تفسير سورة الممتحنة

نظم الدرر
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة الممتحنة١.
مقصودها براءة من أقر بالإيمان٢ ممن اتسم٣ بالعدوان دلالة على صحة مدعاه كما أن الكفار تبرأوا٤ من المؤمنين وكذبوا بما جاءهم من الحق لئلا يكونوا٥ على باطلهم أحرص من المؤمنين على حقهم، وتسميتها بالممتحنة أوضح شيء فيها وأدله على ذلك لأن الصهر أعظم الوصل وأشرفها بعد الدين، فإذا نفى٦ ومنع دل على أعظم المقاطعة لدلالته على الامتهان بسبب الكفران الذي هو أقبح العصيان ( بسم الله ) الكافي من لجأ إليه فمن تولاه أغناه عمن٧ سواه ( الرحمان ) الذي عم بنعمة الإيجاد من فلق عن وجوده العدم وبراه وشمل، برحمته البيان من حاطه بالعقل٨ ورعاه ( الرحيم ) الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه.
١ - الستون من سورة القرآن الكريم، مدنية، وعدد آيها (١٣) بالاتفاق –راجع نثر المرجان ٧/٢٩٦..
٢ - من ظ وم، وفي الأصل: من أقسم..
٣ - من ظ وم، وفي الأصل: من أقسم..
٤ - من ظ وم، وفي الأصل: يتبرون..
٥ - من ظ وم، وفي الأصل: لئلا يكون..
٦ - من ظ وم، وفي الأصل: بقى..
٧ - من ظ وم، وفي الأصل: عما..
٨ - من ظ وم، وفي الأصل: العقل..

ولما كان التأديب عقب الإنعام جديراً بالقبول، وكان قد أجرى سبحانه سنته الإلهية بذلك، فأدب عباده المؤمنين عقب سورة الفتح السببي بسورة الحجرات، وكانت سورة الحشر مذكرة بالنعمة في فتح بني النضير
483
ومعلمة بأنه لا ولي إلا الله، ولذلك ختمها بصفتي العزة والحكمة بعد أن افتتحها بهما، وثبت أن من حكمة حشر الخلق، وأن أولياء الله هم المفلحون، وأن أعداءه هم الخاسرون، وكان الحب في الله والبغض في الله أفضل الأعمال وأوثق عرى الإيمان، ولذلك ذم سبحانه من والى أعداءه وناصرهم، وسماهم مع التكلم بكلمة الإسلام منافقين، أنتج ذلك قطعاً وجوب البراءة من أعدائه والإقبال على خدمته وولائه، فقال معيداً للتأديب عقب سورة الفتح على أهل الكتاب بسورة جامعة تتعلق بالفتح الأعظم والفتح السببي: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ منادياً بأداة العبد وإن كان من نزلت بسببه من أهل القرب، ومعبراً بالماضي إقامة لمن والى الكفار نوع موالاة في ذلك المحل إلهاباً له وتهييجاً إلى الترفع عنه لئلا يقدح في خصوصيته ويحط من عليّ رتبته مع اللطف به بالتسمية له بالإيمان حيث شهد سبحانه على من فعل نحو فعله مع بني النضير بالنفاق وأحله محل أهل الشقاق، فحكم على
484
القلوب في الموضعين فقال هناك: ﴿الذين نافقوا﴾ كما قال هنا: ﴿الذين آمنوا﴾.
ولما كان قد تقدم في المجادلة النهي الشديد عن إظهار مطلق الموادة للكفار، وفي الحشر الزجر العظيم عن إبطان ذلك فتكفلت السورتان بالمنع من مصاحبة ودهم ظاهراً أو باطناً، بكت هنا من اتصف بالإيمان وقرعه ووبخه على السعي في موادتهم والتكلف لتحصيلها، فإن ذلك قادح في اعتقاد تفرده سبحانه بالعزة والحكمة، فعبر لذلك بصيغة الافتعال فقال بعد التبكيت بالنداء بأداة البعد والتعبير بأدنى أسنان الإيمان: ﴿لا تتخذوا﴾ وزاد في ذلك المعنى من وجهين: التعبير بما منه العداوة تجرئة عليهم وتنفيراً منهم والتوحيد لما يطلق على الجمع لئلا يظن أن المنهي عنه المجموع بقيد الاجتماع والإشارة إلى أنهم في العداوة على قلب واحد، فأهل الحق أولى بأن يكونوا كذلك في الولاية فقال: ﴿عدوي﴾ أي وأنتم تدعون موالاتي ومن المشهور أن مصادق العدو أدنى مصادقة لا يكون ولياً فكيف بما هو فوق الأدنى وهو فعول من عدى، وأبلغ في الإيقاظ بقوله: ﴿وعدوكم﴾ أي
485
العريق في عداوتكم ما دمتم على مخالفته في الدين.
ولما وحد لأجل ما تقدم من الإشارة إلى اتحاد الكلمة، بين أن المراد الجمع فقال: ﴿أولياء﴾ ثم استأنف بيان هذا الاتحاد بقوله مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله: ﴿تلقون﴾ أي جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو ﴿إليهم﴾ على بعدهم منكم حساً ومعنى ﴿بالمودة﴾ أي بسببها.
ولما توقع السامع التصريح بمضادتهم في الوصف الذي ناداهم به بعد التلويح إليه، ملهياً ومهيجاً إلى عداوتهم بالتذكير بمخالفهم إياه في الاعتقاد المستلزم لاستصغارهم لأنه أشد المخالفة ﴿وقد﴾ أي هو الحال أنهم قد ﴿كفروا﴾ أي غطوا جميع ما لكم من الأدلة ﴿بما﴾ أي بسبب ما ﴿جاءكم من الحق﴾ أي الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه، ثم استأنف بين كفرهم بما يبعد من مطلق موادتهم فضلاً عن السعي فيها بقوله مذكراً لهم بالحال الماضية زيادة في التنفير منهم ومصوراً لها بما يدل على الإصرار بأنهم ﴿يخرجون الرسول﴾ أي الكامل في الرسلية الذي يجب على كل أحد عداوة من عاداه أدنى عداوة ولو كان أقرب الناس فكيف إذا كان عدواً، وبين أن المخاطب من أول السورة من المهاجرين وأن إيراده على وجه الجمع للسير
486
والتعميم في النهي بقوله: ﴿وإياكم﴾ أي من دياركم من مكة المشرفة.
ولما بين كفرهم، معبراً بالمضارع إشارة إلى دوام أذاهم لمن آمن المقتضي لخروجه عن وطنه، علل الإخراج بما يحقق معنى الكفر والجداوة فقال: ﴿أن﴾ أي أخرجوكم من أوطانكم لأجل أن ﴿تؤمنوا﴾ أي توقعوا حقيقة الإيمان مع التجديد والاستمرار.
ولما كان الإيمان به سبحانه مستحقاً من وجهي الذات والوصف لفت الخطاب من التكلم إلى الغيبة للتنبيه عليهما فقال: ﴿بالله﴾ أي الذي اختص بجميع صفات الكمال، ولما عبر بما أبان أنه مستحق للإيمان لذاته أردفه بما يقتضي وجوب ذلك لإحسانه فقال: ﴿ربكم﴾ ولما ألهبهم على مباينتهم لهم بما فعلوا معهم وانقضى ما أريد من التنبيه بسياق الغيبة عاد إلى التكلم لأنه أشد تحبباً وأعظم استعطافاً وأكمل على الرضا فألهبهم بما كان من جانبهم من ذلك الفعل أن لا يضيعوه، فقال معلماً إن ولايته سبحانه لا تصح إلا بالإيمان، ولا يثبت الإيمان إلا بدلائله من الأعمال، ولا تصح الأعمال إلا بالإخلاص، ولا يكون الإخلاص إلا بمباينه الأعداء: ﴿إن كنتم﴾ أي كوناً راسخاً حين أخرجوكم من أوطانكم لأجل إيمانكم بي ﴿خرجتم﴾ أي منها وهي أحب البلاد إليكم ﴿جهاداً﴾ أي لأجل الجهاد ﴿في سبيلي﴾ أي بسبب إرادتكم
487
تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها ﴿وابتغاء مرضاتي﴾ أي ولأجل تطلبكم بأعظم الرغبة لرضاي ولكل فعل يكون موضعاً له، وجواب هذا الشرط محذوف لدلالة ﴿لا تتخذوا﴾ عليه.
ولما فرغ من بيان حال العدو وشرط إخلاص الولي، وكان التقدير: فلا تتخذوهم أولياء، بنى عليه قوله مبيناً ﴿تلقون﴾ إعلاماً بأن الإسرار إلى أحد بما فيه نفعه لا يكون إلا تودداً: ﴿تسرون﴾ أي توجدون إسرار جميع ما يدل على مناصحتهم والتودد إليهم، وأشار إلى بعدهم عنهم بقوله: ﴿إليهم﴾ إبلاغاً في التوبيخ بالإشارة إلى أنهم يتجشمون في ذلك مستفتين إبلاغ الأخبار التي يريد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو المؤيد بالوحي كتمها عنهم على وجه الإسرار خوف الافتضاح والإبلاغ إلى المكان البعيد ﴿بالمودة﴾ أي بسببها أو بسبب الإعلام بأخبار يراد بها أو يلزم منها المودة.
ولما كان المراد بالإسرار الستر على من يكره ذلك، قال مبكتاً لمن يفعله: ﴿وأنا﴾ أي والحال أني ﴿أعلم﴾ أي من كل أحد من نفس الفاعل ﴿بما أخفيتم﴾ أي من ذلك ﴿وما أعلنتم﴾ فأيّ فائدة لإسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة.
ولما كان التقدير بما هدى إليه العاطف: فمن فعل منكم فقد ظن
488
أني لا أعلم الغيب أو فعل ما يقتضي ظن ذلك، عطف عليه قوله: ﴿ومن يفعله﴾ أي يوجد الاتخاذ سراً أو علناً أو يوجد الإسرار بالمودة فالإعلان أولى في وقت من الأوقات ماض أو حال أو استقبال. ولما كان المحب قد يفعل بسبب الإدلال ما يستحق به التبكيت، فإذا بكت ظن أن ذلك ليس على حقيقته لأن محبته لا يضرها شيء، وكان قد ستر المعايب بأن أخرج الكلام مخرج العموم، صرح بأن هذا العتاب مراد به الإحباب فقال: ﴿منكم﴾ وحقق الأمر وقربه بقوله: ﴿فقد ضل﴾ أي عمي ومال وأخطأ ﴿سواء السبيل *﴾ أي قويم الطريق الواسع الموسع إلى القصد قويمه وعدله، وسبب نزول هذه الآية روي من وجوه كثيرة فبعضه في الصحيح عن علي ومنه في الطبراني عن أنس ومنه في التفاسير «أن سارة مولاة أبي عمرو بن صيفي بن هاشم بن عبد مناف أتت المدينة ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتجهز لفتح مكة فسألها ما أقدمها، فقالت: ذهب موالي وقد احتجت حاجة شديدة، وكنتم الأهل والعشيرة والموالي، فحث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها وكسوها وحملوها، فكتب معها حاطب بن أبي بلتعة حليف بني أسد بن عبد العزى من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريدكم فخذوا حذركم، فأعطاها عشرة
489
دنانير، فنزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمر وعلياً وعماراً والزبير وطلحة والمقداد وأبا مرثد وكانوا كلهم فرساناً فقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب من حاط إلى المشركين، فخذوه منها وخلوا سبيلها، وإن لم تدفعه إليكم فاضربوا عنقها. فانطلقوا تعادي بهم خيلهم، فأدركوها في ذلك المكان فأنكرت وحلفت بالله، ففتشوها فلم يجدوه فهموا بالرجوع، فقال علي رضي الله عنه: ما كذبنا ولا كذبنا، وسل سيفه فقال: أخرجي الكتاب أو لألقين الثياب ولأضربن عنقك، فقالت: على أن لا تردوني، ثم أخرجته من عقاصها قد لفت عليه شعرها، فخلوا سبيلها، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحاطب: هل تعرف الكتاب قال: نعم، قال: فما حملك على هذا؟ قال: لا تعجل يا رسول الله، والله ما كفرت منذ أسلمت ولا غششت منذ نصحتك ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكن لم يكن أحد من المهاجرين إلا وله بمكة من يدفع الله به عن عشيرته، وكنت غريباً خليفاً فيهم، وكان أهلي بين ظهرانيهم فأردت أن أتخذ عندهم يداً يدفع الله بها عن أهلي، وقد علمت أن الله تعالى ينزل بهم بأسه،
490
وأن كتابي لا يغني عنهم شيئاً، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صدق ولا تقولوا له إلا خيراً، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما يدريك يا عمر لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ففاضت عينا عمر رضي الله عنه وقال: الله ورسوله أعلم، فأنزل الله ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم﴾ »
الآيات.
ولاق الإمام أبو جعفر بن الزبير: افتتحت - يعني هذه السورة - بوصية المؤمنين على ترك موالاة أعدائهم ونهيهم عن ذلك وأمرهم بالتبرؤ منهم، وهو المعنى الوارد في قوله خاتمة المجادلة ﴿لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم﴾ إلى آخر السورة، وقد حصل منها أن أسنى أحوال أهل الإيمان وأعلى مناصبهم ﴿أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه﴾ [المجادلة: ٢٢] فوصى عباده في افتتاح الممتحنة بالتنزه عن موالاة الأعداء ووعظهم بقصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه في تبرئهم من قومهم ومعاداتهم، والاتصال في هذا بين، وكأن سورة الحشر وردت مورد الاعتراض المقصود بها تمهيد الكلام وتنبيه السامع
491
على ما به تمام الفائدة لما ذكر أن شأن المؤمنين أنهم لا يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا أقرب الناس إليهم، اعترض بتنزيهه عن مرتكباتهم، ثم أتبع ذلك ما عجله لهم من النقمة والنكال، ثم عاد الأمر إلى النهي عن موالاة الأعداء جملة له، ثم لما كان أول سورة الممتحنة إنما نزل في حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وكتابه لكفار قريش بمكة، والقصة مشهورة وكفار مكة ليسوا من يهود، وطلبوا المعادة للجميع واحد، فلهذا فضل بما هو من تمام الإخبار بحال يهود، وحينئذ عاد الكلام إلى الوصية عن نظائرهم من الكفار المعاندين، والتحمت السور الثلاث وكثر في سورة الممتحنة تزداد الوصايا والعهود، وطلب بذلك كله ولهذا المناسبة ذكر فيها الحكم في بيعة النساء وما يشترط عليهن في ذلك، فمبنى السورة على طلب الوفاء افتتاحاً واختتاماً حسب ما بين في التفسير لينزه المؤمن عن حال من قدم ذكره في سورة الحشر وفي خاتمة سورة المجادلة - انتهى.
492
ولما كان ما بينه تعالى من إخراجهم لهم موضحاً بعداوتهم وكان طول كفهم عن قصدهم بالأذى من سنة الأحزاب سنة خمس إلى سنة
492
ثمان ربما شكك في أمرها، وكان سبحانه قد أعز المؤمنين بعد ذلهم وقواهم بعد وهنهم وضعفهم، وثقفهم بعد جهلهم، بين ظلال معتقد ذلك بأن كف الكفار إنما هو لعجزهم وأنهم لو حصل لهم ما هو للمسلمين الآن من القوة لبادروا إلى إظهار العداوة مع أن ذلك في نصر الشيطان، فأولياء الرحمان أولى باتباع ما آتاهم من الإيمان، فقال مبيناً لبقاء عداوتهم: ﴿إن يثقفوكم﴾ أي يجدوكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن وهم يطمعون في أخذكم بكونهم أقوى منكم أو أعرف بشيء مما يتوصل به إلى الغلبة، وأشار بأداة الشك إلى أن وجدانهم وهم على صفة الثقافة مما لا تحقق له، وإنما هو على سبيل الفرض والتقدير، وأنه إنما علم سبحانه أنه لو كان كيف كان يكون، مع أنه مما لا يكون، ونبه على عراقتهم في العداوة بالتعبير بالكون فقال: ﴿يكونوا لكم﴾ أي خاصة ﴿أعداء﴾ أي يعدون إلى أذاكم كل عدو يمكنهم وإن واددتموهم. ولما كانت العداوة قد تكون بإغراء الغير، عرف أنهم لشدة غيظهم لا يقتصرون على ذلك فقال: ﴿ويبسطوا إليكم﴾ أي خاصة وإن كان هناك في ذلك الوقت من غيركم من قتل أعز
493
الناس إليهم ﴿أيديهم﴾ أي بالضرب إن استطاعوا ﴿وألسنتهم﴾ أي بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما نجرع من آخر من غيركم من القصص حتى أوجب له غاية السعة ﴿بالسوء﴾ أي بكل ما من شأنه أن يسوء.
ولما كان أعدى الأعداء لك من تمنى أن يفوتك أعز الأشياء لديك، وكان أعز الأشياء عند كل أحد دينه، قال متمماً للبيان: ﴿وودوا﴾ أي وقعت منهم هذه الودادة قبل هذا لأن مصيبة الدين أعظم فهم إليها أسرع لأن دأب العدو القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوه، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال ﴿لو تكفرون *﴾ أي يقع منكم الكفر الموجب للهلاك الدائم، وقدم الأول لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكأ.
ولما كانت عداوتهم معروفة وإنما غطاها محبة القرابات لأن الحب للشيء يعمي ويصم، فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالاتهم، زهد فيها مما يرجع إلى حال من والوهم لأجلهم بما تورثه من الشقاء الدائم يوم البعث، فقال مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال: ﴿لن تنفعكم﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿أرحامكم﴾ أي قراباتكم الحاملة لكم على
494
رحمتهم والعطف عليهم ﴿ولا أولادكم﴾ الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله لأجلهم فينبغي أن لا تعدوا قربهم منكم بوجه أصلاً، ثم علل ذلك بينه بقوله: ﴿يوم القيامة﴾ أي القيام الأعظم.
ولما كان النافي للنفع وقوع الفصل لا كونه من فاصل معين قال بانياً للمفعول على قراءة أبي عمرو ونافع وابن كثير وأبي جعفر وابن عامر من أكثر طرقه إلا أن شدد الصاد للمبالغة في الفصل: ﴿يفصل﴾ أي يوقع الفصل وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب ﴿بينكم﴾ أي أيها الناس فيدخل من شاء من أهل طاعته الجنة، ومن شاء من أهل معصيته النار، فلا ينفع أحد أحداً منكم بشيء من الأشياء إلا إن كان قد أتى الله بقلب سليم فيأذن الله في إكرامه بذلك.
ولما كان التقدير إعلاماً بأن الله هو الفاصل وهو الضار النافع بما دلت عليه قراءة الباقين إلا أن حمزة والكسائي بضم الياء وفتح الفاء وكسر الصاد مشددة إشارة إلى عظمة هذا الفصل بخروجه عن المألوف عوداً إلى الاسم الأعظم إشارة إلى عظم الأمر بانتشار الخلائق وأعمالهم: فالله على ذلك قدير، عطف عليه قوله: ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة التامة ﴿بما تعملون﴾ أي من كل عمل في كل وقت ﴿بصير *﴾ فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة، وقد مضى غيره مرة أن
495
تقديم الجار في مثل هذا للتنبه على مزيد الاعتناء بعلم ذلك لا على الاختصاص ولا لأجل الفواصل.
496
ولما أبلغ سبحانه في وعظهم في ذلك، وكانت عادته التربية بالماضين، كان موضع توقع ذلك فقال معبراً بأداة التوقع: ﴿قد كانت﴾ أي وجدت وجوداً تاماً، وكان تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها ولو كانت على أدنى الوجوه ﴿لكم﴾ أي أيها المؤمنون ﴿أسوة﴾ أي موضع اقتداء وتأسية وتسنن وتشرع وطريقة مرضية ﴿حسنة﴾ يرغب فيها ﴿في إبراهيم﴾ أي في قول أبي الأنبياء ﴿والذين معه﴾ أي ممن كانوا قبله من الأنبياء، قال القشيري: وممن آمن به في زمانه كابن أخيه لوط عليهما الصلاة والسلام وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة ﴿إذ﴾ أي حين ﴿قالوا﴾ وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف ﴿لقومهم﴾ الكفرة، وقد كانوا أكثر من عدوكم وأقوى وكان لهم فيهم أرحام وقرابات ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات.
ولما كان ما ذكر من ضعفهم وقوة قومهم مبعداً لأن يبارزوهم، أكدوا قولهم فقالوا: ﴿إنا﴾ أي من غير وقفة ولا شك ﴿برءاء﴾ أي متبرئون تبرئة عظيمة ﴿منكم﴾ وإن كنتم أقرب الناس إلينا ولا ناصر لنا منهم غيركم. ولما تبرؤوا منهم أتبعوه ما هو أعظم عندهم منهم وهو سبب العداوة فقالوا: ﴿ومما تعبدون﴾ أي توجدون عبادته في وقت
496
من الأوقات الماضية المفيد التعبير عنها بالمضارع تصوير الحال أو الحاضرة أو الآتية كائناً من كان لا نخاف شيئاً من ذلك لأن إلهنا الذي قاطعنا كل شيء في الانقطاع إليه لا يقاويه شيء، ولا تقدرون أنتم مع إشراككم به على البراءة منه.
ولما كانوا مشركين قالوا مستثنين ومبينين لسفول كل شيء عن متعالي مرتبة معبودهم: ﴿من دون الله﴾ أي الملك الأعظم الذي هو كاف لكل مسلم. ولما كانت البراءة على أنحاء كثيرة، بينوا أنها براءة الدين الجامعة لكل براءة فقالوا: ﴿كفرنا بكم﴾ أي أوجدنا الستر لكل ما ينبغي ستره حال كوننا مكذبين بكل ما يكون من جهتكم من دين وغيره الذي يلزم منه الإيمان، وهو إيقاع الأمان من التكذيب لمن يخبرنا بسبب كل ما يضاده مصدقين بذلك. ولما كان المؤمن على جبلة مضادة لجبلة الكافر، عبر بما يفهم أن العداوة كانت موجودة ولكنها كانت مستورة، فقال دالاً على قوتها بتذكير الفعل: ﴿وبدا﴾ أي ظهر ظهوراً عظماً، وعلى عظمتها بالدلالة بنزع الخافض على أنها شاحنة لجميع البينين فقال: ﴿بيننا وبينكم﴾ أي في جمع الحد الفاصل بين كل واحد منا وكل واحد منكم ﴿العداوة﴾ وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل على الآخر ولا يكون ذلك
497
إلا عندما يستخف الغيظ الإنسان لإرادة أن يشفي صدره من شدة ما حصل له من حرارة الخنق. فالعداوة مما يمتد فيكون مالئة لظرفها، قال الشيخ سعد الدين التفتازاني في تلويحه على توضيح صدر الشريعة في أوائله في علاقات المجاز: الفعل المنسوب إلى ظرف الزمان بواسطة تقدير «في» دون ذكره يقتضي كون الظرف معياراً له غير زائد عليه مثل صمت الشهر، يدل على صوم جميع أيامه بخلاف صمت في الشهر، فإذا امتد الفعل الظرف ليكون معياراً له فيصح حمل اليوم - في نحو صرت يوم كذا - على حقيقته، وهو ما يمتد من الطلوع إلى الغروب، وإذا لم يمتد الفعل - يعني مثل وقوع الطلاق - لم يمتد الظرف، لأن الممتد لا يكون معياراً لغير الممتد فحينئذ لا يصح حمل اليوم على النهار الممتد بل يجب أن يكون مجازاً عن جزء من الزمان الذي لا يعتبر في الغرف ممتداً، وهو الآن سواء كان من النهار أو من الليل بدليل قوله تعالى:
﴿ومن يولهم يومئذ دبره﴾ [الأنفال: ١٦] فإن التولي عن الزحف حرام ليلاً كان أو نهاراً ولأن مطلق الآن جزء من الآن اليومي وهو جزء من اليوم، فيكون مطلق الآن جزءاً من اليوم، فتحقق العلاقة.
498
ولما كان ذلك قد يكون لغير البغض بل لتأديب ونحوه قالوا: ﴿والبغضاء﴾ أي وهي المباينة بالقلوب بالبغض العظيم. ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا: ﴿أبداً﴾ ولما كان ذلك مرئياً من صلاح الحال، وكان قد يكون لحظ نفس بينوا غايته على وجه عرفت به علته بقولهم: ﴿حتى تؤمنوا﴾ أي توقعوا الأمان من التكذيب من أمركم بالإيمان وأخبركم عن الرحمان، حال كونكم مصدقين ومعترفين ﴿بالله﴾ أي الملك الذي له الكمال كله. ولما كانوا يؤمنون به مع الإشراك قالوا: ﴿وحده﴾ أي تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دونه.
ولما حث سبحانه المخاطبين على التأسي بقوله إبراهيم ومن معه في الوقت عليهم السلام استثنى منه فقال تأنيساً لمن نزلت القصة بسببه واستعطافاً له وهو حاطب ابن أبي بلتعة رضي الله عنه: ﴿إلا قول إبراهيم﴾ أي فلا تأسي لكم به ﴿لأبيه﴾ واعداً له قبل أن يبين له أنه ثابت العداوة لله تعالى لكونه مطبوعاً على قلبه، فلا صلاح له، يقال: إن أباه وعده أنه يؤمن فاستغفر له، فلما تبين له، أنه لا يؤمن تبرأ منه: ﴿لأستغفرن﴾ أي لأوجدن طلب الغفران من الله ﴿لك﴾ فإن هذا الاستغفار لكافر، فلا ينبغي لهم أن يتأسوا به فيه مطلقاً غير ناظرين إلى علم أنه مطبوع على قلبه أو في حيز الرجوع.
499
ولما وعده بالاستغفار ترغيباً له، رهبه لئلا يترك السعي في النجاة بما معناه أنه ليس في يدي غير الاستغفار، فقال: ﴿وما أملك لك﴾ أي لكونك كافراً ﴿من الله﴾ أي لأنه الملك الأعلى المحيط بنعوت الجلال، وأعرق في النفي بقوله: ﴿من شيء﴾ والاستثناء وقع على هذا القول بقيد الاجتماع، ولا يلزم منه التعرض للأجزاء، فلا تكون هذه الجملة على حيالها مستثناة لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نادى:
«واصباحاه حين أنزل الله سبحانه وتعالى ﴿وأنذر عشيرتك الأقربين﴾ كان يقول لكل من سماه: لا أملك لك من الله شيئاً، حتى قال في آخر ذلك: يا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئت لا أغن عنك من الله شيئاً».
ولما حثهم على التأسي بقول الخلص، وقدم منه المحافاة لأنها المقصودة، واستثنى ما لا ينبغي التأسي فيه اعتراضاً به بين أجزاء مقالهم بياناً للاهتمام به للتنفير منه من قوله، أتم ما يؤيسي فيه فقال مبيناً أنهم ما أقدموا على مجافاتهم بما قال إلا وقد قرروا جميع ما يقولونه ورضوا به دون موادتهم وانقطعوا إلى الله وحده انقطاعاً تاماً يفعل بهم ما يشاء من تسليطهم عليهم أو حمايتهم منهم، لكنهم سألوا الحماية
500
لا لذاتها ولا لأنفسهم بل لئلا يزيد ذلك أعداءهم ضلالاً ﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا بتخليصك لنا من الهلاك باتباعهم ﴿عليك﴾ أي لا على غيرك ﴿توكلنا﴾ أي فعلنا في جميع أمورنا معك فعل من يحملها على قوى ليكفيه أمرها لأنا نعلم أنك تكفي إذا شئت كل ملم، وأنه لا يذل من والتي ولا يعز من عاديت وقد عادينا فيك قوماً عتاة أقوياء ونحن ضعفاء، ورضينا بكل ما يحصل لنا منهم غير أن عافيتك هي أوسع لنا.
ولما كان الذي ينبغي لكل أحد وإن كان محسناً أن يعد نفسه مقصراً شارداً عن ربه لأنه لعظم جلاله لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره، وأن يعزم على الاجتهاد في العبادة قالوا مخبرين بذلك عادين ذلك العزم رجوعاً: ﴿وإليك﴾ أي وحدك لا إلى غيرك ﴿أنبنا﴾ أي رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا. ولما كان المعنى تعليلاً: فإنه منك المبدأ، عطف عليه قوله: ﴿وإليك﴾ أي وحدك ﴿المصير *﴾ ولما أخبروا بإسلامهم له سبحانه وعللوه بما اقتضى الإحاطة فاقتضى مجموع ذلك الثناء الأتم، فلزم منه الطلب، صرحوا به فقالوا داعين بإسقاط الأداة للدلالة على غاية قربه سبحانه بما له من الإحاطة: ﴿ربنا﴾ أي أيها المربي لنا والمحسن إلينا ﴿لا تجعلنا﴾ بإضعافنا والتسليط علينا ﴿فتنة﴾
501
أي موضع اختبار ﴿للذين كفروا﴾ بأن يعذبونا بعذاب يميلنا عما نحن عليه ويميلهم عما وصلوا إليه بسبب إسلامنا من الزلازل بما يوجب ذلك لهم من اعتقاد لو أنك كنت راضياً بديننا لكنا على الحق وكانوا هم على الباطل ما أمكنت منا، فيزيدهم ذلك طغياناً ظناً منهم أنهم على الحق وأنا على الباطل.
ولما كان رأس مال المسلم الأعظم الاعتراف بالتقصير وإن بلغ النهاية في المجاهدة فإن الإله في غاية العظمة والبعد في نهاية الضعف، فبلوغه ما يحق له سبحانه لا يمكن بوجه قالوا ﴿واغفر لنا﴾ أي استر ما عجزنا فيه وامح عينه وأثره.
ولما طلبوا منه الحياطة من جميع الجوانب، عللوه زيادة في التضرع والخضوع واستجاز المطلوب مكررين صفة الإحسان زيادة في الترقق والاستعطاف بقولهم: ﴿ربنا﴾ أي المحسن إلينا، وأكدوا إعلاماً بشدة رغبتهم بحسن الثناء عليه سبحانه واعترافاً بأنهم قد يفعلون ما فيه شيء من تقصير فيكون من مثل أفعال من لا يعرفه سبحانه فقالوا: ﴿إنك أنت﴾ أي وحدك لا غيرك ﴿العزيز﴾ الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء ﴿الحكيم *﴾
502
الذي يضع الأشياء في أوفق محالها فلا يستطاع نقضها، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطى من أمله فوق ما طلب.
503
ولما أتم ما حثهم على التأسي فيه بذكر أعظم آبائهم لأن دواعي الإنسان إلى المداراة عما يخاف عليه من أقاربه وآله وجميع أحواله عظيمة جداً إن كان المدارأ عظيماً لا سيما إن كان قد تقدم له صداقة وبه ألفة، فكان جديراً بعد الوعظ والتأسية أن يبقى عنده بقايا ولا سيما والناس متفاوتون، منهم من يرده أيسر وعظ ومنهم من يحتاج إلى أكثر من ذلك أعاد التأسية تأكيداً لها على وجه بلغ الذروة من جمال الترغيب وجلال الترهيب، وليكون فيها أتم دلالة على أن ما بينهما من قول إبراهيم عليه السلام المأمور بالتأسي به من الدعاء وغيره إلا ما استثنى لتشتد الرغبة فيه، فقال مصدراً بما دل على القسم إشارة إلى أن من فعل غير هذا كان فعله فعل منكر لحسن هذا التأسي، ولذلك ذكر الفعل الذي أنثه في الأول: ﴿لقد كان لكم﴾ أي أيها الذين ادعوا الإيمان، وقدم الظرف بياناً للاهتمام به فقال: ﴿فيهم﴾ أي إبراهيم عليه السلام ومن معه ﴿أسوة حسنة﴾ وأبدل من ﴿لكم﴾ ما هو الفيصل في الدلالة على الباطل، فقال مشيراً إلى أن من لم يتأس بهم في هذا لم يكن راجياً لما ذكر: ﴿لمن كان﴾ أي جبل على أنه ﴿يرجوا الله﴾ أي الملك
503
المحيط بجميع صفات الكمال فهو ذو الجلال الذي يجير ولا يجار عليه، والإكرام الذي هو جدير بأن يعطى جميع ما يسأله ﴿واليوم الآخر﴾ الذي يحاسب على، النقير والقطمير، ولا تخفى عليه خافية، فمن لم يتأس بهم كان تركه للتأسي دليلاً على سوء عقيدته، فلا يلومن إلا نفسه، فقد أذن لإمام المسلمين إن عثر عليه في عقوبته، فإن علم الغيب الذي أعلمناه نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن حاطباً رضي الله عنه صحيح العقيدة غير متأهل للعقوبة منقطع بموته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا يبقى إلى ما نصبناه من الشعائر، وأقمناه من الدلائل.
ولما كان التقدير: فمن أقبل على هذا التأسي لكونه يرجو الله واليوم الآخر فلم يخلد إلى الدنيا، يتوله الله فإن الله رحيم ودود، عطف عليه قوله: ﴿ومن يتول﴾ أي يوقع الإعراض عن أوامر الله تعالى في وقت من الأوقات مطلقاً لكونه أخلد إلى الدنيا ولم ير اليوم الآخرة أعرض الله عنه، وأشار بصيغة التفعل إلى أن ذلك لا يقع إلا بمعالجة الفطرة الأولى، وأكد لأن فاعل ذلك كالمنكر لمضمون الكلام فقال: ﴿فإن الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة ﴿هو﴾ أي خاصة
504
﴿الغني﴾ أي عن كل شيء ﴿الحميد *﴾ أي الذي له الحمد المحيط لإحاطته بأوصاف الكمال في حال الطاعة له والمعصية فإن العاصي عبد لإرادته، كما أن المطيع عبد لآمره وإرادته ولطفه، فلا يخرج شيء عن مراده، وكل شيء خاضع لحكمه، وقد بينت الآية أدب العشرة لما ألهبت وهيجت على المفارقة للعصاة والتبرء منهم حساً ومعنى، وإظهار ذلك لهم قولاً وفعلاً، إلى أن تحصل التوبة، ومن لم يفعل ذلك كان شريكاً في الفعل فيكون شريكاً في الجزاء كما ورد، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وجليسه، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض، ولعنهم على ألسنة الأنبياء، ومن فعل ما أمره الله به كان فعله جديراً بأن يكون سبب الوصله والقرب والمودة، فالآية من الاحتباك: ذكر الرجاء أولاً دليلاً على ضده ثانياً، والتولي ثانياً دليلاً على ضده أولاً، وسره أنه ذكر سبب السعادة ترغيباً وسبب الشقاوة ترهيباً.
ولما أتم وعظهم بما هو الأنفع والأقرب إلى صلاحهم ففعلوا، وكان ذلك شاقاً لما جبل عليه البشر من حب ذوي الأرحام والعطف عليهم، فتشوفت النفوس إلى تخفيف بنوع من الأنواع، أتبعه الترجئة فيما قصده حاطب رضي الله عنه بغير الطريق الذي يتوصل به فقال على عادة الملوك في الرمز إلى ما يريدونه فيقنع الموعود به بل يكون ذلك الرمز
505
عنده أعظم من البت من غيرهم لما لهم من العظمة التي تقتضي النزاهة عما يلم بشائبة نقص، وذلك أعظم في الإيمان بالغيب لأن الوعود لا تزال بين خوف ورجاء جواباً لمن كأنه كان يقول: كيف يكون الخلاص من مثل هذه الواقعة وقد بنيت يا رب هذه الدار على حكمة الأسباب: ﴿عسى الله﴾ أي أنتم جديرون بأن تطمعوا في الملك المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿أن يجعل﴾ بأسباب لا تعلمونها ﴿بينكم وبين﴾ أي في جميع الحد الفاصل بين المجموعين أو بين كل شخصين من الجمعين ﴿الذين عاديتم﴾ أي بالمخالفة في الدين ﴿منهم﴾ أي من هؤلاء الذين عادوكم بما تقدم بأعيانهم من أهل مكة ﴿مودة﴾ وقد جعل ذلك عام الفتح تحقيقاً لما رجاه سبحانه، وأجرى سنته الإلهية بأن من عاديته فيه جعل عاقبة ذلك إلى ولاية عظيمة، ومن تهاونت في مقاطعته فيه سبحانه أقامه لك ضداً.
ولما كان التقدير: فالله بكم رفيق، عطف عليه تذكيراً لهم بما له سبحانه من العظمة قوله ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة بالكمال: ﴿قدير﴾ أي بالغ القدرة على كل ما يريده فهو يقدر على تقليب القلوب وتيسير العسير، فلما تم الرجاء لم يبق إلا كدر الذنب
506
فأتبعه تطييباً للقلوب مما نزلت هذه الآيات بسببه قوله: ﴿والله﴾ أي الذي له جميع صفات الكمال ﴿غفور﴾ أي محاء لأعيان الذنوب وآثارها ﴿رحيم *﴾ يكرم الخاطئين إذا أراد بالتوبة ثم بالجزاء غاية الإكرام، قال الرازي في اللوامع: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ استعمل أبا سفيان رضي الله عنه على بعض اليمن، فلما قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أقبل فلقي ذا الحجار مرتداً فقاتله، فكان أول من قاتل على الردة، فتلك المودة بعد المعاداة.
ولما تم الوعظ والتأسية وتطبيب النفوس بالترجئة، وكان وصف الكفار بالإخراج لهم من ديارهم يحتمل أن يكون بالقوة فيعم، ويحتمل أن يكون بالفعل فيخص أهل مكة أو من باشر الأذى الذي تسبب عنه الخروج منهم، بين ذلك بقوله مؤذناً بالإشارة إلى الاقتصاد في الولاية والعداوة كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما. وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما» ﴿لا ينهاكم الله﴾ أي الذي اختص بالجلال والإكرام ﴿عن الذين لم يقاتلوكم﴾ أي بالفعل ﴿في الدين﴾ أي بحيث تكونون مظروفين له ليس شيئاً من أحوالهم خارجاً عنه،
507
فأخرج ذلك القتال بسبب حق دنيوي لا تعلق له بالدين، وأخرج من لم يقاتل أصلاً كخزاعة والنساء، ومن ذلك أهل الذمة بل الإحسان إليهم من محاسن الأخلاق ومعالي الشيم لأنهم جيران.
ولما كان الذين لم يقاتلوا لذلك ربما كانوا قد ساعدوا على الإخراج قال: ﴿ولم يخرجوكم﴾ وقيد بقوله: ﴿من دياركم﴾ ولما كان قد وسع لهم سبحانه بالتعميم في إزالة النهي خص بقوله مبدلاً من «الدين» :﴿أن﴾ أي لا ينهاكم عن أن ﴿تبروهم﴾ بنوع من أنواع البر الظاهرة فإن ذلك غير صريح في قصد المواددة ﴿وتقسطوا﴾ أي تعدلوا العدل الذي هو في غاية الاتزان بأن تزيلوا القسط الذي هو الجور، وبين أن المعنى: موصلين لذلك الإقساط ﴿إليهم﴾ إشارة إلى أن فعل الإقساط ﴿إليهم﴾ إشارة إلى أن فعل الإقساط ضمن الاتصال، وإلى أن ذلك لا يضرهم وإن تكفلوا الإرسال إليهم من البعد بما أذن لهم فيه فإن ذلك من الرفق والله يحب الرفق في جميع الأمور ويعطي عليه ما لا يعطي على الخرق، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً دفعاً لظن من يرى أذى الكفار بكل طريق، ﴿إن الله﴾ أي الذي له الكمال كله ﴿يحب﴾ أي يفعل المحب مع ﴿المقسطين *﴾ أي الذين يزيلون الجور ويوقعون العدل.
508
ولما علم الحال من هذا وما في أول السورة، أتبعه التصريح بما
508
أفاده مجموعاً أحسن جمع مصوراً أحسن تصوير فقال تعالى: ﴿إنما ينهاكم الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة ﴿عن الذين قاتلوكم﴾ متعمدين لقتالكم كائنين ﴿في الدين﴾ ليس شيء من ذلك خارجاً عنه، لتكون العداوة في الله ﴿وأخرجوكم من دياركم﴾ أي بأنفسهم لبغضكم ﴿وظاهروا﴾ أي عاونوا غيرهم ﴿على إخراجكم﴾ ولما تناول هذا المقصودين صريحاً، وكان النهي الذي موضعه الأفعال قد علق بأعيانهم تأكيداً له، عرف بالمقصود بقوله: ﴿أن﴾ أي إنما ينهاكم عن المذكورين في أن ﴿تولوهم﴾ أي تكلفوا فطركم الأولى أن تفعلوا معهم جميع ما يفعله القريب الحميم الشفيق فتصرحوا بأنهم أولياؤكم وتناصروهم ولو كان ذلك على أدنى الوجوه - بما أشار إليه إسقاط التاء.
ولما كان التقدير: فمن أطاع فأولئك هم المفلحون، عطف عليه قوله: ﴿ومن يتولّهم﴾ أي يكلف نفسه الحمل على غير ما يدعو إليه الفطرة الأولى من المنابذة، وأطلق ولم يقيد ب «منكم» ليعم المهاجرين وغيرهم والمؤمنين وغيرهم: ﴿فأولئك﴾ أي الذين أبعدوا عن العدل ﴿هم﴾ أي خاصة لا غيرهم العريقون في أنهم ﴿الظالمون *﴾ أي العريقون في إيقاع الأشياء في غير مواضعها كمن يمشي في مأخذ الاشتقاق بسبب هذا التولي.
509
ولما كان نزول هذه الآيات الماضية في الفتح الأعظم حين قصد النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سنة ثمان المسير بجنود الله إلى مكة المشرفة - شرفها الله تعالى - لدخولها عليهم بالسيف حين نقضوا بقتالهم لخزاعة الذي كانوا قد تحيزوا إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فكانوا في عقده وعهده في صلح الحديبية الذي كان سنة ست على وضع الحرب بينهم وبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن دخل في عقده، وكان من ذلك الصلح أن من جاء إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قريش ومن دخل في صلحهم رده إليهم وإن كان مسلماً، ومن جاءهم من كان مع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يردوه إليه بحيث قام من ذلك وقعد كثير من الصحابة رضي الله عنه من أعظمهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه حتى سكنه الصديق رضي الله تعالى عنه بما وقر في صدره من الحكم، ورد إليهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبا بصير رضي الله عنه، وكان رده إليهم للوفاء بالعهد بسبب التصديق لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «أما من جاءنا منهم فرددناه إليهم فسيجعل الله له فرجاً ومخرجاً» وقصته في ذلك كله مشهورة، وكانت «من» من صيغ العموم، وكانت دلالة العام قطعية في الحكم على الأفراد ظنية - كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه - في الدلالة على الجزئي من تلك الأفراد بخصوصه حيث لا قرينة
510
لأن تلك الصيغ ترد تارة على عمومها وتارة يراد بها بعض الأفراد فتكون من العام الذي أريد به الخصوص، وتارة يقع فيها التخصيص، فتكون من العام الذي أريد به الخصوص فطرقها الاحتمال فاحتاج ما دلت عليه من الظاهر إلى قرينة، وكان دخول النساء تحت لفظ «من» في صلح الحديبية أما عرباً عن القرينة أو أن القرينة القتال الذي وقع الصلح عليه بسببه صارفة عنه، وكذا قرينة التعبير عنهن ب «ما» دون «من» في كثير من الكتاب العزيز
﴿فانكحوا ما طاب لكم من النساء﴾ [النساء: ٣] ﴿أو ما ملكت أيمانكم﴾ [النساء: ٣] ﴿ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء﴾ [النساء: ٢٢] ﴿والمحصنات من النساء إلا ما ملكت أيمانكم﴾ [النساء: ٢٤] ﴿وأحل لكم ما وراء ذلكم﴾ [النساء: ٢٤] ﴿فما استمتعتم به منهن﴾ [النساء: ٢٤]، ﴿فما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات﴾ [النساء: ٢٥] ﴿إلا على أزواجكم أو ما ملكت أيمانهم﴾ [المؤمنون: ٦]، وكان قد ختم سبحانه هذه الآيات التي أدب بها في غزوة الفتح بما أبان به ما لا يخرج عن الصلح في عمرة الحديبية مما هو أقرب إلى الخير من البر والعدل، ونهى عن تولي الكفار، فكانت المصاهرة والمناكحة من أعظم التولي، وصل بذلك ما لا يخرج عنه ولا يحل بالعهد في أن من جاء من الكفار إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رده إليهم وإن كان مسلماً، فقال مخاطباً لأدنى أسنان أهل الإيمان الذين
511
يحتاجون إلى التفهيم، وأما من هو أعلى منهم فهو عالم بذلك مؤتمر به بما آتاه الله من الفهم وأنار به قلبه الشريف من فنون العلم ليكوفوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدمات البيعة منه لهن: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ أي أقروا بالإيمان - وهو إيقاع الأمان من التكذيب - لمن يخبرهم ما ينبغي التصديق به بسبب تصديقهم بالله سبحانه وتعالى.
ولما كان في علمه سبحانه وتعالى أنه يأتيهم نساء يهربن بدينهن إلى الله، بشرهم بذلك بالتعبير بأداة التحقيق فقال: ﴿إذا﴾ أي صدقوا ما ادعيتموه من الإيمان بأنه في أي زمان ﴿جاءكم﴾ ولما كان لا يهجر داره وعشيرته لا سيما إن كانوا أقارب بسبب كفرهم إلا من رسخ في الإيمان ذكراً كان أو أنثى قال: ﴿المؤمنات﴾ أي النساء اللاتي صار وصف الإيمان لهن صفة راسخة بدلالة الهجرة عليه: ﴿مهاجرات﴾ للكفار ولأرضهم ﴿فامتحنوهن﴾ أي اختبروهن تأكيداً لما دلت عليه الهجرة من الإيمان بالتحليف بأنهن ما خرجن لحدث أحدثته ولا بغضاً في زوج ولا رغبة في عشير ولا خرجن إلا حباً لله ورسوله ورغبة في دين الإسلام، قال الإمام شهاب الدين ابن النقيب في الهداية من مختصره للكفاية لفقيه المذهب نجم الدين أحمد بن الرفعة في شرح التنبيه:
512
واختلف قول الشافعي رحمه الله تعالى: هل كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شرط لقريش في الصلح رد النساء ففي قول: لم يشترطه بل أطلق رد من جاءه فتوهموا تناول النساء، وكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عالماً بعدم دخولهن، فأطلق ذلك حذيفة يعني ومن شرعه أن الحرب خدعة، وفي قوله: شملهن الشرط، لكن هل شرطه صريحاً أم دخلن في الإطلاق فيه وجهان أظهرهما الثاني، وهل كان شرطهن جائزاً فيه وجهان: أحدهما نعم ثم نسخ، وهل ناسخه الآية المذكورة أم منع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الرد فيه وجهان مبنيان على أنه هل يجوز نسخ السنة بالقرآن وفيه قولان للشافعي رحمه الله تعالى، ومختاره منهما المنع وهو الجديد، وكذا لا يجوز عنده وعند أصحابه نسخ الكتاب بالسنة وإن كانت متواترة - انتهى.
ومعناه أنه لم يقع فإن وقع نسخها بالقرآن كان معه سنة، وإن وقع نسخه بالسنة كان معها قرآن، وهو معنى قول ابن السبكي في جمع الجوامع: قال الشافعي رضي الله عنه: وحيث وقع بالسنة فمعها قرآن أو بالقرآن فمعه سنة عاضدة تبين توافق الكتاب والسنة.
ولما كان الاختبار ربما دل إيمانهن لا يعلم إلا به، نفى ذلك بقوله مستأنفاً في جواب من يقول: أليس الله بعالم بذلك، ومفيداً أن علمكم
513
الذي تصلون إليه بالامتحان ليس بعلم، وإنما سماه به إيذاناً بأن الظن الغالب في حقكم بالاجتهاد والقياس قائم مقام العلم يخرج من عنده ﴿ولا تقف ما ليس لك به علم﴾ [الإسراء: ٣٦] :﴿الله﴾ المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿أعلم﴾ أي منكم ومنهن بأنفسهن ﴿بإيمانهن﴾ هل هو كائن أو لا على وجه الرسوخ أو لا، فإنه محيط بما غاب كإحاطته بما شهد، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك ستراً للناس ولئلا تكون شهادته لأحد بالإيمان والكفران موصلة إلى عين اليقين فيخرج عن مبنى هذه الدار، قال القشيري: وفي الجملة الامتحان طريق إلى المعرفة، وجواهر النفس تتبين بالتجربة، ومن أقدم على شيء من غير تجربة يجني كأس الندم، قال: ﴿فإن علمتموهن﴾ أي العلم المتمكن لكم وهو الظن المؤكد بالأمارات الظاهرة بالحلف وغيره ﴿مؤمنات﴾ أي مخلصات في الهجرة لأجل الإيمان، والتعبير بذلك لإيذان بمزيد الاحتياط.
ولما ذكر هذا الامتحان بين أنه علة لحمايتهن والدفع عنهن فأتبعه مسببه فقال: ﴿فلا ترجعوهن﴾ أي بوجه من الوجوه ﴿إلى الكفار﴾ وإن كانوا أزواجاً، ومن الدليل على أن هذا ظاهر في المراد وأن القرائن موضحة له أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما أبى أن يرد إليهم من جاءه من النساء لم يعب أحد من الكفار ذلك، ولا نسب
514
إلى عهده صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وحاشاه - خللاً، ولولا أن ذلك كذلك لملؤوا الأرض تشغيباً كما فعلوا في سرية عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى نخله التي نزل بسببها
﴿يسألونك عن الشهر الحرام﴾ [البقرة: ٢١٧] الآيات على أن الأخبار الصحيحة وغيرها ناطقة بأن هذه الآية نزلت في الحديبية قبل أن ينفصل الأمر غاية الانفصال ويستقر، روى البخاري في المغازي من صحيحه والبغوي من طريقه وهذا لفظه من المروان والمسور بن مخرمة عن أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا: كاتب سهيل بن عمرو فكان ما اشترط على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه لا يأتيك أحد منا وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، فكاتبه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك، فرد يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهل بن عمرو، ولم يأته أحد من الرجال إلا رده في تلك المدة وإن كان مسلماً، وجاءت المؤمنات مهاجرات، وكانت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط ممن خرج إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو عاتق فجاء أهلها إلى المدينة يسألون النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يرجعها إليهم فلم يرجعها إليهم كما أنزل الله فيهن ﴿إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن﴾ وقال البغوي: قال ابن عباس رضي الله عنهما: أقبل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معتمراً
515
حتى إذا كان بالحديبية صالحه مشركو مكة على أن من أتاه من أهل مكة رده إليهم فجاءت سبيعة بنت الحارث مسلمة بعد الفراغ من الكتاب، فأقبل زوجها، وكان كافر، فقال: يا محمد! اردد عليّ امرأتي فإنك قد شرطت أن ترد علينا من أتاك منا، وهذه طينة الكتاب لم تجف، فأنزل الله تعالى ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن﴾ وقال ابن عباس رضي الله عنهما: امتحانها أن تستحلف أنها ما هاجرت لبغض زوج ولا عشقاً لرجل من المسلمين ولا رغبة عن أرض ولا لحدث أحدثته ولا التماس الدنيا وما خرجت إلا رغبة في الإسلام وحباً لله ورسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فاستحلفها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك فحلفت فلم يردها وأعطى زوجها ما أنفق عليها، فزوجها عمر رضي الله عنه، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يرد من جاءه من الرجال ويحبس من جاءه من النساء بعد الامتحان، ويعطي أزواجهن مهورهن، ودعوى النسخ ليست بشيء إلا تؤول بأنه لما كان من العالم الذي أريد به الخصوص أن بعض ما تناوله ظاهر اللفظ من الحكم مرفوع، وذلك بأن الله لا يأمر بإخلاف الوعد فكيف بنقض العهد. ولما نهى عن رد المهاجرات
516
إلى المشركين وعبر بالكفار تعميماً، علل ذلك بقوله مقدماً حكمهن تشريفاً لهن لهجرتهن: ﴿لا هن﴾ أي الأزواج ﴿حل﴾ أي موضع حل ثابت ﴿لهم﴾ أي للكفار باستمتاع ولا غيره. ولما كان نفي الحل الثابت غير مانع من تجدد حل الرجال لهن ولو على تقدير من التقادير وفرض من الفروض، قال معيداً لذلك ومؤكداً لقطع العلاقة من كل جانب: ﴿ولا هم﴾ أي رجال الكفار ﴿يحلون﴾ أي يتجدد في وقت من الأوقات أن يحلوا ﴿لهن﴾ أي للمؤمنات حتى لو تصور أن يكون رجالهن نساء وهن ذكوراً ما حلوا لهن بخلاف أهل الكتاب، كذا تنفك الملازمة في مسألة المظاهرة والإيلاء فيحل للمرأة أن تستمتع به إذا كان نائماً مثلاً، وأما هو فيحرم عليه ذلك قبل التكفير، وقال البيضاوي: الأولى لحصول الفرقة، والثانية للمنع من الاستئناف - انتهى، فنفت هذه الجملة الفعلية من وجه تجدد الحل للنساء فأفهمت الجملتان عدم الحرج فيما كان قبل ذلك تطييباً لقلوب المؤمنات.
ولما نهى عن الرد وعلله، أمر بما قدم من الإقساط إليهم
517
فقال: ﴿وآتوهم﴾ أي الأزواج ﴿ما أنفقوا﴾ أي عليهن من المهور فإن المهر في نظير أصل العشرة ودوامها وقد فوتتها المهاجرة فلا يجمع عليه خسران الزوجية والمالية، وأما الكسوة والنفقة فإنها لما يتجدد من الزمان.
ولما جزم بتأييد منعهن عن الكفار، أباحهن للمسلمين فقال على وجه الرفق واللطف: ﴿ولا جناح﴾ أي ميل وحرج ﴿عليكم﴾ أيها المشرفون بالخطاب ﴿أن تنكحوهن﴾ أي تجددوا زواجكم بهن بعد الاستبراء وإن كان أزواجهن من الكفار لم يطلقوهن لزوال العلق منهم عنهن ولأن الإسلام فرق بينهم فإنه لن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً. ولما كان قد أمر برد مهور الكفار، فكان ربما ظن أنه مغن عن تجديد مهر لهن إذا نكحهن المسلم نفى ذلك بقوله: ﴿إذا آتيتموهن﴾ أي لأجل النكاح ﴿أجورهن﴾ ولما قطع ما بين الكفار والمسلمات مع الإعراض عن الكفار لعصيانهم قطع ما بين المؤمنين والكافرات مع الإقبال عليهم لطاعتهم رفعاً لشأنهم فقال: ﴿ولا﴾ ولما كان إمساك المرأة مع عداوتها لمخالفتها في الدين دليلاً على غاية الرغبة فيها، دل على ذلك إشارة إلى التوبيخ بالتضعيف في قراءة البصريين
518
فقال: ﴿تمسكوا﴾ أي بعدم التصريح في الطلاق ﴿بعصم الكوافر﴾ جمع عصمة وهي ما يديم علقة النكاح ﴿واسألوا﴾ أي أيها المؤمنون الذين هبت أزواجهم إلى الكفار ﴿ما أنفقتم﴾ أي من مهور نسائكم اللاتي اعتصمن عنكم بهم أو فررن إليهم. ولما أمر برد مهور المؤمنين إلى الكفار وأذن للمؤمنين في المطالبة بمهور أزواجهم، أذن للكفار في مثل ذلك إيقاعاً للقسط بين عباده مسلمهم وكافرهم معبراً بالأمر مع الغيبة إعراضاً عنهم إعلاماً بشدة كراهته سبحانه للظلم وأنه يستوي فيه الكافر مع عداوته بالمؤمن مع ولايته: ﴿وليسألوا﴾ أي الكفار ﴿ما أنفقوا﴾ أي من مهور أزواجهم اللاتي أسلمن واعتصمن بكم عنهم، وهل هذا الحكم باق، قال قوم: نعم، وقال عطاء ومجاهد وقتادة: نسخ فلا يعطي الكفار شيئاً ولو شرطنا الإعطاء.
ولما كان هذا حكماً عدلاً لا يفعله مع عدوه ووليه إلا حكيم، قال مشيراً إلى مدحه ترغيباً فيه بميم الجمع إلى العموم: ﴿ذلكم﴾ أي الحكم الذي ذكر في هذه الآيات البعيدة بعلو الرتبة عن كل سفه ﴿حكم الله﴾ أي الملك الذي له صفات الكمال، فلا ينبغي لشائبة نقص أن يلحقه.
519
ولما كان هذا مما يفرح به ويغنم عند تقدير فواته، قال مستأنفاً مبشراً بإدامة تجديد أمثاله لهم: ﴿يحكم﴾ أي الله أو حكمه على سبيل المبالغة، ودل على استغراق الحكم لجميع ما يعرض بين العباد وأنه سبحانه لم يهمل شيئاً منه بإعراء الجار من قوله: ﴿بينكم﴾ أي في هذا الوقت وفي غيره على هذا المنهاج البديع، وذلك لأجل الهدنة التي وقعت بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينهم، وأما قبل الحديبية فكان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمسك النساء ولا يرد الصداق.
ولما كان التقدير: فالله حكم عدل، قال: ﴿والله﴾ أي الذي له الإحاطة التامة ﴿عليم﴾ أي بالغ العلم لا يخفى عليه شيء ﴿حكيم *﴾ أي فهو لتمام علمه يحكم كل أموره غاية الإحكام فلا يستطيع أحد نقض شيء منها.
520
ولما كان المظنون بالكفار عدم العدل فلا يعطون المؤمنين مهور نسائهم الكافرات، قال مداوياً لذلك الداء: ﴿وإن فاتكم﴾ أي بالانفلات منكم بعد الهجرة أو بإدامة الإقامة في بلاد الحرب ﴿شيء﴾ أي قل أو كثر ﴿من أزواجكم﴾ أي من أنفسهن أو مهورهن ﴿إلى﴾ أي متحيزاً أو واصلاً إلى ﴿الكفار﴾ فعجزتم عنه ﴿فعاقبتم﴾ أي تمكنتم من المعاقبة بأن فات الكفار شيء من أزواجهم بالهجرة إليكم أو اغتنمتم
520
من أزواج الكفار فجاءت نوبة ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلاً عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم عصياناً وظلماً ﴿فآتوا﴾ أي فاحضروا وأعطوا من مهر المهاجرة ﴿الذين ذهبت أزواجهم﴾ أي منكم إن اختاروا الأخذ ﴿مثل ما أنفقوا﴾ على الكافرة الفائتة إلى الكفار مما غنمتم من أموالهم أو بأن تدفعوا إليهم مثل مهر أزواجهم مما كنتم تعطونه لأزواج المهاجرات، فيكون ذلك جزاء وقصاصاً لما فعل الكفار.
ولما كان التجزي في مثل ذلك عسراً على النفس فإن المهور تتفاوت تارة وتتساوى تارة أخرى وتارة تكون نقوداً وتارة تكون عروضاً إلى غير ذلك من الأحوال مع أن المعامل عدو في الدين فلا يحمل على العدل فيه إلا خالص التقوى قال: ﴿واتقوا﴾ أي في الإعطاء والمنع وغير ذلك ﴿الله﴾ الذي له صفات الكمال وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون، ثم وصفه بما يؤكد صعوبة الأمر ويحث على العدل فقال ملهباً لهم كل الإلهاب هازاً لهم بالوصف بالرسوخ في الإيمان:
521
﴿الذي أنتم به﴾ أي خاصة ﴿مؤمنون *﴾ أي متمكنون في رتبة الإيمان.
ولما خاطب سبحانه المؤمنين الذي لهم موضع الذب والحماية والنصرة بما وطن به المؤمنات في دار الهجرة فوقع الامتحان وعرف الإيمان، أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد الحكم بإيمانهن بمبايعتهن فقال ﴿يا أيها النبي﴾ مخاطباً له بالوصف المقتضي للعلم، ودل على تحقق كون ما يخبر به من مجيئهن بأداة التحقيق علماً من أعلام النبوة فقال: ﴿إذا جاءك المؤمنات﴾ جعل إقبالهن عليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا سيما مع الهجرة مصححاً لإطلاق الوصف عليهن ﴿يبايعنك﴾ أي كل واحدة منهن تبايع ﴿على أن لا يشركن﴾ أي يوقعن الإشراك لأحد من الموجودات في وقت من الأوقات ﴿بالله﴾ أي الملك الذي لا كفوء له ﴿شيئاً﴾ أي من إشراك على الإطلاق.
ولما كان الشرك بذل حق الملك لمن لا يستحقه، أتبعه أخذ مال المالك بغير حق لاقتضاء الحال لذلك بتمكن المرأة من اختلاس مال الزوج وعسر تحفظه منها فقال: ﴿ولا يسرقن﴾ أي يأخذن مال الغير بغير استحقاق في خفية، وأتبع ذلك بذل حق الغير لغير أهله فقال: ﴿ولا يزنين﴾ أي يمكن أحداً من وطئهن بغير عقد صحيح.
ولما كان الزنى قد يكون سبباً في إيجاد أو إعدام نسمة بغير حقها، أتبعه إعدام
522
نسمة بغير حقه فقال: ﴿ولا يقتلن أولادهن﴾ أي بالوأد كما تقدم في النحل وساء في ذلك كونه من زنى أو لا.
ولما ذكر إعدام نسمة بغير حق ولا وجه شرعي أتبعه ما يشمل إيجاد نسمة بغير حل، فقال مقبحاً له على سبيل الكناية عنه بالبهتان وما معه بالتصوير له بلوازمه وآثاره لأن استحضار القبيح وتصوير صورته أزجر عنه فقال: ﴿ولا يأتين ببهتان﴾ أي ولد من غير الزوج يبهت من الحاقة به حيرة في نفيه عنه ﴿يفترينه﴾ أي يتعمدن كذبه، وحقق المراد به وصوره بقوله: ﴿بين أيديهن﴾ أي بالحمل في البطون ﴿وأرجلهن﴾ أي بالوضع من الفروج ولأن عادة الولد مع أنه يسقط بين أيدي أنه ورجليها أنه يمشي أمامها، وهذا شامل لما كان من شبهة أو لقطة. ولما حقق هذه الكبائر العظيمة تعظيماً لأمرها لعسر الاحتراز منها، وأكد النهي عن الزنى مطابقة وإلزاماً لما يجر إليه من الشرور القتل فما دونه، وغلظ أمر النسب لما يتفرع عليه من إيقاع الشبهات
523
وانتهاك الحرمات، عم في النهي فقال: ﴿ولا يعصينك﴾ أي على حال من الأحوال ﴿في معروف﴾ أي فرد كان منه صغيراً كان أو كبيراً، وفي ذكره مع العلم بأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يأمر إلا به إشعار بأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وقدم المنهيات على المأمورات المستفادة من المعروف لأن التخلي عن الرذائل مقدم على التخلي بالفضائل لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح: ﴿فبايعهن﴾ أي التزم لهن بما وعدت على ذلك من إعطاء الثواب لمن وفت منهن في نظير ما ألزمن أنفسهن من الطاعة. ولما كان الإنسان محل النقصان لا سيما النسوان رجاهن سبحانه بقوله: ﴿واستغفر﴾ أي اسأل ﴿لهن الله﴾ أي الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في الغفران إن وقع منهن تقصير وهو واقع لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق قدره.
ولما كانت عظمته سبحانه مانعة لعظيم الهيبة من سؤاله ما طمع به، علله بقوله معيداً الاسم الأعظم لئلا يظن بإضماره وتقيده بحيثية الهجرة من النساء ونحو ذلك مؤكداً لما طبع الأدمي عليه من أنه لا يكاد يترك المسيء من عقاب أو عتاب فضلاً عن التفضيل بزيادة الإكرام: ﴿إن الله﴾ أي الذي له صفات الجلال والإكرام فلو أن الناس لا يذنبون
524
لجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم لتظهر صفة إكرامه ﴿غفور﴾ أي بالغ الستر للذنوب عيناً وأثراً ﴿رحيم *﴾ أي بالغ الإكرام بعد الغفران فضلاً منه وإحساناً، وقد حقق سبحانه ذلك وصدق، ومن أصدق من الله قيلاً، «فأقبل النساء للبيعة عامة ثاني يوم الفتح على الصفا بعد فراغه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من بيعة الرجال فنزلت هذه الآية وهو على الصفا فقام عمر بن الخطاب رضي الله أسفل منه يبايعهن بأمره ويبلغهن عنه وهند بنت عتبة متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرفها، فلما ذكر الشرك قالت: والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيناك أخذته على الرجال، وبايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد، فقال ﴿ولا يسرقن﴾ فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح وإني أصيب من ماله هنات فلا أدري أيحل لي أم لا؟ فقال أبو سفيان: ما أصبت من شيء فيما مضى وفيما غير فهو لك حلال، فضحك رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعرفها فقال: وإنك لهند بنت عتبة، قالت: نعم، فاعف عني ما سلف عفا الله عنك، فقال: ﴿ولا يزنين﴾ فقال: أو تزني الحرة، فقال ﴿ولا يقتلن أولادهن﴾ فقالت: ربيناهم صغاراً وقتلتموهم كباراً وأنتم وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان
525
قتل يوم بدر فضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى وتبسم رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذكر البهتان وهو أن تقذف ولداً على زوجها ليس منه، قالت هند: والله إن البهتان لقبيح وما تدعونا إلا إلى الرشد ومكارم الأخلاق، فقال ﴿ولا يعصينك في معروف﴾ فقالت: ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء، وما مست يد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يد امرأة لا تحل له، وكانت أسماء بنت يزيد بن السكن في المبايعات فقالت: يا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ابسط يدك نبايعك، فقال: إني لا أصافح النساء لكن آخذ عليهن»
، وعن الشعبي «أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه ثم غمسن أيديهن فيه، وعنه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لقنهن في المبايعة» فيما استطعتن وأطقتن «فقالت: الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا».
ولما ذكر ما أمر به نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المبايعات بعد أن عد الذين آمنوا أصلاً في امتحان المهاجرات فعلم من ذلك أن تولي النساء مع أنه لا ضرر فيهن بقتال ونحوه لا يسوغ إلا بعد العلم بإيمانهن، وكان الختم بضفتي الغفران والرحمة مما جرأه على محاباة المؤمنين لبعض الكفار من أزواج أو غيرهم لقرابة أو غيرها لعلة يبديها الزوج أو غير لك من الأمور، كرر سبحانه الأمر بالبراءة من كل عدو، رداً لآخر السورة على أولها تأكيداً للإعراض عنهم وتنفيراً
526
من توليهم كما أفهمته آية المبايعة وآية الامتحان، فقال ملذذاً لهم بالإقبال بالخطاب كما فعل أولها بلذيذ العتاب: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾.
ولما كان الميل عن الطريق الأقوام على خلاف ما تأمر به الفطرة الأولى فلا يكون إلا عن معالجتها، عبر بالتفعل كما عبر به أول السورة بالافتعال فقال: ﴿لا تتولوا﴾ أي تعالجوا أنفسكم أن تتولوا ﴿قوماً﴾ أي ناساً لهم قوة على ما يحاولونه فغيرهم من باب الأولى ﴿غضب الله﴾ أي أوقع الملك الأعلى الغضب ﴿عليهم﴾ لإقبالهم على ما أحاط بهم من الخطايا فهو عام في كل من اتصف بذلك يتناول اليهود تناولاً أولياً.
ولما كان السامع لهذا يتوقع بيان سبب الغضب، قال معللاً ومبيناً أنه لا خير فيهم يرجى وإن ظهر خلاف ذلك: ﴿قد يئسوا﴾ أي تحققوا عدم الرجاء ﴿من الآخرة﴾ أي من أن ينالهم منها خير ما لإحاطة معاصيهم بهم أو لعدم اعتقادهم لقيامها ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فيوشك من والاهم يكتب منهم فيحل بهم الغضب ﴿كما يئس﴾ من نيل الخير منها ﴿الكفار﴾ ولما كان من مات فصار أهلاً للدفن كشف له عن أحوال القيامة فعرف أنه ناج أو هالك، وكان الموتى أعم من الكفار، وموتى الكفار أعم ممن يدفن منهم فقال:
527
﴿من أصحاب القبور *﴾ فإن الكفار منهم قد علموا يأسهم من حصول الخير منها علماً قطعياً، ويجوز أن يكون ﴿من﴾ ابتدائية فيكون المعنى: كما يئس عباد الأوثان من لقاء من مات، فدفن باعتقاد أنه لا اجتماع بينهم أصلاً لأنه لا يمكن بعثه لا إلى الدنيا ولا إلى الآخرة لأنه لا آخرة عندهم أصلاً لا سيما إن كان مدفوناً في قبر، وعلى هذا يكون الظاهر وضع موضع المضمر للدلالة على أن الذي أيأسهم تغطية الدلائل مع وضوحها لو أنصفوا، فلا تتولوا من هذه صفته فيكون بينكم وبينه ما بين القريب مع قريبه من تولى كل منهم من الآخر ما يتولاه القريب الصديق لقريبه فإن توليهم ضرر لا نفع فيه فإن من غضب عليه الملك الشهيد لكل حركاته وسكناته لا يفلح هو ولا من تولاه، وأقل ما في ولايته من الضرر أنها تنقطع المعاونة فيها، والمشاركة بالموت وإن كان بعد الموت مشاركة ففي العذاب الدائم المستمر الذي لا ينقطع عنهم والخزي اللازم، وقد علم أن هذا الآخر هو أولها، وهذا الموصل مفصلها، فسبحانه من أنزله كتاباً معجزاً حكيماً، وقرآناً موجزاً جامعاً عظيماً.
528
سورة الصف وتسمى الحواريين.
مقصودها الحث على الاجتهاد التام في الاجتماع على قلب واحد في جهاد من دعت الممتحنة إلى البراءة منهم، بحملهم على الدين الحق، أو محقهم عن جديد الأرض أقصى المحق، تنزيها للملك الأعلى عن الشرك، وصيانة لجنابه الأقدس عن الإفك، ودلالة على الصدق في البراءة منهم والعداوة لهم، فهي نتيجة سورة التوبة، وأدل عما فيها على هذا المقصد الصف بتأمل آيته، وتدبر ما له من جليل النفع في أوله وأثنائه وغايته، وكذا الحواريون) بسم الله (الملك الأعظم الذي له الأمر كله لأنه لا كفوء له،) الرحمن (الذي عم بنعمة البيان عما يرضيه ممن شاقه، فقد شرع لكل أحد أن يرده أو يقبله) الرحيم (الذي خص بإتمام الإنعام الموصل إلى دار السلام من شاء من عباده فهيأه لذلك وأهله.
1
Icon