العين وضم الباء ونصب الدال، وجر الطاغوت وهو مفرد يراد به الكثرة أي بالغ الغاية في طاعة الشيطان وهو معطوف على القردة كقراءة عابد الطاغوت، وعابدي، وعبادة، وعبيد، وعبد بضمتين، وعبدة بوزن كفرة وعبد بفتحتين جمع عابد كخدم جمع خادم وقرئ وعبد الطاغوت بجر عبد عطفا على من بناء على أنه مجرور على أنه بدل من شر والسبعية اثنتان.
أولاهما: عبد الطاغوت على أن عبد فعل ماض مبني للفاعل وفيه ضمير عائد على من وهذه قراءة غير حمزة.
وثانيهما: قراءته وغيرهما قراءات شاذة أُولئِكَ الملعونون الممسوخون شَرٌّ مَكاناً من المؤمنين لأن مكانهم سقر ولا مكان أشد شرا منه. أو المعنى أولئك الملعونون المغضوب عليهم المجعول منهم القردة والخنازير العابدون الطاغوت شر مكانا من غيرهم من الكفرة الذين لم يجمعوا بين هذه الخصال الذميمة وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٦٠) أي أكثرهم ضلالا عن الطريق المستقيم.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية عيّر المسلمون أهل الكتاب وقالوا: يا إخوان القردة والخنازير فينكسون رؤوسهم
وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ نزلت هذه الآية في ناس من اليهود كانوا يدخلون على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويظهرون له الإيمان نفاقا، فأخبره الله تعالى بشأنهم أنهم يخرجون من مجلسك ملتبسين بالكفر كما دخلوا لم يتعلق بقلبهم شيء مما سمعوا منك من نصائحك وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ
(٦١) من الكفر وغرضهم من هذا النفاق المبالغة فيما في قلوبهم من الجلد في المكر بالمسلمين والعداوة لهم وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي اليهود يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ أي الكذب وكلمة الشرك وَالْعُدْوانِ أي الظلم على الناس وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي الحرام كالرشا لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٦٢) أي لبئس شيئا كانوا يعملونه عملهم هذا لَوْلا أي هلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ أي العباد وَالْأَحْبارُ أي العلماء عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ مع علمهم بقبحهما ومشاهدتهم لمباشرتهم لهما لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (٦٣) أي لبئس شيئا كانوا يصنعونه تركهم للنهي عن ذلك، والصنع أقوى من العمل لأن العمل إنما يسمى صناعة إذا صار راسخا. فجعل جرم العاملين ذنبا غير راسخ وذنب التاركين للنهي عن المنكر ذنبا راسخا ولذلك ذم بهذا خواصهم ولأن ترك الإنكار على المعصية أقبح من مواقعة المعصية، لأن النفس تلتذ بها لأنها مرض الروح وهو صعب شديد لا يكاد يزول ولا كذلك ترك الإنكار عليها
280
فيدخل في هذا الذم كل من كان قادرا على النهي عن المنكر من العلماء وغيرهم وتركه، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنهما: هذه الآية أشد آية في القرآن. وقال الضحاك: ما في القرآن آية أخوف عندي منها والله أعلم وَقالَتِ الْيَهُودُ.
قال ابن عباس وعكرمة والضحاك: إن الله تعالى قد بسط على اليهود حتى كانوا من أكثر الناس مالا فلما بعث الله محمدا وكذبوا به ضيّق الله عليهم المعيشة، فعند ذلك قال فنحاص بن عازوراء وأخرج الطبراني عن ابن عباس: أنه قال النباش بن قيس: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي مقبوضة عن العطاء على جهة الصفة بالبخل غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا وهذه الكلمات دعاء عليهم.
والمعنى أنه تعالى يعلمنا أن ندعو عليهم بهذا الدعاء كما علمنا الاستثناء في قوله تعالى:
لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: ٢٧]، وكما علمنا الدعاء على المنافقين في قوله تعالى: فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً [البقرة: ١٠] وعلى أبي لهب في قوله تعالى تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] فحينئذ يكون المعنى دعاء عليهم بالبخل، ومن ثم كانوا أبخل خلق الله تعالى وبغل الأيدي حقيقة بأن يغلوا في الدنيا أسارى وتشد أيديهم إلى أعناقهم في نار جهنم، ويسحبوا إلى النار بأغلالها وقوله: ولعنوا بما قالوا أي عذبوا في الدنيا بالجزية، وفي الآخرة بالنار بسبب قولهم ذلك بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ عطف على مقدر، أي ليس الأمر على ما وصفتموه تعالى به من البخل بل هو تعالى جواد كريم على سبيل الكمال فإن من أعطى بيديه من الإنسان فقد أعطى على أكمل الوجوه، فتثنية اليد مبالغة في الوصف بالجود، وأيضا إن المراد بالتثنية المبالغة في وصف النعمة، فالمعنى أن نعمة الله متتابعة ليست كما ادعى من أنها مقبوضة ممتنعة.
وقيل: التثنية للتنبيه على منحه تعالى لنعمتي الدنيا والآخرة. وقيل: على إعطائه إكراما وعلى إعطائه استدراجا. فقيل: نعمتاه تعالى: نعمة الدين، ونعمة الدنيا. أو نعمة الباطن ونعمة الظاهر. أو نعمة النفع، ونعمة الدفع. أو نعمة الشدة ونعمة الرخاء يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ أي يرزق خلقه كائنا على أي حال يشاء إن شاء قتر وإن شاء وسع وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً أي والله ليزيدن القرآن علماء اليهود غلوا في الإنكار وشدة في الكفر إذ كلما نزلت آية كفروا بها كما أن الطعام الصالح للأصحاء يزيد المرضى مرضا وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فكل فرقة من اليهود تخالف الأخرى فلا يكاد تتوافق قلوبهم ولا تتطابق أقوالهم فإن اليهود فرق فإن بعضهم جبرية وبعضهم قدرية، وبعضهم مرجئة، وبعضهم مشبهة، وكذا النصارى فرق كالملكانية، والنسطورية، واليعقوبية، والماردانية كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ أي كلما هموا بمحاربة أحد رجعوا خائبين مقهورين وقد أتاهم الإسلام وهم في ملك المجوس فإنهم لما خالفوا حكم التوراة سلّط الله عليهم بختنصر، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم
281
فطرس الرومي، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المجوس، ثم أفسدوا فسلط الله عليهم المسلمين وكلما أرادوا محاربة النبي صلّى الله عليه وسلّم ورتبوا أسبابها وركبوا في ذلك متن كل صعب ردهم الله تعالى وقهرهم وذلك لعدم ائتلافهم وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي ويجتهدون في الكيد للإسلام وأهله وإثارة الفتنة بينهم وفي تعويق الناس عن محمد صلّى الله عليه وسلّم وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٦٤) أي والله يعاقب المفسدين في الأرض كاليهود وغيرهم وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ أي أن اليهود والنصارى آمَنُوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم بما جاء به وَاتَّقَوْا مخالفة كتابهم لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٦٥) فالكتابي لا يدخل الجنة ولا يرفع عنه العقاب ما لم يسلم والإسلام يجب ما قبله وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي أقاموا أحكامهما وحدودهما وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ من الكتب ككتاب شعياء وكتاب حيقوق، وكتاب دانيال، وكتاب أرمياء، وزبور داود لأنهم مكلفون بالإيمان بجميعها فكأنها أنزلت إليهم وأيضا في هذه الكتب ذكر محمد صلّى الله عليه وسلّم فيكون المراد بإقامة هذه الكتب الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم.
وقيل: المراد بما أنزل إليهم من ربهم القرآن لأنهم مأمورون بالإيمان به فكأنه نزل إليهم من ربهم لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وهذه مبالغة في السعة والخصب لا أن هناك فوقا وتحتا. والمعنى لأكلوا أكلا متصلا كثيرا. وقيل: من نزول القطر ومن حصول النبات. وقيل:
من الأشجار المثمرة ومن الزروع المغلة. وقيل: المراد أن يرزقهم الله الجنان اليانعة الثمار فيجتنون ما تهدل من رؤوس الشجر، ويلتقطون ما تساقط على الأرض من تحت أرجلهم هذا في القائلين: يد الله مغلولة الذين ضيق عليهم عقوبة لهم مِنْهُمْ أي من أهل الكتاب أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ أي طائفة معتدلة. وهم المؤمنون منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، وبحيرا الراهب وأصحابه، والنجاشي وأصحابه، وسلمان الفارسي وأصحابه وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (٦٦) من العناد وتحريف الحق والإفراط في العداوة وكتمان صفة محمد ككعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ومالك بن الصيف، وسعيد بن عمرو، وأبي ياسر، وجدي بن أخطب يا أَيُّهَا الرَّسُولُ أي يا محمد بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ من غير مبالاة باليهود والنصارى ومن غير خوف من أن ينالك مكروه أبدا وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ ما أمرت به من تبليغ جميع ما أنزل إليك من الأحكام وما يتعلق بها فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ أي رسالة ربك.
وقرأ ابن عامر ونافع وشعبة رسالاته بجمع تأنيث سالم. وقرئ فما بلغت رسالاتي وهذا تنبيه على غاية التهديد وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ أي الكفار أي يؤمنك من مكر اليهود والنصارى من قتلهم.
وعن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية فأخرج رأسه من قبة آدم وقال: «انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من
282
الناس»
«١». إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٦٧) أي إنه تعالى لا يمكّنهم مما يريدون بك من القتل.
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم نزل تحت شجرة في بعض أسفاره وعلّق سيفه عليها فأتاه أعرابي وهو نائم فأخذ سيفه واخترطه وقال: يا محمد من يمنعك مني؟ فقال: «الله» «٢» فرعدت يد الأعرابي وسقط السيف من يده وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دماغه.
قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ من الدين ولا في أيديكم من الصواب حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ أي تحافظوا على ما فيهما من دلائل رسالة الرسول وشواهد نبوته فإن إقامتهما إنما تكون بذلك. وأما مراعاة أحكامهما المنسوخة فليست من إقامتهما في شيء وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ أي حتى تراعوا على ما في القرآن بالإيمان به فإن إقامة الجميع لا تحصل بغير ذلك وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وهو القرآن طُغْياناً أي تماديا في الجحود وَكُفْراً أي ثباتا على الكفر فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٦٨) أي لا تتأسف عليهم بسبب زيادة طغيانهم وكفرهم ولا بسبب نزول اللعن والعذاب عليهم إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا حقا بموسى وبجملة الأنبياء والكتب وماتوا على ذلك فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون. وَالَّذِينَ هادُوا أي دخلوا في اليهودية وَالصَّابِئُونَ هم قوم من النصارى وهم ألين قولا من النصارى وَالنَّصارى
مَنْ آمَنَ
من هؤلاء الثلاثة بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً أي خالصا فيما بينه وبين ربه وتاب اليهودي من اليهودية، والصابئ من الصابئة، والنصارى من النصرانية فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إذا ذبح الموت وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٩) إذا أطبقت النار، فقوله: وَالَّذِينَ هادُوا مبتدأ «قالوا» ولعطف الجمل أو للاستئناف. وقوله:
وَالصَّابِئُونَ عطف على هذا المبتدأ كقوله: وَالنَّصارى وقوله: فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ إلخ خبر عن هذه المبتدءات الثلاثة. وقوله: مَنْ آمَنَ بدل بعض من هذه الثلاثة فهو مخصص.
فالإخبار عن اليهود ومن بعدهم بما ذكر بشرط الإيمان بما ذكر وقوله: إِنَّ الَّذِينَ خبر إن محذوف دل عليه المذكور من خبر هذه الثلاثة.
وقرئ «والصابئين»، وقرئ «يا أيها الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون» «وهم من صبوا إلى اتباع الهوى والشهوات في دينهم لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي بالله لقد أخذنا ميثاقهم بالتوحيد وسائر الأحكام المكتوبة عليهم في التوراة وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ذوى عدد كثير ليقرروهم على مراعاة حقوق الميثاق كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ أي كلما جاءهم رسول من أولئك الرسل بما لا تحبه أنفسهم المنهمكة في الغي من الشرائع، ومشاق التكليف عصوه وعادوه فَرِيقاً كَذَّبُوا أي فريقا من الرسل كذبوهم كعيسى وموسى ومحمد
(١) رواه الترمذي في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة ٥.
(٢) رواه أحمد في (م ٣/ ص ٣٦٥).
283
صلوات الله عليهم وَفَرِيقاً منهم يَقْتُلُونَ (٧٠) كزكريا ويحيى عليهما السلام وقصدوا أيضا قتل عيسى وإن كان الله منعهم عن مرادهم وهم يزعمون أنهم قتلوه، فذكر التكذيب بلفظ الماضي إشارة إلى معاملتهم مع موسى عليه السلام فإنهم كذبوه في كل مقام، وتمردوا على أوامره لأنه قد انقضى من ذلك الزمان أدوار كثيرة، وذكر القتل بلفظ المضارع إشارة إلى معاملتهم مع زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام لكون ذلك الزمان قريبا فكان كالحاضر ومحافظة للفاصلة
وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي ظن بنو إسرائيل أن لا يوحّد بلاء وعذاب بقتل الأنبياء وتكذيبهم لأنهم كانوا يعتقدون أن كل رسول جاءهم بشرع آخر غير شرعهم يجب عليهم تكذيبه وقتله لأنهم اعتقدوا أن النسخ ممتنع على شرع موسى وكانوا يعتقدون أن نبوة أسلافهم تدفع عنهم العقاب الذي يستحقونه بسبب ذلك القتل والتكذيب فَعَمُوا عن الهدى وَصَمُّوا عن الحق فخالفوا أحكام التوراة فقتلوا شعياء وحبسوا أرمياء عليهما السلام فسلط الله تعالى عليهم بختنصر عامل لهراسب على بابل، فاستولى على بيت المقدس، فقتل من أهله أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة، وذهب بالبقية إلى أرضه، فبقوا هناك دهرا طويلا على أقصى الذل إلى أن أحدثوا توبة صحيحة ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ حين تابوا فوجه الله تعالى ملكا عظيما من ملوك فارس إلى بيت المقدس ليعمره، ونجّى بقايا بني إسرائيل من أسر بختنصر وردّهم إلى وطنهم، وتراجع من تفرّق منهم في الأكناف فعمره ثلاثين سنة فكثروا وكانوا كأحسن ما كانوا عليه.
وقيل: لما ورث بهمن الملك من جده ألقى الله تعالى في قلبه شفقة عليهم فردّهم إلى الشام، وملّك عليهم دانيال عليه السلام، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر، فقامت فيهم الأنبياء فرجعوا إلى أحسن ما كانوا عليه من الحال ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ فعادوا إلى الفساد واجترءوا على قتل زكريا ويحيى، وقصدوا قتل عيسى فبعث الله تعالى عليهم الفرس فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه خيدرود ففعل بهم ما فعل. قيل: دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي، فسألهم فقالوا: دم قربان لم يقبل منا، فقال: ما صدقوني فقتل عليه ألوفا منهم، ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا. فقالوا: إنه دم يحيى عليه السلام، فقال: بمثل هذا ينتقم الله تعالى منكم. ثم قال: يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقى أحدا منهم فهدأ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٧١) أي وإن دق فيجازيهم به وفق أعمالهم لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ.
قيل: هم الملكانية والمار يعقوبية منهم القائلون بالاتحاد. وقيل: هم اليعقوبية خاصة لأنهم يقولون: إن مريم ولدت إلها، ولعل معنى هذا المذهب أنهم يقولون: إن الله تعالى حلّ في
284
ذات عيسى واتحد بذات عيسى. وَقالَ الْمَسِيحُ أي والحال قد قال المسيح مخاطبا لهم يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ أي وحدوا الله في العبادة خالقي وخالقكم إِنَّهُ أي الشأن مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ شيئا في عبادته أو فيما يختص به من صفات الألوهية فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أي فقد منعه الله من دخولها وَمَأْواهُ النَّارُ فإنها هي المعدة للمشركين وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٧٢) أي وما لهم من أحد ينصرهم بإنقاذهم من النار إما بطريق المبالغة أو بطريق الشفاعة. فقوله تعالى: إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ إلى آخر الآية وارد من جهته تعالى لتأكيد مقالة عيسى عليه السلام ولتقرير مضمونها لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وهم النسطورية والمرقوسية.
وفي تفسير قولهم طريقان:
الأولى: قال بعض المفسرين: إنهم أرادوا بذلك إن الله ومريم وعيسى آلهة ثلاثة. فمعنى ثالث ثلاثة أي أحد ثلاثة آلهة، فكل واحد من هؤلاء إله لأنهم يقولون: إن الآلهة مشتركة بين هؤلاء الثلاثة. قال الواحدي: ولا يكفر من يقول: إن الله ثالث ثلاثة إذا لم يرد به ثالث ثلاثة آلهة فإنه ما من شيئين إلا والله ثالثهما بالعلم اه. كما
قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر: «ما ظنك باثنين الله ثالثهما»
«١».
والثانية: حكى المتكلمون عن النصارى أنهم يقولون: إن الإله جوهر واحد مركب من ثلاثة أقانيم أب وابن وروح قدس. فهذه الثلاثة إله واحد، كما أن الشمس اسم يتناول القرص والشعاع والحرارة، وعنوا بالأب: الذات. وبالابن: الكلمة. وبالروح: الحياة، وقالوا: إن الكلمة التي هي كلام الله اختلطت بجسد عيسى اختلاط الماء باللبن واختلاط الماء بالخمر وزعموا أن الأب إله والابن إله والروح إله والكل إله واحد. وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ أي وما في الوجود من هذه الحقيقة إلا فرد واحد، أو المعنى وما من إله لأهل السموات والأرض إلا إله لا ولد له ولا شريك له فهو إله واحد بالذات منزه عن شائبة التعدد بوجه من الوجوه وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ أي من هاتين المقالتين وما قرب منهما لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ أي ليصيبن الذين أقاموا على هذا الدين عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) أي شديد الألم أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ أي ألا ينتهون عن تلك العقائد الزائغة والأقاويل الباطلة فلا يتوبون إلى الله عن تلك المقالة والعقيدة ويستغفرونه بالتوحيد والتنزيه عن الاتحاد والحلول. أو المعنى أيسمعون هذه الشهادات المكررة والتشديدات المقررة فلا يتوبون عقب سماع تلك القوارع الهائلة؟ وَاللَّهُ غَفُورٌ
(١) رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب: ١، وأحمد في (م ١/ ص ٤).
285
لمن تاب وآمن رَحِيمٌ (٧٤) لمن مات على التوبة مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أي ما هو إلا رسول من جنس الرسل الذين مضوا من قبله، جاء بآيات من الله كما أتوا بأمثالها فليس بإله كالرسل الخالية قبله فإنهم لم يكونوا آلهة فإن كان الله أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى على يد عيسى عليه السلام، فقد فلق البحر وأحيا العصا وجعلها حية تسعى على يد موسى عليه السلام وهو أعجب منه، وإن كان الله خلقه من غير أب فقد خلق آدم من غير أب وأم وهو أغرب منه وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ أي وما أمه إلا صديقة أي تلازم الصدق وتصدق الأنبياء وتبالغ في بعدها عن المعاصي وفي إقامة مراسم العبودية كسائر النساء اللاتي يلازمن الاتصاف بذلك فما رتبة عيسى إلا رتبة نبي، وما رتبة أمه إلا رتبة صحابي فمن أين لكم أن تصفوهما بما لا يوصف به سائر الأنبياء وخواص الناس؟ فإن أعظم صفات عيسى عليه السلام الرسالة، وأكمل صفات أمه الصديقية وذلك لا يستلزم لهما الألوهية كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ كسائر أفراد البشر. انْظُرْ يا أشرف الخلق كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ أي
العلامات بأن عيسى ومريم لم يكونا بإلهين وببطلان ما تقولوا عليهما ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (٧٥) أي كيف يصرفون عن استماع الآيات وعن التأمل فيها فالله بيّن لهم الآيات بيانا عجبا وإعراضهم عنها أعجب منها قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وهو عيسى عليه السلام فإن مذهب النصارى أن اليهود صلبوه ومزقوا أضلاعه ولما عطش وطلب الماء منهم صبوا الخل في منخريه ومن كان في الضعف هكذا كيف يعقل أن يكون إلها؟ فلو كان كذلك لامتنع كونه مشغولا بعبادة الله تعالى! ومن كان كذلك كان محتاجا إليه في تحصيل المنافع ودفع المضار ومن كان كذلك كيف يقدر على إيصال المنافع إلى العباد ودفع المضار عنهم؟ وإذا كان كذلك كان عبدا كسائر العبيد وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٧٦). والمراد من هذه الجملة التهديد أي سميع بكفرهم ولمقالتهم في عيسى وأمه عليم بضمائرهم وبعقوبتهم قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ أي يا معشر اليهود والنصارى لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ أي لا تتجاوزوا الحد في دينكم تجاوزا باطلا فإن الغلو في الدين نوعان: غلو حق وهو أن يجتهد في تحصيل حججه وتقريرها كما يفعله المتكلمون وغلو باطل وهو أن يتكلف في تقرير الشبه ويتجاوز الحق ويعرض عن الأدلة وذلك الغلو هو رفع النصارى لعيسى فقالوا: إنه إله وخفص اليهود له فقالوا: إنه ابن زنا وإنه كذاب وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ أي لا تتبعوا مذاهب قوم قد ضلوا من قبلكم عن التوراة والإنجيل وَأَضَلُّوا كَثِيراً من الناس بتماديهم في الباطل وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (٧٧) أي عن الدين الحق وعن القرآن بسبب اعتقادهم في ذلك الإضلال أنه إرشاد إلى الحق لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي لعن الله تعالى اليهود في الزبور والنصارى في الإنجيل عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فاليهود لعنوا على لسان
286
داود، والنصارى لعنوا على لسان عيسى، والفريقان من بني إسرائيل وهم أصحاب السبت وأصحاب المائدة. أما أصحاب السبت فهم قوم داود وذلك أن أهل أيلة لما اعتدوا في السبت بأخذ الحيتان دعا عليهم داود عليه السلام وقال: اللهم العنهم واجعلهم آية فمسخهم الله قردة.
وأما أصحاب المائدة فإنهم لما أكلوا من المائدة وادخروا ولم يؤمنوا، قال عيسى عليه السلام:
اللهم عذّب من كفر بعد ما أكل من المائدة عذابا لم تعذبه أحدا من العالمين، والعنهم كما لعنت أصحاب السبت فمسخوا قردة وخنازير وكانوا خمسة آلاف ليس فيهم امرأة ولا صبي ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (٧٨) أي ذلك اللعن الفظيع بسبب عصيانهم ومبالغتهم في العصيان كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي كانوا لا يمتنعون عن معاودة منكر فعلوه ولا يتركونه ولا يصدر من بعضهم نهي لبعض عن منكر أرادوا فعله.
روى ابن مسعود عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من رضي عمل قوم فهو منهم ومن كثّر سواد قوم فهو منهم»
«١». لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٧٩) أي أقسم لبئس ما كانوا يفعلونه فعلهم هذا وهو ترك الإصرار على منكر فعلوه وترك النهي عنه تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ أي تبصر كثيرا من أهل الكتاب ككعب بن الأشرف وأصحابه يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي يصادقون كفار أهل مكة أبا سفيان وأصحابه بغضا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين، أي فإن كعبا وأضرابه خرجوا إلى مشركي مكة ليتفقوا على محاربة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي لبئس شيئا قدموا من موالاتهم لعبدة الأوثان لزاد معادهم موجب سخطه تعالى عليهم وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (٨٠) أي وخلودهم أبد الآبدين في عذاب جهنم، وهذه الجملة معطوفة على ما قبلها فهي من جملة المخصوص بالذم
وَلَوْ كانُوا أي أهل الكتاب الذين يوالون المشركين يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ أي نبيهم وهو موسى وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من التوراة كما يدعون مَا اتَّخَذُوهُمْ أي ما اتخذ اليهود المشركين أَوْلِياءَ لأن تحريم ذلك متأكد في التوراة في شرع موسى عليه السلام فلما فعلوا ذلك ظهر أنه ليس مرادهم تقرير دين موسى بل مرادهم الرياسة فيسعون في تحصيله بأيّ طريق قدروا عليه فلهذا وصفهم الله تعالى بالفسق فقال: وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (٨١) أي خارجون عن الدين والإيمان بالله ونبيهم وكتابهم أما البعض منهم فقد آمن وفي هذه الآية وجه آخر ذكره القفال وهو أن يكون المعنى ولو كان هؤلاء المتولون من المشركين يؤمنون بالله وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم ما اتخذهم هؤلاء اليهود أولياء وهذا الوجه حسن ليس في
(١) رواه ابن حجر في المطالب العالية (١٦٠٥)، والزيلعي في نصب الراية (٤: ٣٤٦)، والزبيدي في إتحاف السادة المتقين (٦: ١٢٨)، والمتقي الهندي في كنز العمال (٢٤٧٣٥)، والعجلوني في كشف الخفاء (٢: ٣٧٨).
287
الكلام ما يدفعه لَتَجِدَنَّ يا أكرم الخلق أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا من أهل مكة لشدة شكيمتهم وتضاعف كفرهم وانهماكهم في اتباع الهوى وقربهم إلى التقليد وبعدهم عن التحقيق
وعن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ما خلا يهوديان بمسلم إلا همّا بقتله»
«١».
وقد قال بعضهم: مذهب اليهود أنه يجب عليهم إيصال الشر إلى من خالفهم في الدين بأي طريق كان فإن قدروا على القتل فذاك وإلا فبغصب المال أو بالسرقة أو بنوع من الحيلة. وأما النصارى فليس مذهبهم ذلك بل الإيذاء حرام في دينهم فهذا وجه التفاوت وذكر الله تعالى أن النصارى ألين عريكة من اليهود وأقرب إلى المسلمين منهم وَلَتَجِدَنَّ يا أشرف الخلق أَقْرَبَهُمْ أي الناس مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى إنما أسند تسميتهم نصارى إليهم دون تسمية اليهود للأشعار بقرب مودتهم حيث يدعون أنهم أنصار الله وأوداء أهل الحق، وإن لم يظهروا اعتقاد حقية الإسلام فتسميتهم نصارى ليست حقيقة بخلاف تسمية اليهود يهودا فإنها حقيقة سواء سموا بذلك لكونهم أولاد يهود بن يعقوب أو لكونهم تابوا عن عبادة العجل أو لتحركهم في دراستهم ذلِكَ أي كونهم أقرب مودة للمؤمنين بِأَنَّ مِنْهُمْ أي بسبب أن منهم قِسِّيسِينَ أي علماء وَرُهْباناً أي عبادا أصحاب الصوامع وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (٨٢) عن قبول الحق إذا فهموه كما استكبر اليهود والمشركون من أهل مكة وَأنهم إِذا سَمِعُوا أي القسيسون والرهبان الذين آمنوا منهم ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو القرآن تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي تمتلئ من الدمع حتى تفيض أي تسيل مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ أي من نعت محمد صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم أو مما عرفوا بعض الحق الذي هو القرآن.
روي أن قريشا تشاورت أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم فوثب كل قبيلة على من آمن منهم، فآذوهم وعذبوهم، ومنع الله تعالى رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعمه أبي طالب، فلما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما نزل بأصحابه أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة وقال: «إن بها ملكا صالحا لا يظلم ولا يظلم عنده أحد فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجا».
فخرج إليها سرا أحد عشر رجلا وأربع نسوة، منهم عثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والزبير بن العوام، وعبد الله بن مسعود، وعبد الرحمن بن عوف، وأبو حذيفة بن عتبة وامرأته سهلة، ومصعب بن عمير، وأبو سلمة بن عبد الأسد وزوجته أم سلمة بنت أمية، وعثمان بن مظعون، وعامر بن ربيعة وامرأته ليلى، وحاطب بن عمرو وسهيل بن بيضاء فخرجوا إلى البحر وأخذوا سفينة بنصف دينار، وذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ثم خرج بعدهم جعفر بن أبي طالب
(١) رواه العجلوني في كشف الخفاء (٢: ٢٦٦).
288
وتتابع المسلمون فكان جميع من هاجر إلى أرض الحبشة اثنين وثمانين رجلا سوى النساء والصبيان، فلما كانت وقعة بدر وقتل الله فيها صناديد الكفار. قال كفار قريش: إن ثاركم بأرض الحبشة فاهدوا إلى النجاشي واسمه أصحمة وابعثوا إليه رجلين من ذوي رأيكم لعله يعطيكم من عنده فتقتلونهم بمن قتل منكم ببدر، فبعث
كفار قريش عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة بهدايا إلى النجاشي وبطارقته ليردهم إليهم فدخلا إليه فقالا له: أيها الملك إنه قد خرج فينا رجل زعم أنه نبي وهو قد بعث إليك برهط من أصحابه ليفسدوا عليك قومك فأحببنا أن نخبرك خبرهم وأن قومنا يسألونك أن تردهم إليهم فقال: حتى نسألهم، فأمر بهم فأحضروا فلما أتوا باب النجاشي قالوا: يستأذن أولياء الله. فقال: ائذنوا لهم فمرحبا بأولياء الله. فلما دخلوا عليه سلموا، فقال الرهط من المشركين: أيها الملك ألا ترى أنهم لم يحيوك بتحيتك التي تحيا بها؟ فقال لهم الملك: ما منعكم أن تحيوني بتحيتي؟ قالوا: إنا حييناك بتحية أهل الجنة وتحية الملائكة. فقال لهم النجاشي: ما يقول صاحبكم في عيسى وأمه؟ فقال جعفر بن أبي طالب: يقول هو عبد الله ورسوله وكلمة الله وروح منه ألقاها إلى مريم العذراء، ويقول في مريم إنها العذراء البتول. فأخذ النجاشي عودا من الأرض وقال: والله ما زاد صاحبكم على ما قال عيسى قدر هذه العود. فكره المشركون قوله وتغيرت وجوههم. فقال:
هل تعرفون شيئا مما أنزل على صاحبكم؟ قالوا: نعم. قال: اقرءوا. فقرأ جعفر سورة مريم وهناك قسيسون ورهابين وسائر النصارى، فعرفوا ما قرأ فانحدرت دموعهم وما زالوا يبكون حتى فرغ جعفر الطيار من القراءة، فقال النجاشي لجعفر وأصحابه: اذهبوا فأنتم بأرضي آمنون. فرجع عمرو ومن معه خائبين وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار وخير جوار إلى أن علا أمر رسول الله وقهر أعداءه في سنة ست من الهجرة وكتب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى النجاشي على يد عمرو بن أمية الضمري ليزوجه أم حبيبة بنت أبي سفيان، وكانت قد هاجرت إليه مع زوجها ومات عنها، فأرسل النجاشي إليها جارية اسمها أبرهة تخبرها بخطبة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسرت أم حبيبة بذلك وأذنت لخالد بن سعيد أن يزوجها فأنفذ النجاشي إليها أربعمائة دينار صداقها على يد أبرهة، وقالت أبرهة: قد صدقت بمحمد وآمنت به وحاجتي إليك أن تقرئيه مني السلام، قالت: نعم وقالت: فخرجنا إلى المدينة ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم بخيبر وأقمت بالمدينة حتى قدم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدخلت عليه فقرأت عليه السلام من أبرهة جارية الملك فرد الرسول عليها السلام ووافى جعفر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو بخيبر ومع جعفر سبعون رجلا عليهم ثياب الصوف، منهم اثنان وستون رجلا من الحبشة، وثمانية نفر من رهبان الشام: بحيرا الراهب وأصحابه أبرهة وأشرف وإدريس، وتميم وتمام ودريد وأيمن وكلهم من أصحاب النجاشي، فقرأ عليهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سورة يس إلى آخرها فبكوا وآمنوا وأسلموا. وقالوا: ما أشبه هذا بما
289
كان ينزل على عيسى عليه السلام يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بما سمعنا مما أنزل على رسولك وشهدنا أنه حق فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٨٣) أي فاجعلنا من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذين آمنوا فلما لامهم قومهم بالإسلام فقالوا تحقيقا لإيمانهم وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (٨٤) من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وجملة قوله تعالى: لا نُؤْمِنُ حال من الضمير في «لنا» وجملة «لا نطمع» حال ثانية منه بتقدير مبتدأ. أي أيّ شيء حصل لنا غير مؤمنين بالله وبما جاءنا من القرآن والرسول ونحن نطمع في صحبة الصالحين ويجوز أن يكون قوله: وَنَطْمَعُ حالا من الضمير في لا نُؤْمِنُ على معنى أنهم أنكروا على أنفسهم عدم إيمانهم مع أنهم يطمعون في صحبة المؤمنين فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا أي جعل الله ثوابهم على قولهم: ربنا آمنا مع إخلاص النية ومعرفة الحق، أو بسبب ما سألوا بقولهم: فاكتبنا مع الشاهدين كما رواه عطاء عن ابن عباس.
وقرئ فآتاهم الله جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ أي الجنات جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (٨٥) بالإيمان. أو المعنى جزاء الذين اعتادوا الإحسان في الأمور.
روي أن هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي وأصحابه وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٨٦) أي ملازمون لها لا ينفكون عنها دون غيرهم من عصاة المؤمنين وإن كثرت كبائرهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي لا تعتقدوا تحريم ما أحل الله لكم، ولا تظهروا باللسان تحريمه، ولا تجتنبوا الطيبات اجتنابا شبيه الاجتناب من المحرمات، ولا تلتزموا تحريم الطيبات بنذر أو يمين وَلا تَعْتَدُوا أي لا تسرفوا في تناول الطيبات ولا تتجاوزوا أمر الله بقطع المذاكير إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٨٧) من الحلال إلى الحرام كالمثلة فمن اعتقد تحريم شيء أحله الله فقد كفر، أما ترك لذات الدنيا والتفرغ لعبادة الله تعالى من غير إضرار بالنفس ولا تفويت حق الغير ففضيلة مأمور بها. نزلت هذه الآية في عشرة نفر من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهم: أبو بكر الصديق، وعمر وعلي وعبد الله بن مسعود، وعثمان بن مظعون الجمحي، ومقداد بن الأسود الكندي، وسالم مولى أبي حذيفة، وسلمان الفارسي وأبو ذر الغفاري، وعمار بن ياسر وذلك لما وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم القيامة لأصحابه يوما فبالغ الكلام في الإنذار فبكوا واجتمع هؤلاء العشرة في بيت عثمان بن مظعون وتشاوروا واتفقوا على عزمهم أن يرفضوا الدنيا ويحرموا على أنفسهم المطاعم الطيبة والمشارب اللذيذة، وأن يصوموا النهار ويقوموا الليل، وأن لا يناموا على الفرش ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح، ويسيحوا في الأرض، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
فقال لهم: «إني لم أومر بذلك» ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم
290
والدسم وآتي النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»
«١».
وروي أن عثمان بن مظعون أتى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ائذن لي في الاختصاء. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس منا من خصي ولا من اختصي. إن خصاء أمتي الصيام». فقال يا رسول الله ائذن لي بالسياحة فقال: «إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله» قال: يا رسول الله ائذن لي في الترهب قال: «إن ترهب أمتي الجلوس في المساجد لانتظار الصلاة»
«٢» وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً أي كلوا بعض رزقكم من الله الذي يكون حلالا مستلذا واصرفوا البقية إلى الصدقات والخيرات وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٨٨) في تحريم ما أحل الله لكم وفي المثلة لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ قد تقدم أن قوما من الصحابة حرموا على أنفسهم المطاعم والملابس واختاروا الرهبانية وحلفوا على ذلك على ظن أنه قربة، فلما نهاهم الله تعالى عنها قالوا: يا رسول الله فكيف نصنع بأيماننا؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ أي بتعقيدكم الأيمان بالقصد إذا حنثتم.
قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وحفص عن عاصم «عقّدتم» بتشديد القاف. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم «عقدتم» بتخفيف القاف. وقرأ ابن ذكوان عن ابن عامر «عاقدتم» بالألف والتخفيف فَكَفَّارَتُهُ أي فكفارة نكث الأيمان التي ليست بلغو إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ في قدر الطعام وهو ثلثا منّ لكل مسكين فإن الإنسان قد يكون قليل الأكل جدا يكفيه الرغيف الواحد، وقد يكون كثير الأكل فلا يكفيه المنوان والمتوسط الغالب يكفيه من الخبز ما يقرب من المن، فثلثا منّ من الحنطة إذا جعل دقيقا أو خبزا فإنه يصير قريبا من المنّ وذلك كاف في قوت اليوم الواحد أَوْ كِسْوَتُهُمْ بأقل ما يطلق عليه اسم الكسوة كإزار أو رداء، وقميص أو سراويل أو عمامة لكل مسكين ثوب واحد أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ وتقديم الإطعام على العتق لأن المقصود تنبيه على أن هذه الكفارة وجبت على التخيير بين هذه الثلاثة، ولأن الإطعام أسهل لكون الطعام أعم وجودا ولأن الإطعام أفضل لأن الحر الفقير قد لا يجد الطعام أما العبد فإنه يجب على مولاه إطعامه وكسوته فَمَنْ لَمْ يَجِدْ واحدا من هذه الثلاثة فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ولو متفرقة لما
روي أن رجلا قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم على أيام من رمضان: أفأقضيها متفرقات فقال صلّى الله عليه وسلّم: «أرأيت لو كان عليك دين فقضيت الدرهم فالدرهم أما كان يجزيك؟» قال: بلى:
(١) رواه البخاري في كتاب النكاح، باب: الترغيب في النكاح، ومسلم في كتاب النكاح باب: ٥، والنسائي في كتاب النكاح، باب: النهي عن التبتل، والدارمي في كتاب النكاح باب: النهي عن التبتل، وأحمد في (م ٢/ ص ١٥٨).
(٢) رواه أحمد في (م ٢/ ص ١٧٣).
291
قال: «فالله أحق أن يعفو ويصفح»
«١» والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ذلِكَ المذكور كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وحنثتم وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ أي قللوا الأيمان وضنوا بها كَذلِكَ أي مثل ذلك التبيين لحكم الأيمان يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أي أعلام شريعته لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٨٩) نعمته فيما يعلمكم. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ أي المسكر وَالْمَيْسِرُ أي القمار وَالْأَنْصابُ أي الأصنام التي نصبها المشركون ويعبدونها وَالْأَزْلامُ سهام مكتوب عليها خير وشر رِجْسٌ أي قذر تعاف عنه العقول عنه العقول مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي من الأمور التي يزينها للنفس فَاجْتَنِبُوهُ أي الرجس لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٩٠) أي لكي تنجوا من العذاب
إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ إذا صرتم نشاوى كما فعل الأنصاري الذي شجّ رأس سعد بن أبي وقاص بلحى الجمل وَالْمَيْسِرِ إذا ذهب مالكم وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ لأن شرب الخمر يورث اللذة الجسمانية والنفس إذا استغرقت فيها غفلت عن ذكر الله وعن الصلاة، ولأن الشخص إذا كان غالبا في القمار صار استغراقه في لذة الغلبة مانعا من أن يخطر بباله شيء سواه فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (٩١) أي قد بينت لكم مفاسد الخمر والميسر فهل تنتهون عنهما أم أنتم مقيمون عليهما كأنكم لم توعظوا بهذه المواعظ؟ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ في أمرهما بالاجتناب عن الخمر والميسر وَاحْذَرُوا عن مخالفتهما في التكاليف فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أي أعرضتم عن طاعتهما وعن الاحتراز عن مخالفتهما فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٩٢) أي فالحجة قامت عليكم والعلل انقطعت لأن الرسول قد خرج عن عهدة التبليغ كمال الخروج، وما بقي بعد ذلك إلا العقاب وهذا تهديد شديد لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ أي إثم فِيما طَعِمُوا من الخمر ومن مال اللعب بالملاهي إِذا مَا اتَّقَوْا أن يكون في ذلك الشيء من المحرمات أي إذا عملوا الاتقاء وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي واستمروا على الإيمان والأعمال الصالحة ثُمَّ اتَّقَوْا ما حرم عليهم بعد ذلك وَآمَنُوا بتحريمه ثُمَّ اتَّقَوْا أي استمروا على اتقاء المعاصي وَأَحْسَنُوا أي اتجروا الأعمال الجميلة واشتغلوا بها وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (٩٣).
روي أنه لما نزلت آية تحريم الخمر قالت الصحابة: إن إخواننا كانوا قد شربوا الخمر يوم أحد ثم قتلوا فكيف حالهم؟ فنزلت هذه الآية.
وروى أبو بكر الأصم: أنه لما نزل تحريم الخمر قال أبو بكر: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وقد شربوا الخمر وفعلوا القمار؟ وكيف بالغائبين عنا في البلدان لا يشعرون أن الله حرم الخمر وهم يطعمونها؟ فأنزل الله هذه الآيات. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ أي ليختبرن الله طاعتكم من معصيتكم بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ أي من صيد البر تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ.
(١) رواه أحمد في (م ١/ ص ٢١٢).
292
قال مقاتل بن حبان: ابتلاهم الله بصيد البر وهم محرمون عام الحديبية حتى كانت الوحش والطير تغشاهم في رحالهم فيقدرون على أخذ الطير بالأيدي، والوحش بالرماح وما رأوا مثل ذلك قط فنهاهم الله عنها ابتلاء لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم من يخافه حال كون الله تعالى غير مرئي له غائبا عن رؤيته أو يخافه بإخلاص القلب فيترك الصيد فَمَنِ اعْتَدى بالتعرض للصيد بَعْدَ ذلِكَ أي بعد بيان أن ما وقع من الصيد ابتلاء من عند الله تعالى لتمييز المطيع من العاصي فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (٩٤) وهو العذاب في الآخرة والتعزير في الدنيا.
قال ابن عباس: هذا العذاب هو أن يضرب بطنه وظهره ضربا وجيعا وينزع ثيابه. ولما قتل أبو اليسر بن عمرو صيدا متعمدا بقتله ناسيا لإحرامه أنزل الله تعالى قوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ أي محرمون أو داخلون في الحرم وَمَنْ قَتَلَهُ أي الصيد مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً أي بقتله مع نسيان الإحرام كما قاله مجاهد والحسن فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ أي شبهه في الخلقة والتقييد بالتعمد، لأن الآية نزلت في المتعمد حيث قتل أبو اليسر حمار وحش وهو محرم عمدا ولأن الأصل فعل المتعمد، والخطأ ملحق بالعمد فيستوي في محظورات الإحرام العمد والخطأ في جزاء الإتلافات يَحْكُمُ بِهِ أي بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي رجلان صالحان من أهل دينكم فقيهان عدلان فينظران إلى أشبه الأشياء بالمقتول من النعم فيحكمان به.
قال ميمون بن مهران: جاء أعرابي إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: إني أصبت من الصيد كذا وكذا. فسأل أبو بكر رضي الله عنه أبي ابن كعب فقال الأعرابي: أتيتك أسألك وأنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه: وما أنكرت من ذلك، قال الله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فشاورت صاحبي فإذا اتفقنا على شيء أمرناك به. وعن قبيصة بن جابر أنه حين كان محرما ضرب ظبيا فمات، فسأل عمر بن الخطاب وكان بجنبه عبد الرحمن بن عوف فقال عمر لعبد الرحمن: ما ترى؟ قال: عليه شاة، قال: وأنا أرى ذلك، فقال: اذهب فاهد شاة، قال قبيصة: فخرجت إلى صاحبي وقلت له: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول حتى سأل غيره قال:
ففاجأني عمر وعلاني بالدرة وقال: أتقتل في الحرم وتسفه الحكم؟ قال الله تعالى: يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ فأنا عمر وهذا عبد الرحمن بن عوف وقد حكم ابن عباس وعمر وغيرهما بشاة في الحمام وهو كل ما عب وهدر من الطير كالقمري والدبسي هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ فهديا منصوب على التمييز والمعنى يحكمان بالمثل هديا يساق إلى الكعبة أي إلى أرض الحرم فينحر هناك أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ فقوله كفارة عطف على قوله فجزاء أي فعليه جزاء أو كفارة إلخ أو عطف على محل قوله من النعم وقوله: طعام مساكين عطف بيان لأن الطعام هو الكفارة أَوْ عَدْلُ ذلِكَ أي أو مثل ذلك الطعام صِياماً فقوله: أو عدل عطف على طعام إلخ كأنه قيل: فعليه جزاء
293
مماثل للمقتول هو من النعم أو طعام مساكين، أو صيام أيام بعددهم فحينئذ تكون المماثلة وصفا لازما للجزاء يقدر به الهدي والطعام والصيام. أما الأولان فبلا واسطة، وأما الثالث فبواسطة الثالث فيختار الجاني كلا من هذه الثلاثة لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ أي جزاء ذنبه. والوبال في اللغة الثقل، وإنما سمى الله ذلك وبالا لأن أحد هذه الثلاثة ثقيل على الطبع لأن في الجزاء بالمثل والإطعام تنقيص المال، وفي الصوم إنهاك البدن. والمعنى أنه تعالى أوجب على قاتل الصيد أحد هذه الأشياء التي كل واحد منها ثقيل على الطبع حتى يحترز عن قتل الصيد في الحرم وفي حال الإحرام عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ أي لم يؤاخذ بقتل الصيد قبل هذا النهي والتحريم لأن قتله إذ ذاك مباح وَمَنْ عادَ إلى قتل الصيد بعد النهي عنه فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ أي فهو ينتقم الله منه في الآخرة مع لزوم الكفارة وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب لا يغالب ذُو انْتِقامٍ (٩٥) أي ذو عقوبة شديدة أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ أي أحل لكم أيها الناس صيد جميع المياه العذبة والملحة بحرا كان أو نهرا، أو غديرا أي اصطياد صيد الماء والانتفاع به بأكله ولأجل عظامه وأسنانه، وأحل لكم طعام البحر أي أكله. فالصيد كما قاله أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما صيد بالحيلة حال حياته، والطعام ما يوجد مما لفظه البحر أو نضب عنه الماء من غير معالجة في أخذه.
قال الشافعي رحمه الله: السمكة الطافية في البحر محللة والسمك عنده ما لا يعيش في الماء ولو كان على صورة غير المأكول من حيوان البر كالآدمي والكلب والخنزير، فهذا كله حلال عنده بخلاف ما يعيش في الماء والبر كالسرطان والضفدع والتمساح، والسلحفاة وطير الماء.
وحجة الشافعي القرآن والخبر: أما القرآن: فهو قوله تعالى: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ فما يمكن أكله يكون طعاما فيحل. وأما الخبر:
فقوله صلّى الله عليه وسلّم في حق البحر: «هو الطهور ماؤه الحل ميتته»
«١» نزلت هذه الآية في قوم من بني مدلج كانوا أهل صيد البحر سألوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم عن طعام البحر وعمّا حسر البحر عنه ومعنى قوله: وَطَعامُهُ أي ما حسر عنه البحر وألقاه مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ أي أحل لكم ذلك لأجل انتفاعكم وللمسافرين منكم يتزودونه قديدا، فالطري للمقيم والمالح للمسافر وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً أي محرمين أو في الحرم فمذهب أبي حنيفة يحل للمحرم أكل ما صاده الحلال وإن صاده لأجله إذا لم يشر إليه ولم يدل عليه، وكذا ما ذبحه قبل إحرامه لأن الخطاب للمحرمين فكأنه قيل: وحرم عليكم ما صدتم في البر فيخرج منه مصيد غيرهم.
وعند مالك والشافعي وأحمد: لا يباح ما صيد له فإن لحم الصيد عندهم مباح للمحرم
(١) رواه الدارمي في كتاب الوضوء، باب: الوضوء في ماء البحر.
294
بشرط أن لا يصطاده المحرم ولا يصطاد له والحجة فيه ما
روى أبو داود في سننه عن جابر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصطد لكم»
«١» وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٩٦) لا إلى غيره حتى يتوهم الخلاص من أخذه تعالى بالالتجاء إلى غيره فاخشوه تعالى في جميع المعاصي جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ أي صيّر الله الكعبة سببا لحصول الخيرات في الدنيا والآخرة، وخلق الدواعي في قلوب الناس لتعظيمها حتى صار أهل الدنيا يأتون إليها من كل فج عميق لأجل التجارة فصار ذلك لإسباغ النعم على أهل مكة، وكان العرب يتقاتلون ويغيرون إلا في الحرم فكان أهل الحرم آمنين على أنفسهم وعلى أموالهم وجعل الله في الكعبة الطاعات الشريفة والمناسك العظيمة وهي سبب لحط الخطيئات ورفع الدرجات، وكثرة الكرامات، وصار أهل مكة بسبب الكعبة أهل الله وخاصته وسادة الخلق إلى يوم القيامة وكل أحد يعظمهم وَالشَّهْرَ الْحَرامَ أي وجعل الله الشهر الحرام سببا لقوام معيشتهم فإن العرب كان يقتل بعضهم بعضا في سائر الأشهر، ويغير بعضهم على بعض فإذا دخل الشهر الحرام الذي هو ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب زال الخوف وقدروا على الأسفار والتجارات وصاروا آمنين على أنفسهم وأموالهم وَالْهَدْيَ أي وجعل الهدي سببا لقيام الناس، وهو ما يهدى إلى البيت ويذبح هناك ويفرق لحمه على الفقراء فيكون ذلك نسكا للمهدي وقواما لمعيشة الفقراء. وَالْقَلائِدَ أي وجعل الله الأشخاص الذين يتقلدون بلحاء شجر الحرم سببا لأمنهم من العدو فإنهم كانوا إذا رأوا شخصا جعل في عنقه تلك القلادة عرفوا أنه راجع من الحرم فلا يتعرضون له ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أي ذلك التدبير اللطيف من الجعل المذكور لأجل أن تتفكروا فيه أنه تدبير لطيف فتعلموا أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض، فإن جعل ذلك لأجل جلب المصالح لكم ودفع المضار عنكم قبل الوقوع دليل على علمه بما هو في الوجود وما هو كائن، ثم إذا عرفتم أن علمه تعالى صفة قديمة واجبة الوجود فوجب كونه متعلقا بجميع المعلومات فلذلك قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٩٧) فلا يخرج شيء عن علمه المحيط اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لما ذكر الله تعالى أنواع الرحمة ذكر بعده شدة عذابه تعالى لأن الإيمان لا يتم إلا بالرجاء والخوف كما
قال صلّى الله عليه وسلّم: «لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا»
«٢» ثم ذكر عقبه ما يدل على الرحمة دلالة على أنها أغلب فقال
(١) رواه أبو داود في كتاب المناسك، باب: لحم الصيد للمحرم، والترمذي في كتاب الحج، باب: ٢٥، والنسائي في كتاب المناسك، باب: إذا أشار المحرم إلى الصيد فقتله الحلال، وأحمد في (م ٣/ ص ٣٦٢).
(٢) رواه السيوطي في الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة (١٣٣).
295
وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٩٨) وهذا تنبيه على دقيقة وهي أن ابتداء الإيجاد كان لأجل الرحمة والظاهر أن الختم لا يكون إلا على الرحمة ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (٩٩) أي إن الرسول كان مكلفا بالتبليغ فلما بلغ خرج عن عهدة التكليف وبقي الأمر من جانبكم وقد قامت عليكم الحجة فلا عذر لكم من بعد في التفريط، وأنا عالم بما تبدون وبما تكتمون فإن خالفتم فاعلموا أن الله شديد العقاب فيؤاخذكم بذلك نقيرا وقطميرا وإن أطعتم فاعلموا أن الله غفور رحيم قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فإن المحمود القليل من الأعمال والأموال خير من المذموم الكثير منهما والخطاب لكل معتبر.
قيل: نزلت هذه الآية في رجل قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن الخمر كانت تجارتي وإني اعتنقت من بيعها مالا فهل ينفعني من ذلك المال إن عملت فيه بطاعة الله تعالى؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إن أنفقته في حج أو جهاد أو صدقة لم يعدل جناح بعوضة. إن الله لا يقبل إلا الطيب»
«١» فَاتَّقُوا اللَّهَ بأن تتحروا ترك الخبيث من الأعمال والأموال ظاهرا وباطنا ولا تحتالوا في تركه بالتأويل يا أُولِي الْأَلْبابِ أي أصحاب العقول السليمة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٠٠) أي لعلكم تصيرون فائزين بالمطالب الدنيوية والدينية العاجلة والآجلة
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ أي إن تظهر لكم تلك الأشياء تحزنكم والمعنى اتركوا الأمور على ظواهرها ولا تسألوا عن أحوال مخفية إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وما بلغه الرسول إليكم فكونوا منقادين له وما لم يبلغه إليكم فلا تسألوا عنه فإن خضتم فيما لا يكلف عليكم فربما جاءكم بسبب ذلك الخوض ما يشق عليكم.
روى أنس أنهم سألوا النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فأكثروا المسألة فقام على المنبر فقال: «سلوني فو الله لا تسألوني عن شيء ما دمت في مقامي هذا إلا حدثتكم به» فقام عبد الله بن حذافة السهمي وكان يطعن في نسبه فقال: يا نبي الله من أبي؟ فقال: «أبوك حذافة بن قيس!». وقام آخر فقال: يا رسول الله أين أبي؟ فقال: «في النار» وقال سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن: يا رسول الله الحج علينا في كل عام؟ فأعرض عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أعاد مرتين أو ثلاثة، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «ويحك وما يؤمنك أن أقول نعم والله لو قلت نعم لوجبت ولو وجبت ما استطعتم، ولو تركتم لكفرتم فاتركوني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم، فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما
(١) رواه البخاري في كتاب الزكاة، باب: الصدقة من كسب طيب، ومسلم في كتاب الزكاة، باب: ٦٣، والترمذي في كتاب الزكاة، باب: ٢٨، والنسائي في كتاب الزكاة، باب:
الصدقة من غلول، وابن ماجة في كتاب الزكاة، باب: فضل الصدقة، والدارمي في كتاب الرقاق، باب: في أكل الطيب، وأحمد في (م ٢/ ص ٣٢٨). [.....]
296
استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه» «١» ولما اشتد غضب الرسول الله صلّى الله عليه وسلّم قام عمر وقال:
رضينا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا، نعوذ بالله من الفتن. أنا حديث عهد بجاهلية فاعف عنا يا رسول الله، فسكن غضبه صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى هذه الآية
وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ أي وإن تسألوا عن أشياء مست حاجتكم إلى التفسير في زمن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ينزل جبريل بالقرآن ويظهرها حينئذ، فالسؤال عن قسمين سؤال عن شيء لم يجرد ذكره في الكتاب والسنة بوجه من الوجوه فهذا السؤال منهي عنه بقوله تعالى: لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وسؤال عن شيء نزل به القرآن لكن السامع لم يفهمه كما ينبغي. فههنا السؤال واجب وهو المراد بقوله تعالى: وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ فالضمير في عنها يرجع إلى أشياء أخر كقوله تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ [المؤمنون: ١٢، ١٣] فالمراد بالإنسان آدم عليه السلام، والمراد بالضمير ابن آدم، لأن آدم لم يجعل نطفة في قرار مكين عَفَا اللَّهُ عَنْها أي أمسك الله عن أشياء أي عن ذكرها ولم يكلف فيها بشيء وهذا
كقوله صلّى الله عليه وسلّم: «عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق»
«٢» أي خففت عنكم بإسقاطها أو المعنى عفا الله عما سلف من مسائلكم التي تغضب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلا تعودوا لمثلها وَاللَّهُ غَفُورٌ لمن تاب حَلِيمٌ (١٠١) عن جهلكم قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (١٠٢) أي قد سأل أشياء قوم من قبلكم ثم صاروا كافرين بها فإن قوم صالح سألوا الناقة ثم عقروها. وقوم موسى قالوا: أرنا الله جهرة فصار ذلك وبالا عليهم. وبني إسرائيل قالوا لنبي لهم: ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله ثم كفروا. وقوم عيسى سألوا المائدة ثم كفروا بها.
والمعنى أن قوم محمد صلّى الله عليه وسلّم في السؤال عن أحوال الأشياء مشابهون لأولئك المتقدمين في سؤال ذوات تلك الأشياء في كون كل واحد من السؤالين فضولا وخوضا فيما لا فائدة فيه، فإن المتقدمين إنما سألوا من الله إخراج الناقة من الصخرة وإنزال المائدة من السماء فهم سألوا نفس الشيء، وأما أصحاب محمد فهم سألوا عن صفات الأشياء فلما اختلف السؤالان في النوع اختلفت العبارة لكن يشتركان في وصف واحد وهو خوض في الفضول وشروع فيما لا حاجة إليه وفي ذلك خطر المفسدة ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ أي ما أمر الله بذلك فالبحيرة هي الناقة التي تنتج خمسة أبطن في آخرها ذكر فتشق أذنها ولا تذبح ولا تركب، ولا
(١) رواه أحمد في (م ٢/ ص ٥٠٣).
(٢) رواه ابن ماجة في كتاب الزكاة، باب: زكاة الورق والذهب، وأبو داود في كتاب الزكاة، باب: صدقة الرقيق، والموطأ في كتاب الزكاة، باب: ما جاء في صدقة الخيل والرقيق والعسل، وأحمد في (م ١/ ص ١٨).
297
تحلب ولا تطرد عن ماء ومرعى ولا يجزّ لها وبر، ولا يحمل على ظهرها بل تسيب لآلهتهم.
والسائبة: هي البعير المسيبة وكان الرجل إذا شفي من مرض، أو قدم من سفر أو نذر نذرا أو شكر نعمة سيّب بعيرا وجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها والوصيلة هي الشاة الموصلة وذلك أن الشاة إذا ولدت سبعة أبطن عمدوا إلى البطن السابع فإذا كان ذكرا ذبحوه فأكله الرجال والنساء جميعا، وإن كان أنثى لم تنتفع النساء منها بشيء حتى تموت فإذا ماتت كان الرجال والنساء يأكلونها جميعا وإن كان ذكرا وأنثى قيل: وصلت أخاها فيتركان مع إخوتها فلا يذبحان، وكان للرجال دون النساء حتى يموتا فإذا ماتا اشترك في أكلهما الرجال والنساء والحام (هو الفحل) إذا ركب ولد ولده قيل: حمى ظهره فلا يركب ولا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ومرعى إلى أن يموت فحينئذ تأكله الرجال والنساء وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أي إن رؤساءهم عمرو بن لحي وأصحابه يختلقون على الله الكذب ويقولون: أمرنا الله بهذا وَأَكْثَرُهُمْ أي الأتباع لا يَعْقِلُونَ (١٠٣) أن ذلك افتراء باطل.
قال المفسرون: إن عمرو بن لحي الخزاعي كان قد ملك مكة وكان أول من غير دين إسماعيل، فاتخذ الأصنام ونصب الأوثان، وشرع البحيرة والسائبة والوصيلة والحام.
قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فلقد رأيته في النار يؤذي أهل النار بريح قصبه»
«١» أي معاه وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أي للأكثر الذي هم الأتباع تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ من الكتاب المبين للحلال والحرام وَإِلَى الرَّسُولِ الذي أنزل الكتاب عليه لتميزوا الحرام من الحلال قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من الدين أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (١٠٤) والواو واو الحال دخلت عليها همزة الإنكار والتقدير أكافيهم دين آبائهم وقد كان آباؤهم لا يعلمون شيئا من الدين ولا يهتدون للصواب ولسنة النبي فكيف يقتدون بهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي احفظوا أنفسكم من ملابسة المعاصي والإصرار على الذنوب لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ أي لا يضركم ضلالة من ضل إذا اهتديتم إلى الإيمان وبينتم ضلالتهم كما قاله ابن عباس. وقال عبد الله بن المبارك: والمعنى عليكم أهل دينكم ولا يضركم من ضل من الكفار وهذا كقوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أي أهل دينكم فقوله تعالى: عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي أقبلوا على أهل دينكم وذلك بأن يعظ بعضكم بعضا، ويرغب بعضكم بعضا في الخيرات وينفره عن القبائح والسيئات، وهذه الآية أوكد آية في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقوله: لا يَضُرُّكُمْ إما مجزوم على أنه جواب للأمر وهو «عليكم» أو نهي مؤكد له وإنما ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة فإن
(١) رواه البخاري في كتاب المناقب، باب: ذكر أسلم وغفار إلخ، ومسلم في كتاب الكسوف، باب: ٩، وأحمد في (م ٢/ ص ٢٧٥).
298
الأصل لا يضرركم ويؤيده قراءة «يضركم» بفتح الراء وهو مجزوم وإنما فتحت الراء لأجل الخفة.
وقراءة من قرأ «لا يضركم» بسكون الراء مع كسر الضاد وضمها من ضار يضير ويضورا ما مرفوع على أنه كلام مستأنف في موضع التعليل لما قبله ويعضده قراءة من قرأ «لا يضيركم» بالرفع وبالياء بعد الضاد أي ليس يضركم ضلال من ضل إذا كنتم ثابتين في دينكم إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً أي رجوعكم ورجوع من خالفكم يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٠٥) في الدنيا من الخير والشر فيجازيكم عليه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ أي شهادة ما بينكم من التنازع إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي إذا ظهر لأحدكم أمارات وقوع الموت حِينَ الْوَصِيَّةِ وهذا بدل من قوله «إذا حضر» لأن حضور الموت هو زمان حضور الوصية فعرف ذلك الزمان بهذين الأمرين الواقعين فيه أي الشهادة المحتاج إليها عند مشارفة الموت اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي من أهل دينكم يا معشر المؤمنين أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أي غير عادلين من غير أهل دينكم إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ أي سافرتم فِي الْأَرْضِ فالعدلان المسلمان صالحان للشهادة في الحضر والسفر وشهادة غير المسلمين لا تجوز إلا في السفر فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي فحضرت عندكم علامات نزول الموت وهذا بيان محل جواز الاستشهاد بغير المسلمين تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ أي تقفونهما للتحليف من بعد صلاة العصر كما استحلف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعدها وجميع أهل الأديان يعظمون هذا الوقت ويذكرون الله فيه ويحترزون عن الحلف الكاذب فَيُقْسِمانِ أي يحلفان بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي إن شككتم في شأن آخرين بقولهما والله لا نَشْتَرِي بِهِ أي بالقسم بالله ثَمَناً أي عوضا يسيرا من الدنيا أي لا تأخذ لأنفسنا بدلا من القسم بالله عوضا من الدنيا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى أي ولو كان ذلك العوض اليسير حياة ذي قربى منا أي لا نحلف بالله كاذبين لأجل المال وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي لا نكتم الشهادة التي أمرنا الله تعالى بإقامتها وإظهارها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (١٠٦) أي إنا إن كتمناها حينئذ كنا من العاصين فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي فإن حصل الاطلاع بعد ما حلف الوصيان عن أنهما استحقا حنثا في اليمين بكذب في قول وخيانة في مال فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما أي مقام الشاهدين اللذين هما من غير ملتهما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ أي باليمين وبالمال أو الأقربان إلى الميت الوارثان له والأوليان إما بدل من آخران، أو من الضمير الذي في يقومان أو صفة لآخران عند الأخفش، لأن النكرة إذا تقدم ذكرها ثم أعيد عليها الذكر صارت معرفة أو خبر لمبتدأ محذوف وهذا على القراءة المشهورة للجمهور وهو استحق بضم التاء وكسر الحاء بالبناء للمجهول وإنما وصف الورثة بكونهم استحق عليهم، لأنه لما أخذ مالهم فقد استحق عليهم مالهم، أو لكونهم جني عليهم.
أما على قراءة حفص وحده وهي استحق بفتح التاء والحاء بالبناء للفاعل فقوله: الأوليان فاعل له. والمعنى أن الوصيين اللذين ظهرت خيانتهما هما أولى من غيرهما بسبب أن الميت
299
عينهما للوصاية، ولما خاناه في مال الورثة صح أن يقال: إن الورثة قد استحق عليهم الأوليان أي خان في مالهم الأوليان بالوصية فَيُقْسِمانِ أي هذان الآخران بِاللَّهِ
بقولهما لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أي والله ليمين المسلمين أصدق وأحق بالقبول من يمين النصرانيين وَمَا اعْتَدَيْنا أي ما تجاوزنا الحق فيما ادعينا وفي طلب المال وفي نسبتهما إلى الخيانة إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٧) أي إنا إن اعتدينا في ذلك كنا من الظالمين أنفسهم بإقبالها لسخط الله تعالى وعذابه واتفق المفسرون على أن سبب نزول هذه الآيات أن تميم بن أوس الداري وعدي بن نداء وكانا نصرانيين ومعهما بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاص، وكان مسلما مهاجرا خرجوا إلى الشام للتجارة، فلما قدموا الشام مرض بديل فكتب كتابا فيه نسخة جميع ما معه، وألقاه فيما بين الأقمشة ولم يخبر صاحبيه بذلك. ثم أوصى إليهما وأمرهما أن يدفعا متاعه إلى أهله ومات بديل، فأخذا من متاعه إناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب، ولما رجعا دفعا باقي المتاع إلى أهله ففتشوا فوجدوا الصحيفة وفيها ذكر الإناء. فقالوا لتميم وعدي: أين الإناء؟
فقالا: لا ندري والذي دفع إلينا دفعناه إليكم فرفعوا الواقعة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا الآية. ولما نزلت هذه الآية صلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العصر ودعا تميما وعديا فاستحلفهما عند المنبر ولما حلفا خلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سبيلهما، ولما طالت المدة أظهرا الإناء فبلغ ذلك بني سهم فطالبوهما فقالا: كنا قد اشتريناه منه. فقالوا: ألم نقل لكم هل باع صاحبنا شيئا فقلتما لا!؟ فقالا: لم يكن عندنا بينة فكرهنا أن نقر لكم فكتمنا لذلك فرفعوا القصة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله تعالى قوله: فَإِنْ عُثِرَ الآية فقام عمرو بن العاص والمطلب أبو رفيعة السهميان فحلفا بالله بعد العصر، فدفع الرسول صلّى الله عليه وسلّم الإناء إليهما وإلى أولياء الميت وكان تميم الداري يقول بعد إسلامه: صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء فأتوب إلى الله تعالى ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أي ذلك الطريق الذي بيناه أقرب إلى أن يؤدي الشهود الشهادة على طريقها الذي تحملوها عليه من غير تحريف ولا خيانة خوفا من العذاب الأخروي أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أي أو أقرب إلى أن يخافوا أن ترد أيمانهم بعد أيمان المدعيين لانقلاب الدعوى بأن صار المدعى عليه مدعيا للملك، وصار المدعى مدّعى عليه فلذا لزمته اليمين.
والمعنى أولم يخافوا عذاب الآخرة بسبب اليمين الكاذبة؟ بل يأتوا الشهادة على غير وجهها ولكنهم يخافون الافتضاح على رؤوس الإشهاد بإبطال أيمانهم والعمل بأيمان الورثة، فينزجروا عن الخيانة المؤدية إليه فأي الخوفين وقع، حصل المقصود الذي هو الإتيان بالشهادة على وجهها وَاتَّقُوا اللَّهَ في أن تخونوا في الأمانات وَاسْمَعُوا مواعظ الله أي اعملوا بها وأطيعوا الله فيها وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (١٠٨) أي الخارجين عن الطاعة إلى ما ينفعهم في الآخرة يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ وهو يوم القيامة فيوم بدل اشتمال من مفعول «اتقوا» أو ظرف ل «يهدي».
300
والمعنى لا يهديهم إلى الجنة فَيَقُولُ لهم مشيرا إلى خروجهم عن عهدة الرسالة ماذا أُجِبْتُمْ أي أيّ إجابة أجابكم بها أممكم حين دعوتموهم في دار الدنيا إلى توحيدي وطاعتي أهي إجابة قبول أو إجابة رد؟ قالُوا تفويضا للأمر إلى العدل الحكيم العالم وعلما منهم أن الأدب في السكوت والتفويض وأن قولهم لا يفيد خيرا ولا يدفع شرا: لا عِلْمَ لَنا أي لأنك تعلم ما أظهروا وما أضمروا ونحن لا نعلم إلا ما أظهروا لنا فعلمك فيهم أنفذ من علمنا ولأن الحاصل عندنا من أحوالهم هو الظن وهو معتبر في الدنيا لأن الأحكام في الدنيا مبنية على الظن، وأما الأحكام في الآخرة فهي مبنية على حقائق الأشياء وبواطن الأمور ولا عبرة بالظن في القيامة فلهذا السبب قالوا: «لا علم لنا» إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١٠٩) أي فإنك تعلم ما أجابوا وأظهروا لنا وما لم نعلمه مما أضمروه في قلوبهم.
وقرئ «شاذا علّام الغيوب» بالنصب إما على الاختصاص أو على النداء، أو على أنه بدل من اسم «إن». والكلام قد تم بقوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ أي أنت متصف بصفاتك السنية قالَ اللَّهُ بدل من يوم يجمع الله ويجوز أن يكون موضع إذ رفعا بالابتداء على معنى ذاك إذ قال الله يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ أي اذكر إنعامي عليكما إذ طهرت أمك واصطفيتها على نساء العالمين وقويتك بجبريل لتثبت الحجة تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ أي طفلا بقولك: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ [مريم: ٣٠] الآية وَكَهْلًا أي إذا أنزله الله تعالى إلى الأرض أنزله وهو في صورة ابن ثلاث وثلاثين سنة وهو الكهل فيقول لهم: إني عبد الله كما قال في المهد وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ أي الكتابة وهي الخط وَالْحِكْمَةَ أي العلوم النظرية والعلوم العملية وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وذكر الكتابين إشارة إلى الأسرار التي لا يطلع عليها أحد إلا أكابر الأنبياء عليهم السلام فإن الاطلاع على أسرار الكتب الإلهية يحصل إلا لمن صار ربانيا في أصناف العلوم الشرعية والعقلية الظاهرة التي يبحث عنها العلماء وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي تصور منه هيئة مماثلة لهيئة الطير بِإِذْنِي أي بأمري فَتَنْفُخُ فِيها أي في الهيئة المصورة فالضمير راجع للكاف وهي دالة على الهيئة التي هي مثل هيئة الطير فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي أي فتصير تلك الصورة خفاشا تطير بين السماء والأرض بإرادتي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي الأعمى المطموس البصر وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي أي بأمري وإرادتي وقدرتي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى من قبورهم أحياء بِإِذْنِي أي بفعلي ذلك عند دعائك وعند قولك للميت: اخرج بإذن الله من قبرك وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ أي منعت اليهود الذين أرادوا قتلك عن مطلوبهم بك إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ بما ذكر وما لم يذكر كالإخبار بما يأكلون وما يدّخرون في بيوتهم ونحو ذلك فأل للجنس فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (١١٠).
301
قرأ حمزة والكسائي هنا وفي هود والصف ويونس «ساحر» بالألف أي ما هذا الرجل وهو عيسى إلا ساحر ظاهر.
وقرأ ابن عامر وعاصم في يونس فقط بالألف. والباقون «سحر» بكسر السين وسكون الحاء أي ما هذا الذي جاء به عيسى من الخوارق أو ما هذا أي عيسى إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ وهذا على سبيل المبالغة أو على حذف مضاف.
روي أن عيسى عليه السلام لما أظهر هذه المعجزات العجيبة قصد اليهود قتله فخلصه الله تعالى منهم حيث رفعه إلى السماء
وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي الأنصار أي ألهمت القصارين وهم اثنا عشر رجلا في قلوبهم وأمرتهم في الإنجيل على لسانك أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي.
والمعنى أي آمنوا بوحدانيتي في الألوهية وبرسالة رسولي عيسى قالُوا آمَنَّا بوحدانيته تعالى وبرسالة رسوله وَاشْهَدْ أنت يا عيسى بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (١١١) أي مخلصون في إيماننا إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ.
قرأ الجمهور بالياء على الغيبة أي هل يفعل ربك. والمقصود من هذا السؤال تقرير أن ذلك المطلوب في غاية الظهور كمن يأخذ بيد ضعيف ويقول: هل يقدر السلطان على إشباع هذا؟
ويكون غرضه منه أن ذلك أمر جلي لا يجوز لعاقل أن يشك فيه، فكذا هاهنا.
وقرأ الكسائي «تستطيع» بتاء الخطاب لعيسى و «ربك» بالنصب على التعظيم وبإدغام اللام في التاء وهذه القراءة مروية عن علي وابن عباس، وعن عائشة. أي هل تستطيع أن تسأل ربك أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ عيسى لشمعون قل لهم: اتَّقُوا اللَّهَ في اقتراح معجزة لم يسبق لها مثال بعد تقدم معجزات كثيرة إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١١٢) بكونه تعالى قادرا على إنزال المائدة فلعلكم تتركون شكرها فيعذبكم فقال لهم ذلك شمعون قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها أكل تبرك أو أكل حاجة وتمتع وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بكمال قدرته تعالى لحصول علم المشاهدة مع علم الاستدلال وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا أي ونعلم علما يقينيا أنه صدقتنا في دعوى النبوة وأن الله يجيب دعوتنا وفي قولك: إنا إذا صمنا ثلاثين يوما لا نسأل الله تعالى إلا أعطانا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (١١٣) لله بكمال القدرة ولك بالنبوة وهذه المعجزة سماوية وهي أعظم وأعجب فإذا شاهدناها كنا عليها من الشاهدين نشهد عليها عند الذين لم يحضروها من بني إسرائيل ليزداد المؤمنون منهم بشهادتنا طمأنينة ويقينا ويؤمن بسببها كفارهم قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ أي لما رأى أن لهم غرضا صحيحا في ذلك فقام واغتسل ولبس المسح وصلّى ركعتين فطأطأ رأسه وغض بصره وقال: اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً أي طعاما مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا أي نتخذ
302
اليوم الذي تنزل فيه المائدة عيدا نعظمه نحن ومن يأتي بعدنا ونزلت يوم الأحد فاتخذه النصارى عيدا وإنما أسند العيد إلى المائدة لأن شرف اليوم مستعار من شرفها.
والمعنى يكون يوم نزولها لها عيدا لأهل زماننا ولمن بعدهم لكي نعبدك فيه وَآيَةً مِنْكَ أي دلالة على وحدانيتك وكمال قدرتك وصحة نبوة رسولك وَارْزُقْنا أي أعطنا ما سألناك وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (١١٤) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها أي المائدة عَلَيْكُمْ.
وقرأ ابن عامر وعاصم ونافع «منزلها» بالتشديد. والباقون بالتخفيف فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ أي بعد نزولها مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أي إني أعذب من يكفر تعذيبا لا أعذب مثل ذلك التعذيب أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (١١٥).
روي أن عيسى عليه السلام لما أراد الدعاء لبس صوفا ثم قال: اللهم أنزل علينا إلخ.
فنزلت سفرة حمراء بين غما متين غمامة فوقها وأخرى تحتها وهم ينظرون إليها حتى سقطت بين أيديهم فبكى عيسى عليه السلام وقال: «اللهم اجعلني من الشاكرين اللهم اجعلها رحمة ولا تجعلها مثلة وعقوبة وقال لهم: ليقم أحسنكم عملا يكشف عنها ويذكر اسم الله عليها ويأكل منها» فقال شمعون رأس الحواريين: أنت أولى بذلك فقام عيسى وتوضأ وصلى وبكى ثم كشف المنديل وقال: «باسم الله خير الرازقين» فإذا سمك ة مشوية بلا شوك ولا فلوس تسيل دسما وعند رأسها ملح وعند ذنبها خل، وحولها من الألوان ما خلا الكراث وإذا خمسة أرغفة على واحد منها زيتون وعلى الثاني عسل، وعلى الثالث سمن، وعلى الرابع جبن، وعلى الخامس قديد. فقال شمعون: يا روح الله من طعام الدنيا هذا أم من طعام الآخرة؟ فقال: «ليس منهما ولكنه شيء اخترعه الله بالقدرة العالية كلوا ما سألتم واشكروا يمددكم الله ويزدكم من فضله» فقال الحواريون: لو أريتنا من هذه الآية آية أخرى. فقال: «يا سمكة احيي بإذن الله فاضطربت» ثم قال لها: «عودي كما كنت فعادت مشوية» ثم طارت المائدة ثم عصوا وقالوا بعد النزول والأكل: هذا سحر مبين فمسخ الله منهم ثلاثمائة وثلاثين رجلا باتوا ليلتهم مع نسائهم، ثم أصبحوا خنازير يسعون في الطرقات والكناسات ويأكلون العذرة في الحشوش، ولما أبصرت الخنازير عيسى عليه السلام بكت وجعلت تطيف به وجعل يدعوهم بأسمائهم واحدا بعد واحد فيبكون ويشيرون برءوسهم ولا يقدرون على الكلام فعاشوا ثلاثة أيام ثم هلكوا وَإِذْ قالَ اللَّهُ يوم القيامة يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ في الدنيا اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي غيره أراد الله تعالى بهذا السؤال أن يقر عيسى على نفسه بالعبودية فيسمع قومه ويظهر كذبهم عليه أنه أمرهم بذلك فذكر هذا السؤال مع علمه تعالى أن عيسى لم يقل ذلك إنما لتوبيخ قومه. قالَ أي عيسى وهو يرعد: سُبْحانَكَ أي أنزهك تنزيها لائقا بك من أن أقول ذلك ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي
303
بِحَقٍ أي ما كان ينبغي أن أقول ما ليس بجائز لي إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ لهم فَقَدْ عَلِمْتَهُ وهذا مبالغة في الأدب وفي إظهار الذل في حضرة ذي الجلال وتفويض الأمور بالكلية إلى الكبير المتعالي.
تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ أي تعلم ما عندي ومعلومي ولا أعلم ما عندك ومعلومك إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (١١٦) عن العباد ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ و «أن» مفسرة للهاء الراجع للقول المأمور به. والمعنى ما قلت لهم في الدنيا إلا قولا أمرتني به وذلك القول هو أن أقول لهم: اعبدوا الله ربي وربكم وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً على ما يفعلون ما دُمْتُ فِيهِمْ أي مدة دوامي فيما بينهم فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي أي رفعتني من بينهم إلى السماء كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ أي الحافظ لأعمالهم المراقب لأحوالهم وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١١٧) وعالم بصير إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وقد استحقوا ذلك حيث عبدوا غيرك وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ أي القادر على ما تريد الْحَكِيمُ (١١٨) في كل ما تفعل لا اعتراض لأحد عليك فإن عذبت فعدل، وإن غفرت ففضل، وعدم غفران الشرك إنما هو بمقتضى الوعيد فلا امتناع فيه لذاته.
ومقصود عيسى عليه السلام من هذا الكلام تفويض الأمور كلها إلى الله وترك الاعتراض عليه بالكلية لأنه يجوز في مذهبنا من الله تعالى أن يدخل الكفار الجنة وأن يدخل العباد النار، لأن الملك ملكه ولا اعتراض لأحد عليه قالَ اللَّهُ هذا أي يوم القيامة يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ في الدنيا في أمور الدين.
قرأ الجمهور «يوم» بالرفع. وقرأ نافع «يوم» بالنصب. أي هذا القول واقع يوم إلخ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أي عن الصادقين بطاعتهم له وَرَضُوا عَنْهُ بالثواب والكرامة ذلِكَ الرضوان الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (١١٩) فالجنة بما فيها بالنسبة إلى رضوان الله كالعدم بالنسبة إلى الوجود وكيف لا والجنة مرغوب الشهوة والرضوان صفة الحق وأي مناسبة بينهما لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٢٠) أي إن كل ما سوى الله تعالى من الكائنات والأجساد والأرواح ممكن لذاته موجود بإيجاده وإذا كان الله موجدا كان مالكا له، وإذا كان مالكا له كان له تعالى أن يتصرف في الكل بالأمر والنهي والثواب والعقاب كيف أراد فصح التكليف على أيّ وجه أراده الله تعالى، ولما كان الله مالك الملك فله بحكم المالكية أن ينسخ شرع موسى ويضع موضعه شرع محمد فبطل قول اليهود بعدم نسخ شرع موسى، ثم إن عيسى ومريم داخلان فيما سوى الله فهو كائن بتكوين الله تعالى فثبت كونهما عبدين لله مخلوقين له فظهر بهذا التقرير أن هذه الآية برهان قاطع في صحة جميع العلوم التي اشتملت هذه السورة عليها.
304
Icon