تفسير سورة الممتحنة

التفسير الحديث
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب التفسير الحديث .
لمؤلفه دروزة . المتوفي سنة 1404 هـ
سورة الممتحنة :
في السورة نهي عن موالاة الكفار الأعداء المعتدين مهما ربطت بينهم وبين المسلمين أرحام. ودعوة للتأسي بإبراهيم والمؤمنين معه في موقفهم من قومهم الكافرين. وتأميل باهتداء الكفار. وتقرير بأن النهي لا يتناول المسالمين بحيث لا حرج على المسلمين من موادة هؤلاء والبر بهم. وإنما يتناول الأعداء المؤذين والمتظاهرين معهم على الإسلام والمسلمين. وأمر بعدم إرجاع المسلمات المهاجرات إلى الكفار. وتحريم بقاء المسلمين مرتبطين بزوجاتهم الكافرات. وأمر بمبايعة المسلمات وأخذ العهد عليهن استقلالا. وانطوى في السورة صور عديدة من السيرة النبوية. وتلقينات جليلة المدى.
وهي فصلان مستقلان في الموضوع متناسبان في الظروف، وإذا صحت الروايات التي سوف نوردها بعد، فإن الأمر بمبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنساء المسلمات يكون قد نزل بعد الفتح المكي. وعلى كل حال فالذي نرجحه أنها من السور التي ألفت تأليفا في وقت متأخر بعد نزول ما اقتضت حكمة الله ورسوله أن تحتويه من فصول.
والمصحف الذي اعتمدنا عليه وكذلك روايات ترتيب النزول الأخرى ( ١ )١. تذكر أن هذه السورة نزلت بعد سورة الأحزاب، وقبل سورة الفتح التي احتوت إشارة إلى رحلة الحديبية وصلحها بسور عديدة. في حين أن مضامينها والروايات الواردة في صددها تسوغ القول – بقوة – بأنها نزلت بعد ذلك الصلح، بل وبين يدي فتح مكة الذي كان بعد ذلك الصلح بسنتين. وهذا ما جعلنا نخالف روايات الترتيب فيها كما فعلنا في بعض السور ونؤخرها إلى ما بعد سورة الفتح التي نزلت عقب ذلك الصلح مباشرة، ثم إلى ما بعد سورة المائدة التي نزل فصلها الأول كذلك عقبه على ما شرحناه في سياق تفسير السورتين. وبذلك يتم التساوق في ترتيب النزول في نطاق ما هو معروف من صحيح الوقائع. والله أعلم.
١ انظر روايات ترتيب نزول السور المدنية في كتابنا سيرة الرسول ج ٢ ص ٩..

بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ( ١ ) إِن يَثْقَفُوكُمْ( ١ ) يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ( ٢ ) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٣ ) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( ٤ ) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٥ ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ٦ ) ﴾.
عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت :
( ١ ) نداء للمؤمنين فيه نهي عن اتخاذ الكفار أولياء ونصراء وعن فعل ما فيه مودة ومحبة وفائدة لهم، وتعليلا لهذا النهي : فهم أعداء الله تعالى وأعداؤهم، كفروا بما جاءهم من عند الله من الحق وآذوهم، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضطروهم إلى الخروج من وطنهم بدون ذنب بسبب إيمانهم بالله وحده.
( ٢ ) وتنبيها لهم بأن فعل ما فيه مودة للكفار وبخاصة بصورة سرية متناقض مع الإخلاص في الإيمان إذا كانوا حقا مخلصين فيه، وإذا كانوا حقا قد هاجروا من وطنهم ابتغاء وجه الله وجهادا في سبيله.
( ٣ ) وإنذارا بأن الله يعلم ما يخفون وما يعلنون، وبأن من يواد الكفار منهم يكون قد ضل عن سبيل الحق وانحراف عن واجب الإخلاص.
( ٤ ) وتذكيرا لهم بشدة حقد الكفار عليهم : فهم لو لقوهم وظفروا بهم لعاملوهم معاملة الأعداء الألداء، ولبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالشر والأذى. وإنهم ليودون أن يكفروا بعد إيمانهم.
( ٥ ) وتقريرا بأنه لن تكون أية فائدة ونفع للأرحام والأولاد يوم القيامة، وبأن الله تعالى سوف يفصل بينهم فيه حسب أعمالهم، وهو البصير الرقيب على كل ما يفعلونه.
( ٦ ) وضرب مثل لهم بموقف إبراهيم والذين آمنوا معه من قومهم : فقد أعلنوا جهرا ومواجهة براءتهم من قومهم وما يعبدونه من دون الله. وعالنوهم العداء والبغضاء إلى الأبد ما داموا كفارا، مقررين إيمانهم بالله وحده وإسلام النفس إليه واعتمادهم عليه، معترفين بأنه هو مرجعهم. طالبين منه المعونة، ملتمسين منه أن لا يجعلهم موضع فتنة الكفار وأذاهم، وأن يغفر لهم هفواتهم وذنوبهم. وفي هذا الأسوة الحسنة للمؤمنين المخلصين حقا الذين يرجون رضاء الله وحسن العاقبة في اليوم الآخر. أما الذين ينحرفون عنه فهم وشأنهم والله غني عنهم حميد للمخلصين الصادقين.
وقد احتوت الآية الرابعة استدراكا فيه حكاية لما وعد إبراهيم به أباه من استغفار الله له مع إعلانه أنه لا يملك له من الله شيئا.
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء............................ ﴾ الخ، والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من روايات وأقوال وما انطوى فيها من صور وتلقين.
ولقد روى المفسرون ( ١ )١، بطرق عديدة المناسبة التي نزلت فيها هذه الآيات. ورواها البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود أيضا فاخترنا إيراد نصهم ؛ حيث جاء فيه ( ٢ )٢، عن علي بن أبي طالب أنه قال :( بعثني رسول صلى الله عليه وآله وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب قالت : ما معي كتاب، فقلنا لتخرجن أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما هذا يا حاطب ؟ قال : لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرأ من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان المهاجرون لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنه قد صدقكم، فقال عمر دعني يا رسول الله فأضرب عنقه. فقال : إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت الآيات ). وفي رواية أوردها الطبري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا تقولوا له إلا خيرا ).
ولقد روى البغوي في تعريف المرأة خبرا فيه صورة طريفة ؛ حيث روي أنها مولاة لبني عبد المطلب قدمت إلى المدينة فسألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا، قال : أمهاجرة ؟ قالت : لا، قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأهل والعشيرة والموالي، وقد ذهبتم فاحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فقال لها : وأين أنت من شباب مكة – وكانت مغنية نائحة – فقالت : ما طلب مني شيء بعد بدر، فحث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها وكسوها وحملوها. فاغتنم حاطب عودتها فأعطاها مبلغا من المال وحملها الرسالة.
ومضمون الآيات واختصاصها المهاجرين بالخطاب يؤيدان صحة الرواية، غير أن أسلوبها يلهم أن النهي والتحذير والتنبيه موجه إلى جملة من المسلمين. وإذا كانت نزلت في مناسبة رسالة حاطب – وهذا قوي الرجحان لتعدد الروايات بطرق مختلفة وعدم الاختلاف فيها – فإن أسلوبها الشديد وما ورد في مواضع عديدة من السور المدنية من آيات فيها نهي عن اتخاذ الآباء والأبناء والعشيرة والإخوان أولياء وموادتهم، وإنذار لمن يفعل ذلك كما جاء في آية سورة المجادلة :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم... ﴾ وآيات سورة التوبة هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ٢٤ ) ﴾.
فكل هذا يسوغ القول بأنه كان يعتلج من حين لآخر في نفوس بعض المهاجرين أزمات نفسية بسبب ما صار إليه الأمر من العداء والبغضاء والدماء والتناكر الشديد بينهم وبين أهل مكة الذين تربط بينهم الأرحام والعصبيات والمصالح المتنوعة في ظرف كان للأرحام وعصبيتها أثر نافذ عميق في الحياة الاجتماعية، وأن هذا كان يسوق بعضهم إلى ما لا ينبغي من مواقف وعواطف وتصرفات فاقتضت حكمة التنزيل توجيه الخطاب إلى الجميع بما فيه من شدة وإنذار وتنبيه. ولعل في الآيات التالية قرينة على هذا التوجيه على ما سوف نشرحه.
ولقد اختلفت الروايات التي رواها المفسرون ( ١ )٣، عن أهل الصدر الأول في ظروف إرسال الرسالة ؛ حيث روي أن حاطب أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسيير جيش نحو مكة بعد وقعة بدر بسنتين. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وآله وسلم السفر إلى مكة للعمرة، وهي السفرة التي أدت إلى صلح الحديبية. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على غزو مكة لفتحها بعد هذا الصلح بسنتين. وفي المقطع الثاني من السورة قرينة تكاد تكون حاسمة على أنها نزلت بعد صلح الحديبية. وهذا ما يجعلنا نرجح الرواية الثالثة.
ولعل الرواية الأولى أو الثانية هما اللتان جعلتا رواة ترتيب النزول يرتبون نزول السورة بعد سورة الأحزاب. والله أعلم.
والآيات كما هو ظاهر احتوت تعليلا لوصف الكفار بالأعداء والنهي عن موادتهم بما كان من كفرهم وبدئهم المسلمين بالأذى وإلجائهم إلى الخروج من وطنهم وإضمارهم لهم العداء والسوء وتمني ارتدادهم عن دينهم وكفرهم به. وهذا متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن ونبهنا عليه من كون موقف المسلمين العدائي نحو غيرهم هو موقف دفاع ومقابلة بالمثل وحسب. وقد انطوى فيها في الوقت ذاته مبدأ في غاية العدل والحق والتمشي مع طبائع الأمور دائما، وهو عدم موادة المسلمين لأناس يبدأونهم بالعدوان والأذى، ويضمرون لهم الشر والسوء، وعدم جواز إطلاعهم على أسرارهم، ووجوب الوقوف منهم موقف الحذر والاستعداد، وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى للمسلمين في كل ظرف ومكان.
وفي التصرف الذي تصرفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحديث الذي قاله في حق أهل بدر تلقين مستمر المدى كذلك بالإغضاء عن موقف قد يصدر من بعض الناس عن ضعف نفسي مهما كان خطير المدى والأثر إذا ما كان هناك يقين بأن صاحبه مخلص غير خائن ولا غادر، وله مواقف تضحية وإخلاص سابقة مشهودة.
والأسوة التي دعت الآيات المسلمين إلى التأسي بها رائعة قوية الإحكام من ناحيتين :
الأولى : كونها عائدة إلى إبراهيم عليه السلام، والذين آمنوا معه في ظرف يتداول سامعو القرآن من المسلمين أنه أحد آبائهم ويأمر القرآن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول : إن ربه هداه إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين كما جاء في الآية ( ١٦١ ) من سورة الأنعام.
والثانية : شدة حسم الأسلوب الذي يعلن به إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه لقومهم الكفار العداوة والبغضاء أبدا ما لم يؤمنوا بالله وحده. في ظروف تعتلج في نفوس بعض المسلمين أزمة من جراء ما بينهم وبين الكفار من قومهم من أرحام ووشائج ومصالح.
وأهل التأويل من التابعين متفقون على ما ذكر
١ انظر الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والخازن والطبرسي..
٢ التاج ج ٤ ص ٢٣٣..
٣ انظر الطبري والبغوي والنيسابوري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري..
( ١ ) إن يثقفوكم : هنا بمعنى : إن يلقوكم ويظفروا بكم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١:بسم الله الرحمن الرحيم :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاء مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاء السَّبِيلِ ( ١ ) إِن يَثْقَفُوكُمْ( ١ ) يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ ( ٢ ) لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٣ ) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ( ٤ ) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( ٥ ) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ٦ ) ﴾.

عبارات الآيات واضحة. وقد تضمنت :

( ١ ) نداء للمؤمنين فيه نهي عن اتخاذ الكفار أولياء ونصراء وعن فعل ما فيه مودة ومحبة وفائدة لهم، وتعليلا لهذا النهي : فهم أعداء الله تعالى وأعداؤهم، كفروا بما جاءهم من عند الله من الحق وآذوهم، وآذوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واضطروهم إلى الخروج من وطنهم بدون ذنب بسبب إيمانهم بالله وحده.
( ٢ ) وتنبيها لهم بأن فعل ما فيه مودة للكفار وبخاصة بصورة سرية متناقض مع الإخلاص في الإيمان إذا كانوا حقا مخلصين فيه، وإذا كانوا حقا قد هاجروا من وطنهم ابتغاء وجه الله وجهادا في سبيله.
( ٣ ) وإنذارا بأن الله يعلم ما يخفون وما يعلنون، وبأن من يواد الكفار منهم يكون قد ضل عن سبيل الحق وانحراف عن واجب الإخلاص.
( ٤ ) وتذكيرا لهم بشدة حقد الكفار عليهم : فهم لو لقوهم وظفروا بهم لعاملوهم معاملة الأعداء الألداء، ولبسطوا إليهم أيديهم وألسنتهم بالشر والأذى. وإنهم ليودون أن يكفروا بعد إيمانهم.
( ٥ ) وتقريرا بأنه لن تكون أية فائدة ونفع للأرحام والأولاد يوم القيامة، وبأن الله تعالى سوف يفصل بينهم فيه حسب أعمالهم، وهو البصير الرقيب على كل ما يفعلونه.
( ٦ ) وضرب مثل لهم بموقف إبراهيم والذين آمنوا معه من قومهم : فقد أعلنوا جهرا ومواجهة براءتهم من قومهم وما يعبدونه من دون الله. وعالنوهم العداء والبغضاء إلى الأبد ما داموا كفارا، مقررين إيمانهم بالله وحده وإسلام النفس إليه واعتمادهم عليه، معترفين بأنه هو مرجعهم. طالبين منه المعونة، ملتمسين منه أن لا يجعلهم موضع فتنة الكفار وأذاهم، وأن يغفر لهم هفواتهم وذنوبهم. وفي هذا الأسوة الحسنة للمؤمنين المخلصين حقا الذين يرجون رضاء الله وحسن العاقبة في اليوم الآخر. أما الذين ينحرفون عنه فهم وشأنهم والله غني عنهم حميد للمخلصين الصادقين.
وقد احتوت الآية الرابعة استدراكا فيه حكاية لما وعد إبراهيم به أباه من استغفار الله له مع إعلانه أنه لا يملك له من الله شيئا.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاء............................ ﴾ الخ، والآيات الخمس التي بعدها وما ورد في صددها من روايات وأقوال وما انطوى فيها من صور وتلقين.
ولقد روى المفسرون ( ١ )١، بطرق عديدة المناسبة التي نزلت فيها هذه الآيات. ورواها البخاري ومسلم والترمذي وأبو داود أيضا فاخترنا إيراد نصهم ؛ حيث جاء فيه ( ٢ )٢، عن علي بن أبي طالب أنه قال :( بعثني رسول صلى الله عليه وآله وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فذهبنا تعادى بنا خيلنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا أخرجي الكتاب قالت : ما معي كتاب، فقلنا لتخرجن أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها، فأتينا به النبي صلى الله عليه وآله وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين ممن بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال : ما هذا يا حاطب ؟ قال : لا تعجل علي يا رسول الله إني كنت امرأ من قريش، ولم أكن من أنفسهم، وكان المهاجرون لهم قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : إنه قد صدقكم، فقال عمر دعني يا رسول الله فأضرب عنقه. فقال : إنه شهد بدرا، وما يدريك لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم فنزلت الآيات ). وفي رواية أوردها الطبري أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( لا تقولوا له إلا خيرا ).
ولقد روى البغوي في تعريف المرأة خبرا فيه صورة طريفة ؛ حيث روي أنها مولاة لبني عبد المطلب قدمت إلى المدينة فسألها النبي صلى الله عليه وآله وسلم : أمسلمة جئت ؟ قالت : لا، قال : أمهاجرة ؟ قالت : لا، قال : فما جاء بك ؟ قالت : كنتم الأهل والعشيرة والموالي، وقد ذهبتم فاحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني وتكسوني وتحملوني فقال لها : وأين أنت من شباب مكة – وكانت مغنية نائحة – فقالت : ما طلب مني شيء بعد بدر، فحث النبي صلى الله عليه وآله وسلم بني عبد المطلب وبني المطلب فأعطوها وكسوها وحملوها. فاغتنم حاطب عودتها فأعطاها مبلغا من المال وحملها الرسالة.
ومضمون الآيات واختصاصها المهاجرين بالخطاب يؤيدان صحة الرواية، غير أن أسلوبها يلهم أن النهي والتحذير والتنبيه موجه إلى جملة من المسلمين. وإذا كانت نزلت في مناسبة رسالة حاطب – وهذا قوي الرجحان لتعدد الروايات بطرق مختلفة وعدم الاختلاف فيها – فإن أسلوبها الشديد وما ورد في مواضع عديدة من السور المدنية من آيات فيها نهي عن اتخاذ الآباء والأبناء والعشيرة والإخوان أولياء وموادتهم، وإنذار لمن يفعل ذلك كما جاء في آية سورة المجادلة :﴿ لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبنائهم أو إخوانهم أو عشيرتهم... ﴾ وآيات سورة التوبة هذه :﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٢٣ ) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ( ٢٤ ) ﴾.
فكل هذا يسوغ القول بأنه كان يعتلج من حين لآخر في نفوس بعض المهاجرين أزمات نفسية بسبب ما صار إليه الأمر من العداء والبغضاء والدماء والتناكر الشديد بينهم وبين أهل مكة الذين تربط بينهم الأرحام والعصبيات والمصالح المتنوعة في ظرف كان للأرحام وعصبيتها أثر نافذ عميق في الحياة الاجتماعية، وأن هذا كان يسوق بعضهم إلى ما لا ينبغي من مواقف وعواطف وتصرفات فاقتضت حكمة التنزيل توجيه الخطاب إلى الجميع بما فيه من شدة وإنذار وتنبيه. ولعل في الآيات التالية قرينة على هذا التوجيه على ما سوف نشرحه.
ولقد اختلفت الروايات التي رواها المفسرون ( ١ )٣، عن أهل الصدر الأول في ظروف إرسال الرسالة ؛ حيث روي أن حاطب أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وآله وسلم تسيير جيش نحو مكة بعد وقعة بدر بسنتين. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وآله وسلم السفر إلى مكة للعمرة، وهي السفرة التي أدت إلى صلح الحديبية. وروي أنه أرسلها في مناسبة اعتزام النبي صلى الله عليه وآله وسلم على غزو مكة لفتحها بعد هذا الصلح بسنتين. وفي المقطع الثاني من السورة قرينة تكاد تكون حاسمة على أنها نزلت بعد صلح الحديبية. وهذا ما يجعلنا نرجح الرواية الثالثة.
ولعل الرواية الأولى أو الثانية هما اللتان جعلتا رواة ترتيب النزول يرتبون نزول السورة بعد سورة الأحزاب. والله أعلم.
والآيات كما هو ظاهر احتوت تعليلا لوصف الكفار بالأعداء والنهي عن موادتهم بما كان من كفرهم وبدئهم المسلمين بالأذى وإلجائهم إلى الخروج من وطنهم وإضمارهم لهم العداء والسوء وتمني ارتدادهم عن دينهم وكفرهم به. وهذا متسق مع ما تكرر تقريره في القرآن ونبهنا عليه من كون موقف المسلمين العدائي نحو غيرهم هو موقف دفاع ومقابلة بالمثل وحسب. وقد انطوى فيها في الوقت ذاته مبدأ في غاية العدل والحق والتمشي مع طبائع الأمور دائما، وهو عدم موادة المسلمين لأناس يبدأونهم بالعدوان والأذى، ويضمرون لهم الشر والسوء، وعدم جواز إطلاعهم على أسرارهم، ووجوب الوقوف منهم موقف الحذر والاستعداد، وفي هذا وذاك تلقين مستمر المدى للمسلمين في كل ظرف ومكان.
وفي التصرف الذي تصرفه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والحديث الذي قاله في حق أهل بدر تلقين مستمر المدى كذلك بالإغضاء عن موقف قد يصدر من بعض الناس عن ضعف نفسي مهما كان خطير المدى والأثر إذا ما كان هناك يقين بأن صاحبه مخلص غير خائن ولا غادر، وله مواقف تضحية وإخلاص سابقة مشهودة.
والأسوة التي دعت الآيات المسلمين إلى التأسي بها رائعة قوية الإحكام من ناحيتين :
الأولى : كونها عائدة إلى إبراهيم عليه السلام، والذين آمنوا معه في ظرف يتداول سامعو القرآن من المسلمين أنه أحد آبائهم ويأمر القرآن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يقول : إن ربه هداه إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين كما جاء في الآية ( ١٦١ ) من سورة الأنعام.
والثانية : شدة حسم الأسلوب الذي يعلن به إبراهيم عليه السلام والذين آمنوا معه لقومهم الكفار العداوة والبغضاء أبدا ما لم يؤمنوا بالله وحده. في ظروف تعتلج في نفوس بعض المسلمين أزمة من جراء ما بينهم وبين الكفار من قومهم من أرحام ووشائج ومصالح.
وأهل التأويل من التابعين متفقون على ما ذكر
١ انظر الطبري والبغوي والزمخشري وابن كثير والخازن والطبرسي..
٢ التاج ج ٤ ص ٢٣٣..
٣ انظر الطبري والبغوي والنيسابوري والخازن وابن كثير والطبرسي والزمخشري..

﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٧ ) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ( ٨ ) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ( ٩ ) ﴾.
تعليق على الآية :
﴿ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً...................... ﴾ الخ
والآيتين التاليتين لها وما فيها من صور وأحكام وتلقين :
عبارة الآيات واضحة، وقد انطوى في الآية الأولى تأميل للمؤمنين الذين وجه الخطاب إليهم بأن يجعل الله بينهم وبين من عادوهم مودة بعد العداء وتواصلا بعد الجفاء والقطيعة، فالله قدير على ذلك، وهو غفور رحيم يغلب غفرانه ورحمته في معاملة الناس. وفي الآيتين الثانية والثالثة تنبيه تقريري بأن الله لا ينهاهم عن البر والإقساط وحسن التعامل مع الذين لم يقاتلوهم، ولم يعتدوا على حريتهم ولم يؤذوهم بسبب دينهم ولم يضطروهم إلى الجلاء عن وطنهم من الكفار. فإن الله يحب المقسطين الذين يعاملون غيرهم بالعدل والقسط إذا لم يصدر منهم مثل ذلك. وإنما ينهاهم عن موالاة وموادة الذين قاتلوهم بسبب دينهم، واعتدوا على حريتهم وآذوهم واضطروهم إلى الجلاء عن وطنهم أو ساعدوا على ذلك. فمن تولى هؤلاء فهو آثم ظالم لنفسه منحرف عن أمر الله تعالى.
وقد روى ابن كثير عن مقاتل أن الآية الأولى نزلت في أبي سفيان ؛ حيث تزوج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ابنة أم حبيبة فكان ذلك مودة بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. وعزا الطبري إلى أهل التأويل من التابعين أن الله تعالى أخبر بالآية بما سوف يكون من إسلام كثير منهم ومن قيام حالة سلم بين بعضهم وبين المسلمين. أما في صدد الآيتين الثانية والثالثة فقد روي عن أهل التأويل من التابعين أقوال وروايات عديدة ( ١ )١. منها أنه عني بهما المسلمون الذين ظلوا في مكة أو حيث هم، ولم يهاجروا إلى المدينة. ومنها أنه عني بهما قبيلتا خزاعة ومدلج اللتان صالحتا النبي صلى الله عليه وآله وسلم على أن لا تقاتلاه ولا تعينا عليه، ومنها أنه عني بهما مشركو مكة الذين لم يقاتلوا المسلمين ولم يؤذوهم. ومنها أنه عني بهما من لم يؤذ المسلمين ويقاتلهم من المشركين عامة. ومنها ما جاء في حديث رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن الزبير قال : إن أم أسماء بنت أبي بكر قتيلة – وكان أبو بكر قد تزوجها في الجاهلية وطلقها ولم تسلم – قدمت على ابنتها في المدينة ومعها هدية لها فقالت لها : لا تدخلي حتى يأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وذكرت ذلك لعائشة فذكرته للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فأنزل الله الآيتين ( ٢ )٢.
وقد فند ابن كثير رواية صلة أبي سفيان بالآية الأولى، وهو على حق ؛ لأن أبا سفيان كان كافرا عدوا يقود جيش قريش لقتال المسلمين حين نزلت الآية. وكان زواج النبي صلى الله عليه وآله وسلم ببنته قد تم وهي في الحبشة ؛ حيث هاجرت مع زوجها فمات عنها وخطبها النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهي في الحبشة وعقد له عليها وقدمت رأسا إلى المدينة على ما ذكرته الروايات ( ١ )٣. والروايات إلى هذا تقتضي أن تكون الآيات الثلاث نزلت متفرقة، في حين أن الانسجام بينها قائم وقوي أولا.
وأن الصلة بينها وبين سابقاتها سياقا وموضوعا ملموحة بقوة ثانيا، حيث اكتفي باستعمال ضمير الجمع المخاطب على اعتبار أن صفة المخاطب واضحة في الآيات السابقة وهي مهاجرو المسلمين. وحيث اكتفي بتعبير ( منهم ) للدلالة على أهل مكة الكفار الذين كانوا موضوع الحديث في الآيات السابقة، وفي الآيتين الثانية والثالثة دلالة أخرى على ذلك في تعبير ﴿ الَّذِينَْ ُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ ﴾. ويتبادر لنا بنا على ذلك ومن روح الآيات وبخاصة الأولى أن الآيات السابقة قد أثرت تأثيرها المطلوب في نفوس المهاجرين، وحزت في الوقت نفسه في قلوبهم، وأيأستهم أو كادت من أقاربهم وذوي أرحامهم الكفار، ولعل بعضهم فاتح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالأمر أو سأله عما إذا كان النهي شاملا لجميع أهل مكة : الباغي منهم والمسالم على السواء، فاقتضت حكمة التنزيل إيحاء الآيات للتنفيس والتأميل من جهة. وللتفريق بين الباغي والمسالم ووضع الأمر في نصابه الحق من جهة أخرى. ومن الممكن في الوقت نفسه أن يلمح فيها – وبخاصة في أولاها – بشرى تطمينية بين يدي ما اعتزمه النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزو مكة – والآيات قد نزلت بين يدي هذا العزم على ما رجحناه استلهاما من الآيات والروايات – من شأنها أن تشرح صدر المسلمين المهاجرين للغزوة، وتهيئ نفوسهم لها، وتبعث فيهم الإقدام والشوق والأمل بحسن النتائج، وانضواء كثير من الأقارب والأصدقاء إلى الإسلام، وانقلاب العداء والجفاء إلى مودة واجتماع، كما يمكن أن يلمح في الآيتين الثانية والثالثة أنه كان بين أهل مكة أناس لم يشتركوا في أذى المسلمين والتآمر عليهم مما هو طبيعي جدا.
وهذا الشرح لا يمنع أن تكون رواية قدوم أم أسماء المدينة واستفتاء ابنتها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صحيحة، فكان في الآيات فتوى لها أيضا.
هذا من الوجهة الزمنية المتصلة بالسيرة النبوية. أما من النواحي العامة فالآية الأولى متسقة مع الأسلوب القرآني في جعل الباب مفتوحا أمام غير المسلمين سواء أكانوا أعداء محاربين أم غير ذلك للمسالمة والموادة والتوبة والإنابة والارعواء عن الغلو والمواقف المنبثقة من الغرض والمآرب والمكابرة والاستكبار أو الجهل مما مر منه في السور السابقة أمثلة كثيرة جدا نبهنا عليها في مناسباتها، فلا ضرورة لتمثيل جديد. وفي عبارة الآية تلقين من شأنه أن يجعل أفق المسلمين واسعا وصدرهم رحبا ويحملهم على النظر في الأمور من أكثر من ناحية، ويبث فيهم أمل السلام والخير والاستبشار، ويجتث منهم العداء والحقد الشديدين. وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. والآيتان الثانية والثالثة متسقتان بدورهما مع المبدأ القرآني العام الذي نبهنا عليه ونوهنا به في مناسبات سابقة عديدة، والذي يقرر معاملة العداء للعدو المعتدي وحسب ويجعل ذلك مقابلة للعدوان وليس بدءا. أما الذين يوادون المسلمين ويكفون عنهم ألسنتهم وأيديهم من غير المسلمين فلا يعتبرون أعداء ولا مانع من برهم والإقساط إليهم. بل إن أسلوب الآية الثانية ينطوي على الحث والتشويق على ذلك.
وفي الآيتين إلى هذا تقرير وتنظيم للمناسبات بين المسلمين وغيرهم أولا. وفرض لوجود طبقة بين مشركي العرب وكفار الكتابيين يمكن تسميتها بالمسالمين ثانيا. وهي على ما يتبادر لنا غير طبقة المعاهدين الذين يقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق صلح وسلام دون خضوع وجزية وبعد عداء وقتال أو بدون قتال مثل ما صارت الحالة بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبين قريش نتيجة صلح الحديبية وقبائل أخرى مما ذكرته الروايات ( ١ )٤، وهي كذلك غير طبقة الذين يدخلون في ذمة المسلمين وحكمهم وحمايتهم ويؤدون إليهم الجزية سواء أكان ذلك نتيجة قتال أم لا. مثل ما كان بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم ونصارى نجران والمدن اليهودية والنصرانية في مشارف الشام مما ذكرته الروايات كذلك ( ٢ )٥. أي الطبقة التي تكف ألسنتها وأيديها عن المسلمين ودينهم وتقف منهم موقف الحياد والمسالمة أو المودة بدون ميثاق مكتوب. وفيهما دلالة على عدم وجاهة القول بعدم قبول شيء غير الإسلام أو القتل من مشركي العرب. وبعدم قبول شيء غير الإسلام أو الجزية من أهل الكتاب، وعلى عدم وجاهة القول بإيجاب محاربة غير المسلمين مع إطلاق القول حتى يسملوا. فالقتال والعداء كما قررنا وذكرنا في مناسبات عديدة سابقة استلهاما من آيات عديدة صريحة أو ملهمة إنما شرعا بالنسبة للبادئين بقتال المسلمين وأذيتهم وفتنتهم أو الصادين عن سبيل الله ودينه أو من يساعد على ذلك، ثم لمن ينكث عهده مع المسلمين ويتحول من موقف المعاهد إلى موقف العدو. ومع هؤلاء ينتهي الأمر بالإسلام أو المعاهدة أو الجزية فقط. وطبيعي أنه ليس كل غير مسلم يكون قد آذى المسلمين وقاتلهم واعتدى عليهم وصد عن سبيل الله ؛ حيث لا يمكن إلا أن يكون فئات كثيرة في كل ظرف ومكان لم تفعل ذلك ولم تساعد عليه. فهؤلاء يباح البر والإقساط معهم بل يستحسنان. وهذا تشريع عام محكم ومستمر وشامل وفيه من الروعة والجلال ما يغني عن الإطناب. ومما يزيد في روعته وجلاله أن الآيات مطلقة لا تشترط بدءا من غير المسلمين في البر والإقساط والموادة. فيكفي من غير المسلم أن يكون مسالما غير مؤذ بلسانه أو يده مباشرة أو غير مباشرة ؛ ليكون موضع بر المسلم ومودته وقسطه. والأمثلة على ذلك كثيرة في السيرة النبوية وعن الخلفاء الراشدين. فلم يقاتلوا ولم يأمروا بقتال غير الأعداء الذين يقاتلونهم وتركوا وأمروا بترك من لا يقاتلهم ومن يكف عنهم لسانه ويده، ومن هو غير أهل للقتال من شيوخ ونساء وصبيان ورهبان ( ١ )٦. ولقد قال بعض المفسرين : وعزا بعضهم إلى بعض أهل التأويل من التابعين أن الآية الأولى منسوخة بخاصة بالنسبة لمشركي العرب بآية سورة التوبة هذه :﴿ فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ٥ ) ﴾. ونحن لا نعتقد ذلك وسياق هذه الآية السابق واللاحق لها لا يدعمه على ما سوف نشرحه في مناسبته. ولقد أورد الطبري هذا القول أيضا، ثم فنده بقوله :( وأولى الأقوال بالصواب قول من قال عني بذلك : لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من جميع أصناف الملل والأديان أن تبروهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم، وقد عم الله عز وجل جميع من كان ذلك صفته فلم يخصص به بعضا دون بعض، ولا معنى لقول من قال : إن ذلك منسوخ. لأن بر المؤمن لأهل الحرب ( ٢ )٧، ممن بينه وبينه قرابة أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرم ولا منهي عنه أصلا إذا لم يكن في ذلك دلالة لهم على عورة لأهل الإسلام أو تقوية لهم بكراع أو سلاح ) وفي هذا كل الحق والصواب إن شاء الله. والله أعلم.
ولقد تحقق ما توقعته الآية الأولى وأملت المسلمين به فدخل معظم قريش، ثم معظم العرب في دين الله في حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وانقلب ما كان من عداء بينهم وبين المسلمين إلى مودة وإخاء فكان ذلك من معجزات القرآن الباهرة.
ولقد ترد ملاحظة على الفرق في التعبير في الآيات. ففي الآية الثانية استعمل ( ال
١ انظر الطبري والبغوي وابن كثير والخازن والطبرسي..
٢ هذه الرواية وردت في حديث رواه الشيخان عن أسماء وليس فيه ذكر لنزول الآية بمناسبة ذلك حيث جاء في الحديث: (قالت أسماء قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذا عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مع أبيها فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم صلي أمك) التاج ج ٥ ص ٤ و ٥. وعهد قريش هو صلح الحديبية الذي انعقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم وبينهم. وهذا الحديث يدعم ترجيحنا نزول السورة بعد صلح الحديبية بالإضافة إلى المقطع الثاني من السورة الذي يدعمه كما قلنا..
٣ انظر ابن هشام ج ٤ ص ٣٢٣ بل هناك خبر طريف ورائع وهو: أن أبا سفيان جاء إلى المدينة بعد صلح الحديبية وقبل فتح مكة ليوثق ذلك الصلح، فدخل إلى ابنته، فلما ذهب ليجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم طوته عنه فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش أم رغبت به عني؟ قالت: بل هو فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنت رجل مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراش رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (انظر ابن هشام ج ٤ ص ١٢، ١٣)..
٤ ابن سعد ج ٣ ص ١٣٩ – ١٥٠..
٥ ابن سعد ج ٢ ص ٤١ وما بعدها و ج ٣ ص ٧٠..
٦ انظر ابن سعد ج ٣ ص ١٣٢ وتاريخ الطبري ج ٢ ص ٥٨٧..
٧ أهل الحرب اصطلاح فقهي كان مطابقا في العصور الإسلامية الأولى على أهل البلاد التي أهلها كفار. ولم يكن الإطلاق سليما إلا في حالة أن يكون بينهم وبين المسلمين حالة حرب وعداء. ويتبادر لنا أنه أطلق؛ لأن البلاد التي كانت مجاورة لبلاد المسلمين كانت في حالة حرب مع المسلمين إما في حالة حرب قائمة أو في حالة حرب متوقفة بهدنة. وكلام الطبري هو في صدد من يكونون غير محاربين للمسلمين ولا متآمرين عليهم من أهل هذه البلاد..
( ١ ) فامتحنوهن : اختبروا صحة دعواهم للإسلام.
( ٢ ) وآتوهم ما أنفقوا : الضمير راجع إلى الكفار أزواج اللائي جئن إلى المدينة مهاجرات مؤمنات. والجمهور على أن جملة :﴿ ما أنفقوا ﴾ تعني مهور النساء.
( ٣ ) عصم : القصد منها عقود الزوجية.
( ٤ ) الكوافر : جمع كافرة.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ( ١ ) اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ( ٢ ) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ( ٣ ) الْكَوَافِرِ ( ٤ ) وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٠ ) وَإِن فَاتَكُمْ ( ٥ ) شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ ( ٦ ) فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ١١ ) ﴾ ( ١٠ – ١١ ).
الخطاب في الآيات موجه إلى المسلمين، وقد تضمنت :
( ١ ) أمرا بامتحان من يأتين إليهم مؤمنات مهاجرات واختبار صحة دعواهن الإيمان أو التوثق منها.
( ٢ ) ونهيا عن إعادتهن إلى الكفر إذا ثبتت صحة دعواهن ؛ لأنهن يكن قد أصبحن محرمات على الكفار وأصبح الكفار محرمين عليهن.
( ٣ ) وأمرا بالتعويض على أزواجهم الكفار ما أنفقوه عليهن.
( ٤ ) وإباحة لهم أن يتزوجوا باللائي جئن مؤمنات مهاجرات.
( ٥ ) ونهيا لهم عن الاستمرار في التمسك بأنكحة زوجاتهم اللاتي بقين على كفرهن وتخلفن عنهم مع تقرير حق الأزواج بمطالبة ذويهن الكفار بما أنفقوا عليهن وحق الأزواج الكفار بالمطالبة بما أنفقوه على زوجاتهم اللاتي أسلمن وهاجرن.
( ٦ ) وتقريرا لحق الأزواج المسلمين الذين تلتحق زوجاتهم بذويهن في دار الكفر باستيفاء ما أنفقوه عليهن من الغنائم التي قد تقع في أيدي المسلمين من أموال الكفار حينما يتيسر لهم ذلك.
( ٧ ) وتنبيها إلى أن هذه الأحكام هي أحكام الله التي يجب السير في نطاقها وهو العليم بمقتضيات الأمور الذي يقرر ما فيه الحكمة والصواب.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ..................... ﴾ الخ والآية التي بعدها وما ينطوي فيهما من أحكام وصور وتلقين :
لقد روى المفسرون ( ١ )١، أن الآية الأولى نزلت في نسوة جئن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجرات مؤمنات من مكة بعد صلح الحديبية، ومنهم من روى أنهن جئن وهو في الحديبية بعد أن تم الاتفاق بينه وبين قريش، وقبل أن يرجع إلى المدينة، ومنهم من ذكر أسماء اختلفت باختلاف الروايات مثل سبيعة بنت الحارث الأسلمية زوجة من بني مخزوم أو زوجة صيفي الراهب أو أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت عاتقا – غير متزوجة – أو أميمة بنت بشر إحدى نساء بني أمية بن زيد بن أوس الله كانت عند ثابت بن الدحداحة، فجاء ذووهن أو أزواجهن في طلبهن استنادا إلى شروط الصلح التي تنص على إرجاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يأتيه من مكة بدون إذن وليه ولو جاء مسلما، فأمر الله في الآية بعدم إرجاعهن.
واحتمال صحة إحدى الروايات قوي مع ترجيحنا وقوع الحادث بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بمدة ما على ما تلهمه روح الآية ومقامها المتأخر كثيرا عن سورة الفتح. فلو لم يكن هناك عهد لما كان ضرورة للأمر بعدم الإرجاع، ولما كان هناك مجال لمجيء الكفار ومطالبتهم بالإرجاع كما هو ظاهر.
والآيتان وحدة تشريعية تامة ومنسجمة بحيث يسوغ ترجيح نزولهما معا بقوة. وفيهما أمور ليست من أسباب ومحتوى الرواية ؛ حيث يصح القول بأن حكمة التنزيل اقتضت تضمين الآيتين أحكاما متصلة بأمور عديدة من باب واحد في مناسبة إحدى الحوادث المروية.
ولقد تعددت روايات المفسرين في حقيقة شروط الصلح لمعرفة ما إذا كان في الأمر بعدم الإرجاع نسخ لبعضها. فمن هذه الروايات أن النص كان مطلقا ( لا يأتيك أحد منا بدون إذن أهله إلا رددته ولو كان مسلما ). ومنها أنه كان بهذه الصيغة ( لا يأتيك رجل منا......... الخ ). ومنها أنه كان في شأن النساء فقط هكذا ( لا تأتيك امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج ترد على زوجها الذي أنفق ). وليس هناك نص للعهد في حديث صحيح.
والنفس تطمئن إلى الرواية الأولى أكثر من غيرها. ولا سيما وهناك رواية ذكرت أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو وكان مسلما قد قيده أبوه بالحديد وحبسه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية يرسف في أغلاله، وكان أبوه هو مندوب المفاوضة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان الاتفاق قد تم على الشروط فطلب الأب رد الابن تنفيذا للعهد فرده النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما شرحناه في سياق سورة الفتح. والرواية الثالثة متطابقة الفحوى مع الآية الأولى فلا يكون هناك ضرورة لأمر رباني ناسخ للاتفاق. وهذا فضلا عن أن نقض العهد الصريح وعدم تنفيذه لم يكن متسقا مع المبادئ القرآنية المكررة يشأن الوفاء بالعهود والعقود. وآيات سورة المائدة الأولى بخاصة قوية شديدة في شأن صلح الحديبية على ما شرحناه في مناسبتها. ومن جهة أخرى فإن المشركين ما كانوا ليقبلوا بذلك. وكانوا اعتبروا الصلح منقوضا، وحملوا تبعة نقضه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يرو شيء من ذلك. والمأثور أن العهد ظل محترما معتبرا إلى أن نقضه أهل مكة وحلفاؤهم بنو بكر بعد سنتين، فكان ذلك سببا لزحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأس المسلمين على مكة وفتحها.
والمتبادر أن قريشا كانوا يعتبرون نص العهد شاملا للنساء والرجال معا. فجاء ذوو النساء المهاجرات إلى المدينة ليطالبوا بردهن. ولم يكن هذا النص صريح الشمول، فشاءت حكمة التنزيل أن يؤمر المؤمنون بعدم إرجاعهن ما دام ليس هناك نص صريح، ثم شاءت أن يعوض أزواجهن عن النفقة التي أنفقوها والتي يتفق المؤولون على أن المراد منها الصداق إرضاء لهم ؛ لأنهم كانوا يرون في المطالبة بردهن شبهة من الحق. ولم ير أحد أنهم رفضوا هذا الحل ؛ حيث ينطوي في هذا أنهم لم يكونوا يرون أنفسهم محقين أو مستندين إلى نص صريح. وهو بعد حل فيه العدل والإحسان. وفيه تلقين جليل في كل موقف مماثل.
ويلفت النظر خاصة إلى جعل الحقوق متبادلة بين المسلمين والكفار في مطالبة الأزواج المسلمين تعويضا عن نسائهم اللائي تخلفن عنهم أو التحقن بذويهم ولو كن كوافر أصلا أو ارتدادا، وفي مطالبة الأزواج الكفار تعويضا عن نسائهم اللائي أسلمن والتحقن بالمسلمين. ففي ذلك تسوية متقابلة عادلة إنما تكون في ظروف عهدية وسلمية مستمرة ومحترمة من طرفيها. وفي ذلك أمارة من أمارات رحابة أفق وصدر الشريعة الإسلامية في المناسبات بين المسلمين وغير المسلمين، وتلقين جليل مستمر المدى في كل موقف مماثل أيضا.
والحادث الذي نزلت الآيتان في مناسبته، والأمر بعدم الإرجاع يدلان على كل حال على أن موقف المسلمين صار أقوى من موقفهم أثناء عقد صلح الحديبية، فاقتضت حكمة التنزيل التساهل في مسألة ليس فيها نص صريح. في حين لم يكونوا في تلك الأثناء من القوة ما يكفي لإصرارهم على المساواة في بعض الشروط، وبخاصة في عدم إرجاع من يأتي إليهم من ناحية المشركين مقابل عدم إرجاع هؤلاء من يأتي إليهم من ناحية المسلمين مما كان مثيرا لنفوس بعض المسلمين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الفتح.
ولقد روى المفسرون ( ١ )٢، روايات عديدة في كيفية الامتحان الذي أمرت الآية الأولى به. منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحلف المرأة بالله أنها ما خرجت من بغض زوج ولا لالتماس دنيا، وإنما خرجت حبا لله ورسوله. ومنها أنه كان يحلفها بأنها لم تخرج إلا للدين. ومنها أنه كان يطلب منها بيعة بصيغة الآية التالية للآيتين. وهي ( أن لا تشرك بالله شيئا ولا تسرق ولا تزني ولا تقتل أولادها ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها ولا تعصيه في معروف ). وهذه الرواية بخاصة من مرويات البخاري والترمذي في سياق تفسير الآية عن عائشة حيث قالت :( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية ) ( ٢ )٣. ونحن نرجح هذه الرواية ؛ لأنها أوثق سندا وبقرينة ورود الآية التي تحتوي الصيغة بعد الآيتين. ولعلها نزلت معهما.
ولقد انطوى في الآيتين صور عديدة من صور السيرة النبوية في العهد المدني زادتها الروايات جلاء.
( ١ ) من ذلك أن بعض النساء المكيات اللاتي أسلمن ولم يستطعن الهجرة، وظلت المتزوجات منهن في كنف أزواجهم المشركين كن يتحين الفرصة للهجرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تاركات وطنهن وأهلهن وأزواجهن على ما كان يحف هذا العمل من أخطار ومصاعب. وفي هذا صورة رائعة للمرأة العربية ودورها في الدعوة الإسلامية وما بثه الإسلام فيها من قوة وإخلاص وجرأة وإقدام وتضحية.
( ٢ ) ومن ذلك أن بعض زوجات المهاجرين تخلفن عن أزواجهن محتفظات بشركهن، ومؤثرات أهلهن على أزواجهن، وممن روت الروايات أسماءهن قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية زوجتي عمر بن الخطاب وأروى بنت ربيعة طلحة بن عبيد الله ( ١ )٤.
( ٣ ) ومن ذلك أن من المهاجرات من ارتددن وفررن من المدينة ولحقن بأهلهن. وممن ذكرت الروايات أسماءهن أم الحكم بنت أبي سفيان زوجة عياض بن شداد، وبروع بنت عقبة زوجة شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى زوجة عمرو بن عبدود، وهند بنت أبي جهل بن هشام زوجة هشام بن العاص بن وائل ( ٢ )٥.
( ٤ ) ومن ذلك أن بعض المسلمين ظلوا يحتفظون بعقد زوجيتهم بالكافرات اللاتي تخلفن عنهم ولم يسلمن ولم يهاجرن. وممن ذكرت الروايات أسمائهن عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وزوجاتهم اللاتي ذكرنا أسماءهن قبل قليل فطلقناهن بناء على أمر الله في الآية الأولى ) ( ٣ )٦.
( ٥ ) ومن الصور الطريفة التي رواها الطبري أن زوجة أحد المسلمين فرت إلى مكة وجاءت في هذه الأثناء امرأة من مكة مهاجرة مؤمنة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي ذهبت زوجته وقال للمرأة القادمة : هذا زوج التي ذهبت إلى المشركين أزوجكه ؟ فقالت : يا رسول الله عذر الله زوجة هذا أن تفر منه، لا والله ما لي به حاجة. فدعا رجلا جسيما اسمه البختري فقال لها : هذا ؟ قالت : نعم.
ومما يلحظ أن آية سورة البقرة ( ٢٢١ ) نهت عن نكاح المشركات. فالظاهر أن هذا النهي فهم على أنه بالنسبة للزواج بعد الإسلام، وأنه ليس شاملا للعقود الزوجية السابقة، فاحتفظ المسلمون بزوجاتهم الكافرات إلى أن نزلت هذه الآيات. وفي هذا مشهد من مشاهد تطور التشريع القرآني.
وقد قال المؤولون على ما ذكره الطبري وغيره في جملة :﴿ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ﴾ إن المرأة إذا جاءت مؤمنة مهاجرة ووجب أداء صداقها إلى زوجها الكافر أخذ هذا الصداق من المؤمن الذي يتزوجها، وهذا حل حق. غير أن هناك حالة مفروضة، وهي أن لا يتيسر للمرأة زواج والمتبادر أن أداء صداقها يكون على جميع المؤمنين أو على بيت مالهم. ويكون المخاطب بالتنفيذ في هذه الحالة ولي أمر المؤمنين فيجمعه من القادرين من المؤمنين، أو يؤ
( ٥ ) وإن فاتكم : بمعنى إن ضاع عليكم، أو ذهب منكم أو فر من عندكم.
( ٦ ) فعاقبتم : فكان لكم عقبى بالنصر وحصلتم على غنائم من أعدائكم.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ ( ١ ) اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ( ٢ ) وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ( ٣ ) الْكَوَافِرِ ( ٤ ) وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ( ١٠ ) وَإِن فَاتَكُمْ ( ٥ ) شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ ( ٦ ) فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ( ١١ ) ﴾ ( ١٠ – ١١ ).
الخطاب في الآيات موجه إلى المسلمين، وقد تضمنت :
( ١ ) أمرا بامتحان من يأتين إليهم مؤمنات مهاجرات واختبار صحة دعواهن الإيمان أو التوثق منها.
( ٢ ) ونهيا عن إعادتهن إلى الكفر إذا ثبتت صحة دعواهن ؛ لأنهن يكن قد أصبحن محرمات على الكفار وأصبح الكفار محرمين عليهن.
( ٣ ) وأمرا بالتعويض على أزواجهم الكفار ما أنفقوه عليهن.
( ٤ ) وإباحة لهم أن يتزوجوا باللائي جئن مؤمنات مهاجرات.
( ٥ ) ونهيا لهم عن الاستمرار في التمسك بأنكحة زوجاتهم اللاتي بقين على كفرهن وتخلفن عنهم مع تقرير حق الأزواج بمطالبة ذويهن الكفار بما أنفقوا عليهن وحق الأزواج الكفار بالمطالبة بما أنفقوه على زوجاتهم اللاتي أسلمن وهاجرن.
( ٦ ) وتقريرا لحق الأزواج المسلمين الذين تلتحق زوجاتهم بذويهن في دار الكفر باستيفاء ما أنفقوه عليهن من الغنائم التي قد تقع في أيدي المسلمين من أموال الكفار حينما يتيسر لهم ذلك.
( ٧ ) وتنبيها إلى أن هذه الأحكام هي أحكام الله التي يجب السير في نطاقها وهو العليم بمقتضيات الأمور الذي يقرر ما فيه الحكمة والصواب.

تعليق على الآية :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ..................... ﴾ الخ والآية التي بعدها وما ينطوي فيهما من أحكام وصور وتلقين :
لقد روى المفسرون ( ١ )١، أن الآية الأولى نزلت في نسوة جئن إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم مهاجرات مؤمنات من مكة بعد صلح الحديبية، ومنهم من روى أنهن جئن وهو في الحديبية بعد أن تم الاتفاق بينه وبين قريش، وقبل أن يرجع إلى المدينة، ومنهم من ذكر أسماء اختلفت باختلاف الروايات مثل سبيعة بنت الحارث الأسلمية زوجة من بني مخزوم أو زوجة صيفي الراهب أو أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط وكانت عاتقا – غير متزوجة – أو أميمة بنت بشر إحدى نساء بني أمية بن زيد بن أوس الله كانت عند ثابت بن الدحداحة، فجاء ذووهن أو أزواجهن في طلبهن استنادا إلى شروط الصلح التي تنص على إرجاع النبي صلى الله عليه وآله وسلم من يأتيه من مكة بدون إذن وليه ولو جاء مسلما، فأمر الله في الآية بعدم إرجاعهن.
واحتمال صحة إحدى الروايات قوي مع ترجيحنا وقوع الحادث بعد رجوع النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة بمدة ما على ما تلهمه روح الآية ومقامها المتأخر كثيرا عن سورة الفتح. فلو لم يكن هناك عهد لما كان ضرورة للأمر بعدم الإرجاع، ولما كان هناك مجال لمجيء الكفار ومطالبتهم بالإرجاع كما هو ظاهر.
والآيتان وحدة تشريعية تامة ومنسجمة بحيث يسوغ ترجيح نزولهما معا بقوة. وفيهما أمور ليست من أسباب ومحتوى الرواية ؛ حيث يصح القول بأن حكمة التنزيل اقتضت تضمين الآيتين أحكاما متصلة بأمور عديدة من باب واحد في مناسبة إحدى الحوادث المروية.
ولقد تعددت روايات المفسرين في حقيقة شروط الصلح لمعرفة ما إذا كان في الأمر بعدم الإرجاع نسخ لبعضها. فمن هذه الروايات أن النص كان مطلقا ( لا يأتيك أحد منا بدون إذن أهله إلا رددته ولو كان مسلما ). ومنها أنه كان بهذه الصيغة ( لا يأتيك رجل منا......... الخ ). ومنها أنه كان في شأن النساء فقط هكذا ( لا تأتيك امرأة ليست على دينك إلا رددتها إلينا، فإن دخلت في دينك ولها زوج ترد على زوجها الذي أنفق ). وليس هناك نص للعهد في حديث صحيح.
والنفس تطمئن إلى الرواية الأولى أكثر من غيرها. ولا سيما وهناك رواية ذكرت أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو وكان مسلما قد قيده أبوه بالحديد وحبسه جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديبية يرسف في أغلاله، وكان أبوه هو مندوب المفاوضة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان الاتفاق قد تم على الشروط فطلب الأب رد الابن تنفيذا للعهد فرده النبي صلى الله عليه وآله وسلم على ما شرحناه في سياق سورة الفتح. والرواية الثالثة متطابقة الفحوى مع الآية الأولى فلا يكون هناك ضرورة لأمر رباني ناسخ للاتفاق. وهذا فضلا عن أن نقض العهد الصريح وعدم تنفيذه لم يكن متسقا مع المبادئ القرآنية المكررة يشأن الوفاء بالعهود والعقود. وآيات سورة المائدة الأولى بخاصة قوية شديدة في شأن صلح الحديبية على ما شرحناه في مناسبتها. ومن جهة أخرى فإن المشركين ما كانوا ليقبلوا بذلك. وكانوا اعتبروا الصلح منقوضا، وحملوا تبعة نقضه على النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يرو شيء من ذلك. والمأثور أن العهد ظل محترما معتبرا إلى أن نقضه أهل مكة وحلفاؤهم بنو بكر بعد سنتين، فكان ذلك سببا لزحف النبي صلى الله عليه وآله وسلم على رأس المسلمين على مكة وفتحها.
والمتبادر أن قريشا كانوا يعتبرون نص العهد شاملا للنساء والرجال معا. فجاء ذوو النساء المهاجرات إلى المدينة ليطالبوا بردهن. ولم يكن هذا النص صريح الشمول، فشاءت حكمة التنزيل أن يؤمر المؤمنون بعدم إرجاعهن ما دام ليس هناك نص صريح، ثم شاءت أن يعوض أزواجهن عن النفقة التي أنفقوها والتي يتفق المؤولون على أن المراد منها الصداق إرضاء لهم ؛ لأنهم كانوا يرون في المطالبة بردهن شبهة من الحق. ولم ير أحد أنهم رفضوا هذا الحل ؛ حيث ينطوي في هذا أنهم لم يكونوا يرون أنفسهم محقين أو مستندين إلى نص صريح. وهو بعد حل فيه العدل والإحسان. وفيه تلقين جليل في كل موقف مماثل.
ويلفت النظر خاصة إلى جعل الحقوق متبادلة بين المسلمين والكفار في مطالبة الأزواج المسلمين تعويضا عن نسائهم اللائي تخلفن عنهم أو التحقن بذويهم ولو كن كوافر أصلا أو ارتدادا، وفي مطالبة الأزواج الكفار تعويضا عن نسائهم اللائي أسلمن والتحقن بالمسلمين. ففي ذلك تسوية متقابلة عادلة إنما تكون في ظروف عهدية وسلمية مستمرة ومحترمة من طرفيها. وفي ذلك أمارة من أمارات رحابة أفق وصدر الشريعة الإسلامية في المناسبات بين المسلمين وغير المسلمين، وتلقين جليل مستمر المدى في كل موقف مماثل أيضا.
والحادث الذي نزلت الآيتان في مناسبته، والأمر بعدم الإرجاع يدلان على كل حال على أن موقف المسلمين صار أقوى من موقفهم أثناء عقد صلح الحديبية، فاقتضت حكمة التنزيل التساهل في مسألة ليس فيها نص صريح. في حين لم يكونوا في تلك الأثناء من القوة ما يكفي لإصرارهم على المساواة في بعض الشروط، وبخاصة في عدم إرجاع من يأتي إليهم من ناحية المشركين مقابل عدم إرجاع هؤلاء من يأتي إليهم من ناحية المسلمين مما كان مثيرا لنفوس بعض المسلمين على ما شرحناه في سياق تفسير سورة الفتح.
ولقد روى المفسرون ( ١ )٢، روايات عديدة في كيفية الامتحان الذي أمرت الآية الأولى به. منها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يحلف المرأة بالله أنها ما خرجت من بغض زوج ولا لالتماس دنيا، وإنما خرجت حبا لله ورسوله. ومنها أنه كان يحلفها بأنها لم تخرج إلا للدين. ومنها أنه كان يطلب منها بيعة بصيغة الآية التالية للآيتين. وهي ( أن لا تشرك بالله شيئا ولا تسرق ولا تزني ولا تقتل أولادها ولا تأتي ببهتان تفتريه بين يديها ورجليها ولا تعصيه في معروف ). وهذه الرواية بخاصة من مرويات البخاري والترمذي في سياق تفسير الآية عن عائشة حيث قالت :( إن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية ) ( ٢ )٣. ونحن نرجح هذه الرواية ؛ لأنها أوثق سندا وبقرينة ورود الآية التي تحتوي الصيغة بعد الآيتين. ولعلها نزلت معهما.
ولقد انطوى في الآيتين صور عديدة من صور السيرة النبوية في العهد المدني زادتها الروايات جلاء.
( ١ ) من ذلك أن بعض النساء المكيات اللاتي أسلمن ولم يستطعن الهجرة، وظلت المتزوجات منهن في كنف أزواجهم المشركين كن يتحين الفرصة للهجرة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم تاركات وطنهن وأهلهن وأزواجهن على ما كان يحف هذا العمل من أخطار ومصاعب. وفي هذا صورة رائعة للمرأة العربية ودورها في الدعوة الإسلامية وما بثه الإسلام فيها من قوة وإخلاص وجرأة وإقدام وتضحية.
( ٢ ) ومن ذلك أن بعض زوجات المهاجرين تخلفن عن أزواجهن محتفظات بشركهن، ومؤثرات أهلهن على أزواجهن، وممن روت الروايات أسماءهن قريبة بنت أبي أمية بن المغيرة وأم كلثوم بنت عمرو بن جرول الخزاعية زوجتي عمر بن الخطاب وأروى بنت ربيعة طلحة بن عبيد الله ( ١ )٤.
( ٣ ) ومن ذلك أن من المهاجرات من ارتددن وفررن من المدينة ولحقن بأهلهن. وممن ذكرت الروايات أسماءهن أم الحكم بنت أبي سفيان زوجة عياض بن شداد، وبروع بنت عقبة زوجة شماس بن عثمان، وعبدة بنت عبد العزى زوجة عمرو بن عبدود، وهند بنت أبي جهل بن هشام زوجة هشام بن العاص بن وائل ( ٢ )٥.
( ٤ ) ومن ذلك أن بعض المسلمين ظلوا يحتفظون بعقد زوجيتهم بالكافرات اللاتي تخلفن عنهم ولم يسلمن ولم يهاجرن. وممن ذكرت الروايات أسمائهن عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله وزوجاتهم اللاتي ذكرنا أسماءهن قبل قليل فطلقناهن بناء على أمر الله في الآية الأولى ) ( ٣ )٦.
( ٥ ) ومن الصور الطريفة التي رواها الطبري أن زوجة أحد المسلمين فرت إلى مكة وجاءت في هذه الأثناء امرأة من مكة مهاجرة مؤمنة، فدعا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي ذهبت زوجته وقال للمرأة القادمة : هذا زوج التي ذهبت إلى المشركين أزوجكه ؟ فقالت : يا رسول الله عذر الله زوجة هذا أن تفر منه، لا والله ما لي به حاجة. فدعا رجلا جسيما اسمه البختري فقال لها : هذا ؟ قالت : نعم.
ومما يلحظ أن آية سورة البقرة ( ٢٢١ ) نهت عن نكاح المشركات. فالظاهر أن هذا النهي فهم على أنه بالنسبة للزواج بعد الإسلام، وأنه ليس شاملا للعقود الزوجية السابقة، فاحتفظ المسلمون بزوجاتهم الكافرات إلى أن نزلت هذه الآيات. وفي هذا مشهد من مشاهد تطور التشريع القرآني.
وقد قال المؤولون على ما ذكره الطبري وغيره في جملة :﴿ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا ﴾ إن المرأة إذا جاءت مؤمنة مهاجرة ووجب أداء صداقها إلى زوجها الكافر أخذ هذا الصداق من المؤمن الذي يتزوجها، وهذا حل حق. غير أن هناك حالة مفروضة، وهي أن لا يتيسر للمرأة زواج والمتبادر أن أداء صداقها يكون على جميع المؤمنين أو على بيت مالهم. ويكون المخاطب بالتنفيذ في هذه الحالة ولي أمر المؤمنين فيجمعه من القادرين من المؤمنين، أو يؤ
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ ( ١ ) وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ( ١٢ ) ﴾ ( ١٢ ).
( ١ ) ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن : ولا يقدمن على شيء مما تفعله الأيدي والأرجل فيه كذب وافتراء. وقد أولها معظم المؤولين بنسبة النساء لأزواجهم أولادا نتيجة للزنا والفاحشة. فبطنها الذي تحمل فيه ولد الزنا بين يديها، وفرجها الذي تلده منه بين رجليها ( ١ )١، وهو تأويل وجيه.
في الآية أمر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه إذا جاءه النساء المؤمنات يردن أن يبايعنه ويعطينه العهد على أنفسهن بأن لا يشركن ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا ينسبن كذبا لأزواجهن ولدا ليس منهم نتيجة للزنا والفاحشة ولا يعصينه في ما يأمر به من أمر معروف متعارف أنه خير وصالح ونافع، فليبايعهن وليستغفر لهن الله تعالى المتصف بالغفران والرحمة.
تعليق على الآية :
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ...................... ﴾ الخ
وما روي في صددها من أحاديث وروايات وما فيها من تلقين وبخاصة في صدد توطيد شخصية المرأة واستقلاليتها في المجتمع الإسلامي إزاء الرجل :
لقد أوردنا في سياق تفسير الآيات السابقة ما رواه البخاري والترمذي عن عائشة عن كيفية امتحان النبي صلى الله عليه وآله وسلم النساء اللاتي يأتين إلى المدينة مؤمنات مهاجرات، وهي مثل نص هذه الآية. مع التنبيه على أن صيغة حديث عائشة لا تفيد أنها نزلت لذلك. ولم نطلع على رواية أخرى في صدد نزولها. وكل ما هناك أن المفسرين رووا روايات عديدة في تطبيقها. وقد يرد بالبال أن تكون نزلت مع الآيتين السابقتين لها لتكون صيغة الامتحان. وفي حال صحة هذا الاحتمال تكون صلتها بالآيات السابقة لها وموضوعها وثيقة. غير أن اختلاف الصيغة بين هذه الآية والآيتين السابقتين لها يجعلنا نتردد في الجزم بذلك. فالخطاب في الآيتين السابقتين يوجه إلى المؤمنين بامتحان النساء المؤمنات اللاتي يجئن إليهم مهاجرات. والخطاب في الآية موجه إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالاستجابة إلى النساء المؤمنات إذا جئن إليه للمبايعة. والفرق غير يسير في ما يتبادر لنا بالرغم مما يمكن أن يصح أن يقال : إن الخطاب للمؤمنين يعني الخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم. وكل هذا يجعل الاحتمال أقوى أن تكون الآية نزلت مستقلة استجابة إلى طلب تقدم به بعض المؤمنات إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأن يبايعهن استقلالا عن الرجال. وقد روي شيء من ذلك في مناسبة الآية ( ١٩٥ ) من سورة آل عمران والآية ( ٣٥ ) من سورة الأحزاب على ما أوردناه في مناسبتهما. فإذا صحت وجاهة وقوة هذا الاحتمال فتكون الآية قد نزلت في ظرف مثل هذا الطلب وقبل مجيء المؤمنات مهاجرات من مكة، فجعلت صيغتها صيغة امتحان لهن على ما ورد في حديث عائشة الصحيح ووضعت بعد الآيتين اللتين ذكرتا حادث مجيئهن للتناسب الموضوعي وهو ما نرجحه. وتكون الآية مظهرا جليلا آخر من مظاهر عناية القرآن بالمرأة المسلمة وتقرير شخصيتها وأهليتها للتكليف والخطاب والتعامل استقلالا مما فيه معنى تقرير كونها ركنا في الدولة الإسلامية كالرجل سواء بسواء. ومما فيه معنى دعم لكون قوامة الرجل عليها التي قررتها آية سورة النساء ( ٣٤ ) هي منحصرة في الحياة الزوجية على ما شرحناه في سياقها شرحا يغني عن التكرار، وفي هذا ما فيه من روعة وجلال. على أنه لو صح الوارد الأول بكون الآية نزلت مع الآيتين السابقتين، فإن هذا المظهر الجليل البعيد المدى والقوي الدلالة في نطاق شرحنا الآنف يظل ملموحا في الآية بكل روعته وجلاله.
ولقد روى ابن هشام أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخذ البيعة من أول رهط أسلم من الأوس والخزرج قبل الهجرة إلى المدينة بصيغة هذه الآية ( ١ )٢. وروى الطبري عن أم عطية أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد مقدمه إلى المدينة جمع طائفة من نساء الأنصار في بيت، وجاء إليهن مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه فسلم عليهن من وراء البيت وقال : أنا رسول الله، فقلن : مرحبا وحبا، فقال : تبايعن على أن لا تشركين بالله شيئا، إلى جملة ولا تعصين في معروف، قلن : نعم. فمد يده من خارج الباب أو البيت، ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال : اللهم فاشهد.
ولقد روى المفسرون أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عقب فتح مكة أخذ البيعة من الرجال، ثم أخذ البيعة من النساء، وأن صيغة بيعة النساء كانت صيغة الآية. ومن طريف ما روي في صدد ذلك أن هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان من جملة من أقبل من نساء قريش على مبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكانت متنكرة ؛ لأنها حسبت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم حاقدا عليها، وقد يقتلها لما فعلته في عمه حمزة رضي الله عنه يوم أحد ؛ حيث روي أنها بقرب بطنه وأخذت قطعة من قلبه أو كبده فلاكتها شفاء لنفسها من قتل أبيها وإخواتها وابنيها في وقعة بدر ( ١ )٣. وقد عرفها النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع ذلك فدعاها باسمها فأتت فأخذت بيده فعاذت به وقالت : عفا الله عما سلف يا رسول الله، فصرف وجهه عنها. ولما لقن النساء ﴿ ولا يسرقن ﴾ قالت : والله إني لا أصيب من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلهن لي أم لا ؟ قال أبو سفيان : ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال، فضحك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولما لقنهن ﴿ ولا يزنين ﴾ قالت : يا رسول الله وهل تزني الحرة ؟ قال : لا والله ما تزني الحرة. ولما لقنهن :﴿ ولا يأتين ببهتان يفترينه... ﴾ إلخ. قالت : والله إن البهتان لقبيح، وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق، ولما لقنهن ﴿ ولا يقتلن أولادهن ﴾ قالت : ربيناهم صغارا وقتلتموهم كبارا فأنت وهم أبصر، وضحك عمر حتى استلقى على قفاه، وتبسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولما لقنهن ﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ قالت : ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك في شيء.
وروايات مبايعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم النساء بهذه الصيغة معقولة بالنسبة إلى ما بعد نزولها سواء أكان ذلك ممن كن يأتين مؤمنات مهاجرات قبل الفتح ويدعين الإسلام أم كان ذلك من نساء قريش عقب الفتح. أما روايات أخذ البيعة بنفس الصيغة قبيل هجرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى المدينة وعقب هجرته إليها ففيها نظر، إلا أن يكون النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد ألهم الصيغة قبل أن ينزل بها الوحي قرآنا. وفي هذا إذا صحت الروايات مشهد من مشاهد التوافق بين أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم الملهمة وبين الوحي القرآني ( ٢ )٤.
والنهي عن قتل الأولاد متصل بعادة وأد البنات على ما ذكره المفسرون، وقد كان النساء إلى ذلك إذا ما ولدن بنتا يخنقنها حال ولادتها سخطا وكراهية ولادة البنات وتفاديا من غضب أزواجهن. ولقد ندد القرآن المكي بوأد البنات في الآية ( ٨ ) من سورة التكوير والآية ( ٥٩ ) من سورة النحل. ونهي عن قتل الأولاد من إملاق أو خشية إملاق في الآية ( ٣١ ) من سورة الإسراء والآية ( ١٥١ ) من سورة الأنعام، فجاءت الآية هنا مطلقة لتؤيد الأمرين معا، فيتساوق في ذلك القرآن المدني مع المكي.
وفي فقرة ﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ تلقين جليل بالنسبة لظروف نزول الآية وبالنسبة لواجب المسلمين نحو أولياء أمورهم وواجب هؤلاء نحو المسلمين ؛ حيث قرن النهي عن عصيان النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعبير ﴿ في معروف ﴾ للإيذان بأنه ليس من حق ولي الأمر أن يأمر بمعصية، وأن ينتظر من الناس طاعة مطلقة بدون قيد. وبأن الطاعة الواجبة عليهم هي فيما هو متعارف عليه أو معروف بأنه خير وصلاح ومفيد ولا إثم فيه ولا منكر ولا عدوان – ولو كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم – وهذا من باب التعليم والتوكيد على هذا المبدأ الدستوري القرآني ؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم معصوم عن الأمر بمعصية أو بما ليس فيه صلاح وخير وفائدة.
وقد سبق قيد قريب من هذا في إحدى آيات سورة الأنفال ( ٢٤ ) التي تأمر المؤمنين بالاستجابة إلى الرسول إذا دعاهم لما فيه خيرهم وحياتهم. فهذا القيد، وذلك ينطويان على مبدأ دستوري قرآني عام بسبيل تنظيم الحقوق بين المسلمين وأولياء أمورهم. وبسبيل تقرير كون الحكم في الإسلام ليس مطلقا وإنما هو مقيد بأحكام الكتاب والسنة وبما فيه الخير والحق والصلاح. وقد انطوى في آية سورة النساء ( ٥٩ ) حل دستوري لذلك فيما إذا قام نزاع عليه بين المسلمين أو بين المسلمين وأولياء أمورهم، وهو رد النزاع إلى الله ورسوله أي إلى كتاب الله وسنة رسوله على ما شرحناه في سياقها. وهناك حديث رواه الخمسة عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال :( السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب أو كره ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة ) ( ١ )٥. حيث ينطوي فيه تدعيم حاسم.
ولقد روى المفسرون أحاديث وروايات في صدد هذه الجملة يكاد ظاهرها يبعدها عن المعنى الرائع الدستوري الشامل الذي نوهنا به. ويجعلها في صدد أمور ثانوية أو محددة. فقد روى الخازن عن أسيد بن أسيد عن امرأة من المبايعات قالت :( كان فيما يأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من المعروف الذي أخذ علينا أن لا نعصيه فيه : أن لا نخمش وجها ولا ندعو ويلا ولا نشق جيبا ولا ننشر شعرا ) وعن أنس :( أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أخذ على النساء حين بايعهن أن لا ينحن. فقلن : يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم نساء أسعدننا في الجاهلية – أي نحن معنا على أمواتنا – فنسعدهن ؟ فقال : لا إسعاد في الإسلام ) ( ١ )٦، وروى الطبري عن أبي الجعد أن الجملة ﴿ ولا يعصينك في معروف ﴾ هي النوح. وعن ابن عباس :( ولا يعصينك في معروف أي لا ينحن ) وعن زيد بن أسلم :( ولا يعصينك في معروف أي لا يخدشن وجها ولا يشققن جيبا ولا يدعون ويلا ولا ينشرن شعرا ). وعن قتادة :( أخذ عليهن لا ينحن ولا يخلون بحديث الرجال إلا مع محرم ).
وهذه الروايات والأحاديث قد تكون صحيحة، غير أنها ليس فيها حديث نبوي يفسر الجملة بالمنهيات أو يحصرها فيها. وليس من شأنها بالتبعية أن تغطي على المعنى الدستوري العام المطلق الذي ينطوي في الجملة. وكل ما في الأمر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان ينهى النساء حينما كان يأخذ البيعة منهن عن بعض عاداتهن المنكرة التي فيها معصية والتي هي من متناول النهي القرآني، فالتبس الأمر على الرواة.
ونستطرد إلى القول بأن المفسرين أوردوا أحاديث نبوية عديدة في سياق تفسير هذه الجملة في النهي عن النياحة وردت في الكتب الخمسة أيضا. وقد رأينا أن نجاريهم في إيرادها لما فيها من تأديب نبوي رائع. من ذلك حديث عن عبد الله رواه الخمسة إلا أبا داود جاء فيه :( قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم : ليس منا من ضرب الخدود وشق
١ التفسير الأخير للنيسابوري..
٢ ابن هشام ج ٢ ص ٤١ بصيغة التذكير..
٣ انظر ابن هشام ج ٣ ص ٤١، وج ٢٥١ وما بعدها..
٤ هناك حديث عن عبادة بن الصامت رواه الشيخان والترمذي والنسائي جاء فيه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم وفي مجلس فقال: تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تسرقوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق فمن وفى منكم فأجره على الله). انظر التاج ج ٣ ص ٣٤. وعبادة بن الصامت من الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم قبيل هجرته إلى المدينة وعينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم نقيبا مع رفاق له على ما شرحناه في سياق (الآية: ٣٠) من سورة الأنفال. وهذا الحديث الصحيح قد يفيد أن هذه البيعة تمت بعد الهجرة النبوية. والله أعلم..
٥ التاج ج ٣ ص ٤٠..
٦ من العجيب أن الطبري روى حديثا مناقضا لهذا الحديث عن مصعب بن نوح الأنصاري أن عجوزا لما سمعت النبي صلى الله عليه وآله وسلم يأخذ على النساء عهدا بعدم النوح قالت: يا رسول الله إن أناسا كانوا أسعدوني على مصائب أصابتني، وقد أصابتهم مصيبة، فأنا أريد أن أسعدهم فقال لها: فانطلقي فكافئيهم، فانطلقت ثم أتت فبايعته..
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ ( ١ ) كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ( ٢ ) ﴾ ( ١٣ ).
( ١ ) قد يئسوا من الآخرة : من المفسرين من أول الجملة بمعنى : قد يئسوا من رحمة الله ورضائه وثوابه في الآخرة. ومنهم من أولها بمعنى قد يئسوا من أي احتمال للبعث الأخروي. وكلا التأويلين وجيه تتحمله العبارة.
( ٢ ) كما يئس الكفار من أصحاب القبور : بعض المفسرين أول الجملة بمعنى أن الأحياء من الكفار قد يئسوا من أي احتمال لبعث الذين ماتوا وصاروا أصحاب القبور. وبعضهم أولها بمعنى أن الأموات من الكفار يئسوا من أي بعث أخروي أو من رحمة الله ورضائه في الآخرة، والتأويلات الثلاثة وجيهة ومحتملة.
وفي هذه الآية نهي للمؤمنين عن موالاة أناس غضب الله عليهم، فغدوا يائسين من رضاء الله في الآخرة، أو ليس عندهم أي احتمال لبعث أخروي. وكان مثلهم في ذلك كمثل يأس الكفار الأموات من رحمة الله ورضائه في الآخرة أو يأس الكفار الأحياء من أي احتمال لبعث الأموات.
ولم يرو المفسرون ( ١ )١، رواية في نزول الآية، وإنما قالوا : إن المقصود من ( قوم ) هم اليهود وإنه كان أناس من فقراء المسلمين يتصلون باليهود ويخبرونهم بأخبار المسلمين فيصيبون من ثمارهم فنهاهم الله.
ويلحظ أن السورة قد نزلت قبيل الفتح المكي على ما سبق ذكره. وقد كان يهود المدينة قد أجلوا قبل ذلك بنحو سنتين عنها، كما أن خيبر وغيرها من القرى كانت دخلت في حيازة النبي صلى الله عليه وآله وسلم والمسلمين وحكمهم، فلم يبق يهود يصح أن يتخذهم المسلمون أولياء. ولقد بدأت السورة بنهي المسلمين عن اتخاذ الكفار المشركين أولياء والمساررة إليهم بالمودة. ويتبادر لنا أن حكمة التنزيل شاءت أن تختم بالنهي نفسه حتى يجتمع طرفاها في أمر واحد. فإذا صح هذا يكون في الآية مشهد من مشاهد التأليف القرآني. ويكون القوم هم الكفار المشركون أنفسهم، وهو ما نرجو أن يكون صحيحا. وليس من الضروري أن يكون وصف القوم بأنهم الذين ﴿ غضب الله عليهم ﴾ مصروفا إلى اليهود، ولو أن القرآن كثيرا ما وصفهم به، وهذا الاعتبار هو على الأغلب الذي أوحى بذلك، فالوصف يصح على كل كافر بطبيعة الحال. والله تعالى أعلم.
١ انظر تفسير الطبري والبغوي وابن كثير وغيرهم..
Icon