تفسير سورة الممتحنة

تفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة
تفسير سورة سورة الممتحنة من كتاب تفسير ابن عرفة المعروف بـتفسير ابن عرفة - النسخة الكاملة .
لمؤلفه ابن عرفة . المتوفي سنة 803 هـ

سُورَةُ الْمُمْتَحَنَةِ
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا... (١)﴾
ابن عطية: نزلت في غزوة الحديبية، وقال الزمخشري: يروى أن امرأة أتت رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم [بالمدينة وهو يتجهز للفتح*] (١)، وهذا هو الصواب، لأن غزوة الحديبية لم ينقل أنها كانت فيها الكثرة من النَّاس، بحيث يحذر منهم حاطب بن أبي بلتعة بخلاف الفتح، وهنا ثلاثة أسئلة:
الأول: أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال لعمر: " [وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ*] "، فقبل عذره، ولم يقبل عذر الثلاثة الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم في غزوة تبوك، مع أن فيهم من حضر بدرا؟ وجوابه: [أنه*] خاطبهم بالمفسدة وعافاه الله منها بإعلامه نبيه وإظهاره الكتاب قبل [وصوله*] إلى الكفار، والثلاثة المتخلفون وقع منهم التخلف [بالفعل*]، فالمراد بقوله: اعملوا ما شئتم، [الهمُّ*] بالمفسدة، [لا بقاؤها بالفعل*]، لأن قضية حاطب قضية [**في عين]، وليس فيها إلا الهم بالمفسدة، والمشهور عند الأصوليين في العام إذا ورد على سبب أنه [يقتصر*] على سببه.
السؤال الثاني: كيف طلب عمر رضي الله عنه، أن يضرب عنقه بعد تصديق النبي ﷺ وعلى آله، لسارة: أمسلمة جئت؟ قالت: لا. والخطاب بـ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا)، تصديق له أيضا في أنه مؤمن، وجوابه: أنه توهم أن قتله حد وأدب لا أنه مرتد.
الثالث: ذكر الزمخشري، قول رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم لسارة: أمسلمة جئت، قالت: لَا، قال: أمهاجرة جئت قالت: لَا، فيرد في هذا السؤال تقريره أنه يلزم من انتفاء الشرط انتفاء المشروط، والإسلام شرط في المعجزة، وقد سألها عنه أولا فنفته، فلم سألها ثانيا عن الهجرة؟ مع علمه بأنها غير مسلمة، فإِن أجيب: بأنه ليس المراد الهجرة الشرعية، بل لتحصيل حاجة، فإنها إنما خرجت لإلحاقها الفاقة، رد بأنه لو كان كذلك لما [أجابت*] بقولها: لَا، وهنا أيضا.
سؤال رابع: وهو أن لفظ الآية منافٍ لسبب نزولها، وتقريره أن السبب يقتضي العتب، والخطاب في الآية بوصف الإيمان وعدم إفراد المنادى [ينافيه*].
قوله تعالى: (تُلْقُونَ).
(١) النص في الكشاف هكذا:
"روى أن مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة أتت رسول الله ﷺ بالمدينة وهو يتجهز للفتح، فقال لها: أمسلمة جئت؟ قالت: لا. قال: أفمهاجرة جئت؟ قالت: لا. قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل والموالي والعشيرة، وقد ذهبت الموالي، تعنى: قتلوا يوم بدر، فاحتجت حاجة شديدة، فحث عليها بني عبد المطلب فكسوها وحملوها وزوّدوها، فأتاها حاطب بن أبي بلتعة وأعطاها عشرة دنانير وكساها بردا، واستحملها كتابا إلى أهل مكة نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكة، اعلموا أنّ رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم يريدكم فخذوا حذركم، فخرجت سارة ونزل جبريل بالخبر، فبعث رسول الله ﷺ عليا وعمارا وعمر وطلحة والزبير والمقداد وأبا مرثد -وكانوا فرسانا- وقال: انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ، فإن بها ظعينة معها كتاب من حاطب إلى أهل مكة، فخذوه منها وخلوها، فإن أبت فاضربوا عنقها، فأدركوها فجحدت وحلفت، فهموا بالرجوع فقال على رضى الله عنه: والله ما كذبنا ولا كذب رسول الله، وسل سيفه، وقال: أخرجى الكتاب أو تضعي رأسك، فأخرجته من عقاص شعرها". اهـ
الإلقاء أعم من الإيصال والحصول، فلا يلزم منه حصول المودة، كما وقع في هذه القصة.
قوله تعالى: (تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ).
ابن عطية: بدل من (تُلْقُونَ)، ويجوز أن [تكون*] في موضع خبر ابتداء، كأنه قال: أنتم تُسِرُّونَ، ويصح أن يكون فعلا مرسلا [ابتدئ*] به القول، والإلقاء بالمودة [معنى ما*] والإسرار بها معنى زائد على الإلقاء، فيترجح بهذا أن (تُسِرُّونَ) فعل [ابتدئ*] به القول، أي تفعلون ذلك وأنا أعلم، انتهى، أراد أنه أخص من الأول، لأن الإسرار إلقاء وزيادة، وجعله أبو حيان بدل اشتمال، وتقديره أن الإلقاء متناوله ومشتمل عليه باعتبار الصادقية، والثاني يشتمل على الأول باعتبار اللزوم ولا ضعف فيه، لأن بدل [الأخص من الأعم، إنما يراد به*] بدل بعض من كل. الزمخشري: [والباء في*] بالمودة إما زائدة مؤكدة [للتعدي*]، وإما ثابتة على أن مفعول (تلقون) محذوف، أي تلقون إليهم أخبار رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم بسبب المودة، ابن عطية: ألقيت يتعدى بحرف الجر، فدخول الباء وزوالها سواء ونظيره، قوله تعالى: (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي)، انتهى، هذا كله إنما جاء من جعل المودة راجعة لموادتهم الكفار، ولنا أن نفهمه على أن المراد تسرون إليهم الحديث بسبب المودة بينكم وبين قرابتكم الذين معهم، لأن إسرارهم بسبب [مودتهم*] لم تقع؛ لأن حاطبا لم تحصل منه مودة.
قوله تعالى: (سَوَاءَ السَّبِيلِ).
أبو حيان: مفعول به أو ظرف انتهى، يرد كونه ظرفا بأن لَا يحسن أن يقال: [ضل*] في سواء السبيل، لأنه ظرف للرشاد لَا للضلال [ففيه*] تناقض، فإن قلت: سواء السبيل مشتمل على [طرف*] ضل في بعضها، واهتدى في البعض، لأنه مؤمن، قلت: طريق الحق واحدة، والضلال في بعضها مرتد إذا تعمد ذلك بعد هذه الآية، أو يقال: سواء السبيل هو وسط السبيل، فقد يضل عن الوسط، ويبقى في [طرفها*] فهو بهذا المعنى [طرف*].
قوله تعالى: ﴿إِنْ يَثْقَفُوكُمْ... (٢)﴾
فيه سؤال، وهو المرتب جوابا للشرط متأخر عنه، [وكونه*] أخذلهم ثابت سواء قاتلوهم وثقفوهم أم لَا، فكيف يصح ترتيبه عليه؟ والجواب من وجهين: متأخر عنه الأول أن المتقدم على الشرط كونهم أعداء فقط، والمتأخر عنه لمجموع عداوتهم
وبسطهم ألسنتهم بالسوء، والشيء في نفسه ليس كموقع غيره، فإن قلت: قد تقرر في علم المنطق أن الشرطية المتصلة تتحد بعد تاليها بالسؤال، [فإن قلت*]: ذلك باعتبار [**الأمثل]، وأما هنا فالمعتبر المجموع الثاني أن المتأخر استصحاب عداوتهم أو شدتها وبسط الأيدي في بعض النَّاس أشد من بسط الألسن، وفي بعضهم على العكس.
قوله تعالى: (وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ).
إن كان استئنافا [فظاهر*]، وإن كان معطوفا، فكيف جاء ماضيا والأول مستقبل؟ والجواب: أنه ماضٍ لفظا ومعنى، وقد ذكره، لكن إنما يصح حيث يكون فعل الشرط لفظا ومعنى، وأجاب الزمخشري: بأن تلك المودة ثابتة قبل.
قوله تعالى: ﴿أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ... (٣)﴾
إن قلت: لم قدم الأرحام وهي أعم، وقد تقرر أن نفي الأعم أحسن من نفي الأخص، فهلا اكتفى بذكر الأرحام عن ذكر الأولاد؛ لأن نفي الأعم يستلزم نفي الأخص؟ فالجواب: أنه ذكر الأولاد خشية احتمال صورة التخصيص، لأنه قد يخصص ذلك العام بالأولاد، فإِن قلت: هلا ذكرت الأولاد قبل الأرحام؟ فيكون العطف تأسيسا، وأما هنا فنفي الأعم [أخص*] من نفي الأخص، قلت: قد تقرر في [علم*] المنطق في [العُكُوسات أن هذا] من باب استلزام الأعم [أمرا*] لعدم استلزام الأخص له، ورد الحديث: " ["إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ*] "، فإن كان (لن [تنفعكم) *] جواب (لو)، فظاهر لأنهم إذا كفروا لَا ينفعهم شيء من ذلك، وإن كان استئنافا؛ فيكون المراد نفي المنفعة عن الرحم، بما هو رحم، وعن الولد بما هو ولد، ومنفعة الولد الصالح لَا لمجرد كونه ولدا، بل بوصف الإيمان الخاص.
قوله تعالى: (يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ).
قال أبو حيان: لَا يصح أن يكون الظرف مقاما لأنه منصوب، ونقل في سورة الأنعام في قوله تعالى: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ)، عن الأخفش: أنه أجاز إقامته، وعلى أنه مقام هنا يرفع لإضافته إلى المبنى، ونقل السهيلي صحة إقامته، وإن كان غيره منصرف.
قوله تعالى: ﴿فِي إِبْرَاهِيمَ... (٤)﴾
خصه بالذكر إما لأنه أول ما ابتدأ هذه المقالة، وإما لأن جميع الملل آمنوا ووافقوا عليه، ابن عطية: اختلفوا في الذين معه، فقيل: أراد من آمن به من النَّاس، وقال
213
الطبري وغيره: أراد الأنبياء الذين كانوا في عصره وقريبا من عصره، وهذا القول أرجح التأويل، لأنه لم يروا أن إبراهيم كان له أتباع مؤمنون في مكافحتهم نمرود، وفي البخاري أنه قال لسارة حين رحل بها إلى الشام مهاجرا إلى بلاد النمرود: [لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ*]، قيل: لعل المراد من آمن به بعد ذلك، قيل: الأصل استصحاب الحال، وأنه لم يكن معه أحد قبل الأنبياء كانوا في زمانه مثل نوح ولوط، فصدق أنهم معه على دينه لأنهم قوم، ويحتمل أن المراد [بالمعية*] [المشاركة*] في الإيمان لَا في الزمان، قيل: من اتبعه وأتى بعده من الأنبياء [وقومهم معه*].
قوله تعالى: (وَمِمَّا تَعْبُدُونَ).
كالتأكيد لما قبله، لأنهم إنما تبرءوا منهم لأجل عبادتهم غير الله، فإِذا تبرءوا منهم لأجل [شركهم*]؛ فأحرى أن يتبرءوا من معبودهم الذي أشركوه مع الله تعالى.
قوله تعالى: (وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ).
العداوة هي الانقطاع، وتكون بين المتحابين وبين المتباغضين، فقد تنقطع الوصلة بين المتحابين بالسفر ونحوه، وقد تنقطع وينشأ عنها [التباغض*] وقد لَا ينشأ، والبغضاء هي الكراهية القلبية [سواء كانت مع المواصلة*] أو مع الانقطاع، فقد تكره الشخص وأنت تواصله في الظاهر، فإِن قلت: إذا كانت البغضاء من الأمر القلبي، فكيف وصفها بالظهور؟ فقال: (وبدا بيننا وبينكم)، فالجواب: بما قال ابن التلمساني في الأمور القلبية: أنها قد تعرف بأمارات تظهر دليلا عليها كحمرة الخجل [وصفرته*].
قوله تعالى: (إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ).
مستثنى العداوة والبغضاء.
قوله تعالى: (عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا).
تقديم المجرور للتشريف، والاعتناء للاختصاص، لأنه مستفاد من مادة التوكل، وقال صاحب لحن العوام: من لحنهم: قولهم: توكلت عليك وعلى الله، وإنما يقال: توكلت على الله ثم عليك، قال شيخنا: الصواب أنه لَا يطلق التوكل على المخلوق بوجه، والإنابة هي اعتقاد التوحيد والإيمان بالقلب والتوكل متأخر عن ذلك، لأنه إنما يكون بعد النظر في الحوادث، وفي الأمور الدنيوية بخلاف الإنابة، لأنها متقدمة و [الْمَصِيرُ*] المرجع متأخر عن الجميع، فهلا قدمت النيابة ووسط التوكل؟ والجواب: أن المراد [بالإنانة*] الانتقال من مقام إلى مقام، إن قلت: إنه من كلام إبراهيم عليه السلام، وإن قلنا: إنه من كلامنا بمعنى [نقول*] (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا)، فإِن قلت: المراد بالإنابة
214
التوبة من [**الفروع]، قلت: التوبة مذكورة في علم أصول الدين، وليس لها في كتب الفقهاء ذكر، وإن تكلموا في متعلقها بأن التوبة أمر اعتقادي قلبي.
قوله تعالى: ﴿لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً... (٥)﴾
فسره ابن عطية: بمتعلقين إما بأن [تغلبهم علينا*]، [فتكون لهم فتنة وسبب ضلالة*]، لأنهم يتمسكون بكفرهم، ويقولون: إنما غلبناهم لأنا على الحق وهم على الباطل، أو [لا تسلطهم*] علينا فيفتنوننا فكأنه قال: لَا تجعلنا مفتونين، انتهى، على الأول: يكون الدعاء راجع للكفار بالذات ولنا باللزوم، وعلى الثاني: هو دعاء لنا بالذات، ويتناول الكفار باللزوم.
قوله تعالى: (وَاغْفِرْ لَنَا).
الأول: دعاء بأمر راجع للدارين، والثاني: خاص بالآخرة، وعقبه بـ (الْعَزِيزُ)، لأنه مناسب لذكر الفتنة.
قوله تعالى: ﴿لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ... (٦)﴾
بدل اشتمال من (لكم)، وإلا لزم أن يكون [بدل*] كل من بعض، لأن الذين يرجون الله واليوم الآخر أعم من ضمير (لكم).
قوله تعالى: (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
وفي سورة الحديد (فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)، وقرئ بإسقاط (هو)، فإِن قلت: الصيغ متواترة، وقد ورد النهي عن الاختلاف في القرآن بالزيادة والنقص؟ قلت: إنما ذلك حيث لم يرد ذلك اللفظ في مثل ذلك في غير الحديد سقطا وفي مثله من غيرها زائد، فليس من ذلك المعنى، وانظر ما تقدم في سورة الحديد.
قوله تعالى: ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ... (٧)﴾
الحكم على موصوف لصفة على ثلاثة أقسام: فتارة يجب في ذلك الحكم مراعاة تلك الصفة، وتارة يستحب، وتارة يحرم، والآية من القسم الآخر، لأن جعل المودة بين المؤمنين والكافرين لأجل عداوتهم حرام، إنما المودة لأجل القرابة وكونها لأجل العداوة لَا تصدر إلا من منافق.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي... (٩)﴾
قال عياض في المدارك لما عرف بإسماعيل القاضي، قال: حكى الدارقطني عنه أنه دخل عنده عبدون بن صاعد الوزير، وكان نصرانيا، فقام له ورحب به فرأى إنكار
الشهود لذلك، قال: قد علمت إنكاركم، وقال تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) الآية، وهذا يقضي حوائج المسلمين، وهو سفير بيننا وبين المعتضد، وهذا من البر، فسكت المعتضد عن ذلك.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِب الْمُقْسِطِينَ).
إن قلت: هلا قال: إن الله يحب البارين، فيكون راجعا للمعطوف عليه، وهو الأصل؟ فالجواب: أن تعليق الحكم على الأعم أبلغ، لأن المقسط أعم من البار، فإِن ثبت أنه محبوب فأحرى البار.
قوله تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ).
يدل على نفي مفهوم المخالفة، لأن هذا مفهوم ما قبله.
قوله تعالى: (وَأَخْرَجُوكُم مِنْ).
عطف الصفات والواو بمعنى أو، لأنه إذا جعل من عطف الموضوعات، والواو على بابها يلزم عليه حذف الموصول والفاصلة، وهو غير جائز، واختلف الأصوليون في [لا تفعل*]، هل هي للتحريم أو للكراهة، وكذلك ذكر الفقهاء في لفظها، والآية حجة لمن يقول إن ذلك لَا يدل على التحريم، ولولا ذلك لما كان لقوله (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، فائدة، والمراد بالظلم هنا الشرك، لأن موالاتهم للكفار من حيث اتفاقهم بقتالهم إياهم في الدين، دليل على ردتهم وشركهم، ويحتمل أن تكون الموالاة لَا من هذه الحقيقة، ويكون المراد بالظلم المعاصي والمخالفة في الفروع لَا في الاعتقاد، لاقتضاء الآية الحصر لاسم الإشارة والمضمر وتعريف الخبر، فالمراد أن ليس بظالم، فإِذا [حملناه*] على المعاصي بالإطلاق صدق اختصاصهم بالظلم، وإذا [حملناه*] على الشرك لم يصح الحصر والعطف ترق، لأن المقاتلة أشد من الإخراج من الدار، وعطف الأشد على الأخف في باب النهي والنفي ترق، لأن نفي الأخص لَا يستلزم نفي الأعم.
قوله تعالى: ﴿إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ... (١٠)﴾
أي النساء المدعيات الإيمان فهن مؤمنات باعتبار الدعوى، فاختبروا صحة دعواهم بإحلافهم على ذلك.
قوله (مُهَاجِرَاتٍ)، حال، فإن قلت: الإيمان شرط في الهجرة، فيلزم مقارنة الشرط للمشروط، لأن الحال مقارنة لصاحبها، قلت: هي حال مقدرة.
216
قوله تعالى: (اللَّهُ أَعْلَمُ).
احتراس وإشارة إلى أن التحليف في الامتحان، وأنه ليس المطلوب منكم غاية الامتحان [لتصلوا*] إلى العلم بذلك، بل المراد مطلق الامتحان ليحصل لكم الظن القوي.
قوله تعالى: (بِإِيمَانِهِنَّ).
وأما العلم فخاص بالله عز وجل، وهو منا بمعنى الظن.
قوله (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)، إن قلت: يلزم من عدم حليتهن لهم عكسه، فما [سر*] التصريح بالعكس؟ فالجواب: أنه لو لم يصرح بالعكس لفهم صدر الآية، أنه يجري مجرى الضرورة المثالية، [**وأنها لَا تعكس كيفها كما دلتها فتنعكس مثلا إلى الدائمة]، فتبين أنها تنعكس في الجهة ضرورة، وكان الشيخ أبو العباس ابن إدريس يقول: يؤخذ [من*] قوله (وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ)، أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، وإلا لم يكن لذكره بعد قوله (لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ)، فائدة لأنه يغني عنه.
قوله تعالى: (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ).
أي إذا ارتدت منكم امرأة، وهربت إلى الكفار، فاطلبوا من الكفار أن يدفعوا لزوجها مهرها.
قوله (وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا)، إذا ارتدت من الكفار امرأة إليكم، فادفعوا أنتم لزوجها مهرها، والأمر بسؤال الكفار من المؤمنين نفقة إذ راجعهم ظاهر، لأنه جزاء لسببه، وتقدم ذكره في الآية لقوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ)، وأما أمرنا نحن بأن [نطلب*] الكفار صفة من هربت منا إليهم، فلم يجر له سبب، لكنه ذكر باللزوم فحقه أن [يكون*] مؤخراً، فيقال (وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا) أو (وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ)، لكن إنما قدم لأنه أهم، إذ هو راجع للمؤمنين في أخذهم [مهر من جاءتهم*]، والأخذ راجع لانتفاء الكفار لاسيما، إن قلنا: إنهم مخاطبون بفروع الشريعة، وهذا الأمر ليس للوجوب لأنه بلفظ السؤال، فدل على ضعفه، وهو للإباحة أو الندب، فإن قلت: يؤخذ من الإباحة عدم المتابعة في الذنوب، لأن غاية السؤالين قبض المسئول، قلت: لَا يلزم من السؤال حصول القبض هنا، الذي هو مناف للمقاصد، ولما عرف عياض في المدارك بأبي محمد عبد الله بن السماك قال: قال الداوودي: كان ابن السماك إذا سئل عن غيره، هل يقول هو مؤمن عند الله أو يسكت، فقال: يقول: هو مؤمن عند الله، ووافقه جماعة من القرويين، وخالفه ابن أبي زيد، وأكثر علماء القيروان، وقالوا: إنما يقال:
217
إن كانت سريرتك مثل علانيتك فأنت مؤمن عند الله، ووقع بينهم بهذا مهاجر وتقاطع، فقلنا لابن التبان: كيف تقطع على غيبه فقال: فإِن كانت سريرته مثل علانيته كان كذلك يقال هو مؤمن من في حكم الله في مثل قوله (فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ)، فقال لي أبو محمد: ليس هذا أراد [فقلت*] كذلك، يقول: [ولما*] عرف بأبي الحسن علي بن محمد الدباغ، قال: سئل عنها، فقال: إذا وقفنا بين يدي الله تعالى لم نسأل [هل*] نحن مؤمنون عنده ولا عندكم؛ فأعيد عليه [الكلام*]، هل تقطع كغيرك بالإيمان عند الله، فقال: لَا إلا أني أقول له: إن كان ظاهرك وباطنك واحد، وكان ينهي عن الكلام فيها، ويقول: ما لنا ولشيء إذا أصبنا فيه لم نؤجر، وإن أخطأنا أثمنا، ويقول لأبي حسن الزيات: ذهبنا إلى العراق وأتينا بهذه البدعة، وهو الذي جاء بها وألقاها بالقيروان، قوله (يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ)، أتى به مستقبلا مع أن الحكم ماض، باعتبار ظهور متعلقين.
قوله (وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ... (١١).. ، فإِن قلت: هذا تكرار؛ لأنه مستفاد من الأول؟ فالجواب: أن هذا أمر للمؤمنين بأن يدفعوا لبعضهم مهر زوجته الذاهبة، والأول أمر للمؤمنين بأن يدفعوا للكافرين مهر زوجته الذاهبة عنه، أو أمر للكفار أن يدفعوا للمؤمنين مهر زوجته الذاهبة، أي [وآتوا*] (الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ).
قوله (الَّذِينَ آمَنُوا)، أنتم مصدقون [بوعدكم*] ووعيدهم، والذي عليه المفسرون [في*] الآية، أنه يدفع من الغنيمة للزوجة الذاهبة، [وزوجته المشركة*] مثل ما أنفق، وهذا التفسير إن كان إجماعا أو تفسيرا من النبي صلى الله عليه وسلم، فلا كلام وإلا فظاهرها أن المراد أن الذي فاتته زوجته إلى الكفار [فعاقبتموهم*]، أي أخذتم نساءهم فأعطوهم ما أنفقوا، ولا تكونوا [... ] (وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا)، فإِن ذلك قام للمعاقب وغيره، وبالجملة، فأحكام الآية منسوخة.
قوله (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ... (١٢).. ، اختلف المحدثون إذا ورد في الحديث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل يصح للراوي أن يبدله؟ قال: الشيء أو العكس، على ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، وجواز تبديل النبي بالرسول دون العكس، فإن قلت: هلا قيل: يا أيها الرسول [فهو*] أخص، وكل ما ثبت للأخص لا ينعكس، قلت: تعليق الحكم على الأعم أعم من تعليقه على الأخص، لأنه ينتج الحكم للأخص من باب أحرى، فإذا بايعوه على الإيمان وفروعه مع استحضار كونه نبيا، فأحرى أن يبايعوه عليه مع استحضارهم كونه رسولا من الله؛ خلاف العكس،
وقوله (الْمُؤْمِنَاتُ)، إن أريد مطلق التصديق، فيكون حقيقة، وإن أريد التصديق لكل ما جاء به، فيكون من تشبيته الشيء بها يؤول إليه لَا ينفي أنه لَا يعلم إيمانهن بذلك إلا بعد [إقرارهن*] بعدم الإشراك والسرقة والزنا، وقدم الإشراك؛ لأن [حفظ*] الأديان آكد، ويبقى النظر بين الأموال والزنا، فقد يقال اجتناب الزنا آكد، بأن حفظ الأنساب آكد من حفظ [الأموال*]، لكن يجاب عنه بما أجابوا عن قوله في المدونة في الكتابي إذا سرق أنه يقطع، وإن زنى لم يحد مع أن العكس كان يكون أولى، فأجابوا: [بأن*] السرقة راجعة إلى التظالم بينهم والفساد، فيحكم بينهم فيها وفيما هو [حق آدمي*] وحق الله، والزنا مجرد حق الله فقط، فيحكم فيه [بشرعهم*] [ولا حق*] في الزنا للآدمي، لأن غالب الأمر في المزني بها أن تكون طائعة، وإن كانت مكرهة فلا نسميه زنا، وهو المراد هنا أعني الزنا طوعا، [وأخَّر*] قتل الأولاد عن الزنا مع أن حفظ النفوس آكد، لأن قتل الأولاد [قليل*] فيهم بالنسبة إلى الزنا، إذ غالب الأمر في الأمهات الرأفة والحنان على أولادهم، فالعطف في الآية [بيان*]، قوله (وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ)، عبر فيه بالإثم، ولم يقل: ولا يأتين بسرقة ولا بزنا؛ إشارة إلى السبب الذي ذكر المفسرون في ذلك من [اختلاق*] الأولاد وجلبهم.
قوله (فِي مَعْرُوفٍ)، إن قلت: ما أفاد، مع أن [أمر*] النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم معروف لَا منكر فيه؟ قلت: صدق التعميم الامتثال في أوامره كلها واجبها وندبها، [ولو لم*] يقل في معروف لأوهم أنهم لَا يعصونه في الأمر الواجب، لاسيما على ما قال الفخر، والأكثرون مع أن لفظ العصيان خاص بمخالفة الواجب، والقصد في الآية [مدحه*] في عدم مخالفته في الواجب والمندوب، وأجاب الزمخشري: على أنه تنبيه على أن [مطلق الطاعة منها معروف، ومنها منكر، وأوامر النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم دل الدليل على أنها كلها معروف*] (١).
قوله تعالى: ﴿لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا... (١٣)﴾
وقال في أول السورة (لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ)؟
والجواب: أن هذا في عموم المؤمنين بالنسبة إلى المشركين، وتلك في قضية حاطب فيقيد في هذا النهي عن مطلق الموالاة، وفي تلك النهي عن اختصاصها، لأنا إن قلنا: إنها نزلت في اليهود من جهة أنهم كانوا يوالونهم بعض موالاة، فهو أتم حكما، فلم يقع [في*] أخص الموالاة، بل أعمها، وأما أخصها فمعلوم من المخاطب عدم الاتصاف به حيث ما شهد له النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم بحضوره بدرا، أو أنه مغفور له، فإن قلت: كيف ينهى عن مطلق الموالاة، وقال تعالى (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ
(١) النص في الكشاف هكذا:
"نبه بذلك على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقي والاجتناب". اهـ.
219
قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ)، أن تبروهم؟ قلت: المراد بذلك المسالمة والمشاركة لَا الموالاة، فإِن قلت: المراد بالإقساط الإعطاء، وقيل: المعروف [بالنفل*]، وقد ذكر عياض في المدارك أن القاضي إسماعيل قال لنصراني واحتج بالآية، قلت: لَا حجة في ذلك.
قوله تعالى: (غَضِبَ اللَّهُ عَلَيهِم).
إما راجع إلى صفة الإرادة، أي إرادة تعذيبهم، أو لصفة [**القتل]، أي عذبهم في الدنيا بالذل والرعب والقتل بأيديهم، لأن تعذيبهم بالآخرة [لم*] يكن واقعا حينئذ.
قوله تعالى: (قَدْ يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ).
إن أريد المشركين، فهم يئسوا من [وقوعها*] حقيقة، وإن أريد اليهود فلم ييئسوا من [نعيمها*]، فإن قلت: كيف وهم يزعمون أن نعيمها خاص بهم؟ قلت؛ كفرهم عناد [وإسناد اليأس إليهم مجاز*]، فإذا أريد اليهود، فيكون التشبيه بالكفار حقيقة، وإن أريد العموم، فالتشبيه باعتبار اختلاف الصفة والحال، كقولك: هذا بُسْرا أطيب منه رطبا، أي يئسوا من أصحاب القبور أن يرجعوا إلى الدنيا أو ينعموا بالجنة.
* * *
220
Icon