ﰡ
﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين ١ ﴾ [ الأنفال : آية ١ ].
الجماهير من العلماء على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة أنها نزلت في غنائم بدر، لما اصطف المسلمون لقتال المشركين كانت المشيخة رداء لهم، وكان الشباب تلقى العدو، وكان قوم يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بني له العريش يوم بدر. فلما هزم الله المشركين، وأخذ المسلمون غنائمهم، وقع خلاف ومشاجرة بين الصحابة، قال الذين أخذوا الغنيمة : نحن الذين احتويناها وحزناها فليس لغيرنا نصيب فيها !
وقال المشيخة : نحن كنا ردءا لكم فلو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلستم أحق منا !
وقال الآخرون : نحن ليس بنا جبن ولا بخل، وإنما خفنا أن ينال العدو منا ! فوقع هذا الخلاف والتنازع، وهذا سبب نزول هذه الآية الكريمة كما عليه جماهير العلماء، وحديث عبادة بن الصامت فيه ( رضي الله عنه ) عند أحمد وأصحاب السنن مشهور، قال : فينا معاشر المسلمين نزلت، لما أخذنا غنائم بدر ساءت أخلاقنا وتنازعنا فأنزل الله الآية، وبين أن الأمر فيها إلى الله وإلى رسوله، ففعل فيها رسول الله ما أرضى الله، وما أصلح به ذات البين بين الجميع، وما حصل به تقوى الله، كما يأتي إيضاحه، وهذا القول – أنها نزلت في غنائم بدر جميعها - هو المعروف عند جماهير العلماء.
وفي سبب نزولها أربعة أقوال أخر معروفة عند العلماء.
قال بعض العلماء :(... )١ خاصة دون بعض، والذين قالوا هذا القول استدلوا بحديث سعيد بن أبي وقاص عند أحمد وغيره قال سعيد : لما قتل أخي عمير يوم بدر – لأن عمير بن أبي وقاص من شهداء بدر كانوا يقولون : إنه قتله عمرو بن عبد ود فكان أخوه سعد ( رضي الله عنه ) أصابه من قتل أخيه أمر عظيم، وحمل على الكفار وقتل سعيد بن العاص، وأخذ سفيه، وكان يسمي ( ذو الكتيفة ) قال : فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : أعطينه يا رسول الله. فقال :( ليس لي ولا لك فتطرحه من حيث أخذته، واجعله في القبض ) – يعني محل غنائم المسلمين - قال : فخرجت وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي. قال : خرجت إليه فقلت : أعطينه ؟ فرفع لي صوته :( اطرحه من حيث أخذته )، إلى الثالثة، قال : فذهبت به فأنزل الله :﴿ يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ﴾ قال : فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :( إنك سألتني السيف وفي ذلك الوقت ليس لي، والآن صار لي فخذه ). فأعطاه إياه. فاستدلوا بهذا على أن الأنفال المسئول عنها : الشيء الخاص، كهذا السيف ينفله النبي صلى الله عليه وسلم أو الإمام لبعض الناس.
وقال بعض العلماء : هي نزلت في خمس الغنيمة.
وقال بعض العلماء : نزلت في خمس الخمس خاصة.
كل هذا قال به جماعة من العلماء.
وقال عطاء وغيره : نزلت فيما يشذ إلى المسلمين من الكافرين من غير قتال، كالفرس يأتي المسلمين من كفار بلا قتال.
هذه الأقوال جاءت في سبب نزول هذه الآية الكريمة، والذي عليه جماهير المفسرين : أن نزولها في غنائم بدر كما بينا، لما اختلف الصحابة فيهم، وقال قوم : لا نصيب فيها لغيرنا ؛ لأنا نحن الذين احتويناها. وقال الآخرون : كنا رداءا لكم فلو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلستم أحق منا. وقال الآخرون : نحن كنا نشتغل بحراسة رسول الله صلى الله عليه وسلم فلستم أحق منا. ولذا لما اختصموا هذا الخصام كأن الله لا مهم وقال لهم : لا تصرف لكم فيها، فالأمر فيها إلى الله وإلى رسوله. فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم على السواء، وكان بعض العلماء يقول : إنه لما التقى الجيشان رغب وقال : من اسر أسيرا فله كذا، ومن قتل قتيلا فله كذا. فقال له بعض أصحابه : لو وفيت لهم بهذا لم يبق للآخرين شيء ! ! ووقع بعض الخصام.
وقال بعض العلماء : كان الخصام بسبب النفر الثمانية الذين قسم لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غنائم بدر ولم يشهدوا بدرا. والحق أن هذا – وإن ذكره الأخباريون وأصحاب المغازي - أنه لم ينزل الخلاف، ومعروف عند أصحاب المغازي أن ثلاثة من المهاجرين وخمسة من الأنصار ضرب لهم النبي صلى الله عليه وسلم بسهامهم في مغانم بدر ولم يشهدوها، أما ثلاثة المهاجرين فهم : عثمان بن عفان ( رضي الله عنه ) ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى بدر الكبرى كانت ابنته رقية ( رضي الله عنها ) مريضة، وكانت إذ ذاك زوجة عثمان بن عفان ( رضي الله عنه )، فأمره أن يبقى يمرضها، وتوفيت يوم مجيء زيد بن حارثة بالبشارة بما فتح الله على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر، فقسم له في الغنم. قال بضعهم : والأجر، والآخران من المهاجرين : طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد، أرسلهما النبي صلى الله عليه وسلم يتجسسان على عير أبي سفيان قبل وصولهما لبدر إلى جهة الشام، ففاتت بدر ولم يحضرا، فقسم لهما، وأما خمسة [ الأنصار ]٢ : فمنهم : أبو لبابة بن عبد المنذر كان النبي صلى الله عليه وسلم خلفه على المدينة، ومنهم الحارث بن الصمة، وخوات بن جبير ( رضي الله عن الجميع ) أصابهما مرض فردهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم الحارث بن حاطب رده النبي صلى الله عليه وسلم إلى قباء ليكون على بني عمرو بن عوف حتى يرجع صلى الله عليه وسلم، وعاصم بن عدي العجلاني خلفه النبي صلى الله عليه وسلم على العوالي.
والتحقيق الذي عليه الجمهور : أنها نزلت في اختلاف الصحابة في غنائم بدر ؛ ولذا قال :﴿ يسألونك عن الأنفال ﴾ [ الأنفال : آية ١ ] الأنفال : جمع نفل – بفتحتين - وأصل النفل الزيادة، فكل زائد يسمى نفلا، ومنه قيل للزائد على الواجبات : نفل. وإنما سميت المغانم أنفالا لأن الله زادها من الحلال لهذه الأمة، لم تكن تحل لمن قبلها. والنفل : المغنم، والأنفال : المغانم. وهذا معروف في كلام العرب، وقد نزل به القرآن، ومن إطلاق النقل على المغنم قول لبيد بن ربيعة :
إن تقوى ربنا خير نفل | وبإذن الله ريثي وعجل |
إنا إذا احمر الوغي نروي القنا | ونعف عند تقاسم الأنفال |
وفي هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقول طالب العلم : إذا قررتم أن سبب نزول الآية في المغانم جميعها لا خصوص الذي يشذ من الكفار إلى المسلمين، ولا في خصوص الذي ينفله الإمام لبعض الجيش، ولا في تنفل الإمام لبعض السرايا التي يرسلها، ولا في خصوص الخمس، ولا في خصوص خمس الخمس، فكيف تكون لا حق فيها للغانمين ؟ والله يقول :﴿ واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه ﴾ الآية [ الأنفال : آية ٤١ ]. وهذه الآية من هذه السورة الكريمة نص في أن أرباع الغنيمة أنها ملك للغانمين استحقوها، وأن الخارج عنهم منها هو الخمس ؟ هذا سؤال معروف وقد أجاب العلماء عنه بجوابين :
ولا شك أن سورة القمر من القرآن النازل في مكة قبل وقعة بدر، وعن عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) أنه ما كان يعلم شيئا عن معنى قوله :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدر ٤٥ ﴾ ويقول : من هذا الجمع المهزوم الذين يولون الدبر ؟ ! ولم يفهم معنى الآية إلا بيوم بدر لما كشف الله المشركين ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في درعه ويقول :﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ٤٥ ﴾ [ القمر : الآية ٤٥ ] وعند ذلك عرف عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن آية ﴿ سيهزم الجمع ويولون الدبر ٤٥ ﴾ وإن كانت من سورة القمر وهي من القرآن المكي النازل بمكة قبل الهجرة بلا خلاف أن الله وعد فيها في مكة نصر المؤمنين على الكفار يوم بدر، قالوا : فهذه كلمات الله التي وعد بها نبيه أن ينصره فحق الحق وأنجز وعده، كما قال هنا :﴿ وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم ﴾.
وقوله تعالى :﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾ الدابر : الآخر. وإذا كان جماعة يمشون فالذي يمشي وهو الآخر منهم تسميه العرب : دابرا ؛ لأنه يمشي عند دبر من قدامه، والعرب تعبر به عن الآخر، ويقولون :( قطع الله دابرهم ). معناه : أهلكهم واستأصلهم ولم يبق منهم أحدا، هذا معنى قطع الدابر وأصله لغة. ﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾ أي : يهلكهم ويستأصلهم إما بالموت، وإما بانقضاء دينهم وقهره حتى لا يبقى كافر، وكانت وقعة بدر هي أول عز الإسلام وظهروه، وهي أول وقعة ذل فيها الكفر وأهله ؛ ولذا قال :﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾.
٢ في الأصل: (المهاجرين) وهو سبق لسان
.
كانت مواعيد عرقوب لها مثلا | وما مواعيدها إلا الأباطيل |
قوله :﴿ ولو كره المجرمون ﴾ [ الأنفال : الآية ٨ ] يعني يفعل ذلك والحال لو كره المجرمون ذلك، والمجرمون : جمع تصحيح للمجرم، والمجرم اسم فاعل الإجرام وهو مرتكب الجريمة، والجريمة : الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه عليه النكال. وهذا معنى قوله : ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون ٨ } [ الأنفال : الآية ٨ ].
﴿ إني ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ [ الأنفال : الآية ٩ ] قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير نافع وحده :﴿ مردفين ﴾ بكسر الدال، بصيغة اسم الفاعل. وقرأه نافع من السبعة وحده :﴿ مردفين ﴾ بفتح الدال بصيغة اسم المفعول.
وقوله :﴿ إذ تستغيثون ﴾ قال بعض العلماء ( إذ ) منصوب ب( اذكر ) مقدرا، وقد ذكرنا أنه يكثر في القرآن نصب الظرف الذي هو ( إذ ) بلفظة ( اذكر ) كقوله :﴿ واذكر أخا عاد إذ أنذر ﴾ [ الأحقاف : الآية ٢١ ] ﴿ واذكروا إذ كنتم قليلا ﴾ [ الأعراف : الآية ٨٦ ] ﴿ واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٦ ] ونحو ذلك. قال بعض العلماء :( إذ ) في قوله :
﴿ إذ تستغيثون ﴾ بدل من ( إذ ) في قوله :﴿ وإذ يعدكم الله ﴾ [ الأنفال : الآية ٧ ] و ﴿ تستغيثون ﴾ معناه : تطلبون الإغاثة من ربكم ( جل وعلا ). تقول العرب : استغاث يستغيث إذا طلب الغوث. وهذه الاسغاثة كانت من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ثبت في الأحاديث الصحيحة، وعليه جمهور العلماء. خلافا لمن قال : كانت من جميع الأفراد الذين شهدوا بدرا، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بني له العريش يوم بدر وجلس فيه ورأى جيش قريش متصوبين من العقنقل – كثيب بدر- فإذا عددهم كبير، وهم حول ألف مقاتل، فنظر إلى أصحابه فإذا هم قليل- ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا – قام في ذلك الوقت وتوجه إلى القبلة وهتف بربه ( جل وعلا ) واستغاث بخالقه يسأله ويدعوه، وألح في المسألة أشد إلحاح، ورداؤه على منكبه يناشد ربه ؛ ربي أنجر ما وعدتني، اللهم عهدك ووعدك، اللهم إن تهلك هذه الطائفة لن تعبد في الأرض. ويناجي ربه ويهتف به، ويلح عليه في المسألة، ويستغيث به ( جل وعلا ) حتى سقط رداؤه عن منكبه ( صلوات الله وسلامه عليه )، فجاءه أبو بكر من خلفه وجعل رداءه على منكبيه وقال :( يكفيك مناشدتك ربك، فإن ربك منجز لك ما وعودك ). هذا معنى :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ﴾ [ الأنفال : الآية ٩ ].
وهذه الآية وأمثالها في القرآن، تؤخذ منها أسرار ينبغي لنا معاشر المسلمين أن نسير عليها، هذا سيد الخلق محمد ( صلوات الله وسلامه عليه ) لما جاءه أعظم كرب يكون كربا للأنبياء ؛ لأن الكروب إنما تعظم على الأنبياء من جهة ضياع الدين ؛ لأن الدنيا لا أهمية لهم فها. وهذه الطائفة جزم صلى الله عليه وسلم أنها لو هلكت وقتلت لانكسرت شوكة الإسلام، ولضاع الإسلام، ولم يعبد الله في أرضه، وانتشر الكفر، وظهرت قوته، وطائفة الإسلام قليلة ضعيفة ليست بذات عدد ولا عدد، وطائفة الكفر كثيرة قوية ؛ هذا أعظم كرب دهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دهمته هذه الكروب جعل التجاءه الصادق إلى خالق السموات والأرض. ومن ذلك يعلم أن من دهمته الكروب وجاءته البلايا والزلازل أنه في ذلك الوقت إنما يكون التجاؤه كما كان التجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالق السموات والأرض ( جل وعلا )، فعلى كل مسلم أن يفهم هذا ويعقله، ويفهم أن العبد إذا دهته الكروب، وجاءته البلايا والمحن والزلازل، أن التجاءه في ذلك الوقت يجب انصرافه إلى ما صرف إليه النبي صلى الله عليه وسلم التجاءه في ذلك الوقت، وهو الاستغاثة بخالق السموات والأرض جل وعلا.
والله قد بين لنا معاشر المسلمين أن الإنسان إذا اضطر بأن دهمته الكروب، وأحدقت به النوائب والحوادث، أن الالتجاء في ذلك الوقت من خصاص خالق السموات والأرض ( جل وعلا )، فلا يجوز صرفه لغيره كائنا من كان. وأوضح الله لنا إيضاحا شافيا في آيات كثيرة من كتابه، من أوضح تلك الآيات : آيات سورة النمل، لأنه إيضاح لا لبس فيه كهذا النهار ؛ لأن الله يقول :﴿ ءالله خير أما تشركون ﴾ [ النمل : الآية ٥٩ ] وفي القراءة الأخرى :﴿ أما يشركون ﴾. ثم شرع تعالى يعدد خصائص ربوبيته التي لا حق فيها لغيره ألبتة فقال :﴿ أمن خلق السموات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها أإله مع الله ﴾ الجواب : لا ﴿ بل هم قوم يعدلون ﴾ ثم ذكر خاصية أخرى من خصوص الربوبية فقال :﴿ أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها روسي وجعل بين البحرين حاجزا أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون ٦١ ﴾ الجواب : لا إله مع الله. ثم قال : وهو محل الشاهد :﴿ أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أءله مع الله ﴾ [ النمل : الآيات ٦٠- ٦٢ ] الجواب : لا والله، فهذه توضيح ما وضحه رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعله أن من ألجأته الكروب واضطرته النوائب والزلازل أنه لا إله مع الله في ذلك الوقت يرفع إليه ذلك إلا خالق السموات والأرض ؛ ولذا كان صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت الضنك، والموقف الحرج، رفع ذلك الالتجاء إلى خالقه ( جل وعلا )، وأثنى الله عليه في ذلك، وأجابه بمدد السماء ملائكة منزلين [ وهكذا شأن ]١ / الأنبياء ( صلوات الله وسلامه عليهم ) يلتجئون إليه في تلك الظروف الحرجة والأوقات الضنكة. وكان الكفار – لأن عندهم عقلا معيشيا دنيويا- إذا نزلت بهم البلايا ودهمتهم الكروب أخلصوا في ذلك الوقت الدعاء لله، وأعطوا الحق لمن له الحق، حتى إذا أنقذهم الله من ذلك رجعوا إلى كفرهم. والآيات الدالة على هذا لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم ﴿ وإذا غشيهم موج كالظلل ﴾ أي : وخافوا من الموت من هيجان تلك الأمواج ﴿ دعوا الله مخلصين له الدين ﴾ [ لقمان : الآية ٣٢ ] ﴿ فإذ ركبوا في الفلك ﴾ أي : ودهمتهم الأمواج، وعاينوا الهلاك ﴿ ودعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون ﴾ [ العنكبوت : الآية ٦٥ ] ﴿ وجرين بهم بريح وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق ﴾ [ يونس : الآيتان ٢٢، ٢٣ ] ﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا ٦٧ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبا ثم لا تجدوا لكم وكيلا ٦٨ أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ٦٩ ﴾ [ الإسراء : الآية ٦٧- ٦٩ ] والآيات بهذا المعنى لا تكاد تحصيها في المصحف، والمعروف في التاريخ أن سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل ( رضي الله عنه ) أن النبي ( صلوات الله وسلامه عليه ) لما فتح مكة – وكان عكرمة شديد العداوة له صلى الله عليه وسلم – هرب من مكة ذاهبا إلى الحبشة، فركب في البحر الأحمر ذاهبا إلى الحبشة، فلما لججوا في البحر هاجت عليهم عواصف الريح، واضطربت عليهم الأمواج، فخافوا الهلاك وعاينوا الموت، فإذا كل من في السفينة يتناذرون ويقول بعضهم لبعض : لا تدعوا في هذا الوقت غير الله ؛ لئلا تغرقونا ؛ لأن هذه الكروب لا ينجي منها إلا الله( جل وعلا ) وحده. ففهمها عكرمة وقال : والله إن كان لا ينجي في ظلمات البحر إلا هو فلا ينجي من كربات البر إلا هو. ثم قال :( اللهم لك علي عهد إن أنجيتني من هذه لأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رؤوفا رحيما. وأمثال هذا في القرآن لا تحصى، فعلينا معاشر المسلمين أن نضع كل شيء في موضعه، ونمشي في نور القرآن العظيم، ونعلم أن الواحد منا إذا نزلت به البلايا ودهمته الكروب أن الالتجاء في ذلك الوقت من خصائص خالقه ( جل وعلا ) فخصوص ذلك لخالقه ( جل وعلا ) مما يرضي الله، ويرضي رسوله، ويكفل له النجاح. وهذا سيد الخلق ( صلوات الله وسلامه عليه ) صرحت هذه الآية من سورة الأنفال أنه لما دهمه هذا الكرب العظيم صدق في ذلك الالتجاء، وصرفه إلى من له الحق في ذلك، وهو خالقه ( جل وعلا ). ومن حكم ذلك أن يعلم أمته الاقتداء به في ذلك، فعلينا معاشر المسلمين محبة لنبينا وتعظيما له ورغبة في اتباع ديننا أن نفعل كما كان يفعل نبينا صلى الله عليه وسلم ﴿ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ﴾ [ آل عمران : الآية ٣١ ] ﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ﴾ [ النساء : الآية ٨٠ ] ونصرف الحقوق لمستحقها، ولا نصرف حق خالقنا إلى بشر، ولا إلى ملك مقرب، ولا إلى مخلوق كائنا من كان ؛ لأن إعطاء حقوق الله لله مما يرضي الله ويرضي رسول الله، وهو الذي يتبع صاحبه المرسلين ( صلوات الله وسلامه عليهم ). وهذا معنى قوله :﴿ إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم ﴾ الفاء سببية والإجابة مسببة عن الاستغاثة بالله. وهذا يدل على أن من استغاث بالله كانت استغاثته بالله سببا للإجابة وإزالة المكروه عنه ؛ ولأجل هذا الذي كنا نقرر لما أنزل الله مدد السماء من الملائكة علم أصحاب نبيه أن لا يعتمدوا عليهم فقال :
﴿ فاستجاب لكم أنى ممدكم ﴾ استجاب لهم بأنه ممدهم. وقوله :﴿ ممدكم ﴾ أي : جاعلها لكم مددا يمدكم الله ويعينكم بها. وقد أوضح وجه هذا الإمداد وبينه في هذه الآيات في قوله :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ١٢ ﴾ بالأنفال : الآية ١٢ ] وهذا معنى قوله :﴿ أني ممدكم بألف من الملائكة ﴾ العرب تقول : أمدنا الإمام بكذا – معناه : جاءنا بزيادة من الجيش مددا. أي : زائدة على الأول. فقوله :﴿ بألف من الملائكة مردفين ﴾ [ الأنفال : الآية ٩ ] قراءة الجمهور :﴿ بألف من الملائكة مردفين ﴾ قال بعض العلماء : كان الإمداد يوم بدر بألف واحدة بدليل آية الأنفال هذه.
وقوله :﴿ مردفين ﴾ معناه : متتابعين يتبع بعضهم بعضا، ذكروا في بعض الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم خفق في العريش خفقة – أصابته نعسة وغفوة خفيفة- فاستيقظ يتبسم وقال لأبي بكر : أبشر جاء نصر الله. فذكر له أنه رأى جبريل نازلا وعلى ثناياه النقع- والنقع : الغبار الذي يكون على الثنيتين من أسنان الرجل فيكون عليها.
قال بعض العلماء : نزل جبريل في خمسمائة من الملائكة على الميمنة وفيهم أبو بكر، ونزل ميكائيل في خمسمائة من الملائكة على المسيرة وفيهم علي. والأظهر أن المدد يوم بدر كان أكثر من ألف كما قدمناه في سورة آل عمران ؛ لأن أصح القولين أن المدد من الملائكة المذكور إلى خمسة في آل عمران أنه في بدر، وأن قول من قال :( إنه وعد به في أحد والصحابة لم يفوا بالشرط ). أن ذلك خلاف الظاهر وخلاف التحقيق ؛ لأن الله قال في سورة آل عمران مشيرا إلى وقعة بدر هذه، التي بسطها وشرحها في الأنفال مشيرا إلى النصر بالملائكة والإمداد بهم :﴿ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ١٢٣ إذ تقول للمؤمنين ﴾ [ آل عمران : الآيتان ١٢٣، ١٢٤ ] والتحقيق : إذ تقول لهم يوم بدر لما أمدكم الله بالملائكة - ﴿ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلف من الملائكة منزلين بلى إن تبصروا وتتقوا ويأتيكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة الآلف من الملائكة مسومين ١٢٥ ﴾ [ أل عمران : الآيتان ١٢٤، ١٢٥ ] والقصة هذه المذكورة في آل عمران هي قصة بدر هذه المذكورة في الأنفال والسياق واحد كما ترى ؛ لأنه قال في الأنفال :﴿ وما جعله الله إلا بشرى ولتطمئن به قلوبكم وما النصر إلا من عند الله إن الله عزيز حكيم ١٠ ﴾ [ الأنفال : الآية ١٠ ] وقال في آل عمران :﴿ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ١٢٦ ﴾ [ آل عمران : الآية ١٢٦ ] وقال هنا :﴿ ويقطع دابر الكافرين ﴾ [ الأنفال : الآية ٧ ] وقال في آل عمران :﴿ ليقطع طرفا من الذين كفروا أو يكبتهم ﴾ [ آل عمران : الآية ١٢٧ ] فالسياق هو السياق.
ولكن هنا سؤال، وهو أن يقال : المدد الذي ذكرتم أنهم إلى خمسة آلاف، وأن ذلك في يوم بدر، فكيف يجمع به مع الاقتصار على ألف واحدة هنا في الأنفال في قوله :﴿ فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين ﴾ [ الأنفال : الآية ٩ ].
أجيب عن هذا : بأنه لا تعارض ؛ لأن آية الأنفال هذه أشارت إلى أن المدد من الملائكة لا يقتصر على الألف ؛ لأن قوله :﴿ مردفين ﴾ على قراءة الجمهور معناه : يتبع بعضهم بعضا، من أردف الرجل الرجل إذا كان وراءه ردفا له، فدل على أنهم وراءهم شيء أردفوا به، ويوضح هذا المعنى قراءة نافع :﴿ مردفين ﴾ بصيغة اسم المفعول، معناه : مردفين بغيرهم، أنهم متبوعون بغيرهم.
وقال بعض العلماء : الوعد بخمسة آلاف كان يوم أحد، ولكن الله شرط عليهم شرطا وقال :﴿ بلى إن تصبروا وتتقوا ﴾ [ آل عمران : الآية ١٢٥ ] قالوا : ولم يصبروا ولم يتقوا ذلك اليوم ؛ لأنهم زلت بهم أقدامهم كما نص الله عليه في قوله :﴿ إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ﴾ [ آل عمران : الآية ١٥٥ ] قال : ولما لم يثبتوا لم ينزل عليهم ملك واحد ؛ لأنهم لم يفوا بالشرط. هذا قاله جماعة من أهل العلم. والأول أظهر، والستاق واحد. وهذا مبني على قوله :﴿ ولقد نصركم الله ببدر ﴾ فصرح تعالى أن ذلك ببدر والكلام متصل آخره بأوله ﴿ وأنتم أذلة ﴾ [ آل عمران : الآية ١٢٣ ] إلى أن قال :﴿ إذ تقول ﴾ في ذلك اليوم الذي نصركم الله فيه وأنتم أذلة ﴿ ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف ﴾ [ آل عمران : الآية ١٢٤ ].
والحاصل أنه مختلف في المدد هل هو ألف واحدة أو إلى خمسة آلاف ؟ وأظهر القولين : أن المدد المذكور في آل عمران هو المذكور في الأنفال هذه، وأنه خمسة آلاف، ومما يؤيده : أنه لم يعلم أن الملائكة نزلت للقتال ظاهرا إلا يوم بدر، وغير ذلك تنزل جنودا لم يرها الناس كما جاء في حنين وغيره والأحزاب ؛ لأن الله بين أن الملائكة نزلت في الأحزاب وفي حنين حيث قال في الأحزاب :﴿ إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها ﴾ [ الأحزاب : الآية ٩ ] وقال في قصة حنين :﴿ ثم أنزل الله سكينة على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها ﴾ [ التوبة : الآية ٢٦ ] ولم يقل أحد من العلماء : إن جنود الملائكة التي نزلت في غزوة الأحزاب وفي غزوة حنين أنهم قاتلوا. وإنما اختلفوا في ذلك في [ بدر ]١، فذهب جماعة من أهل العلم وجاءت به آثار : أن الملائكة قاتلوا. وظاهر سياق آية الأنفال هذه تدل على أن الملائكة هم الذين أمروا بالضرب فوق الأعناق وضرب البنان ؛ لأنه قال :﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة ﴾ فهذا السياق للملائكة ﴿ أنى معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ﴾ [ الأنفال : الآية ١٢ ] فهذا السياق ظاهر في الملائكة، وقد ذكرنا بالأمس روايات عن بعض الصحابة أن بضعهم قال : بينما ان أتبع رجلا إذ سقط ميتا أمامي، وسمعت ضربة سوط فوجدت وجهه مشقوقا مخطوما واخضر محل الضربة كله. وأن رجلا قال : أردت أن أقتل رجلا فسقط رأسه قبل أن أضربه. وأنهم أعلموا النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه قال :( ذلك من مدد السماء ).
والذين قالوا : إن الملائكة لم تقاتل يوم بدر لا حجة قوية معهم ؛ لأنهم إنما استدلوا على ذلك بأن ملكا واحدا يقدر على إبادة جميع الناس، وأن جبريل رفع مدائن قوم لوط على ريشة من جناحه. ولا مانع من أن الله يجعل الملائكة مددا وعونا يقتلون معهم ليكون شرف الهزيمة لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، لأن الملك لو أهلكهم ما كان للصحابة في ذلك من فضل ولا من شرف، ولكن الله أعانهم ليكون النصر بأيديهم، وإهانة الكفار بأيديهم، كما قال تعالى :﴿ قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزيهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ١٤ ﴾ الآية [ التوبة : الآية ١٤ ]، وهذا معنى قوله :﴿ فاستجاب لكم أنى ممدكم بألف من الملائكة مردفين وما جعله الله إلا بشرى ﴾ [ الأنفال : الآيتان ٩، ١٠ ] هذه الآية مما استدل بها من قال : إن الملائكة لم تقاتل ؛ لأن الضمير في قوله :﴿ وما جعله ﴾ راجع إلى الإمداد بالملائكة الذين يتبع بعضهم بعضا ﴿ وما جعله الله ﴾ أي : إمدادكم بالملائكة يقاتلون معكم ﴿ إلا بشرى ﴾ أي : إلا بشارة لكم بالنصر، قالوا : فالله ( جل وعلا ) قصره على البشرى، ولم يقل : إن فيه قتالا. وبعضهم يقول : لما قيل لهم : إنهم معكم، يقاتلون معكم، كانت البشرى أعظم ؛ لأنهم يعاونونهم في قتال عدوهم. وهذا معنى قوله :﴿ إلا بشرى ﴾ فالبشرى ( فعلى ) مؤنث بألف التأنيث اللفظية. والبشرى : هي الإخبار بما يسر. وقد قدمنا مرارا أن العرب تسمي الإخبار بما يسر ( بشرى ) و ( بشارة )، وتقول :( بشره وبشره ). إذا خبره بما يسره، كما هو معروف. وقد قدمنا : أن من أساليب اللغة العربية التي نزل بها القرآن : إطلاق البشرى أيضا على الإخبار بما يسوء، كأن تقول له : بشره بما يسوءه، بشره بويل وعذاب. كما قال تعالى :﴿ ويل لكل أفك أثيم ٧ يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها فبشره بعذاب أليه ٨ ﴾ [ الجاثية : الآيتان ٧، ٨ ] ومعلوم أن العرب تطلق البشارة في لغتها على الإخبار بما يسر أكثر، وربما أطلقتها على الإخبار بما يسوء. ومن إطلاق البشارة على الإخبار بما يسوء قول الشاعر :
وبشرتني يا سعد أن أحبتي *** جفوني وقالوا : الود موعده الحشر
وقول الآخر :
يبشرني الغراب ببين أهلي | فقلت له ثكلتك من بشير |
ونحن نقول : إن الذي يظهر أن هذه أساليب عربية، نطقت بها العرب، ونزل بها القرآن. وهذا معنى قوله :﴿ وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به ﴾ [ آل عمران : الآية ١٢٦ ] أي : فعل الله ذلك لكم لأجل أن يبشركم ؛ ولأجل أن تطمئن قلوبكم به. الطمأنينة معناه : السكوت وعدم القلق والانزعاج. ومحل الطمأنينة والانزعاج : القلب ؛ لأنه محل الإدراك ؛ ولذا قال ﴿ ولتطمئن قلوبكم به ﴾ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عددهم قليلا، فلما نزل المدد من السماء وثقوا من النصر، وسكنت قلوبهم، واطمأنت، وزال عنها الخوف والقلق والانزعاج، وهذا معنى قوله :﴿ ولتطمئن قلوبكم به ﴾ ثم إن الله بين أن الخير كله من قبله فكأنه يقول للمسلمين : لا تظنوا – وإن أنزل عليكم ألفا من ملائكة السماء لا تطنوا- أن النصر بيد الملائكة، لا، النصر بيدي وحدي ؛ ولذا قال :﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ [ الأنفال : الآية ١٠ ] هذا حصر بالنفي والإثبات، وهو أبلغ غايات الحصر. معناها : لا نصر يوجد ألبتة كائنا من كان إلا من عند الله ( جل وعلا ). وأصل النصر في لغة العرب : إعانة المظلوم ﴿ إلا من عند الله إن الله ﴾ جل وعلا :﴿ عزيز حكيم ﴾ العزيز في لغة العرب : هو الغالب. والعزة في لغة العرب : الغلبة. ﴿ ولله العزة ولرسوله ﴾ [ المنافقون : الآية ٨ ] أي : ولله الغلبة ولرسوله :﴿ وعزني في الخطاب ﴾ [ ص : الآية ٢٣ ] غلبني في الخصام. والعرب تقول :( من عز بز ) يعنون : من غلب استلب. وقد قالت الخنساء في شعرها :
كأن لم يكونوا حمى يختشي | إذ الناس إذ ذاك من عز بزا |
قوله :﴿ إن الله عزيز ﴾ أي : غالب لا يغلبه شيء ؛ ولذا قهر جند أبي جهل ورؤساء الكفر وقمعهم وقتلهم بعزته حيث كانت العزة له، وأعز عباده المؤمنين، كما قال :﴿ ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ﴾ [ المنافقون : الآية ٨ ].
وقوله :﴿ حكيم ﴾ الحكيم في الاصطلاح : هو من يضع الأمور في مواضيعها ويوقعها في مواقعها. ولا تتم الحكمة إلا بتمام العلم، فكل نقص في الحكمة إنما يتسبب عن نقص في العلم، فترى الرجل القلب البصير الحاذق يفعل الأمر يظنه في غاية السداد ثم ينكشف الغيب عن أن فيه هلاكه ومضرة عظيمة عليه، فيندم وقد فات الأوان، ويقول : ليتني لم أفعل، لو فعلت لكان كذا ! !
ليت شعري وأين مني ليت | إن ليتا وإن لوا عناء |
فعلى قراءة نافع :( النعاس ) منصوب مفعول :﴿ يغشيكم ﴾ وكذلك هو على قراءة ابن عامر، وعاصم، وحمزة، والكسائي :﴿ إذ يغشيكم النعاس ﴾ هو مفعول ﴿ يغشيكم ﴾ ولا فرق بين قراءتهم وبين قراءة نافع، إلا أن الفعل على قراءتهم معدى بالتضعيف، وعلى قراءة نافع معدى بالهمزة، والتعدية بالهمزة والتضعيف معروفان متساويان، أما على قراءة ابن كثير، وأبي عمرو :﴿ إذ يغشاكم النعاس أمنة منه ﴾ ( النعاس ) مرفوع، فاعل ﴿ يغشاكم ﴾ وقد جاء النعاس فاعلا – كقراءة أبي عمرو، وابن كثير هنا جاء ذلك- في سورة آل عمران في قوله :﴿ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى ﴾ [ آل عمران : الآية ١٠٤ ] أي : النعاس ﴿ طائفة منكم ﴾ كما قال هنا :﴿ إذ يغشاكم النعاس أمنة منه ﴾ النعاس : معروف، وهو أوائل النوم.
وأجرى الله العادة أن النعاس لا يكون للخائف – أن الخائف يطير منه النعاس ويطير منه النوم فلا ينعس ولا ينام – وأن الذي يصيبه النعاس فينام هو الآمن ؛ ولذا كانوا يقولون :( الأمن منيم، والخوف مسهر ) ؛ لأن صاحب الأمن ينعس فينام، فترى الآمن ناعسا ونائما، والخائف قلقا لا يأتيه النعاس ولا النوم. وأجرى الله العادة أنه إذا أراد نصر حزبه ألقى عليهم النعاس ؛ لأن النعاس لا يغشاهم إلا وقد زال من صدروهم الخوف وقلق الجزع والحزن، وهذا تأمين منه لهم، وتثبيت لهم، كما تقدم في قوله :﴿ ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا يغشى طائفة منكم ﴾ [ آل عمران : الآية ١٥٤ ] وقد قدمنا في تفسيرها في آل عمران عن ابي طلحة أنه ذكر أنه سقط منه سيفه ثلاث مرات وهو قائم في الصف من شدة النعاس، وأنهم يميدون تحت السلاح لشدة نعاسهم. وقد ذكر هنا أنه غشاهم النعاس في وقعة بدر.
وقوله :﴿ أمنة منه ﴾ [ الأنفال : الآية ١١ } مفعول من أجله. إذ يغشيكم ( جل وعلا ) النعاس لأجل الأمنة منه. والأمنة : مصدر أمن يأمن أمنة وأمنا وأمانا. والأمنة والأمان ضد الخوف. أي : لأجل أن تكونوا آمنين ليس في قلوبكم خوف ولا جزع ولا قلق، وهذا من تثبيت الله لعباده المؤمنين.
وقد اختلف العلماء في وقت هذا النعاس الذي صرح الله أنه غشاه أهل بدر، فقال بعض العلماء : كان هذا النعاس غشاهم الله إياه في الليلة التي في صبيحتها وقعة بدر، وكانت ليلة الجمعة، وهي السابعة عشرة من شهر رمضان، في عام اثنين من الهجرة. المفروض أنهم كانوا يكونون في خوف وقلق ؛ لأنهم غدا يتلاقون مع عدوهم، وهو جيش عرمرم قوي، فالعادة أن من هو إذا أصبح يلاقي جيشا عرمرما، وينتظر الموت أنه يبيت والنعاس طائر عنه، والنوم طائر من عينيه لما يصيبه من خوف الموت والفزع والقلق، إلا أن الله خرق العادة لحزبه هنا، وغشاهم النعاس. قالوا : ففي تلك الليلة ناموا ملء عيونهم نوما مستغرقا كنوم الآمنين في غاية الأمن حتى احتلموا وأصبح كثير منهم جنبا من الاحتلام ! ! والغالب أن الرجل لا يحتلم إلا إذا كان نومه مستغرقا، والنوم لا يكون ثقيلا مستغرقا إلا للآمن الذي لا يخالجه خوف ؛ لأن الخائف والقلق ولو قدرنا أنه أصابته غفوة فعن قليل يستيقظ فزعا مرعوبا، فهم في تلك الليلة غشاهم الله النعاس فباتوا في أمن ونوم عميق نائمين، وجنبوا تلك الليلة. قالوا : ومن حكمة ذلك أن النوم الثقيل العميق تستريح منه الأعضاء من التعب، فأصبحوا مستريحين قادرين على كفاح العدو، قال المفسرون : أخبر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن نفير قريش سبقهم إلى الماء، وكانوا في العدوة الدنيا من بدر، وكان الوادي الذي هم فيه فيه رمال دهسة، يصعب المشي فيها ؛ لأن الأقدام تسوخ فيها، أجنبوا وعطشوا، فجاءهم إبليس برجزه فوسوس لهم وسوسة عظيمة ثقلت على بعض الصحابة، وقال : تزعمون أنكم على الحق وأنتم في عطش، والقوم قد سبقوكم إلى الماء وغلبوكم عليه، فإذا أجهدكم العطش جاؤوكم فقتلوا من شاؤوا، وأسروا من شاؤوا، وأنتم تصلون بالجنابة في عطش، وأرجلكم تسوخ في الرمل، والعدو بخلاف هذا ! ! فانزل الله مطرا من السماء، وسلط عليهم النوم، فسال الوادي، فاغتسلوا من الجنابة، وشربوا، وسقوا دوابهم، ولبد لهم الأرض حتى صارت الخطا ثتبت عليها، والأقدام تثبت عليها ولا تسيخ فيها ؛ لأن الرمل المتهائل إذا ضربه المطر اشتد وصار الإنسان يمشي عليه ولا تسوخ قدمه فيه، وإن كان يابسا صعب المشي فيه ؛ لأن الرجل تسوخ فيه.
وقال بعض العلماء : النعاس الذي غشاهم إياه : بعد أن التحم القتال أصاب المسلمين نعاس يوم بدر كما أصابهم يوم أحد. والله تعالى أعلم. ﴿ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه ﴾ [ الأنفال : الآية ١١ ] لأجل الأمن، سواء قلنا : إنه في الليل، أو إنه في النهار وقت التحام الصفين. هذا معنى قوله :﴿ إذ يغشيكم النعاس أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ﴾ هو هذا المطر الذي كنا نذكر خبره الآن.
وقرأه السبعة غير ابن كثر وأبي عمرو :﴿ وينزل ﴾ بتشديد الزاي وفتح النون. مضارع نزله ينزله. وقرأه ابن كثير، وأبو عمرو :﴿ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ﴾ أي : من الجنابة كما طهر باطنكم طهر لكم ظاهركم من الجنابة.
﴿ ويذهب عنكم رجز الشياطين ﴾ أي : وسوسة الشيطان الذي أثقل عليكم بها : أنكم تصلون بالجنابة، وأنكم عطاش يهلككم العطش فيأخذكم العدو. أذهب عنكم بنزول ذلك الماء. أنزل ذلك المطر ليطهركم من الجنابة، وكل حدث أصغر وأكبر. ﴿ ويذهب عنكم رجز الشياطين ﴾ أي : وسوسته التي كان يسوس لكم بها.
﴿ وليربط على قلوبكم ﴾ حيث أزال عنكم وسوسة الشيطان : أن العطش يضعفكم، وأن القوم يأخذونكم حيث شربتم من ذلك المطر وتقويتم ﴿ وليربط على قلوبكم ﴾ معناه : يشدها ويقويها حيث أزال وساوس الشيطان التي أثقل عليكم بها.
﴿ ويثبت به الأقدام ﴾ يعني : يثبت بالمطر أقدامكم على دهس الرملة ؛ لأنها قبل المطر كانت تسوخ فيها الأقدام. وعلى هذا القول أكثر المفسرين. وقال بعض العلماء : الربط على القلوب وتثبيت الأقدام هنا : الربط على القلوب : هو تثبيت الجأش والشجاعة. وتثبيت الأقدام : هو تثبيتها في الميدان، وأن السبب المسبب لهذا هو الإمداد بالملائكة. وهذا يبعد من ظاهر القرآن، والذي عليه الجمهور : هو ما ذكرنا أن تثبيت الأقدام هنا تثبيت حسي ؛ لأن المطر لبد الأرض الدهسة فصارت الأقدام تثبت عليها ولا تسوخ فيها. وهذا معنى قوله :﴿ ويثبت به الأقدام ﴾.
قال بعض العلماء : قوله :( إذ ) بدل من ( إذ ) قبله. قالوا : قوله :﴿ إذ يغشيكم النعاس ﴾ [ الأنفال : الآية ١١ ] بدل من قوله :﴿ وإذ يعدكم الله ﴾ [ الأنفال : الآية ٧ ] وقوله :﴿ إذ يوحي ﴾ بدل من قوله :﴿ يغشيكم النعاس ﴾. وقال بعض العلماء : العامل في ( إذ ) ﴿ إذ يوحي ﴾ هو العامل في ( إذ ) المتكررة قبلها. وقال بعض العلماء : العامل فيه :﴿ وليربط على قلوبكم ﴾ [ الأنفال : الآية ١١ ] حين يوحي إلى الملائكة. وقال بعضهم : منصوب بقوله :﴿ ويثبت به ﴾ [ الأنفال : الآية ١١ ] أي : يثبتهم حين أوحي إلى الملائكة أن ثبتوا الذين آمنوا.
﴿ إذ يوحي ربك إلى الملائكة ﴾ [ الأنفال : الآية ١٢ ] يمكن أن يكون إليها، وأن يكون وحي إعلام، كل ذلك جائز للملائكة ( صلوات الله وسلامه عليه ). يوحي إليهم الله :﴿ أني معكم ﴾ معية نصر وإعانة ﴿ فثبتوا الذين آمنوا ﴾ يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يوم بدر. وتثبيت الملائكة لهم كان من جهات متعددة : منها : أن الملائكة يلقون في قلوبهم الأمن والطمأنينة، كما يلقي الله الرعب في قلوب الكفرة. ومنها : أنهم يثبتونهم بالقتال معهم وإعانتهم ؛ لأنهم بذلك يوقنون بالنصر فتقوى قلوبهم وتثبت أقدامهم. وقال بعض العلماء : كانوا يثبتونهم بغير ذلك، كان الملك يتمثل للناس بصفة رجل يعرفونه ويمشي بين الصفوف ويقول : ابشروا فإن الله ناصركم عليهم ومظهركم عليهم، وكان الملك يتمثل في صورة الرجل يعرفونه – كما قال به بعض العلماء- ثم يقول للمسلمين : أبشروا فإني سمعتهم يخافون منكم ويقولون : إنكم إن حملتم عليهم انكشفوا هاربين عنكم. لتقوى قلوب المؤمنين وتثبت، ويستحقرون الكفرة. هذا معنى قوله :﴿ فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ كان بعض من شهد بدرا كافرا أسلم بعد ذلك، وكان الناس يسألونه ويقولون له : صف لنا الرعب الذي ألقى الله في قلوبكم يوم بدر. فيأخذ ويضربها على طشت من الحديد فيسمع لها دوي عظيم، فيقول : كنا نسمع مثل هذا في أجوافنا من شدة الخوف ؛ وهذا معنى قوله :﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾.
قرأ هذا الحرف من السبعة : نافع، وابن كثير، وعاصم، وحمزة، - كل هؤلاء الأربعة- من السبعة قرؤوا :﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ بإسكان العين من قوله :﴿ الرعب ﴾ وقرأه ابن عامر، وحمزة١، والكسائي :﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾ بضمتين. فالذي قرأ :( الرعب ) بضم العين : هو ابن عامر، وحمزة، والكسائي. والذي قرأ ( الرعب ) بسكون العين : نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وعاصم، هؤلاء الأربعة قرؤوا :( الرعب ) بسكون العين، وأولئك الثلاثة قرؤوا :( الرعب ) بضمتين. وهما لغتان فصيحتان وقراءتان صحيحتان.
والرعب شدة الخوف في قلوب الذين كفروا ؛ لأن القلب هو محل الإدراك، وهو الذي يكون فيه الأمن ويكون فيه الخوف. وهذا معنى قوله :﴿ سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب ﴾.
وقوله :﴿ فاضربوا فوق الأعناق ﴾ المأمور بالضرب في قوله :﴿ فاضربوا ﴾ أصله فيه وجهان معروفان :
أحدهما : أن المأمور به الملائكة، قال بعض العلماء : ما كان الملائكة يعرفون مقاتل الضرب حتى علمهم الله ذلك يوم بدر فقال :﴿ فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ﴾ وكون هذا الخطاب للملائكة ( صلوات الله وسلامه عليهم ) هو أظهر القولين ؛ لأن ظاهر السياق يقتضيه ؛ لأن هذا في الظاهر من جملة ما أوحي على الملائكة.
والقول الثاني : أن المأمور بقوله :﴿ فاضربوا فوق الأعناق ﴾ المسلمون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله :﴿ فوق الأعناق ﴾ المراد بالفوقية هنا فيه أوجه معروفة للعلماء لا يكذب بعضها بعضا : أما الذين قالوا : إن لفظة ( فوق ) زائدة، وأن المراد : فاضربوا الأعناق، واستدلوا بقوله :﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب ﴾ [ محمد : الآية ٤ ] فهذا القول لا يجوز أن يقال به في القرآن ؛ لأن لفظا جاء في القرآن لا ينبغي لأحد أن يحكم عليه بأنه زائد لا معنى له.
وقال بعض العلماء :( فوق ) هنا معنى ( على ) العرب تقول :( ضربه على عنقه، وضربته فوق عنقه ) وعلى هذا القول فمفعول الضرب محذوف، أي : فاضربوهم فوق الأعناق، أي : فاضربوهم على الرقاب، وهذا قول ليس ببعيد.
وقال بعض العلماء : المراد بما فوق الأعناق : الرؤوس ؛ لأن الرأس فوق العنق، قال : معناه فاضربوا رؤوسهم، والعرب معلوم أنها في الحرب تبادر لضرب الرؤوس، ويمدحون الرجال بضرب الرؤوس وفلق الهام، وهو معنى مشهور، كثير في كلام العرب وفي أشعارها، قال الشاعر :
غشيته وهو في جأواء باسلة *** عضبا أصاب سواء الرأس فانفلقا
يفتخر بضرب الهام. ومنه قول عمرو بن الإطنابة :
أبت لي همتي وأبى إبائي *** وأخذي المجد بالثمن الربيح
وإقدامي على المركوه نفسي *** وضربي هامة البطل المشيح
والآخر قال :
نفلق هاما من رجال أعزة *** علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وضرب الهام مشهور في كلام العرب وفخرها وأشعارها، ومن مدح الرجل للفارس : هذا يضرب القوانيس، وهذا يضرب القونس. والقوانس : جمع القونس، والقونس : هو مقدم البيضة من الحديد على رأس الفارس. وقال بعض العلماء : القونس على البيضة، وضرب القونس : كناية عن ضرب الهام، وهي فوق الرقاب. ومن هذا المعنى قول امرئ القيس بن عابس الكندي :
كلاهما كان رئيسا بيئسا *** يضرب في يوم الهياج القونسا
ومنه شعر العباس بن مرداس –المشهور- السلمي :
فلم أر مثل الحي حيا مصبحا *** ولا مثلنا يوم التقينا فوارسا
أكر وأحمى للحقيقة منهم *** وأضرب منا بالسيوف القوانسا
هذا قال به بعض العلماء، أن المراد بما فوق الأعناق : الرؤوس ؛ لأن الرأس فوق العنق، أي : فاضربوا رؤوسهم وفلقوا هامهم. وأظهر الأقوال وأقربها للصواب ما قاله بعض العلماء : أن الله علم الملائكة أو أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حز الرؤوس، وبين لهم مفصل الرأس الذي يطير الرأس عن الجثة، وأنه فوق الأعناق ؛ لأن الرقبة المحل الذي تركب منه في الرأس هو مفصل للحز إذا ضرب الإنسان طار الرأس بسرعة، وكان ذلك أهون إبانة الرأس ؛ ولذا كانت العرب تفتخر بضرب القماحد، والقماحد جمع قمحدة وهو العظم الذي خلف الأذن ؛ لأنه تحت عظم الرأس وفوق عظم الرقبة، وذلك وهو مفصل الرقبة وموضع حزها الذي يسهل به إطارة الرأس وإبانته على الجثة كما هو معروف، ومن هذا المعنى قول الشاعر يمدح خالد بن الوليد رضي الله عنه :
رأيت رجالا من قريش كثيرة *** ولم أر في القوم القيام كخالد
كساك الوليد بن المغيرة مجده *** وعلمك الشيخان ضرب القماحد
والقماحد جمع القمحدة، وهي العظم الذي خلف الأذن ؛ لأنه نازل عن عظم الرأس، مرتفع عن عظم الرقبة، محله من جوانب الرقبة محل المذبح، تسهل منه إبانة الرأس وإطارته عن الجثة، وهذا معنى قوله :﴿ فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان ﴾ [ الأنفال : الآية ١٢ ].
قال بعض العلماء : واحد البنان بنانة. والتحقيق أن البنان أطراف الأصابع، كما هو معناه المشهور في كلام العرب، والعرب يعرفون ضرب البنان ؛ لأن الرجل إذا ضرب أطراف يده – أصابعه- بالسيف لا يقدر أن يحمل سيفا ولا رمحا، فبقي لا بأس فيه ولا نكاية عنده، من جاءه قدر على قتله. فالضرب الذي أعلموه على نوعين : إصابة المقاتل، وإصابة الشوى، وهي الأطراف التي تمنع صاحبها من أن يفعل شيئا، وكانت العرب تعرف هذا، ومنه قول عنترة بن شداد :
وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها *** ويضرب عند الكر بكل بنان
والعرب تسمي أطراف الأصابع : بنانا، ومنه قول عنترة أيضا :
وإن الموت طوع يدي إذا ما *** وصلت بنانها بالهندواني
وما زعمه بعض علماء العربية من أن المراد بالبنان هنا يصدق بجميع المفاصل وبالوجه والعينين، وهو خلاف التحقيق المعروف من اللغة ؛ لأن المعروف في اللغة : أن البنان أطراف الأصابع، بعضهم يقول : أطراف أصابع اليد. وبعضهم يقول : تدخل فيه أطراف أصابع الرجل، والإطلاق المشهور : إطلاق البنان على أطراف أصابع اليد. والعرب تقول :( بنان مطرف، ومطرفة ) إذا خضبت المرأة أطراف أصابعها بالحناء، وهذا هو المعنى المشهور المتعارف في كلام العرب، ومنه قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي :
بدا لي منها معصم يوم جمرت *** وكف خضيب زينب ببنان
فوالله ما أدري وإني لحاسب *** بسبع رميت الجمر أم بثمان
فقوله :( كف خضيب زينت ببنان ) أي : بأصابع. والبنان مؤنثة، وربما ذكرتها العرب نادرا، ومن تذكيرها النادر قول عمر بن أبي ربيعة المخزومي أيضا :
وأرسلت فجاءني *** بنانها المطرف
ولم يقل : المطرفة، هو الذي خضب أعاليه بالحناء، وهذا معنى قوله :﴿ فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل ببنان ﴾ [ الأنفال : الآية ١٢ ].
وإلا فاعلموا أنا وأنتم | بغاة ما بقينا في شقاق |
ومن عصاك فعاقبه معاقبة | تنهي الظلوم ولا تقعد على ضمد |
اعلموا كلا أيها الناس أن قلوبكم بيد خالقكم ( جل وعلا ) يصرفها كيف شاء، يوفق من شاء، ويضل من شاء ﴿ وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ﴾ [ هود : الآية ٨٨ ] وعلينا معاشر المسلمين أن نتفهم في هذه الآية، وأن نبتهل ونتضرع إلى ربنا أن يثبتنا، وأن لا يزيغنا، وأن لا يحول قلوبنا إلا لما يرضيه ( جل وعلا ) ؛ لأن هذه الآية يخافها العاقل جدا، فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل إنسان قلبه بين أصبعين من أصابع الرحمن ( جل وعلا ) يصرفه كيف يشاء. فيا مقلب القلوب، مثبت من شاء، ومضل من شاء، وهادي من شاء، ومضل من شاء ؛ [ ثبت قلوبنا على دينك ]٢ ولذا أثنى ( جل وعلا ) على عباده الراسخين في العلم بأنهم يقولون :﴿ آمنا به كل ﴾ [ آل عمران : الآية ٧ ] إلى أن قال عنهم :﴿ ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة ﴾ [ آل عمران : الآية ٨ ].
ومعنى :﴿ يحول بين المرء وقلبه ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٤ ] إنما عبر بالقلب لأن القلب محل العقل الذي به الإدراك، لا كما يقوله الملاحدة : إن محله الدماغ. يحول بينه وبين قلبه فيصرف قلبه حيث شاء، وكيف شاء، يصرفه من هدى إلى ضلالة، ومن ضلالة إلى هدى، قال بعض العلماء : وكذلك يصرف من أمن إلى خوف، ومن خوف إلى أمن، كما نقل قلوب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخوف إلى الأمن، وقلوب الكفرة من الأمن إلى الرعب والخوف الذي ألقاه في قلوبهم، والأول هو الصحيح في معنى الآية ؛ لأن هذه الآية تدل على أن الأمور كلها بيد الله، وأنه يصرف القلوب كيف شاء، فيهدي من يشاء هداه، ويضل من يريد إضلاله.
وما يزعمه المعتزلة من أن الله لا يريد الشر، وأن العبد يخلق معاصيه باستقلال مشيئة العبد وقدرته مذهب لا يخفى سوقه على عاقل، فإن خالق السموات والأرض لا يكون في ملكه شيء إلا بمشيئته وقدرته جل وعلا.
﴿ وأنه إليه تحشرون ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٤ ] ﴿ وأنه ﴾ أي : الله ﴿ إليه تحشرون ﴾ وحده. الحشر في لغة العرب معناه : الجمع. تقول : حشر الإمام العلماء أي : جمعهم، وحشر الناس أي : جمعهم. ومنه قوله :﴿ وأرسل في المدائن حاشرين ﴾ [ الأعراف : الآية ١١١ ]. أي : جامعين يجمعون لك السحرة. فالحشر في لغة العرب : الجمع. والناس كلهم يجمعون يوم القيامة إلى رب السماوات والأرض كما قال :﴿ وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ﴾ [ الكهف : الآية ٤٧ ] وقد بين في سورة الأنعام أنه يحشر جميع الدواب والطير وجميع ذلك كله، يحشرهم ويجمعهم يوم القيامة، كما تقدم في قوله :﴿ وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلى ربهم يحشرون ٣٨ ﴾ [ الأنعام : الآية ٣٨ ] فكما أنه يحشر الناس كذلك يحشر الدواب والطير وغير ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ وأنه إليه تحشرون ﴾.
٢ ما بين المعقوفين [ ] زيادة يقاضيها السياق.
﴿ واتقوا فتنة ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٥ ] قد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن الفتنة أطلقت في القرآن إطلاقات متعددة :
أطلقت الفتنة بمعنى الابتلاء. وهذا أكثر إطلاقها، ومنه قوله :﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾ [ الأنبياء : الآية ٣٥ ] أي : ابتلاء، ﴿ لأسقيناهم ماء غدقا ١٢ لنفتنهم فيه ﴾ [ الجن : الآيتان ١٢- ١٣ ] أي : لنختبرهم، ﴿ إنما أموالكم وأولادكم فتنة ﴾ [ التغابن : الآية ١٥ ] أي : امتحان وابتلاء واختبار.
وأصل الفتنة في لغة العرب : هي الوضع في النار، تقول العرب ( فتنت الذهب ) إذا وضعته في النار وأذبته فيها ليظهر أخالص هو أم زائف. ولذا كان أحد إطلاقات الفتنة : هي الإحراق بالنار، ومنه بهذا المعنى قوله :﴿ يوم هم على النار يفتنون ١٣ ﴾ [ الذاريات : الآية ١٣ ] أي : يجعلون فيها ويحرقون فيها، ومنه على أصح التفسيرين :﴿ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ﴾ [ البروج : الآية ١٠ ] أي : احرقوهم بنار الأخدود.
وتطلق الفتنة على نتيجة الاختبار إن كانت سيئة خاصة، ومن هنا أطلقت الفتنة على الكفر وعلى المعاصي، كما قال :﴿ وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ [ البقرة : الآية ١٣ ] أل : لا يبقى شرك على وجه الأرض، كما يدل له قوله صلى الله عليه وسلم :( أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولون لا إله إلا الله ). وجاء في سورة الأنعام إطلاق الفتنة على الحجة في قوله :﴿ ثم لم تكن فتنتهم ﴾ [ الأنعام : الآية ٢٣ ] وفي القراءة الأخرى :﴿ فتنتهم ﴾ (... )٢ وهذا معنى وقوله :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾. ودخول نون التوكيد على ﴿ لا تصيبن ﴾ [ مع أنه في غير قسم، ولا طلب، ولا شرط، فيه سؤال معروف، ]٣ واختلف علماء العربية في توجيهه، والذي يظهر أنه يفهم من هذا أن نون التوكيد تدخل في مثل هذا الأسلوب، إذ لا حاجة إلى التعسفات التي يرتكبها من يريد الجواب عن هذا، مع أن القرآن في أعلى درجات الإعجاز. و﴿ الذين ظلموا ﴾ معناه : ارتكبوا المعاصي فظلموا أنفسهم.
﴿ خاصة ﴾ أي : في حال كونها خاصة بهم لا تتعداهم إلى غيرهم ؛ بل هي تتعداهم إلى غيرهم ؛ أي : لا تصيب خصوصهم بل تعم وتصيب الجميع. وهذا معنى قوله :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة ﴾.
﴿ واعلموا أن الله شديد العقاب ﴾ العقاب : هو النكال على الذنب، قيل : سمي عقابا لأنه يأتي عقبه من أجله.
فعلينا معاشر المسلمين أن نتفهم هذه الآية، وأنا إذا رأينا السفهاء ومن لا يطيعون الله يتعالنون بمعاصي الله ان نغيرها بحسب استطاعتنا ؛ لئلا يعمنا الله بعذاب من عنده، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي سعيد الخدري ( رضي الله عنه ) مراتب تغيير المنكر فقال :( من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وهو أضعف الإيمان ).
فمن قدر منا أن يغير بيده فليغير بيده، ومن لم يقدر على التغيير باليد فباللسان، ومن عجز عن ذلك كله فبالقلب، وهو أضعف الإيمان. ويوشك أن المعاصي إذا لم تزل ترتكب ولا ينهى عنها أحد أن ينزل عذاب من الله عام يعم الصالح والطالح، والعاجز حقيقة يبعثه الله على نيته، ولا يناله شيء من إثم أولئك الآثمين، إلا أن العذاب وقت نزوله يعم الجميع كما جاءت الأحاديث بذلك. وهذا معنى قوله :﴿ واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب ٢٥ ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٥ ] كونه شديد العقاب فيه تحذير شديد وتخويف لمن يقصر في امتثال أمره واجتناب نهيه، فليس للمسلم أن يقصر في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ما وجد إلى ذلك سبيلا.
٢ في هذا الموضع انقطع التسجيل.
٣ في هذا الموضع انقطع التسجيل. وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام.
[ أي : واذكروا حين كان ]١ عددكم قليل جدا مستضعفون في الأرض، أي : يستضعفكم أعداؤكم، يرونكم ضعفاء، ويعاملونكم معاملة القوي للضعيف، وهذا قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنهم كانوا في [ مكة ]٢ قبل الهجرة عددهم قليل، والكفار يستضعفونهم، ويضربونهم، ويعذبون بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا مختفين في دار الأرقم بن أبي الأرقم قبل إسلام عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه )، وكان لهم بعض عزة نسبيا بإسلام حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب ( رضي الله عنهما ). واذكروا نعمة الله وتذكروا ما نقلكم به من حال الضعف إلى حال القوة، ومن حال القلة إلى حالة الكثرة، وتذكروا هذا الإنعام لتشكروا لمن أنعم عليكم به. وهذا معنى قوله : واذكروا إذ أنتم قليل } القليل : ضد الكثير، والمستضعف : الذي يراه غيره ضعيفا ويعامله معاملة القوي للضعيف.
﴿ في الأرض ﴾ هي : أرض مكة التي كانوا فيها قبل الهجرة.
﴿ تخافون ﴾ الخوف في لغة العرب : هو الغم من أمر مستقبل. والحزن في لغة العرب : الغم من أمر فائت – أعاذنا الله منهما- وربما وضعت العرب الخوف في معنى الحزن، والحزن، في معنى الخوف.
﴿ تخافون أن يتخطفكم الناس ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٦ ] التخطف : هو أن يقع منهم الخطف مرة بعد مرة. والخطف في لغة العرب معناه : الأخذ بسرعة، فكل ما أخذته بسرعة شديدة فقد خطفته ﴿ أن يتخطفكم الناس ﴾ لقتلكم وضعفكم ليست لكم مناعة بكثرة ولا بقوة، فالناس قادرون على أن يتخطفوكم ويأخذوكم بسرعة واحدا واحدا فيقتلوكم.
﴿ فآواكم ﴾ جل وعلا، أي : ضمكم إلى عزة ومنعه بأن ضمكم إلى هذه المدينة –حرسها الله- وقواكم بالأنصار، هداهم فأسلموا، وكان لكم محل مأوى وقوة.
﴿ وأيدكم بنصره ﴾ العرب تقول :( أيده ) إذا قواه. ( ورجل أيد ). معناه : قوي، و( الأيد ) في اللغة و( الآد ) معناه : القوة، ومنه :﴿ والسماء بنيناها بأييد ﴾ [ الذاريات : الآية ٤٧ ] أي : بقوة. فليست من آيات الصفات. ووزن ( أيد ) :( فعل )، أما ( الأيدي ) التي هي جمع ( يد ) فوزنها بالميزان الصرفي ( أفعل )، فوزن قوله :﴿ والسماء بنيناها بأييد ﴾ أيد معناه :( فهل ) من ( أيد ) بمعنى : القوة، والعرب تقول :( فلان أيد ) أي : قوي، و( رجل ذو أيد وآد ) أي : ذو قوة ﴿ وأيدكم ﴾ قواكم بنصره.
والنصر في لغة العرب : إعانة المظلوم. نصرهم الله بالأنصار، وقواهم بكثرة المؤمنين وقوة شوكتهم، وبما أوقع بالكفار يوم بدر، بإنزال الملائكة تثبتهم، وتلقي الرعب في قلوب عدوهم. وهذا معنى قوله :﴿ فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات ﴾ كأن في الكلام محذوفا دل المقام عليه ﴿ واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد وبوأكم في الأرض ﴾ فقراء لا أموال لكم ﴿ فأواكم ﴾ الله وقواكم بنصره وجعل لكم الأموال ﴿ ورزقكم من الطيبات ﴾ كما رزقكم بغنائم يوم بدر، وهو مال طيب أطابه الله لهم بعد أن لامهم عليه لوما شديدا. وقال :﴿ لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخدتم عذاب عظيم ٦٨ ﴾ [ الأنفال : الآية ٦٨ ] ثم قال بعد ذلك ﴿ فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ﴾ [ الأنفال : الآية ٦٩ ] وهي الطيبات التي رزقهم ﴿ ورزقكم من الطيبات لعللكم تشكرون ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٦ ] لله نعمه.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا أن الشكر في القرآن يطلق من الرب لعبده، ويطلق من العبد لربه.
فإطلاق الشكر من الرب لعبده كقوله :﴿ إن ربنا لغفور شكور ﴾ [ فاطر : الآية ٣٤ ] ﴿ ومن تطوع خيرا فإن الله شاكر عليم ﴾ [ البقرة : الآية ١٥٨ ].
وإطلاقه من العبد لربه :﴿ وقليل من عبادي الشكور ﴾ بسبأ : الآية ١٣ ] ﴿ لعلكم تشكرون ﴾ [ البقرة : الآية ١٨٥ ].
فشكر الرب لعبده معناه : أن يثيبه الثواب الجزيل من عمله القليل.
وشكر العبد لربه قال بعض العلماء : ضابطه المنطبق على جزئياته : هو أن يستعمل جميع نعم الله فيما يرضي الله، فهذه العيون التي فتحها في أوجهكم تبصرون بها، نعم عظمى منه إليكم، فشكرها : أن لا تستعملوها إلا في طاعة الله، ولا تنظروا بها إلا فيم يرضي من خلقها ومن عليكم بها، وهكذا الأيدي والأرجل وسائر النعم. أما العبد المسكين الضعيف الذي ينعم عليه خالق السموات والأرض بنعمه ثم يصرف نعمه فيما يسخطه ويغضبه فهذا مجنون. وهذا معنى قوله :﴿ لعلكم تشكرون ﴾ أي : لأجل أن تشكروا على ذلك الإنعام.
٢ في الأصل: (المدينة) وهو سبق لسان.
وكان بعض العلماء يقول : إن الآية التي تاب الله عليه فيها هي التي بعد هذه وهي قوله :﴿ إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٩ ] فهو قد اتقى الله بالندم على ما فات منه، ونية أن لا يعود، وتأنيبه نفسه على الزلة التي صدرت منه بالعطش والجوع حتى خر مغشيا عليه، واعترافه بما وقع منه، وجعل الله له فرقانا أي : مخرج من ذلك بأن تاب عليه كما يأتي في شرحها. وهذا معنى قوله :﴿ يا أيا الذين آمنوا لا تخونوا الله ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٧ ] خيانة الله : هي تقصيرهم في امتثال أوامره واجتناب نواهيه، وخيانة الرسول : هي التقصير في طاعته كهذا الصحابي الذي أفشى سره إلى يهود بني قريظة، فقد خان الله ورسوله ثم تاب الله عليه.
﴿ وتخونوا أمانتكم ﴾ لأن جميع التكاليف كلها أمانات عند المكلفين كما سيأتي إيضاحه في قوله :﴿ إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال ﴾ [ الأحزاب : الآية ٧٢ ].
وكان بعض العلماء يقول : الأمانات : أوامرالله ونواهيه التي لا يطلع عليها أحد ولا يعلمها إلا هو ؛ لأن الإنسان في بيته قد يكون عليه الجنابة لا يعلم بها الناس، وقد يكون عليه الحدث، وقد يجيء المسجد ولم يغتسل ولم يصل، وقد يغتسل وقد يصلي. هذه أمانات أمنها الله عند هذا لا يعلمها إلا هو، فليس عليه أن يخونها.
والتحقيق : ان الأمانة تشمل جميع التكاليف.
نزلت هذه الآية في أبي لبابة ( رضي الله عنه ) حين قالوا : ننزل على حكم سعد بن معاذ ؟ فأشار ]١ بيده إلى حلقه أنه الذبح إن نزلتم على حكم سعد بن معاذ ( رضي الله عنه ). كان سبب ذلك أن أولاده وماله في بني قريظة فأشفق على أولاده وماله، فأنزل الله :﴿ واعلموا ﴾ أيها الناس ﴿ إنما أموالكم وأولكم فتنة ﴾ أي : ابتلاء واختبار كما أوقع الأموال والأولاد – الإشفاق عليهم - أوقع أبا لبابة في الزلة ﴿ وأن الله ﴾ جل وعلا ﴿ عنده أجر عظيم ﴾ أجر الله أعظم من الأموال والأولاد، فما عند الله خير من غيره، وهذا معنى قوله :﴿ وأن الله عنده أجر عظيم ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٨ ].
ما لك من طول الأسى فرقان | بعد قطين رحلوا وبانوا |
وكيف أرجي الخلد والموت طالبي | ومالي من كأس المنية فرقان |
وقال بعض العلماء :﴿ فرقانا ﴾ : نصرا وتأييدا ؛ لأن الله سمى يوم بدر :( يوم الفرقان ) في قوله :﴿ إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان ﴾ [ الأنفال : الآية ٤١ ] لأنه يوم نصر فرق الله به بين الحق والباطل بأن نصر الفئة المؤمنة القليلة على الفئة الكافرة الكثيرة.
قال بعض العلماء : فرقانا : فتحا.
وقال بعض العلماء : يجعل الله لكم بسبب تقوى الله فرقانا، أي : علما تفرقون له بين الحق والباطل، والحسن والقبيح. والأقوال متقاربة. وتقوى الله ( جل وعلا ) كفيلة بكل خير من خيري الدنيا والآخرة. ﴿ ويكفر عنكم سيئاتكم ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٩ ] مادة الكاف والفاء والراء في لغة العرب أصل معناها : الستر والتغطية. فمعنى :﴿ يكفر عنكم سيئاتكم ﴾ أي : يسترها ويغطيها بحلمه وعفوه حتى لا يظهر لها أثر تتضررون به ﴿ ويغفر لكم ﴾ كذلك الغفران معناه أيضا : الستر والتغطية ؛ لأنه ( جل وعلا ) يغفر الذنوب، أي : يسترها ويغطيها. فالتعبير بالتكفير والغفران كلاهما معناه ستر الذنوب وتغطيتها حتى لا يظهر لها أثر. وفي ذلك التوكيد من الترغيب في التقوى ما لا يخفى، ﴿ والله ﴾ جل وعلا ﴿ ذو الفضل العظيم ﴾ ففضله عظيم، ومن فضله ما تفضل عليكم به، وما نصركم به يوم بدر، وغير ذلك من فضله وإنعامه العظيم. قال بعض علماء التفسير : هذه الآية الكريمة من سورة الأنفال هي التي نزلت فيها توبة الله على أبي لبابة لما قال ما قال لبني قريظة، وجاء تائبا إلى الله نادما، وربط نفسه في سارية من سواري هذا المسجد الكريم، وحلف أن لا يأكل ولا يشرب حتى يموت أو يتوب الله عليه، وأغشي عليه بعد سبع فتاب الله عليه، قالوا : هذه فيها توبته ؛ لأنه اتقى الله بالندم على ما فات، والإقلاع، وربطه نفسه، واعترافه بالزلة، فجعل الله له من زلته في بني قريظة فرقانا، أي : مخرجا أخرجه به من مأزق الذنب. وتاب عليه ( جل وعلا )، هكذا قاله بعض العلماء والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله :﴿ إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٩ ] فضله عظيم على خلقه إذ يتفضل عليهم بخيرات الدنيا والآخرة.
قال بعض العلماء : هذه الآية من سورة الأنفال مكية، مع أن الأنفال مدنية. والأظهر أن هذه الآية كغيرها من سورة الأنفال مدنية ؛ وذلك أن الله لما فتح على نبيه، ونصره يوم بدر، وأنزل سورة الأنفال في وقعة بدر، ذكر نبيه بنعمه الماضية عليه في مكة قبل هجرته منها، وعرفه إنعامه عليه حيث أنجاه من مكر أعدائه ﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٠ ]. واذكر يا محمد - صلوات الله وسلامه عليه - أيام كنت في مكة بعد أن مات عنك الذي كان ينصرك ويحوطك، وهو أبو طالب، وتمكنت قريش من أن يؤذوك ويخرجوك، ودبروا لك ذلك المكر العظيم، اذكر إنعامي حيث مكرت بهم وجعلتها عليهم لا لهم. واذكر إذ ( يمكر بك الذين كفروا } المكر : المكيدة، وهو إخفاء الكيد ليوصل الشر إلى الممكور به في خفاء.
﴿ الذين كفروا ﴾ كفار مكة ؛ وذلك أن أشراف قريش اجتمعوا في دار الندوة يتشاورون في أمر محمد صلى الله عليه وسلم، وجاءهم شيخ في صفة شيخ جليل، فقالوا له : ممن أنت ؟ فقال : أنا شيخ من أهل نجد، وهو الشيطان، تمثل لهم في صورة ذلك الشيخ، قال لهم : لست من أهل تهامة وإنما أنا من أهل نجد - وكان أهل نجد في ذلك الوقت كفارا، وقريش يثقون فيهم لكفرهم، وأن الجميع على ملة واحدة - قال لهم إبليس في صفة ذلك الشيخ اللعين : سمعت أنكم تجتمعون لتتشاوروا في رأي هذا الرجل فجئتكم، ولا تعدمون مني رأيا حسنا في هذا الأمر.
فقال بعض قريش :- قالوا : ممن قاله : أبو البختري - : خلونا نكبله بالحديد، ونسجنه في دار، ونقفل بابها، ولا تترك إلا كوة ندخل إليه منها الطعام والشراب ونتربص به الدوائر حتى يموت كما مات من قبله من الشعراء، زهير والنابغة وأمثالهم من الشعراء، وفي ذلك يقول الله :﴿ أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون ٣٠ ﴾ [ الطور : الآية ٣٠ ] وهذا الرأي هو المراد بقوله :﴿ ليثبتوك ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٠ ] أي : يكبلوك بالحديد ويسجنوك ويتربصوا بك الدوائر حتى تموت.
وقال بعضهم – ويروى أن ممن قاله هشام بن عمرو- : اطردوه عنا، نجعله على بعير ونبعده من أرضنا وما علينا ما فعل.
فلما قال أبو البحتري الرأي الأول قال له ذلك الشيخ الذي في صورة الشيطان : بئس الرأي رأيك، هذا ليس برأي ؛ لأنكم إن أثبتموه بقيود الحديد وأغلقتم عليه الأبواب جاء قومه فأخرجوه وقاتلوكم عليه حتى يخرجوه، وهذا ليس برأي.
فلما قال الثاني : نبعده ونطرده من بلادنا وما علينا فيما فعله هو وسائر العرب. فقال ذلك اللعين : بئس الرأي الذي رأيت، أنتم تعلمون حلاوة لسانه، واستجلابه لقلوب الناس، فإذا خرج عنكم فلا يأمن أن يأخذ بقلوب الناس حتى يكونوا تبعا له، ثم يغزوكم في بلادكم.
فقال اللعين عمرو بن هشام بن المغيرة المعروف بأبي جهل : الرأي عندي الذي لا أرى غيره : أن تأخذوا من كل قبيلة من قريش شابا، وتعطوه سيفا صارما، فيأتيه ذلك الشباب من جميع قبائل قريش فيبتدرونه فيضربونه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في قبائل قريش، ولا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدرون على محاربة جميع قريش، فعند ذلك سيرضون بالدية، فإذا رضوا بديته دفعنا لهم عقله واسترحنا منه.
فقال ذلك اللعين : هذا هو الرأي الذي لا رأي غيره، أما هذا الفتى فهو أجودكم رأيا. وهذا معنى قوله :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك ﴾ أي : بالسجن وقفل الأبواب عليك :﴿ أو يخرجوك ﴾ إلى غير مكة من البلاد ﴿ أو يقتلوك ﴾ قتلة رجل واحد حتى يتفرق دمك في قبائل قريش. ﴿ ويمكرون ﴾ هذا المكر ليوصلوا إليك الشر في خفية. ﴿ والله ﴾ جل وعلا ﴿ خير الماكرين ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٠ ] – مكر لك بهم، وأخرجك، ونجاك، وأظفرك بهم يوم بدر حتى قتلتهم وأسرتهم، هذا مكرهم وهذا مكر الله.
ولما أجمعوا على هذا الرأي، واتفقت عليه كلمة الجميع، جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بجميع ما قالوا، وقال له :( لا تبت الليلة في موضع مبيتك ) فنادى علي بن أبي طالب ( رضي الله عنه ) وأمره أن ينام في المحل الذي كان ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخرج رسول الله، وقريش محدقون بمنزله، ينتظرون أن يخرج فيقتلوه القتلة التي أشار عليهم بها أبو جهل وإبليس، فأعمى الله عيونهم، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ أوائل سورة ( يس ) وفي يده تراب فذر التراب على رؤوسهم ويقرأ إلى قوله :﴿ فأغشيناهم فهم لا يبصرون ﴾ [ يس : الآية ٩ ] وأذن له في ذلك الوقت في الهجرة فخرج هو وصاحبه إلى الغار، فانتظر قريش حتى الصبح، فوثبوا عليه ليقتلوه، فوجدوا المكان فيه علي بن ابي طالب ( رضي اله عنه ) فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ! ! فاقتصوا أثره حتى جاؤوا الجبل الذي فيه الغار فخفي عليهم أثره، وجاؤوا الغار، قال بعض علماء السير : فوجدوا على الغار نسيج العنكبوت، فقالوا : لو دخل هنا لما كان على الغار نسج العنكبوت، ومكث هو وصاحبه في الغار ثلاث ليال – كما قاله بعضهم - واتفقوا مع عبد الله بن الأريقط من بني دئل من كنانة، وأعطوه مراكبهم، وجاءهم في الوعد ؛ لأنهم في ذلك الوقت محتاجون إلى دليل خبير بالأرض فيما بين مكة والمدينة ؛ لأن الطريق السابلة المعروفة عليها العيون والرصد ؛ لأن قريشا جعلت الجعائل والأموال الطائلة لمن يأتيها بمحمد صلى الله عليه وسلم، فصار يحتاج إلى أن يمشي في طرق غير معهودة، وسبل غير معروفة، فآجر لذلك عبد الله بن الأريقط الدئلي، فلما كان بالموعد وأيس قريش من أن يجدوه ورجعوا جاءه فركبوا، وأخذ بهم طرقا غير الطرق المعهودة فلم يطلع عليهم أحد من العرب، حتى مروا ببلاد بني مدلج بن بكر بن كنانة، وذكرهم أحد فقال : أخاف أن يكون هو الرجل الذي يطلبه قريش. فقال له سراقة بن مالك بن جعشم ( رضي الله عنه ) : ليس هو. يريد أن يستأثر بأخذه ؛ ليأخذ المال من قريش، فركب على فرسه في أثرهم، وقصته مشهورة، وعلماء التاريخ يقولون : إن فرسه ساخت به في الأرض، وكاد أن تبتلعه الأرض مرات، وأنه طلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يكتب له أمانا ورجع خائبا لم ينل النبي صلى الله عليه وسلم بسوء. وسافر في الهجرة، ومر في سفره هذا بالجحفة، ونزلت عليه في الطريق في الحجفة آية :﴿ إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد ﴾ [ القصص : الآية ٨٥ ] حتى جاء الأنصار ( رضي الله عنهم ). وهذا معنى قوله :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ٣٠ ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٠ ].
وفي قصة الهجرة هذا دليل يبين للناس ويوضح لهم حقيقة أمر ضل فيه الآن أكثر الناس ؛ لأن غالب الناس الآن – وإنا لله وإنا إليه راجعون- اجترفتهم التيارات، فذهبوا يقلدون كل ناعق من كفرة الإفرنج وملاحدتهم ؛ لأنهم رأوا عندهم بعض القوة المادية وبعض الصنائع، ولو كانوا يقتفون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعلمون كيف كان يفعل لعرفوا ما يأخذون من ذلك وما يتركون ؛ لأن المسلمين يجوز لهم أن يأخذوا من الكفار ما ينفعهم من علوم الكفار الدنيوية، وألا يتبعوهم في شيء مما يمس دينهم وطاعة ربهم – جل وعلا- وهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما تكالبت عليه قوى الشر، واتفق الكفار وشيخهم إبليس على أن يمكروا به، واضطر إلى خبير له خبرة بالأرض، ووجد رجلا كافرا هو عبد الله بن الأريقط لم يمنعه كفره من أن يستفيد من خبرته الدنيوية، فاستفاد من خبرته حتى أوصله المدينة بسلام، ومع ذلك لم يأخذ عنه من الكفر شيئا، بل هو مرض ربه. فعلى المسلمين أن يعتبروا بأمثال هذا، وينتفعوا من الكفار بخبرتهم الدنيوية، ولا يتبعهم فيما يضر دينهم ويسخط ربهم. وأمثال هذا كثيرة، وسنضرب لكم بعض الأمثلة منها :
من ذلك ما يأتي في تفسير سورة الأحزاب من تفاصيل وقعة الخندق وأن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يذكره الأخباريون لما سمع بمقدم أهل الأحزاب قال له سلمان الفارسي : كنا إذا خفنا خندقنا. والخندق هذا هو خطة عسكرية ابتدعتها أفكار الفرس، وهم قوم يعبدون النار، فالنبي صلى الله عليه وسلم لعلمه ومعرفته بالخير والشر لم يمنعه من هذه الخطة العسكرية أن الذين اخترعوها كفرة، بل انتفع بعلم الكفرة الدنيوي وخندق، مع أنه لا يقلدهم في شيء يضر بدينه –صلوات الله وسلامه عليه-.
ومن أمثلة ذلك ما ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه هم أن يمنع وطء النساء المراضع ؛ لأن العرب كانوا يزعمون أن الرجل إذا أتى امرأته في رضاعها أن ذلك يضعف ولدها، ويضعف عظمه، وكانوا إذا ضرب الرجل ونبا سيفه عن الضريبة ولم يقطع قالوا : هذا وطئت أمه وهو يرضع ؛ لأن الغيلة تضعف الرجال، وكان شاعرهم يقول :
فوارس لم يغالوا في رضاع | فتنبو في أكفهم السيوف |
وهذا يعلمنا أن نفرق بين حضارة الإفرنج – عليهم لعائن الله - ونفصل بين ضارها ونافعها، فننتفع بنافعها وهو منافعها الدنيوية، ونجتنب سمومها الفتاكة القاتلة، وهي ما تدعوا إليه من سوء الأخلاق وضياع كل قيمة، والتمرد على خالق السموات والأرض ( جل وعلا ). ففيها ماء زلال وسم قاتل، فعلينا أن نتجنب السم، ونأخذ الماء الزلال كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم كما مثلنا له.
ومن المؤسف كل المؤسف أن الذين صار عندهم شيء من هذه القشور التي يعبرون عنها بالتقدم والحضارة وأمثال ذلك لا يأخذون عن الكفار إلا السم القاتل الفتاك، من الانحلال الخلقي، وضياع الأخلاق، والتمرد على نظام السماء، ومجاهرة رب العالمين بالمعاصي، والتزهيد في القرآن وفي الرسل، في الوقت الذي لا ينتفعون من مائها الزلال وقوتها المادية شيئا ! ! فإنا لله وإنا إليه راجعون من عاقل يأخذ السم ويترك الماء، فهذا من طمس البصائر لا يعلمه إلا من رآه ؛ ولذا قال تعالى :﴿ وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ٣٠ ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٠ ] مكرهم : هو ما أرادوا من قتل النبي صلى الله عليه وسلم بعدما أجمعوا عليه، وتفرق دمه في قبائل قريش. ومكر الله : هو أن نجاه منهم، وأنقذه منهم، وأدخله في الغار لحكمة يعلمها ( جل وعلا ). مع أنه قادر على أن يهلكهم بالجنود، ومع أنه مختف منهم في الغار، فجنود السماء حوله تحوطه لا يقدر أحد أن يأتيه، كما سيأتي في براءة في قوله :﴿ إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها ﴾ [ التوبة : الآية ٤٠ ] تلك الجنود يعلمها الله ويراها، والناس لا يرونها ؛ فالكفار لا يقدرون على شيء معها، ولكن الله أمره بهذه الأسباب، مع أن جنود الملائكة تحوطه لحكمة يعلمها هو ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ والله ﴾ جل وعلا ﴿ خير الماكرين ﴾ لأن مكره بالغ من الجمال ما لا يخفى ؛ لأنه لا يوصل الشر فيه إلا لمن يستحق الشر،
قال بعض العلماء : نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث بن كلدة العبدري، كان ذهب في تجارته إلى بلاد فارس، وجاء الحيرة وغيرها، واشترى كتبا وفيها تاريخ رستم وإسفنديار، وكان إذا وجد النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن ويقص فيه أخبار الأمم الماضية. جلس هو يقرأ عليهم من تلك الأساطير من أخبار رستم وإسفنديار ويقول لهم : أنا آتي بمثل ما يأتي به محمد.
وقال بعض العلماء : إن قريشا كذبوا فقالوا : نحن نقدر على أن نتلكم بمثل هذا القرآن. وهذا معنى قوله :﴿ وإذ تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا ﴾ [ الأنفال : الآية ٣١ ] سمعنا هذا الذي يتلوه لو نشاء معارضته بمثله لقلنا مثله، وقدرنا على الإتيان بمثله. وهذا كذب محض منهم، سواء قلنا : إن قائله النضر بن الحارث، وأنه يعارضه بأساطير الأولين مما أتى به في تاريخ فارس، أو قلنا : إنه قاله غيره من قريش، ومعلوم أن القرآن العظيم لا يقدر أحد أن يأتي بمثله، وأن هذه الدعوى كاذبة، وأن صاحبها من اظلم الظالمين كما قدمنا إيضاحه في سورة الأنعام في تفسير قوله :﴿ ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو قال أوحي إلي ولم يوح إليه شيء ومن قال سأنزل مثل ما أنزله الله ﴾ [ الأنعام : الآية ٩٣ ] أي : لا أحد أظلم من هذا ولا هذا. فقد ذكرنا مرارا أن الله تبارك وتعالى تحدى الكفار بسورة من هذا القرآن العظيم، في سورة واحدة، في سورة البقرة وسورة يونس، قال في سورة البقرة :﴿ وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين ٢٣ ﴾ [ البقرة : الآية ٢٣ ] ثم قال :﴿ فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا ﴾ [ البقرة : الآية ٢٤ ] فصرح بأنهم لن يفعلوا أبدا ولا يقدرون أبدا، وتحداهم بسورة واحدة أيضا في سورة يونس في قوله :﴿ أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة من مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ٣٨ ﴾ [ يونس : الآية ٣٨ ] وتحداهم في سورة هود بعشر سور، قال في هود :﴿ أم يقولون افتراه قل فاتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ١٣ ﴾ [ هود : الآية ١٣ ] ثم أوضح عجزهم وأنه منزل من رب العالمين حيث قال :﴿ فإن لم يستجيبوا لكم فاعلموا أنما أنزل بعلم الله وأن لا إله إلا هو ﴾ [ هود : الآية ١٤ ] ثم تحداهم في سورة الطور بالقرآن كله، وذلك في قوله :﴿ فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ٣٤ ﴾ [ الطور : الآية ٣٤ ]. ثم صرح في سورة بني إسرائيل وهي سورة ( سبحن الذي أسرى ) أن جميع البشر من الإنس والجن لا يقدرون على معارضة هذا القرآن، ولا الإتيان بمثله حيث قال :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ٨٨ ﴾ [ الإسراء : الآية ٨٨ ] وبذلك يعلم كذب النضر بن الحارث وغيره من قريش في قوله :﴿ قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا ﴾ [ الأنفال : الآية ٣١ ] مفعول ( نشاء ) محذوف – لو شئنا قولا مثل هذا لقلناه. وقدمنا مرارا أن فعل المشيئة إذا علق بأداة الشرط يحذف مفعوله ؛ لأن جزاء الشرط يكفي عنه، وهو الغالب في القرآن وفي لغة العرب، وربما ذكر المفعول في القرآن، ولم أجده مذكورا في كتاب الله إلا إن كان مصدرا منسبكا من ( أن ) وصلتها، كقوله :﴿ لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه ﴾ [ الأنبياء : الآية ١٧ ] ﴿ لو أردا الله أن يتخذ ولدا لاصطفى مما يخلق ما يشاء ﴾ [ الزمر : الآية ٤ ] وربما ذكر مثل هذا في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
ولو شئت أن أبكي دما لبكيت | عليك ولكن ساعة الصبر أوسع |
وقوله :﴿ فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ ذكروا عن سفيان بن عيينة أنه ما جاء في القرآن العظيم المطر إلا بمعنى العذاب. أما الماء النازل قال : فإن العرب تقول له الغيث. كما قال تعالى :﴿ وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا ﴾ [ الشورى : الآية ٢٨ ] واستدرك عليه بعض العلماء، قال : في سورة النساء كلمة أطلق فيها المطر على النازل من السماء وهي قوله :﴿ إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى ﴾ [ النساء : الآية ١٠٢ ].
ومعنى :﴿ فأمطر علينا حجارة ﴾. معناه : أنزلها من السماء متتابعة كما ينزل المطر، وهي حجارة السجيل التي تنزل من السماء محماة بالنار في غاية الحرارة. والحجارة : جمع حجر، وجمع ( فعل ) على ( فعالة ) موجود في أوزان قليلة، كحجر وحجارة، وجمل وجمالة، وذكر وذكارة. وهذا الجمع وجوده قليل، وهو من جموع الكثرة.
﴿ من السماء ﴾ تكون هذه الحجارة نازلة من السماء، وذلك مفهوم من قوله :﴿ فأمطر ﴾ إلا أن هذا النوع من التوكيد أسلوب عربي معروف كثير في القرآن وفي كلام العرب، كقوله :﴿ ولا طائر يطير بجناحيه ﴾ [ الأنعام : الآية ٣٨ ] معلوم أنه لا يطير إلا بجناحيه وقوله :﴿ يكتبون الكتاب بأيديهم ﴾ [ البقرة : الآية ٧٩ ] ومعلوم أنه لا يكتبونه إلا بأيديهم. ﴿ إنما يأكلون في بطونهم ﴾ [ النساء : الآية ١٠ ] وهم لا يأكلون إلا في بطونهم. وكذلك قوله :﴿ فأمطر علينا ﴾ قوله :﴿ من السماء ﴾ مع أنه لا مطر إلا من السماء.
وهذا معنى قوله :﴿ فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ قرأه بعضهم بتسهيل الهمزة الثانية، وبعضهم بتحقيقها، وبعضهم بإبدالها ياء. وكلها قراءات معروفة. وهذا معنى قوله :﴿ أو ائتنا بعذاب أليم ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٢ ] أي : مؤلم شديد الألم.
أحد الأمانين : وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، وهو قوله :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم ﴾ لأن الله ( جل وعلا ) لم ينزل العذاب بأمة ونبيها موجود فيها، بل إذا أراد إنزال العذاب بهم أمر نبيهم أن يخرج عنهم فينزل عليهم العذاب بعد أن فارقهم.
الأمان الثاني هو المذكور في قوله :﴿ وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ﴾.
ومع ذكر الأمانين قال بعده :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٤ ] أي شيء ثبت لهم يمنعهم من التعذيب ﴿ وهم يصدون ﴾ الناس ﴿ عن المسجد الحرام ﴾، ويفعلون ويفعلون ؟ فيقول طالب العلم : كيف يقول : إن لهم أمانين ويصرح بأنه لا شيء يمنعهم من العذاب ؟ هذا محل الإشكال الذي أشكل على كثير من المنتسبين للعلم.
أحدها : أن المعنى : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي المستغفرون.
واعلموا أن هذا الاستغفار فيه أقوال معروفة عند العلماء متقاربة لا يكذب بعضها بعضا، كل واحد منها مروي عن جماعة من السلف من علماء التفسير، قال بعض العلماء :﴿ وهم يستغفرون ﴾ هذا من إطلاق المجموع مرادا به بعضه، وأن المراد بالمستغفرين خصوص المؤمنين المستضعفين. الكائنين بين أظهرهم، ومن أساليب اللغة العربية : إطلاق المجموع مرادا بعضه. كما قال تعالى :﴿ فكذبوه فعقروها ﴾ [ الشمس : الآية ١٤ ] والعاقر واحد، كما قال تعالى :﴿ فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر ٢٩ ﴾ [ القمر : الآية ٢٩ ] ومما يوضح هذا قراءة حمزة والكسائي :﴿ فإن قتلوك فاقتلوهم ﴾ [ البقرة : الآية ١٩١ ] بالفعلين من القتل بالفعل المجرد ؛ لأن المقتول لا يقتل قاتله – والمعنى : فإن قتلوكم، أسند الفعل إلى مجموعهم الصادق ببعضهم وهو المقتولين، والمراد بالقتال، الذين بقوا ولم يقتلوا منهم. وهذا أسلوب عربي معروف، ونظيره في القرآن بان الله بين في سورة الحديبية أن وجود أولئك المستضعفين كان سببا مانعا من نزول العذاب الدنيوي بالكفار، كما سيأتي إيضاحه في تفسير قوله :﴿ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطؤهم فتصيبكم منهم معرة ﴾ إلى قوله :﴿ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذبا أليما ﴾ [ الفتح : الآية ٢٥ ] ﴿ لو تزيلوا ﴾ أي : لو يتميز بعضهم عن بعض، فتميز المشركون عن ضعفاء المسلمين الكائنين فيهم لعذبناهم عذابا شديدا فرفع الله عنهم العذاب لوجود ضعفاء المسلمين الكائنين بين أظهرهم، والذين قالوا هذا القول قالوا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فبقي لهم أمان، وهو استغفار المؤمنين الكائنين فيهم، منع الله به أن ينزل العذاب ؛ لأنه إذا نزل عم الصالح والطالح. فبعد ذلك خرج المؤمنون الذين كانوا يستغفرون فقال :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٤ ] وقد زال عنهم الأمانان بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم وخروج المستضعفين الذين كانوا يستغفرون.
واختار كبير المفسرين أبو جعفر بن جرير ( رحمه الله ) أنه جعل لهم أمانين : أحدهما على التعليق والمعنى :﴿ وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون ٣٣ ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٣ ] لو استغفروا. إلا أنك أنت خرجت وهم لم يستغفروا فانتفى الأمانان فحق عليهم العذاب ؛ ولذا قال :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٤ ]. وهذا معنى معروف في كلام العرب ؛ لأن المعنى : وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون لو استغفروا، إلا أنهم لم يستغفروا فصار لا مانع من العذاب، كما قال تعالى :﴿ وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون ١١٧ ﴾ [ هود : الآية ١١٧ ] أي : لو كانوا مصلحين لما نزل بهم العذاب، لكنهم لم يصلحوا فنزل بهم العذاب.
وقال بعض العلماء : المستغفرون هم المشركون، وذلك أنهم كانوا إذا لبوا تلبيتهم المعرفة وقالوا :( لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك ) ابتهلوا بعد ذلك يستغفرون وقالوا :( غفرانك ربنا، غفرانك ربنا، غفرانك ربنا ) قال بعض العلماء : هذا الاستغفار الدنيوي دفع الله عنهم به العذاب. وهذا أضعفها وأبعدها.
القول الثاني : أن معنى ﴿ يستغفرون ﴾ : يتوبون إلى الله من كفرهم ويسلمون ؛ لأن الله علم بان في أهل مكة وقت قولهم :﴿ إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٢ ] علم بعلمه الأزلي أن فيهم ناسا وطائفة سينيبون إلى الله ويستغفرونه ويؤمنون بالله كما آمنت خلائق منهم يوم الفتح وناس قبل ذلك. وعلى هذا القول :﴿ وما كان الله معذبهم وهم ﴾ في علمه ﴿ يستغفرون ﴾ ويتوبون من الكفر إلى الإيمان، فلذلك أخر عنهم العذاب.
وعلى هذا القول : فقوله :﴿ وما لهم ألا يعذبهم الله ﴾ في الذين علم في سابق علمه أنهم لا يسلمون ولا يتوبون، وهم الذين عذبهم الله وقتلهم يوم بدر، وجعل لهم عذاب الآخرة متصلا بعذاب الدنيا والعياذ بالله.
﴿ ولكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ قال بعض العلماء : عبر هنا بالأكثر عن الجميع، والعرب تعبر بالأكثر عن الجميع، وبالقلة عن لا شيء، وهو أسلوب معروف.
وقال بعض العلماء : الأكثر على ظاهره ؛ لأن بعضهم يعلم أن ولاية بيت الله لمن هو مطيع لله لا من هو عاص له. وهذا معنى قوله :﴿ ولاكن أكثرهم لا يعلمون ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٤ ].
بين الله ( جل وعلا ) في هذه الآية أن كفار مكة الذين يزعمون أنهم أولياء البيت، ما كانوا يصلون عنده، ولا يعبدون الله عنده، يعني : ليس لهم من الصلاة فيه إلا شيء وهو بعيد كل البعد عن الصلاة، يعني : ما كان صلاتهم عند البيت الذي هو أول بيت وضعه الله للناس ما كانت صلاتهم عنده إلا مكاء وتصدية والتحقيق الذي لا ينبغي العدول عنه في معنى المكاء والتصدية : أن المكاء هو : الصفير، والتصدية هي : التصفيق. كان قريش يجتمعون ويطوفون بالبيت عراة، يصفرون ويصفقون، يزعمون أن هذا التصفير والتصفيق والعري عند بيت الله أنه عبادة، ومن أغراضهم بالتصفير والتصفيق : ألا يسمع الناس ما يتلوه النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن التصفيق والتصفير أصله من إلغائهم ليمنعوا من سماع القرآن، الآتي في قوله :﴿ وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ٢٦ ﴾ [ فصلت : الآية ٢٦ ].
العرب تقول : مكا، يمكو، مكوا، ومكا، ومكاء، إذا : صفر.
والصفير : هو الصوت الذي يخرجه الإنسان من فيه، المعروف، وهذا معنى معروف في كلام العرب، يسمون التصفير : المكاء. وقد أطلقه عنترة في معلقته على صوت الطعنة العظيمة يشخب منها الدم ويسمع لها صوت كالصفير في قوله :
وحليل غانية تركت مجدلا | تمكو فريصته كشدق الأعلم |
ولا خرق هيق كأن فؤاده | يظل به المكاء يعلو ويسفل |
إذا غرد المكاء غير روضة | فويل لأهل الشاء والحمرات |
غضبت تميم أن تقتل عامر | يوم النسار فأعتبوا بالصيلم |
شجعاء جرتها الذميل تلوكه | أصلا إذا راح المطي غارثا |
وهذه الآية الكريمة تدل على أن التصفيق والتصفير ليسا من العبادة في شيء، وبه يعلم أن ما يفعله كثير من الجهلة المدعين للتصوف كذبا من الرقص والتصفيق والصراخ، زاعمين أنه عبادة أن ذلك من الخذلان وتلبيس الشيطان، وأن ذلك لا يكون عبادة أبدا، بل أول من رقص وصفق في شيء يظنه عبادة هم عبدة العجل، وكان ذلك من أفعال الكفار، فالنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا في مجالسهم كأنما على رؤوسهم الطير، فإذا رأيتم الذين يصفقون ويضربون بالمعازف، ويزعمون أن هذا دين أحوال ووجدان، فهو غرور من الشيطان، فلا ينبغي أن يغتر بهم، كما ظن قريش أن مكاءهم وتصديتهم عن بيت الحرام عبادة، فقد وبخهم الله على ذلك في قوله :﴿ وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ٣٥ ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٥ ].
وقال بعض العلماء : نزلت في أبي سفيان بن حرب، أنفق أربيعن أوقية على جماعة من الأحابيش – والأحابيش : جمع أحبوش، وهم جماعة متجمعون ساكنون في ظواهر مكة، أنفق عليهم – أربعين أوقية ليذهب معه جماعة منهم إلى أحد.
والذي عليه جمهور العلماء من المفسرين وأصحاب المغازي والتاريخ : أن هذه الآية من سورة الأنفال :﴿ إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٦ ] نزلت في قضية قريش مع عير أبي سفيان ؛ لأن عير أبي سفيان لما نجت وقتل من قتل من أشرافهم يوم بدر اجتمع أشراف قريش وطلبوا كل من كانت له تجارة تلك العير أن يمنحهم ذلك المال ليستعينوا به ويستعدوا على حرب النبي صلى الله عليه وسلم طالبين منهم إدراك الثأر، فكانت إمكانيات أحد هي من أموال تجارات تلك العير، وأن ذلك هو معنى إنفاقهم ليصدوا عن سبيل الله. هذا هو الأصوب إن شاء الله، وعليه جماهير العلماء.
﴿ ينفقون أموالهم ﴾ كإنفاقهم أرباح تجارة عير أبي سفيان ليحاربوا بها النبي صلى الله عليه وسلم، ليصدوا الناس عن سبيل الله، في زعمهم أنهم يأخذون ثأرهم من محمد صلى الله عليه وسلم فيضعفون الإسلام ويقوون الكفر. هذا معنى صدهم عن سبيل الله.
وقد قدمنا مرارا أن لفظة ( صد ) تستعملها العرب استعمالين، تستعملها ( صد ) متعدية إلى المفعول ومضارع هذه ( يصد ) بالضم على القياس لا غير، ويستعلمون ( صد ) لازمة لا متعدية، ومضارع هذه فيه الضم والكسر، ومصدرها ( الصدود )، تقول : صد زيد عمرا، يصده صدا، وصد عمرو عن هذا الأمر، يصد ويصد صدودا ). هذا معروف في كلام العرب، ومن اللازمة ولغيتها : القراءتان في قوله :﴿ إذا قومك منه يصدون ﴾ ﴿ إذا قومك منه يصدون ﴾ [ الزخرف : الآية ٥٧ ] وهذه متعدية، والمفعول محذوف لدلالة المقام عليه، وحذف الفضلة إذا دل الدليل عليها مطرد شائع في القرآن وفي كلام العرب، أي : ليصدوا الناس عن سبيل الله، لإضعاف الإسلام في زعمهم وقوة شوكة الكفر، حتى يسيطر على الناس فلا يتركهم يسلمون. هذا معنى قوله :﴿ ليصدوا عن سبيل الله ﴾.
﴿ فسينفقونها ﴾ كأنه قال : إن الذين أرادوا ذلك سيفعلونه وينفذونه، ثم تكون العاقبة وخيمة ﴿ ثم يكون عليهم حسرة ﴾ الحسرة : أشد النادمة، كما قال تعالى :﴿ كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات ﴾ [ البقرة : الآية ١٦٧ ] أي : ندامات شديدة ﴿ يا حسرة على العباد ﴾ [ يس : الآية ٣٠ ] أي : يا ندامتهم احضري فهذا وقتك، وهذا معنى قوله :﴿ ثم تكون عليهم حسرة ﴾ أي : ندامة شديدة حيث أضاعوها ولم تجد عنهم شيئا، بل كانت الدائرة منتهاها عليهم، والغلبة عليهم، وهذا معنى قوله :﴿ ثم يغلبون ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٦ ] ثم يكون المآل أن يغلبوا ويقهروا كما كان المآل أن قتل هؤلاء وفتحت مكة يوم فتح مكة، وصاروا الطلقاء، وضاعت تلك الأموال، ولم تجد عنهم شيئا، ولم تغن لهم شيئا.
وهذه الآية الكريمة أشارت إلى ركن من ركني ما يسمى ( الاقتصاد ) ؛ لأن القرآن العظيم تنزيل رب العالمين، يوضح الله به أصول جميع الأشياء التي يحتاج لها البشر، والنبي صلى الله عليه وسلم يبسط ذلك ويبينه، وهذا الذي يعبر الناس عنه اليوم في عرفهم ب( الاقتصاد )، أشارت هذه الآية الكريمة إلى أحد ركنيه، وإيضاح ذلك أن ما يسمى ب( الاقتصاد ) أن جميع مسائله المتشعبة راجعة في الحقيقة إلى أصلين لا ثالث لهما :
أحد هذين الأصلين : هو حسن النظر في اكتساب المال، ومعرفة الوجوه التي يحصل بها ذلك.
والثاني منهما : هو حسن النظر في صرف المال في مصارفه، ولا بد لأحدهما من الآخر، فالاقتصاد إذن عمل مزدوج لا يصح أحد ركنيه دون الآخر ؛ لأن الذي لا يقدر على اكتساب المال، ولا يعرف الطرق التي يكتسبه بها لا يكون صاحب اقتصاد، وكذلك الذي يعرف طرقه وهو ماهر في تحصيله، إذا كان لا يعرف صرفه بالحكمة فإنه لا يجديه شيئا ؛ لأن الإناء المخروق لو جعلت فيه البحر لما ملأه، فلا بد من حسن النظر في الاكتساب أولا، ثم حسن النظر في الصرف ثانيا. وهذه الآية الكريمة من سورة الأنفال أشارت إلى أحد الركنين، وهو حسن النظر في الصرف في المصرف ؛ لأن الصنيعة إذا لم تطابق مصرفها فلا فائدة فيها :
إن الصنيعة لا تعد صنيعة | حتى يصاب بها طريق المصنع |
لا تمدحن ابن عباد وإن هطلت | يداه كالمزن حتى تخجل الديما |
فإنها فلتات من وساوسه | يعطي ويمنع لا بخلا ولا كرما |
وهذا الأمر – الذي هو الاقتصاد- أمر عظيم ؛ لأن المال شريان الحياة، ولا سيما في هذا الزمن التي كانت طرق الاقتصاد إنما مهدها ومهد جميع الطرق إلى اكتساب الأموال كائنة ما كانت، مهدها كفرة فجرة لا يدينون لله، ولا يأتمرون بأمره، فجعلوا أسسها مبنية على الربا وعلى الحرام، وعلى الغرور وعلى جميع المعاملات التي لا ترضي الله، ومع الأسف كان المتسمون باسم الإسلام ذنبا لهم يرتكبون المحرمات في تلك المعاملات، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ونحن نلم بشيء قد دلت عليه هذه الآية كأصول لهذا الأمر المهم، لأن هذه الآية، والآيات غيرها من كتاب الله دلت على أن له أربعة أمور، إذا نظر الناس فيها وأتقنوها كان اقتصادهم على الوجه المطلوب ؛ لأنا ذكرنا الآن أن جميع مسائل الاقتصاد وإن تشتت وتشعبت راجعة في الحقيقة إلى أصلين لا ثالث لهما، هما : حسن النظر في اكتساب المال، وحسن النظر بعد أن يحصل المال في صرفه في مصارفه. وهذان الركنان لا بد لكل منهما من نظرتين مختلفتين، فتكون أربعا من ضرب اثنين في اثنين، والنظرتان المختلفتان لا بد منهما لكل من الركنين.
أما أحدهما : فهو معرفة حكم الله ( جل وعلا ) في نوع ذلك الاكتساب، وفي نوع ذلك الصرف ؛ لأن الله ( جل وعلا ) خلق الإنسان محتاجا للنساء، ومفتقرا للغذاء، وخلق له ما في الأرض جميعا، ولم يتركه سدى يتصرف فيه باختياره، بل التصرف لا بد أن يكون بإذن مالك الملك، خالق هذا الكون ( جل وعلا )، فالنظرة الأولى إذا أردت أن تكسب مالا بوجه من أوجه الاكتساب، أو تصرف مالا في وجه من أوجه الصرف أن تعرض هذا الاكتساب أو هذا الصرف على ضوء هذا المحكم المنزل، ونور هذا الوحي الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم فتنظر أيجيزه أو يمنعه ؟ فإن عرفت أنه يمنعه تركته ؛ لأن خالق هذا الكون المشرع لهم ما جعل عليهم تضييقا في التشريع، وما شرع لهم إلا ما فيه السعة الكاملة لهم تكفيهم كل مهماتهم، وإذا نظرت في حكم الله، في طرق الاكتساب، وفي حكم الله في صرف المال ؛ لأن بعض المصارف التي يصرف فيها المال قد يكون على صاحبها حسرة ثم يغلب، كما قال هنا :﴿ فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٦ ] وبهذه النظرة أن تنظر في وجه اكتساب المال وفي وجه صرفه إذا عرضتها على ضوء القرآن، وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم كفاك هذا من الفكر الهدامة، والمذاهب المفقرة الخسيسة – عليها وعلى ما جاء بها لعائن الله- كنظرة الماركسيين، واللينيين، وأتباعهم – دمرهم الله جميعا- فإن هذا إذا عرضته على كتاب الله وجدت ذلك الذي يدعون إليه ويبنون عليه تحتلهم لا يجيزه الله ولا يرضاه، فاكتفيت شره بالكلية..
ثم بعد ذلك إذا عرضت وجه الاكتساب ووجه الصرف على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، عرفت أنه جائز، فالنظرة الثانية : هي تحقيق المناط وتطبيق هذا، فقد يكون هذا الوجه الاكتساب به حلالا إلا أنه ما كل الناس يقدر على تحصيل هذا الوجه والاكتساب بهذه الطريق، فينظر له من يعرف ذلك بالخبرة الدنيوية ليقدر على تحصيل المال به في ضوء الشرع الكريم، وكذلك الصرف في المصارف يحتاج إلى من يقدر عليه ؛ لأن بعض المصارف لا يقدر كل الناس أن يقوم به، ولاسيما ما يسمونه ( المشاريع العامة ) فإنه ما كان الناس يقدر على تنفيذها ؛ فإن المشروع العام الذي عرف أن الشرع يجيزه، وأن فيه مصلحة لجميع المسلمين، وأن ولي أمر المسلمين إذا بذل فيه من مال المسلمين كان ذلك البذل جائزا، لعظم المصلحة العائدة لعامة المسلمين منه، فإنه يحتاج إلى خبراء دنيويين يعرفون كيف ينفذون ذلك الصرف على الوجه المطلوب.
فهذه الأركان الأربعة أشارت إليها هذه الآية، وهي أصول الاقتصاد، ولو وفق الله المسلمين ونظروا في أصول الاقتصاد، وما جاء به من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم لأمكنهم استغلال ثرواتهم، والانتفاع بها في ضوء كتاب الله على طريق يغمرهم فيها المال، ولا يزاولون ما يسخط ربهم ( جل وعلا ) ؛ لذا قال تعالى :﴿ فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون ﴾.
ثم قال جل وعلا :﴿ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٦ ]، ﴿ والذين كفروا ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٦ ] ومن جملتهم : الذين ينفقون المال ليصدوا بإنفاقه عن سبيل الله ﴿ إلى جهنم ﴾ أي إلى النار، كما قال ( جل وعلا )، في أصحاب جهنم :﴿ لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم ٤٤ ﴾ [ الحجر : الآية ٤٤ ] والعياذ بالله ﴿ إلى جهنم يحشرون ﴾ يجمعون يوم القيامة، وقد بين الله كيفية جمعهم إليها في آيات كثيرة من كتابه، كما قال :﴿ ونسوق المجرمين إلى جهنم وردا ٨٦ ﴾ [ مريم : الآية ٨٦ ] وقال :﴿ وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها قال لهم خزنتها ألم يأتيكم رسل منكم ﴾ الآية [ الزمر : الآية ٧١ ] وهذا معنى قوله :﴿ إلى جهنم يحشرون ﴾ وتقديم المعمول الذي هو الجار والمجرور يؤذن بالحصر. أي : لا يحشرون إلى شيء غير النار والعياذ بالله جل وعلا.
قرأه حمزة والكسائي :﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ﴾ وقرأ باقي السبعة :﴿ ليميز ﴾ بفتح الياء وكسر الميم.
كما أن حمزة والكسائي قرءا :﴿ وتصدية ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٥ ] بإشمام الصاد الزاي. وقرأ غيرهم من السبعة :﴿ وتصدية ﴾ بالصاد الخالصة غير المشمة بالزاي.
وهذا معنى قوله :﴿ والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ﴾ حشرهم الله إلى جهنم ليميز بذلك – يزل ويفرق- بيت الخبيث والطيب، فالخبيث أهل النار، والطيب أهل الجنة، فالله حشر هؤلاء إلى شر دار، وحشر هؤلاء إلى خير دار ليميز ويفرق ويزيل بين الخبيث والطيب، وعلى هذا القول فالميز بينهم في الآخرة، وقال بعض العلماء : هي تتعلق بقوله :﴿ ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٦ ] يعني : أقدر الله الكفار على عداوة الإسلام والصد عنه ومحاربته ليميز للناس ويبين لهم الخبيث من الطيب. وهذا التفسير مثله قد جاء موضحا في سورة آل عمران، حيث قال الله جل وعلا :﴿ وما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب وما كان الله ليطلعكم على الغيب ﴾ [ آل عمران : الآية ١٧٩ ] إلى آخر القصة. وهذا معنى قوله :﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ﴾ أي : يجعل كل واحد منهما متميزا عن الآخر، منفصلا عنه لا لبس بينهما، ﴿ ويجعل الخبيث ﴾ وهو الكفار، الكفر وأهله. قال بعضهم : ويدخل فيه المال المنفق ليصد به عن سبيل الله. وعلى هذا القول فالمال الذي ينفقه الإنسان ليصد به عن سبيل الله، يركم معه في النار، كما قال جل وعلا :﴿ والذين يكنزون الذهب والفضة ﴾ إلى قوله :﴿ يوم يحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون ٣٥ ﴾ [ التوبة : الآيتان ٣٤- ٣٥ ] فصرح في هذه الآية من براءة أن ذلك الذهب والفضة الذي كانوا يكتنزونه يدخل معهم في النار ويكوون به فيها، فهذا يشابه هذا التفسير الذي قال : إن المال الخبيث الذي صرفه صاحبه في الدنيا للصد عن سبيل الله أنه يركم معه في جهنم، فيعذب به، وقد ثبتت الأحاديث عنه صلى الله عليه وسلم ان الذي كانت عنده ماشية ولا يزكيها تجعل لها في ضحضاح من جهنم، فتدوسه بأرجلها ( والعياذ بالله )، هذا معنى قوله :﴿ ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث ﴾ من أهل الكفر وما كانوا ينفقونه ليصدوا به عن سبيل الله ﴿ بعضه على بعض فيركمه جميعا ﴾، العرب تقول : ركمه يركمه، إذا جعله ركاما متراكما، أي : يركب بعضه بعضا، ويعلو بعضه بعضا، كما في قوله :﴿ ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله ﴾ [ النور : الآية ٤٣ ] فيجعله كله في النار ﴿ أولئك هم الخاسرون ﴾ هؤلاء الذين يجمعون كلهم فيركمون في جهنم موصوفون بصفة الخبث هم الخاسرون الذين غبنوا في حظوظهم من ربهم ( جل وعلا )، خسروا الدنيا والآخرة ذلك هو الخسران المبين.
لما بين الله ( جل وعلا ) أن الكفار يحشرون إلى جهنم، وأنهم يضم بعضهم إلى بعض فيركم بعضهم فوق بعض فيجعلون في نار جهنم، أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم : إنهم إن انتهوا عما هم عليه من الكفر، ورجعوا إلى ما يرضي ربهم فآمنوا به وصدقوا رسوله، يغفر لهم جميع ما سلف منهم من الكفر، ولا يكون عليهم ذنب من جميع ما مضى. ﴿ قل للذين كفروا ﴾ يا نبي الله قل لهم ﴿ إن ينتهوا ﴾ لم يقل له : خاطبهم، حتى يقول : إن تنتهوا يغفر لكم ما قد سلف. كأنه أمره بتبليغهم : إن ينتهوا عما هم عليه من الكفر يغفر لهم. كأنه أمره بتبليغهم : ان ينتهوا عما هم عليه من الكفر يغفر لهم. وحذف الفاعل لأن من المعلوم أنه لا يغفر ما سلف إلا الله وحده، فليس هنالك غيره، يحتمل أن يكون هو الفاعل، ولذا حذف الفاعل للعلم به وعدم الحاجة إلى ذكره، لأنه معروف ﴿ يغفر لهم ما قد سلف ﴾. وقوله :﴿ ما قد سلف ﴾ أي : ما مضى قبل انتهائهم من جميع ما ارتكبوه من أنواع الكفر والمعاصي، وهذا معنى قوله :﴿ إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف ﴾ ﴿ وإن يعودوا ﴾ : اختلف العلماء في المراد بالعود هنا، فقال بعض العلماء : هذه الآيات من سورة الأنفال نزلت بعد وقعة بدر، والمعنى ﴿ وإن يعودا ﴾ للقتال كما فعلوا يوم بدر ﴿ فقد مضت سنت الأولين ﴾ أي : طريقة الله فيما مضى بين رسله وأتباعهم وبين الكفرة.
قال بعض العلماء :﴿ الأولين ﴾ يعني الذين هلكوا فقتلوا وأسروا يوم بدر، مضت سنة الله فيهم، فأظهر عليهم نبيه، ونصره عليهم، فإن عدتم إلى القتال أجرى عليكم تلك السنة، لأنه لا تجد لسنة الله تبديلا. وقال بعض العلماء : المراد بالأولين الأمم الماضية ممن قبلنا، لأن كل أمة كذبت رسولها وتمردت على ربها أهلكها الله ( جل وعلا )، يعني : وإن تعودوا إلى ذلك الكفر والطغيان أهلككم كما فعل بجميع الأمم قبلكم ﴿ ثم أرسلنا رسلنا تترا كل ما جاء أمة رسولها كذبوه فأتبعنا بعضهم بعضا وجعلنهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون ( ٤٤ ) ﴾ [ المؤمنون : الآية ٤٤ ] وهذان الوجهان في قوله ﴿ سنة الأولين ﴾ أي : سنة الله فيهم، وأصل السنة : الطريقة والشريعة، والشريعة في اللغة : الطريق، والشرائع : الطرق، وكون السنة هي الطريق الذي يمشى عليه، أمر معروف في كلام العرب، ومنه قول لبيد بن ربيعة في معلقته :
من معشر سنت لهم آباؤهم ولكل قوم سنة وإمامها
أي : طريقة متبعة : وطريقة الله مع الكفرة أنهم إن كذبوا رسله وتمردوا عليه أهلكهم، كما نطقت به الآيات القرآنية بكثرة، وهذا معنى قوله :﴿ وإن يعودوا فقد مضت سنة الأولين ﴾.
وقال بعض العلماء : المراد بالعود هنا : الاستمرار، أي : وإن يستمروا على ما هم عليه من الكفر فقد مضت سنة الأولين. وربما أطلقت العرب ابتداء الفعل على دوامه، مثل :﴿ يأيها النبي اتق الله ﴾ [ الأحزاب : الآية١ ] أي : استمر ودم على تقواه. هذا الوجهان في قوله :﴿ وإن يعودوا فقد مضت سنت الأولين ﴾ [ الأنفال : ٣٨ ].
﴿ فإن انتهوا ﴾ عن كفرهم وأسلموا :﴿ فإن الله ﴾ جلا وعلا ﴿ بما يعملون بصير ﴾ فهو بصير بعملهم يجازيهم عليه،
مهلا بني عمنا مهلا موالينا | لا تظهروا لنا ما كان مدفونا |
وأعلم علما ليس بالظن أنه | إذا ذل مولى المرء فهو ذليل |
وقد أطلق الولاية في القرآن بالنسبة إلى الله ( جل وعلا ) إطلاقين : أطلق المولى بمعنى الولاية الخاصة، وهي : النصر والتمكين والتوفيق، كقوله هنا :﴿ فاعلموا أن الله مولكم ﴾ وقوله :﴿ فإن الله هو موله ﴾ [ التحريم : الآية ٤ ] وهذا كثير في القرآن، ولذا قال :﴿ ذلك بأن الله مولى الذين ءامنوا وأن الكفرين لا مولى لهم ( ١١ ) ﴾ [ محمد : الآية ١١ ] أي : لا مولى لهم ولاية نصر وتمكين. وأطلق المولى صادقا بالكفار، لأنها ولاية خلق وقدرة وربوبية وملك، وهو في قوله :﴿ ثم ردوا إلى الله مولهم ﴾ [ الأنعام : الآية ٦٢ ] وهي في الكفار، لأنه مولى الكفار ولاية ملك وتصرف ونفوذ قدرة، ومولى المؤمنين ولاية نصر وتمكين وثواب. فهذا معنى قوله :﴿ فاعلموا أن الله مولكم ﴾.
﴿ نعم المولى ونعم النصير ﴾ ( نعم ) فعل جامد لإنشاء [ المدح ]١. والتحقيق أنه فعل ماض جامد، لأن تاء التأنيث تدخل عليه :
نعمت جزاء المتقين الجنة | دار الأماني والمنى والمنة |
وقوله :﴿ نعم المولى ونعم النصير ﴾ ( المولى ) فسرناه الآن، و ( النصير ) :( فعيل ) بمعنى ( فاعل )، بمعنى الناصر، وأصل النصر في لغة العرب : إعانة المظلوم، وتخليصه الإعانة من الظلم، فالله ( جل وعلا )، كأنه في هذه الآية بين الثناء على نفسه، الثناء الكامل الذي يستحقه في ولايته لأوليائه، ونصره لهم.
قال بعض العلماء : بين ( المولى ) و( النصير ) عموم الخصوص من وجه، يجتمع ( المولى ) و( النصير ) في بني عمك وعصبتك إذا كانت لهم قدرة على نصرك، وإعانتك على عدوك، فإذا جاء دونك بنو عمك وعصبتك ومنعوك من أعدائك، اجتمع فيهم أن كل واحد منهم مولى، وأنه نصير، وينفرد ( المولى ) عن( النصير ) في قرابتك وعصبتك إذا كانوا ضعفاء، لا يقدرون على نصرتك، فالواحد منهم مولى ليس بنصير، إذ لا طاقة له على النصر، وينفرد ( المولى ) عن( النصير ) بالأجنبي الذي ليس بينك وبينه سبب ولاية إذ نصرك وأعانك ومنعك من عدوك، فهو نصير وليس بمولى. وهذا واضح.
٢ ما بين المعقوفتين [ ] زيادة يقتضيها السياق.
( اعلموا ) معناه : تيقنوا، لأن العلم إذا أطلق في القرآن معناه اليقين في جميع القرآن، وقد جاء في حرف في سورة الممتحنة إطلاق العلم مرادا به الظن الغالب، وهو قوله تعالى :﴿ إذا جاءكم المؤمنت مهجرت فامتحنوهن الله أعلم بإيمانهن فإن علمتموهن مؤمنت فلا ترجعوهن إلى الكفار ﴾ [ الممتحنة : الآية ١٠ ] ﴿ علمتموهن مؤمنت ﴾ [ الممتحنة : الآية ١٠ ] أي : غلب على ظنكم، ظنا قويا مزاحما لليقين، ولا يكاد العلم في غير هذا الموضع يطلق في القرآن إلا مرادا به اليقين الجازم، الذي لا يخالجه ظن ولا وهم ولا شك.
﴿ أنما غنمتم من شيء ﴾ ( ما ) موصولة، و ( أن ) مصدرية، أن الذي غنمتم من شيء، وصيغ الموصول قد تقرر في علم الأصول أنها من صيغ العموم، لأن الموصول يعم كل ما تشمله صلته، و ﴿ من شيء ﴾ بيان للموصول، من شيء كائنا ما كان، إلا ما سندركه مما أخرجه دليل مخصص.
﴿ فأن لله خمسه ﴾ قراءة جماهير القراء، منهم السبعة :﴿ فأن لله خمسه ﴾ وفي بعض الروايات الضعيفة عن بعض السبعة :﴿ فإن لله خمسه ﴾ وقد رواه الجعفي عن أبي عمرو، أما الرواية التي عليها جمهور القراء، وهي رواية السبعة الصحيحة عنهم :﴿ فأن لله خمسه ﴾ وهنا محذوف دل عليه المقام : فحقه أن لله خمسه : أو : فواجب حتم أن لله خمسه. والخمس معروف، ﴿ وللرسول ولذي القربى واليتمى والمسكين وابن السبيل ﴾ وهذه الآية الكريمة من سورة الأنفال قد تضمنت أحكاما كثيرة من أحكام الجهاد، ومن أحكام الغنائم، وقد يحتاج لها المسلمون، لأنا نرجو الله ( جل وعلا ) أن يرفع علم الجهاد، ويقوي كلمة لا إله إلا الله، وأن تخفق رايات المسلمين في أقطار الدنيا، فيحتاجون إلى تعلم ما تضمنته هذه الآية الكريمة من أحكام الجهاد، ولما كان القرآن العظيم هو مصدر جميع العلوم، لأنه الكتاب الذي حوى جميع العلوم، وكانت أصول جميع الأشياء كلها فيه، أردنا هنا أن نبين جملا من الأحكام التي أشارت إليها هذه الآية الكريمة، ﴿ واعلموا أنما غنمتم ﴾ معناه : الذي غنمتم، وهي الغنائم التي يحوزها المسلمون من أموال الكفار إذا انتصروا عليهم فقهروهم، وأموال الكفار على قسمين :
قسم : ينتزعه المسلمون منهم بالقوة والغلبة.
وقسم : يصل إلى المسلمين من غير انتزاع بالقوة من أهله الكفار.
والاصطلاح المشهور عند الفقهاء أن بينهما فرقا، أن الغنيمة هي ما ينتزعه المسلمون بالقوة من الكفار، أما ما ييسره الله للمسلمين بلا قتال فهو المسمى ب ( الفيء ) وحكمهما مختلف على التحقيق الذي عليه جماهير العلماء ودل عليه القرآن، لأن الفيء هو المال الذي يناله المسلمون من الكفرة من غير أن ينتزعوه بالقوة، ولا أن يوجفوا عليه بخيل ولا ركاب، كأموال بني النضير، فإنهم نزلوا على حكم النبي صلى الله عليه وسلم، ومكنه الله من أموالهم من غير أن تنتزع منهم بالقوة، وقد سمح لهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملوا على الإبل ما قدروا أن يحملوه، واستثنى السلاح كما سيأتي تفاصيله في سورة الحشر، لأنها كلها نزلت في قصة بني النضير، هذا هو الفيء، وهو المذكور في سورة الحشر، وقد نص الله في سورة الحشر على أن مصارفه هي مصارف خمس الغنيمة، لأنه قال هنا :﴿ فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتمى والمسكين وابن السبيل ﴾ [ الأنفال : الآية ٤١ ] وقال هناك :﴿ وما أفاء الله على رسوله منهم فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ فبين بقوله :﴿ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ [ الحشر : الآية ٦ ] الفرق بين الفيء والغنيمة، لأنه مال لم تنتزعوه بالقوة والسلاح من أهله، ولم تسرعوا في انتزاعه على الخيل والركاب التي هي الإبل. ثم قال مبينا مصارفه وأنها هي مصارف الخمس :﴿ ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتمى والمسكين وابن السبيل ﴾ [ الحشر : الآية ٧ ] مثل ما ذكر هنا في مصارف الخمس سواء بسواء، وشذ بعض العلماء فقال : إن الفيء والغنيمة سواء. هذا القول مشهور عن قتادة وطائفة من العلماء، وهو قول وإن كانت تساعده اللغة فالشرع والحقيقة الشرعية لا تساعده، لأن العرب تطلق في لغتها الفيء على جميع ما يغنم، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول مهلهل بن ربيعة الثغلبي أخي كليب :
فلا وأبي جليلة ما أفأنا *** من النعم المؤبل من بعير
ولكنا نهكنا القوم ضربا *** على الأثباج منهم والنحور
يعني : لم نشتغل بالغنائم، وإنما اشتغلنا بقتل الرجال.
وربما أطلق الفيء في القرآن مرادا به كل غنيمة، كقول قتادة، وذلك في قوله :﴿ وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك ﴾ [ الأحزاب : الآية ٥٠ ] لأن المسبيات حكمها في هذا سواء، سواء كانت فيئا أو غنيمة، إلا أن الاصطلاح المعروف هو التفرقة بين ما أوجف عليه بالخيل والركاب، وبين ما أخذ عفوا من غير انتزاع بالقوة، كما قال هنا :﴿ أنما غنمتم من شيء ﴾ فبين أنهم غنموه وانتزعوه منهم قهرا، وقال في الآخر الذي هو الفيء :﴿ فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ﴾ [ الحشر : الآية ٦ ] فكيف تستحقونه ولم تنتزعوه بالقوة، ولم توجفوا عليه بالخيل ولا إبل ؟ !
والإيجاف : الإسراع كما هو معروف.
وهذه الآية الكريمة دلت على أن أربعة أخماس الغنيمة [ أنه ]١ للمجاهدين الغانمين الذين غنموها، لأن قوله :﴿ فأن لله خمسه ﴾ الآية على أن المعنى : وأما الأخماس الأربعة فهي للغانمين المجاهدين، ويدل على ذلك إسناده غنيمته إليهم في قوله :﴿ أنما غنمتم من شيء ﴾ وهذا هو التحقيق، وعليه جماهير العلماء، أن أربع أخماس الغنيمة للمسلمين المجاهدين الذين غنموها، تقسم بينهم بالسواء، وأن خمس الغنيمة هو يصرف في هذه المصارف المذكورة وسنوضحها – إن شاء الله – واحدا واحدا. هذا هو المذهب الحق وعليه جماهير العلماء، وخالف في هذا قوم من العلماء – منهم طائفة من علماء المالكية وغيرهم – قالوا : إن الغنائم كلها والفيء شيء واحد، وأن التصرف فيه كله لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الغانمين ما شاء ويمنعهم ما شاء. وهذا القول وإن قال به جماعة من المالكية وغيرهم من العلماء فهو خلاف التحقيق.
والذين قالوا هذا القول استدلوا بأدلة كلها مردودة مجاب عنها، قالوا : من أدلته أن الغنائم هي الأنفال، وقد تقدم في أول السورة قوله تعالى :﴿ يسئلونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول ﴾ [ الأنفال : الآية١ ] فصرح بأنها لله وللرسول صلى الله عليه وسلم ولم يجعل للغانمين فيها حقا مستقلا إذا لم يشأ الرسول صلى الله عليه وسلم أن يعطيهم. قالوا : ويتأيد هذا بأمور، منها : أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم مكة حين افتتحها عنوة، وأنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) في غزوة حنين لما أخذ غنائم هوازن أعطى صفوان بن أمية ما ملأ بين جبلين من الغنم، وأعطى عيينة بن حصن مائة من الإبل، والأقرع بن حابس مائة من الإبل، وأعطى عطايا كثيرة، ولم يعط الأنصار منها شيئا، حتى غضب الأنصار وقالوا : يعطي الغنائم عنا لقريش وسيوفنا تقطر من دمائهم ! ! فعلم النبي صلى الله عليه وسلم بما قالوه فأرسل من جمعهم وقال : " ألم أجدكم متعادين فألف الله بين قلوبكم بي ؟ ! " قالوا : بلى. قال : " ألم أجدكم على شفا حفرة من النار فأنقذكم الله منها بي ؟ " قالوا : بلى يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. فلما عدد عليهم بعض النعم التي أنعم الله عليهم بسبب رسول الله صلى الله عليه وسلم اعترفوا بذلك كله وسكتوا، قال لهم : " ألا تجيبوني يا معشر الأنصار ؟ ! " قالوا : كيف نجيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ؟ ! قال : " قولوا : ألم يكذبك الناس فصدقناك ؟ ألم يعادك الناس فآويناك ونصرناك ؟ ! " ثم قال : " يا معشر الأنصار ألا ترضون بأن يرجع الناس إلى بيوتهم بالشاة والبعير، وترجعون إلى بيوتكم برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ " قالوا : رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة. وطابت نفوسهم. قال قائل هذا القول من المالكية وغيرهم من العلماء كقتادة : لو كانت الغنيمة مستحقة للغانمين ولم يكن للإمام أن يفعل فيها كيف يشاء، كيف يفضل النبي صلى الله عليه وسلم المؤلفة كالأقرع بن حابس، وعيينة بن حصن، وصفوان بن أمية ويمنع الأنصار، والأنصار أحق ؟ ! وكيف يفضل الأقرع بن حابس التميمي، وعيينة بن حصن الفزاري على العباس بن مرداس السلمي وهو حسن الإسلام جدا ؟ ! وقد غار منهم العباس بن مرداس حتى قال شعره المشهور، قاله أمام النبي صلى الله عليه وسلم لما أعطى عيينة مئة، والأقرع مئة، وأعطى العباس بن مرداس قليلا، قال : مخاطبا لرسول الله صلى الله عليه وسلم :
أتجعل نهبي ونهب العبيد *** بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس *** يفوقان مرداس في مجمع
وما كنت دون امرئ منهما *** ومن تضع اليوم لا يرفع
وقد كنت في الحرب ذا تدرإ *** فلم أعط شيئا ولم أمنع
وإلا أباعير أعطيتها *** عديد قوائمه الأربع
وكانت نهابا تلافيتها *** بكري على المهر في الأجرع
وإيقاضي القوم أن يرقدوا *** إذا هجع الناس لم أهجع
إلى آخر شعره. قالوا : لو كانت الغنيمة للغانمين لما فضل الأقرع وعيينة على العباس بن مدراس وهو أحسن منهما إسلاما، ولما فضل المؤلفة قلوبهم على الأنصار وهم أحسن منهم إسلاما. قالوا : فعطايا النبي هذه – صلى الله عليه وسلم – كما أعطى من مئات الإبل، وأعطى من الورق والرقيق، وأعطى صفوان بن أمية ما ملأ بين جبلين من الغنم، قالوا : هذا يدل على أن الغنيمة ليست استحقاقا محضا للغانمين، وإنما يفعل الإمام فيها ما يشاء، قالوا : وكذلك لما فتح مكة لم يغنم أموال أهل مكة، ولم يقسم دورها ولا أرضها [ فلو كان قسم الأخماس الأربعة على الجيش واجبا لفعله صلى الله عليه وسلم لما فتح مكة. قالوا : وكذلك غنائم هوازن في غزوة حنين، أعطى منها عطايا عظيمة جدا للمؤلفة قلوبهم. وأجاب الجمهور عن كونه صلى الله عليه وسلم ]٢ / أعطى المؤلفة قلوبهم، وأعطى عيينة مئة، والأقرع مئة، وصفوان ما ملأ بين جبلين غنما ونحو ذلك من العطايا، أنه فعل ذلك بعدما استطاب نفوس الغانمين عنه، وأن الغانمين طابت له نفوسهم بذلك للمصلحة العامة، وهي تأليف قلوب الرجال الذين لهم شوكة عظيمة وأتباع كثيرون ليقوى بهم الإسلام، وقد فعل ذلك برضا الغانمين وطيب أنفسهم عن ذلك له صلى الله عليه وسلم، أما عدا كونه لم يقسم دور مكة ورباعها فقد أجاب عنه الشافعي ( رحمه الله ) جوابا لكنه غير ناهض بالحقيقة والإنصاف ؛ لأن الشافعي ( رحمه الله ) مع جلالته وعلمه يرى أن مكة المكرمة – حرسها الله – أنها فتحت صلحا لا عنوة، ويظن أن قوله صلى الله عليه وسلم : " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن ". يظن أنها نوع صلح أو شبه صلح، والتحقيق الذي لا شك فيه : أن مكة –حرسها الله – إنما فتحت عنوة وقهرا بالسيف لا صلحا، وتأمين النبي صلى الله عليه وسلم لبعض الناس لا يقتضي الصلح، لأن
٢ في هذا الوضع انقطع التسجيل. وتم استيفاء النقص من كلام الشيخ (رحمه الله) في الأضواء (٢/ ٣٥٥) وجعلت ذلك بين معقوفين.
وقرأ هذا الحرف من السبعة : ابن كثير وأبو عمرو :﴿ إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى ﴾ بكسر العين في الموضعين. وقرأه باقي السبعة :﴿ إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى ﴾ بضم العين في الموضعين.
والعدوة والعدوة معناهما واحد. وأصل العدوة والعدوة : شاطئ الوادي وجانبه، فكل ما صاحب شاطئ الوادي وجانبه من الفضاء تسميه العرب : عدوة وعدوة، وهو عدوة الوادي.
وقوله تعالى ﴿ بالعدوة الدنيا ﴾ أي : عدوة وادي بدر ﴿ وهم بالعدوة القصوى ﴾. و ( الدنيا ) تأنيث الأدنى، أي : العدوة الدنيا التي هي أدنى للآتي من المدينة ﴿ وهم بالعدوة القصوى ﴾ و ( القصوى ) تأنيث الأقصى، و ( الدنيا ) تأنيث الأدنى. أي : لأن العدوة التي فيها الكفار هي التي هي أشد قصوا وبعدا من الآتي من المدينة، والتي فيها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه هي الأقرب للآتي من المدينة.
﴿ والركب أسفل منكم ﴾ المراد بالركب : الجماعة الذين هم في عير أبي سفيان بإجماع المفسرين. والمؤرخون يذكرون أنهم أربعون رجلا في تلك العير، سماهم ركبا. وأكثر علماء العربية يزعمون أن الركب اسم جمع، وأنه ليس بجمع، ولذا لم يجعل علماء العربية من جموع التكسير صيغة ( فعل ) بفتح فسكون من صيغ جموع التكسير للكثرة في ( فاعل ) إذا كان وصفا، وإنما قلنا : إن هذا هو الأظهر لكثرة وروده باستقراء اللغة العربية –في العربية وفي القرآن- فالركب هنا على أظهر القولين – وإن لم تكد ترى أحدا يقول به من علماء الصرف – أن الركب جمع راكب، والعرب تطلق الركب تريد به جمع راكب، فقولهم : إنه اسم جمع لا دليل عليه، والأظهر أنه جمع، ولذا فإن العرب يكثر في كلامها إطلاق اسم الركب مرادا به الركبان، جمع راكب، كما قال :
بزينب ألمم قبل أن يظعن الركب | وقل إن تملينا فما ملك القلب |
استحدث الركب عن أشياعهم خبرا | أم راجع القلب من أطرابه طرب |
وقوفا بها صحبي علي مطيهم *** يقولون : لا تهلك أسى وتجمل
فالصحب جمع صاحب، ومن هذا المعنى : جمع ( شارب ) على ( شرب ) بفتح فسكون، ومنه قول نابغة ذيبان :
كأنه خارجا من جنب صفحته | سفود شرب نسوه عند مفتأد |
كأن وغا حجرتيه وجاله | أضاميم من سفر القبائل نزل |
وقوله :﴿ أسفل منكم ﴾ ظرف والخبر واقع في هذا الظرف. وقراءة :﴿ أسفل منكم ﴾ شاذة وقراءة الجمهور :﴿ أسفل منكم ﴾ هو في مكان، وهذا المكان أسفل، ومعنى كونه أسفل : أن وادي بدر ذاهب إلى جهة البحر، فكل ما قرب من البحر منه فهو أسفل، وما بعد منه فهو أعلى.
قال بعض العلماء : في هذه الآية الكريمة سؤال : وهو أن يقال : ما الفائدة في تعيين أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في عدوة وادي بدر الدنيا، وأن المشركين في عدوة وادي بدر القصوى، وأن الركب أسفل من الجميع، ما الحكمة في هذا، وأي فائدة في معرفة مواضع القوم كلهم ؟
أجاب بعض العلماء عن هذا بأن فيه سرا لطيفا، قالوا : المعنى نصركم الله وفرق بين الحق والباطل بأن نصركم عليهم وظروفكم الراهنة تساعدهم على أن يغلبوكم، لأن العدوة الدنيا كانت أرضها خبارا، أرضا رخوة تسوخ فيها الأقدام، ولا يتيسر فيها المشي، لا ماء فيها، فمن فيها عطاش. والعدوة القصوى كانت بخلاف ذلك يسهل المشي عليها، فهم في هذا كانوا أولى يسبقوكم على الماء ويمنعوكم منه فيقتلوكم، وأنه في ذلك الوقت عيرهم نجت، وتمت نعمتهم، وأموالهم متكاثرة، وهم في الموضع الذي هو أحسن من موضعكم، ومع هذا كله فقد نصركم الله عليهم، لأن الله لما أرسل المطر المتقدم في قوله :﴿ وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ﴾ [ الأنفال : الآية ١١ ] كانت العدوة القصوى طينا ووحلا، وكانت العدوة الدنيا رملها متلبد تمشي عليه الأقدام بخفة، فكان هذا أنسب، ولذا قال :﴿ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٢ ] ثم قال في حكمته وقع هذا ونزل هذا الفرقان وأنتم على هذه الحالة تكادون أن تجتمعوا على غير ميعاد، لأنه لو تواعدتم وضرب بعضكم لبعض أجلا وميعادا لاختلفتم في الميعاد لو كنتم في هذا العدد من الضعف وكان بينكم وبينهم موعد سابق لجبنتم ولفشلتم عنهم، ولما تجرأتم على الإقدام عليهم، ولو كنتم مستعدين وعندكم جمع قوي لفشلوا وجبنوا ولم يتجرؤا عليكم، فجمعكم الله بغير ميعاد لحكمته ( جل وعلا ) سببها، ولذا قال :﴿ ولو تواعدتم ﴾ أي : واعد بعضكم بعضا في الموضع الذي تلتقون فيه والمكان الذي تلتقون فيه، ﴿ لاختلفتم في الميعاد ﴾ أي : لخاف بعضكم من بعض، وجبن بعضكم عن بعض، ولما اتفقتم ليحصل ما حصل، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد بحكمته ( جل وعلا )، ولذا قال :﴿ ولو تواعدتم لاختلقتم في الميعد ولكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾ ولكن الله جمعكم على غير ميعاد فخرجتم أيها المسلمون إلى عير أبي سفيان، وخرج الكفار إلى إنقاذ عيرهم، وشاء الله أن تجتمعوا ويوقع الله ما أوقع. وهذا معنى قوله :﴿ ولكن ليقضي الله أمرا ﴾ هو إعزاز دين الإسلام، وبيان برهانه ودليله، وفرق الحق من الباطل بإعزاز الدين، وإعلاء كلمة الله، وإذلال الكفر، وقتل رؤسائه وصناديده. كان هذا أمرا مفعولا لا محالة، شاءه الله وقدره وهو واقع لا محالة إذا جاء وقته المحدد له في مكانه المحدد له في علمه جل وعلا. وهذا معنى قوله :﴿ ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾.
قوله :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة وإن الله لسميع عليم ( ٤٢ ) إذ يريكهم الله في منامكم قليلا ولو أركهم كثيرا لفشلتم ولتنزعتم في الأمر ولكن الله سلم إنه عليم بذات الصدور ( ٤٣ ) ﴾ [ الأنفال : الآيتان ٤٢، ٤٣ ].
﴿ وليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٢ ] قرأ هذا الحرف نافع، وابن كثير في رواية البزي، وعاصم رواية شعبة أبي بكر :﴿ ويحيى من حيي عن بينة ﴾ بفك الإدغام في ( حيي ) وقرأه بقية السبعة :﴿ ويحيى من حي عن بينة ﴾ بإدغام الياء في الياء. وهذه الكلمة إنما كتبت في المصاحف العثمانية بحاء وياء واحدة، ولكنه عند الضبط الذين يقرؤون ( حيي ) بياءين بفك الإدغام يكتبون ياء حمراء يبينون بها أنها لم تكن في رسم المصحف العثماني. فهما قراءتان سبعيتان، ولغتان فصيحتان ﴿ ويحيى من حيي عن بينة ﴾، ﴿ ويحيى من حي عن بينة ﴾.
وقوله :﴿ ليهلك ﴾ إنما أوقع الله ما أوقع في بدر من الفرق بين الحق والباطل المبين في قوله :﴿ يوم الفرقان يوم التقى الجمعان ﴾ هذه ( لام كي ) المضارع بعدها منصوب ب ( أن ) مضمرة. والمعنى : فرق بين الحق والباطل بإيضاح أن دين الإسلام حق، وأن عبادة الأوثان باطل، لأجل أن يهلك من هلك، لأجل أن يهلك بكفره المتمادي على الكفر بعد وضوح بطلانه عن بينة، أي : عن دليل واضح وبرهان قاطع لا يشك في الحق معه، لأن البراهين المحسوسة يدركها الغبي ولا تختص بالعالم. ﴿ ويحيى ﴾ بدين الإسلام ﴿ من حي ﴾ به ﴿ عن بينة ﴾ أي : عن دليل واضح، لأن ذلك الفرقان جعله الله بوقعة بدر ليؤمن المؤمنون على برهان وبصيرة وبيان قاطع، ويكفر الكافرون على وضوح أيضا وبيان وبرهان قاطع.
والبينة : كل دليل لا يترك في الحق لبسا تسميه العرب ( بينة ) ومنه قيل للشهود الشاهدين على الحق :( بينة )، لأنهم يبينون ويوضحون من له الحق ومن عليه الحق. وهذا هو التحقيق في معنى قوله :﴿ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة ﴾.
﴿ وإن الله ﴾ جل وعلا ﴿ لسميع عليم ﴾ يسمع كل ما يقوله خلقه، ويعلم كل ما يفعله خلقه.
وكونه ( جل وعلا ) سميعا عليما هذا هو البرهان الأكبر والزاجر الأعظم الذي لا تكاد تقلب ورقة واحدة من المصحف الكريم إلا وجدته فيه، لأن المصحف الكريم لا تكاد تنظر في موضع منه إلا وتجد فيه :﴿ إن الله بكل شيء عليم ﴾ [ البقرة : الآية ٢٣١ ] ﴿ خبير بما تعملون ﴾ [ آل عمران : الآية ١٥٣ ] ﴿ لا يخفى عليه شيء ﴾ [ آل عمران : الآية ٥ ] لا تكاد تحصي هذا، لأن هذا أكبر واعظ وأعظم زاجر أنزله الله من السماء إلى الأرض، وأنه هو الذي يحصل به النجاح في محك الاختبار الإنساني بأسره.
وإيضاح هذا الكلام : أن الله ( جل وعلا ) بين في آيات من كتابه أن الحكمة التي خلق السماوات والأرض والخلائق من أجلها هي أن يبتلي خلقه في نقطة واحدة هي : إحسان العمل، وليست بكثرة العمل، قال في أول سورة هود :﴿ خلق السموت والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ﴾ ثم بين الحكمة فقال :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ [ هود : الآية ٧ ] ولم يقل : أكثر عملا، وقال في أول سورة الكهف :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ﴾ ثم بين الحكمة فقال :﴿ لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ [ الكهف : الآية ٧ ] ولم يقل : أكثر عملا. وقال في أول سورة الملك :﴿ الذي خلق الموت والحيوة ﴾ ثم بين الحكمة فقال :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ [ الملك : الآية ٢ ] ولم يقل : أكثر عملا. فدلت هذه الآيات على أن محك الاختبار هو إحسان العمل، ولذا كل الناس يقول : " ليتني أدركت ما أنجح به في هذا الاختبار، وعرفت الطريق الذي يتوصل بها إلى أن أكون أحسن عملا ". وكان جبريل ( عليه الصلاة والسلام ) لاحظ شدة الحاجة إلى هذه النقطة الحساسة فأراد أن يبينها لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعلمهم هذا العلم العظيم، فجاء في صورة أعرابي في حديثه الصحيح المشهور، وقال للنبي صلى الله عليه وسلم في جملة ما سأله عنه : يا محمد – صلوات الله وسلامه عليه – أخبرني عن الإحسان. يعني : وهو الذي خلق الخلق للاختبار فيه، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن طريق الإحسان ووسيلته الوحيدة هي هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم الذي هو مراقبة خالق هذا الكون ( جل وعلا ). فقال له : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ". ولأجل تأكد هذا العلم وإحضاره في ذهن كل مسلم كنت لا تقلب ورقة من المصحف الكريم إلا ووجدت فيها هذا الزاجر الأكبر والواعظ الأعظم : أن ربك مطلع على كل ما تقول وكل ما تفعل. ولو علم أهل بلد أن أمير ذلك البلد يعلم كل ما يفعلونه بالليل من الخسائس لباتوا متأدبين لا يفعلون إلا ما لا يجر لهم ضرا، وهذا خالق السموات والأرض ( جل وعلا ) يعلم خطرات القلوب
ومعنى الآية الكريمة : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على التحقيق فيما يرى النائم – ومعلوم أن رؤيا الأنبياء وحي لا شك فيها – أراه الله في نومه أن المشركين قليل جدا. وبعض العلماء أنكر معناها الواضح المتبادر للذهن، أنه لم يفهم الحقيقة. قالوا : كيف يريهم قليلا في منامه ورؤيا الأنبياء حق، والنبي صلى الله عليه وسلم يعلم أنهم حوالي ألف، كيف يعلم أنهم قريبون من الألف ويرى في المنام خلاف ما هو يعلم مع أن رؤيا الأنبياء حق ؟ وغفل من قال هذا القول وإن قال به جماعة من أجلاء العلماء، لأن رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حق، وتأويلها حق، كما قال يوسف :﴿ قد جعلها ربي حقا ﴾ [ يوسف : الآية ١٠٠ ] لأن معنى رؤياه هو ما سيأتي في قوله :﴿ ويقللكم في أعينهم ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٣ ]. لأن الله قلل كلا من الطائفتين في عين الأخرى في اليقظة حتى إنهم لما تصوبوا من عقنقل بدر قال ابن مسعود ( رضي الله عنه : قلت لصاحبي : أتراهم يبلغون السبعين ؟ قال : أظنهم يبلغون المئة. من شدة تقليل الله لهم في عيون الصحابة، والله قلل الصحابة في عيون المشركين حتى قال أبو جهل : إنهم أكلة جزور. يعني : الجزور قد يأكلها ناس قليلون. فقلل الله هؤلاء في أعين هؤلاء، وهؤلاء في أعين هؤلاء، فبعد أن التحم القتال والتقى الصفان أكثر الله المؤمنين في أعين الكافرين حتى صاروا يظنونهم ضعفيهم، كما تقدم في قوله :﴿ قد كان لكم ءاية في فئتين ﴾ إلى قوله ﴿ يرونهم مثليهم رأى العين ﴾ [ آل عمران : الآية ١٣ ] لأن الكفار بعيونهم يرون أن المسلمين أكثر منهم بالضعف، لأن الله فعل كل ذلك لحكمة قبل أن يتلاقى هؤلاء وهؤلاء، جعل هؤلاء قليلا في أعين هؤلاء، وهؤلاء قليلا في أعين هؤلاء، ثم لما التحم القتال والتقى الصفان أكثر المسلمين في أعين الكافرين فظنوا أنهم أكثر منهم مرتين، ولذا قال هنا :﴿ إذ يريكهم الله في منامك قليلا ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٣ ] لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراه الله الكفار في النوم قليلا وأخبر بها أصحابه ففرحوا بذلك وقويت قلوبهم وتهيؤوا للقتال، والله ( جل وعلا ) صدق تلك الرؤيا بأن قللهم في أعينهم يوم بدر، كما يأتي الآن، ثم قال :﴿ ولو أركهم كثيرا لفشلتم ﴾ لو أراك في النوم أنهم عدد ضخم كثير كالألف وأخبرتهم بذلك لخافوا وقالوا : لم نستعد لهؤلاء، وإنما خرجنا للعير ! ! كما تقدم في قوله :﴿ وإن فريقا من المؤمنين لكرهون ( ٥ ) يجدلونك في الحق بعدما تبين ﴾ [ الأنفال : الآيتان٥، ٦ ] وهذا معنى قوله :﴿ ولو أركهم كثيرا لفئلتم ﴾ الفشل ضد النجاح، وهو الجبن والخور. أي : لأصايكم الخور والجبن وتنازعتم في هذا الأمر، هذا معنى قوله :﴿ لفشلتم ولتنزعتم في الأمر ﴾ بأن قال قوم : نذهب إليهم وإن كانوا كثيرا. وقال آخرون : ما ذهبنا إلا للعير، وما ذهبنا مستعدين لنفير كثير. وحصل فيكم الفشل والتنازع في الأمر ﴿ ولكن الله ﴾ جل وعلا ﴿ سلم ﴾ من هذا الفشل ومن هذا التنازع بأن أرى رسوله صلى الله عليه وسلم في المنام أنهم قليلون لتتجرؤوا عليهم، وقللكم في أعينهم فعلا يقظة رأي العين، وقللهم في أعينكم تصديقا لرؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم هذا معنى قوله :﴿ ولكن الله سلم ﴾.
﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ المراد بذات الصدور : ما يصاحب الصدور ويكمن فيها من الخواطر والهواجس، وقد علم أنه لو أراه إياهم كثيرا لتنازعتم في ذلك الأمر ولفشلتم، فهو يعلم بما يهجس في الصدور، وما يخطر فيها، وما توسوس به النفوس، وهذا معنى قوله :﴿ إنه عليم بذات الصدور ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٣ ].
﴿ وإلى الله ﴾ جل وعلا وحده ﴿ ترجع الأمور ﴾ قرأ هذا الحرف ابن عامر، وابن كثير، وأبو عمرو :﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ ببناء الفعل للفاعل. وقرأه بقية السبعة :﴿ وإلى الله ترجع الأمور ﴾ ببناء الفعل للمفعول. ف( الأمور ) على الأول فاعل ( ترجع ) وعلى القراءة الثانية : نائب فاعل ( ترجع ). و( الأمور ) جمع أمر، ويعم كل الشؤون. والمعنى : مدار الأمور ومصيرها إليه ( جل وعلا ) قال تعالى :﴿ ألا إلى الله تصير الأمور ﴾ [ الشورى : الآية ٥٣ ] وقد صار إليه هذا الأمر وآل إليه فنفذ فيه مشيئته وقدرته، وهيأ الأسباب حتى هزم الكفرة وقتل صناديدهم ورؤساءهم وكسر شوكتهم على أيدي أوليائه المسلمين، ونصر نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأيدهم بنصره، وهذا قضاؤه وقدره ( جل وعلا )، والله يهيئ الأسباب، ولو شاء فعل بلا سبب، إلا أنه اقتضت حكمته أن يرتب المسببات على أسباب، ويسبب للأشياء ( جل وعلا ) سبحانه وتعالى.
هذه الآية الكريمة تضمنت تعليم الله لنبيه وأصحابه بعض الخطط العسكرية، قال :﴿ يأيها الذين ءامنوا ﴾ نادهم باسم الإيمان ليكون ذلك مدعاة للقبول :﴿ إذا لقيتم فئة ﴾ أي : طائفة. أي : جيشا من جيوش الكفار يقاتلونكم إذا لقيتموهم في ميدان القتال والتحمتم أنتم وهم ﴿ فاثبتوا ﴾ يعني : لا تنهزموا، ولا تولوهم الأدبار، فاصمدوا أمامهم واثبتوا، ولا تتزعزعوا، والأرض للمسلمين إذا التحم القتال أن يثبتوا ويصمدوا صمود الرجال، ولا ينهزموا ولا يرجعوا القهقرى.
ثم إنه علمهم التعليم الأكبر هو سبب للنصر والظفر في جميع الميادين، قال :﴿ واذكروا الله كثيرا ﴾ ( كثيرا ) : نعت لمصدر محذوف. أي ذكرا كثيرا ﴿ لعلكم تفلحون ﴾ أي : لأجل أن تفلحوا. وهذا هو التعليم السماوي للخطط الميدانية التي يحصل بها انهزام الكفر وانكسار شوكته، كأنه يقول لهم : في هذا الوقت الضنك الحرج الذي التحمتم فيه مع جيوش الكفار في هذا الوقت قووا صلتكم بمن خلقكم – جل وعلا – واذكروه ذكرا كثيرا. والمعنى : أنكم عند هذه الشدائد، وعند التحام القتال والمفروض أن الرجال تنزل رؤوسهم عن أعناقهم، في هذا الوقت الضنك الحرج وثقوا صلتكم بالله، واذكروا ربكم ذكرا كثيرا، فبذلك ينزل عليكم المدد من السماء، ويتسنى لكم النصر، وتقهرون الكفار، وتنكسر شوكة الكفر. هذه عادة التعاليم السماوية، تجمع للناس بين ما تنتعش به أرواحهم، وبين ما تتقوى به أجسامهم، فالتعاليم السماوية تعطي الإنسان نصيب جزئيه، أعني : نصيب جسمه ونصيب روحه، وإذا أهمل أحد النصيبين تحقق الفشل والخور والهزيمة، لأن هذا الإنسان هو حيوان مركب من عنصرين مختلفين اختلافا أساسيا جوهريا، أحدهما : يسمى الجسم، والثاني : يسمى الروح، فالإنسان جسم وروح، فأحد عنصريه اللذين هما أساساه : الروح، والثاني : الجسم. والروح والجسم مختلفان اختلافا أساسيا جوهريا، وبحسب اختلافهما الأساسي تختلف متطلباتهما في هذه الحياة، فللجسم متطلبات لا بد له منها، وللروح متطلبات لا بد له منها، ولا تغني متطلبات هذا عن متطلبات هذا. والقرآن العظيم يعطي كلا من العنصرين حقه كما ينبغي،
ويقول : أعطوا الأجسام حقها بالثبوت والصمود، وأعطوا الأرواح حقها بتغذيتها بصلتها بخالقها وتقويتها، وانتظار المدد من السماء.
ونظير هذه الآيات : إذا قرأتم آيتين من سورة النساء فهمتم هذا المعنى كما ينبغي، وهما الآيتان اللتان أنزلهما الله في صلاة الخوف، فإنه يقول لنبيه :﴿ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلوة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك ﴾ [ النساء : الآية ١٠٢ ] هذا وقت التحام الكفاح المسلح، فالمفروض أن الرجال تنزل رؤوسهم عن أعناقهم في هذا الوقت الضنك الحرج، فالقرآن الذي هو تنزيل رب العالمين يوضح الخطة العسكرية كما ينبغي، على الوجه الذي يردون فيه العدو، وليتسنى لهم في ذلك الوقت الاتصال بخالق السماوات والأرض وأداء أدب من الآداب الروحية الذي هو الصلاة في الجماعة في ذلك الوقت، فالصلاة في الجماعة وقت التحام ذلك الكفاح المسلح هي من ذكر الله المأمور به هنا في سورة الأنفال في قوله :﴿ واذكروا الله ﴾ فالمؤمنون إن ساروا في ضوء هذه التعاليم السماوية، وكانوا في طاعة الله، وفي ذكر الله، وتقدموا صابرين في الميدان فإنهم لا يقوم أمامهم شيء، كما هو مشاهد في التاريخ لأن هؤلاء الرجال الذين علموا هذا التعليم في آية الأنفال هذه ﴿ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله ﴾ وفي سورة النساء :﴿ فأقمت لهم الصلوة فلتقم طائفة منهم معك ﴾ [ النساء : الآية ١٠٢ ] ليصلوا الجماعة في ذلك الوقت الحرج، ويقوون صلتهم بالله، هؤلاء الذين أخذوا بهذه التعاليم هم الذين أخذوا كنوز قيصر وكسرى، وحملوا نور الإسلام في مشارق الدنيا، ودان لهم جميع الأمم، ورفعوا رايات الإسلام في جميع أقطار الدنيا. أما هؤلاء الذين يبيتون يشربون الخمور، وتعزف عليهم القيان، وهم في المجالس الماجنة الخليعة، ثم بعد ذلك يصبحون في الميدان فهؤلاء ليسوا برجال ميدان، ولا يرجى منهم تحقق شيء، ولا رد مسلوب من بلاد، ولا من مجد ولا من شيء ! ! فما دام الذين يتقدمون في خطوط النار الأمامية فجرة، شربة للخمور، أصحاب معازف وغواني وملاهي، فهؤلاء من يريد النصر ويؤمله من ورائهم فهو مغفل، لأن هؤلاء ليسوا برجال ميدان، فلا يمكن أن يردوا مسلوبا من مجد ولا من بلاد، ولا أن ينتصفوا من أحد كائنا ما كان، لأنهم تركوا التعاليم السماوية والخطط العسكرية التي هي كفيلة بقمع الكفار، وإيقافهم عند حدهم، وكسر شوكة الكفر، وإعلاء كلمة الله جل وعلا.
فالحاصل أن السلاح الأكبر في ميادين القتال هو ذكر الله – جل وعلا – وطاعته وامتثال أمره لأنه هو الذي منه النصر والمدد. والله كذلك يأمر خلقه ﴿ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله ﴾ أما الذين إذا لقوا فئة فلا يذكرون الله، وليس في قلوبهم خشية من الله، ولا عمل بدينه، فهؤلاء لا يؤمل من ورائهم فائدة إلا مغفل مثلهم لا يفهم شيئا. وهذا معنى قوله :﴿ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا ﴾ ذكرا كثيرا، لأن ذكركم لله كثيرا تتقوى به أرواحكم، وتتصلون به بربكم، وينزل لكم بسببه المدد من خالق السماوات والأرض.
والصحابة ( رضي الله عنهم ) كذلك كانوا يفعلون، يذكرون الله ويخافونه في الميدان فيأتيهم النصر، ولذا قهروا الدنيا بأسرها، وأخذوا كنوز قيصر وكسرى كما هو معلوم. وهذا معنى قوله :﴿ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا ﴾.
﴿ لعلكم تفلحون ﴾ قال بعض العلماء :( لعل ) في القرآن كلها مشمة معنى التعليل، فهي تفيد معنى التعليل، إلا التي في الشعراء :﴿ وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون ( ١٢٩ ) ﴾ [ الشعراء : الآية ١٢٩ ] قالوا : فهي بمعنى كأنكم. والتحقيق أن لفظة ( لعل ) تأتي في اللغة العربية مرادا بها التعليل، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
فقلتم لنا كفوا الحروب لعلنا *** نكف ووثقتم لمنا كل موثق
فلما كففنا الحر كانت عهودكم *** كشبه سراب بالفلا متألق
فقوله : " كفوا الحروب لعلنا نكف " أي : لأجل أن نكف عنكم.
وقوله :﴿ تفلحون ﴾ هو مضارع ( أفلح الرجل، يفلح، فهو مفلح ). إذا نال الفلاح. والفلاح يطلق في لغة العرب إطلاقين معروفين مشهورين :
أحدهما : تطلق العرب الفلاح بمعنى الفوز بالمطلوب الأكبر، فكل من فاز بالمطلوب الذي كان يهتم به جدا، وهو من أكبر مطالبه، تقول العرب : أفلح هذا. أي : فاز بما كان يطلب، وهذا معنى معروف في كلامها، ومنه قول لبيد بن ربيعة :
فاعقلي إن كنت لما تعقلي *** ولقد أفلح من كان عقل
أي : من رزقه الله العقل ففاز بالمطلوب الأكبر في الدنيا.
الإطلاق الثاني : هو إطلاق العرب الفلاح على البقاء السرمدي في النعيم، فالعرب تقول : أفلح هذا، إذا كان باقيا خالدا في نعيم سرمدي، وهذا المعنى معروف مشهور في كلام العرب أيضا ومنه قول لبيد بن ربيعة أيضا.
لو أن حيا مدرك الفلاح *** لناله ملاعب الرماح
يعني بقوله : " مدرك الفلاح "، أي : مدرك البقاء بلا موت، ونظيره من كلام العرب : قول كعب بن زهير، أو الأضبط بن قريع، كما قيل بكل منهما :
لكل هم من الهموم سعة *** والمسي والصبح لا فلاح معه
أي : لا بقاء في الدنيا مع تكرر الليل والنهار.
إذا عرفتم معنيي الفلاح فمن أطاع الله ( جل وعلا ) وذكره كثيرا نال الفلاح بمعنييه، ففاز بمطلوبه الأكبر وهو الجنة ورضا الله، ونال البقاء السرمدي الأبدي في نعيم الجنات.
وهذه الآية الكريمة تدل على أن الذين إذا لقوا فئة من فئات الكفار في ميدان القتال ولم يثبتوا أو لم يذكروا الله كثيرا، أنهم لا يفلحون. وهو كذلك، لأن النصر من الله. كما قال تعالى :﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ [ الأنفال : الآية ١٠ ] قال في بدر :﴿ وما النصر إلا من عند الله ﴾ مع أنه أنزل ملائكة السماء ناصرين، يعني : لا تظنوا أن الملائكة ينصرونكم، الناصر هو الله وحده ( جل وعلا )، ولذا قال :﴿ واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ﴾ [ لأنفال : الآية ٤٥ ].
والياء في قوله :﴿ أطيعوا ﴾ الياء التي بين الطاء والعين أصلها ( واو ) لأن المادة من ( الطوع ) فهو أجوف واوي العين، أصلها : " أطوعوا " من " الطوع " لا يائي من ( الطيع ).
ومعنى إطاعة الله : هي الانقياد لامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، في النيات والأفعال وكل شيء، وهذا معنى :﴿ أطيعوا الله ورسوله ﴾.
﴿ لا تنزعوا ﴾ أصله : لا تتنازعوا، لا ينازع بعضكم بعضا وتختلفوا، لأن الناس غالبا تختلف نحلهم ووجهات نظرهم. يعني : إذا اختلفت وجهات نظركم لا تتنازعوا وكل منكم ينصر ما رآه فيخالف أخاه، بل كونوا متفقين دائما، لأن الله ( جل وعلا ) شرع لكم طريقة تتفقون عليها وهي اقتفاء نبيكم صلى الله عليه وسلم والسير في ضوء الكتاب الذي أنزله عليه والسنة التي تركها صلى الله عليه وسلم. وما دام هو صلى الله عليه وسلم موجودا بين أظهرهم فمعلوم أن المصير إلى ما يقوله صلى الله عليه وسلم، وهذا معنى :﴿ ولا تنزعوا ﴾ فإنه نهاهم عن النزاع، لأن التنازع أكبر أسباب الفشل.
والتنازع غالبا يكون بسبب الأغراض الشخصية، وتقديم الأغراض الشخصية الدنيوية على المصالح العامة، فهذه البلية سوسة في الدنيا، وهي أضر أدواء هذا العالم، وهي تقديم المصالح الشخصية على المصالح العامة، وقد نزلت بسببها بلية يتضمن إشكال أزاله الله بفتوى سماوية من عنده، لأن الله ( جل وعلا ) ربما سلط بعض الكفار على بعض المسلمين، وهي مشكلة واقعة الآن، يقول هؤلاء الشباب – الذين هم خفافيش أعماهم نور الإسلام، فصاروا يتطلبون النور في ظلام آراء الكفرة الفجرة – يقولون : كيف نكون على الحق وديننا حق ونحن مستضعفون مضطهدون في أقطار الدنيا، والكفار الذين تقولون : إنهم على باطل وليسوا على حق هم الذين معهم القوة والسيطرة، يبتزون ثرواتنا، ويضطهدوننا في أقطار الدنيا ؟ وهذه المشكلة إنما يسببها التنازع والفشل، والأغراض الشخصية، وتقديمها على المصالح العامة. وهذا الإشكال بعينه قد استشكله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والنبي صلى الله عليه وسلم موجود بين أظهرهم، والملك يروح ويغدو بالوحي، فأتى الله فيه فتوى سماوية هي قرآن يتلى في سورة آل عمران، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد لما صف الصفوف، والتحم القتال بين المسلمين والمشركين، وكان المسلمون سبعمائة مقاتل، والمشركون ثلاثة آلاف مقاتل، أخذ عبد الله بن جبير – أخا خوات بن جبير – ( رضي الله عنهم ) وأمرهم على طائفة الرماة، وقال له : " كونوا عند سفح هذا الجبل – يعني جبل أحد – ولا تأتونا أبدا، إن غلبنا القوم فلا تأتونا، وإن غلبناهم فلا تأتونا "، وأمرهم بأن يثبتوا عند سفح الجبل لئلا يأتيهم القوم من الوراء من بينهم وبين الجبل، فلما التحم القتال في المرة الأولى، وهلك حملة اللواء من بني عبد الدار، وانهزم المشركون هزيمة منكرة، ترك الرماة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمصالحهم الشخصية، وهي الانتفاع بمال الغنيمة، فقال لهم رئيسهم عبد الله بن جبير ( رضي الله عنه ) : أما أنا فلا أخالف قول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبقي معه نفر قليل. والآخرون راحوا يطلبون الأغراض الشخصية الدنيوية، وتركوا أمر الرسول. فنظر المشركون فإذا الجبل ليس دونه رجال، فجاؤوا من سفح الجبل وأتوهم من وراء ظهورهم، ودارت عليهم رحى الحرب، وأوقع الله ما أوقع بالمسلمين كما قصه في سورة آل عمران في يوم أحد، قتل من خيار الأنصار سبعون رجلا، وقتل عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أسد الله حمزة بن عبد المطلب، وقطع أنفه وأذناه، وأخذ بعض كبده لهند بنت عتبة، وقتل ابن عمته عبد الله بن جحش، وقتل حامل رايته مصعب بن عمير العبدري ( رضي الله عنه ). وشماس بن عثمان المخزومي، وأوقع الله ما أوقع بسبب تلك الأغراض الشخصية وتقديمها على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وجرح صلى الله عليه وسلم وشقت شفته السفلى اليمنى، وكسرت رباعيته، وشج حتى غاص في جبته بعض حلق المغفر الذي هو على رأسه، وانتزعه أبو عبيدة بن الجراح ( رضي الله عنه ) فسقطت معه ثنيتاه العلييان لقوته، فكان أثرم ( رضي الله عنه )، أي : ساقط الثنيتين. لما وقع هذا استشكله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الاستشكال، وقالوا : كيف يدال منا المشركون، وتكون لهم دولة علينا، ويقتلوننا ويجرحوننا وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا الحق ؟ فهذا هو وجه الإشكال. فأفتى الله بإزالة هذا الإشكال فتوى سماوية، قرآنا يتلى في آل عمران، قال :﴿ أو لما أصبتكم مصيبة ﴾ [ آل عمران : الآية ١٦٥ ] يعنى بقتل السبعين الذين قتلوا منكم يوم أحد ﴿ قد أصبتم مثليها ﴾ سابقا يوم بدر بأن قتلتم سبعين وأسرتم على أصح التفسيرين، وأكثرهما قائلا، ﴿ قلتم أنى هذا ﴾ وهو محل الشاهد، هذا استشكال الصحابة ﴿ قلتم أنى هذا ﴾ من أين جاءنا هذا، وكيف يدالون منا، ونحن على حق، وهم على باطل، وفينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلينا ينزل القرآن ؟ كيف يدالون منا ؟ هذا الاستشكال نص عليه الله في قوله :﴿ قلتم أنى هذا ﴾ فاجاب الله بفتواه الإلهية السماوية قال لرسوله :﴿ قل هو من عند أنفسكم ﴾ من قبلكم البلية، وأنتم الذين جنيتموها على أنفسكم، وقوله :﴿ هو من عند أنفسكم ﴾ فيه إجمال أوضحه الله في آية سورة آل عمران هذه، أوضحه بقوله :﴿ ولقد صدقكم الله وعده ﴾ [ آل عمران : الآية ١٥٢ ] يعني : بالنصر على الأعداء ﴿ إذ تحسونهم ﴾ يعني تقتلونهم قتلا ذيعا يطفأ معه الحس، ويزول الحس بعده. ﴿ إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنزعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أركم ما تحبون منكم من يريد الدنيا ﴾ من هذه البلايا جاءت البلية ووقع ما وقع، ولذا نهى الله عن هذا قال :﴿ ولا تنزعوا فتفشلوا ﴾ ﴿ الأنفال : الآية ٤٦ ﴾ وأكبر أسباب النزاع : تقديم المصالح الشخصية والأغراض الدنيوية على المصالح العامة. وهذه أكبر البلايا التي يأتي من قبلها الشر للمسلمين، لأنه قد يخالف بعض المسلمين فتكون العقوبة عامة للجميع. وهذا معنى قوله :﴿ ولا تنزعوا فتفشلوا ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٦ ].
الفشل : ضد النجاح. قال بعض العلماء : معناه تضعفوا ويستولي عليكم الخور ﴿ فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ الإنسان إذا كان في عمل يدبره ليحصل وراءه نتيجة فإن تم له عمله ووقع ما أراد قالت العرب : نجح في أمره. وإن كان عكس ذلك قالوا : فشل في أمره، لم ينجح. وقال بعض العلماء :﴿ فتفشلوا ﴾ يستولي عليكم الضعف والخور، لأن النزاع من أكبر أسباب الضعف والخور وعدم انتظام الكلمة، وهذا النزاع والاختلاف هو مشكلة عظمى في أقطار الأرض، لأن من يتسمون باسم المسلمين ينازع بعضهم بعضا، ويعادي بعضهم بعضا، وقد بين تعالى في سورة الحشر أن اختلاف القلوب، والمنازعات الشديدة، وتشتت الآراء والأفكار، وعدم الاتحاد، أن سبب هذا الذي يجتلبه به إنما هو ذهاب العقل وعدم العقل، لأن العاقل لا يتسبب في المخالفة، لأنك إذا اختلفت أنت وأخوك كان تدبيره وكل ما عنده من قوة يعمل ضدك، فإذا كنت عاقلا – ولو عقلا دنيويا – كان تسببك في أن يكون معك، لأن كون قوته وما أعطاه الله في صالحك خير لك من أن يكون في غير ذلك، ولذا بين تعالى أن سبب اختلاف القلوب هو ضعف العقول وعدمها، قال في قوم – وهم اليهود لعنهم الله – ﴿ بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ﴾ [ الحشر : الآية ١٤ ] الآية : مختلفة مفترقة، فرق متعادية مختلفة. ثم بين العلة التي أوجبت تشتت تلك القلوب قال :﴿ ذلك بأنهم قوم لا يعقلون ﴾ وقد تقرر في علم الأصول أن العلل تعمم معلولاتها وتخصصها كما هو معلوم في محله. وهذا معنى قوله :﴿ ولا تنزعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٦ ] الفاء سببية. والمعنى : أن التنازع سبب للفشل، والفشل : عدم النجاح والضعف والخور وعدم التمكن. والفاء سببية، والمضارع منصوب بعدها ب ( أن ) المضمرة كما هو معلوم في محله. قوله :﴿ وتذهب ريحكم ﴾ معطوف على المنصوب ب ( أن ) المضمرة قبله.
وقوله :﴿ وتذهب ريحكم ﴾ للعلماء في المراد بالريح هنا أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضا :
قال بعضهم :﴿ وتذهب ريحكم ﴾ معناه : تذهب قوتكم. وهذا كالتوكيد لقوله :﴿ فتفشلوا ﴾ لأن من فشلوا فقد ذهبت قوتهم، وحاصل الريح هذه في كلام العرب أنهم يريدون بها الدولة أعني : وتذهب دولتكم ويكون الأمر إلى غيركم، لأن العرب تقول : " هبت ريح فلان ". أي : دالت دولته وجاء وقته الذي يتمكن به. وهذا معنى معروف في كلام العرب وفي لغتها التي نزل بها القرآن، وهو معنى مشهور معروف. " هبت ريحك فاغتنم " أي : دالت دولتك وجاء الوقت الذي أنت تتمكن فيه. هذا معنى معروف في كلام العرب، وعلى هذا المعنى ﴿ وتذهب ريحكم ﴾ أي : تنعدم دولتكم وتضيع، ويصير الأمر إلى غيركم، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر :
يا صاحبي ألا لا حي بالوادي *** إلا عبيدا قعودا بين أذواد
أتنظران قليلا ريث غفلتهم *** أم تعدوان فإن الريح للعادي
فقوله : " إن الريح للعادي " أن الدولة والظفر للذي يعدو فينهب فيأخذ، هذا معنى قوله. وهذا معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول الآخر ١ :
إذا هبت رياحك فاغتنمها *** فإن لكل عاصفة سكون
قال بعضهم :( إن ) هنا اسمها ضمير الشأن، والمبتدأ وخبره خبرها، ومعنى :( هبت رياحك ) أي : دالت دولتك فاغتنم الفرصة ( فإن لكل عاصفة سكون ) أي : لكل دولة تول ودبور، هكذا قاله بعض العلماء. وهذا معنى قوله :﴿ وتذهب ريحكم ﴾.
﴿ ولا تنزعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصبرين ﴾ هذه وصايا سماوية، وتعاليم من رب العالمين عظيمة، من أخذ بها ظفر، ومن تركها فشل وذهبت ريحه لا شك.
وقوله :﴿ واصبروا ﴾ الصبر في لغة العرب معناه : حبس النفس ٢. تقول العرب : فلان صبر نفسه. أي : حبسها على المكروه، وشجعها على الشيء الصعب، هذا معنى الصبر في لغة العرب، ومادته تتعدى وتلزم، تقول العرب : صبر فلان فهو صابر أي : كان متصفا بالصبر، وصبر نفسه أي : حبسها على المكروه. متعديا للمفعول. ومن أمثلة تعديه للمفعول قوله تعالى :﴿ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم ﴾ الآية [ الكهف : الآية ٢٨ ]. وقول عنترة، أو غيره :
فصبرت عارفة بذلك حرة *** ترسو إذا نفس الجبان تطلع
يعني : حبست نفسا عارفة بذلك على القتال. هذا أصل معنى الصبر.
والصبر في الشرع يتناول أمورا كثيرة منها : الصبر تحت ظلال السيوف، لأن الجنة تحت ظلال السيوف. ﴿ واصبروا ﴾ أي : ويتناول ذلك الصبر صبركم تحت ظلال السيوف في الميدان، يتناول الصبر أيضا : الصبر عن معصية الله وإن اشتعلت نار الشهوات، والصبر على طاعة الله وإن كنت كالقابض على الجمر. يتناول الصبر على هذا كله، والصبر على المصائب عند الصدمة الأولى. وهذا معنى قوله :{
٢ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة البقرة..
البطر في لغة العرب : هو التكبر عن قبول الحق مع غمط الحقوق. وتكبرهم هذا المشار إليه هنا هو الذي بينا في قصة أبي جهل ؛ لأن الكفار لما كانوا بالعدوة القصوى من بدر، وأرسلوا عمير بن وهب الجمحي ( رضي الله عنه ) – وكان إذ ذاك كافرا – وقالوا له : أحزر لنا القوم. فجاء فحزرهم، فقال : القوم ثلاثمائة يزيدون قليلا أو ينقصون قليلا، لكن دعوني أنظر هل لهم كمين ؟ فجال في فرسه وادي بدر حتى أبعد، قال : ليس للقوم كمين، ولكني يا قوم رأيت البلايا تحت المنايا، رأيت نواضح يثرب تحمل الموت الناقع، والله لا يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم، وإن مات منكم أعدادهم فلا خير في الحياة بعد ذلك، فرأيي أن تنصرفوا. فأيده حكيم بن حزام ( رضي الله عنه )، وذهب إلى عتبة بن ربيعة وقال له : يا أبا الوليد إن عير قريش نجت من محمد صلى الله عليه وسلم وليس لهم لديه مطلب إلا دية ابن الحضرمي – عمرو بن الحضرمي – الذي قتل في سرية نخلة، وهو حليفك فتحمل ديته وخل الناس يرجعون فإنه لا خير لهم في لقاء محمد صلى الله عليه وسلم. فاجتمع عتبة وحكيم وعمير بن وهب على هذا الرأي، ولكن قال له عتبة، يا ابن حزم إذهب إلى ابن الحنظلية – يعني أبا جهل عمرو بن هشام – قبحه الله – فقل له هذا. فلما جاءه قال له : انتفخ سحر عتبة – يعني انتفخت رئته من الخوف – فغضب عندها عتبة وقال : سيعلم مصفر أسته غدا من الجبان ! ! ثم إن أبا جهل – لعنه الله – قال لابن الحضرمي : أنت ترى ثأرك فلا يردنك هؤلاء عن ثأرك فتقدم واطلب ثأر أخيك، فتقدم عامر ابن الحضرمي وقال : واعمراه، واعمراه. ينشد ثأره من أخيه عمروا الذي قتله سرية عبد الله بن جحش ( رضي الله عنه ) في نخلة كما هو مشهور، فلما قالوا له : راجع بنا. قال – وهو محل الشاهد – قال : والله لا نرجع حتى نرد ماء بدر – وكان بدر موسما من مواسم العرب، وسوقا يبيعون فيه في السنة – ونشرب الخمور، وننحر الجزور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا ! ! فهذا هو فخره وخيلاؤه وبطره ورئاؤه الذي بينه بقوله : تسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا ﴿ ورئاء الناس ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٦ ] هو الذي يفعل الفعل لأجل أن يراه الناس فيحمدونه عليه، ويعظمونه عليه لا لوجه الله. وهذا معنى قوله :﴿ كالذين خرجوا من ديرهم بطرا ﴾ أي : لأجل البطر. أو : بطرين متكبرين عن الحق، متصفين بالفخر والخيلاء.
وقال بعض العلماء : البطر التكبر عن الحق مع غمط الناس حقوقهم.
قال بعضهم : البطر سوء احتمال النعمة، فمن أنعم الله عليه نعمة وصار يعمل فيها عمل الإسراف فيما لا يرضى فهو من البطرين. وعلى كل حال فهم بطرون لأنهم تكبروا عن قبول الحق، وغمطوا الناس حقوقهم، وجاؤوا في فخر وخيلاء. وفي قصة بدر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رآهم متصوبين من كثيب بدر قال : " اللهم هذه قريش أقبلت تحادك وتكذب رسولك، هذه قريش أقبلت بفخرها وخيلائها – وهو محل الشاهد – تحادك وتكذب رسولك، اللهم أحنهم الغداة " كما هو معرف في محله. وهذا معنى قوله :﴿ كالذين خرجوا من ديرهم بطرا ورئاء الناس ﴾ هم أبو جهل وأصحابه من النفير الذين قتل أشرافهم، وأسروا على شفير بدر كما هو معروف.
وكان بعض العلماء يقول : أفخر بيت قالته العرب بيت حسان ابن ثابت ( رضي الله عنه ) في بدر حيث يقول :
وفي بئر بدر إذ يصد وجوههم | جبريل تحت لوائنا ومحمد صلى الله عليه وسلم |
والأعمال جمع عمل، وهو ما يصدر عن الإنسان. وقد علم باستقراء الشرع أن العمل الذي يزينه الشيطان ويعاقب عليه ويثاب عليه أنه أربعة أقسام، دل على هذا استقراء كتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، واللغة العربية، أن ما يصدق عليه اسم العمل الذي يزينه الشيطان ويثاب الإنسان عليه ويعاقب عليه أربعة أنواع لا خامس لها :
الأول منها : فعل الجوارح كالسرقة والزنا.
والثاني منها : القول، لأن القول فعل اللسان، وقد سمى الله في سورة الأنعام القول فعلا حيث قال جل وعلا :﴿ زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه ﴾ [ الأنعام : الآية ١١٢ ] فسماه فعلا.
الثالث : العزم المصمم، لأن عزم الإنسان وتصميمه على الفعل بحيث لا يمنعه منه إلا العجز عنه هذا الفعل الذي صمم عليه وعزم عليه فكأنه عمله بعزمه وتصميمه، فهو عمل يزينه الشيطان ويؤخذ به فيثاب ويعاقب عليه، والدليل على أن هذا العزم المصمم أنه من جملة العمل الذي يدخل صاحبه النار مثلا : ما أخرجه الشيخان في صحيحيهما – أعني البخاري ومسلما رحمهما الله – من حديث أبي بكرة رضي الله عنه : " إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمفتول في النار " قالوا : يا رسول الله قد عرفنا القاتل فما بال المقتول ؟ ! " فهؤلاء الناس سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبرز لهم ويبين العمل الذي دخل بسببه المقتول النار، لأنه لم يقتل ! ! فأجابهم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث الصحيح المتفق عليه : " إنه كان حريصا على قتل أخيه ". والجواب على طبق السؤال، فبين أن عمله الذي أدخله النار حرصه على قتل أخيه، وهو عزمه المصمم وإن لم يتمكن منه.
أما العزم الغير المصمم بأن يخطر في ذهنه أنه يفعل كذا ثم يراقب الله فيتركه، فتلك السيئة التي هم بها تكتب له حسنة، لأنه تركها خوفا من الله. وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم : " ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة " لأنه تركها خوفا من ربه فكان ذلك حسنة، ولذلك كان جابر بن عبد الله ( رضي الله عنه ) وهو من بني سلمة، وبنو سلمة وبنو حارثة – من الأنصار – هم الذين أنزل الله فيهم يوم أحد :﴿ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا ﴾ [ آل عمران : الآية ١٢٢ ] قال :﴿ همت طائفتان ﴾ هذا الهم ليس بعزم مصمم، لأن الله قال بعده :﴿ والله وليهما ﴾ فكان جابر يقول : مع أن الله ذكر أنا هممنا أن نفشل وهذه وصمة فينا، ولكن والله ما نحب أن الله لم ينزلها لأنه قال بعدها :﴿ والله وليهما ﴾ فالتي بعدها تداويها وتزيد، هذا معنى كلامه ( رضي الله عنه ). فالعزم المصمم من العمل الذي يزينه الشيطان ويدخل صاحبه بسببه النار.
الرابع : الترك، والتحقيق أن التروك يزينها الشيطان، يدخل صاحبها بها النار، ويثاب بها فيدخل بسببها الجنة. هذا هو التحقيق إن شاء الله. وقد كان ابن السبكي – تاج الدين – في بعض كتبه في علم الأصول في بحث أهل الأصول في الترك هل هو فعل أو ليس بفعل ؟ قال : طالعت كتاب الله فوجدت من كتاب الله آية في سورة الفرقان يفهم منها أن الترك فعل.
ونحن نقول : إن هذه الآية التي أوردها ابن السبكي لا يظهر لنا وجه الدلالة منها كل الظهور، إلا أنا اطلعنا على آيتين من سورة المائدة كلهما صريحة في أن الترك من الأفعال، وأنه من الأعمال التي يؤاخذ بها الإنسان. وإيضاح ذلك : أنك لو تركت الصلاة حتى خرج وقتها، أنت ما فعلت شيئا إلا أنك تركت الصلاة، فهذا الترك فعل يقتل صاحبه بسببه، ويدخل به النار، ويكفر به عند من قال ذلك. ولما وجب قتله كفرا عند احمد في مشهور مذهبه، وحدا عند مالك والشافعي في مشهوري مذهبهما، وإيضاح هذا أن ابن السبكي قال : قوله تعالى :﴿ وقال الرسول يرب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا ( ٣٠ ) ﴾ [ الفرقان : الآية ٣٠ ] قد فهمت من هذه الآية في سورة الفرقان أن الترك فعل، لأن الأخذ : هو التناول، والمهجور : المتروك، أي : تناولوه متركا. فدل على أن الترك فعل يؤتى بالتناول، وهذا لا يظهر لي كل الظهور.
أما الآيتان اللتان عثرنا عليهما في سورة المائدة، الدالتان على أن الترك فعل من الأفعال :
فإحداهما قوله تعالى :﴿ لولا ينههم الربنيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ﴾ ثم قال :﴿ لبئس ما كانوا يصنعون ﴾ [ المائدة : الآية ٦٣ ] وإنشاء الذم بقوله ﴿ بئس ﴾ هنا متوجه على ترك الربانيين والأحبار النهي، وقوله :﴿ لبئس ما كانوا يصنعون ﴾ أي : بئس ما يصنعه الربانيون والأحبار وهو تركهم. فسمى تركهم الأمر بالمعروف صنعا، والصنع أخص من مطلق الفعل، وهذا هو التحقيق في معنى الآية، وهو نص صريح في أن الترك من الأفعال.
والآية الأخرى : قوله في المائدة أيضا :﴿ كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون ( ٧٩ ) ﴾ [ المائدة : الآية ٧٩ ] وهو عدم تناهيهم عن المنكر، فسمى تركهم التناهي عن المنكر ( فعلا ) وذمه أيضا بالفعل الجامد الذي هو لإنشاء الذم أعني :( بئس ) لأن ( نعم ) لإنشاء المدح، و( بئس ) لإنشاء الذم، كما هو معروف في محله.
وقد أجرى العلماء على هذا الاختلاف في المذاهب، هل الترك فعل أو لا ؟
قالوا : فبناء على أن الترك فعل : إذا كان الإنسان عنده خيوط من حرير مثلا، وشق بطن واحد من رفقته، وأمسك عنه خيوط الحرير تخاط بها بطنه حتى هلك. فعلى أن الترك فعل فقد أهلكه بتركه، فتلزمه ديته، وعلى أن الترك [ ليس ]١ بفعل لا غرامة عليه.
وكذلك من كان عنده ماء يفضل عن سقي زرعه، وجف زرع جاره إذا أمسك عنه الماء الفاضل عنه، فعلى أن الترك فعل يضمنه، لأنه أفسده بفعله، وعلى أنه ليس بفعل فلا.
ومن هذا : ناظرو الأوقاف، والأوصياء على اليتامى، إذا تركوا إيجار دورهم وقت الإيجار حتى فاتت الفرصة، فعلى أن الترك فعل يضمنون، وعلى أنه ليس بفعل لا يضمنون، وهي قاعدة كثيرة الفروع في مذهب الأئمة ( رحمهم الله ) بسطها وبسط فروعها مقرر في مذاهبهم. وأصح القولين : أن الترك فعل، وأنه عمل من الأعمال التي زينها الشيطان، وكان صلى الله عليه وسلم أيام بنائه لهذا المسجد الشريف – يسر الله له العمارة بطاعة الله وعبادته – كان النبي صلى الله عليه وسلم ممن يعمل فيه وبعض الصحابة جلوس، فقال بعضهم :
لئن قعدنا والنبي يعمل | لذاك منا العمل المضلل |
﴿ وقال لا غالب لكم اليوم من الناس ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٨ ] الله هنا في هذه الآي من سورة الأنفال صرح بأن الشيطان ( قال ) ولم يقل :( وسوس ) فصرح بالقول ولم يذكر الوسوسة، لأن الشيطان تمثل لهم في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي البكري ( رضي الله عنه )، لأن قريشا لما جاءهم ضمضم بن عمرو الغفاري – أرسله لهم أبو سفيان – وتأهبوا للخروج وأجمعوا عليه، بينهم وبين بني بكر بن كنانة عداوة، فخافوا أن يأتوهم من ورائهم فيأخذوا نساءهم وذراريهم، فجاءهم إبليس في صورة سراقة بن مالك، وكان سيد بني مدلج، وهو من سادات بني بكر بن كنانة، وقال لهم : إني جار لكم، أجيركم من كنانة فلا يصل إليكم منهم سوء، وزين لهم هذه الأعمال، وقال : أنتم على حق، هذا الرجل الذي سفه أحلامكم، وفرق كلمتكم، وعاب آلهتكم، وسفه آباءكم، فاذهبوا إليه ولا تتركوه يأخذ عيركم، ونحو هذا من التزيين، ولا غالب لكم لشرفكم وقوتكم، وأنكم قطان بيت الله الحرام، زين لهم هذا التزيين، وقال لهم : إنه جار لهم يجيرهم من بكر بن كنانة، وذهب معهم وهم يعتقدونه سراقة بن مالك، فلما فر عنهم صاروا يعيبون سراقة ولم يعتقدونه سراقة بن مالك، فلما فر عنهم صاروا يعيبون سراقة ولم يعلموا أنه الشيطان حتى أسلموا وسمعوا القرآن يتلى أنه الشيطان تمثل لهم في صورة سراقة، / وفيه يقول حسان :
سرنا وساروا [ إلى بدر لحينهم | لو يعلمون يقين الأمر ما ساروا |
دلاهم بغرور ثم أسلمهم | إن الخبيث لمن والاه غرار |
إني لكم جار فأوردهم | شر الموارد فيه ] الخزي والعار٢ |
٢ في هذا الموضع انقطاع في التسجبل، والأبيات ذكرها الشيخ (رحمه الله)، فيما مضى عند تفسير الآية (١١٢) من هذه السورة، فنقلتها هنا وجعلت ذلك بين معقوفين.
قوله : " إذ " ظرف بدل من " إذ " قبله، أو منصوب ب ( اذكر ) مقدر. اذكر إذ يقول المنافقون.
المنافقون : جمع التصحيح للمنافق، وهو المتصف بالنفاق، والنفاق : هو إظهار الإيمان وإبطان الكفر. والمنافق هو المعروف في اصطلاح الفقهاء بالزنديق، فالمنافقون الذين يلقون المسلمين ويقولون : إنهم مؤمنون. وهم في باطن الأمر بخلاف ذلك.
وقوله :﴿ والذين في قلوبهم مرض ﴾ اختلف العلماء في المراد بالذين في قلوبهم مرض على أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضا.
قال بعض العلماء :﴿ الذين في قلوبهم مرض ﴾ هم نفس المنافقين، وإنما كان العطف نظرا إلى مغايرة الصفات، كأنه يقول : الجامعون بين النفاق ومرض القلوب قالوا كذا وكذا، ومعلوم في اللغة العربية التي نزل بها القرآن أن عطف الشيء على نفسه مذكورا بصفات مختلفة نظرا إلى أن تغاير الصفات كتغاير الذوات أسلوب عربي معروف في كلام العرب، وهو موجود بكثرة في القرآن، كقوله في أول سورة البقرة :﴿ ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين ( ٢ ) الذين يؤمنون بالغيب ﴾ ثم قال :﴿ والذين يؤمنون بما أنزل إليك ﴾ [ البقرة : الآيات ٢ - ٤ ] والمعطوفون هم الأولون، إلا أن الصفات اختلفت فجاء العطف نظر لتغاير الصفات. ونظيره في القرآن أيضا قوله تعالى :﴿ سبح اسم ربك الأعلى ( ١ ) الذي خلق فسوى ( ٢ ) والذي قدر فهدى ( ٣ ) والذي أخرج المرعى ( ٤ ) ﴾ [ الأعلى : ١ - ٤ ] فالمتعاطفات شيء واحد عطف بعضها على بعض نظرا لتغاير الصفات، وهذا الأسلوب معروف في كلام العرب، ومن شواهده العربية قول الشاعر :
إلى الملك القرم وابن الهمام | وليث الكتيبة في المزدحم |
ومرض القلوب جاء في القرآن على معنيين :
أحدهما : مرض القلوب بمعنى ما يداخلها من الشرك والشك والنفاق، كقوله :﴿ في قلوبهم مرض فزادهم الله مرض ﴾ [ البقرة : الآية ١٠ ].
المعنى الثاني : إطلاق مرض القلب على القلب الذي يهوى الفجور والزنى ونحو ذلك، ومنه بهذا المعنى قوله في سورة الأحزاب مخاطبا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ فلا تخضعن بالقول فيطمع الذي في قلبه مرض ﴾ [ الأحزاب : الآية ٣٢ ] أي : يطمع في نيل الريبة منكن الذي في قلبه مرض. ميل إلى الفجور وما لا ينبغي، والعرب تعرف هذا، الذي ينطوي قلبه على أمور خسيسة، تقول العرب : في قلبه مرض، ومن هذا المعنى قول الأعشى – ميمون بن قيس – وهو عربي فصيح يمدح رجلا :
حافظ للفرج راض بالتقى | ليس ممن قلبه فيه مرض |
وذهبت جماعة من العلماء إلى أن ﴿ الذين في قلوبهم مرض ﴾ في هذه الآية من سورة الأنفال خص بها أناس معروفون هم الذين بسط الله قصتهم في سورة النساء، وهم قوم تكلموا بكلمة الإسلام فقالوا : لا إله إلا الله محمد رسول الله في مكة، ثم إنهم أبوا أن يهاجروا، وفي قلوبهم إسلام وإيمان ضعيف في قلوبهم على حرف هكذا وهكذا. وإذا قيل لهم : لم لا تهاجرون وأنتم مسلمون ؟ قالوا : نحن مستضعفون في الأرض. وهم الذين أنزل الله فيهم :﴿ إن الذين توفهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله وسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأوهم جهنم ﴾ الآية [ النساء : ٩٧ ]. قالوا : جاؤوا مع كفار قريش فلما رأوا قلة المسلمين – وكان الله قلل المسلمين في أعين الكفار، والكفار في أعين المسلمين كما أوضحنا قريبا في قوله :﴿ وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرا كان مفعولا ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٥ ] لما رأوا قلتهم وقللهم الله في أعينهم جدا – قالوا : هؤلاء قوم مغرورون، غرهم دينهم ! ! وزعموا أنهم على دين يؤيد القليل المتمسك به على الكثير فاغتروا من هنا، وهؤلاء سيغلبون ويقتلون قطعا ! ! وهؤلاء المستضعفون الذين نزل فيهم :﴿ إن الذين توفهم الملئكة ﴾ [ النساء : الآية ٩٧ ] نفر من قريش معروفون، آمنوا بالله إيمانا ضعيفا ولم يهاجروا، وجاؤوا مع الكفار يوم بدر، قال بعض العلماء : وهم الذين قالوا مع المنافقين :﴿ غر هؤلاء دينهم ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٩ ] وهم معروفون، وهم : العاص بن منبه بن الحجاج السهمي، وعلي بن أمية بن خلف الجمحي، وأبو قيس بن الفاكه ابن المغيرة بن عبد الله بن عمرو بن مخزوم، وابن عمه أبو قيس بن الوليد ابن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، هؤلاء هم النفر المعروفون الذين قالوا : إنا ﴿ كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ﴾ [ النساء : الآية ٩٧ ] وعلى كل حال فلما التقى المسلمون والمشركون يوم بدر كان الذين في قلوبهم مرض من المنافقين، أو المشركين، أو هؤلاء النفر القليلين الذين آمنوا إيمانا ضعيفا في مكة وخرجوا مع الكفار يوم بدر وقتلوا كفارا – والعياذ بالله – قالوا :﴿ غر هؤلاء دينهم ﴾ الإشارة في قوله :﴿ هؤلاء ﴾ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه و ﴿ دينهم ﴾ فاعل ﴿ غر ﴾ يعني : غرهم دينهم حيث اغتروا به وظنوا أن المتمسك بهذا الدين ولو كان قليلا ضعيفا يغلب القوي العظيم فاغتروا، وسيكون هذا الغرور سببا لهلاكهم ! ! والعرب تقول : " غره يغره غرورا " على غير قياس. والفاعل : غار، والمفعول : مغرور، إذا خدعه. وهم نسبوا هنا الغرور إلى الدين زاعمين أنهم انخدعوا في دينهم حيث يظنون أن القليل المتمسك به يغلب القوي غير المتمسك به، وهذا المعنى معروف في كلام العرب، تقول : غره يغره. إذا خدعه، ومنه سمي الشيطان غرورا لكثرة غروره للآدميين بتزيينه ووساوسه، كما قال تعالى :﴿ ولا يغرنكم بالله الغرور ﴾ [ فاطر : الآية ٥ ] ومن هذا المعنى قول ابن أبي ربيعة أو غيره :
إن امرأ غره منكن واحدة | بعدي وبعدك في الدنيا لمغرور |
والعزيز : هو الغالب الذي يقهر غيره ويغلبه فالله ( جل وعلا ) عزيز غالب على أمره. والعزة في لغة العرب : الغلبة ﴿ ولله العزة ولرسوله ﴾ [ المنافقون : الآية ٨ ] أي : ولله الغلبة ولرسوله. ﴿ وعزني في الخطاب ﴾ [ ص : الآية ٢٣ ] يعني : غلبني في المخاصمة. والعرب تقول : " من عز بز " يعنون : من غلب استلب لأنه كان الغالب ينهب مال المغلوب، ويقولون : " من عز بز "، وقد قالت الخنساء بنت عمرو الشريد السليمة الشاعرة :
كأن لم يكونوا حمى يختشى | إذ الناس إذ ذاك من عز بزا |
ليت شعري واين مني ( ليت ) | إن ( ليتا ) وإن ( لوا ) عناء |
ألام على ( لو ) ولو كنت عالما | بأذناب ( لو ) لم تفتني أوائله |
فلو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا *** ومن دونه رمسينا من الأرض منكب
لظل صدى صوتي وإن كنت رمة *** لصوت صدى ليلى يهش ويطرب
﴿ ولو ترى ﴾ يا محمد صلوات الله وسلامه عليه ﴿ ترى إذ يتوفى ﴾ ترى حين يتوفى الملائكة.
قرأ هذا الحرف عامة القراء السبع غير ابن عامر :﴿ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ﴾ بالياء. وقرأه ابن عامر وحده :﴿ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة ﴾.
وتتوفاهم : أصل التوفي في لغة العرب التي نزل بها القرآن معناه : أخذ الشيء وافيا : تقول العرب : " توفيت ديني "، أي : أخذته وافيا. وكان حقيقة عرفية في أخذ الروح من البدن. فصار التوفي حقيقة عرفية في أخذ الروح وافية كاملة من البدن بحيث لم يبق فيه روح ألبتة.
والملائكة : جمع ملك. والتحقيق عند جماعة من العلماء : أن اشتقاق الملك من الألوكة، والألوكة : الرسالة، لأن لطالب العلم أن يقول : مفرد الملائكة ملك، وجمعه : الملائكة – بالهمزة – فمن أين جاءت هذه الهمزة ؟ وما الجالب لها ؟
والجواب عن هذا : ما قاله بعض العلماء : أن أصل الملك :( مألك ) ( مفعل ) من الألوكة. والألوكة في لغة العرب : الرسالة. وألكني إليه : احمل إليه مألكتي، أي : رسالتي، ومنه قول أبي ذؤيب الهذلي :
ألكني إليها وخير الرسول *** أعلمهم بنواحي الخير
فأصله :( مألك ) لأنهم يحملون مآلك الله، أي : رسالات الله، منهم من يرسل لتسخير المطر، ومنهم من يرسل لقبض الأرواح، ومنهم من يرسل لضبط الأعمال، ومنهم من يرسل لحفظ بني آدم أن تتخطفهم الشياطين، كما قال تعالى عنهم :﴿ فالمدبرات أمرا ( ٥ ) ﴾ [ النازعات : الآية ٥ ] فلما كانوا يحملون المآلك، أي : الرسائل من الله في الشئون الشتى قيل فيه :( مألك ). ثم وقع فيه قلب فعل الفاء مكان العين، والعين مكان الفاء، وهذا القلب معروف في الصرف، فقيل فيه :( ملك ) ووزنه :( مألك ) ( مفعل ) فقلب فصار ( ملك ) على وزن ( معفل ) ثم نقلت حركة الهمزة للام فقيل فيه :( ملك ). فكان عند جمع التكسير تظهر الهمزة التي هي في أصله في محلها الذي قلبت فيه، قال بعض العلماء : هذا أصله. و ﴿ الملئكة ﴾ فاعل ﴿ تتوفى ﴾ أي : تقبض أرواحهم من أجسادهم كاملة. والفعل المضارع في قوله :﴿ يضربون ﴾ جملته حالية. وأصل الفعل المضارع المثبت إذا كانت جملته حالية لا تربط بالواو بل بالضمير كما هنا ﴿ يضربون ﴾ أي : الملائكة. يعني : يتوفون يأخذون أرواحهم في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدبارهم. الوجوه : جمع الوجه. الأدبار : جمع الدبر، وقال جماعة من السلف : المراد بالأدبار : الأستاه – أكرمكم الله جل وعلا – قالوا : ولكن الله ( جل وعلا ) حيي كريم يكني، فكنى عن الاست بالدبر، ولذا قال :﴿ يضربون وجوههم وأدبرهم ﴾.
وقوله :﴿ ذوقوا عذاب الحريق ﴾ مقول قول محذوف، أي : ويقولون لهم : ذوقوا عذاب الحريق.
اختلف العلماء في وقت ذوقهم عذاب الحريق، قال بعض العلماء : هو عند وفاتهم عندما يأخذون أرواحهم يضربون بسياط من نار فتشتعل نارا فيقولون لهم :﴿ ذوقوا عذاب الحرق ﴾.
وقال بعض العلماء : هي للملائكة الذين قاتلوا في بدر يضربون الكفار، ويأخذون أرواحهم، ويضربونهم بسياط النار فتشتعل في جروحهم فيقولون لهم :﴿ ذوقوا عذاب الحريق ﴾.
وقالت جماعة من العلماء : هذا يوم القيامة : وممن قال به : الحسن البصري، أي : يضربون وجوهم وأدبارهم الآن عند الاحتضار، ويبشرونهم يوم القيامة بما هو أدهى من ذلك، وهو عذاب الحريق. وهذا معنى قوله : توفاهم ﴿ الملئكة يضربون وجوههم وأدبرهم وذوقوا عذاب الحريق ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٠ ].
والتحقيق أن هذا ليس خاصا بالذين قتلوا من الكفار يوم بدر، بل هو عام، وأن الملائكة تضرب الكفار عند احتضارهم على الوجوه والأدبار، كما جاء مصرحا به في سورة القتال، وجاء مشارا إليه في الأنعام، لأن الله قال في الأنعام :﴿ ولو ترى إذ الظلمون في غمرت الموت والملئكة باسطوا أيديهم ﴾ [ الأنعام : الآية ٩٣ ] باسطوها إليهم بالضرب – والعياذ بالله – وقال ( جل علا ) في سورة القتال :﴿ الشيطان سول لهم وأملى لهم ( ٢٥ ) ذلك بأنهم قالوا للذين كرهوا ما نزل الله سنطيعكم في بعض الأمر والله يعلم إسرارهم ( ٢٦ ) ﴾ وفي القراءة الأخرى :﴿ إسرارهم ( ٢٦ ) فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبرهم ( ٢٧ ) ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعملهم ( ٢٨ ) ﴾ [ محمد : الآيات ٢٥ - ٢٨ ] فدلت آية القتال هذه على أنها ما يسخط الله يأتيه هذا الوعيد الشديد، ومن أعظم الناس نصيبا فيه هؤلاء الذين يأتون الكفرة الفجرة الذين يكرهون القرآن وما أنزل الله، ويقولون لهم :﴿ سنطيعكم في بعض الأمر ﴾ [ محمد : الآية ٢٦ ] وأحرى إن أطاعوهم في كل الأمر، هؤلاء أكثر الناس نصيبا في ضرب الملائكة عند الاحتضار على الوجوه والأدبار – والعياذ بالله – وهذا معنى فوله :﴿ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملئكة يضربون وجوههم وأدبرهم ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٠ ] قال بعض العلماء : الضرب على الوجوه والأدبار أشد وقعا. وقال بعض العلماء : على القول بأنها في أهل بدر أنهم يضربون وجه المشرك مقبلا، فإذا فر مدبرا ضربوا دبره. وقد قدمنا أن التحقيق العموم، وأنها لا تختص بمن قتل في بدر. وهذا معنى قوله :﴿ يضربون وجوههم وأدبرهم وذوقوا عذاب الحريق ﴾. قال بعض العلماء : ذوق عذاب الحريق عند الاحتضار، لأن المقامع التي يضربونهم بها تلتهب عليهم نارا.
وقال بعض العلماء : يبشرون بالحريق يوم القيامة. ولا مانع من وقوع الكل. هذا معنى قوله :﴿ وذوقوا عذاب الحريق ﴾. وجواب ( لو ) في هذه الآية محذوف، وتقديره : لو ترى يا محمد حين يتوفى الملائكة الكفرة في حال كونهم ضاربين وجوههم وأدبارهم مبشرين لهم بالحريق، لو ترى ذلك الوقت لرأيت أمرا فظيعا شنيعا يجب الحذر منه، وجواب ( لو ) حذفه إذا دل المقام عليه أسلوب عربي معروف يكثر في القرآن العظيم وفي لسان العرب، ومنه في القرآن العظيم :﴿ كلا لو تعلمون علم اليقين ( ٥ ) ﴾ [ التكاثر : الآية ٥ ] أي : لو تعلمون علم اليقين لما ألهاكم التكاثر حتى زرتم المقابر، ونظيره من كلام العرب في حذف جواب ( لو ) قول الشاعر :
فأقسم لو شيء أتانا رسوله *** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا
أي : لو شيء سواك لرددناه.
وقال جل وعلا :﴿ ولو أن قرءانا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى ﴾ [ الرعد : الآية ٣١ ] ولم يذكر جواب ( لو ) وقال بعض العلماء : جوابه : لو أن قرآنا سيرت به الجبال لكان هذا القرآن على حد قوله :
ولو طال ذو حافر قبلها *** لطارت ولكنه لم يطر
وقال بعض العلماء : جواب ( لو ) المحذوف في آية الرعد ﴿ لو أن قرآنا سيرت به الجبال ﴾ لو سيرنا الجبال بالقرآن وقطعنا به الأرض لكفرتم بالرحمن. ويدل على هذا التقدير الأخير قوله قبله :﴿ وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي ﴾ الآية [ الرعد : الآية ٣٠ ]. وهذا معنى قوله :﴿ ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملئكة يضربون وجوههم وأدبرهم وذوقوا عذاب الحريق ( ٥٠ ) ذلك بما قدمت أيديكم ﴾ [ الأنفال : الآيتان ٥٠، ٥١ ].
وقال بعض العلماء : هو كلام مؤتنف، أي : ذلك العذاب الكائن الواقع لكم بسبب ما قدمت أيديكم. جرت العادة في لسان العرب الذي نزل به القرآن أن يضاف جميع الأعمال إلى الأيدي وإن كان بعضها ليس بأيدي، فإن الشرك الذي يعذبون عليه محله القلب واللسان واليد، والزنى محله الفرج، وأكل الربا محله البطن، ولكن كل هذا ينسب إلى الأيدي على الأسلوب العربي المعروف، لأن أكثر ما يزاول الإنسان أعماله بيده فنسب إليه على التغليب ومراعاة الأغلب ١.
والمراد ﴿ بما قدمت أيديكم ﴾ ما كسبتم من المعاصي والكفر، سواء كان الذي اجترمته القلوب، أو الألسنة، أو الأيدي، أو غير ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلم للعبيد ( ٥١ ) ﴾ [ الأنفال : الآية ٥١ ].
قال بعض العلماء : المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها في قوله :﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾ في محل خفض معطوف على الموصول المجرور ( بما ) أي : ذلك بسبب الذي قدمته أيديكم، وبسبب أن الله لا يظلم، فبكفركم وبعدالة ربكم وكمال إنصافه جاءكم العذاب، لأن بهذين السببين يتوجه إليكم العذاب، كونكم اقترفتموه واكتسبتموه بأيديكم، وكون ربكم ( جل وعلا ) حكما عدلا منصفا، فتعذيبه ومؤاخذته للعاصي، كما أنه يثيب المطيع، فظلمكم وعداوة ربكم كل ذلك اقتضى لكم ما وقع لكم من العذاب والعياذ بالله جل وعلا ﴿ وأن الله ﴾ جل وعلا ﴿ ليس بظلام للعبيد ﴾ فيه في هذه الآية الكريمة والآيات المماثلة لها من القرآن إشكال عربي معروف يدور فيه سؤال مشهور على ألسنة العلماء وطلبة العلم، وهو أن يقال : الله ( جل وعلا ) في هذه الآية الكريمة نفى المبالغة، لأنه قال :﴿ ليس بظلام ﴾ و ( ظلام ) ( فعال ) و ( الفعال ) صيغة مبالغة، والمقرر في اللغة العربية التي بها نزل القرآن أن نفي المبالغة لا يقتضي نفي أصل الفعل من حيث هو ٢، فلو قلت : زيد ليس بقتال للرجال، نفيت عنه المبالغة في القتل، ولا ينافى أنه ربما قتل رجلا أو رجلين، ولو قلت : زيد – مثلا – ليس بضراب لنسائه. يدل على انتفاء كثرة الضرب عنه، ولا ينافي أنه ربما وقع منه ضرب قليل كما هو معروف، فنفي المبالغة هنا لا يقتضي نفي أصل الفعل من حيث هو، والمقام مقام تنزيه، ونفي الأدنى أبلغ من نفي الأعلى، فلم عبر هنا بصيغة المبالغة ولم يقل : ليس بظالم. أو ليس بذي ظلم للعبيد ؟ !
أجاب العلماء على ذا بأجوبة ٣ : قالوا جرت العادة في القرآن أن بعض الآيات قد يكون فيها شبه إجمال وتبينه آيات أخر، وقد أوضحت آيات أخر أن الله لا يظلم شيئا، كقوله :﴿ إن الله لا يظلم مثقال ذرة ﴾ [ النساء : الآية ٤٠ ] ﴿ إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون ( ٤٤ ) ﴾ [ يونس : الآية ٤٤ ] فالآيات الواضحات بينت هذا وأوضحته غاية الإيضاح.
وقال بعض العلماء : المبالغة هنا لا يقصد بها أصل المبالغة، لأن التكثير نظرا إلى كثرة العبيد، لأن الظلم لما تعلق بالعبيد وكان العبيد في كثرة هائلة كان الظلم كثيرا جدا لكثرة من هو منفي عنهم، ولذا كان نفيه نفيه من أصله، لأن الكثرة فيه والمبالغة بحسب العبيد اللذين يقع عليهم الظلم.
وقال بعض العلماء :- وهي نكتة حسنة – أن هذا العذاب الذي يعذبهم الله به هو عذاب فظيع هائل لا يقادر قدره ولا يماثل مثله فلو وقع منه ظلما لكان مبالغا في غاية الظلم مبالغة عظيمة، فنفي المبالغة بهذا الاعتبار، ومعناها نفي الفعل من أصله. وهذا الوجه حسن جدا، إلا أن فيه دقة. وهذا معنى قوله :﴿ وأن الله ليس بظلام للعبيد ﴾ [ الأنفال : الآية ٥١ ].
٢ انظر: الإتقان (٣/ ٢٣٣)، الكليات ٨٨٩..
٣ انظر: البحر المحيط (٣/ ١٣١)، الدر المصون (٣/ ٥١٥)، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن ١٠١، الإتقان (٣/ ٢٣٣)، الكليات ٨٨٩ القاسمي (٤/ ٣٠٩)..
وقوم صالح وقوم شعيب وقوم لوط، كل هؤلاء كانوا في غاية التمرد والعتو وتكذيب الرسل بعد قيام المعجزات ووضوح الحق. بين الله ( جل وعلا ) أن كفار قريش دأبهم كدأب أولئك. والدأب في لغة العرب : العادة. فكل من يجري على سنن مطرد وعادة ووتيرة تقول العرب : هذا دأبه. أي : عادته وديدنه الذي يسير عليه دائما. ومنه قول امرئ القيس في إحدى روايتي بيته ٢ :
كدأبك من أم الحويرث قبلها | وجارتها أم الرباب بمأسل |
والمعنى : دأب هؤلاء الكفرة دأبهم وديدنهم مثل دأب آل فرعون في تكذيب الرسل، لأن فرعون كلما جاءته آية يقول :﴿ لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسراءيل ( ١٣٤ ) فلما كشفنا عنهم الرجز إلى أجل هم بلغوه إذا هم ينكثون ( ١٣٥ ) ﴾ [ الأعراف : الآيتان ١٣٤، ١٣٥ ] حتى صارحوه في آخر الأمر وقالوا له :﴿ مهما تأتنا به من ءاية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين ﴾ [ الأعراف : الآية ١٣٢ ] يعني : دأب هؤلاء الكفرة من قريش ومن سار سيرهم كدأب الكفرة العتاة المتمردين من الأمم الماضية آل فرعون والذين من قبلهم، كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وقد قدمنا قصصهم مفصلة في سورة الأعراف وغيرها. وهذا معنى قوله :﴿ كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٢ ].
ثم فسر دأب آل فرعون ومن قبلهم وبين عادتهم، قال :﴿ كفروا بئايت الله ﴾ كفروا بها : جحدوا بها. وآيات الله : ما تتلوه عليهم الرسل من آياته الشرعية الدينية، وما يعاينونه من المعجزات من آياته الكونية القدرية، وهذا معنى قوله :﴿ كفروا بئيت الله فأخذهم الله بذنوبهم ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٢ ] العرب تقول : " أخذه الله " إذا عاقبه عقابا شديدا أليما. وقد روى البخاري ومسلم في صحيحيهما ( رحمهما الله ) من حديث أبي موسى الأشعري ( رضي الله عنه ) أن النبي ( صلوات الله وسلامه عليه ) قال : " إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته " ثم تلا صلى الله عليه وسلم قوله تعالى :﴿ وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظلمة إن أخذه أليم شديد ( ١٠٢ ) ﴾ [ هود : الآية ١٠٢ ] ٣ ﴿ فأخذهم الله بذنوبهم ﴾ أي : أهلكهم وعاقبهم العقاب الشديد بسبب ذنوبهم والذنب : هو الجريمة التي يستحق صاحبها النكال. وهذا معنى قوله :﴿ فأخذهم الله بذنوبهم ﴾.
﴿ إن الله قوي ﴾ القوة : ضد الضعف، وقد بين ( جل وعلا ) أن القوة ضد الضعف في قوله :﴿ الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة.... ﴾ الآية [ الروم : الآية ٥٤ ]. وهذا معنى قوله :﴿ إن الله قوي ﴾ لأن الله ( جل وعلا ) قوي، هو أقوى من كل شيء، حتى لما قال عاد ما قالوا ﴿ من أشد منا قوة ﴾ قال لهم :﴿ أولم يروا أن الله الذي خلقهم هم أشد منهم قوة ﴾ [ فصلت : الآية ١٥ ].
﴿ شديد العقاب ﴾ العقاب : النكال الشديد لأجل الذنب. قال بعض العلماء : سمي عقابا لأنه يأتي عقب الذنب من أجله. وقد بينا مرارا أن الله ( جل وعلا ) في كتابه ينوه بشدة عقابه ﴿ شديد العقاب ﴾ ﴿ شديد العذاب ﴾ [ البقرة : الآية ١٢٥ ] ﴿ عذاب أليم ﴾ [ البقرة : الآية ١٧٤ ] ﴿ عذاب شديد ﴾ [ إبراهيم : الآية ٢ ] ونحو ذلك من تشنيع عذابه وفظاعته، وإن الأمر كذلك ؛ لأنه ليس يوجد عذاب هو في غايته شديد فظيع إلا عذاب الله ( جل وعلا ) ﴿ فيومئذ لا يعذب عذابه أحد ( ٢٥ ) ولا يوثق وثاقه أحد ( ٢٦ ) ﴾ [ الفجر : الآيتان ٢٥، ٢٦ ] لأن الناس إذا عذبوا المجرمين، والملوك الطغاة البغاة إذا أرادوا أن يعذبوا لا يستطيعون من العذاب إلا قدر ما يستوجب الموت مرة واحدة، فإذا شددوا العذاب على المعذب بقدر ما يستوجب الموت مرة واحدة، فإذا شددوا العذاب على المعذب بقدر ما يميته مات وانتهى الأمر، أما خالق السماوات والأرض ( جل وعلا ) فإنه يعذبه بالآلاف مما يستوجب الموت وهو لا يموت. ﴿ ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ﴾ [ إبراهيم : الآية ١٧ ] وقال جل وعلا :﴿ كلما نضجت جلودهم بدلنهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب ﴾ [ النساء : الآية ٥٦ ] ﴿ لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها ﴾ [ فاطر : الآية ٣٦ ] ﴿ نادوا يملك ليقض علينا ربك قال إنكم مكثون ( ٧٧ ) ﴾ [ الزخرف : الآية ٧٧ ] فهذا العذاب الذي لا تقطعه الموت ولا غيرها هو الذي يخاف منه ويحذر منه، وهو الشديد بمعنى الكلمة، فعلى كل عاقل أن يتحفظ منه ويتحرز منه في دار الدنيا مع إمكان الفرصة قبل أن يفوت الأوان ويندم حيث لا ينفع الندم، وهذا معنى قوله :﴿ إن الله قوي شديد العقاب ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٢ ].
٢ ديوانه ص ١١١..
٣ مضى عند تفسير الآية (٤٢) من سورة الأنعام..
وهذه الآية الكريمة وأمثالها في القرآن يجب الاعتبار بها، وأن الإنسان لا يتسبب في تغيير نعمة الله عنه بتغييره ما في نقسه، بل يدوم على طاعة الله وتقواه ؛ لأنه إذا تنكر لربه قد يغير نعمته عنه وينقله من النعمة إلى النقمة، ومن السلامة إلى العذاب.
وفي هذه الآية الكريمة إشكال معروف، وسؤال مشهور، وهو أن يقال : إن هؤلاء الكفرة كل أحوالهم خبيثة وخسيسة، فما غيروا الكفر إلا إلى كفر، فهم كانوا كفرة ولم يكونوا في حالة محمودة حتى يكونوا غيروا ما بأنفسهم، الذي كانوا فيه خبيث خسيس، والذي غيروا به خبيث خسيس، فبأي موجب كانت تتمادى عليهم النعمة الأولى، وبأي سبب كانوا يدخلون في قوله :﴿ ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ وهذا الإشكال قوي، ووجه واضح جدا، ولا يمكن أن يخرج من الآية لأن الآية نازلة في الكفار، فرعون ومن سار على سيره، وكفار مكة الذين شبه دأبهم بدأبه، والمقرر في علم الأصول : أن صورة السبب لا يمكن أن تخرج من العام بمخصص، وهو التحقيق إن شاء الله ١. فبان استحكام هذا الإشكال وقوته.
وأجاب بعض العلماء ٢ عن هذا بأنهم كانوا في نعمة من الله لأنهم لم يأتهم رسول، وكانوا معذورين بالفترة، فأرسل الله إليهم الرسل، وبين لهم المعجزات، وأقام عليهم الحجج، فصاروا يحادون الله، ويكذبون رسله، ويعلمون الحق ويجحدون عنادا وطغيانا وتكبرا على ربهم، فانتقلوا من حال سيئة إلى حال أسوأ منها بأضعاف، فلما انتقلوا إلى حال أسوأ كانوا غيروا فغير الله ما بهم لما غيروا ما بأنفسهم بانتقالهم من سيء إلى أسوأ. وهذا معنى قوله :﴿ حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾ يعني : ما بأنفسهم بأن ينتقلوا من خير إلى شر. ودل هذا الجواب على أنه أيضا بأن ينتقلوا من سيئ إلى أسوأ منه وأفظع كما ذكرنا. وهذا معنى قوله :﴿ حتى يغيروا ما بأنفسهم ﴾.
﴿ وأن الله سميع عليم ﴾ عطف على ما قبله بأنه لم يك مغيرا، وبأنه سميع عليم لا يخفى عليه شيء من أقوال المغيرين المستوجبين لتغيير النعمة، ولا من أفعالهم.
وقد قدمنا مرارا ٣ أن مثل هذا هو الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم، وأوضحناه مرارا كثيرة. وهذا معنى قوله :﴿ وأن الله سميع عليم ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٣ ].
٢ انظر: البحر المحيط (٤/ ٥٠٧)..
٣ انظر: ص..
ومعنى قوله : كدأبهم ﴿ كدأب ءال فرعون ﴾ فرعون : تطلق على كل من ملك مصر. والمراد بهذه : فرعون موسى.
واختلف العلماء في لفظة ( فرعون ) هل هو عربي أو أعجمي ١ ؟ فقال بعضهم : أعجمي. وقال بعضهم : هو عربي مشتق من ( تفرعن ) الرجل إذا كان ذا دهاء ومكر، فكل من كان ذا دهاء ومكر هو متفرعن، وعلى أنه عربي فوزنه بالميزان الصرفي ( فعلول ) فعلول بلامين لا ( فعلون ) بنون ٢. وفرعون هو الوليد بن الريان أو غيره على ما شرحنا، وهذا معنى قوله :﴿ كدأب ءال فرعون والذين من قبلهم ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٥ ] ﴿ ءال فرعون ﴾ معناه : أهله وجماعته. والتحقيق في ألف ( الآل ) أنها مبدلة من واو ؛ لأن العرب تصغره على ( أويل ). وبعضهم يقول : هي مبدلة من هاء، أصله :( أهل ) ٣ ولا يقال :( الآل ) إلا لمن له شأن وخطب، وإنما قيل لفرعون :( آل فرعون ) مع أنه خسيس خبيث وضيع لعظمته ومكانته عند قومه أيام إرسال موسى له ؛ لأنه كان يقول :﴿ أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ( ٥٢ ) ﴾ [ الزخرف : الآية ٥٢ ] ﴿ أليس لي ملك مصر وهذه الأنهر تجري من تحتي ﴾ [ الزخرف : الآية ٥١ ] ﴿ أنا ربكم الأعلى ﴾ [ النازعات : الآية ٢٤ ] ﴿ ما علمت لكم من إله غيري ﴾ [ القصص : الآية ٣٨ ] فهذه العظمة الزائفة والأبهة المختلفة كأنه قيل له بها ( آل ).
﴿ ءال فرعون والذين من قبلهم ﴾ كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، ﴿ كذبوا بئايت ربهم ﴾ كذب قوم نوح بآيات الله التي أرسل بها نبيه نوحا، وقوم هود بآيات الله التي أرسل بها نبيه صالحا إلى آخره. وهذا معنى قوله ﴿ كذبوا بئايت ربهم ﴾.
﴿ فأهلكنهم بذنوبهم ﴾ وقد قدمنا تفصيل إهلاك هؤلاء الأمم، فبين في آيات كثيرة أنه أهلك قوم نوح بالطوفان ﴿ وقوم نوح لما كذبوا الرسل أغرقنهم ﴾ [ الفرقان : الآية ٣٧ ] وبين أنه أهلك قوم هود بالريح العقيم ﴿ ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم ( ٤٢ ) ﴾ [ الذريات : الآية ٤٢ ] وأنه أهلك قوم صالح بصيحة صاح بهم الملك ﴿ فأصبحوا في ديرهم جثمين ﴾ [ هود : الآية ٦٧ ] وأنه أهلك قوم شعيب تارة قال : بصيحة، وتارة قال : برجفة، وتارة بظلة. والتحقيق أن قوم شعيب – أهل مدين – اجتمعت لهم الصيحة والرجفة والظلة ؛ لأنه صاح بهم الملك من فوق فرجفت بهم الأرض من تحتهم، قم إن الله أرسل عليهم ظلة فأحرقتهم – على القول بأن أصحاب الظلة هم أصحاب الصيحة والرجفة، وهو أظهر الأقوال وأقربها – كما قدمنا إيضاحه في سورة الأعراف – وبينا أن قوم لوط أخذ الملك أرضهم فرفعها وقلبها عاليها سافلها ؛ ولذا كانت قرى قوم لوط تسمى ( المؤتفكات ) والمؤتفكات : مفتعلات من الأفك ٤، والأفك في لغة العرب هو القلب. من أفك الشيء إذا قلبه فجعل أسفه أعلاه. ومنه قيل لأسوأ الكذب ( إفكا ) لأنه قلب الحقائق عن مواضعها. فقال ( جل وعلا ) فيهم :﴿ فجعلنا عليها سافلها ﴾ [ هود : الآية ٨٢ ] لأنها أفكها الملك أي : قلبها. فالمؤتفكات : المنقلبات المجعول أسفلها عاليها، تارة عبر عنها بالمؤتفكة نظرا إلى سدوم التي هي عاصمتها، وتارة عبر عن جميع القرى، قال في موضع :﴿ المؤتفكة أهوى ( ٥٣ ) ﴾ [ النجم : الآية ٥٣ ] وقال في موضع :﴿ المؤتفكات أتتهم رسلهم بالبينت ﴾ [ التوبة : الآية ٧٠ ] إلى غير ذلك، وهذا معنى قوله :﴿ فأهلكنهم بذنوبهم وأغرقنا ءال فرعون ﴾ بين هنا ما فعل بآل فرعون ؛ لأنه أغرقهم لما أسرى موسى ببني إسرائيل وضرب بعصاه البحر فانفلق البحر وصار فيه اثنى عشر طريقا يبسا، وسلكها موسى وقومه، فجاء فرعون في قومه وأبهته فوجدوا الطرق يبسا، فدخلوا فيها حتى تكامل خروج بني إسرائيل على الشاطئ، ودخول القبطيين في البحر، أمر الله البحر فاضطرب عليهم، كما جاء مبينا في سور كثيرة من كتاب الله. وهذا معنى قوله :﴿ وأغرقنا ءال فرعون ﴾.
﴿ وكل كانوا ظلمين ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٤ ] وكل من آل فرعون ومن قبلهم من الأمم كقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، والكفرة الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم كل هؤلاء الكفرة كانوا ظالمين، ظالمين بكفرهم.
وقد قدمنا مرارا ٥ أن أصل الظلم في لغة العرب التي نزل بها القرآن : هو موضع الشيء في غير محله، فكل من وضع شيئا في غير محله فهو ظالم، هذا لسان العرب الذين نزل به القرآن، كل من وضع شيئا في غير موضعه فقد ظلم ؛ ولذا كانوا يقولون لمن يضرب لبنه قبل أن يروب : ظالم. ويقولون للسقاء المضروب قبل أن يروب : مظلوم. لأن الضرب وقع في غير موضعه، لأن ضربه قبل أن يروب يذهب زبده ويضيعه، فكان في غير موضعه، وهو معنى معروف في كلامها، ومنه قول الشاعر ٦ :
وقائلة ظلمت لكم سقائي | وهل يخفى على العكد الظليم |
وصاحب صدق لم تردني شكاته | ظلمت وفي ظلمي له عامدا أجر |
إلا الأواري لأيا ما أبينها | والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد |
فأصبح في غبراء بعد إشاحة | من العيش مردود عليها ظليمها |
إذا عرفتم أن الظلم في لغة العرب : هو وضع الشيء في غير محله فاعلموا أن أعظم أنواعه وأشنعها هو وضع العبادة في غير من خلق. من خلقه الخالق ورزقه – جل وعلا – فعبد غيره فقد وضع عبادته وطاعته في غير موضعها فهو ظالم الظلم بمعناه الأكبر ومعنى الكلمة تماما ؛ ولأجل هذا المعنى كثر في القرآن إطلاق الظالم على الكافر المشرك، كقوله :﴿ والكفرين هم الظلمون ﴾ [ البقرة : الآية ٢٥٤ ] وقوله :﴿ ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظلمين ( ١٠٦ ) ﴾ [ يونس : الآية ١٠٦ ] ﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : الآية ١٣ ] وقد ثبت في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم فسر قوله :﴿ الذين ءامنوا ولم يلبسوا إيمنهم بظلم ﴾ [ الأنعام : الآية ٨٢ ] قال : " بشرك "، ثم تلى قوله تعالى :﴿ إن الشرك لظلم عظيم ﴾ [ لقمان : الآية ١٣ ] ١٠ وكذلك يطلق الظلم على المعصية التي لا تبلغ الكفر ؛ لأن العاصي أطاع الشيطان وعصى الله، فقد وضع طاعته في غير موضعها، ووضع معصيته في غير موضعها فهو ظالم بهذا الاعتبار، فهذا معنى قوله :﴿ وكل كانوا ظلمين ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٤ ] والتنوين في قوله :﴿ وكل ﴾ تنوين عوض، عوض عن كلمة المضاف إليه، أي : وكلهم كانوا ظالمين. فعوض التنوين عن المحذوف كما هو معروف في محله.
٢ السابق..
٣ السابق..
٤ مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأعراف..
٥ مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة..
٦ السابق..
٧ السابق..
٨ السابق..
٩ السابق..
١٠ مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة البقرة..
نزلت هذه الآيات في بني قريظة من اليهود ١، كانوا تعاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتلوه ولا يعينوا عليه عدوا، ثم إنهم نقضوا العهد وأعانوا كفار مكة بالسلاح، وذهب إليهم كعب بن الأشرف – قبحه الله – إلى أهل مكة يشجعهم على قتال النبي صلى الله عليه وسلم ويكذب عليهم ويقول لهم : أنتم أهدى طريقا من محمد صلى الله عليه وسلم كما قدمنا الكلام عليه في تفسير قوله :﴿ ويقولون للذين كفروا أهؤلاء أهدى من الذين ءامنوا سبيلا ﴾ [ النساء : الآية ٥١ ] نقض بنو قريظة العهد أولا فأعانوا قريشا بالسلاح على النبي صلى الله عليه وسلم – والإعانة بالسلاح نقض للعهد الأول- فلما كلمهم صلى الله عليه وسلم في نقض ذلك العهد قالوا : نسينا وأخطأنا فلا تأخذنا بها. وأكدوا معه العهد مرة أخرى، ثم نقضوا العهد ومالؤوا الأحزاب على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق، وكانوا حربا عليه مع المشركين ؛ لأن حيي بن أخطب سيد بني النضير كان فتن سيد قريظة كعب بن أسد حتى نقضوا العهد وصاروا مع الأحزاب حربا على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله فيهم :﴿ إن شر الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا يؤمنون ( ٥٥ ) ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٥ ].
الدواب : جمع دابة، وقد جرت العادة في القرآن أن الآدميين لا يعبر عنهم بالدواب، لكنه هنا عبر عن هؤلاء الكفرة باسم الدواب : ليشير إلى أنهم كالأنعام بل هم أضل، كما قال :﴿ إن هم إلا كالأنعم بل هم أضل ﴾ [ الفرقان : الآية ٤٤ ] والدواب : جمع دابة. وأصل الدابة وزنه ( فاعلة ) ( داببة ) جاء فيه الإدغام. وجمع ( الفاعلة ) مطلقا على ( فواعل ) جمع تكسير مقيس بقياس مطرد كما هو معروف في محله ٢. أي : إن شر جميع ما يدل على وجه الأرض من الدواب هم الكفار ؛ لأنهم شر كل ما يدب على وجه الأرض، فقوله هنا :﴿ إن شر الدواب ﴾ هي صيغة تفضيل، أصله : إن أشر الدواب، أي : أكثرها وأعظمها نصيبا في الشر الذين كفروا. إلا أن ( خيرا ) و ( شرا ) لكثرة الاستعمال فيهما حذفت العرب منهما همزة أفعل التفضيل، وهما صيغتا تفضيل، فقوله :﴿ إن شر الدواب ﴾ أي : أكثر الدواب التي تدب على وجه الأرض ضرا وأعظمها نصيبا في الشر – وهو ضد الخير – ﴿ الذين كفروا ﴾ كبني قريظة ﴿ فهم لا يؤمنون ﴾ لأن الكفر متغلغل في أعماقهم لا يقلعون عنه، وهم أشقياء قد سبق في علم الله أنهم لا يؤمنون.
٢ مضى عند تفسير الآية (١٠١) من سورة الأنعام..
﴿ الذين عهدت منهم ﴾ المقرر في فن التصريف : أن كل فعل جاء على وزن ( فاعل ) كقوله هنا ﴿ عهدت منهم ﴾ أو على وزن ( تفاعل ) إنه يقتضي اشتراك المصدر بين فاعلين ١. فمعنى ﴿ عهدت ﴾ أخذت عليهم العهد وأخذوا عليك العهد ؛ لأن ( فاعل ) تقتضي الطرفين.
والعهد : كل شيء مؤكد لا يجوز نقضه تسميه العرب عهدا. والميثاق : العهد المؤكد. ﴿ الذين عهدت منهم ﴾ وهم يهود بني قريظة ألا يحاربوك وألا يعاونوا عليك محاربا آخر ﴿ ثم ﴾ بعد هذا العهد المؤكد ﴿ ينقضون عهدهم ﴾ قال بعض العلماء :( ثم ) هنا للاستبعاد ؛ لأنه يستبعد من العاقل الذي عنده عقله أن يجعل على نفس العهود والمواثيق المؤكدة ثم ينقض
ذلك ؛ لأن هذا الفعل خسيس قبيح يستبعد من العقلاء. وقد تقرر في كلام العرب وفي القرآن لفظة ( ثم ) التي هي للانفصال والتراخي قد تأتي للاستبعاد، كقوله تعالى :﴿ الحمد لله الذي خلق السموات والأرض وجعل الظلمات والنور ﴾ [ الأنعام : الآية ١ ] لأن من خلق السماوات والأرض وخلق الظلمات والنور يستبعد كل الاستبعاد أن يجعل له عديل ونظير، لذا قال :﴿ ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ﴾ [ الأنعام : الآية ١ ] أي : يجعلون له عدلا ونظيرا. تقول : عدلت به إذا جعلت له عدلا ونظيرا، ومنه قول جرير ٢ :
أثعلبة الفوارس أو رياحا | عدلت بهم طهية والخشابا |
ولا يكشف الغماء إلا ابن حرة | يرى غمرات الموت ثم يزورها |
﴿ ثم ينقضون عهدهم ﴾ نقض العهد هو عدم الوفاء به ونكثه ﴿ عهدهم في كل مرة ﴾ كما نقضوا في المرة الأولى حيث أعانوا كفار مكة بالسلاح، ونقضوا في المرة الثانية حيث صاروا مع الأحزاب على النبي وأصحابه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم. وهذا معنى قوله :﴿ ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون ﴾ لا يتقون الله ( جل وعلا ) فيجترئون على نقض العهود وعلى كل جريمة، ليس لهم تقوى من الله تحملهم على امتثال أمره واجتناب نهيه – وهذه العياذ بالله – أمور قبيحة حيث كانوا شر الدواب، وكانوا كافرين، ولا يؤمنون، وينقضون العهود، ولا يتقون الله، فهذا منتهى الذم – والعياذ بالله – هذا معنى قوله :﴿ وهم لا يتقون ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٦ ].
٢ مضى عند تفسير الآية (١٠١) من سورة الأنعام..
٣ مضى عند تفسير الآية (٧٤) من سورة البقرة..
والضمير في وقوله :﴿ لعلهم ﴾ راجع ل ﴿ من خلفهم ﴾ ﴿ لعلهم ﴾ أي : من خلفهم، من وراءهم ﴿ يذكرون ﴾ يعتبرون ويتعظون بالفعل العظيم الذي فعلت بهؤلاء فلا يجترئوا عليك بعدها. وهذا معنى قوله :﴿ فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٧ ] ولما مكن الله النبي صلى الله عليه وسلم من بني قريظة وحكم فيهم سعد الأوس سعد بن معاذ ( رضي الله عنه ) ؛ لأن النبي كان صلى الله عليه وسلم لما ظفر بيهود قينقاع جاءه عبد الله بن أبي رئيس المنافقين من الخزرج، وكان بنو قينقاع الخزرج، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : شفعني في حلفائي. فشفعه فيهم، فأجلوا إلى نواحي الشام، وطردوا من المدينة إلى نواحي الشام، فلما نزلوا ٢ على حكم النبي صلى الله عليه وسلم وأمكن منهم جاءت الأوس – كما ذكره غير واحد من أهل السير والأخبار – فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم/ شفعت إخواننا الخزرج في حلفائهم بني قينقاع، وهؤلاء بنو قريظة حلفاؤنا – لأن قريظة حلفاء الأوس – فشفعنا فيهم كما شفعت إخواننا في حلفائهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يكره ألا يجيب دعاءهم، ويكره ألا يشرد ببني قريظة ويفعل فيهم الأفاعيل، فتخلص من هذا وقال : " أحكم فيهم رجلا من خياركم هو سعد بن معاذ ". فقالوا : رضينا. فحكم فيهم سعد بن معاذ ( رضي الله عنه )، وكان سعد ( رضي الله عنه ) جرح في غزوة الخندق، جرحه حبان بن العرقة، أصابه في أكحله – وهو العرق الذي في العنق – وكان لما سال الدم من عرقه وخاف الموت كان دعا الله وقال : اللهم إن كنت أبقيت بين نبيك وبين كفار مكة حربا فأبقني لها لأني لا أحب أن أقاتل قوما مثل القوم الذي أخرجوا نبيك من بلده وفعلوا له وفعلوا، وإن كان في علمك أنه لم يبق بينه وبين قريش حرب فاجعل لي هذا الجرح شهادة، ولا تمتني حتى تقر عيني في بني قريظة. فلما حكمه النبي صلى الله عليه وسلم فيهم فجاء على حمار، لما جاء للتحكيم، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " قوموا لسيدكم " قال سعد ( رضي الله عنه ) : حكمت فيهم بأن يقتل رجالهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم. فأخبره صلى الله عليه وسلم أن هذا حكم الله فيهم من فوق سبع سماوات ٣.
لأنهم الذين نزل فيهم ؛ ﴿ فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ﴾. وكان بعض العلماء يقول : كل هذه الآيات نازلة في كفار مكة ؛ لأن هذه السورة كلها في وقعة بدر والله تعالى أعلم. وهذا معنى قوله :﴿ فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٧ ].
ثم قال تعالى معلما نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله ( جل وعلا ) علم نبيه صلى الله عليه وسلم هذه السورة الكريمة تعاليم عظيمة، وهي كلها تعاليم من أصول الجهاد، علمه الثبات والصمود أمام العدو، وعلمه فيها الاتصال بخالق السماوات والأرض عند التحام الصفوف، وعلمه كيف يخيف أعداءه بشدة الوقيعة فيمن قدر عليهم، وعلمه هنا كيف يصالحهم، وكيف ينبذ صلحهم، كل هذه تعاليم جهادية عسكرية من رب العالمين ( جل وعلا ) للنبي وأصحابه ؛ لأن هذا المحكم المنزل ينير معالم الطريق في جميع ميادين الحياة كائنة ما كانت ؛ ولذا قال :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٨ ]
٢ يعني: قريظة.
.
٣ خبر حكم سعد بن معاذ بني قريظة مخرج في الصحيحين من حديث:
عائشة (رضي الله عنها) عند البخاري في الصلاة، باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم. حديث رقم: (٤٦٣) (١/ ٦٦٣). وأطرافه في (٣٩٠١، ٤١١٧، ٤١٢٢). مسلم ف الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد... ، حديث رقم: (١٧٦٩) (٣/ ١٣٨٨).
أبي سعيد الخدري (رضي الله عنه) عند البخاري في المغازي، باب مرجع النبي صلى الله عليه وسلم من الأحزاب. حديث رقم: (٤١٢١) (٧/ ٤١١). ومسلم في الجهاد والسير، باب جواز قتال من نقض العهد.... ، حديث رقم: (١٧٦٨) (٣/ ١٣٨٨). إلا أن الحديث الذي في الصحيحين مختصر، وهو بسياقه الطويل مخرج في المسند (٦/ ١٤١ - ١٤٢)، وذكره ابن هشام في السيرة (٣/ ١٠٣١)، وابن كثير في تاريخه (٤/ ١٠٣)..
فإما تريني اليوم أصبحت سالما *** فلست بأحظى من كلاب وجعفر
وقول الحماسي ٤ :
زعمت تماضر أنني إما أمت *** يسدد أبينوها الأصاغر خلتي
وهو كثير في كلام العرب. وزعم جماعة من علماء العربية أن حذف النون في هذه الشواهد لضرورة الشعر، وأن النون واجبة. وزعم جماعة آخرون أنها لغة فصيحة لا ضرورة شعرية.
ومعنى قوله :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء ﴾ نزلت هذه الآية الكريمة في بني قريظة، قال بعض العلماء : في هذه الآية إشكال معروف ؛ لأن قوله :﴿ تخافن ﴾ الخوف يطلق على الظن الذي لا يستلزم اليقين، والعهد مؤكد متيقن، فكيف ينتقل عن حكم يقين العهد إلى ظن نقض العهد، والقاعدة المقررة في الأصول : أن اليقين لا يرتفع بالشك ٥ ؟
وأجاب العلماء عن هذا بجوابين ٦ :
أحدهما : هو – ما قدمنا مرارا – أن العرب ربما أطلقت الخوف وأرادت به العلم، كقوله :﴿ فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ﴾ [ البقرة : الآية ٢٢٩ ]. علمتم من قرائن أحوالهما ألا يقيما حدود الله. ﴿ إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله ﴾ أي : يعلما ألا يقيما حدود الله. ولا شك أن العرب تطلق الخوف على العلم اليقين، ومن شواهده قول أبي محجن، مالك بن حبيب الثقفي ٧ :
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة *** تروي عظامي في الممات عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني *** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
وهو يتيقن علما أنه إذا مات لا يذوقها، فقد أطلق ( أخاف ) وأراد ﴿ أعلم ﴾ وهو عربي فصيح. وعلى هذا القول ف ﴿ وإما تخافن ﴾ أي : إما تعلمن من قوم خيانة. وقال أكثر العلماء : إن كان بينك وبين قوم عهود ومواثيق – كالعهود التي كانت بينه صلى الله عليه وسلم وبين يهود بني قريظة – إن تخافن من هؤلاء القوم الذين كانت بينك وبينهم عهود تخافن منهم خيانة، أي : خيانة بنقض تلك العهود بأن يخونك وينقضوا العهود. و ( ياء ) الخيانة مبدلة من واو ؛ لأن أصل مادة الخيانة أجوف واوي العين، من : خان يخون. أصلها :( خوانة ) فأبدلت الواو ياء ٨، كالحيازة من الحوز، والصيانة من الصون، والصيام من الصوم. إن تخف يعني من قوم بينك وبينهم عهود ومواثيق تخف منهم خيانة، أي : غدرا ونقضا للعهود ﴿ فانبذ إليهم على سواء ﴾ يعني بأن يكون خوف الخيانة ظهرت له أمارات ومبادئ وقرائن يستدل بها عليه، كما ظهر من بني قريظة كما ظهر من بني قريظة أنهم لما عاضدوا المشركين وناصروهم ولم يصرحوا بنبذ العهد كانت مناصرة المشركين ومعاضدتهم قرائن واضحة وأمارات لائحة على أنهم ناقضون للعهد.
وعلى كل حال فالذي دل عليه استقراء القرآن ودلت عليه الوقائع – وهو الصحيح إن شاء الله – أن الأمر له حالتان : تارة يكون الكفار الذين بيننا وبينهم عهد ومصالحة تصدر منهم أشياء تدل على نقض العهد، لدلالة قرائن على ذلك، أنهم صدرت منهم مبادئ نقض العهد، ففي هذه الحالة لا ينبغي للإمام أن يبقى على عهدهم وقد ظهر له منهم أمارات الخيانة لئلا يصيبوا المسلمين بغائلة، ففي هذه الحالة يجب على الإمام أن يصارحهم ويقول لهم : رأينا منكم ما يدل على نقضكم العهد وهو كذا وكذا وكذا، فهذا عهدنا إليكم قد طرحناه إليكم، ونبذناه إليكم، وألقيناه إليكم، وأعلمناكم أنه ليس بيننا وبينكم عهد، خوف أن تظنوا أنا نخدعكم ونكيدكم ونحاربكم غفلة منكم. وهذا معنى قوله :﴿ فانبذ إليهم على سواء ﴾ النبذ في لغة العرب : الطرح. ومفعول ( انبذ ) محذوف، أي : فاطرح إليهم عهدهم، وألقه إليهم في حال كونك أنت وهم ( على سواء ) على استواء في العلم بأنك حرب لهم وهم حرب لك، ليس أحد منكما يدلس للآخر. وعلى هذا فقوله :﴿ على سواء ﴾ أي : في العلم ؛ بأنك لست على صلحك الأول لما رأيت من علامات غدرهم ونقضهم له.
قال بعض العلماء : فانبذ إليهم عهدهم حال كون ذلك النبذ على سواء. أي : على عدالة وطريقة محمودة ؛ لأن العرب تسمي العدالة ( سواء )، وتسمي الطريق العدل الواضح ( سواء ) و ( سويا ) ومن هذا قول الراجز ٩ :
واضرب وجوه الغدر الأعداء *** حتى يجيبوك إلى السواء
أي : إلى العدالة والإنصاف من غير ميل ولا جور. وهذا معنى قوله :﴿ وإما تخافن من قوم خيانة ﴾ أي : إن خفت يا نبي الله خيانة من قوم كان بينك وبينهم عهد بأن ظهرت لك أمارات الغدر وعلاماته وأوائله منهم ﴿ فانبذ إليهم ﴾ فاطرح إليهم، وألق إليهم العهد في حال كونك وإياهم على ﴿ سواء ﴾ أي : مستوين في العلم بالحالة الواقعة وأنه لا عهد بينك وبينهم. وقد جاء عن معاوية ( رضي الله عنه ) أنه كان بينه وبين الروم مصالحة وعهود ثم إنه ( رضي الله عنه ) سار إليهم وهم لا يشعرون ليقرب منهم، فإذا انقضت مدة العهد كان قريبا منهم فحمل عليهم، فإذا رجل على فرس له – وفي بعض روايات الحديث في السنن وغيرها – على دابة له، ذلك الرجل يقول : الله أكبر، الله أكبر، وفاء ولا غدر، فلما جيء معاوية به وجده عمرو بن عبسة ( رضي الله عنه ) فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن كانت بينكم وبينه عهود فلا تشدوا العقدة ولا تحلوها حتى تنقضي المدة أو تنبذوا إليهم على سواء ". قالوا : فرجع معاوية رضي الله عنه ١٠.
ومعنى الآية الكريمة : إن تخف الخيانة من قوم بينك وبينهم عهد – والخيانة هنا : الغدر ونقض العهد – ﴿ فانبذ إليهم ﴾ أي : فاطرح إليهم عهدهم ﴿ على سواء ﴾ أنت وهم مستويان في العلم بنقض العهد، ولا تدلس لهم فيظنوا أنك على عهد حتى تمكر بهم وهم في غفلة، بل أعلمهم بنقض العهد ليستعدوا للحرب ولا تحاربهم في غفلة. وهذا من كمال إنصاف دين الإسلام ؛ لأن التعاليم السماوية والكتب الإلهية هي في غاية العدالة والإنصاف، حتى مع الكفار نهى نبيه أن يحاربهم وهم في غفلة من ذلك، بل أمره أن يعلمهم وينبذ إليهم العهد علنا حتى يستوي الجميع في العلم بالحال الواقعة ليستعدوا للحرب والقتال ؛ ولئلا يؤخذوا على غرة، فهذه مكارم الأخلاق والعدالة الكاملة. ولا شك أن هذا التشريع تشريع ممن هو عالم بأن أولياءه لهم النصر والظفر لا حاجة له في استعداد الكفار وعلمهم وقوتهم ؛ لأنه يعلم أنهم مغلوبون مقهورون، وأن الدائرة عليهم، وهذا معنى قوله :﴿ فانبذ إليهم على سواء ﴾. ﴿ إن الله لا يحب الخائنين ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٨ ].
أما إذا تيقن العدو للعهد بأن قتلوا المسلمين، وفعلوا الأفاعيل، وصرحوا بنقض العهد علنا فهؤلاء لا حاجة لإعلامهم ؛ لأن أمرهم واضح، وهم لا يشكون في نقضهم العهد ؛ ولأجل ذلك لما عقد النبي صلى الله عليه وسلم مع كفار قريش صلح الحديبية في ذي القعدة من عام ست من الهجرة عقدته بينه وبينهم على يد سهيل بن عمرو العامري – رضي الله عنه وكان في ذلك الوقت كافرا – وانعقد هذا الصلح، ودخل خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأعداؤهم من البكريين في عهد قريش، وكان صلح الحديبية وقع على المهادنة تسع سنين، فغدر قريش غدرا علنا، وأعانوا البكريين على خزاعة فقتلوهم، لما كان هذا الغدر علنا ظاهرا لا إشكال فيه ولا لبس فيه لم ينبذ إليهم رسول الله على سواء، بل غزا قريشا غزوة الفتح، وأهل الأخبار والسير يقولون : إنه قال : " اللهم خذ الأخبار والعيون عن قريش حتى نبغتها في ديارها " ١١، وما دروا إلا والمسلمون بمر الظهران كل رجل يوقد نارا ؛ لأن نقضهم للعهد هنا لا يتناوله ﴿ وإما تخافن من قوم خيانة ﴾ لأنهم خانوا بالفعل وقتلوا الخزاعيين قتلا ذريعا، كما قال صاحبهم الذي استنجد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عمرو بن سالم الخزاعي ( رضي الله عنه ) ؛ لأن قريشا لما نقضوا العهد وقتلوا خزاعة مع البكريين أرسل الخزاعيون عمرو بن سالم ( رضي الله عنه ) فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة – هذه حرسها الله – قام عمرو بن سالم الخزاعي وذكر رجزه المشهور الذي يصرح فيه بأنهم قتلوهم، وأن نقضهم للعهد كالشمس لا شك فيه حيث قال للنبي صلى الله عليه وسلم في رجزه المشهور :
يا رب إني ناشد محمدا *** حلف أبينا وأبيه الأتلدا
ثم قال ١٢ :
إن قريشا أخلفوك الموعدا *** ونقضوا ميثاقك المؤكدا
هم بيتونا بالوتير هجدا *** وقتلونا ركعا وسجدا
وزعموا أن لست تدعوا أحدا *** وهم أذل وأقل عددا
فادع عباد الله يأتوا مددا *** فيهم رسول الله قد تجردا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا *** إن سيم خسفا وجهه تربدا
*** فانصر هداك الله نصرا أيدا
إلى آخر رجزه المعروف. وذكر أصحاب السير والأخبار أنه صلى الله عليه وسلم : قال " لا نصرني الله إن لم أنصرك " ١٣. ولم ينبذ إلى قريش على سواء، بل تجهز إليهم في غزوة الفتح في رمضان من عام ثمان، وأنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) لم يعلموا به حتى قرب من ديارهم، وكان ما وقع مما هو مشهور يوم الفتح. وهذا معنى قوله :﴿ فانبذ إليهم على سواء ﴾.
﴿ إن الله ﴾ جل وعلا ﴿ لا يحب الخائنين ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٨ ] وكل شيء لا [ يحبه ] ١٤ الله دل على أن صاحبه مرتكب جريمة وذنبا عظيما. والخائنون : جمع خائن، وأصل الهمزة في ﴿ الخائنين ﴾ مبدلة من واو ؛ لأن ( الفاعل ) من الأجوف تبدل عينه همزة، سواء كانت واوا أو ياء، والهمزة في محل الواو ؛ لأن المادة واوية العين كما بينا ١٥. فالله ( جل وعلا ) يبغض الخائنين، فلا ينبغي للإنسان أن يخون، وهذا من مكارم الأخلاق، وغاية عدالة الكتب السماوية وإنصافها.
٢ في هذه الموضع وقع مسح في التسجيل. ويظهر أن الشيخ (رحمه الله) ذكر بعض الشواهد الشعرية. ويمكن الوقوف على الكلام على هذه المسألة بشواهدها في كتاب شرح الكافية (٣/ ١٤٠٩ - ١٤١٠)، وفي كلام الشيخ (رحمه الله) فيما سبق عند تفسير الآية (٣٥) من سورة الأعراف..
٣ مضى عند تفسير الآية (٣٥) من سورة الأعراف..
٤ السابق..
٥ انظر: الأشباه والنظائر للسيوطي ص ٥٣، القواعد الفقهية الخمس الكبرى من مجموع فتاوى ابن تميمة ص ١٨٧، شرح القواعد الفقهية للزرقا ص ٣٥..
٦ انظر: القرطبي (٨/ ٣١)..
٧ مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة الأنعام..
٨ انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ١٠٤..
٩ البيت في ابن جرير (١٤ / ٢٧) القرطبي (٨/ ٣٣)..
١٠ أخرجه الترمي في السير، باب ما جاء في الغدر. حديث رقم: (١٥٨٠)، (٤/ ١٤٣). وأبو داود في الجهاد، باب في الإمام يون بينه وبين العدو عهد فيسير نحوه. حديث رقم: (٢٧٤٢) (٧/ ٤٣٩). وانظر صحيح الترمذي حديث رقم: (١٢٨٥)، صحيح أبي داود، حديث رقم: (٢٣٩٧)..
١١ السيرة لابن هشام ص ١٢٣٨ من طريق ابن إسحاق، وكذا أورده ابن كثير في تاريخه (٤/ ٢٨٣)..
١٢ نص هذه الأبيات في ابن هشام ص ١٢٣٥، البداية والنهاية (٤/ ٢٧٨) هكذا:
يــارب إني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلدا
قد كنتم ولدا وكنا والدا ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أعتدا وادع فباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا إن سيم خسفا وجهه تربدا
في فيلق كالبحر يجري مزبدا إن قريشا أخلفوك الموعدا
ونقضوا ميثاقك المؤكدا وجعلوا لي في كداء وصدا
وزعموا أن لست أدعو أحدا وهم أذل وأقثل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا.
١٣ الذي تقله ابن هشام ص (١٢٣٦)، وابن كثير في تاريخه (٤/ ٢٧٨) قوله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم"..
١٤ في الأصل: "يبغضه" وهو سبق لسان..
١٥ انظر: معجم مفردات الإبدال والإعلال ص ١٠٣..
أما على قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو والكسائي :﴿ ولا تحسبن ﴾ وقراءة شعبة :﴿ لا تحسبن ﴾ فالآية الكريمة لا إشكال فيها، وكلا القرائتين واضح لا إشكال فيه ولا كلام.
أما قراءة ابن كثير ٢ وحمزة وحفص عن عاصم :﴿ ولا يحسبن ﴾ بالياء، فهذه القراءة أصلها مشكلة، ومعناها مشكل ٣. وتجرأ أقوام جراءة لا تليق – وإن كان فيهم معرفة وعلم وجلالة كأبي حاتم وأبي عبيد، حتى ابن جرير رحمه الله – وأنكروا هذه القراءة، وقالوا : إنها بعيدة من كلام العرب، وأنها لا وجه لها من الفصاحة، كما أنكر ابن جرير وغيره قراءة ابن عامر :﴿ أهم لا يعجزون ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٩ ] – بفتح همزة ( أن ) -.
والتحقيق أن قراءة ابن عامر :﴿ يحسبن ﴾ بالياء، و ﴿ أنهم لا يعجزون ﴾ بفتح الهمزة، وقراءة حمزة وحفص عن عاصم :﴿ يحسبن ﴾ وقراءة :﴿ إنهم ﴾ كلها قراءات سبعيات فصيحة متواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم لا وجه للطعن فيها.
أما على قراءة من قرأ :﴿ ولا تحسبن الذين كفروا ﴾ فاعلموا أولا أن ( حسب ) بكسر السين في مضارعها لغتان فصيحتان وقراءتان سبعيتان في جميع القرآن :( حسب يحسب، وحسبت تحسب ). بفتح السين على القياس، ( حسب يحسب ) بكسر السين على السماع لا على القياس، وهما لغتان فصيحتان مستفيضتان وقراءتان سبعيتان.
فقراءة شعبة عن عاصم لا فرق بينها وبين قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو والكسائي، وإنما الفرق بين قراءة التاء وقراءة الياء. أما على القراءة بتاء الخطاب فمعنى الآية واضح لا إشكال فيه، والحسبان في لغة العرب : الظن. والمعنى : لا تظن يا نبي الله الذين كفروا سبقوا. ف ( الذين ) في محل المفعول الأول، وجملة ( سبقوا ) في محل المفعول الثاني، و( سبقوا ) معناه : غلبوا وفاتوا، فكل شيء فاتك ولم تدركه وعجزت عنه تقول العرب : سبقك. ومنه قوله تعالى :﴿ وما نحن بمسبوقين ( ٦٠ ) على أن نبدل أمثلكم ﴾ [ الواقعة : الآيتان ٦٠، ٦١ ] لسنا بمغلوبين ولا معجزين عن أن نبدل أمثالكم. أي : لا تظنن يا نبي الله الذين كفروا سبقوا، لا تظنن الكفار فائتين سابقين يعجز عنهم ربهم ( جل وعلا )، لا وكلا ﴿ إنهم لا يعجزون ﴾ ولا يسبقون، فهم تحت قهره وقدرته وسلطته يفعل فيهم كيف يشاء، ولا يسبقونه ولا يفوتونه، كما قال تعالى :﴿ أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ﴾ [ العنكبوت : الآية ٤ ] أي : يفوتوننا ويعجزوننا، لا ﴿ ساء ما يحكمون ﴾ [ العنكبوت : الآية ٤ ]، وكذلك قراءة شعبة عن عاصم :﴿ ولا تحسبن الذين كفروا ﴾ هي معناها وهذه القراءة واحد.
أما على القراءة الأخرى :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ﴾ فتفسير الآية مشكل ؛ لأنه لا يدري أين مفعولا ( حسب )، ولا يدرى الفاعل أين هو ؟ !
وللعلماء فيها أقوال متقاربة لا يكذب بعضها بعضا :
قال بعض العلماء : هذه الآية الكريمة حذفت منها ( أن ) المصدرية، حذف ( أن ) المصدرية إذا دل المقام عليها أسلوب عربي معروف موجود في القرآن وفي كلام العرب. قالوا : من أمثلته في القرآن قوله تعالى :﴿ ومن ءايته يريكم البرق ﴾ [ الروم : الآية ٢٤ ] الأصل. : ومن آياته أن يريكم البرق. ونظيره من كلام العرب قول طرفة بن العبد في معلقته ٤ :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى.............................
ويروى :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى *** وأن أشهد اللذات هل أنت ممخلدي
قالوا : الأصل : ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا. قالوا : بمعنى : أنهم سبقوا. فيصير المفعولان في قوله : " أن سبقوا " لا يظنوا أنفسهم سابقين، أي : فائتين معجزين ربهم. قالوا : وغاية ما في هذا حذف ( أن )، وهو موجود في القرآن وفي كلام العرب.
وقال بعض العلماء : ضمير الفاعل يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدلالة أن ضمير الفاعل في الخطاب واقع عليه، أي : لا تحسبن أنت يا نبي الله، ولا يحسبن هو، أي : نبي الله، لا يحسبن الذين كفروا سبقوا. ومعلوم أنه لا يحسب ذلك ولكنه ينهى ليشرع على لسانه لغيره كما قيل له :﴿ لا تجعل مع الله إلها ءاخر ﴾ [ الإسراء : الآية ٢٢ ] ﴿ ولا تجعل يدك مغلولة ﴾ [ الإسراء : الآية ٢٩ ] ونحو ذلك من الأشياء التي هو لا يفعلها، ﴿ ولا تطع منهم ءاثما أو كفورا ﴾ [ الإنسان : الآية ٢٤ ] وعلى هذا القول فتكون قراءة التاء قرينة دالة على الفاعل ؛ لأن الفاعل في قراءة التاء ﴿ لا تحسبن ﴾ أنت يا نبي الله. فيكون المعنى في قراءة الياء :﴿ ولا يحسبن ﴾ هو أي : نبي الله، لا يظنن الذين كفروا سبقوا. أي : فاتوا وعجز عنهم ربهم سبحانه عن ذلك. وعلى هذا القول ف ( الذين ) في محل المفعول الأول، و( سبقوا ) في محل المفعول الثاني.
وقال بعض العلماء :( الذين ) في محل رفع على الفاعل، وأحد المفعولين محذوف. قالوا : المعنى : لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سبقوا. أي : لا يظنون أنفسهم سابقين، قالوا : وربما حذف المفعول كما حذف في قوله :﴿ إنما ذلكم الشيطن يخوف أولياءه ﴾ [ آل عمران : الآية ١٧٥ ] أصله : يخوفكم أولياءه لكن ( حسب ) و ( خوف ) ليسا من باب واحد ؛ لأنه ( حسب ) تنصب المبتدأ والخبر، و( خوف ) لا تنصب المبتدأ والخبر بل مفعولاها أصلهما ليسا بمبتدأ وخبر.
وقال بعض العلماء : لا يحسبن الكفار الذين كفروا سبقوا.
هذه الأقوال في هذه الآية الكريمة وفي نظيرتها في سورة النور على قراءة الياء. وهذا معنى قوله :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ﴾.
﴿ إنهم لا يعجزون ﴾ قرأ هذا الحرف عامة السبعة غير ابن عامر :﴿ إنهم لا يعجزون ﴾ وقرأه ابن عامر ﴿ أنهم لا يعجزون ﴾ بفتح الهمزة ٥.
وكان كبير المفسرين أبو جعفر ابن جرير الطبري ( رحمه الله ) يقول : إن قراءة ابن عامر هذه لا وجه لها ٦. والكمال لله، لأن قراءة ابن عامر – رحمه الله – وجهها ظاهر جدا ؛ لأنها تطابق قراءة الجمهور في المعنى، إلا أن قراءة ابن عامر أظهر في المعنى وإن خفي ذلك على الإمام ابن جرير ( رحمه الله ) ؛ لأن الكمال والعلم لله وحده.
والحاصل أنه قد تقرر في الأصول في مسلك ( الإيماء والتنبيه ) ٧ أن من الحروف الدالة على التعليل، ( إن ) المكسورة المشددة، تقول : اضربه إنه مسيء. أي : اضربه لعلة إساءته، أكرمه إنه محسن. أي : أكرمه لعلة إحسانه. ف ( إن ) من حروف التعليل. وعلى قراءة الجمهور ف ( إن ) المكسورة دلت على التعليل. لا تظننهم سابقين فائتين معجزين ربهم، لا وكلا ﴿ إنهم لا يعجزون ﴾ لا يعجزون ربهم ألبتة، فيكون النهي عن قوله :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا ﴾ لأجل أنهم لا يعجزون أبدا، فلا يخطر في قلبك ذلك الحسبان الباطل.
أما على قراءة ابن عامر :﴿ أنهم لا يعجزون ﴾ ف ( أن ) قد تقرر في علم النحو أن المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها و ( أن ) وصلتها يجوز جره بحرف محذوف بقياس مطرد ٨. فالأصل : لا تحسبن الذين كفروا سبقوا ؛ لأنهم لا يعجزون. غاية ما في الباب حذف حرف الجر قبل المصدر المنسبك من ( أن ) وصلتها، وهو واضح مطرد لا إشكال فيه، وقد عقد اطراده ابن مالك في خلاصته بقوله ٩ :
............................... *** وإن حذف فالنصب للمنجر
نقلا وفي ( أن )و ( أن ) يطرد *** مع أمن لبس كعجبت أن يدو
فقراءة ابن عامر دالة على التعليل الذي دلت عليه قراءة الجمهور بقياس عربي واضح مطرد لا إشكال في، وهذا معنى قوله :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ( ٥٩ ) ﴾ ( يعجزون ) مضارع ( أعجز )، أعجزه " إذا صيره عاجزا عنه، فكل شيء غلبك ولم تقدر عليه تقول العرب : أعجزك وسبقك وفاتك. بمعنى واحد ﴿ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ﴾ ربهم. أو : لأنهم لا يعجزون ربهم، بل ربهم قادر عليهم كما قال تعالى :﴿ واعلموا أنكم غير معجزى الله وأن الله مخزي الكفرين ﴾ [ التوبة : الآية ٢ ] وهذا معنى قوله :﴿ ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون ( ٥٩ ) ﴾ [ الأنفال : الآية ٥٩ ].
٢ سبق لسان، والصواب: ابن عامر..
٣ انظر: حجة القراءات ص ٣١٢، ابن جرير (١٤/ ٢٨)، القرطبي (٨/ ٣٣) الدر المصون (٥/ ٦٢٣)..
٤ شرح القصائد المشهورات (١/ ٨٠)..
٥ انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٢٢..
٦ تفسير ابن جرير (١٤/ ٢٨)..
٧ جرى الأصوليون على اعتبار (إن ضمن مسالك النص، وبعضهم يعتبرها من قبيل النص الصريح، ويرى آخرون أنها من قبيل النص غير الصريح (الظاهر).
انظر: شرح الكوكب المنبر (٤/ ١١٩)، نثر الورود (٢/ ٤٨٠)، مباحث العلة في القياس عند الأصوليين ص ٣٥٥..
٨ مضى عند تفسير الآية (٦٧) من سورة البقرة..
٩ السابق..
ولعلماء الأصول اختلاف في صيغة ( افعل ) إذا جاءت في كلام الله أو كلام نبيه صلى الله عليه وسلم وتجردت عن القرائن ماذا تفيده عند الإطلاق ٤، هل هو الإيجاب المتحتم، أو الندب، أو الطلب ؟ إلى غير ذلك من الأقوال.
والتحقيق الذي دلت عليه الأدلة : أن النصوص الشرعية واللغة العربية التي نزل بها القرآن كلها يدل على أن صيغة ( افعل ) تقتضي الوجوب ما لم تقترن بدليل يصرفها عن ذلك، والدليل على ذلك من القرآن : أن الله ( جل وعلا ) قال :﴿ فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصبيهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾ [ النور : الآية ٦٣ ] فلو كانت مخالفة الأمر غير معصية، وامتثال الأمر غير واجب لما شدد عليه هذا الوعيد العظيم في قوله :﴿ أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ﴾ وقال تعالى لإبليس :﴿ ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك ﴾ [ الأعراف : الآية ١٢ ] والأمر بصيغة ( افعل ) وهو قوله :﴿ اسجدوا لأدم ﴾ [ الأعراف : الآية ١١ ] فعنفه التعنيف الشديد الذي لا يفعل إلا لتارك الواجب على مخالفته لصيغة ( افعل ) التي هي :﴿ اسجدوا لأدم ﴾ وقد قال نبي الله موسى لأخيه هارون :﴿ أفعصيت أمري ﴾ [ طه : الآية ٩٣ ] يعني قوله :﴿ اخلفني في قومي وأصلح ﴾ الآية [ الأعراف : الآية ١٤٢ ]. والمعصية لا تسمى إلا لارتكاب الحرام المستوجب للإثم، وقد وبخ الله ( جل وعلا ) قوما توبيخا شديدا لمخالفتهم لصيغة ( افعل ) في :﴿ وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ﴾ [ المرسلات : الآية ٤٨ ] ( اركعوا ) صيغة ( افعل ) وقد وبخ من لم يمتثلها وعنفه تعنيفا شديدا في قوله :﴿ وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ( ٤٨ ) ﴾، وقال تعالى :﴿ وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾ [ الأحزاب : الآية ٣٦ ] وفي القراءة الأخرى :﴿ أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ﴾ ٥ فجعل أمر الله وأمر الرسول موجبا للامتثال قاطعا للاختيار. وقال في الملائكة :﴿ لا يعصون الله ما أمرهم ﴾ [ التحريم : الآية ٦ ] فدل على أنهم لو لم يمتثلوا ما أمرهم لكانوا عاصين، حاشهم من ذلك.
وأما اللغة العربية : فإنك لو قلت لعبدك : اسقني ماء. أمرته وألزمته بصيغة ( افعل ) ثم ترك ولم يمتثل فأدبته، فقال لك العبد : تأديبك لي ليس واقعا في موقعه ؛ لأن صيغة ( افعل ) في قولك : " اسقني " لم تلزمني ولم توجب علي ! ! فكل من يعرف معنى اللسان العربي يقولون له : صيغة الأمر ألزمتك وأوجبت عليك، لكنك عصيت وخالفت.
ومرادنا بهذا : أن هذا أمر خالق السماوات والأرض، أمر رب العالمين بإعداد القوة التي يمكن أن تحصل في الاستطاعة، هذا واجب، وتضييعه حرام لا شك فيه، وبذلك يعلم أن تواكل من يسمون باسم المسلمين في أقطار الدنيا، وعدم سعيهم في إعداد القوة الكافية لقمع العدو أنه تمرد على نظام السماء، وعدم عمل بإرشادات خالق هذا الكون – جل وعلا- وامتثال أوامره، فالله ( جل وعلا ) في هذه السورة الكريمة وغيرها من سور القرآن رسم الطريق وبين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الطريق التي إذا فعلوها وساروا عليها كانت كفيلة بنصرهم، وذل أعدائهم، وقمع كلمة الكفر وإذلاله ؛ لأنه هنا أمر بإعداد القوة التي يمكن أن تدخل تحت الاستطاعة كائنة ما كانت، تطورت القوة مهما تطورت، وانتقلت من حال إلى أي حال، فالآية تساير التطور بدلالة مطابقتها مهما كان وما تحول الأمر ؛ لأن لفظها الصريح موجب أمر إيجاب سماوي من الله إعداد كل ما يمكن أن يدخل في الاستطاعة من القوة لقمع الكفرة ( قبحهم الله )، فهذا أمر واجب، فلو عمل الناس بهذا الأمر، وبذلوا ما عندهم من الإمكانيات والثروات في إعداد القوة الكاملة من جميع وجوبها، حتى في تعليم الأمور التي تطورت إليها الحياة الراهنة ؛ لأن كل حال له مقال، وكل حالة لها مواجهات بأمور تلائقها. ودين الإسلام مرن غاية المرانة، كل شيء يقابله بما يصلح له، وذلك في نور السماء الذي شرعه الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم، فإن القوة التي يقوى بها عسكر المسلمين، ويحمون حوزتهم، ويردون المسلوبات منهم إذا أعدوا القوة الكافية التي تدخل تحت الاستطاعة، ثم حول هذه القوة كانوا متكاتفين غير متنازعين غير متفرقين، كلمتهم واحدة، وذكروا الله كثيرا، وتعلقت أرواحهم بربهم، وطلبوا المدد من السماء، كانت أسباب النصر كلها متوفرة لديهم لقوتهم الكافية، ولعدم فشلهم ؛ ولأنهم إذا فشلوا وتفرقوا دخل العدو بينهم، ورمى بعضهم ببعض كما قال تعالى :﴿ ولا تنزعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٦ ] وقال تعالى :﴿ ولا تفرقوا ﴾ [ آل عمران : الآية ١٠٣ ] لا تتفرقوا، هذه أوامر الله، والقرآن يوضح الطريقة التي لو سلكها الناس لكانت كفيلة لهم بالنصر والظفر ؛ لأن منها إعداد القوة الكافية، وكل من عنده مال فباستطاعته كل شيء ؛ لأن المال سبب لكل شيء، وهو شريان الحياة، ويسخر الله به لمن أعطاه إياه كل الإمكانيات من تعليم حتى يتعلم ما تعلمه الكفرة ويصل إلى ما وصلوا إليه، ويستعين به في جميع الميادين ليكتسب به القوة الكاملة.
ومعلوم أن هذه أوامر الله، وأنها متروكة، وأن دين الإسلام هو هو، وصلته بالله هي هي، وأن المتسمين باسم الإسلام هم الذين تنكروا للدين، وفارقوا الآية الجبارة القاهرة التي كانوا يقهرون بها أعداء الله، وهي طاعة الله وامتثال أمره واجتناب نهيه، ولا شك أنه يجب على المسلمين امتثال أوامر الله، وأن يتفطنوا ويتحرزوا، ويفرقوا بين النافع والضار ؛ لأن من طبيعة أدنى العقلاء التفريق بين ما ينفع وما يضر، ولا شك أن ما يسميه الناس ( الحضارة الغربية ) دل الاستقراء الصحيح اليقين أن فيها ماء زلالا نافعا وسما قاتلا فاتكا، ونضرب لهذا مثلا ٦ : لأنك مثلا أيها الإنسان إذا وجدت إناء فيه ماء زلال وإناء فيه سم قاتل وأنت خارج من العمران في فلاة بعيدة شاسعة، فحالك لا يخلو من أربعة أحوال : إما أن تشرب الماء والسم معا، وإما أن تتركهما معا، وإما أن تشرب السم وتترك الماء، وإما أن تشرب الماء وتترك السم. فافرض مثلا أنك وجدت ماء زلالا وسما فاتكا قتالا في موضع واحد، وأنت في فلاة معطشة بعيدا جدا من العمران، فلك مع هذا أربع حالات : إما أن تشربهما معا، وإما أن تتركهما معا، وإما أن تشرب السم وتترك الماء، وإما أن تشرب الماء وتترك السم، ولا خامسة البتة. وهذا تقسيم صحيح، فترجع لهذا التقسيم الصحيح بالسبر الصحيح فنقول : إذا شربتهما معا لم ينفعك الماء ؛ لأن السم الفتاك يقتلك ويقضي عليك، وإن تركتهما معا هلكت، ولم تبلغ العمران، ولم تلتحق بالركب، وإن أخذت السم وتركت الماء فأنت مجنون أهوج أحمق حيث أخذت ما يضرك وتركت ما ينفعك ! ! وإن كنت عاقلا يصدق عليك مطلق اسم العاقل أخذت الماء وتركت عنك السم. وهذا مثال لما جاءت الحضارة الغربية، فإن ما أحدثه من القوة المادية وأنواع التنظيمات في جميع ميادين الحياة هو ماء زلال محتاج له جدا لا بد منه/ في تطور هذه الحياة الراهنة حسب ما تطورت إليه من الأوضاع، وفيها سم قاتل فتاك لا شك فيه، وهو ما جنته من الكفر، والانحطاط الخلقي، والتمرد على نظام السماء، ومعاداة خالق السماوات والأرض. فالموقف الطبيعي للمسلمين في الأوضاع الراهنة أن يتأملوا فإذا أخذوها كلها بنافعها وضارها أهلكهم ضارها ولم ينتفعوا بالنافع، وإذا تركوها كلها – تركوا النافع منها والضار – بقوا ولم يلحقوا، وبقوا مستضعفين، وإذا أخذوا ضارها دون نافعها فهم قوم مجانبين، هم حمقى لا عقول لهم، وإن أخذوا النافع وتركوا الضار فهذا هو الأمر الطبيعي لكل عاقل.
والمؤسف كل الأسف أن غالب من يتسمى باسم الثقافة والحضارة والتمدن لا يأخذ منهم إلا القشور المهلكة، والسموم الفاتكة، من الانحطاط الخلقي، والتمرد على نظام السماء، والتنكر لخالق هذا الكون، في الوقت الذي لا يستفيد فيه من مائها الزلال – الذي هو قوتها - شيئا ! ! وهذه المسألة معكوسة جمع صاحبها بين الكفر والإفلاس.
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا *** وأقبح الكفر والإفلاس بالرجل ٧
وإذا كان ربنا يقول في هذا المحكم المنزل آخر الكتب السماوية عهدا برب العالمين :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ [ الأنفال : الآية ٦٠ ] مهما تطورت القوة، ومهما بلغت كائنة ما كانت ﴿ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله ﴾ كان وقت نزولها أقوى القوة وأعظم العدة الخيل وما جرى مجراها من الرمي، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عقبة بن عامر الجهني ( رضي الله عنه ) أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر يقول : " ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ﴾ ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ". كررها ثلاثا ٨. لأن الرمي في ذلك الوقت وإعداد الخيل والسيوف هذا هو أقوى القوة وأعظمها في ذلك الوقت، والإعداد في ذلك كان يكون بمثل هذا، حتى قال الشاعر ٩ :
وأعددت للحرب أوزارها *** رماحا طوالا وخيلا ذكورا
وقال عمرو بن معد يكرب الزبيدي ١٠ :
أعددت للحدثان سا *** بغة وعداء علندى
يعني : درعا وفرسا ذكرا.
أما الآن فقد تطورت الحياة عن ذلك في ظروفها الراهنة، وصارت الخيل والدروع لا تغني شيئا، فصار الأمر يتطلب شيئا زائدا على ذلك يساير الأحوال، ويساير التطور في حالاته الراهنة، فعلى المسلمين أن يعدوا كل ما في الاستطاعة منه، ولكنهم – وإنا لله وإنا إليه راجعون – لا يعدون في أغلب أقطار المعمورة شيئا، والكفار يتقون ويسلطهم الله عليهم بذنوبهم. أما التعاليم السماوية فهي لا تشجع على الضعف والتوكل والتسليم للأعداء، لا، إنما تأمر بالقوة وإعداد القوة المستطاعة، والكفاح القوي، وعدم التنازع، وعدم التفرق، والاتصال مع هذا كله بخالق السماوات والأرض، وامتثال أوامره، واجتناب نهيه ﴿ إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله ﴾ [ الأنفال : الآية ٤٥ ] إلى غير ذلك من الآيات. وهذا معنى قوله :﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم من قو ومن رباط الخيل ﴾ ﴿ وأعدوا لهم ما استطعتم ﴾ إعداده ﴿ ومن رباط الخيل ﴾ الرباط : تطلقه العرب على عين الخيل المربوطة، يقولون : هذا رباط. أي : خيل مربوطة في سبيل الله. قال بعضهم : هو جمع ربيط، فر
٢ في هذا الموضع وقع مسح في التسجيل، وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام..
٣ مضى عند تفسير الآية (٣) من سورة الأعراف..
٤ مضى عند تفسير الآية (٤٤) من سورة الأنعام..
٥ مضت عند تفسير الآية (٣) من سورة الأعراف..
٦ مضى عند تفسير الآية (١١٥) من سورة الأنعام..
٧ مضى عند تفسير الآية (١٠٠) من سورة الأنعام..
٨ أخرجه مسلم في الإمارة، باب: فضل الرمي والحث عليه. حديث رقم (١٩١٧) (٣/ ١٥٢٢)..
٩ البيت للأعشى، وهو في ديوانه ص ٧١، تاريخ دمشق (٢٠/ ١٤٠)..
١٠ البيت في الدر المصون (١/ ٢٠٧)، شواهد الكشاف ص ٣٢..
قرأ هذا الحرف عامة القراء السبعة غير عاصم في رواية شعبة أبي بكر :﴿ وإن جنحوا للسلم ﴾ بفتح السين. وقرأه شعبة عن عاصم :﴿ وإن جنحوا للسلم ﴾ ١٤.
و ( السلم ) بفتح السين و ( السلم ) بكسرها لغتان فصيحتان، وقراءتان سبعيتان صحيحتان، والمراد بالسلم : الصلح. العرب تسمي الصلح : سلما، وسلما. وربما سمتها :( سلاما ).
والجنوح في لغة العرب : الميل، تقول العرب : جنح فلان إلى كذا، وجنح له : أي : مال إليه، وهو معنى معروف في كلام العرب، ومنه قول غيلان ذي الرمة ١٥ :
إذا مات فوق الرحل أحييت روحه | بذكراك والعيس المراسيل جنح |
معناها : إن مال الكفار يا نبي الله إلى السلم وودوها وطلبوها فاجنح لها. أي : وافقهم في ذلك، ومل إلى السلم وصالحهم وسالمهم كما طلبوا ذلك منك.
و ( السلم ) مؤنثة في اللغة الفصحى، كالحرب فهي مؤنثة أيضا، ومنه قول العباس بن مرداس ١٦ :
السلم تأخذ منها ما رضيت به | والحرب تكفيك من أنفاسها جرع |
وكان بعض العلماء يزعم أن هذه الآية من سورة الأنفال بينها وبين آية القتال تعارض أو إشكال ١٧، والحق أنه لا تعارض بينهما ؛ لأن آية الأنفال هذه قيدت أمر النبي صلى الله عليه وسلم بجنوحه إلى السلم بأن يكون الكفار هم الذين جنحوا إليه أولا وطلبوه ومالوا إليه. أما آية سورة القتال –سورة محمد – فهي لا تعارض هذا ؛ لأن الله نهاهم فيها عن ابتداء طلب الصلح، وذلك لا ينافي إجابة الكفار إليه بعد أن طلبوه. ونعني بالآية المذكورة : قوله تعالى :﴿ فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ﴾ [ محمد : الآية ٣٥ ] لأن آية القتال فيها النهي عن أن يكونوا هم البادئين بالدعاء إلى الصلح ؛ لأن الداعي إلى الصلح يظهر من قرينه حاله أنه كأنه خائف، وأنه يحس بالغلبة فيريد الصلح. أما القوي الآمن الذي لا يظن أنه مغلوب فلا داعي له إلى طلب الصلح. فلا معارضة بين الآيتين. وهذا معنى قوله :﴿ وإن جنحوا للسلم ﴾ أي : إن مال الكفار إلى الصلح فاجنح لها.
أما قراءة :﴿ فاجنح لها ﴾ فهي شاذة وليست من القراءات السبعية ١٨. أي : فمل إليها ووافقهم على ذلك ﴿ وتوكل على الله ﴾ يعني : إن صالحتهم فلا تخف مما يدبرون لك من المكر والغدر والحيل في مدة تلك المصالحة، لا تهتم بذلك ﴿ وتوكل على الله ﴾ ثق إليه، وفوض إليه جميع أمورك، فإنه ( جل وعلا ) يكفيك ﴿ ومن يتوكل على الله فهو حسبه ﴾ [ الطلاق : الآية ٣ ] وهذا معنى قوله :﴿ فاجنح لها وتوكل على الله ﴾ ﴿ إنه ﴾ أي : الله ﴿ هو السميع ﴾ لما يقولونه من المنكر والغوائل التي يتربصونك بها في مدة الصلح ﴿ العليم ﴾ بكل ما يبطنون ويضمرون من المكر والخديعة والحيل أثناء المدة التي صالحتهم فيها، فهو ( جل وعلا ) لا يفوته شيء مما قالوا ولا مما عملوا، فهو مطلع عليه وكافيكهم، لا تهتم بذلك، واجعل ثقتك بالله وتوكلك عليه، فإنه يكفيك.
واعلم أن جماعة من العلماء من الصحابة فمن بعدهم زعموا أن هذه الآية من سورة الأنفال منسوخة بآية السيف النازلة في براءة ١٩ ؛ لأنها نازلة بعدها ؛ لأن براءة نزلت في رجوع النبي صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك، وذلك العام عام تسع بلا خلاف، لم يعش النبي صلى الله عليه وسلم بعده إلا سنة واحدة، وسورة الأنفال هذه نزلت في وقعة بدر، وكانت في العام الثاني من الهجرة كما أوضحناه. قالوا : فهي منسوخة بآية السيف، كقوله :﴿ فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد ﴾ [ التوبة : الآية ٥ ].
والتحقيق أن هذه الآية ليست منسوخة، وأن المصالحة والمهادنة لم تنسخ، وأن الإمام يخير وينظر في مصالح المسلمين، فإن رأى المصلحة في الصلح حتى يتقوى المسلمون فيجتمع شملهم ويقدروا على القتال صالح، وإن رأى المصلحة في عدم الصلح لم يصالح، فالكل واسع وجائز إن شاء الله. وهذا معنى قوله :﴿ وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم ( ٦١ ) ﴾ [ الأنفال : الآية ٦١ ].
﴿ فإن حسبك الله ﴾ حسبك : معناه كافيك الله ( جل وعلا ). العرب تقول : حسبه كذا. معناه : كافيه كذا. وهذا معنى معروف في كلامها ومشهور، ومنه قول جرير يهجو ممن كان يهجوهم ٢ :
ولقد رأيت من المكارم حسبكم | أن تلبسوا خز الثياب وتشبعوا |
فإذا تذوكرت المكارم مرة | في مجلس أنتم به فتقنعوا |
دع المكارم لا ترحل لبغيتها | واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي |
﴿ فإن حسبك الله ﴾ كافيك الله، يكفيك شرهم وشر خداعهم، فثق به وتوكل عليه ولا تكترث بإرادتهم بالصلح الخداع. وهذا معنى قوله :﴿ فإن حسبك الله ﴾ ﴿ هو ﴾ أي : الله ﴿ الذي أيدك بنصره ﴾ أيدك : معناه قواك. فالعرب تقول : أيده يؤيده تأييدا. إذا قواه. وتقول : رجل أيد. إذا كان قويا. و ( الأيد ) و ( الآد ) : القوة ٤. ومنه قوله تعالى :﴿ والسماء بنينها بأييد ﴾ [ الذراريات : الآية ٤٧ ] أي : بنيناها بقوة. وليست من ( الأيدي ) جمع ( يد ) فليست من آيات الصفات، بل معناها : القوة. هذا معنى :﴿ أيدك بنصره ﴾ أي : قواك وعززك بنصره. وأصل النصر في لغة العرب : إعانة المظلوم ﴿ أيدك بنصره وبالمؤمنين ﴾ وقواك أيضا وأيدك بالمؤمنين، ويدخل فيهم دخولا أولا : الأنصار – الأوس والخزرج – الذين آووه ونصره وأيده الله بهم. كان الأوس والخزرج وهما بطنا الأنصار أبناء قيلة، أولاد حارثة الغطريف كانوا مكثوا سنين كثيرة بينهم حروب دامية، وقتال هلك فيها أشرافهم، وقتل فيها ساداتهم، وبينهم عدوات وإحن وأضغان مستحكمة قديمة متوارثة لا يكاد أن تزول من صدورهم أبدا، فلما أرسل الله إليهم نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وآووه ونصروه، وأيده الله بنصره وبهم، أزال تلك الأضغان والعداوات الكامنة، وجعل مكانها المحبة الصادقة والمودة والإخاء الكامل ؛ ولذا امتن الله عليهم بذلك هنا، وقد قدمنا نحوه في سورة آل عمران ؛ لأنه قال :
٢ البيت في تاريخ دمشق (٢٩/ ١٨١) ونسبه لحسان (رضي الله عنه) وليس في ديوانه، ونسبه في شواهد الكشاف ص ٧٠ لجرير..
٣ البيت في ديوانه ص ١٠٨..
٤ مضى عند تفسير الآية (٢٦) من هذه السورة..
وقد قدمنا مرارا أن العزيز هو الغالب الذي لا يغلبه شيء، والعزة : الغلبة ﴿ ولله العزة ولرسوله ﴾ [ المنافقون : الآية ٨ ] أي : ولله الغلبة ﴿ وعزني في الخطاب ﴾ [ ص : الآية ٢٣ ] غلبني في الخصام. ومن كلام العرب :( من عز بز ) ٢ يعنون : من غلب استلب، وقد نظمته الخنساء السلمية الشاعرة في قولها ٣ :
كأن لم يكونوا حمى يختشى *** إذ الناس من عز بزا
أي : من غلب استلب. والحكيم : هو الذي يضع الأمور في مواضعها ويوقعها في مواقعها ٤. فاقتضت عزته وغلبته أن يقهر أعداءك، وأن لا يضروك بخداعهم ونيتهم المكر والخداع ؛ لأن ربك غالب قاهر لا يغلبه شيء، واقتضت حكمته أن يؤلف بين قلوب أنصارك الذين نصروك، ويوحد كلمتهم، ويجعلهم كرجل واحد، هذا اقتضته عزته وحكمته، وإن كانت حكمته تقتضي العدل الكامل، وكمال التمام في كل ما يدبره في شرعه وقدره وغير ذلك. وعزته تقتضي أنه غالب لكل شيء، ويدخل في ذلك قهره للكفار الجانحين للسلم الذين يريدون بذلك الخداع، ويدخل في حكمته جمعه بين قلوب أصحابك ليجتمعوا على نصرة دين الله وإعلاء كلمته. وهذا معنى قوله :﴿ إنه عزيز حكيم ﴾ [ الأنفال : الآية ٦٣ ].
٢ مضى عند تفسير الآية (٩٦) من سورة الأنعام..
٣ السابق..
٤ مضى عند تفسير الآية (٨٣) من سورة الأنعام..
أما على قراءة نافع فهو من النبأ بلا خلاف. وقد قدمنا مرارا ٢ أن النبأ في لغة العرب : الخبر الذي له خطب وشأن، فكل نبأ خبرا وليس كل خبر نبأ، لأن النبأ أخص من مطلق الخبر، إذ لا تكاد العرب تطلق النبأ إلا على الإخبار بما فيه أهمية وله خطب وشأن، فلو قلت : جاءنا اليوم نبأ الأمير، أو نبأ الجيوش. كان هذا من كلام العرب ؛ لأنه خبر هذا من كلام العرب ؛ لأن خبر حمار الحجام لا أهمية له ولا شأن ولا خطب له.
أما على قراءة الجمهور :﴿ يأيها النبي ﴾ فقال بعض العلماء : معناه كمعنى قراءة نافع، إلا أن الهمزة أبدلت ياء كما أبدلت همزة ( النسيء ) في قوله :﴿ إنما النسيء زيادة في الكفر ﴾ [ التوبة : الآية ٣٧ ] أبدلت ياء في قراءة سبعية صحيحة ٣ ﴿ إنما النسي زيادة في الكفر ﴾ وبها قرأ ورش عن نافع وغيره، وعلى هذا القول فالقراءتان معناهما واحد.
وقال بعض العلماء :( النبي ) على قراءة الجمهور ليس من النبأ الذي هو الخير وإنما هو من ( النبوة ) بمعنى الارتفاع ؛ لأن النبي يوحى إليه وحي، وهو خير له شأن وخطب ؛ ولأن له مكانة رفيعة، والشيء المرتفع تسميه العرب ( نبيا ) والنبوة : الارتفاع، ومنه قيل لكثيب الرمل :( نبي ) أي : لأنه مرتفع، وهو معنى معلوف في كلام العرب، ومنه قول الشاعر ٤ :
إلى السيد الصعب لو أنه | يقوم على ذروة الصاقب |
لأصبح رتما دقاق الحصى | مكان النبي من الكاثب |
وقوله :﴿ ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ فيه وجهان من التفسير معروفان ٥ : قال قوم من علماء التفسير : إن قوله :﴿ ومن ﴾ في محل رفع، وأنه معطوف على لفظ الجلالة، أي : حسبك الله وحسبك من اتبعك من المؤمنين، يعينك الله ويؤيدك الله بالمؤمنين. وهذا مروي عن الحسن البصري. والذين قالوا هذا القول قالوا : هذه الآية مكية جعلت في سورة الأنفال وهي مدنية بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم، وزعموا أنها نزلت عندما أسلم عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – والنبي وأصحابه مختفون في دار الأرقم ابن أبي الأرقم في مكة، وأن عمر أظهر إسلامه حتى صلوا في المسجد، وما كانوا يقدرون، وأن الله أنزلها في مكة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بجعلها في هذه السورة المدنية أعني سورة الأنفال.
والتحقيق الذي دل عليه استقراء القرآن العظيم، وبه قال أكثر علماء التفسير المشهورين : أن قوله ﴿ ومن ﴾ عطف على الضمير في قوله :﴿ حسبك الله ﴾ معناه : كافيك الله وكافي معك من اتبعك من المؤمنين، فالله يكفيك المؤن وشرور الأعداء وكل بلية، كما أنه يكفي أتباعك من الصحابة فمن بعدهم ( رضي الله عنهم ). وهذا القول هو التحقيق، وقد دل استقراء القرآن عليه ؛ لأن الحسب – الذي هو الكفاية – من خصائص رب العالمين، ولم يسنده لأحد من خلقه حيث قال :﴿ ولو أنهم رضوا ما ءاتهم الله ورسوله وقالوا حسبنا الله سيؤتينا الله من فضله ورسوله ﴾ [ التوبة : الآية ٥٩ ] فجعل الإيتاء لله والرسول، والحسب لله وحده. وقال تعالى :﴿ فإن حسبك الله هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ﴾ [ الأنفال : الآية ٦٤ ] فجعل الحسب له وحده، والتأييد بنصر الله وبالمؤمنين. وقد أثنى الله ( جل وعلا ) على قوم أفردوه بالحسب – وهو الكفاية – كما في قوله :﴿ الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ( ١٧٣ ) ﴾ [ آل عمران : الآية ١٧٣ ] الله وحده ولم يذكر معه غيره، فأثنى عليهم بإفراد الخالق بهذا الحسب الذي هو الكفاية. ونظيره قوله في خاتمة براءة :﴿ فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم ( ١٢٩ ) ﴾ [ التوبة : الآية ١٢٩ ] هذا هو التحقيق – إن شاء الله – أن المعنى : يكفيك الله ويكفيني جميع أتباعك.
وفي هذين ترغيب عظيم في الإسلام ؛ لأن من اتبع النبي صلى الله عليه وسلم كفاه الله كما كفى نبيه صلى الله عليه وسلم.
وهذا التفسير هو الذي عليه جمهور علماء المفسرين، وهو الذي دل عليه استقراء القرآن كما بينا، إلا أنه يرد عليه سؤال عربي نحوي : وهو أن يقول طالب العلم : قررتم أن التحقيق أن ( من ) من قوله :﴿ ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ معطوفة على الكاف في قوله :﴿ حسبك ﴾٦ أي : حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين. والمقرر عند جماعة من علماء العربية أن الضمير المخفوض لا يجوز العطف عليه إلا بإعادة الخافض، وهنا لم يعد الخافض.
وأجيب عن هذا السؤال من أربعة أوجه ٧ :
أحدها : أن هذه القضية غير مسلمة ٨، وأن جماعة من علماء العربية أصحاب علم وتحقيق قالوا : لا مانع من العطف على الضمير المخفوض من غير إعادة الخافض. وهو رأي ابن مالك – رحمه الله – لأنه لما ذكر المذهب الأول بقوله في خلاصته ٩ :
وعود خافض لدى عطف على | ضمير خفض لازما قد جعلا |
وليس عندي لازما إذ قد أتى | في النظم والنثر الصحيح مثبتا |
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا | فاذهب فما بك والأيام من عجب |
نعلق في مثل السواري سيوفنا | وما بينها والكعب مهوى النفانف |
لقد رام آفاق السماء فلم | يجد له مصدعا فيها ولا الأرض مقعدا |
أمر مع الكتيبة لا أبالي | أحتفي كان فيها أم سواها |
الوجه الثاني : أن قوله :﴿ ومن اتبعك ﴾ في محل نصب معطوف على المحل ؛ لأن الكاف من قوله ﴿ حسبك ﴾ وإن كان في محل خفض مضاف إليه ما قبله فأصله مفعول ؛ لأن الحسب بمعنى الكفاية، والأصل : يكفيك. فالكاف في محل المفعول، والمعروف في علم العربية أن المخفوض بالإضافة الذي أصله النصب يجوز العطف عليه مخفوضا، وتجوز مراعاة محله فينصب المعطوف عليه وهو معروف في محله.
الوجه الثالث : وهو أظهرها وأبينها وأقلها تكلفا : أن قوله :﴿ ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ في محل نصب على أنه مفعول معه، بناء على القول بأن العطف ضعيف، وهو العطف المخفوض من غير إعادة الخافض فيتعين النصب على المفعول معه ( حسبك الله مع من اتبعك من المؤمنين ) وهذا واضح لا إشكال فيه، ونظيره من كلام العرب قول الشاعر ١٥ :
إذا كانت الهيجاء وانشقت العصا | فحسبك والضحاك سيف مهند |
الوجه الرابع : أن قوله :﴿ ومن اتبعك ﴾ في محل رفع على أنه مبتدأ خبره محذوف دل ما قبله عليه. أي : ومن اتبعك من المؤمنين فحسبهم الله أيضا. وهذا معنى قوله :﴿ حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين ﴾ [ الأنفال : الآية ٦٤ ].
٢ مضى عند تفسير الآية (٨٩) من سورة الأنعام..
٣ مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام..
٤ مضى عند تفسير الآية (١٥٨) من سورة الأعراف. ولفظ الشطر الأول من البيت الأول في ديوانه:
عـــــلــــى الأروع الـــــســـقــــب لـــو أنـــه......................................
٥ انظر: ابن جرير (١٤/ ٤٩)، القرطبي (٨/ ٤٣ الأضواء (٢/ ٤١٦)، ولابن القيم (رحمه الله) تحقيق جيد في معنى الآية ذكره في زاد المعاد (١/ ٣٥)..
٦ مضى عند تفسير الآية (٥٩) من هذه السورة..
٧ انظر: البحر المحيط (٤/ ٥١٥)، الدر المصون (٥/ ٦٣١)، الأضواء (٢/ ٤١٧)..
٨ أطال ابن مالك (رحمه الله) في إبطالها. انظر شرح الكافية (٣/ ١٢٤٦ - ١٢٥٥).
٩ الخلاصة ص ٤٨..
١٠ انظر: المبسوط لابن مهران ١٧٥..
١١ الكتاب (٢/ ٣٨٣)، وهو في شرح الكافية (٣/ ١٢٥٠)..
١٢ البيت في شرح الكافية (٣/ ٢١٥١)..
١٣ لم أقف عليه..
١٤ البيت في شرح الكافية (٣/ ١٢٥٢) وهو للعباس بن مرداس..
١٥ البيت في القرطبي (٨/ ٤٢)، الدر المصون (١/ ٣٨٤)، ذيل الأمالي ص ١٤٠، ونسبه لجرير، وليس في ديوانه..
ثم قال :﴿ وإن يكن منكم مائة يغلبون ألفا من الذين كفروا ﴾ قرأ هذا الحرف نافع وابن كثير وابن عامر :﴿ وإن تكن منكم مائة ﴾ بالتاء الفوقية. وقرأه العراقيون أعني أبا عمرو البصري والكوفيين الثلاثة – عاصما وحمزة والكسائي – قرؤوه كلهم :﴿ وإن يكن منكم مائة يغلبون ألفا ﴾ بالياء التحتية كما قبله١ ؛ لأن المائة إذا قابلت ألفا فكل واحد بعشرة.
وكأن قائلا قال : لم كان الواحد من المسلمين يغلب العشرة من الكفار، ويجب عليه أن يصبر لها، والله لم يوجب عليه ذلك إلا لعلمه بأنه قرن لها وكفؤ لها عند الضرورة قبل أن يكثر المسلمون، فما موجب هذا حيث يكون الواحد من هؤلاء يقوم العشرة من هؤلاء ؟ فبين الله ( جل وعلا ) الحكمة في ذلك، / وهذه الحكمة التي بين الله بهذه الآية من سورة الأنفال حكمة سماوية عظيمة تحتها أسرار هائلة يجب على كل مسلم أن يتصفحها ويتعقلها ويتدبر معانيها، وخصوصا كل الخصوص تحتمها على العسكريين من المسلمين، يجب عليهم كل الوجوب أن يتأملوا هذه الآية من سورة الأنفال، وأن يتصفحوا معناها، فإن فيها سرا عظيما لو تعقله المسلمون لفهموا الحقائق، ولما ساروا في الظلام ؛ لأن الله لما قال :﴿ إن يكن منكم عشرون صبرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا ﴾ بين علة ذلك وأوضحها فقال :﴿ بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ ﴿ ذلك ﴾ وهو كون الواحد يغلب عشرة منهم ويصابرها بسبب أنهم قوم لا يفقهون. أي : لا فقه عندهم ولا فهم عن الله، والذي لا يفقه عن الله ولا يفهم ما عنده فهو كالبهيمة ليس له مبدأ يقاتل عليه، والذي يتقدم إلى الميدان في خطوط النار الأمامية ليس عنده مبدأ نبيل يقاتل عليه فهو مائع، هزيمته قريبة سريعة، لا يقاوم أبدا. فإذا التقى من لا فقه عنده بمن فقه عن الله فالمسلم القائم في الميدان للعشرة يفقه عن الله ويفهم، ويقول : إن ربي اشترى مني هذه الحياة القصيرة في هذه الأيام المعدودة، وهي حياة مكدرة بالأمراض والأسقام والمصائب والبلايا والأحزان، اشتراها مني بحياة سرمدية أبدية لا انقطاع فيها ولا كدر ولا ألم ولا حزن، وهذا المال القليل اشتراه مني بالحور العين والولدان وغرف الجنان ومجاورة رب غير غضبان، فهو ينتظر ما عند الله، فاهم عن الله، يفقه عن الله، فهو متقدم في الميدان، لا يهزم أبدا، ولو قتل لكانت هي أمنيته، فهذا الذي يقاتل على هذا المبدأ النبيل، وهذا الغرض الصحيح، فاهما عن الله، يفقه عن الله، هذا لا يقاومه الأهوج الجاهل الذي لا يفقه شيئا، ولا يقاتل على مبدأ، فحياته أهم عنده مما يقاتل عليه، فالذين لا يفقهون عن الله من الجنود العسكريين لا يمكن أن يردوا سليبا، ولا أن يعلوا كلمة الله ؛ لأنهم لا مبدأ لهم، وهم قوم لا فقه لهم، فلا يقاتلون على شيء ترخص بسببه نفوسهم عندهم ويرغبون فيما عند الله.
وهذا سر لطيف عظيم، وتعليم سماوي هائل، يفهم به المسلمون أن أول شيء من الأساسيات للاستعداد للميدان هو الفقه عن الله، فيجب كل الوجوب أن يعلم العسكريون عن الله حتى يفقهوا ؛ لأنهم إذا كانوا فاهمين عن الله، عارفين بنبل المبدأ الذي يقاتلون عليه، كانوا شجعانا وصابرين، لا يرجعون القهقرى ولا يهزمون، كما سجله التاريخ لأوائل هذه الأمة. وإن كانوا لا يفقهون عن الله شيئا، جهلة كالأنعام لا مبدأ لهم يقاتلون عليه، فهم ليسوا بأساس ولا معول عليهم، يهزمون مع كل ناعق كما بينته هذه الآية العظيمة الكريمة من سورة الأنفال. وهذا معنى قوله :﴿ بأنهم قوم لا يفقهون ﴾ [ الأنفال : الآية ٢٥ ].
الفقه في لغة العرب : معناه الفهم ﴿ قالوا يشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول ﴾ [ هود : الآية ٩١ ] أي : ما نفهمه ؛ لأنهم لا يفهمون عن الله شيئا. وهذا معنى قوله :﴿ بأنهم قوم لا يفقهون ﴾.
﴿ وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ قرأه جماهير القراء منهم عامة السبعة غير عاصم وحمزة :﴿ وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ بضم الضاد. وقرأه عاصم وحمزة :﴿ وعلم أن فيكم ضعفا ﴾ ١ والضعف والضعف لغتان فصيحتان، وقراءتان سبعيتان صحيحتان ﴿ خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا ﴾.
﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة ﴾ هذا الحرف الأخير الذي هو قوله :﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة ﴾ لم يقرأه بالياء من السبعة إلا الكوفيون الثلاثة – وهم عاصم وحمزة والكسائي – أما أبو عمرو البصري هنا فقد وافق غيره، فصار نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو يقرؤون :﴿ فإن يكن ﴾ بالتاء، وعاصم وحمزة والكسائي يقرؤون :﴿ فإن يكن ﴾ بالياء. وهما لغتان فصيحتان، وقراءتان سبيعتان صحيحتان ﴿ فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين ﴾ الواحد لاثنين ﴿ وإن يكن منكم ألف يغلبون ألفين ﴾ الواحد لاثنين ﴿ بإذن الله ﴾ جل وعلا ﴿ والله مع الصبرين ﴾ معية نصر وتوفيق وتأييد. وهذا معنى قوله :﴿ والله مع الصبرين ﴾.
لما انهزم المشركون يوم بدر كان سعد بن معاذ ( رضي الله عنه ) قائما متوشحا سيفه على العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، رآه النبي صلى الله عليه وسلم ينظر كأنه ينظر إلى شيء يكرهه فقال : " كأنك تنظر إلى شيء تكرهه ! ! " قال : نعم، رأيتهم يأسرون الكفار ورغبتي أن يقتلوا ؛ لأن قتل الكفار أقوى للإسلام وأشد مناعة لشوكته، ويحصل به ضعف المشركين وانكسار شوكة الكفر، فقتلهم هنا أحب إلي ١.
ولما اجتمع الأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار أصحابه، فجاءت روايات متعددة أن ممن أشار عليه أبو بكر وعمر وعبد الله بن رواحة، ومن أكثرها إشارة أبي بكر وعمر، وأن أبا بكر قال له : يا رسول الله، إنهم قومك وعشيرتك فلا تعجل عليهم وهم كفار، فاستبقهم وأمهلهم لعل الله أن يهديهم، وخذ من فدائهم ما يتقوى به المسلمون على الجهاد في سبيل الله. وقال له عمر : هؤلاء قوم كذبوك وأخرجوك وهم رؤساء الكفر فاقتلهم، فأعط عقيل بن أبي طالب لأخيه علي – وعقيل من الأسارى ذلك اليوم – يقتله، وادفع العباس لحمزة ليقتله، وأعطني فلانا – رجل كان بينه وبين عمر نسب – ليعلم الله أن لا هوادة بيننا وبين الكفار، فإن قتل رؤساء الكفر هو الذي يكسر شوكة الكفر ويذله، ويعز دين الإسلام ويعلي كلمة الله. فكأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أميل إلى ما قاله أبو بكر ( رضي الله عنه ). وذكروا في هذه الروايات أنه قال لأبي بكر : " قلت كما قال عيسى :﴿ إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم ﴾ " [ المائدة : الآية ١١٨ ]. وفي رواية أنه قال له : " قلت كما قال إبراهيم :﴿ فمن تبعني فإنه مني ومن عصاني فإنك غفور رحيم ﴾ " [ إبراهيم : الآية ٣٦ ] وفي بعض الروايات قال لعمر : " قلت كما قال موسى :﴿ ربنا اطمس على أمولهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم ﴾ " [ يونس : الآية ٨٨ ] وفي بعضها أنه قال له : " قلت كما قال نوح :﴿ رب لا تذر على الأرض من الكفرين ديارا ﴾ " الآيات [ نوح : الآية ٢٦ ]. وفي بعض الروايات أن معهم عبد الله بن رواحة ( رضي الله عن الجميع )، وأنه قال له : أنت في واد كثير الحطب فأضرم عليهم النار ٢. وعلى كل حال فلما أخذوا الأسارى أخذهم الذين أسروهم أولا ولم يأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسرهم، وكانوا يرغبون في الفداء ليتقووا بالمال، فلما استقروا تحت أيديهم كان ذلك الرأي ليس مستبعدا عنده صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل فيه وحي، فبعد أن أخذوا الأسارى جاءهم هذا اللوم من الله، وهذا الأمر العظيم، وقرب العذاب منهم لولا الكتاب السابق. ولما كان من الغد جاء عمر ( رضي الله عنه ) ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر يبكيان، فقال : ما يبكيكم، أخبراني بما يبكيكما ؟ فإن وجدت بكاء بكيت معكما، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " عرض علي عذاب أصحابك كهذه الشجرة – لشجرة قريبة منه ٣ صلى الله عليه وسلم – لأن الله قال لهم :﴿ لولا كتب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ( ٦٨ ) ﴾ " [ الأنفال : الآية ٦٨ ] ثم إن الله بعد ذلك أحل لهم ذلك المغنم وطيبه لهم في قوله :﴿ فكلوا مما غنمتم حللا طيبا ﴾ [ الأنفال : الآية ٦٩ ] ويدخل فيه فداء الأسارى.
ومعنى قوله :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى ﴾ [ الأنفال : الآية ٦٨ ] أن يأسر الرجال ويستعين بالمال بفدائهم حتى يثخن في الأرض. الإثخان : معناه الإيجاع في الأرض قتلا، حتى يوجع في الأرض قتلا، ويقتل الصناديد الكفرة والرؤساء العظام التي تضعف بهم شوكة الكفر وأهله. والإثخان : أصل الإثخان شدة الإيجاع في الأرض بالقتل ٤. وقالوا : أثخنوهم أي : أوجعوا فيهم قتلا شديدا ذريعا، وأثخنه الجراحة : اشتدت عليه حتى أثبتته. وهذا الذي لامهم عليه هنا وبين لهم أنه ما كان هو الصواب، ولا هو الأولى أوضحه وشرحه في سورة القتال في قوله :﴿ فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا اثخنتموهم ﴾ [ محمد : الآية ٤ ] أي : أوجعتموهم قتلا، قتلا يضعف شوكة الكفر ويذل أهله، بعد ذلك ﴿ فشدوا الوثاق ﴾ وهو الأسر ﴿ فإما منا وإما فداء ﴾ لذا قال هنا :﴿ ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض ﴾ يعني ما كان ينبغي لكم ولا يصح منكم أولا أن تلتزموا أول وقعة نصركم الله فيها بالأسرى تريدون المال، لا ينبغي هذا منكم، وما كان هو الأولى لكم، كان الأولى لكم قتلهم وحصدهم حتى يذل الكفر ويستكين أهله، وتقوى شوكة الإسلام ويعز أهله. وهذا معنى قوله :﴿ حتى يثخن في الأرض ﴾ أي : يوجع فيها قتلا ؛ لأن ذلك القتل الوجيع هو الذي يذل الكفر ويكسر شوكته، ويعز الإسلام ويرفع كلمة الله ( جل وعلا ). وهذا معنى قوله :﴿ حتى يثخن في الأرض ﴾.
ثم لامهم لوما شديدا عظيما من الله قال :﴿ تريدون عرض الدنيا ﴾ يعني : حطام الدنيا الزائل. فسماه عرضا لأنه عارض الوجود يعروه الزوال عن قريب، كما قدمنا في قوله :﴿ يأخذون عرض هذا الأدنى ﴾ [ الأعراف : الآية ١٦٩ ] والله ( جل وعلا ) لا يريد عرض الدنيا بل يريد الآخرة، يريد لكم الآخرة بأن تقتلوا الكفرة، وتكسروا شوكة الكفر، وتذلوا أهله وأهلها، وتعزوا كلمة الله وتعلوا دين الله في أرضه، وهذه هي الآخرة التي يريدها لكم، وهذه الإرادة إرادة شرعية دينية، ولو كانت إرادة قدرية كونية لنفذت على كل حال ؛ لأن الله إذا أراد بإرادته الكونية القدرية شيئا لا بد أن ينفذ كائنا ما كان ﴿ إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون ( ٨٢ ) ﴾ [ يس : الآية ٨٢ ] فهذه إرادته الشرعية الدينية لكم كان الأولى لكم شرعا ودينا أن تقتلوهم فتعلوا كلمة الله، وتذلوا كلمة الكفر، وهذا معنى قوله :﴿ حتى يثخن في الأرض ﴾. ﴿ تريدون عرض الدنيا ﴾ أي : حطامها الزائل ؛ لأنه عارض ينقضي ويزول ﴿ والله يريد الأخرة ﴾ أي : الدار الآخرة. ومن أعظم أسباب الخلود في جناتها إعلاء كلمة الله، وإذلال كلمة الكفر، وأكبر أسباب ذلك قتل الرؤساء قادة الكفار وسادتهم. وهذا معنى قوله :﴿ والله يريد الأخرة ﴾.
﴿ والله عليم حكيم ﴾ قدمنا الكلام عليه قريبا.
٢ تقدم تخريجه عند تفسير الآية (١٢) من هذه السورة..
٣ مسلم في الجهاد والسير، باب الإمداد بالملائكة في غزوة بدر وإباحة الغنائم. حديث رقم: (١٧٩٣) (٣/ ١٣٨٣)..
٤ انظر: القرطبي (٨/ ٤٨)، الدر المصون (٥/ ٦٣٧)..
ولو أن فرعون لما طغى | وقال على الله إفكا، وزورا |
أناب إلى الله مستغفرا | لما وجد الله إلا غفورا٢ ٣ |
٢ لم أقف على البيتين..
٣ هذا هو الدرس الأخير من دروس الشيخ رحمه الله في شهر رمضان عام (١٣٩١) وكان ذلك في اليوم الخامس والعشرين منه..
جرى على ألسنة العلماء من المفسرين والأصوليين أن هذه الآية الكريمة من أخريات سورة الأنفال نزلت في العباس بن عبد المطلب ( رضي الله عنه ) ١. والتحقيق أنها نزلت في جميع أسارى بدر، ولو فرضنا أنها نزلت في العباس فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب، وإنما قالوا : إنها نزلت في خصوص العباس مع أنها نازلة في جميع أسارى بدر ؛ لأن العباس بن عبد الطلب ( رضي الله عنه ) هو أكثرهم نصيبا وأوفرهم حظا فيها ؛ لأنه أخذ منه في الفداء ما لم يؤخذ من غيره، فصار كأنه أخص منهم بهذه الآية ؛ ذلك لأن العباس بن عبد المطلب ( رضي الله عنه ) كان من أشراف قريش الذين ضمنوا لهم الإطعام في غزوة بدر، وكان يوم بدر هو اليوم الذي عليه هو أن يطعم – كما قاله أصحاب المغازي والسير – فاشتغل الناس بالقتال عن الإطعام، وكان جعل معه عشرين أوقية من ذهب ليطعم بها الناس، فلما أسره المسلمون أخذوا العشرين معه. وذكر بعض أصحاب المغازي أنه كان رجلا موسرا فأمرهم النبي أن يضعفوا الفداء عليه ٢، فأخذوا منه ثمانين أوقية، وضاعت له عشرون أوقية، فكان المجموع : مائة أوقية. وأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يفدي ابني أخويه أسيرين معه، أسرا يوم بدر. وذكر بعضهم أنه صلى الله عليه وسلم أمر العباس أيضا أن يفدي حليفه وهو عتبة بن عمرو ( رضي الله عنه )، أخو بني الحارث بن فهر، كان حليفا للعباس بن عبد المطلب ٣، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في يوم بدر كما ذكره أصحاب المغازي قال : " إن بعض من يلقونكم في هذا الجيش خرجوا مستكرهين فمن لقي منكم العباس فلا يقتله ؛ لأنه أكرهه قومه على الخروج، ومن لقي أبا البختري فلا يقتله ". وكان أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة ( رضي الله عنه ) وقعت منه زلة يوم بدر، وكان يقول : منذ سقطت مني تلك الكلمة وأنا أخافها لا آمن منها أبدا حتى يكفرها الله عني بالشهادة. فقتل شهيدا أيام اليمامة ( رضي الله عنه ). وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال : " من لقي منكم العباس فلا يقتله فإنه خرج مستكرها ". قال أبو حذيفة بن عتبة ( رضي الله عنه ) : أنقتل آباءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس ! والله إن لقيته لألجمنه السيف. فسمع بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا أنه قال لعمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) : " يا أبا حفص " – قال عمر : ما كناني أبا حفص قبل ذلك اليوم – " أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم " ؟ فقال : إنه نافق دعني أقتله ٤.
وكان أبو حذيفة ( رضي الله عنه ) يتخوف من كلمته هذه حتى رزقه الله الموت شهيدا أيام اليمامة. وكذلك نهى عن أبي البختري ؛ لأنه كان يحسن إلى بني هاشم أيام كونهم في الشعب لما قاطعهم قريش، وكان يعاملهم معاملة حسنة ولم يؤذهم، فجاءه المجذر بن زياد البلوي ( رضي الله عنه ) فقال : أما أنت فقد نهانا عنك رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان له زميل، فقال له : وزميلي. فقال : أما زميلك فلم ينهنا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأراد المجذر أن يقتل زميله، فتعرض دونه وقال ٥ :
لا يسلم ابن حرة زميله | حتى يموت أو يرى سبيله |
وتراجز هو والمجذر ( رضي الله عنه ) وكان ذلك يقول ٦ :
أنا الذي أزعم أصلي من بلي | أضرب بالحربة حتى تنثني |
ومما يدل على هذا من اللغة : إجماع أهل اللسان العربي أن الرجل لو كان له أربع زوجات فقامت إحداهن وسبت هذا الرجل وأغضبته فقال : أنتن كلكن طوالق. فإنهن كلهن يطلقن بحسب المدلول العربي ولا يختص بالمرأة التي أغضبته فاستوجبت الطلاق كما لا يخفى. وهذه الآية الكريمة نزلت في العباس بن عبد المطلب، وحكمها عام لمن معه، وظاهرها يشمل جميع الأسرى ؛ لأنه قال :﴿ يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى ﴾ [ الأنفال : الآية ٧٠ ] قرأ هذا الحرف عامة القراء غير نافع :﴿ يأيها النبي قل لمن في أيديكم ﴾ بالإدغام.
وقرأه نافع وحده من السبعة :﴿ يا أيها النبيء ﴾ بالهمزة من غير إدغام، ونافع قرأ لفظ النبيء والأنبئاء في جميع القرآن بالهمزة المحققة في رواية ورش في جميع القرآن، وفي رواية قالون عنه في جميع القرآن إلا في حرفين من سورة الأحزاب فقط، وهما قوله :﴿ إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي ﴾ [ الأحزاب : الآية ٥٠ ] وقوله :﴿ لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم ﴾ [ الأحزاب : الآية ٥٣ ] فهذين الحرفين قرأهما عنه قالون كقراءة الجمهور، وقرأهما عنه ورش بالهمزة المحققة كغيرها في سائر القرآن ١١.
وقوله ﴿ قل لمن في أيديكم من الأسرى ﴾ قرأه عامة السبعة غير أبي عمرو :﴿ قل لمن في أيديكم من الأسرى ﴾ وقرأه أبو عمرو وحده من السبعة :﴿ يأيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسارى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا ﴾ ١٢ ومعنى الآية الكريمة : أن الله ( جل وعلا ) أمر نبيه أن يقول لمن في أيدي المسلمين من أسارى بدر يقول لهم هذا الكلام.
( الأسارى ) جمع أسير، و ( الأسرى ) جمع أسير، إلا أن ( الأسير ) يجمع على ( أسرى ) قياسا مطردا، وقاعدة معروفة ؛ لأن ( الفعيل ) المتصف بما يرثى له به يطرد جمعه تكسيرا على ( فعلى ) ١٣ كمريض ومرضى، وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى، وصريع وصرعى، وأسير وأسرى ١٤.
أما على قراءة ﴿ أسرى ﴾ فهو جمع مسموع، وإتيان الجموع على ( فعالى ) أو ( فعالى ) مسموع ولا يطرد منه شيء قياسا، ككسالى، وأسارى، ويتامى، وحيارى، وما جرى مجرى ذلك ١٥.
وقوله :﴿ قل لمن في أيديكم ﴾ المراد ب ﴿ قل لمن في أيديكم ﴾ من كانوا تحت أيديكم من الأسارى، وكل شيء كان في قبضة الإنسان وتحت قدرته وتصرفه تقول العرب : هو في يده ؛ لأن اليد هي التي تزاول بها الأعمال وتؤخذ بها الأعمال وتؤخذ بها الأشياء عادة ١٦.
والأيدي جمع ( يد )، واليد من الألفاظ التي حذفت العرب لامها ولم تعوض منها شيئا، وأعربتها على العين، فدال اليد في محل العين، وهي معربة على عينها وهو الدال، نزل منزلة لامها، وحذفت لامها، وتنوسيت، وهي إحدى ألفاظ معروفة كذلك، كيد، ودم، وغد، ودد، وهن، وما جرى مجرى ذلك ١٧. وأصل لامها المحذوفة ياء، أصلها ( يدي ) فاؤها ياء، وعينها دال، ولامها ياء. ولامها المحذوفة إنما ترد عند التصغير وجمع التكسير، ففي تصغيرها تقول :( يديه ) وفي جمعها تقول : فاقطعوا أيديهما. وأصله :( أيديهما ) على وزن ( أفعل ) لأن الأيدي أصل وزنه ( أفعل ) ( فعل ) محذوف اللام مجموع على ( أفعل ) إلا أن ضمة العين تجعل كسرة لمجانسة الياء، وربما نطقت العرب باليد مثبتة لامها إثبات المقصور على الألف كالفتى. سمع هذا عنهم قليلا، ومنه قول الراجز ١٨ :
يا رب سار بات ما توسدا | إلا ذراع العيس أو كف اليدا |
وقوله :﴿ من الأسرى ﴾ الأسرى جمع أسير، والأسير ( فعيل ) بمعنى ( مفعول ) وهو اسم المفعول من ( أسره ) العرب تقول : أسره يأسره أسرا. فالفاعل ( آسر ) والمفعول ( مأسور ) إذا شده بالوثاق. وأصل هذه المادة مأخوذة من الإيسار، والإيسار : القد. والقد : هو جلد البعير غير المدبوغ ؛ لأن جلد البعير إذا لم يدبغ تسميه العرب قدا. وكانوا يشدون الأسير بالجلد عند سلخه طريا، فإذا يبس اشتدت قوته ولا يقدر أحد على حله ولا قطعه ولا نزعه، ومن هنا قيل لكل مشدود شدا محكما : إنه مأسور. وأصله من ( الإيسار ) وهو الشد بالإسار، أعني القد وهو جلد البعير إذا كان غير مدبوغ. ومن هذا المعنى قوله تعالى :﴿ نحن خلقنهم وشددنا أسرهم ﴾
٢ انظر دلائل النبوة (٣/ ١٤١)، الدر المنثور (٣/ ٢٠٤)، سبل الهدى والرشاد (٤/ ٧١)، وأورده القرطبي (٨/ ٥٢) وعزاه للنقاش..
٣ مضى عند تفسير الآية (١٢) من سورة الأنفال..
٤ السابق..
٥ السابق..
٦ السابق..
٧ أخرجه البيهقي في الدلائل (٣/ ١٤١) من طريق ابن إسحاق، وعنهما أورده ابن كثير في تاريخه (٣/ ٢٩٩)..
٨ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام..
٩ مضى عند تفسير الآية (٣١) من سورة الأعراف..
١٠ السابق..
١١ مضى عند تفسير الآية (١١٢) من سورة الأنعام..
١٢ انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٢٣..
١٣ مضى عند تفسير الآية (٣٦) من سورة الأنعام..
١٤ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٣٦) من سورة الأنعام..
١٥ انظر: حجة القراءات ٣١٤، الدر المصون (٥/ ٦٣٧)..
١٦ مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنفال..
١٧ مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنفال..
١٨ السابق..
حلفت برب الراقصات إلى منى | يجوب الفيافى نصها وزميلها |
لإن عاد لي عبد العزيز بمثلها | وأمكنني منها إذا لا أقيلها |
وقوله :﴿ خيانتك ﴾ الياء فيه منقلبة عن الواو ؛ لأن مادة ( الخيانة ) أصلها من أجوف واوي العين، أصلها من ( خون ) ولذا يقال في المبالغة منها :( خوان ). ولو كانت يائية لقيل :( خيان ) ويقال في ماضيها : خان يخون. ولو كانت يائية لقيل : يخين. إلا أن القاعدة المقررة في التصريف أن الواو إذا تقدمتها كسرة وجاء بعدها ألف وجب إبدالها ياء، كالخيانة من الخون، والحيازة من الحوز، والصيانة من الصون، والقيامة من قام يقوم٢. قال بعض علماء العربية : على القول بجمع المصادر تجمع الخيانة على ( خيائن ) اعتداد بالياء المبدلة من الواو، والقياس أن تجمع على ( خوائن ) إلا أنهم فرقوا بين جمع ( خيانة ) وبين جمع ( خائنة ) فجعلوا هذه بالياء وإن كان أصلها الواو.
﴿ فقد خانوا الله من قبل ﴾ خيانتهم لله هي كفرهم بالله، وعبادتهم للأصنام، وتكذيبهم لنبيه صلى الله عليه وسلم ﴿ فأمكن منهم والله ﴾ جل وعلا ﴿ عليم حكيم ﴾ ﴿ عليم ﴾ ( الفعيل ) من صيغ المبالغة، وعلمه ( جل وعلا ) يستحق أن يبالغ فيه ؛ لأن علمه محيط بكل شيء، وهو ( جل وعلا ) يعلم الموجودات والمعدودات والواجبات والجائزات والمستحيلات، حتى إنه من إحاطة علمه ليعلم المعدوم الذي سبق في علمه أنه لا يوجد، فهو يعلم أن لو وجد كيف يكون، وإن سبق في علمه أنه لا يكون ؛ لإحاطة علمه بكل شيء، فهو يعلم أن أبا لهب لم يؤمن، ويعلم لو آمن أيكون إيمانه تاما أو ناقصا مثلا، والآيات القرآنية الدالة على هذا المعنى كثيرة جدا، من ذلك : أن الكفار إذا عاينوا القيامة ورفع عنهم الغطاء، وشاهدوا الحقائق تمنوا الرد إلى الدنيا مرة أخرى ﴿ فقالوا يليتنا نرد ولا نكذب بئايت ربنا ﴾ [ الأنعام : الآية ٢٧ ] وفي القراءة الأخرى ٣ :﴿ ولا نكذب بئايت ربنا ﴾ وهذا الرد إلى الدنيا الذي تمنوه الله عالم بعلمه الأزلي أنه لا يكون، ومع علمه بأنه لا يكون فهو عالم أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله :﴿ ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكذبون ﴾ [ الأنعام : الآية ٢٨ ].
والمتخلفون عن غزوة تبوك لا يحضرونها أبدا ؛ لأن الله خلفهم عنها لحكمة وإرادة إلهية كما قال :﴿ ولو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم وقيل اقعدوا مع القعدين ( ٤٦ ) ﴾ [ التوبة : الآية ٤٦ ] ومع كون خروجهم لا يكون هو عالم أن لو كان كيف يكون، كما صرح به في قوله :﴿ لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خللكم يبغونكم الفتنة ﴾ الآية :[ التوبة : الآية ٤٧ ]. ونظائر هذا كثيرة في القرآن، فعلم الله محيط بكل شيء. و ( الفعيل ) صيغة مبالغة.
وقوله :﴿ حكيم ﴾ فالعليم والحكيم من أسمائه ( جل وعلا ) وكلاهما تتضمن صفة من صفاته ( جل وعلا ) ؛ لأنه حكيم عليم. قال بعض العلماء : الحكيم لأنه حكيم في أقواله وأفعاله وتشريعاته، فلا يقول إلا ما هو في غاية الإحكام، ولا يفعل إلا ما هو في غاية الإحكام ولا يأمر إلا بالخير، ولا ينهى إلا عن الشر، ولا يجازي بالشر إلا الشر، ولا بالخير إلا الخير. وكان بعض العلماء يقول : الحكمة هي العلم النافذ الذي يعصم الأقوال والأفعال أن يعتريها الخلل. وهي في الاصطلاح : إيقاع الأمور في مواقعها ووضعها في مواضعها ٤، ولا تتم الحكمة إلا بالعلم، فلا تتم الحكمة إلا بتمام العلم، وفي قدر ما يكون في العلم من النقص يكون في الحكمة ؛ لأنك ترى الحاذق القلب البصير يعمل الأمر يظن أنه في غاية الإحكام، وغاية الإتقان، وأنه وضعه في موضعه، وأوقعه في موقعه، ثم ينكشف الغيب بعد ذلك أن فيه هلاكه أو ضررا عظيما عليه فيندم ويقول : ليتني لم أفعل، ولو فعلت لكان كذا، كما قال ٥ :
ليت شعري وأين مني ليت | إن ( لوا ) وإن ( ليتا ) عناء |
ألام على ( لو ) ولو كنت عالما | بأذناب ( لو ) لم تفتني أوائله |
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ٨ أنك لا تكاد تنظر ورقة واحدة [ من المصحف الكريم إلا وجدت فيها إشارة إلى هذا الواعظ الأعظم، والزاجر الأكبر مما يبعث على الإحسان والمراقبة في جميع أحواله وأعماله، وقد بين الله ( جل وعلا ) أن الغاية والحكمة التي ] ٩ / خلق الله من أجلها الخلق هي أن يبتليهم، أي : يختبرهم أيهم أحسن عملا، كما قال في أول سورة هود :﴿ خلق السموت والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ﴾ ثم بين الحكمة فقال :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ [ هود : الآية ٧ ] وقال تعالى في أول سورة الكهف :﴿ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها ﴾ ثم بين الحكمة فقال :﴿ لنبلوهم أيهم أحسن عملا ﴾ [ الكهف : الآية ٧ ] وقال في أول سورة الملك :﴿ الذي خلق الموت والحيوة ﴾ ثم بين الحكمة فقال :﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملا ﴾ [ الملك : الآية ٢ ] ولم يقل : أكثر عملا، فإذا عرف العبد أنه خلق لأجل أن يختبر في إحسان العمل كان حريصا على الحالة التي ينجح بها في هذا الاختبار ؛ لأن اختبار رب العالمين يوم القيامة من لم ينجح فيه جر إلى النار، فعدم النجاح فيه مهلكة، وقد أراد جبريل ( عليه السلام ) أن ينبه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على عظم هذه المسألة وشدة تأكدها ١٠ فقال للنبي صلى الله عليه وسلم في حديثه المشهور : يا محمد – صلوات الله وسلامه عليه – أخبرني عن الإحسان ؟ أي " وهو الذي خلق الخلق من أجل الاختبار فيه، فبين له النبي صلى الله عليه وسلم أن طريقه الوحيدة هي هذا الواعظ الأكبر والزاجر الأعظم، الذي هو طريق المراقبة والعلم فقال : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " ١١.
وقد قدمنا ضرب العلماء مرارا ١٢ مثلا لهذا بأن الحاضرين أمام ملك لا ينتهك حماه، شديد العقاب لمن انتهك حرماته، لا يقدر أحد منهم أن يفعل شيئا يكره وهو ناظر إليه ! ! ورب السموات والأرض مطلع على ما يسره خلقه، ومع هذا فإنهم لا حياء عندهم ولا ماء في وجوههم، لا يستحيون ممن خلقهم ( جل وعلا ) وهو معهم أين ما كانوا، مراقب على خطرات قلوبهم وجميع أعمالهم. فعلى العاقل أن ينتبه لهذه الآيات، ويعلم أن ربه حكيم عليه، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور. ﴿ ولقد خلقنا الإنسن ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ( ١٦ ) ﴾ [ ق : الآية ١٦ ] فيعلم أن ربه ناظر إليه مطلع عليه، فلا يفعل أمام ربه إلا ما يرضي ربه ( جل وعلا )، أما أن يبارز ربه بالمعاصي بوجه لا حياء فيه ولا ماء فهذا مما لا ينبغي ؛ ولذا يقول ( جل وعلا ) بعد كل أمر ونهي :﴿ عليم حكيم ﴾ ﴿ خبير بما تعملون ﴾ ﴿ بصير بما تعملون ﴾ إلى غير ذلك من الآيات التي بمعناها.
٢ مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة الأنفال..
٣ مضى عند تفسير الآية (١٠١) من سورة الأنعام..
٤ مضى عند تفسير الآية (١٢٨) من سورة الأنعام..
٥ السابق..
٦ مضى عند تفسير الآية (٤٩) من هذه سورة..
٧ مضى عند تفسير الآية (٨٣) من سورة الأنعام..
٨ راجع ما تقدم عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام..
٩ في هذا الموضع انقطع التسجيل، وما بين المعقوفين [ ] زيادة يتم بها الكلام..
١٠ مضى عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام..
١١ مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة..
١٢ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٩) من سورة الأنعام..
وكان المسلمون في أول الإسلام يتوارثون بالهجرة والمؤاخاة دون القرابات ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزل المهاجرون بالأنصار والمهاجرون فقراء آخى بين المهاجرين والأنصار، فصاروا يتوارثون بتلك الأخوة دون القرابات، فإذا مات واحد منهم ورثه أخوه الذي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبينه دون قرابته، وكان الذين لم يهاجروا لا إرث لهم في إخوانهم الذين هاجروا ؛ لأنها كانت بالهجرة والمؤاخاة، ونسخ الله – تعالى – ذلك بقوله :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتب الله ﴾ [ الأنفال : الآية ٧٥ ] كما سيأتي إيضاحه.
ومعنى الآية الكريمة :﴿ إن الذين ءامنوا ﴾ هذه أولا في المهاجرين، الله ( جل وعلا ) كأنه قسم المؤمنين طوائف، طائفة هم المهاجرون ذكرهم بقوله :﴿ إن الذين ءامنوا وهاجروا ﴾ آمنوا بالله ورسوله وهاجروا أوطانهم وديارهم وأموالهم في سبيل الله ( جل وعلا ) وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم ؛ لأنهم جعلوا أموالهم في مؤن الجهاد من شراء السلاح، والمراكب للقتال، ومؤن القتال، وجاهدوا بأنفسهم حيث عرضوها للموت وللخطر في الجهاد، كل هذا في سبيل الله ﴿ إن الذين ءامنوا وهاجروا وجهدوا ﴾ الهجرة كانت هجرة متعددة أولها الهجرة إلى الحبشة – وقد هاجروا إلى الحبشة مرتين – ثم الهجرة إلى المدينة، وكانت الهجرة إلى المدينة واجبة، وكان الذي أسلم ولم يهاجر كالذي يسلم ويبقى في البوادي من الأعراب لا يرث من أخيه المسلم المهاجر شيئا، وكان الذين أسلموا ولم يهاجروا لا نصيب لهم في الغنائم، ولا في الخمس، ولا في شيء مما عند المسلمين، وليس لهم على المسلمين من النصر إلا إن استنصروهم على عدو في الدين خاصة كما سيأتي إيضاحه.
الطائفة الثانية : هم الأنصار، أهل المدينة، الذين كانوا قبلهم.
الطائفة الثالثة : هم الذين هاجروا بعد ذلك، فهم مهاجرون وأنصار وطائفة جاؤوا بع ذلك كما سيأتي تفاصيله وإيضاحه ؛ ولذا قال :﴿ إن الذين ءامنوا ﴾ أي : بالله ورسوله وبكل ما يجب به الإيمان ﴿ وهاجروا ﴾ هاجروا أوطانهم وأموالهم وديارهم. والمهاجرة : هجر الشيء أصله المباعدة منه. وقد هاجروا أولا إلى الحبشة، وثانيا إلى المدينة. ثم إن هذه الهجرة التي كان بها التوارث ولا يقبل من أحد إلا أن يفعلها نسخت بفتح مكة، وقال فيه النبي صلى الله عليه وسلم : " لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية " ٣.
والتحقيق أن الهجرة لا تنقطع أبدا، إلا أن الهجرة المخصوصة التي كانت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالمدينة هي التي انقطعت بفتح مكة لانتشار الإسلام في جزيرة العرب، أما الهجرة التي لا تنقطع فهي أن كل إنسان تعرض له في دينه، وصار لا يقدر على إقامة شعائر دينه في محل فواجب عليه بإجماع العلماء أن ينتقل من هذا المحل، ويبذل في ذلك كل مجهود حتى يصل إلى محل يتمكن فيه من إقامة شعائر دينه، وهذه الهجرة التي لا تنقطع. والمهاجر الحقيقي هو من هجر ما نهى الله عنه ورسوله كما هو معلوم. وهذا معنى قوله :﴿ إن الذين ءامنوا وهاجروا وجهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا ﴾ [ الأنفال : الآية ٧٢ ] مفعول ( آووا ) ومفعول ( نصروا ) كلاهما محذوف لدلالة المقام عليه. والمعنى آووا الذين هاجروا إليهم وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونصروهم. وهؤلاء الذين آووا ونصروا هم الأنصار أبناء قيلة، الذين كانوا من سكان المدينة، الذين هاجر إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
وقوله :﴿ ءاووا ﴾ العرب تقول : آواه يؤويه إيواء إذا جعل له مأوى ينضم إليه. أي : جعل له مسكنا ومنزلا يسكن إليه ؛ لأنهم أسكنوهم في ديارهم، وشاطروهم أموالهم، وهيؤوا لهم كل أسباب الراحة، وذلك معنى إيوائهم لهم. ونصروهم، النصر في لغة العرب : إعانة المظلوم. أي : أعانوهم على أعدائهم حتى تمكن الإسلام وانتشر وفتحت مكة، وفتحت جميع جزيرة العرب، وانتشر بعد ذلك الإسلام في أقطار الدنيا. ﴿ والذين ءاووا ونصروا ﴾ والمعنى : إن المهاجرين والأنصار بعضهم أولياء بعض، فعبر عن المهاجرين بلفظ :﴿ والذين ءامنوا وهاجروا وجدوا في سبيل الله ﴾ وعبر عن الأنصار ب ﴿ والذين ءاووا ونصروا ﴾ لأنهم آووا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ونصروهم على أعدائهم. ﴿ أولئك ﴾ أصل قوله :﴿ الذين ﴾ مبتدأ، وقوله :﴿ أولئك ﴾ مبتدأ، والمبتدأ وخبره خبر المبتدأ الأول، فلما دخلت ( إن ) صار المبتدأ الأول اسمها، والمبتدأ الأخير وخبره خبر ( إن ) كما هو معروف لا يخفى. هذا معنى ﴿ أولئك بعضهم أولياء بعض ﴾. معناه : أن المهاجرين أولياء الأنصار، والأنصار أولياء المهاجرين، فبعض المهاجرين أولياء المهاجرين والأنصار، وبعض الأنصار أولياء المهاجرون والأنصار، فهم أولياء بعضهم على بعض. وكانت هذه الولاية يتوارثون بها دون غيرهم، وهذه الولاية ولاية نصر ومعاونة ومساعدة وميراث تعم ذلك كله. وهذا معنى قوله :﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ الأولياء جمع ولي، والولي : كل من ينعقد بينك وبينه سبب يجعلك تواليه ويواليك تسميه العرب وليا٤ ؛ ولذا كان الله ولي المؤمنين ﴿ الله ولي الذين ءامنوا ﴾ لأنهم يوالونه بالطاعة ويواليهم بالجزاء والمغفرة، والمؤمنون بعضهم أولياء بعض. وهذا معنى قوله :﴿ أولئك بعضهم أولياء بعض ﴾.
والأولياء جمع الولي، وقد تقرر في فن التصريف أن ( الفعيل ) بمعنى اسم الفاعل يطرد جمعه على ( فعلاء ) إلا إذا كان معتل اللام أو مضعفا فينقاس جمع تكسيره على ( أفعلاء ) ٥فمثاله في المعتل : ولي وأولياء، وتقي وأتقياء، وسخي وأسخياء، وشقي وأشقياء، ونبي وأنبياء. ومثاله في المضعف : شديد وأشداء، وحبيب وأحباء. وما جرى مجرى ذلك.
﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ التنوين في قوله ﴿ بعض ﴾ تنوين عوض، عوض من الإضافة. أي : بعضهم أولياء بعضهم. فحذف المضاف إليه وعوض منه التنوين، ومعلوم أن من أقسام التنوين ما يسمى " تنوين العوض " سواء كان عوضا عن حرف، أو عن كلمة، أو عن جملة كما هو معروف في محله. هذا معنى قوله :﴿ والذين ءاووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض ﴾.
ثم قال :﴿ والذين ءامنوا ولم يهاجروا ﴾ هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا على أقسام : منهم الذين يرجعون إلى قبائلهم في البادية من الأعراب، ومنهم من يكون في أهل مكة، وهؤلاء الذين في أهل مكة منهم من يؤمن ولم ينزل بين أظهر الكفار اختيارا كالذي وقع ممن ذكرنا في سورة الأنفال، وهم العاص بن نبيه، والحارث بن زمعة بن الأسود، وعلي بن أمية، وأضرابهم الذين نزل فيهم :﴿ إن الذين توفهم الملئكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأوهم جهنم وساءت مصيرا ( ٩٧ ) ﴾. ثم إن الله استثنى منهم المستضعفين الذين لا حيلة لهم فعذرهم فقال :﴿ إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ( ٩٨ ) فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا ( ٩٩ ) ﴾ [ النساء : الآيات ٩٧- ٩٩ ]. كان ابن عباس يقول : أنا من المستضعفين من الولدان، وأمي من المستضعفات من النساء ٦. قبل هجرتهم، أما الذين أسلموا ورجعوا إلى ديارهم في البادية كأبي ذر وأمثاله ممن أسلموا، ثم رجعوا ولم يهاجروا، بل بقوا في البادية فهؤلاء لا يرثون إخوانهم المهاجرين، بل يرثهم قبلهم إخوانهم من الأنصار والمهاجرين، وليس لهم في غنيمة المسلمين ولا في خمس الغنائم شيء، إلا أنهم يحكم لهم بحكم الإيمان، وإذا استنصروا المسلمين استنصار دين خاصة فعليهم أن ينصروهم، إلا إذا استنصروهم على من بينهم وبينهم مهادنة وعهود كما يأتي تحريره قريبا إن شاء الله. وهذا معنى قوله :﴿ والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من وليتهم من شيء ﴾.
قال بعض العلماء : الولاية المنفية هنا هي ولاية الميراث خاصة، وهو مروي عن ابن عباس ٧ وجماعة من الصحابة فمن بعدهم.
وقال بعض العلماء : هي جميع الأنواع : الموالاة من الميراث والمعاونة.
والتحقيق : أنها عامة إلا ما استثني منها وهو النصر الديني خاصة ؛ لأن الله استثناه بقوله :﴿ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ﴾ هذا الذي بقي من ولايتهم مع عدم هجرتهم. وهذا معنى قوله :﴿ والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من وليتهم من شيء حتى يهاجروا ﴾ وقد بين عذر المستضعفين وعدم عذر الذين كانوا على قدرة وبقوا بين أظهر الكفار المحاربين للنبي صلى الله عليه وسلم حتى يهاجروا.
ثم قال :﴿ وإن استنصروكم في الدين ﴾. الاستنصار طلب النصر، وقد تقرر في علم العربية : أن من معاني السين والتاء : الطلب. استغفر : طلب المغفرة، واستطعم : طلب الطعام، واستسقى : طلب السقيا، واستنصر : طلب النصر، ﴿ وإن استنصروكم ﴾ أي : طلبوا نصركم في الدين.
قوله :﴿ في الدين ﴾ يدل على أنهم لو استنصروهم نصر قومية وعصبية أنهم ليس عليهم أن ينصروهم، وأن المناصرة إنما هي في الدين، فلا مناصرة في العصبيات، ولا في القوميات، ولا في الأراضي الفاسدة، وإنما المناصرة في الله، وفي دين الله ( جل وعلا ) ؛ ولذا قال :﴿ في الدين ﴾ والمراد بالدين : دين الإسلام كما قال :﴿ إن الدين عن الله الإسلام ﴾ [ آل عمران : الآية ١٩ ] ﴿ ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ﴾ [ آل عمران : الآية ٨٥ ]. وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل أن الدين شامل للإيمان والإحسان والإسلام حيث سأله عن الإيمان وفسره له، والإسلام وبينه له، والإحسان كذلك. ثم قال : " هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " ٨. فعلم من قوله : " يعلمكم دينكم " أن اسم الدين شامل لكل من الإحسان والإسلام والإيمان كما لا يخفى. وهذا معنى قوله :﴿ وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر ﴾ أي : فواجب عليكم نصرهم. أي : إعانتهم الإعانة الدينية لا الإعانة العصبية القومية فذلك لا يكون ؛ لأن الإعانات والانتصارات إنما هي في سبيل الله، وعلى كتاب الله، لا في سبيل الشيطان، ولا على سبيل العصبيات وقضايا الجاهلية الأولى كما لا يخفى. وهذا معنى قوله :﴿ فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثق ﴾ الجار والمجرور في قوله :﴿ على قوم ﴾ يتعلق بمحذوف، إلا إن استنصروكم على قوم فلا تنصروهم على قوم بينكم وبينهم ميثاق.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ٩ أن لفظ القوم يختص في الوضع العربي بالذكور دون الإناث، كما قال تعالى :﴿ لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء ﴾ [ الحجرات : الآية ١١ ] فعطفه النساء على القوم في آية الحجرات هذه يدل على أن القوم لا يتناول النساء وضعا، ومثل الآية الكريمة قول زهير وهو عربي
٢ انظر: الدر المصون (٥/ ٦٤٠)..
٣ أخرجه مسلم في الإمارة، باب: المبايعة بعد فتح مكة على الإسلام. حديث رقم: (١٨٦٤) (٣/ ١٤٨٨) من حديث عائشة (رضي الله عنها) مرفوعا. وقد أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب: هجرة النبي صلى الله عليه وسلم. حديث رقم: (٣٨٩٩) (٧/ ٢٢٦) موقوفا على ابن عمر. وأطرافه (٤٣٠٩، ٤٣١٠، ٤٣١١)..
٤ مضى عند تفسير الآية (٥١) من سورة الأنعام..
٥ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٣) من سورة الأعراف..
٦ أخرجه البخاري في التفسير، باب قوله: ﴿وما لكم لا تقتلون في سبيل الله...﴾ (٤٥٨٧، ٤٥٨٨)، (٨/ ٢٥٥)..
٧ ابن جرير (١٤/ ٧٨) من طريق علي بن أبي طلحة..
٨ مضى عند تفسير الآية (٥٨) من سورة البقرة..
٩ مضى عند تفسير الآية (٨٠) من سورة الأنعام..
ثم أتبع ذلك بأن الكفار بعضهم أولياء بعض، ويؤخذ من هذا – من قطع الولاية أولا بين الكفار والمؤمنين – أنه لا يرث كافر مسلما ولا مسلم كافرا ؛ لأن الميراث لا بد له من ولاية بين الوارث والموروث، وقد قطع الله الولاية بينهما، وما دل عليه ظاهر هذه الآية الكريمة جاء مصرحا به في الحديث الصحيح عنه ( صلوات الله وسلامه عليه ) حيث يقول : " لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر " ١ وهذا لا نزاع فيه بين المسلمين، دل عليه عموم هذه الآيات الكريمة، وصرح به النبي صلى الله عليه وسلم. ومن هذه الموالاة قال بعض العلماء ٢ : منها ولاية النكاح، فالمرأة المؤمنة لا يلي عقدها أبوها الكافر ؛ لأن الله قطع الولاية بين المؤمنين والكافرين، والله يقول :﴿ ولن يجعل الله للكفرين على المؤمنين سبيلا ﴾ [ النساء : الآية ١٤١ ] وقد قدمنا أن العبرة بعموم الالفاظ لا بخصوص الأسباب ٣.
وكذلك قال العلماء : لو كانت كافرة ذمية وأراد مسلم تزويجها ولها ولي عم أو أب من المسلمين فإنه لا يتولى عقد نكاحها ولو للمسلم، لانقطاع الولاية بين الكفار والمسلمين، وإنما يزوجها أقرباؤها من أهل دينها أو أساقفتهم. وشذ في هذه المسألة أصبغ – أحد أصحاب مالك بن أنس رحمه الله – فقال : إن الكافرة إذا كان لها ولي مسلم يزوجها من مسلم، قال : فعقد المسلم لها خير للمسلم من عقد الكافر ٤. وهذا القول ليس بصواب ؛ لأنه لا ولاية بين مسلم وكافر ألبتة، والكفار بينهم ولاية الكفر، ولاية الشيطان والكفر، كما قال الله :﴿ والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ﴾.
وهذه الآية تدل على أن الكفار بعضهم ولي بعض، وظاهرها أن الكافر يرث الكافر ولو اختلت مللهما من الكفر، وبهذا الظاهر تمسك من قال يرث النصراني اليهودي واليهودي النصراني، كما يتوارث غيرهم من أهل الملل. والصواب أنه لا يتوارث أهل ملتين للحديث الوارد في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم " لا يتوارث أهل ملتين " ٥ وهو الأصوب، وهو أخص ؛ لأنه يبين المراد بعموم هذه الآية الكريمة.
وقوله :﴿ والذين كفرا ﴾ مبتدأ، و ﴿ بعضهم ﴾ مبتدأ آخر، و ﴿ أولياء ﴾ خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول كما هو واضح. وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ٦ أن مادة الكاف والفاء والراء ( كفر ) أن معناها في لغة العرب التي نزل بها القرآن : الستر والتغطية، فكل شيء غطيته وسترته فقد كفرته، وهذا معنى معروف في كلام العرب مشهور مبتذل في كلامهم جدا، ومنه سمت العرب الليل كافرا ؛ لأنه يكفر الأجرام ويغطيها عن العيون بظلامه، ومنه قول لبيد بن ربيعة ( رضي الله عنه ) في معلقته ٧ :
حتى إذا ألقت يدا في كافر *** وأجن عورات الثغور ظلامها
ومن هذا المعنى قل بيد في معلقته هذه ٨ :
يعلو طريقة متنها متواتر *** في ليلة كفر النجوم غمامها
يعني : ستر النجوم وغطاها غمامها. هذا أصل المادة، وتكفير السيئات من هذه المادة ؛ لأن الله يغطيها ويسترها بحلمه حتى لا يظهر لها أثر يتضرر به صاحبها، وإنما قيل الكافر ( كافر ) لأنه يغطي أدلة التوحيد بجحوده مع وضوحها، ويغطي نعمة الله ويسترها كأنه ليس عليه إنعام من الله حيث يأكل. رزقه ويتقلب في نعيمه ويعبد غيره.
وقوله ( جل وعلا ) في هذه الآية الكريمة :﴿ إلا تفعلوه ﴾ هي ( إن ) الشرطية أدغمت في ( لا ) النافية. والمقرر في علم العربية : أن ( إن ) الشرطية التي تجزم فعلين إن جاءت بعد ( لا ) النافية لا تمنع عملها من الجزم، فهي ( إن ) الشرطية، وفعل الشرط هو قوله :﴿ إلا تفعلوه ﴾ مجزوم بحذف النون، وجزاء الشرط هو قوله :﴿ تكن فتنة ﴾ والتحقيق : أن ( تكن ) أنه تام، وأن ( فتنة ) فاعله، وليس من الأفعال الناقصة الناسخة كما هو الصواب، والضمير في قوله :﴿ تفعلوه ﴾ أما الضمير المرفوع الذي هو الواو فهو عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهو يتناول جميع المسلمين إلى يوم القيامة. وأما الضمير المنصوب فهو ضمير الواحد الغائب – أعني الهاء في قوله :﴿ إلا تفعلوه ﴾ – فلعلماء التفسير في مرجع هذا الضمير أقوال معروفة ٩ سنذكر طرفا منها ونبين الصواب فيها – إن شاء الله - : قال بعض العلماء :﴿ إلا تفعلوه ﴾ راجع إلى الميراث المفهوم من قوله :﴿ بعضهم أولياء بعض ﴾ لأنه يدخل فيها ولاية الميراث، إلا تتركوا الكافر يرث الكافر، والمسلم يرث المسلم دون الكافر تكن فتنة. وهذا مروي عن ابن عباس ١٠ وغيره، ومعه أقوال شبهه.
والتحقيق الذي لا شك فيه – إن شاء الله – أن الضمير – الهاء – في قوله :﴿ إلا تفعلوه ﴾ عائد إلى ما ذكره الله ( جل وعلا ) من ولاية المسلمين بعضهم بعضا ومقاطعتهم للكفار، وولاية الكفار بعضهم بعضا وقد جرت العادة في كلام العرب الذي نزل به القرآن، وفي القرآن العظيم، أنه يرجع الضمير أو ترجع الإشارة إلى أشياء متعددة ويرجع الضمير إليها بصيغة الإفراد ١١، كأنه يعني بالضمير أي : ما ذكر من الأشياء المتعددة من اثنين فصاعدا، وهذا موجود في الضمائر، وفي كلام العرب، ولما أنشد رؤبة بن العجاج في رجزه ١٢ :
فيها خطوط من سواد وبلق *** كأنه في الجلد توليع البهق
قال له رجل : لم قلت : " كأنه " إذا كنت تعني الخطوط فالصواب أن تقول " كأنها " وإذا كنت تعني السواد والبلق فهلا قلت : " كأنهما " فأي وجه لقولك : " كأنه " ؟ قال : كأنه أي : ما ذكر ؟ ومن أصرح الأدلة القرآنية في ذلك هو قوله تعالى في سورة الأنعام :﴿ قل أرءيتم إن أخذ الله سمعكم وأبصركم وختم على قلوبكم من إله غير الله يأتيكم به ﴾ ( به ) أي : بجميع ما ذكر من سمعكم وأبصاركم وقلوبكم كما لا نزاع فيه. وهذا معنى معروف في كلام العرب، وقد قدمنا بعض شواهده في سورة البقرة في الكلام على قوله :﴿ إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ﴾ ١٣ أي : بين ذلك المذكور من الفارض والبكر. ومن نظيره في الإشارة قول ابن الزبعري السهمي ١٤ :
إن للخير وللشر مدى *** وكلا ذلك وجه وقبل
أي : كلا ذلك المذكور.
والمعنى : إلا تفعلوا ذلك الذي ذكرنا من موالاة بعضكم لبعض موالاة صدق، ومقاطعتكم للكفار مقاطعة كاملة، وترك الكفار يوالي بعضهم بعضا إلا تفعلوا هذا ﴿ تكن ﴾ أي : تقع ﴿ فتنة في الأرض وفساد كبير ﴾ وهذا المشاهد الآن، فإن من يسمون بالمسلمين تولوا الكفار وقاطعوا المسلمين، وصار هذا الكافر وهذا المسلم يزعمان أنهما أخوان، وأنهما تجمعهما العصبية الفلانية، أو القومية الفلانية، وأن هذه الدولة الكافرة صديقة، وأن هذين الشعبين شقيقان وما جرى مجرى ذلك.
فلم يفعلوا ما أمر الله بأن يفعلوه فكانت فتنة في الأرض وفساد كبير. ومن عظم هذه الفتنة اختلاط الحابل بالنابل ؛ لأن المسلمين إذا صادقوا الكفار أعانوهم على أذية المسلمين وقتلهم وكل ما يريدونه بهم، وأطلعوهم على عوراتهم، إلى غير ذلك، فانتشر في الدنيا الفساد العريض العظيم، وانتشرت الفتنة، وهذا مشاهد يجب على المؤمنين أن يعتبروا بهذا فيقطعوا ولايتهم من جميع الكفار، ويصدقوا ولاية بعضهم لبعض لئلا تتمادى بهم هذه الفتنة والفساد الكبير.
وقد قدمنا في هذه الدروس مرارا ١٥ أن الفتنة جاءت في القرآن لمعاني معروفة، أشهر معاني الفتنة " أن أصل الفتنة هي وضع الذهب في النار ليمتحن بسبك في النار : أخالص هو أم زائف ؟ تقول العرب : فتنت هذا الذهب. أي : جعلته في النار وأذبته فيها ؛ لأنه إذا ذاب تبين أخالص هو أم زائف ؟ ولذا صار يأتي في القرآن وفي كلام العرب إطلاق اسم الفتنة على مطلق الوضع في النار، ومنه قوله تعالى :﴿ يوم هم على النار يفتنون ( ١٣ ) ﴾ [ الذريات : الآية ١٣ ] أي : يوضعون فيها ويحرقون. ومنه على أحد التفسيرين قوله تعالى :﴿ إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنت ﴾ [ البروج : الآية ١٠ ] يعني : أحرقوهم بنار الأخدود. هذا معنى من معاني الفتنة.
ومعناها الثاني : أن الفتنة تطلق على الاختبار، وهذا أشهر معانيها، وهو في الحقيقة راجع إلى الأول ؛ لأن وضع الذهب في النار ليختبر بالنار أخالص هو أم زائف ؟ وإطلاق الفتنة على الاختبار إطلاق مشهور مستفيض في القرآن العظيم وفي كلام العرب، ومنه قوله تعالى :﴿ وألو استقموا على الطريقة لأسقينهم ماء غدقا ( ١٦ ) لنفتنهم فيه ﴾ [ الجن : الآيتان ١٦، ١٧ ] ﴿ ونبلوكم بالشر والخير فتنة ﴾ [ الأنبياء : الآية ٣٥ ] أي : اختبارا وامتحانا. إلى غير ذلك من الآيات.
وإطلاق الفتنة الثالث : تطلق الفتنة على نتيجة الاختبار بشرط كونها سيئة خاصة ؛ لأن المختبر إذا كانت اختباره سيئة كان ضالا ؛ ولذا تطلق الفتنة على الكفر والضلال، يقولون : فتنه عن دينه. أي : أضله. وهذا مفتون. أي : ضال في دينه. ومنه بهذا المعنى :﴿ وقتلوهم حتى لا تكون فتنة ﴾ [ الأنفال : الآية ٣٩ ] أي : لا يبقى في الدنيا شرك على أصح التفسيرين ؛ لأن قوله ﴿ حتى لا تكون فتنة ﴾ غاية غيا فيها القتال لئلا يكون في الدنيا شرك. وهذا بينه النبي صلى الله عليه وسلم بيانا صريحا صحيحا في قوله : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وإني رسول الله " ١٦.
قال بعض العلماء : جاء للفتنة إطلاق رابع في سورة الأنعام، وهو أنها أطلقت على الحجة. قال : ومنه قوله تعالى :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ( ٢٣ ) ﴾ وفي القراءة الأخرى ١٧ :﴿ ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين ( ٢٣ ) ﴾ [ الأنعام : الآية ٢٣ ] فهذه الفتنة هي في الحقيقة المعنى الثاني من هذه المعاني التي ذكرنا، وهي نتيجة الاختبار إذا كانت سيئة ؛ لأنه إذا اتصل الكافر بالمسلم، والمسلم بالكافر صار الكافر صديق المسلم، وصار المسلم صديق الكافر، فكل هذا ضلال مخالف لما جاء من الله، تتسبب عنه المحن والبلايا كما هو معروف.
وقوله :﴿ وفساد ﴾ الفساد في لغة العرب هو ضد الإصلاح، فكل أمر ليس على وجهه الصحيح الذي هو إصلاح تسميه العرب فاسدا. ووصف هذا الفساد بالكبير لأنه ضياع دين، وضعف إسلام، وقوة كفار، وإطلاعهم على عورات المسلمين بواسطة من يصادقهم ويواليهم من المسلمين، إلى غير ذلك من البلايا. وقد بين الله ( جل وعلا ) قبل هذا آيات تبين هذه الآية، فبين أن موالاة الكافر للمسلم لا يرخص منها في شيء إلا بقدر ما يدفع الضرورة عند الخوف، ويكون ذلك باللسان لتفا
٢ انظر: القرطبي (٨/ ٥٧).
٣ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٧) من سورة الأنعام..
٤ انظر: القرطبي (٨/ ٥٧).
٥ روى هذا الحديث غير واحد من الصحابة (رضي الله عنهم)، ومنهم:
جابر بن عبد الله (رضي الله عنهما)، عند الترمذي في الفرائض، باب: لا يتوارث أهل ملين. حديث رقم: (٢١٠٥) (٤/ ٤٢٤). وهو في صحيح الترمذي (١٧١٥)، الإرواء (٦/ ١٢١، ١٥٥).
عد الله بن عمرو (رضي الله عنهما)، عند أحمد (٢/ ١٧٨، ١٩٥)، وأبي داود في الفرائض، باب: هل يرث المسلم الكافر. حديث رقم: (٢٨٩٤) (٨/ ١٢٢)، وابن ماجه ف الفرائض، باب: ميراث أهل الإسلام من أهل الشرك. حديث رقم: (٢٧٢٩) (٢/ ٩١٢)، والدرقطني (٤/ ٧٢، ٧٥)، وابن الجارود (٣/ ٢٣٢). وانظر: صحيح أبي داود (٢٥٢٧) وصحيح ابن ماجه (٢٢٠٧)، الإرواء (٦/ ١٢٠).
أسامة بن زيد (رضي الله عنهما). عند الحاكم (٢/ ٢٤٠). وانظر: الإرواء (٦/ ١٢٠).
عن الشعبي مرسلا. عند الدارمي (٢/ ٢٦٧).
وساق الدارمي في هذا المعنى جملة من الآثار عن بعض الصحابة (رضي الله تعالى عنهم)..
٦ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأعراف..
٧ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأعراف..
٨ مضى عند تفسير الآية (٤٥) من سورة الأعراف..
٩ انظر: الدر المصون (٥/ ٦٤١)..
١٠ أخرجه ابن جرير (١٤/ ٨٦) من طريق علي بن أبي طلحة..
١١ مضى عند تفسير الآية (٤٨) من سورة البقرة..
١٢ تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٥٤) من سورة البقرة..
١٣ راجع الموضع السابق، وكذا ما ذكره عند تفسيره للآية (٦٩) من سورة البقرة..
١٤ تقدم هذا الشاهد عند الآية (٥٤) من سورة البقرة.
١٥ راجع ما سبق عند تفسير الآية (٥٣) من سورة الأنعام..
١٦ السابق..
١٧ مضت عند تفسير الآية (١٥٥) من سورة الأعراف.
.
وهذه الصفات كله يقصد بها المهاجرون الذين هاجروا إلى المدينة هذه، وهم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين هاجروا معه رضي الله عنهم.
﴿ والذين ءاووا ﴾ يعني : آووهم، قد قدمنا أن العرب تقول : " آواه يؤويه إيواء " إذا ضمه إليه وجعل له مأوى يأوي إليه، والمأوى : المسكن والمنزل ؛ لأن الأنصار هيؤوا للمسلمين أمكنة ينزلون فيها وهيؤوا لهم كل ما يستعينون به، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، كان يقول : " فلان أخو فلان ". فيتوارثان بذلك الإخاء، وكان الأنصار يشاطرونهم أموالهم، وقد آخى صلى الله عليه وسلم بين عبد الرحمان بن عوف الزهري ( رضي الله عنه ) وسعد بن الربيع الأنصاري ( رضي الله عنه )، ذكر بعض أهل المغازي والأخبار أن النبي لما آخى بينهما جاء سعد إلى عبد الرحمان وقال : أرخص ما عندي نعلاي، فهذه إحداهما، وأعظم ما عندي زوجتاي أنزل لك عن إحداهما، فإن تمت عدتها تزوجتها ! ! - وقد كان عبد الرحمان بن عوف ( رضي الله عنه ) وأغلب المهاجرين تعففوا واتجروا- فقال له عبد الرحمن بن عوف : أقرضني درهما. فأقرضه درهما فاتجر به، فراح وعنده درهمان، رد إليه درهمه واتجر بالثاني، فراح عنده درهمان، ولم يزل يتجر حتى انتشر عليه المال وكان من أغنياء الصحابة ٢ ( رضي الله عنهم ). فهم آووهم حيث هيؤوا لهم المساكن والأموال، وشاطروهم أموالهم، وأحسنوا إليهم كل الإحسان، كما في قوله :﴿ يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤترون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ [ الحشر : الآية ٩ ] هذا ثناء الله ومدحه للمهاجرين والأنصار، ثم قال :﴿ أولئك ﴾ الإشارة في قوله :﴿ أولئك ﴾ شاملة للمهاجرين والأنصار معا، فالمهاجرون هم المعبر عنهم ب ﴿ ءامنوا وهاجروا وجهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله ﴾ والأنصار هم المعبر عنهم بقوله :﴿ ءاووا ونصروا ﴾ أي : آووا النبي وأصحابه ونصروهم على أعدائهم، هؤلاء جميعا ﴿ هم المؤمنون حقا ﴾ حق إيمانهم حقا ؛ لأنهم صدقوا إيمانهم بهجرتهم وجهادهم في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وبإيمانهم، وأولئك حققوه بإيوائهم ونصرتهم لله ؛ لأن الأنصار قامت موقفا عظيما حيث تحملت عداوة جميع أهل الدنيا في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ؛ ولذا قال :﴿ والذين ءامنوا وهاجروا وجهدوا في سبيل الله والذين ءاووا ونصروا أولئك ﴾ – هؤلاء – ﴿ هم المؤمنون حقا ﴾ بمعنى الكلمة الإيمان الذي هو لا قيل فيه ولا قال، بل هو الإيمان كما ينبغي.
وهذه من الآيات الدالة على تزكية الصحابة لا سيما المهاجرين والأنصار، ووصفهم بالعدالة وصحة الإيمان، فإذا روى لنا مهاجري أو أنصاري حديثا فلا نقول : هل هذا عدل أو غير عدل ؟ ! لأنه لا مزكي أعظم تزكية من الله، ولا تزكية أعظم من قوله :﴿ أولئك هم المؤمنون حقا لهم درجت عند ربهم ومغفرة ورزق كريم ( ٤ ) ﴾ [ الأنفال : الآية ٤ ] والله ( جل وعلا ) نوه بشأن المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم، ونوه بشأن جميع الصحابة وزكاهم في غير ما آية، فمن الآيات التي أثنى بها على المهاجرين والأنصار قوله :﴿ والسبقون الأولون من المهجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسن رضي الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنت تجري تحتها الأنهر ﴾ [ التوبة : الآية ١٠٠ ] وفي قراءة ابن كثير :﴿ جنت تجري من تحتها الأنهر ﴾ ٣. والمصحف الذي أرسله عثمان إلى مكة فيه :﴿ من تحتها الأنهر ﴾ بذكر لفظة ( من ) وقراءة الجمهور والمصاحف التي أرسلت إلى الشام وإلى الكوفة والبصرة فيها :﴿ تحتها الأنهار ﴾ بغير لفظة ( من ). فقوله :﴿ والسبقون الأولون من المهجرين والأنصار ﴾ – لم يشترط فيهم شيئا بل قال :- ﴿ رضي الله عنهم ورضوا عنه ﴾ [ التوبة : الآية ١٠٠ ] – وهذه أعظم تزكية، والذين اتبعوهم – اشترط فيهم شرطا وهو الإحسان ؛ لأن قوله :﴿ بإحسن ﴾ اشترطه في خصوص الذين اتبعوهم، ومن هذه الآيات قوله تعالى :﴿ لا يستوي منكم من انفق من قبل الفتح وقتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقتلوا ﴾ [ الحديد : الآية ١٠ ] ثم قال :﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ كلا من جميع الصحابة ممن أنفق وقاتل قبل الفتح وبعده وعد الله الحسنى.
ومن هذه الآية الكريمة قال ابن حزم : يجب على كل مسلم أن يعتقد أن الصحابة كلهم في الجنة ؛ لأن الله صرح بذلك ولا يخلف الله الميعاد حيث قال :﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقتلوا ﴾ – ثم صرح في الجميع بوعده الصادق الذي لا يخلفه قال :- ﴿ وكلا وعد الله الحسنى ﴾ ٤. وقال ( جل وعلا ) ﴿ للفقراء المهجرين الذين أخرجوا من ديرهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصدقون ( ٨ ) ﴾ [ الحشر : الآية ٨ ] فزكاهم بقوله :﴿ أولئك هم الصدقون ﴾ ثم ذكر الأنصار قال :﴿ والذين تبوءو الدار والإيمن من قبلهم ﴾ الدار : هي المدينة ﴿ تبوءو الدار والإيمن ﴾ أي : وانتهجوا الإيمان، فهو مفعول فعل محذوف دل المقام عليه ٥ ﴿ من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ﴾ قال جماعة من أهل العلم : إن المهاجرين أفضل من الأنصار ؛ ولذا كان الأنصار لا يكون في صدورهم شيء من فضل المهاجرين عليهم، هكذا قاله غير واحد ٦. ﴿ ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ﴾ [ الحشر : الآية ٩ ] ثم ذكر من يأتي بعدهم فقال :﴿ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمن ﴾ [ الحشر : الآية ١٠ ] ومن هذه الآيات أخذ مالك بن أنس ( رحمه الله ) إمام دار الهجرة أن الذين يسبون بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نصيب لهم في فيء المسلمين أبدا، وقال لبعضهم : هل أنتم من الفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وينصرون الله ورسوله ؟ قالوا : لا، لسنا من هؤلاء. قال : هل أنتم من الذين قال فيهم :﴿ والذين تبوءو الدار والإيمن من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ﴾ ؟ قالوا : لا، لسنا من هؤلاء. قال : وأنا أشهد أنكم لستم من الطائفة الثالثة التي قال الله فيها :﴿ والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمن ﴾ فأنتم تسبون الصحابة وتلعنونهم، فلستم من جملة من جعل الله لهم شيئا من المسلمين فلا شيء لكم ألبتة ٧.
وهذه الآيات وأمثالها في القرآن تدل على أن الذين يسبون بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم ضلال، منابذون لهدي الله، مخالفون لكتاب الله الذي هو آخر الكتب السماوية نزولا من عند رب العالمين ( جل وعلا ) وهذا معنى قوله :﴿ أولئك هم المؤمنون حقا ﴾ [ الأنفال : الآية ٧٤ ].
قال بعض العلماء :( حقا ) مصدر ٨، أي : حق ذلك حقا، أي : لما حققوه به من الإيمان والهجرة والجهاد بالنفس والمال في سبيل الله، إلى غير ذلك من الصفات.
﴿ لهم مغفرة ﴾ المغفرة ( مفعلة ) من الغفران، وأصل مادة الغين والفاء والراء ( غفر ) أصلها معناها الستر والتغطية أيضا كمادة ( الكفر ) لأن الله يستر بحلمه وفضله ذنوب التائبين إليه حتى لا يظهر لها أثر يتضررون به ٩.
وقوله :﴿ كريم ﴾ كل شيء حسن مبالغ في الحسن والجمال تسميه العرب كريما، وإنما وصف رزقهم بأنه كريم لأن ما في الجنة من الأرزاق كله كريم ﴿ كلما رزقوا منها من ثمرة رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل وأتوا به متشبها ﴾ [ البقرة : الآية ٢٥ ] وأرزاق الجنة مبينة في القرآن العظيم من مآكلها ومشاربها وغير ذلك. وهذا معنى قوله :﴿ لهم مغفرة ورزق كريم ﴾ [ الأنفال : الآية ٧٤ ].
٢ أخرجه البخاري في البيوع، باب ما جاء في قول الله عز وجل: ﴿فإذا قضيت الصلوة فانتشروا في الأرض....﴾ رقم: (٢٠٤٨)، (٤/ ٢٨٨). وطرفه في (٣٧٨٠). عن عبد الرحمان بن عوف (رضي الله عنه). وأخرجه أيضا عن أنس (رضي الله عنه) (الموضع السابق) برقم (٢٠٤٩). وأطرافه في (٢٢٩٣، ٢٧٨١، ٣٩٣٧، ٥٠٧٢، ٥١٤٨، ٥١٥٣، ٥١٥٥، ٥١٦٧، ٦٣٨٧).
٣ انظر: المبسوط لابن مهران ص ٢٢٨..
٤ الإحكام ص ٦٦٤..
٥ انظر: القرطبي (١٨/ ٢٠)..
٦ انظر: ابن كثير (٤/ ٣٣٧)..
٧ تقدم..
٨ انظر: القرطبي (٨/٨)..
٩ مضى عند تفسير الآية (١٥٥) من سورة الأعراف..
للعلماء أقوال في المراد بالظرف في قوله :﴿ من بعد ﴾ فقوله :﴿ من بعد ﴾ ظرف منقطع من الإضافة مبني على الضم، وتقدير مضافه هذا – المحذوف – فيه للعلماء أقوال متقاربة١ :
قال بعض المحققين : أظهر الأقوال فيه أن المراد به : من بعد صلح الحديبية. وهذا القول له اتجاه لمن عرف تاريخ النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وتاريخ الهجرة وأهميتها ؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده التشديد العظيم في الهجرة، فلا بد لمن آمن أن يهاجر وإلا لم تكن له ولاية عند المسلمين كما قدمناه في قوله :﴿ والذين ءامنوا ولم يهاجروا ما لكم من وليتهم من شيء حتى يهاجروا ﴾ [ الأنفال : الآية ٧٢ ] لأن البلاد كلها كانت بلاد حرب، والإيمان في المدينة، والذي أسلم إما أن يبقى في دار حرب وإما أن يروح إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فلما كان صلح الحديبية – وقد كان صلح الحديبية وقع في ذي القعدة من عام ست من الهجرة بإجماع المؤرخين – خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا، وساق معه بعض البدن، وذلك في ذي القعدة من عام ست، فلما بلغ الحديبية سمع به المشركون فتعرضوا له، وقالوا : والله لا يقتل أبناءنا ببدر ويدخل علينا بلدنا ويطوف بيتنا أبدا ! ! فوقع ما وقع مما هو مشهور. ﴿ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام ﴾ [ الفتح : الآية ٢٥ ] أي : وصدوا الهدي معكوفا أن يبلغ محله، وقد نزلت في قفوله من الحديبية سورة الفتح :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ( ١ ) ﴾ [ الفتح : الآية ١ ] نزلت في رجوعه من الحديبية كما قاله غير واحد، وقد وقع ما وقع، ولم يزالوا يراسلونه ليردوه عنهم، أرسلوا له عروة بن مسعود سيد ثقيف، ومكرز بن حفص، وسهيل بن عمرو وأضرابهم، حتى انعقد بينه وبينهم الصلح على يد سهيل بن عمرو على المهادنة عشر سنين، وأغلظوا له في الصلح بأن من جاءه من قريش مسلما رده إليهم، والذي جاء إلى قريش مرتدا عن الإسلام لا يردونه، وهذا معروف.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل لهم هذه الشروط، وكتب وثيقة الصلح بينه وبينهم، وعقدها معه سهيل بن عمرو العامري ( رضي الله عنه ) – من بني عامر بن فهر من قريش ( رضي الله عنهم ) – وكان عمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) اغتاظ من تغليظ هذه الشروط، وقال : يا رسول الله ألسنا على الحق ؟ ألسنا نحن الذين على الحق ؟ كيف نرضى لهم بهذه الدنية ؟ ! وأبو بكر يقول له : استمسك بغرز رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو أعلم منك. وكان هذا الصلح أول الفتح العظيم الذي فتح الله به على المسلمين ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما فيه من المصلحة ؛ لأنه لما وقعت الهجرة والمهادنة، وأمن الناس بعضهم بعضا صار الصحابة يرجعون إلى قبائلهم ويبثون فيهم الإسلام، فانتشر في الناس دين الإسلام، حتى إن الكفار مكثوا سنتين لم ينقضوا العهد، وقد نقضوا العهد الذي أبرمه النبي صلى الله عليه وسلم معهم في الحديبية ؛ لأن بني بكر كانت بينهم وبين خزاعة دماء وحروب، ودخلت خزاعة في حلف النبي صلى الله عليه وسلم، وبنو بكر في عهد قريش، فعدت بنو بكر على خزاعة، فأعانهم قريش عليهم بالسلاح، ونقضوا العهد بعد سنتين، وكان ذلك سبب غزوة النبي صلى الله عليه وسلم لهم غزوة الفتح، ولم يمكثوا إلا سنتين ؛ لأن صلح الحديبية وقع من ذي القعدة عام ست، وغزو النبي صلى الله عليه وسلم لهم في فتح مكة وقع في رمضان عام ثمان، وهذا كله لا خلاف فيه بيه العلماء والمؤرخين، فأقاموا سنتين، ونقضوا العهود، إلا أن هذا الصلح كان فتحا عظيما على المسلمين ؛ لأن الصحابة انتشروا في قبائلهم، ووجدت الدعوة إلى الله طريقها، فاتصل المسلم بالكافر يدعوه إلى الإسلام، فكثر الإسلام في أقطار الجزيرة العربية، ومما يوضح هذا أن أهل بيعة الرضوان التي وقعت في صلح الحديبية، الذين بايعوه تحت شجرة الحديبية – لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر بعض أصحاب المغازي والمؤرخين أنه أراد أن يرسل بالهدايا إلى مكة -، وقال لعمر بن الخطاب ( رضي الله عنه ) : " اذهب بها إلى مكة ". فقال له عمر : إن بني عدي بن كعب – يعني قبيلة عمر من قريش – لا يستطيعون أن يحموني من قريش، ولكني أدلك على رجل عزيز في مكة لا يقدر أحد أن يتجرأ عليه، وهو عثمان بن عفان ( رضي الله عنه )، وهو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف. فأرسل عثمان بالهديا لينحرها بالحرم، فتلقى له بنو عمه من بني سعيد بن العاص، وقالوا له ٢ :
أقبل وأدبر لا تخف أحدا | بنو سعيد أعزة الحرم |
﴿ فأولئك منكم ﴾ معكم وينالهم الفضل العظيم، وإن كان شرف الأسبقية لا يناله من جاء بعدهم كما قال :﴿ لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقتلوا ﴾ [ الفتح : الآية ١٠ ].
﴿ فأولئك منكم ﴾ أي : هم من جملتكم وإن كان بعضكم أفضل من بعض.
ثم قال تعالى :﴿ وأولوا الأرحام ﴾ ( أولوا الأرحام ) معناه : أصحاب الأرحام، وهم ذوو القرابات. و( أولوا ) اسم جمع لا واحد له من لفظه، هو يعرب إعراب الجمع المذكر السالم، يرفع بالواو وينصب ويخفض بالياء، وهو من الأسماء الملازمة للإضافة. والأرحام : جمع رحم، والرحم مؤنثة، وشذ قوم هنا وقالوا : إن المراد بها أرحام العصبات خاصة، وممن نصر هذا القول : أبو عبد الله القرطبي في تفسيره ٥. وهو ليس بصواب، وما استدلوا به في ذلك لا ينهض حجة ؛ لأنهم قالوا : إن العرب كثيرا ما تطلق الرحم على قرابة العصبات دون قرابات غيرهم، قالوا : تقول العرب : وصلتك رحم. يعنون به رحم العصبات لا غيرها. وقالت قتيلة بنت الحارث، أو بنت النضر بن الحارث في رجزها المشهور لما قتل النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث في رجوعه من بدر – كما أوضحنا قصته في أول هذه السورة الكريمة سورة الأنفال – قالت في شعرها، تقول ٦ :
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه | لله أرحام هناك تشقق |
﴿ بعضهم أولى ببعض ﴾ أي : في الميراث.
﴿ في كتب الله ﴾ قال بعض العلماء : المراد بكتاب الله أي : في حكم الله وأمره الذي كلف به خلقه وألزمهم إياه، والعرب كل شيء مكتوب مؤكد تسميه كتاب الله. / وقال بعض العلماء : كتاب الله : هو اللوح المحفوظ لأن الله كتب ذلك في اللوح المحفوظ ٨ كما قال تعالى :﴿ وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كاب الله من المؤمنين والمهجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتب مسطورا.... ﴾ [ الأحزاب : الآية ٦ ] فآية الأحزاب كأنها بينت آية الأنفال هذه، وقال بعض العلماء : المراد بكتاب الله : القرآن ؛ لأن الله بين المواريث في كتاب الله في القرآن في سورة النساء بينها بآية الصيف وآية الشتاء، فآية الشتاء هي :﴿ يوصيكم الله في أولدكم للذكر مثل حظ الأنثيين ﴾ [ النساء : الآية ١١ ] إلى آخر الآيات، وآيات الصيف هي التي في آخر السورة :﴿ يستفتونك قل الله يفتيكم في الكللة ﴾ [ النساء : الآية ١٧٦ ].
وقد قدمنا ٩ أن الكتاب بمعنى المكتوب، وأن إتيان ( الفعال ) بمعنى ( المفعول ) مسموع في كلام العرب موجود في أوزان معروفة، ككتاب بمعنى مكتوب، ولباس بمعنى ملبوس، وإله بمعنى مألوه، أي : معبود، وإمام بمعنى مؤتم به. وقد قدمنا ١٠ أن مادة الكاف والتاء والباء في لغة العرب ( كتب ) أن معنى هذه المادة في اللغة التي نزل بها القرآن معنى ( كتب ) : ضم وجمع، فالكتب في لغة العرب معناه : الضم والجمع، وكل شيء ضممته وجمعت بعضه إلى بعض فقد كتبته، ومنه سميت الكتيبة من الجيش ؛ لأنها قطعة عظيمة ضم بعضها إلى بعض، وجمع بعضها مع بعض، حتى صارت جملة عظيمة من الجيش، ومنه قول نابغة ذبيان ١١ :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
وكاتبين وما خطت أناملهم | حرفا ولا قرؤوا ما خط في الكتب |
٢ مضى عند تفسير الآية (١٥٩) من سورة الأنعام..
٣ مضى عند تفسير الآية (٩٦) من سورة الأنعام..
٤ تقدم تخريجه عند تفسير الآية (٧٢) من هذه السورة..
٥ تفسير القرطبي (٨/٨)..
٦ مضى عند تفسير الآية (١٢) من سورة الأنفال..
٧ انظر: الأضواء (٢/ ٤١٨)..
٨ انظر: ابن جرير (١٤/ ٩٠)..
٩ مضى عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام..
١٠ السابق..
١١ السابق..
١٢ تقدم هذا الشاهد عند تفسير الآية (٣٨) من سورة الأنعام..