تفسير سورة الحديد

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة الحديد
مكية، وهي تسع وعشرون آية

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (١) جاء بلفظ الماضي في مواضع والمضارع أخرى، دلالة على أن شأن من أسند إليه الفعل الاستمرار في جميع الأزمان، وحيث كانت هذه أطول ما صدرت بلفظ التسبيح لم يعد الجار في المعطوف بخلاف سائرها، ولم يغلب العقلاء؛ إشارة إلى أنهم في القِلَّة مغمورون في جملة لا تحصى كثرة.
فَفِي كُل شيءٍ لَهُ آيةٌ... تَدُل على أنهُ وَاحد.
(وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب القاهر. (الْحَكِيمُ) المتقن في صنعه فهو حقيق بالتسبيح.
(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ... (٢) مرفوع خبر مبتدأ، أو منصوب حال من المجرور، أو استئناف مقرر لما تَقدم. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) كامل القدرة إحياء وإماتة وغيرهما.
(هُوَ الْأَوَّلُ... (٣) قبل كل شيء (وَالْآخِرُ) الباقي بعد فناء كل شيء (وَالظَّاهِرُ) في كل شيء (وَالْبَاطِنُ) عن كل شيء، لا يحيط به شيء علماً. ولا دليل فيه لنا في الرؤيا. وتفسير البطن بعَدم إدراك الحواس قصور، بل بطونه عدم إدراك كنهه أزلاً وأبداً، حساً وعقلاً. تعالى عن ذلك علواً كبيراً. والواو الأولى والثالثة لعطف المفرد على المفرد، والوسطى لعطف المركب على المركب. والمعنى: أنه جامع لهذه الصفات أزلاً وأبداً، ولما أوهم بطونه عن الأشياء بطونها عنه كما في الشاهد رفعه بقوله: (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) يستوي في علمه الظاهر والباطن.
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ... (٤) لتدبير الكائنات تمثيل. (يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ) من ماء وحب. (وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا) من نبات وزرع (وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ) من مطر وثلج وبرد، وأقدار وأحكام. (وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا) من الملائكة والأرواح والأعمال. (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) شاهد لا يخفى عليه الإخلاص والرياء. وإعادة الجلالة، دلالة على أن ذلك من لوازم الألوهية.
(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ... (٥) أعاده؛ ليقرن به أمر المعاد كما قرن به المبدأ.
(وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازي كلا على حسبه.
(يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (٦) بمضمراتها أبلغ من قوله (بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).
(آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ... (٧) إذ لم يبق لكم شبهة. (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) من الأموال التي بأيديكم إذ هي في الحقيقة له تعالى وأنتم بمتزلة الوكلاء والخزان فأنتم تحت أمره فكما يأمركم به يجب علمكم الامتثال، ولا ينبغي أن يشق عليكم إذ لا أخس ممن يشح بمال الغير. (فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ) مع كونكم غير مالكين. لكم أجر لا يحاط به ترغيب، ووعد فيه مبالغات بناء الخبر على الموصول، وإعادة الإيمان والإنفاق، وتنكير الأجر والوصف بالكبر.
(وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ... (٨) ما تصنعون غير مؤمنين باللَّه. (وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ) حال من ضمير لا تؤمنون، وهو من ضمير تصنعون. فهما حالان متداخلان. (وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ) حال من أحد ضميري يدعوكم، أو حال بعد حال من ضمير تؤمنون. والحال أنه قد أخذ عليكم الميثاق قبل الرسول بما ركب فيكم من العقل
ونصب الأدلة فقد أزاح الشبهة عنكم من كل وجه. وقرأ أبو عمرو (أُخِذَ) على بناء المفعول. (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بموجب الإيمان، فقد بان لكم الموجب بما لا مزيد عليه، كقولك لتارك الصلاة: هذا الماء والمحراب إن كنت تصلي. والعتاب عام لِمَنْ لم يؤمن، ومن آمن ولم ينفق.
(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ... (٩) واضحات الإعجاز أو الدلالة على الأحكام. (ليُخْرِجَكُمْ) أي: اللَّه أو الرسول. والأول أولى؛ لقوله تعالى (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) حيث بين لكم وأوضح.
(وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ... (١٠) فيما يكون قربة إليه، من الجهاد والصدقة على المحاويج. (وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) هو الباقي بعد فناء من في السماوات والأرض، فأي فائدة في الإمساك، هلا يقدم العاقل ماله بين يديه، ويشتري بالفاني الباقي. عنه - ﷺ - " يَقُول ابنُ آدَمٍ: مَالي مَالي، وَهَلْ لَك مَال إِلَّا مَا أَكَلْتَهُ فَأَفنَيْتَ، أَوْ لَبِسْتَهُ فَأَبلَيتَ، أَوْ تَصَدقْتَ بِهِ فَأَبْقَيتَ "، (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ) فتح مكة، وقيل: [الحديبية]، في حال شدة الاحتياج ومن بعده. حذف؛ لوضوح الدلالة عليه. (وَقَاتَلَ) بيان
لتفاوت الإنفاق، وحثّ على طلب المحل القابل، وتقديم الأولى والأحوج. (أُولَئِكَ) هم المنفقون (أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا) بعد فتح مكة، (وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) أي: من المنفقين السابقين واللاحقين موعود بالجنة وإن تفاوت حالهم. وقرأ ابن عامر (وَكُلٌّ) بالرفع على الابتداء والفعلية خبر بحذف العائد، والنصب أحسن؛ لعدم التقدير.
(وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) يعلم نية المنفق إخلاصاً ورياء. قيل نزلت في الصدِّيق. أنفق ماله في سبيل اللَّه حتى تخلل بعباء فجاء جبرائيل فقال لرسول اللَّه يقول اللَّه تعالى قل لأبي بكر " هل هو راضٍ عني في فقره؟ وسلم عليه مني ".
(مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا... (١١) مثل حال المنفق في سبيل اللَّه بحال من أقرض إنساناً يؤديه إليه وقت احتياجه. والقرض الحسن: مالا يجر نفعاً ولا يطلب فيه زيادة.
(فَيُضَاعِفَهُ لَهُ) أَضْعَافَاً لا يعلمها غيره. قرأه بالنصب ابن عامر وعاصم بأن مضمرة بعد الفاء جواباً للاستفهام معنىً. وقرأ ابن كثير وابن عامر يُضعِّف مشدداً. وكما زاد " كَمًّا "، فكذلك عظم " كيْفاً " بقوله: (وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) شريف لا كسائر الأجور يكون مع مهانة.
(يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ... (١٢) مقدر بـ " اذكر " فإنه يوم عظيم، أو ظرف ليضاعفه، أو له أجر كريم. (يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ) أي: يسرع نورهم قدامهم، وعن اليمن والشمائل، على قدر سيرهم. منهم من سيرهم كالبرق الخاطف، ومنهم
كالريح، ومنهم كأجاويد الخيل. وكذلك أنوارهم على قدر أعمالهم حتى أن فيهم من يقوم ويقع لضعف نوره. وفي لفظ الإيمان تغليب. (بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ) أي: تقول لهم الملائكة الذي بشرتم به (جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) خبر بشراكم. (ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي: الفوز الذي بشروا يه من كلامه تعالى.
(يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ... (١٣) بدل من (يَوْمَ تَرَى) (لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) بعد القضاء بين العباد يؤخذ بالكفار الخلص إلى النار، وبالمؤمنين إلى الجنة، ويتبعهم المنافقون كما كانوا في الدنيا يعدون أنفسهم منهم، ويعطون نوراً لمجازاة لخدعهم، فإذا توسطوا الصراط انطفى نورهم، نادوا المؤمنين انتظرونا أو انظروا إلينا نأخذ قبساً أي: شعلة من نوركم، كما يفعله الأصحاب في الدنيا إذا انطفى مصباح أحدهم. (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ) إلى الدنيا. العائل: المؤمنون أو الملائكة (فَالْتَمِسُوا نُورًا) آخر؛ لأنه محل الأعمال التي صارت اليوم أنوارًا. وقرأ حمزة (أنظرونا) بهمزة القطع أي: أمهلونا وهو قريب من الأول. (فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ) هو الأعراف: حائط الجنة (لَهُ بَابٌ) يدخل منه
المؤمنون الجنة (بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ) وتغيير الأسلوب؛ للدلالة على أن داخله كله نعيم، بخلاف ظاهره لبعد النار عنه.
(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ... (١٤) في الدنيا متفقين في الدين (قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) بخستموها بالنفاق (وَتَرَبَّصْتُمْ) بالمؤمنين الدوائر، وقلتم: ريح الإسلام تهب ساعة ثم تسكن (وَارْتَبْتُمْ) في أمر الساعة، وقلتم: (مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا)، (وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ) الكاذبة، وقلتم: إن كان بعث سيُغْفر لنا. (حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ) قيام الساعة وأمره بدخول النار، (وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) الشيطان بوعده الكاذب.
(فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ... (١٥) إن لو كان لكم ما تفدون. قرأ ابن عامر بالتاء والتذكير أحسن؛ لوجود الفصل. (وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ظاهراً وباطناً. (مَأْوَاكُمُ النَّارُ) مقامكم، (هِيَ مَوْلَاكُمْ) أي: أولى بكم من غيرها؛ لما معكم مما يلائمها من الأعمال، أو هي التي تتولى أمركم أو ناصركم تهكماً. (وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) مصيركم.
(أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ... (١٦) أي: القرآن، من عطف العام على الخاص، أو عطف باعتبار الصفة. وقرأ نافع وحفص (نزل) مخففاً، والشديد أبلغ. " يأنِ " من أنى يأنى الأمر إذا جاء أناه أي: وقته، والهمزة للاستبطاء كقولك للغلام: ألم أدعك؟. والمعنى: ليس للمؤمنين عذر في عدم خشوع قلوبهم. وما رواه
مسلم عن ابن مسعود - رضي الله عنه -: " لم يكنْ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبنَا اللَّه إِلا أَربعُ سِنين ". وما رواه قتادة عن ابن عباس رضي اللَّه عنهما: إن اللَّه عاتب المؤمنين على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن؛ يدل على أن السورة مكية، فإن قلت: إنها كانت السورة مكية، فما وجه قصة المنافقين، والنفاق إنما نجم بالمدينة؟. قلت: إخبار بما يقع كسائر الأخبار عن المغيبات.
(وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ) عطف على (تَخْشعَ)، ويجوز أن يكون نهياً لهم عن مماثلة أولئك، (فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ) الزمان. (فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ) فغلب عليها القسوة والجفاء لتراكم الذنوب، وظلمات المعاصي فأحدثوا التحريف والبدع. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) خارجون بالكلية عن دينهم لفرط قسوتهم.
(اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا... (١٧) مثّل حال القلوب النابية عن الخشوع، ثم تأثرها من ذكر اللَّه، (وَمَا نزلَ مِنَ الْحَقِّ) بحال أرض غلب عليها اليبس ثم أصابها الغيث فاخضرت. (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) في تصدير الكلام
بـ (اعْلَموا) وختمه بـ (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) نوع عتاب، إذ كان الأولى بهم التدبر بدون هذا؛ لجلاء الحال
(إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا... (١٨) عطف على المصدقين، لكونه في معنى الذين صدقوا، وفيه تغلب؛ لئلا يقع فصل بالأجنبي. والمعنى: الذين تصدقوا وأخلصوا في ذلك وأخرجوه من مالهم الطيب. وقرأ ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد من التصديق أي: آمنوا باللَّه ورسوله، والتشديد أولى، لذكر الإيمان بعد (يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ) تقدم تفسيره آنفاً.
(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ... (١٩) أي: بمنزلة هؤلاء وإن كانوا قاصرين تنزلوا منزلتهم. (لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ) أي: مثل أجر أولئك ونورهم، لا في الإضعاف أي: جميع ما يحصل لهم من الأجر والإضعاف، بل مثل مجرد أجر الصديقين وحده. فإن قلت: فأي ترغيب في ذلك؟. قلت: كل ترغيب؛ لأن آحاد المؤمنين إذا جعل ثواب عمله مثل ثواب عمل الصّدّيق فأي إحسان فوق ذلك؟ وأما الإضعاف فذلك ليس راجعاً إلى الأعمال. بل ذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء. ويجوز أن يكون (وَالشُهَدَاءُ) مبتدأ، (لَهُمْ أَجْرُهُمْ) خبر، وليس بقويّ. (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) الذين لا يفارقونها؛ لإفادة الكلام الحصر.
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ... (٢٠) لما ذكر ما للفريقين في الآخرة، حقَّر أمر الدنيا بأن حصر ما فيها في أمور خيالية، قليلة النفع، ترغيباً فيما عنده، وتحذيراً عن الاغترار بها. واللعب: ما يجلب السرور. واللَّهو: ما يدفع الهم. (وَزِينَةٌ) بالأموال والبنين، (وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ) أنا ابن فلان، وأنت ابن فلان، (وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) أنا لي كذا
مالاً وولداً، وأنت لا تملك ما أملك. (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) مثَّل حال الدنيا في قلة جدواها، وسرعة نقضها بحال نبات أنبته الغيث، فاستوى على سوقه اخضرِّ ناضراً وارِقاً، فأعجب الزراع شأنه، أو الكفار باللَّه؛ لقصور نظرهم إلى الدنيا، والمؤمن إذا رآه علم أن ما عند اللَّه هو الباقي، وأن هذا عن قريب زائل. ثم اصفرّ بعد تلك النضارة وتبدل حاله، ثم تكسر وذهب كأن لم يكن. (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) تنفير عن الركون إليه. (وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ) حث على العمل المثمر ذلك.
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) إلا شيء يسير ونفع قليل يغتر به.
(سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ (٢١) مسابقة الفرسان إلى إحراز قصب السبق.
(وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) إنما ذكر العرض؛ لأنه أقصر الامتدادين، فإذا كان حاله كذلك فما ظنك بالطول؟! والمراد جنس السماء، لقوله: (عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ). فإن قلت: أيهما أبلغ؟ قلت: الثاني؛ لحذف أداة التِّشْبيه، والتصريح بما يدل على العدد. فإن قلت: لم اختص بموقعه؟ قلتّ: لأن الثاني في آل عمران، وهو متأخر نزولاً، فلو عكس لم يبق فائدة في ذكره. (أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ) الاستدلال به على أن مجرد الإيمان كافٍ، ليس بناهضٍ؛ لقوله في آل عمران: (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الذين نعتهم كيت وكيت. (ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) من عباده من غير إيجاب؛ لأن العبد لا
يستحق على المالك أجرة. (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) لا يحاط بفضله. خلق وهدى وأعطى ما لم يخطر على قلب، من غير وجوب ولا استحقاق.
(مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ... (٢٢) في اللوح، (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) نخلقها أي: الأنفس أو المصيبة. الأول أوجه؛ لما روى مسلم " أَن اللَّه كَتَبَ مَقَاديرَ الخَلَائِق قبْلَ خَلقِ السِّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بِخَمْسِين أَلْفِ عَامٍ، وَكَان عَرشُه عَلَى الماء ". (إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)؛ لعلمه بالأشياء قبل وقوعها، كعلمه بها حال وقوعها. ثم أشار إلى الحكمة في ذلك بقوله: (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ... (٢٣) فإن من علم أن ما أصابه من الضر كان مقدراً علمه في الأزل لم يحزن الحزن الشديد؛ لأنه قد وطن نفسه على ذلك، وكذا في جانب الخير، لأنه كان مترقباً. والمراد بهما ما يخرج إلى الجزع وعدم الصبر، والفرح المطغي المفضي إلى البطر، لا ما يعتري الإنسان من الهم والسرور شكراً لنعمة اللَّه. وقرأ أبو عمرو: (أتَاكُمْ) مقصوراً أي: جاءكم، وهي قراءة حسنه فسرها (لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) متكبر، فخور على الناس بكثرة المال. واكتفى بأحد الشقين؛ لدلالته على الآخر، وآثر الثاني، لأنه أشد تكبراً.
(الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ (٢٤) بدل من (كُلَّ مُخْتَالٍ) وأوفى منه؛
لدلالته على أن عز المال وحبه بلغ حدًّا يشح بمال الغير. وقرأ حمزة والكسائي
98
(البَخلِ) بفتح الباء، وهما لغتان كالرُّشد والرَّشد. (وَمَنْ يَتَوَلَّ) يعرض ولن ينته عما نهى اللَّه. (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ) لا يحتاج إلى إنفاق المنفق. (الْحَمِيدُ) محمود في ذاته وإن تولوا عن شكره. وقرأ نافع وابن عامر بحذف ضمير الفصل، وعليه رسم مصحف المدينة والشام، والإثبات آكد، وعليه بقية الرسوم.
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ... (٢٥) أي: الملائكة إلى الأنبياء بالمعجزات، لا الأنبياء إلى الناس؛ لقوله: (وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ) قانون الشرع يشمل الميزان الذي به تعِامل الناس، وكل ما يعرف به الإنصاف من أمور المعاش والمعاد؛ ولذلك علله بقوله: (لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) بالعدل. (وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ) يتخذ منه آلة الجهاد والقتل. وفيه إشارة إلى أن أمر الشرع لا يستقل بدون السيف والسنان.
الظلم من شيم النفوس فَإن تَجِد ذا عِفةٍ فلعِلَّةٍ لا يظلمُ
وعنه - ﷺ -: "رِزْقِي تحت ظِلًّ رمحي " (وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ) إذ لا صنعة إلا وللحديد فيه مدخل. (وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ) عطف على محذوف دل عليه السياق. أي:
99
لنفعهم وَلِيَعْلَمَ اللَّه، وفي الحذف إشارة إلى أن الثاني هو المطلوب بالذات. (بِالْغَيْبِ) حال من المستكن فِي ينصره. أي: غائباً عنه. عن ابن عباس - رضي الله عنهما - " ينصره ولا يبصره ". (إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ) ذو قدرة بالغة. (عَزِيزٌ) غالب على كل شيء. وإنما أنزل الحديد وأمر بالقتال؛ لينالوا بذلك القربة عنده والزلفى.
(وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ... (٢٦) أي: الوحي المتلو. أشار إلى أن قانون الشرع والأمر بالقسط بين الناس قديم، من لدن نوح إلى محمد عليهما السلام. (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) غير الأسلوب، للدلالة على أن الغلبة لأهل الضلال.
(ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا... (٢٧) أي: آثار نوح وإبراهيم، والجمع للتعظيم، أو هما ومن عاصرهما من الرسل، أو من أرسلا إليه. (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي: انتهى إرسال الرسل إليه. (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً) مصدر رهب: وهو شدة الخوف. والمراد تعبدهم في الجبال والمغائر والكهوف. وذلك أن بني إسرائيل بعد صعود عيسى افترقوا اثنَتيْنِ وسبعين فرقة، ثلاث فرق على الحق والباقون على الضلال، فدعوا الملوك والجبابرة إلى دين عيسى، وقاتلوهم حتى لم يبق منهم إلا قليل، فلم يقدروا على المقاومة، فتفرقوا في الجبال (ابْتَدَعُوهَا) اخترعوها من عند أنفسهم (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) ما فرضناها عليهم. (إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) استثناء منقطع. أي: لكن ابتدعوها طلباً لمرضاة اللَّه. (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا) ما قاموا بها حق القيام. وفيه إشارة إلى أن التعمق في
العبادة فوق ما سنه اللَّه ورسوله مذموم. وقد روى البخارى عنه - ﷺ -: " إِنَّ الدِّينَ يسْرٌ وَلَنْ يُشَاد أَحَدٌ الدِّيْنَ إِلَّا غَلَبَهُ " " فَإِن بَنِي إِسْرَائيلَ شَددوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَتِلْك بَقَايَاهُمْ في الصَّوَامِع رَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا ". وانتصابها بمضمرٍ مفسر. وجعلها من المجعولات عدول عن الظاهر مخالف للأحاديث. (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) الذين وفوا بما نذروا. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) لم يحافظوا على ما عاهدوا اللَّه عليه.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا (٢٨) أحدثوا الإيمان. (اتَّقُوا اللَّهَ) في أوامره ونواهيه.
(وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ) محمد عليه السلام، عن ابن عباس والضحاك - رحمه الله - أنها نزلت في مؤمني
101
أهل الكتاب. ويدل عليه قوله: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) وذلك؛ لما رواه البخاري ومسلم رحمهما اللَّه أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أُجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ رَجلٌ آمَنَ بِنَبِيِّهِ وَآمَنَ بِمحَمَّدٍ، وَعَبْدٌ مملوكٌ أَدّى حَقَّ اللَّهِ وَحَقِّ مَواليهِ، ورَجُل لَهُ أَمَةٌ فَأَدَّبَهَا، ثُمَّ أَعْتَقَهَا فَتَزَوَّجَهَا". والكفْل: الحظ الوافر، والنصيب الكامل كأنه تكفل بالكفاية. (وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ) على الصراط يسعَى بَينَ أَيْديكمْ وَبِأَيْمَانِكمْ، أو نوراً ينقذكم به عن ظلمات الجهل. (وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ما سلف لكم. (وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) عن سعيد بن جبير - رضي الله عنهما -؛ افتخر مؤمنو أهل الكتاب بأن لهم الأجر مرتين، فأنزل اللَّه تعالى لمؤمني هذه الأمة، وزادهم النور والمغفرة. ويؤيده ما رواه البخاري أن رسول اللَّه - ﷺ - قال: " مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ أَهْلِ الكِتَابَيْنِ، كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ أُجَرَاءَ، فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ غُدْوَةَ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ اليَهُودُ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلاَةِ العَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنَ العَصْرِ إِلَى أَنْ تَغِيبَ الشَمْسُ عَلَى قِيرَاطَيْنِ؟ فَأَنْتُمْ هُمْ "، فَغَضِبَتِ اليَهُودُ، وَالنَّصَارَى، فَقَالُوا: مَا لَنَا أَكْثَرَ عَمَلًا، وَأَقَلَّ عَطَاءً؟ قَالَ: «هَلْ نَقَصْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ؟» قَالُوا: لاَ، قَالَ: «فَذَلِكَ، فَضْلِي أُوتِيهِ مَنْ أَشَاءُ». وما قيل، إن رسول اللَّه - ﷺ - أرسل جعفراً يدعو النجاشي إلى
102
الإيمان، فآمن به وأرسل سبعين رجلاً إلى رسول اللَّه - ﷺ -، فجاؤوا ورسول اللَّه قد تهيأ لوقعة أُحدٍ كلام لا أصل له. وجعفر إنما قدم مع من هاجر إلى الحبشة، ورسول اللَّه - ﷺ - في محاصرة خيبر بعد أحد بثلاث سنين. رواه البخاري مكررًا في مواضع.
103
(لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ... (٢٩) " لا " مزيدة.
والمعنى على الأول: إنما وعدنا من آمن من أهل الكتاب كفلين من رحمتنا، ليعلم الذين لم يؤمنوا منهم أن إيمانهم السابق لا يورّثهم شيئاً من فضل اللَّه قط. وعلى الثاني: اثبتوا أيها المؤمنون على إيمانكم، واتقوا اللَّه يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجر مرتين، ويزيدكم النور والمغفرة. (وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ) وقيل: " لا " غير مزيدة.
والمعنى: إنما فعلنا كذا وكذا؛ لئلا يعتقد أهل الكتاب أَن رسول اللَّه - ﷺ - والمؤمنين لا يقدرون على حصر فضل اللَّه فيمن آمن بمحمد. وقوله: (وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) عطف على (ألَّا يَعْلَمَ) ولا يخفى بُعدَه.
تمت بحمد اللَّه على العُبيد، ونسأله من فضله المزيد، والصلاة على الماجد الفريد، وآله وصحبه الذين فلقوا بالحديد هامَ كل جبار عنيد.
Icon