تفسير سورة الممتحنة

السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير .
لمؤلفه الشربيني . المتوفي سنة 977 هـ
مدنية وهي ثلاث عشرة آية وثلاثمائة وثمان وأربعون كلمة وألف وخمسمائة وعشرة أحرف.
﴿ بسم الله ﴾ الذي من تولاه أغناه عمن سواه ﴿ الرحمن ﴾ الذي شمل برحمة البيان من حاطه بالعقل ورعاه ﴿ الرحيم ﴾ الذي خص بالتوفيق من أحبه وارتضاه ونزل في حاطب بن أبي بلتعة.

﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوّي ﴾ أي : وأنتم تدّعون موالاتي ﴿ وعدوّكم ﴾ أي : العريق في عدواتكم ما دمتم على مخالفته في الدين، ﴿ أولياء ﴾ وذلك ما روي «أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي يقال لها : سارة أتت النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة وهو يتجهز للفتح، فقال لها : أمسلمة جئت، قالت : لا، قال : أفمهاجرة جئت، قالت : لا، قال : فما جاء بك، قالت : كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي تعني قتلوا يوم بدر فاحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني، فقال صلى الله عليه وسلم فأين أنت عن شباب أهل مكة وكانت مغنية نائحة قالت : ما طلب مني شيء بعد وقعة بدر، فحث رسول الله صلى الله عليه وسلم بني عبد المطلب على إعطائها، فكسوها وحملوها وزوّدوها فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها برداً، واستحملها كتاباً لأهل مكة نسخته : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، اعلموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، وقد توجه إليكم بجيش كالليل وأقسم بالله لو لم يسر إليكم إلا وحده لأظفره الله تعالى بكم، وأنجز له موعده فيكم فالله وليه وناصره فخرجت سارة، ونزل جبريل عليه السلام بالخبر فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً، وعماراً، وعمر، وطلحة، والزبير، والمقداد، وأبا مرثد، وكانوا فرساناً، وقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإنّ بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها. فأدركوها فجحدت وحلفت ما معها كتاب ففتشوا متاعها فلم يجدوا معها كتاباً فهموا بالرجوع، فقال عليّ : والله ما كذبنا، ولا كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلّ سيفه، وقال : أخرجي الكتاب، وإلا والله لأجردنك ولأضربنّ عنقك، فلما رأت الجدّ أخرجته من عقاص شعرها فخلوا سبيلها ورجعوا بالكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
وروي أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمن جميع الناس يوم الفتح إلا أربعة : هي أحدهم فاستحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم حاطباً، وقال له : هل تعرف هذا الكتاب، قال : نعم، قال : فما حملك عليه، فقال : يا رسول الله ما كفرت منذ أسلمت، ولا غششتك منذ نصحتك، ولا أحببتهم منذ فارقتهم، ولكني كنت أمرأ ملصقاً في قريش، وروى عزيزاً فيهم أي : غريباً ولم أكن من أنفسها، وكل من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون أهاليهم وأموالهم غيري، فخشيت على أهلي فأردت أن أتخذ عندهم يداً، وقد علمت أنّ الله تعالى ينزل عليهم بأسه، وإنّ كتابي لا يغني عنهم شيئاً فصدّقه وقبل عذره، فقال عمر : دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق، فقال :«وما يدريك يا عمر لعلّ الله قد اطلع على أهل بدر فقال لهم : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، ففاضت عينا عمر »، وقال : الله ورسوله أعلم. وإضافة العدوّ إلى الله تعالى تغليظاً في خروجهم، وهذه السورة أصل في النهي عن موالاة الكفار، وتقدّم نظيره في قوله تعالى :﴿ لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء ﴾ [ آل عمران : ٢٨ ] وقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ﴾ [ آل عمران : ١١٨ ] روي أنّ حاطباً لما سمع ﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ غشي عليه من الفرح بخطاب الإيمان.
ثم إنه تعالى استأنف بيان هذا الاتخاذ بقوله تعالى مشيراً إلى غاية الإسراع والمبادرة إلى ذلك بالتعبير بقوله تعالى :﴿ تلقون ﴾ أي : جميع ما هو في حوزتكم مما لا تطمعون فيه إلقاء الشيء الثقيل من علو ﴿ إليهم ﴾ على بعدهم منكم حساً، ومعنى ﴿ بالمودّة ﴾ أي : بسببها قال القرطبي : تلقون إليهم بالمودّة، يعني : بالظاهر لأنّ قلب حاطب كان سليماً بدليل أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال :«أمّا صاحبكم فقد صدق » هذا نص في إسلامه وسلامة فؤاده وخلوص اعتقاده. وقرأ حمزة بضم الهاء، والباقون بكسرها. وقوله تعالى :﴿ وقد كفروا ﴾ أي : غطوا جميع مالكم من الأدلة ﴿ بما ﴾ أي : بسبب ما ﴿ جاءكم من الحق ﴾ أي : الأمر الثابت الكامل في الثبات الذي لا شيء أعظم ثباتاً منه فيه أوجه :
أحدها : الاستئناف.
ثانيها : الحال من فاعل تتخذوا.
ثالثها : الحال من فاعل تلقون، أي : لا تتولوهم ولا توادّوهم، وهذه حالهم. وقوله تعالى :﴿ يخرجون الرسول ﴾ يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون تفسير الكفر هم فلا محل له على هذين، وأن يكون حالاً من فاعل كفروا. وقوله تعالى :﴿ وإياكم ﴾ عطف على الرسول وقدم عليهم تشريفاً له صلى الله عليه وسلم وقوله تعالى :﴿ أن تؤمنوا ﴾ أي : توقعوا حقيقة الإيمان مع التجدّد والاستمرار ﴿ بالله ﴾ أي : الذي اختص بجميع صفات الكمال ﴿ ربكم ﴾ أي : المحسن إليكم تعليل ليخرجون، والمعنى : يخرجون الرسول ويخرجونكم من مكة لأن تؤمنوا بالله، أي : لأجل إيمانكم بالله.
قال ابن عباس : وكان حاطب ممن أخرج مع النبي صلى الله عليه وسلم وفي ذلك تغليب المخاطب والالتفات من التكلم إلى الغيبة للدلالة على ما يوجب الإيمان ﴿ إن كنتم خرجتم ﴾ أي : عن أوطانكم، وقوله تعالى :﴿ جهاداً في سبيلي ﴾ أي : بسبب إرادتكم تسهيل طريقي التي شرعتها لعبادي أن يسلكوها ﴿ وابتغاء مرضاتي ﴾ أي : ولأجل تطلبكم أعظم الرغبة لرضاي علة للخروج، وعمدة للتعليق، وجواب الشرط محذوف دلّ عليه لا تتخذوا. وقرأ الكسائي بالإمالة محضة، والباقون بالفتح. وقوله تعالى :﴿ تسرون ﴾ أي : توجدون جميع ما يدل على مناصحتكم إياهم والتودّد ﴿ إليهم بالمودّة ﴾ أي : بسببها بدل من تلقون قاله ابن عطية. قال ابن عادل : ويشبه أن يكون بدل اشتمال لأنّ إلقاء المودّة يكون سرّاً وجهراً، أو استئناف واقتصر عليه الزمخشري ﴿ وأنا ﴾ أي : والحال أني ﴿ أعلم ﴾ أي : من كل أحد حتى من نفس الفاعل، وقرأ نافع بمدّ الألف بعد النون ﴿ بما أخفيتم وما أعلنتم ﴾ قال ابن عباس : بما أخفيتم قي صدوركم وما أظهرتم بألسنتكم، أي : فأي فائدة لأسراركم إن كنتم تعلمون أني عالم به، وإن كنتم تتوهمون أني لا أعلمه فهي القاصمة ﴿ ومن يفعله ﴾ أي : يوجد أسرار خبر إليهم ويكاتبهم ﴿ منكم ﴾ أي : في وقت من الأوقات ﴿ فقد ضلّ ﴾ أي : عمي ومال وأخطأ ﴿ سواء السبيل ﴾ أي : قويم الطريق الواسع الموصل إلى القصد قويمه وعدله. قال القرطبي : هذا كله معاتبة لحاطب، وهو يدل على فضله وكرامته ونصيحته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصدق إيمانه فإنّ المعاتبة لا تكون إلا من محب لحبيب، كما قال القائل :
إذا ذهب العتاب فليس ودّ ويبقى الودّ ما بقي العتاب
وقرأ قالون وابن كثير وعاصم بإظهار الدال عند الضاد، والباقون بالإدغام.
﴿ إن يثقفوكم ﴾ أي : يظفروا بكم في وقت من الأوقات ومكان من الأماكن، ﴿ يكونوا لكم أعداء ﴾ أي : ولا ينفعكم إلقاء المودّة إليهم، ﴿ ويبسطون إليكم ﴾ أي : خاصة، وإن كان هناك في ذلك الوقت من غير من قتل أعز الناس عليهم ﴿ أيديهم ﴾ أي : بالضرب أن استطاعوا ﴿ وألسنتهم ﴾ أي : بالشتم مضمومة إلى فعل أيديهم فعل من ضاق صدره بما تجرّع من آخر من الغصص حتى أوجب له غاية السفه ﴿ بالسوء ﴾ أي : بكل ما من شأنه أن يسوء ﴿ وودّوا ﴾ أي : تمنوا قبل هذا ﴿ لو تكفرون ﴾ لأنّ مصيبة الدين أعظم فهو إليها أسرع، لأنّ دأب العدوّ القصد إلى أعظم ضرر يراه لعدوّه، وعبر بما يفهم التمني الذي يكون في المحالات ليكون المعنى أنهم أحبوا ذلك غاية الحب وتمنوه، وفيه بشرى بأنه من قبيل المحال، وقدم الأوّل لأنه أبين في العداوة وإن كان الثاني أنكى.
ولما كانت عداوتهم معروفة، وإنما غطاها محبة القرابات لأنّ الحب للشيء يعمي ويصم فخطأ رأيهم في موالاتهم بما أعلمهم به من حالهم.
فقال تعالى مستأنفاً إعلاماً بأنها خطأ على كل حال :﴿ لن تنفعكم ﴾ بوجه من الوجوه ﴿ أرحامكم ﴾ أي : قراباتكم الحاملة لكم على رحمتكم والعطف عليهم ﴿ ولا أولادكم ﴾ أي : الذين هم أخص أرحامكم إن واليتم أعداء الله تعالى لأجلهم، فينبغي أن لا تعدّوا قربهم منكم بوجه أصلاً، ثم علل ذلك وبينه بقوله تعالى :﴿ يوم القيامة ﴾ أي : القيام الأعظم ﴿ يفصل ﴾ أي : يوقع الفصل، وهو الفرقة العظيمة بانقطاع جميع الأسباب. وقرأ عاصم بفتح الياء وإسكان الفاء وكسر الصاد مخففة، وقرأ ابن عامر بضم الياء وفتح الفاء وفتح الصاد مشددة، وحمزة والكسائي كذلك إلا أنهما يكسران الصاد، والباقون بضم الياء وسكون الفاء ﴿ بينكم ﴾ أي : أيها الناس فيدخل من يشاء من أهل طاعته الجنة، ومن يشاء من أهل معصيته النار فلا ينفع أحد أحداً منكم بشيء من الأشياء، إلا إن كان قد أتى الله تعالى بقلب سليم فيأذّن الله تعالى في إكرامه بذلك ﴿ والله ﴾ أي : الذي له الإحاطة التامّة ﴿ بما تعملون ﴾ أي : من كل عمل في كل وقت ﴿ بصير ﴾ فيجازيكم عليه في الدنيا والآخرة.
ولما نهى تعالى عن موالاة الكفار ذكر قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام، وأنّ من سيرته التبري من الكفار بقوله تعالى :﴿ قد كانت ﴾ أي : وجدت وجوداً تامّاً، وكأنّ تأنيث الفعل إشارة إلى الرضا بها، ولو كانت على أدنى الوجوه ﴿ لكم ﴾ أي : أيها المؤمنون ﴿ أسوة ﴾ أي موضع اقتداء وتأسية في إبراهيم وطريقة مرضية. وقرأ أسوة في الموضعين عاصم بضم الهمزة، والباقون بكسرها ﴿ حسنة ﴾ أي : يرغب فيها ﴿ في إبراهيم ﴾ أي : في قول أبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ﴿ والذين معه ﴾ أي : ممن كان قبله من الأنبياء. قاله القشيري : وممن آمن به في زمانه كابن أخته لوط عليه الصلاة والسلام، وهم قدوة أهل الجهاد والهجرة، وقيل : المراد بمن معه أصحابه من المؤمنين. وقرأ هشام بفتح الهاء وألف بعدها، والباقون بكسر الهاء وبعدها ياء أي : فاقتدوا به إلا في استغفاره لأبيه.
قال القرطبي : الآية نص في الأمر بالاقتداء بإبراهيم عليه الصلاة والسلام في فعله، وذلك يدل على أن شرع من قبلنا شرع لنا فيما أخبر الله ورسوله، وقيل : إنه شرع لنا إذا ورد في شرعنا ما يقرره، وقيل : ليس بشرع لنا مطلقاً وهو الأصح عندنا ﴿ إذ ﴾ أي : حين ﴿ قالوا ﴾ وقد كان من آمن به أقل منكم وأضعف ﴿ لقومهم ﴾ أي : الكفرة وقد كانوا أكثر من عدوّكم وأقوى، وكان لهم فيهم أرحام وقرابات، ولهم فيهم رجاء بالقيام والمحاولات ﴿ إنا برءآؤا ﴾ أي : متبرؤن تبرئة عظيمة ﴿ منكم ﴾ وإن كنتم أقرب الناس إلينا، ولا ناصر لنا منهم غيركم ﴿ ومما تعبدون ﴾ أي : توجدون عبادته في وقت من الأوقات ﴿ من دون الله ﴾ أي : الملك الأعظم ﴿ كفرنا بكم ﴾ أي : جحدناكم وأنكرنا دينكم ﴿ وبدا ﴾ أي : ظهر ظهوراً عظيماً ﴿ بيننا وبينكم العداوة ﴾ وهي المباينة في الأفعال بأن يعدو كل أحد على الآخر ﴿ والبغضاء ﴾ وهي المباينة بالقلوب للبغض العظيم.
ولما كان ذلك قد يكون سريع الزوال قالوا :﴿ أبداً ﴾ أي : على الدوام. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو في الوصل بإبدال الهمزة الثانية المفتوحة بعد المضمومة واواً خالصة، والباقون بتحقيقها وهم على مراتبهم في المدّ، وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة ألفاً مع المدّ والتوسط والقصر، ولهما أيضاً التسهيل مع المدّ والقصر والروم معهما. ولما كان ذلك مؤيساً من صلاح الحال، وقد يكون لحظ النفس بينوا غايته بقولهم :﴿ حتى تؤمنوا بالله ﴾ أي : الملك الذي له الكمال كله ﴿ وحده ﴾ أي : تكونوا مكذبين بكل ما يعبد من دون الله تعالى، وقوله تعالى :﴿ إلا قول إبراهيم لأبيه ﴾ فيه أوجه :
أحدها : إنه استثناء متصل من قوله تعالى في إبراهيم، ولكن لا بدّ من حذف مضاف ليصح الكلام، تقديره في مقالات إبراهيم : إلا قوله كيت وكيت.
ثانيها : إنه مستثنى من أسوة حسنة، واقتصر على ذلك الجلال المحلي، وجاز ذلك لأنّ القول أيضاً من جملة الأسوة، لأنّ الأسوة الاقتداء بالشخص في أقواله وأفعاله فكأنه قيل لكم فيه أسوة في جميع أحواله من قول وفعل إلا قوله كذا، وهو أوضح لأنه غير محوج إلى تقدير مضاف، وغير مخرج للاستثناء من الاتصال الذي هو أصله إلى الانقطاع، ولذلك لم يذكر الزمخشري غيره.
ثالثها : قال ابن عطية : ويحتمل أن يكون الاستثناء من التبري والقطيعة التي ذكرت، أي : لم تبق صلة إلا كذا.
رابعها : إنه استثناء منقطع، أي : لكن قول إبراهيم وهذا بناء من قائله على أنّ القول لم يندرج تحت قوله أسوة، وهو ممنوع. قال القرطبي : معنى قوله تعالى إلا قول إبراهيم لأبيه ﴿ لأستغفرنّ لك ﴾ أي : فلا تتأسوا به في الاستغفار فتستغفروا للمشركين فإنه كان عن موعدة منه له، قاله قتادة ومجاهد وغيرهما. وقيل : معنى الاستثناء أن إبراهيم هجر قومه وباعدهم إلا في الاستغفار لأبيه، ثم بين عذره في سورة التوبة، وفي هذا دلالة على تفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء، لأنا حين أمرنا بالاقتداء به أمرنا أمراً مطلقاً في قوله تعالى :﴿ وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا ﴾ [ الحشر : ٧ ] وحين أمرنا بالاقتداء بإبراهيم استثنى بعض أفعاله، وهذا إنما جرى لأنه ظنّ أنه أسلم فلما بان أنه لم يسلم تبرّأ منه، وعلى هذا فيجوز الاستغفار لمن يظنّ أنه أسلم، وأنتم لم تجدوا مثل هذا الظنّ فلم توالونهم. وقوله ﴿ وما أملك لك من الله ﴾ أي : من عذاب أو ثواب الملك إلا على المحيط بنعوت الجلال ﴿ من شيء ﴾ من تمام قوله المستثنى، ولا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أحواله.
وقوله :﴿ ربنا ﴾ أي : أيها المحسن إلينا ﴿ عليك ﴾ أي : لا على غيرك ﴿ توكلنا ﴾ أي : فوّضنا أمرنا إليك يجوز أن يكون من مقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام والذين معه، فهو من جملة الأسوة الحسنة، وفصل بينهما بالاستثناء ويجوز أن يكون منقطعاً عما قبله على إضمار قول، وهو تعليم من الله تعالى لعباده كأنه قال لهم قولوا ربنا عليك توكلنا ﴿ وإليك ﴾ أي : وحدك ﴿ أنبنا ﴾ أي : رجعنا بجميع ظواهرنا وبواطننا ﴿ وإليك ﴾ أي وحدك ﴿ المصير ﴾ أي : الرجوع في الآخرة.
﴿ ربنا ﴾ أي : أيها المربي لنا والمحسن إلينا ﴿ لا تجعلنا فتنة للذين كفروا ﴾ أي : بأن تسلطهم علينا فيفتنوننا بعذاب لا نحتمله، أو فيظنوا أنهم على حق فيفتتنوا بذلك. وقيل : لا تعذبنا بعذاب من عندك فيقولون لو كان هؤلاء على الحق لما أصابهم ذلك. وقيل : لا تسلط عليهم الرزق دوننا، فإنّ ذلك فتنة لهم، ﴿ واغفر لنا ﴾ أي : استر ما وقع منا من الذنوب، وامح عينه وأثره ﴿ ربنا ﴾ أي : أيها المحسن إلينا وأكدوا إعلاماً بشدّة رغبتهم في حسن الثناء عليه فقالوا :﴿ إنك أنت ﴾ أي : وحدك لا غيرك ﴿ العزيز ﴾ أي : الذي يغلب كل شيء، ولا يغلبه شيء ﴿ الحكيم ﴾ أي : الذي يضع الأشياء في أوفق محالها فلا يستطاع نقضها، ومن كان كذلك فهو حقيق بأن يعطى من أمله ما طلب.
وقوله تعالى :﴿ لقد كان لكم ﴾ أي : يا أمّة محمد جواب قسم مقدّر ﴿ فيهم ﴾ أي : إبراهيم ومن معه من الأنبياء والأولياء، ﴿ أسوة حسنة ﴾ أي : في التبري من الكفار، وكرّر للتأكيد. وقيل : نزل الثاني بعد الأول بمدّة. قال القرطبي : وما أكثر المكرّرات في القرآن على هذا الوجه. وقوله تعالى :﴿ لمن كان يرجو الله ﴾ أي : الملك المحيط بجميع صفات الكمال ﴿ واليوم الآخر ﴾ أي : الذي يحاسب فيه على النقير والقطمير بدل من الضمير في لكم بدل بعض من كل، وفي ذلك بيان أنّ هذه الأسوة لمن يخاف الله ويخاف عذاب الآخرة ﴿ ومن يتول ﴾ أي : يوقع الأعراض عن أوامر الله تعالى فيوالي الكفار، ﴿ فإن الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة ﴿ هو ﴾ أي : خاصة ﴿ الغنيّ ﴾ أي : عن كل شيء ﴿ الحميد ﴾ أي : الذي له الحمد المحيط لإحاطته بأوصاف الكمال، فهو حميد في نفسه وصفاته، أو حميد إلى أوليائه وأهل طاعته.
ولما نزلت الآية الأولى عادى المسلمون أقرباءهم من المشركين، فعلم الله تعالى شدّة وجد المسلمين في ذلك فنزل :﴿ عسى الله ﴾ أي : أنتم جديرون بأن تطمعوا في الملك إلا على المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿ أن يجعل ﴾ أي : بأسباب لا تعلمونها، ﴿ بينكم وبين الذين عاديتم منهم ﴾ أي : كفار مكة، ﴿ مودة ﴾ أي : بأن يلهمهم الإيمان فيصيروا لكم أولياء، وقد جعل ذلك عام الفتح تحقيقاً لما رجاه سبحانه، لأنّ عسى من الله تعالى وعد، وهو لا يخلف الميعاد، ﴿ والله ﴾ أي الذي له كمال الإحاطة، ﴿ قدير ﴾ أي : بالغ القدرة على كل ما يريده، فهو يقدر على تقليب القلوب وتيسير العسير، ﴿ والله ﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ﴿ غفور ﴾ أي : محاء لا عيان الذنوب وآثارها، ﴿ رحيم ﴾ يكرم الخاطئين إذا أراد بالتوبة، ثم بالجزاء غاية الإكرام فيغفر لما فرط منكم في موالاتهم من قبل، وما بقي في قلوبكم من ميل الرحم.
وقوله تعالى :﴿ لا ينهاكم الله ﴾ أي : الذي اختص بالجلال والإكرام ﴿ عن الذين لم يقاتلوكم ﴾ أي : بالفعل ﴿ في الدين ﴾ الآية رخصة من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم، قال ابن زيد : هذا كان في أوّل الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ، قال قتادة : نسخها ﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ﴾ [ التوبة : ٥ ] وقال ابن عباس : نزلت في خزاعة، وذلك أنهم صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه أحداً، فرخص الله تعالى في برّهم.
وقال أكثر أهل التأويل : إنها محكمة، واحتجوا بأنّ أسماء بنت أبي بكر قدمت أمّها وهي مشركة عليها المدينة بهدايا، فقالت أسماء : لا أقبل منك هدية، ولا تدخلي علي بيتاً حتى أستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته فأنزل الله تعالى هذه الآية فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدخل منزلها، وأن تقبل هديتها وتكرمها وتحسن إليها، وفي ذلك إشارة إلى الاقتصار في العداوة والولاية، كما قال صلى الله عليه وسلم «أحبب حبيبك هوناً مّا عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً مّا عسى أن يكون حبيبك يوماً ما » وروى عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه «أنّ أبا بكر الصدّيق رضي الله عنه طلق امرأته قتيلة في الجاهلية، وهي أمّ أسماء بنت أبي بكر فقدمت عليهم في المدّة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش، فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطاً وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله تعالى :﴿ لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ﴾، ﴿ ولم يخرجوكم من دياركم أن ﴾ أي : لا ينهاكم عن أن ﴿ تبروهم ﴾ بنوع من أنواع البرّ الظاهرة، فإنّ ذلك غير صريح في قصد المودّة ﴿ وتقسطوا إليهم ﴾ أي : تعطوهم قسطاً من أموالكم على وجه الصلة قال ابن العربي : وليس يريد به من العدل، فإنّ العدل واجب فيمن قاتل وفيمن لم يقاتل وحكي أن القاضي إسماعيل بن إسحاق دخل عليه ذمي فأكرمه فأخذ عليه الحاضرون في ذلك فتلا عليهم هذه الآية ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له الكمال كله ﴿ يحب ﴾ أي : يثيب ﴿ المقسطين ﴾ أي : الذين يزيلون الجور، ويوقعون العدل.
﴿ إنما ينهاكم الله ﴾ أي : الذي له الإحاطة الكاملة علماً وقدرة، ﴿ عن الذين قاتلوكم ﴾ أي : جاهدوكم متعمدين لقتالكم، ﴿ في الدين ﴾ أي : عليه فليس شيء من ذلك خارجاً عنه، ﴿ وأخرجوكم من دياركم ﴾ أي بأنفسهم لبغضكم، وهم عتاة أهل مكة، ﴿ وظاهروا ﴾ أي : عاونوا غيرهم ﴿ على إخراجكم ﴾ وهم مشركوا مكة. وقوله تعالى :﴿ أن تولوهم ﴾ بدل اشتمال من الذين أي : تتخذوهم أولياء. وقرأ البزي بتشديد التاء، والباقون بالتخفيف.
ولما كان التقدير فمن أطاع فأولئك هم المفلحون عطف عليه قوله تعالى :﴿ ومن يتولهم ﴾ أي : يكلف نفسه الحمل على غير ما تدعو إليه الفطرة الأولى من المنابزة، وأطلق ولم يقيد بمنكم ليعم المهاجرين وغيرهم، والمؤمنين وغيرهم، ﴿ فأولئك ﴾ أي : الذين أبعدوا عن العدل ﴿ هم الظالمون ﴾ أي : الغريقون في إيقاع الأشياء في غير مواضعها.
ولما أمر المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام، وكان التناكح من أوكد أسباب الموالاة فبين أحكام مهاجرة النساء بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا ﴾ أي : أقرّوا بالإيمان ﴿ إذا جاءكم المؤمنات ﴾ أي : بأنفسهن ﴿ مهاجرات ﴾ أي : من الكفار بعد الصلح معهم في الحديبية ﴿ فامتحنوهنّ ﴾ أي : بالحلف أنهنّ ما هاجرن إلا رغبة في الإسلام، لا بغضاً في أزواجهن الكفار، ولا عشقاً لرجال من المسلمين. كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحلفهنّ.
قيل : إنّ سبب الامتحان أنه كان من أرادت منهنّ إضرار زوجها قالت : سأهاجر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بامتحانهنّ ﴿ الله ﴾ أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ﴿ أعلم ﴾ أي : منكم ومن أنفسهنّ ﴿ بإيمانهنّ ﴾ هل هو كائن، أم لا على وجه الرسوخ، أم لا فإنه المحيط بما غاب كإحاطته بما شوهد، وإنما وكل الأمر إليكم في ذلك ستراً للناس ﴿ فإن علمتموهنّ مؤمنات ﴾ أي : العلم الممكن لكم، وهو الظنّ المؤكد بالإمارات الظاهرات بالحلف وغيره ﴿ فلا ترجعوهنّ ﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿ إلى الكفار ﴾ وإن كانوا أزواجاً. قال ابن عباس : لما جرى الصلح مع مشركي قريش عام الحديبية على أنّ من أتاه من أهل مكة ردّه إليهم جاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من الكتاب، والنبيّ صلى الله عليه وسلم بالحديبية بعد فأقبل زوجها وكان كافراً وكان صيفي بن الراهب، وقيل : مسافر المخزومي فقال : يا محمد أردد علي امرأتي فأنت شرطت ذلك، وهذه طية الكتاب لم تجف بعد فأنزل الله تعالى هذه الآية. وروي «أنّ أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط جاءت للنبي صلى الله عليه وسلم فجاء أهلها يسألونه أن يردّها، وقيل : هربت من زوجها عمرو بن العاص ومعها أخواها عمارة والوليد، فردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخويها وحبسها فقالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم ردّها علينا للشرط، فقال صلى الله عليه وسلم كان الشرط في الرجال لا في النساء فأنزل الله تعالى هذه الآية ». وعن عروة قال كان مما اشترط سهل بن عمرو على النبيّ صلى الله عليه وسلم في الحديبية أن لا يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلا رددته إلينا، وخليت بيننا وبينه، فكره المؤمنون ذلك وأبى سهل إلا ذلك، فكاتبه النبيّ صلى الله عليه وسلم على ذلك، فردّ يومئذ أبا جندل إلى أبيه سهل بن عمرو ولم يأته أحد من الرجال إلا ردّه في تلك المدّة، وإن كان مسلماً حتى أنزل الله تعالى في المؤمنات ما أنزل، وهذا يومي إلى أنّ الشرط في ردّ النساء نسخ بذلك، وهذا مذهب من يرى نسخ السنة بالقرآن. وقال بعض العلماء : كله منسوخ بالقرآن، وقالت طائفة : لم يشترط ردّهنّ في العقد لفظاً، وإنما أطلق العقد في ردّ من أسلم فكان ظاهر العموم اشتماله عليهنّ مع الرجال، فبين الله تعالى خروجهنّ عن عمومه وفرق بينهنّ وبين الرجال لأمرين : أحدهما : أنهنّ ذوات فروج فحرمن عليهنّ، الثاني : أنهنّ أرق قلوباً وأسرع تقلباً منهم، فأما المقيمة منهنّ على شركها فمردودة عليهم ﴿ لا هنّ ﴾ أي : المؤمنات ﴿ حلّ ﴾ أي : موضع حلّ ثابت ﴿ لهم ﴾ أي : الكفار باستمتاع، ولا غيره. وقوله تعالى :﴿ ولا هم ﴾ أي : رجال الكفار ﴿ يحلون لهنّ ﴾ أي : المؤمنات تأكيد للأوّل لتلازمهما. وقال البيضاوي : والتكرير للمطابقة والمبالغة، والأولى لحصول الفرقة، والثانية للمنع عن الاستئناف.
وقيل : أراد استمرار الحكم بينهم فيما يستقبل كما هو في الحال ما داموا مشركين، وهنّ مؤمنات. والمعنى : لم يحل الله تعالى مؤمنة لكافر في حال من الأحوال، وهذا أدل دليل على أنّ الذي أوجب فرقة المسلمة من زوجها الكافر إسلامها لا هجرتها. وقال أبو حنيفة : الذي فرق بينهما هو اختلاف الدارين، والصحيح كما قال ابن عادل : الأول لأنّ الله تعالى بين العلة، وهو عدم الحل بالإسلام لا باختلاف الدار.
ولما نهى عن الردّ وعلله أمر بما قدم من الأقساط إليهم فقال تعالى :﴿ وآتوهم ﴾ أي : أعطوا الأزواج ﴿ ما أنفقوا ﴾ أي : عليهنّ من المهور، فإنّ المهر في نظير أصل العشرة ودوامها، وقد فوتتها المهاجرة فلا يجمع عليه خسارتان الزوجية والمالية وأما الكسوة والنفقة فأنهما لما يتجدّد من الزمان.
تنبيه : أمر الله تعالى برد ما أنفقوا إلى الأزواج، وإنّ المخاطب بهذا الإمام. وهل يجب ذلك أو يندب ؟ ظاهرة الآية الوجوب، ولكن رجح الندب وعليه الشافعي، لأنّ البضع ليس بمال فلا يشمله الأمان كما لا يشمل زوجية، والآية وإن كان ظاهرها الوجوب محتملة للندب الصادق بعدم الوجوب الموافق للأصل وقال مقاتل : يردّ المهر للذي يتزوّجها من المسلمين، وليس لزوجها الكافر شيء. وقال قتادة : الحكم في ردّ الصداق إنما هو في نساء أهل الذمّة، فأما من لا عهد بينه وبين المسلمين فلا يرد عليهم الصداق. قال القرطبي : والأمر كما قال :﴿ ولا جناح ﴾ أي : حرج وميل ﴿ عليكم ﴾ يا أيها المشرفون بالخطاب ﴿ أن تنكحوهنّ ﴾ أي : تجدّدوا زواجكم بهنّ بعد الاستبراء، وإن كان أزواجهنّ من الكفار لم يطلقوهنّ لزوال العلق عنهنّ لأنّ الإسلام فرق بينهم، قال الله تعالى :﴿ ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً ﴾ [ النساء : ١٤١ ].
ولما كان قد أمر برد مهور الكفار فكان ربما ظنّ أنه مغن عن تجديد مهر لهنّ إذا نكحهنّ المسلم نفى ذلك بقوله :﴿ إذا آتيتموهنّ ﴾ أي : لأجل النكاح ﴿ أجورهنّ ﴾ أي : مهورهنّ، وفي شرط أثناء المهر في نكاحهنّ إيذان بأن ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر ﴿ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾ جمع عصمة، وهي هنا عقد النكاح، أي : من كانت له امرأة كافرة بمكة فلا يعتدّ بها فقد انقطعت عصمتها فلا يكن بينكم وبينهنّ عصمة ولا علقة زوجية، والكوافر جمع كافرة كضوارب في ضاربة. قال النخعي : المراد بالآية هي المرأة المسلمة تلحق بدار الحرب فتكفر، وكان الكفار يتزوّجون المسلمات، والمسلمون يتزوجون المشركات، ثم نسخ ذلك بهذه الآية فطلق عمر بن الخطاب حينئذ امرأتين له بمكة مشركتين قريبة بنت أبي أمية فتزوجها معاوية بن أبي سفيان، وهما على شركهما بمكة وأمّ كلثوم بنت عمر والخزاعية أم عبد الله بن المغيرة فتزوجها أبو جهم بن حذافة، وهما على شركهما بمكة فلما ولي عمر قال أبو سفيان لمعاوية : طلق قريبة فلا يرى عمر سلبه في بيتك فأبى معاوية، وكانت عند طلحة بن عبيد الله أروى بنت ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب ففرق الإسلام بينهما، ثم تزوجها في الإسلام خالد بن سعيد بن العاص، وكانت ممن فرت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم من نساء الكفار فحبسها وزوجها خالد بن سعيد بن العاص بن أمية. وقال الشعبي : كانت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة أبي العاص بن الربيع أسلمت ولحقت بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وأقام أبو العاص بمكة مشركاً، ثم أتى المدينة وأسلم فردّها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم روى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس بالنكاح الأوّل، ولم يحدث شيئاً. قال محمد بن عمرو في حديث بعد ست سنين، وقال الحسن بن علي : بعد سنتين، قال أبو عمر : فإن صح هذا فلا يخلو من وجهين : إما أنها لم تحض حتى أسلم زوجها، وإما أنّ الأمر فيها منسوخ بقوله تعالى :﴿ وبعولتهن أحق بردّهن في ذلك ﴾ يعني : في عدّتهن، وهذا مما لا خلاف فيه أنه عنى به العدّة قال الزهري في قصة زينب : هذه كانت قبل أن تنزل الفرائض، وقال قتادة : كان هذا قبل أن تنزل سورة براءة بقطع العهود بينهم وبين المشركين.
تنبيه : المراد بالكوافر هنا عبدة الأوثان، ومن لا يجوز ابتداء نكاحها. وقيل : هي عامّة نسخ منها نساء أهل الكتاب، فعلى الأول : إذا أسلم وثني، أو مجوسي ولم تسلم امرأته فرق بينهما، وهو قول بعض أهل العلم منهم مالك والحسن وطاوس وعطاء وعكرمة وقتادة لقوله تعالى :﴿ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾ وقال بعضهم : ينتظر بها تمام العدّة، وهو قول الزهري والشافعي وأحمد، واحتجوا بأن أبا سفيان بن الحارث أسلم قبل هند بنت عتبة امرأته، وكان إسلامه بمرّ الظهران، ثم رجع إلى مكة وهند بها كافرة مقيمة على كفرها، فأخذت بلحيته وقالت : اقتلوا الشيخ الضال، ثم أسلمت بعده بأيام فاستقرّا على نكاحهما لأنّ عدتها لم تكن انقضت، قالوا : ومثله حكيم بن حزام أسلم قبل امرأته، ثم أسلمت بعده فكانا على نكاحهما. قال الشافعي : ولا حجة لمن احتج بقوله تعالى :﴿ بعصم الكوافر ﴾ لأنّ نساء المؤمنين محرمات على الكفار كما أن المسلمين لا تحل لهم الكوافر الوثنيات ولا المجوسيات لقوله تعالى :﴿ لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن ﴾ ثم بينت السنة أن مراد الله تعالى من قوله هذا : أنه لا يحل بعضهم لبعض إلا إن أسلم الثاني منهما في العدّة.
وقال أبو حنيفة وأصحابه في الكافرين الذمّيين : إذا أسلمت المرأة عرض على الزوج الإسلام فإن أسلم، وإلا فرق بينهما، قالوا : ولو كانا حربيين فهي امرأته حتى تحيض ثلاث حيض إذا كانا جميعاً في دار الحرب، أو في دار الإسلام، وإن كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام انقطعت العصمة بينهما، وقد تقدمّ أنّ اعتبار الدار ليس بشيء، وهذا الخلاف إنما هو في المدخول بها.
فأمّا غير المدخول بها فلا نعلم خلافاً في انقطاع العصمة بينهما إذ لا عدّة عليها، وكذا يقول مالك في المرأة يرتد زوجها المسلم تنقطع العصمة بينهما لقوله تعالى :﴿ ولا تمسكوا بعصم الكوافر ﴾ وهو قول الحسن البصري والحسن بن صالح وقال الشافعي وأحمد : ينتظر بها تمام العدّة، فإن كان الزوجان نصرانيين فأسلمت الزوجة فذهب مالك والشافعي وأحمد إلى تمام العدّة، وهو قول مجاهد، وكذا الوثني تسلم زوجته إن أسلم في عدّتها فهو أحق بها، كما أن صفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل أحق بزوجتيهما لما أسلما في عدّتهما لما ذكر مالك في الموطأ.
قال بعض العلماء : كان بين إسلام صفوان وبين إسلام امرأته نحو من شهر، قال : ولم يبلغنا أنّ امرأة هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وزجها كافر مقيم بدار الحرب إلا فرقت هجرتها بينها وبين زوجها، إلا أن يقدم زوجها مهاجراً قبل أن تنقضي عدتها. وقال بعضهم : ينفسخ النكاح بينهما لما روى يزيد بن علقمة قال : أسلم جدّي ولم تسلم جدّتي ففرق بينهما عمر، وهو قول طاوس وعطاء والحسن وعكرمة قالوا : لا سبيل له عليها إلا بخطبة ﴿ واسألوا ﴾ أي : أيها المؤمنون الذين ذهبت زوجاتهم إلى الكفار مرتدّات ﴿ ما أنفقتم ﴾ أي : من مهور نسائكم ﴿ وليسألوا ﴾ أي : الكفار ﴿ ما أنفقوا ﴾ أي : من مهور أزواجهم اللائي أسلمن. قال المفسرون : كان من ذهب من المسلمات مرتدّات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار : هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين : إذا جاء أحد من الكافرات مسلمة مهاجرة ردّوا إلى الكفار مهرها، وكان ذلك نصفاً وعدلاً بين الحالين ﴿ ذلكم ﴾ أي : الحكم الذي ذكر في هذه الآيات البعيدة تعلق الرتبة عن كل سفيه ﴿ حكم الله ﴾ أي : الملك الذي له صفات الكمال، فلا تلحقه شائبة نقص ﴿ يحكم ﴾ أي : الله إذ حكمه على سبيل المبالغة ﴿ بينكم ﴾ أي : في هذا الوقت وفي غيره على هذا المنهاج البديع، وذلك لأجل الهدنة التي كانت وقعت بين النبيّ
روي أن المسلمين قالوا : رضينا بما حكم الله تعالى، وكتبوا إلى المشركين فامتنعوا فنزل قوله تعالى :﴿ وإن فاتكم شيء من أزواجكم ﴾ أي : واحدة فأكثر منهن، أو شيء من مهورهن بالذهاب ﴿ إلى الكفار ﴾ مرتدات ﴿ فعاقبتم ﴾ فغزوتم وغنمتم من أموال الكفار فجاءت نوبة ظفركم بأداء المهر إلى إخوانكم طاعة وعدلاً عقب نوبتهم التي اقتطعوا فيها ما أنفقتم ظلماً ﴿ فآتوا ﴾ أي : فاحضروا وأعطوا من مهر المهاجرة ﴿ الذين ذهبت أزواجهم ﴾ أي : منكم من الغنيمة، ﴿ مثل ما أنفقوا ﴾ أي : لفواته عليهم من جهة الكفار. روى الزهري عن عروة عن عائشة أنها قالت : حكم الله تعالى بينهم فقال جلّ ثناؤه ﴿ واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ﴾ فكتب إليهم المسلمون قد حكم الله تعالى بيننا بأنه إن جاءتكم امرأة منا أن توجهوا إلينا صداقها، وإن جاءتنا امرأة منكم وجهنا إليكم بصداقها، فكتبوا أما نحن فلا نعلم لكم عندنا شيئاً فإن كان لنا عندكم شيء فوجهوا به فأنزل الله تعالى :﴿ وإن فاتكم شيء من أزواجكم ﴾ الآية. وقال ابن عباس : في قوله تعالى :﴿ ذلكم حكم الله ﴾ أي : بين المسلمين والكفار من أهل العهد من أهل مكة يرد بعضهم على بعض. قال الزهري : ولولا العهد لأمسك النساء ولم يرد عليهم صداقاً، وقال قتادة ومجاهد : إنما أمروا أن يعطوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا من الفيء والغنيمة، وقالا : هي فيمن بيننا وبينه عهد، وقالا : فمعنى ﴿ فعاقبتم ﴾ فاقتصصتم ﴿ فآتوا الذين ذهبت أزواجهم مثل ما أنفقوا ﴾ أي : من المهور. وقال ابن عباس : معنى الآية إن لحقت امرأة مؤمنة بكفار أهل مكة، وليس بينكم وبينهم عهد، ولها زوج مسلم قبلكم فغنمتم فأعطوا هذا الزوج المسلم مهره من الغنيمة قبل أن تخمس. وقال الزهري : يعطي من مال الفيء، وعنه يعطى من صداق من لحق بها.
تنبيه : محصل مذهب الشافعي في هذه الآية : أنّ الهدنة لو عقدت بشرط أن يردوا من جاءهم منا مرتداً صح، ولزمهم الوفاء به سواء أكان رجلاً أو امرأة، حرّاً أو رقيقاً، فإن امتنعوا من ردّه فناقضون للعهد لمخالفتهم الشرط، أو عقدت على أن لا يردوه جاز، ولو كان المرتدّ امرأة فلا يلزمهم ردّه لأنه صلى الله عليه وسلم شرط ذلك في مهادنة قريش، حيث قال لسهل بن عمرو وقد جاء رسولاً منهم «من جاءنا منكم رددناه، ومن جاءكم منا فسحقاً سحقاً » ومثله ما لو أطلق العقد كما فهم بالأولى، ويغرمون فيهما مهر المرتدّة. فإن قيل : لم غرموا مهر المرتدّة، ولم نغرم نحن مهر المسلمة على ما تقدم من الخلاف ؟ أجيب : بأنهم قد فوتوا عليه الاستتابة الواجبة علينا، وأيضاً المانع جاء من جهتها، والزوج غير متمكن منها بخلاف المسلمة الزوج متمكن منها بالإسلام، وكذا يغرمون قيمة رقيق ارتدّ دون الحرّ، فإن عاد الرقيق المرتد إلينا بعد أخذنا قيمته رددناها عليهم.
بخلاف نظيره في المهر لأنّ الرقيق بدفع القيمة يصير ملكاً لهم، والنساء لا يصرن زوجات.
فإن قيل : كونه يصير ملكاً لهم مبنى على جواز بيع المرتد للكافر، والصحيح خلافه.
أجيب : بأنّ هذا ليس مبنياً عليه لأن هذا ليس بيعاً حقيقة فاغتفر ذلك أجل المصلحة، وإن شرطنا عدم الرد.
فإن قيل : هل يغرم الإمام لزوج المرتدة ما أنفق من صداقها، لأنا بعقد الهدنة حلنا بينه وبينها، ولولاه لقاتلناهم حتى يردوها ؟.
أجيب : بأنّ هذا ينبني على أنّ الإمام هل يغرم لزوج المسلمة المهاجرة ما أنفق، وقد تقدم الكلام على ذلك.
فائدة : روي عن ابن عباس أنه قال : لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين ست نسوة أم الحكم بنت أبي سفيان، وكانت تحت شداد بن عياض الفهري، وفاطمة بنت أبي أمية بن المغيرة أخت أم سلمة كانت تحت عمر بن الخطاب، فلما أراد عمر أن يهاجر أبت وارتدت، وبروع بنت عقبة كانت تحت شماس بن عثمان، وعزة بنت عبد العزيز بن نضلة، وزوجها عمرو بن عبد ود، وهند بنت أبي جهل بن هشام كانت تحت هشام بن العاص بن وائل، وأمّ كلثوم بنت جرول كانت تحت عمر بن الخطاب رجعن عن الإسلام، فأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجهنّ مهور نسائهم من الغنيمة.
ولما كان التحرّي في مثل ذلك عسراً فإنّ المهور تتفاوت تارة وتتساوى أخرى قال تعالى :﴿ واتقوا ﴾ أي : في الإعطاء والمنع وغير ذلك ﴿ الله ﴾ الذي له صفات الكمال، وقد أمركم بالتخلق بصفاته على قدر ما تطيقون ﴿ الذي أنتم به مؤمنون ﴾ أي : متمكنون في رتبة الإيمان.
ولما خاطب المؤمنين الذين هم موضع الحماية والنصرة للدين أمر النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الحكم بإيمانهن بمبايعتهن بقوله تعالى :﴿ يا أيها النبيّ ﴾ مخاطباً له بالوصف المقتضى للعلم ﴿ إذا جاءك المؤمنات ﴾ جعل إقبالهن عليه صلى الله عليه وسلم لاسيما مع الهجرة مصححاً لإطلاق الهجرة عليهن، ﴿ يبايعنك على أن لا يشركن ﴾ أي : كل واحدة منهن تبايعك على عدم الإشراك في وقت من الأوقات ﴿ بالله ﴾ أي : الملك الذي لا كفؤ له ﴿ شيئاً ﴾ أي من إشراك على الإطلاق ﴿ ولا يسرقن ﴾ أي : يأخذن مال الغير بغير استحقاق في خفية ﴿ ولا يزنين ﴾ أي : يمكن أحداً من وطئهن بغير عقد صحيح، ﴿ ولا يقتلن أولادهن ﴾ أي : بالوأد كما كان يفعل في الجاهلية من وأد البنات، أي : دفنهن أحياء خوفاً من العار والفقر ﴿ ولا يأتين ببهتان ﴾ أي : بولد ملقوط أو شبهة بأن ﴿ يفترينه ﴾ أي : يتعمدن كذبه بأن ينسبنه للزوج، ووصفه بصفة الولد الحقيقي بقوله تعالى :﴿ بين أيديهن ﴾ أي : بالحمل في البطون لأنّ بطنها التي تحمل فيها الولد بين يديها ﴿ وأرجلهن ﴾ أي : بالوضع من الفروج لأنّ فرجها الذي تلد منه بين رجليها، أو لأنّ الولد إذا وضعته سقط بين يديها ورجليها.
وقيل : بين أيديهن ألسنتهن بالنميمة، ومعنى : بين أرجلهن فروجهن. وقيل : ما بين أيديهن من قبلة أو جسة وبين أرجلهن الجماع. وروي أن هند لما سمعت ذلك قالت : والله إنّ البهتان لأمر قبيح، وما يأمر إلا بالأرشد ومكارم الأخلاق، ﴿ ولا يعصينك ﴾ أي : على حال من الأحوال ﴿ في معروف ﴾ وهو ما وافق طاعة الله تعالى كترك النياحة، وتمزيق الثياب، وجر الشعر وشق الجيب، وخمش الوجه ﴿ فبايعهن ﴾ أي : التزم لهن بما وعدن على ذلك من إعطاء الثواب في نظير ما ألزمن أنفسهن من الطاعة، فبايعهن صلى الله عليه وسلم بالقول ولم يصافح واحدة منهن. قالت عائشة رضي الله عنها «والله ما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على النساء قط إلا بما أمر الله عز وجل، وما مست كف رسول الله صلى الله عليه وسلم كف امرأة قط. وروي أنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يبايع النساء بالكلام بهذه الآية، ﴿ أن لا يشركن بالله شيئاً ﴾ إلى آخرها قالت : وما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة إلا امرأة يملكها » وقالت أميمة بنت رقيقة «بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نسوة فقال فيما استطعتن أطعن، فقلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم ارحم بنا من أنفسنا، وقلت : يا رسول الله صافحنا، فقال إني لا أصافح النساء إنما قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة ». وروي «أنه صلى الله عليه وسلم بايع النساء وبين يديه وأيديهن ثوب، وكان يشترط عليهن » وقالت أم عطية :«لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جمع نساء الأنصار في بيت، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب فقام على الباب فسلم فرددن عليه السلام فقال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكن أن لا تشركن بالله شيئاً الآية، فقلن نعم، فمد يده من خارج البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت، ثم قال : اللهم اشهد » وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس يده فيه فغمسن أيديهن فيه » وروي أنه صلى الله عليه وسلم لما فرغ من بيعة الرجال يوم الفتح لمكة، وهو على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه وهو يبايع النساء بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبلغهن عنه أن لا يشركن بالله شيئاً، وهند بنت عتبة امرأة أبي سفيان متنقبة متنكرة مع النساء خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرفها لما صنعت بحمزة يوم أحد، فقالت : والله إنك لتأخذ علينا أمراً ما رأيتك أخذته على الرجال، وكان بايع الرجال يومئذ على الإسلام والجهاد فقط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم ولا يسرقن، فقالت هند إن أبا سفيان رجل شحيح، وإني أصيب من ماله قوتنا فلا أدري أيحل لي أم لا، فقال أبو سفيان : ما أصبت من شيء فيما مضى وما غير فهو حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرفها، فقال لها :«وإنك لهند بنت عتبة »، قالت : نعم فاعف عما سلف عفا الله عنك.
وروي أنها قالت : يا رسول الله إن أبا سفيان رجل مسيك، فهل عليّ حرج إن أخذت ما يكفيني وولدي، قال :«لا إلا بالمعروف » فخشيت هند أن تقتصر على ما يعطيها فتضيع و تأخذ أكثر من ذلك فتكون سارقة ناكثة للبيعة المذكورة، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أي لا حرج عليك فيما أخذت بالمعروف من غير استطالة إلى أكثر من الحاجة، ثم قال : ولا يزنين، فقالت هند : أو تزني الحرة، فقال : ولا يقتلن أولادهن أي : بالوأد، ولا يسقطن الأجنة، فقالت هند : ربيناهم صغاراً وقتلتهم يوم بدر كباراً، وأنت وهم أعلم، وكان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتل يوم بدر فضحك عمر حتى استلقى وتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال :﴿ ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ﴾ فقالت : والله إن البهتان لأمر قبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، فقال :﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ فقالت : والله ما جلسنا مجلسنا هذا، وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء قال أكثر المفسرين : معناه لا يلحقن بأزواجهن ولداً من غيرهن، وكانت المرأة تلتقط ولداً تلحقه بزوجها وتقول : هذا ولدي منك فكان من البهتان والافتراء. وهذا عام في الإتيان بولد وإلحاقه بالزوج، وإن سبق النهي عن الزنا.
تنبيه : ذكر تعالى في هذه الآية لرسوله صلى الله عليه وسلم في صفة البيعة خصالاً ستاً صرح فيهن بأركان النهي، ولم يذكر أركان الأمر وهي ست أيضاً : الشهادة، والزكاة، والصلاة، والصيام، والحج، والاغتسال من الجناب، وذلك لأن النهي دائم في كل زمان ومكان، وكل الأحوال فكان التنبيه على اشتراط الدائم آكد.
وقيل : إن هذه المناهي كانت في النساء كثيراً ممن يرتكبها، ولا يحجزهن عنها شرف النسب فخصت بالذكر لهذا، ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم لوفد عبد القيس «وأنهاكم عن الدباء والحنتم والنقير والمزفت » فنبههم على ترك المعصية في شرب الخمر دون سائر المعاصي لأنها كانت شهوتهم وعادتهم، وإذا ترك المرء شهوته من المعاصي هان عليه ترك سائرها مما لا شهوة فيها.
ولما كان الإنسان محل النقصان لاسيما النسوان رجاهن سبحانه بقوله تعالى :﴿ واستغفر ﴾ أي : اسأل ﴿ لهن الله ﴾ أي : الملك الأعظم ذا الجلال والإكرام في الغفران إن وقع منهن تقصير وهو واقع، لأنه لا يقدر أحد أن يقدر الله تعالى حق قدره ﴿ إن الله ﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿ غفور ﴾ أي : بالغ الستر للذنوب عيناً وأثراً ﴿ رحيم ﴾ أي : بالغ الإكرام بعد الغفران تفضلاً منه وإحساناً.
وروي أن ناساً من فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم فنهاهم الله عن ذلك بقوله تعالى :﴿ يأيها الذين آمنوا لا تتولوا ﴾ أي : لا تعالجوا أنفسكم أن توالوا ﴿ قوماً ﴾ أي : ناساً لهم قوة على ما يحاولونه فغيرهم من باب أولى ﴿ غضب الله ﴾ أي : أوقع الملك الأعلى الغضب ﴿ عليهم ﴾ لإقبالهم على ما أحاط بهم من الخطايا، فهو عام في كل من اتصف بذلك يتناول اليهود تناولاً أولياً، ﴿ قد يئسوا ﴾ أي : تحققوا عدم الرجاء، ﴿ من الآخرة ﴾ أي : من ثوابها مع إيقانهم بها لعنادهم النبي صلى الله عليه وسلم مع علمهم أنه الرسول المبعوث في التوراة، ﴿ كما يئس الكفار من أصحاب القبور ﴾ أي من موتاهم أن يبعثوا ويرجعوا أحياء.
وقيل : من أصحاب القبور بيان للكفار، أي : كما يئس الكفار الذين قبروا من خير الآخرة، إذ تعرض عليهم مقاعدهم من الجنة لو كانوا آمنوا، وما يصيرون إليه من النار فيتبين لهم قبح حالهم، وسوء منقلبهم.
Icon