ﰡ
وقيل: هو استفهام على بابه، ويسميه أهل البيان: التسويف، والمعنى: إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك، وهو معنى قول الكلبيِّ.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ، ومحمد بن كعبٍ: الغاشية: النار تغشى وجوه الكفار، ورواه أبو صالح عن ابن عباس لقوله تعالى: ﴿وتغشى وُجُوهَهُمْ النار﴾ [إبراهيم: ٥٠].
وقيل: المراد النفخة الثانية للبعث؛ لأنها تغشى الخلق.
وقيل: الغاشية أهل النار يغشونها، ويقحمون فيها.
وقيل: معنى «هَل أتاكَ» أي: هذا لم يكن في علمك، ولا في علم قومك، قاله ابن عباس أي: لم يكن أتاه قبل ذلك على التفصيل المذكور.
قوله: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾. قد تقدَّم نظيره في سورة «القيامةِ»، وفي «النازعات»، والتنوين
فصل في تفسير الآية
قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ﴾ أي: يوم القيامة، ﴿خَاشِعَةٌ﴾.
قال سفيان: أي: ذليلةٌ بالعذاب، وكل متضائل ساكن خاشع.
يقال: خشع في صلاته إذا تذلل ونكس رأسه، وخشع الصوت: إذا خفي، قال تعالى: ﴿وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن﴾ [طه: ١٠٨].
[والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه.
قال قتادة وابن زيد: خاشعة أي في النار، والمراد بالوجوه وجوه الكفار كلهم قاله يحيى بن سلام. وقال ابن عباس: أراد وجوه اليهود والنصارى].
قوله تعالى: ﴿عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾ هذا في الدنيا؛ لأن الآخرة ليست دار عمل، فالمعنى: وجوه عاملة ناصبة في الدنيا خاشعة في الآخرة.
قال أهل اللغة: يقال للرجل إذا دأب في سيره: قد عمل يعمل عملاً، ويقال للسحاب إذا دام برقُه: قد عمل يعمل عملاً.
وقوله: «ناصبةٌ» أي: تعبةٌ، يقال: نَصِبَ - بالكسر - ينصبُ نصَباً: إذا تعب ونَصْباً أيضاً، وأنصبه غيره.
قال ابنُ عباسٍ: هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى، وعلى الكفر مثل عبدة الأوثان، والرهبان، وغيرهم، ولا يقبل الله - تعالى - منهم إلاَّ ما كان خالصاً له.
وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «تُحقِّرُونَ صَلاتكُمْ مَعَ صَلاتهِمْ، وصِيامَكُمْ مَعَ صِيَامهِمْ، وأعْمالَكُمْ مَعَ أعْمَالهِمْ، يَمرقُونَ من الدِّينِ كما يَمْرقُ السَّهْمُ من الرميّّة»
الحديث.
قال الحسن وسعيد بن جبير: لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم.
وقرأ ابن كثير في رواية، وابن محيصن وعيسى وحميد: «نَاصِبةٌ» بالنصب على الحال.
وقيل: على الذَّم.
والباقون: بالرفع، على الصفة، أو إضمار مبتدأ فيوقف على «خاشعة».
ومن جعل المعنى: في الآخرة جاز أن يكون خبراً بعد خبر عن «وجوه»، فلا يوقف على «خاشعة» [وقيل: عاملة ناصبة أي: عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة، وعلى هذا يحمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة خاشعة].
وروى الحسن، قال: لما قدم عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «الشام»، أتاه راهب، شيخ كبير عليه سواد، فلما رآه عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بكى فقيل: يا أمير المؤمنين ما يبكيك؟ قال: هذا المسكين طلب أمراً فلم يصبه ورجا رجاءً فأخطأه وقرأ قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ﴾.
قوله: ﴿تصلى نَاراً حَامِيَةً﴾ : هذا هو الخبر.
قرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - بضم التاء على ما يسم فاعله.
والباقون: بالفتح، على تسمية الفاعل، [والضمير على] كلتا القراءتين للوجوه.
وقرأ أبو رجاء: بضم التاء، وفتح الصَّاد، وتشديد اللام، وقد تقدم معنى ذلك كله في سورتي: «الانشقاق والنساء».
فصل في معنى الآية
والمعنى: يصيبها صلاؤها وحرُّها «حامية» أي شديدة الحرِّ، أي قد أوقدت وأُحميت مدةً طويلة، ومنه: حَمِيَ النهار - بالكسر - وحَمِيَ التنور حمياً فيهما، أي: اشتد حره، وحكى الكسائي: اشتد حمى الشمس وحموها بمعنى.
قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ أوْقدهَا الفَ سنةٍ حتَّى احمرَّت، ثُمَّ أوْقدَ عليْهَا ألفَ سنةٍ حتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أوقدَ عَليْهَا حتَّى اسْودَّتْ، فهي سَوداءُ مُظْلِمَةٌ».
قال الماوردي: فإن قيل: فما معنى وصفها بالحَمْي، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة؟.
قيل: قد اختلف في المراد بالحامية هاهنا.
قيل: المراد: أنها دائمة [الحمي]، وليست كنارِ الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها.
الثاني: أن المراد بالحامية أنَّها حمى من ارتكاب المحظورات، وانتهاك المحارم، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ لكُلِّ مَلكٍ حِمىً، وإنَّ حِمَى اللهِ في أرْضهِ محارمهُ، ومن يرتع حولَ الحِمَى يُوشِك أن يقعَ فِيهِ».
الثالث: أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، وترام مماستها، كما يحمي الأسد عرينه؛ كقول الشاعر: [البسيط]
٥١٨١ - تَعْدُو الذِّئَابُ على مَنْ لا كِلاب لَهُ | وتتَّقِي صَوْلةَ المُستأسدِ الحَامِي |
قوله: ﴿تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ﴾. أي: حارة التي انتهى حرُّها، كقوله تعالى: ﴿بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ﴾ [الرحمن: ٤٤]، و «آنِيَة» : صفة ل «عين»، وأمالها هشام، لأن الألف غير منقلبة من غيرها، بل هي أصل بنفسها، وهذا بخلاف «آنِيَة» في سورة «الإنسان»، فإن الألف هناك بدل من همزة، إذ هو جمع: «إناء» فوزنها: «فَاعِلة»، وهناك «أفعلة»، فاتحد اللفظ واختلف التصريف، وهذا من محاسن علم التصريف.
قوله: ﴿لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ﴾. لمَّا ذكر شرابهم ذكر طعامهم.
والضَّريعُ: شجر في النار، ذو شوك لاصق بالأرض، تسميه قريش: الشِّبرق إذا كان رطباً، وإذا يبسَ فهو الضريع، لا تقربه دابة، ولا بهيمة، ولا ترعاه، وهو سم قاتل. قاله عكرمة، ومجاهد وأكثر المفسرين.
وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - قال: شيء يرمي به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام لا الناس، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع، وهلكت هزلاً.
والصحيح الأول؛ قال أبو ذؤيبٍ: [الطويل]
٥١٨٢ - رَعَى الشِّبرقَ الرَّيانَ حتَّى إذا ذَوَى | رَعَا ضَرِيعاً بَانَ مِنْهُ النَّحَائِصُ |
٥١٨٣ - وَحُبِسْنَ في هَزْمِ الضَّريعِ فكُلُّهَا | حَدْباءُ دَاميةُ اليديْنِ حرُودُ |
وقال أيضاً: ويقال للجلدة التي على العظم تحت اللحم، هي الضريع، فكأنه تعالى وصف بالقلة، فلا جرم لا يسمن ولا يغني من جوع.
وقيل: هو الزقوم.
وقيل: يابس العرفج إذا تحطم.
وقيل: نبت يشبه العوسج.
وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هو شجر من نارٍ، ولو كانت الدنيا لأحرقت الأرض، وما عليها.
وقال القرطبيُّ: والأظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا.
وعن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الضريع شيء يكون في النَّار: يشبهُ الشّوْك، أشدُّ مرارة من الصَّبْرِ، وأنْتَنُ من الجِيفةِ، وأحرُّ منَ النَّارِ سماهُ اللهُ ضَريْعاً».
قال القتيبيُّ: ويجوز أن يكون الضريع، وشجرة الزقوم: نبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النَّار، وكذلك سلاسل النار، وأغلالها وحياتها وعقاربها ولو كانت على ما نعلم لما بقيت على النار وإنما دلَّنا الله على الغائب عند الحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة، وكذلك ما في الجنة من شجرها وفرشها.
وزعم بعضهم: أنَّ الضريع: ليس بنبت في النار، ولا أنهم يأكلونه؛ لأن الضريع من أقوات الأنعام، لا من أقوات الناس، وإذا وقعت الإبل فيه لم تشبع، وهلكوا هزلاً، فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم، وضرب الضريع له مثلاً.
والمعنى أنهم يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع.
وقال الحكيمُ الترمذي: وهذا نظر سقيم من أهله، يدل على أنهم تحيَّروا في قدرة الله تعالى، وأن الذي أنبت في هذا التراب الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار، كما جعل - سبحانه وتعالى - في الدنيا من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون، فلا النار تحرق الشجر، ولا رطوبة الماء في الشجر تُطفئُ النار، قال تعالى: ﴿الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ﴾ [يس: ٨٠]، وكما قيل: حين نزلت: ﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ﴾ [الإسراء: ٩٧]، قالوا: «يا رسُولَ اللهِ، كيف يمْشُونَ على وُجوهِهمْ؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» الَّذي أمشَاهُمْ عَلَى أرْجُلهِمْ قادرٌ على أنْ يُمشِيهمْ على وُجوهِهِمْ «، فلا يتحيَّر في مثل هذا إلا ضعيف العقل، أو ليس قد أخبرنا أنه: ﴿كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا﴾ [النساء: ٥٦]، وقال تعالى: ﴿سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ﴾ [إبراهيم: ٥٠].
وعن الحسن: لا أدري ما الضريع، ولم أسمع فيه من الصحابة شيئاً.
قال ابنُ كيسان: وهو طعام يضرعونه عنده، ويذلون، ويتضرعونه منه إلى الله تعالى، طلباً للخلاص منه، فسمي بذلك؛ لأن آكله يتضرع في أن يعفى منه للكراهة وخشونته.
قال أبو جعفر النحاس: قد يكون مشتقاً من الضارع، وهو الذليل، أي: ذو ضراعة، أي: من شربه ذليل تلحقه ضراعة.
والجواب: أن النار دركات، فمنهم من طعامه الزقوم ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد.
قال الكلبيُّ: الضريع في درجة ليس فيها غيره، والزقوم في درجة أخرى.
قوله: ﴿لاَّ يُسْمِنُ﴾.
قال الزمخشريُّ: مرفوع المحل، أو مجرور على وصف طعام، أو ضريع».
قال أبو حيان: «أما وصفه ب» ضريع «فيصح؛ لأنه نبت نفي عنه السمن، والإغناء من الجوع وأمَّا رفعه على وصفه الطعام، فلا يصح؛ لأن الطعام منفي، والسمن منفي، فلا يصح تركيبه؛ لأنه يصير التقدير: ليس لهم طعام لا يسمن، ولا يغني من جوع إلا من ضريع، فيصير المعنى: أن لهم طعاماً يسمن ويغني من جوع من غير الضريع، كما تقول: ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو، فمعناه: أن له مالاً لا ينتفع به من غير مال عمرو».
قال شهاب الدين: وهذا لا يرد؛ لأنه على تقدير تسليم القول بالمفهوم، وقد منع منه مانع، كالسياق في الآية الكريمة.
ثم قال أبو حيَّان: ولو قيل: الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في: «إلاَّ من ضريع»، كان صحيحاً؛ لأنه في موضع رفع، على أنه بدل من اسم ليس، أي: ليس لهم طعام إلاَّ كائن من ضريع؛ إذ لا طعام من ضريع غير مسمنٍ، ولا مغنٍ من جوع، وهذا تركيب صحيح، ومعنى واضح.
وقال الزمخشريُّ أيضاً: «أو أريد لا طعام لهم أصلاً؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس؛ لأن الطعام ما أشبع، أو أسمن، وهو عنهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان إلا ظلّ إلا الشمس، تريد نفي الظل على التوكيد».
قال أبو حيَّان: فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً؛ لأنه لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظ طعام، إذ ليس بطعام، والظاهر: الاتصال فيه، وفي قوله تعالى: ﴿وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ﴾ [الحاقة: ٣٦].
٥١٨٤ - ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ........................................
ومثله كثير.
فصل في المراد بالآية
المعنى: أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس؛ لأنه نوع من أنواع الشوك، والشوك مما ترعاه الإبلُ، وهذا النوع مما تنفر عنه الإبل، فإذن منفعة الغذاء منتفية عنه، وهما: إماطة الجوع، وإفادة القوة والسمن في البدن أو يكون المعنى: ليس لهم طعام أصلاً؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنسان، لأن الطعام ما أشبع أو أسمن.
قال المفسرون: لما نزلت هذه الآية، قال المشركون: إن إبلنا لتسمن بالضريع، فنزلت: ﴿لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ﴾ وكذا فإن الإبل ترعاه رطباً، فإذا يبس لم تأكله.
وقيل: اشتبه عليهم أمره، فظنوه كغيره من النَّبتِ النافع؛ لأن المضارعة المشابهة، فوجدوه لا يسمن ولا يغني من جوع، فيكون المعنى: أن طعامهم من ضريعٍ لا يسمن من جنس ضريعكم، إنما هو من ضريع غير مسمن، ولا مغن من جوع.
فصل في تفسير الآية
قال ابن عباس - رضي الله عنهما - : لم يكن أتاه حديثهم، فأخبره عنهم، فقال تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ﴾ أي : يوم القيامة، ﴿ خَاشِعَةٌ ﴾١.
قال سفيان : أي : ذليلةٌ بالعذاب، وكل متضائل ساكن خاشع٢.
يقال : خشع في صلاته إذا تذلل ونكس رأسه، وخشع الصوت : إذا خفي، قال تعالى :﴿ وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن ﴾ [ طه : ١٠٨ ].
[ والمراد بالوجوه أصحاب الوجوه.
قال قتادة وابن زيد : خاشعة أي في النار، والمراد بالوجوه وجوه الكفار كلهم قاله يحيى بن سلام٣. وقال ابن عباس : أراد وجوه اليهود والنصارى٤ ]٥.
٢ ينظر المصدر السابق ومثله عن قتادة أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٥١) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٧٢) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٣ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٢٥٧) والقرطبي في "تفسيره" (٢٠/١٩)..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٧٣) وعزاه إلى ابن أبي حاتم..
٥ سقط من: ب..
قال أهل اللغة : يقال للرجل إذا دأب في سيره : قد عمل يعمل عملاً، ويقال للسحاب إذا دام برقُه : قد عمل يعمل عملاً.
وقوله :«ناصبةٌ » أي : تعبةٌ، يقال : نَصِبَ - بالكسر - ينصبُ نصَباً : إذا تعب ونَصْباً أيضاً، وأنصبه غيره.
قال ابنُ عباسٍ : هم الذين أنصبوا أنفسهم في الدنيا على معصية الله تعالى، وعلى الكفر مثل عبدة الأوثان، والرهبان، وغيرهم، ولا يقبل الله - تعالى - منهم إلاَّ ما كان خالصاً له١.
وعن علي - رضي الله عنه - أنهم الخوارج الذين ذكرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :«تُحقِّرُونَ صَلاتكُمْ مَعَ صَلاتهِمْ، وصِيامَكُمْ مَعَ صِيَامهِمْ، وأعْمالَكُمْ مَعَ أعْمَالهِمْ، يَمرقُونَ من الدِّينِ كما يَمْرقُ السَّهْمُ من الرميّّة » الحديث٢.
وروى سعيد عن قتادة :«عاملةٌ ناصبةٌ » قال : تكبرت في الدنيا عن طاعة الله - عز وجل -، فأعملها الله وأنصبها في النار، بجر السلاسل الثِّقال، وحمل الأغلال، والوقوف حفاة عراة في العرصات في يوم كان مقداره خمسين ألف سنةٍ٣.
قال الحسن وسعيد بن جبير : لم تعمل لله في الدنيا ولم تنصب له، فأعملها وأنصبها في جهنم.
وقرأ ابن كثير في رواية، وابن محيصن وعيسى وحميد٤ :«نَاصِبةٌ » بالنصب على الحال.
وقيل : على الذَّم.
والباقون : بالرفع، على الصفة، أو إضمار مبتدأ فيوقف على «خاشعة ».
ومن جعل المعنى : في الآخرة جاز أن يكون خبراً بعد خبر عن «وجوه »، فلا يوقف على «خاشعة » [ وقيل : عاملة ناصبة أي : عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة، وعلى هذا يحمل وجوه يومئذ عاملة في الدنيا ناصبة في الآخرة خاشعة ]٥.
وروى الحسن، قال : لما قدم عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - «الشام »، أتاه راهب، شيخ كبير عليه سواد، فلما رآه عمر - رضي الله عنه بكى فقيل : يا أمير المؤمنين ما يبكيك ؟ قال : هذا المسكين طلب أمراً فلم يصبه ورجا رجاءً فأخطأه وقرأ قوله تعالى :﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ ﴾٦.
٢ ينظر المصدر السابق، وتقدم تخريج الحديث..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٥١) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٧٢) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٤ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٧٢، والبحر المحيط ٨/٤٥٧، وزاد: عكرمة والسدي، والدر المصون ٦/٥١٢..
٥ سقط من: ب..
٦ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٢٠) عن الحسن وبمعناه عن أبي عمران الجوني أخرجه الحاكم وعبد الرزاق وابن المنذر كما في "الدر المنثور" (٦/٥٧٣)..
قرأ أبو عمرو وأبو بكر١ ويعقوب - رضي الله عنهم - بضم التاء على ما يسم فاعله.
والباقون : بالفتح، على تسمية الفاعل، [ والضمير على ]٢ كلتا القراءتين للوجوه.
وقرأ أبو رجاء٣ : بضم التاء، وفتح الصَّاد، وتشديد اللام، وقد تقدم معنى ذلك كله في سورتي :«الانشقاق والنساء ».
فصل في معنى الآية
والمعنى : يصيبها صلاؤها وحرُّها، «حامية » أي شديدة الحرِّ، أي قد أوقدت وأُحميت مدةً طويلة، ومنه : حَمِيَ النهار - بالكسر - وحَمِيَ التنور حمياً فيهما، أي : اشتد حره، وحكى الكسائي : اشتد حمى الشمس وحموها بمعنى.
قال صلى الله عليه وسلم :«إنَّ اللهَ أوْقدهَا ألف سنةٍ حتَّى احمرَّت، ثُمَّ أوْقدَ عليْهَا ألفَ سنةٍ حتَّى ابْيَضَّتْ، ثُمَّ أوقدَ عَليْهَا حتَّى اسْودَّتْ، فهي سَوداءُ مُظْلِمَةٌ »٤.
قال الماوردي : فإن قيل : فما معنى وصفها بالحَمْي، وهي لا تكون إلا حامية، وهو أقل أحوالها، فما وجه المبالغة بهذه الصفة الناقصة ؟.
قيل : قد اختلف في المراد بالحامية هاهنا.
قيل : المراد : أنها دائمة [ الحمي ]٥، وليست كنارِ الدنيا التي ينقطع حميها بانطفائها.
الثاني : أن المراد بالحامية أنَّها حمى من ارتكاب المحظورات، وانتهاك المحارم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :«إنَّ لكُلِّ مَلكٍ حِمىً، وإنَّ حِمَى اللهِ في أرْضهِ محارمهُ، ومن يرتع حولَ الحِمَى يُوشِك أن يقعَ فِيهِ »٦.
الثالث : أنها تحمي نفسها عن أن تطاق ملامستها، وترام مماستها، كما يحمي الأسد عرينه ؛ كقول الشاعر :[ البسيط ]
٥١٨١- تَعْدُو الذِّئَابُ على مَنْ لا كِلاب لَهُ | وتتَّقِي صَوْلةَ المُستأسدِ الحَامِي٧ |
٢ سقط من ب..
٣ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٥٧، والدر المصون ٦/٥١٢..
٤ تقدم تخرجه..
٥ سقط من ب..
٦ أخرجه البخاري (١/١٥٣) كتاب الإيمان: باب فضل من استبرأ لدينه رقم (٥٢) وفي كتاب البيوع: باب الحلال بين والحرام بين (٢٠٥١) ومسلم (٣/١٢١٩- ١٢٢٠) كتاب المساقاة: باب أخذ الحلال وترك الشبهات (١٠٧/١٥٩٩) من حديث النعمان بن بشير..
٧ البيت للنابغة الذبياني ينظر القرطبي ٢٠/٢١..
قال القرطبيُّ١ :«الآني : الذي قد انتهى حرُّه، من الإيناء بمعنى :«التأخير »، يقال : أنَّاه يؤنيه إيناءً، أي : أخره وحبسه وأبطأه، نظيره قوله تعالى :﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ [ الرحمن : ٤٤ ]، رُوِيَ أنه لو وقعت [ نقطة ]٢ منها على جبال الدنيا لذابت ».
٢ في أ: شرارة..
والضَّريعُ : شجر في النار، ذو شوك لاصق بالأرض، تسميه قريش : الشِّبرق إذا كان رطباً، وإذا يبسَ فهو الضريع، لا تقربه دابة، ولا بهيمة، ولا ترعاه، وهو سم قاتل. قاله عكرمة، ومجاهد وأكثر المفسرين١.
وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهم - قال : شيء يرمي به البحر يسمى الضريع من أقوات الأنعام لا الناس، وإذا وقعت فيه الإبل لم تشبع، وهلكت هزلاً٢.
والصحيح الأول ؛ قال أبو ذؤيبٍ :[ الطويل ]
٥١٨٢- رَعَى الشِّبرقَ الرَّيانَ حتَّى إذا ذَوَى*** رَعَا ضَرِيعاً بَانَ مِنْهُ النَّحَائِصُ٣
وقال الهذلي يذكر إبلاً وسوء مرعاها :[ الكامل ]
٥١٨٣- وَحُبِسْنَ في هَزْمِ الضَّريعِ فكُلُّهَا | حَدْباءُ دَاميةُ اليديْنِ حرُودُ٤ |
وقال أيضاً : ويقال للجلدة التي على العظم تحت اللحم، هي الضريع، فكأنه تعالى وصف بالقلة، فلا جرم لا يسمن ولا يغني من جوع.
وقيل : هو الزقوم.
وقيل : يابس العرفج إذا تحطم.
وقيل : نبت يشبه العوسج.
وعن ابن عباس - رضي الله عنه - : هو شجر من نارٍ، ولو كانت الدنيا لأحرقت الأرض، وما عليها٥.
وقال سعيدُ بن جبيرٍ، وعكرمةُ : هي حجارة من نار٦.
وقال القرطبيُّ٧ : والأظهر أنه شجر ذو شوك حسب ما هو في الدنيا.
وعن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«الضريع شيء يكون في النَّار : يشبهُ الشّوْك، أشدُّ مرارة من الصَّبْرِ، وأنْتَنُ من الجِيفةِ، وأحرُّ منَ النَّارِ سماهُ اللهُ ضَريْعاً »٨.
قال القتيبيُّ : ويجوز أن يكون الضريع، وشجرة الزقوم : نبتين من النار، أو من جوهر لا تأكله النَّار، وكذلك سلاسل النار، وأغلالها، وحياتها، وعقاربها، ولو كانت على ما نعلم لما بقيت على النار وإنما دلَّنا الله على الغائب عند الحاضر عندنا، فالأسماء متفقة الدلالة والمعاني مختلفة، وكذلك ما في الجنة من شجرها وفرشها.
وزعم بعضهم : أنَّ الضريع : ليس بنبت في النار، ولا أنهم يأكلونه ؛ لأن الضريع من أقوات الأنعام، لا من أقوات الناس، وإذا وقعت الإبل فيه لم تشبع، وهلكوا هزلاً، فأراد أن هؤلاء يقتاتون بما لا يشبعهم، وضرب الضريع له مثلاً.
والمعنى أنهم يعذبون بالجوع كما يعذب من قوته الضريع.
وقال الحكيمُ الترمذي : وهذا نظر سقيم من أهله، يدل على أنهم تحيَّروا في قدرة الله تعالى، وأن الذي أنبت في هذا التراب الضريع قادر على أن ينبته في حريق النار، كما جعل - سبحانه وتعالى - في الدنيا من الشجر الأخضر ناراً فإذا أنتم منه توقدون، فلا النار تحرق الشجر، ولا رطوبة الماء في الشجر تُطفئُ النار، قال تعالى :﴿ الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ ﴾ [ يس : ٨٠ ]، وكما قيل : حين نزلت :﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ ﴾ [ الإسراء : ٩٧ ]، قالوا :«يا رسُولَ اللهِ، كيف يمْشُونَ على وُجوهِهمْ ؟ فقال - عليه الصلاة والسلام - :«الَّذي أمشَاهُمْ عَلَى أرْجُلهِمْ قادرٌ على أنْ يُمشِيهمْ على وُجوهِهِمْ »٩، فلا يتحيَّر في مثل هذا إلا ضعيف العقل١٠، أو ليس قد أخبرنا أنه :﴿ كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا ﴾ [ النساء : ٥٦ ]، وقال تعالى :﴿ سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ ﴾ [ إبراهيم : ٥٠ ].
وعن الحسن : لا أدري ما الضريع، ولم أسمع فيه من الصحابة شيئاً.
قال ابنُ كيسان : وهو طعام يضرعون عنده، ويذلون، ويتضرعون منه إلى الله تعالى، طلباً للخلاص منه، فسمي بذلك ؛ لأن آكله يتضرع في أن يعفى منه للكراهة وخشونته.
قال أبو جعفر النحاس : قد يكون مشتقاً من الضارع، وهو الذليل، أي : ذو ضراعة، أي : من شربه ذليل تلحقه ضراعة.
فإن قيل : قد قال تعالى في موضع آخر :﴿ فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ﴾ [ الحاقة : ٣٥، ٣٦ ]. وقال تعالى - هاهنا - :﴿ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ ﴾ وهو غير الغسلين، فما وجه الجمع ؟.
والجواب : أن النار دركات، فمنهم من طعامه الزقوم ومنهم من طعامه الغسلين، ومنهم من طعامه الضريع، ومنهم من شرابه الحميم، ومنهم من شرابه الصديد.
قال الكلبيُّ : الضريع في درجة ليس فيها غيره، والزقوم في درجة أخرى١١.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٧٣) عن مجاهد وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وذكره عن ابن عباس وعزاه إلى عبد بن حميد. وعن عكرمة وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم..
٢ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٢١)..
٣ ينظر الكشاف ٤/٧٤٢، والقرطبي ٢٠/٢١، والبحر ٨/٤٥٦، والدر المصون ٦/٥١٣..
٤ ينظر ديوانه الهذليين ٣/٧٣، واللسان (ضرع)، والكشاف ٤/٧٤٢ والبحر ٨/٤٥٦، والدر المصون ٦/٥١٢..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٢٢)..
٦ ينظر المصدر السابق..
٧ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٢٢..
٨ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٢١)..
٩ تقدم..
١٠ في أ: القلب..
١١ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٢١)..
قال الزمخشريُّ١ : مرفوع المحل، أو مجرور على وصف طعام، أو ضريع ».
قال أبو حيان٢ :«أما وصفه ب«ضريع » فيصح ؛ لأنه نبت نفي عنه السمن، والإغناء من الجوع وأمَّا رفعه على وصفه الطعام، فلا يصح ؛ لأن الطعام منفي، والسمن منفي، فلا يصح تركيبه ؛ لأنه يصير التقدير : ليس لهم طعام لا يسمن، ولا يغني من جوع إلا من ضريع، فيصير المعنى : أن لهم طعاماً يسمن ويغني من جوع من غير الضريع، كما تقول : ليس لزيد مال لا ينتفع به إلا من مال عمرو، فمعناه : أن له مالاً لا ينتفع به من غير مال عمرو ».
قال شهاب الدين٣ : وهذا لا يرد ؛ لأنه على تقدير تسليم القول بالمفهوم، وقد منع منه مانع، كالسياق في الآية الكريمة.
ثم قال أبو حيَّان٤ : ولو قيل : الجملة في موضع رفع صفة للمحذوف المقدر في :«إلاَّ من ضريع »، كان صحيحاً ؛ لأنه في موضع رفع، على أنه بدل من اسم ليس، أي : ليس لهم طعام إلاَّ كائن من ضريع ؛ إذ لا طعام من ضريع غير مسمنٍ، ولا مغنٍ من جوع، وهذا تركيب صحيح، ومعنى واضح.
وقال الزمخشريُّ٥ أيضاً :«أو أريد لا طعام لهم أصلاً ؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنس ؛ لأن الطعام ما أشبع، أو أسمن، وهو عنهما بمعزل، كما تقول : ليس لفلان إلا ظلّ إلا الشمس، تريد نفي الظل على التوكيد ».
قال أبو حيَّان٦ : فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً ؛ لأنه لم يندرج الكائن من الضريع تحت لفظ طعام، إذ ليس بطعام، والظاهر : الاتصال فيه، وفي قوله تعالى :﴿ وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ﴾ [ الحاقة : ٣٦ ].
قال شهابُ الدين٧ : وعلى قول الزمخشري المتقدم لا يلزم أن يكون منقطعاً، إذ المراد نفي الشيء بدليله أي : إن كان لهم طعام، فليس إلا هذا الذي لا يعده أحد طعاماً، ومثله : ليس له ظل إلا الشمس وقد مضى تحقيق هذا عند قوله تعالى :﴿ لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى ﴾٨ [ الدخان : ٥٦ ] وقوله :[ الطويل ]
٥١٨٤- ولا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ***. . . ٩
ومثله كثير.
فصل في المراد بالآية
المعنى : أن طعامهم ليس من جنس طعام الإنس ؛ لأنه نوع من أنواع الشوك، والشوك مما ترعاه الإبلُ، وهذا النوع مما تنفر عنه الإبل، فإذن منفعة الغذاء منتفية عنه، وهما : إماطة الجوع، وإفادة القوة والسمن في البدن أو يكون المعنى : ليس لهم طعام أصلاً ؛ لأن الضريع ليس بطعام للبهائم فضلاً عن الإنسان ؛ لأن الطعام ما أشبع أو أسمن.
قال المفسرون : لما نزلت هذه الآية، قال المشركون : إن إبلنا لتسمن بالضريع، فنزلت :﴿ لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ ﴾ وكذا فإن الإبل ترعاه رطباً، فإذا يبس لم تأكله.
وقيل : اشتبه عليهم أمره، فظنوه كغيره من النَّبتِ النافع ؛ لأن المضارعة المشابهة، فوجدوه لا يسمن ولا يغني من جوع، فيكون المعنى : أن طعامهم من ضريعٍ لا يسمن من جنس ضريعكم، إنما هو من ضريع غير مسمن، ولا مغن من جوع.
٢ البحر المحيط ٨/٤٥٨..
٣ الدر المصون ٦/٥١٣..
٤ البحر المحيط ٨/٤٥٨..
٥ الكشاف ٤/٧٤٣..
٦ البحر المحيط ٨/٤٥٨..
٧ الدر المصون ٦/٥١٣..
٨ سورة الدخان أية ٥٦..
٩ تقدم..
وقيل: ذات بهجة وحسن، لقوله تعالى: ﴿تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم﴾ [المطففين: ٢٤]، أي: متنعمة «لِسَعْيهَا»، أي: لعملها الذي عملته في الدنيا «راضيةٌ» في الآخرة حين أعطيت الجنة بعملها، وفيها واو مضمرة، والتقدير: ووجوه يومئذ، ليفصل بينها، وبين الوجوه المتقدمة، والوجوه عبارة عن الأنفس.
وقيل: عالية القدر، لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين.
قوله: ﴿لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً﴾.
قرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو: بالياء من تحت مضمومة؛ على ما لم يسم فاعله، «لاغية» رفعاً لقيامه الفاعل.
وقرأ نافع كذلك إلا أنه بالتاء من فوق، والتذكير والتأنيث واضحان؛ لأن التأنيث مجازي.
وقرأ الباقون: بفتح التاء من فوق، ونصب: «لاغية»، فيجوز أن تكون التاء للخطاب، أي: لا تسمع أنت، وأن تكون للتأنيث، أي: لا تسمع الوجوه.
وقرأ الفضلُ والجحدري: «لا يَسْمَعُ» بياء الغيبة مفتوحة «لاغيةً» نصباً، أي: لا يسمع فيها أحد.
و «لاغية» يجوز أن تكون صفة لكلمة على معنى: النسب، أي: ذات لغو، أو على إسناد اللغو إليها مجازاً، وأن تكون صفة لجماعة: أي: جماعة لاغية، وأن تكون مصدراً، كالعافية والعاقبة، كقوله: ﴿لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً﴾ [الواقعة: ٢٥]، واللَّغْوُ: اللَّغَا واللاغية بمعنى واحد؛ قال الشاعر: [الرجز]
٥١٨٥ - عَنِ اللَّغَا ورفَثِ التَّكلُّمِ... قال الفراء والأخفش: أي: لا تسمع فيها كلمة لغوٍ.
والمراد باللغو: ستة أوجه:
أحدها: كذباً وبهتاناً وكفراً بالله عَزَّ وَجَلَّ، قاله ابن عباس.
الثاني: لا باطل ولا إثم، قاله قتادة.
الثالث: أنه الشتم، قاله مجاهد.
الخامس: لا يسمع فيها حالف يحلف بكذب، قاله الفراء.
وقال الكلبي: لا يسمع في الجنة حالف بيمين برّة ولا فاجرة.
السادس: لا يسمع في كرمهم كلمة لغوٍ؛ لأن أهل الجنَّة لا يتكلمون إلا بالحكمة، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم. قاله الفراء، وهو أحسن الأقوال، قاله القفال والزجاج.
قوله: ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾. أي: بماء مندفق، وأنواع الأشربة اللذيذة على وجه الأرض من غير أخدود.
قال الزمخشريُّ: يريد عيوناً في غاية الكثرة، كقوله تعالى: ﴿عَلِمَتْ نَفْسٌ﴾ [الانفطار: ٥].
قوله: ﴿فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ﴾، أي: عالية في الهواء.
﴿وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ﴾ والأكواب: الكيزان التي لا عُرى لها، والإبريق: هو ما له عروةٌ وخرطوم، والكوب: ما ليس له عروةٌ وخرطوم.
وقوله: ﴿مَّوْضُوعَةٌ﴾ أي: معدة لأهلها.
وقيل: موضوعة على حافات العين الجارية.
وقيل: موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها، لكونها من ذهب، وفضة، وجوهر، وتلذذهم بالشرب منها.
وقيل: موضوعة عن حد الكبر، أي هي أوساط بين الصغر والكبر، كقوله تعالى: ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً﴾ [الإنسان: ١٦].
قوله: ﴿وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾، النمارق جمع «نمرق» وهي الوسادة قالت:
٥١٨٦ - أ - نَحْنُ بَناتُ طَارِقْ | نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ |
٥١٨٦ - ب - كُهُولٌ وشُبَّانٌ حِسانٌ وجُوههُمْ | عَلى سُررٍ مَصْفوفَةٍ ونَمارِقِ |
والنمرق: بضم النون والراء وكسرهما لغتان؛ أشهرهما الأولى.
قوله: ﴿وَزَرَابِيُّ﴾ : جمع «زَرْبيَّة» [بفتح الزاي وكسرها] لغتان مشهورتان، وهي البسط العراض.
وقيل: ما له منها خملة. قال أبو عبيدة: «الزَّرَابِيُّ» : الطنافس التي لها خمل رقيق، واحدتها: زَرْبيّة.
قال الكلبيُّ والفراءُ «» المَبْثُوثَة «: المبسوطة.
وقال عكرمةُ: بعضها فوق بعض.
وقال الفراء: كثيرة.
وقال القتبي: متفرقة في المجالس.
قال القرطبي: وهذا أصح، فهي كثيرة متفرقة، ومنه قوله تعالى: ﴿وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ﴾ [البقرة: ١٦٤].
وقال أبو بكر بنُ الأنباريِّ: وحدَّثنا أحمدُ بنُ الحُسينِ، قال: حدثنا حُسَيْنُ بنُ عرفةَ قال: حدثنا عمَّار بنُ محمدٍ، قال: صليت خلف منصور بنِ المعتمرِ، فقرأ: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية﴾ وقرأ: ﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾ : متكئين فيها ناعمين.
وقيل : عالية القدر، لأن فيها ما تشتهي الأنفس وتلذُّ الأعين.
قرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو١ : بالياء من تحت مضمومة ؛ على ما لم يسم فاعله، «لاغية » رفعاً لقيامه الفاعل.
وقرأ نافع كذلك إلا أنه بالتاء من فوق٢، والتذكير والتأنيث واضحان ؛ لأن التأنيث مجازي.
وقرأ الباقون : بفتح التاء من فوق، ونصب :«لاغية »، فيجوز أن تكون التاء للخطاب، أي : لا تسمع أنت، وأن تكون للتأنيث، أي : لا تسمع الوجوه.
وقرأ الفضلُ والجحدري٣ :«لا يَسْمَعُ » بياء الغيبة مفتوحة «لاغيةً » نصباً، أي : لا يسمع فيها أحد.
و«لاغية » يجوز أن تكون صفة لكلمة على معنى : النسب، أي : ذات لغو، أو على إسناد اللغو إليها مجازاً، وأن تكون صفة لجماعة : أي : جماعة لاغية، وأن تكون مصدراً، كالعافية والعاقبة، كقوله :﴿ لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً ﴾ [ الواقعة : ٢٥ ]، واللَّغْوُ : اللَّغَا واللاغية بمعنى واحد ؛ قال الشاعر :[ الرجز ]
٥١٨٥- *** عَنِ اللَّغَا ورفَثِ التَّكلُّمِ***٤
قال الفراء والأخفش : أي : لا تسمع فيها كلمة لغوٍ.
والمراد باللغو : ستة أوجه :
أحدها : كذباً وبهتاناً وكفراً بالله عز وجل، قاله ابن عباس٥.
الثاني : لا باطل ولا إثم، قاله قتادة٦.
الثالث : أنه الشتم، قاله مجاهد٧.
الرابع : المعصية، قاله الحسن٨.
الخامس : لا يسمع فيها حالف يحلف بكذب، قاله الفراء.
وقال الكلبي : لا يسمع في الجنة حالف بيمين برّة ولا فاجرة٩.
السادس : لا يسمع في كرمهم كلمة لغوٍ ؛ لأن أهل الجنَّة لا يتكلمون إلا بالحكمة، وحمد الله على ما رزقهم من النعيم الدائم. قاله الفراء، وهو أحسن الأقوال، قاله القفال والزجاج.
٢ ينظر السابق..
٣ ينظر: الدر المصون ٦/٥١٤..
٤ البيت للعجاج وقبله:
*** ورب أسراب حجيج كظم ***
ينظر: ديوان العجاج ص ٢٩٦، ومجاز القرآن ١/٧، والمحتسب ٢/٢٤٧ واللسان (رفث)، (كظم)، و(سرب)، والقرطبي ٢/٢٣..
٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٢٣)..
٦ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٥٤) وذكره السيوطي في "الدرالمنثور" (٦/٥٧٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٥٤) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٧٤) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر..
٨ ذكره الماوردي في "تفسيره" (٦/٢٦٠) والقرطبي (٢٠/٢٣)..
٩ ينظر المصدر السابق..
قال الزمخشريُّ١ : يريد عيوناً في غاية الكثرة، كقوله تعالى :﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ ﴾ [ الانفطار : ٥ ].
وقوله :﴿ مَّوْضُوعَةٌ ﴾ أي : معدة لأهلها.
وقيل : موضوعة على حافات العين الجارية.
وقيل : موضوعة بين أيديهم لاستحسانهم إياها، لكونها من ذهب، وفضة، وجوهر، وتلذذهم بالشرب منها.
وقيل : موضوعة عن حد الكبر، أي هي أوساط بين الصغر والكبر، كقوله تعالى :﴿ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً ﴾ [ الإنسان : ١٦ ].
٥١٨٦أ- نَحْنُ بَناتُ طَارِقْ | نَمْشِي عَلَى النَّمَارِقْ١ |
٥١٨٦ب- كُهُولٌ وشُبَّانٌ حِسانٌ وجُوههُمْ | عَلى سُررٍ مَصْفوفَةٍ ونَمارِقِ٢ |
والنمرق : بضم النون والراء وكسرهما لغتان ؛ أشهرهما الأولى.
٢ ينظر ديوانه (١١٣)، والقرطبي ٢٠/٢٤، والبحر ٨/٤٥٧ والدر ٦/٥١٤..
وقيل : ما له منها خملة. قال أبو عبيدة :«الزَّرَابِيُّ » : الطنافس التي لها خمل رقيق، واحدتها : زَرْبيّة.
قال الكلبيُّ والفراءُ «المَبْثُوثَة » : المبسوطة٢.
وقال عكرمةُ : بعضها فوق بعض٣.
وقال الفراء : كثيرة.
وقال القتبي : متفرقة في المجالس.
قال القرطبي٤ : وهذا أصح، فهي كثيرة متفرقة، ومنه قوله تعالى :﴿ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ ﴾ [ البقرة : ١٦٤ ].
وقال أبو بكر بنُ الأنباريِّ : وحدَّثنا أحمدُ بنُ الحُسينِ، قال : حدثنا حُسَيْنُ بنُ عرفةَ قال : حدثنا عمَّار بنُ محمدٍ، قال : صليت خلف منصور بنِ المعتمرِ، فقرأ :﴿ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية ﴾ وقرأ٥ :﴿ وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ﴾ : متكئين فيها ناعمين.
٢ ذكره القرطبي (٢٠/٢٣) عن الكلبي ومثله عن قتادة أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٥٥) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٧٤) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن أبي حاتم..
٣ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٧٤) وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن عكرمة..
٤ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٢٤..
٥ ينظر السابق؟.
قال ابنُ الخطيب: الإبل لها خواص، منها أنه - تعالى - جعل الحيوان الذي يقتني أنواعاً، فتارة يقتنى ليؤكل لحمه، وتارة ليشرب لبنه، وتارة ليحمل الناس في الأسفار، وتارة لنقل المتاع من بلد إلى بلد، وتارة للزِّينة والجمال، وهذه المنافع بأسرها حاصلة في الإبل، ثم إنها فاقت في كل خصلة من هذه الخصال غيرها من الحيوان المختص ببعضها، مع صبرها على العطش، وقطع المفاوز بالأحمال الثقيلة، وقناعتها في العلف بنبات البر، ولقد ضللنا الطريق في مفازة، فقدموا جملاً واتبعوه، فهداهم للطريق بعد زمان طويل، مع كثرة المعاطف والتلول، فانظر كيف ثبت واهتدى على ما عجزت عنه ذوو العقول.
ومنها: أنه في غاية القوة والصبر على العمل.
ومنها: أنها مع كونها كذلك منقادة للصَّب الصغير.
ومنها: أنها تحمل وهي باركة، ثم تقوم بحملها، وهذه الصفات توجب على العاقل أن ينظر في خلقها وتركيبها، ويستدل بذلك على وجود الصانع الحكيم جلت قدرته.
فصل
قال قتادةُ ومقاتلٌ وغيرهما: لما ذكر الله - تعالى - السرر المرفوعة، قالوا: كيف نصعدها؟ فأنزل الله هذه الآية، وبيَّن أنَّ الإبل «تبرك» حتى يحمل عليها، ثم تقوم، فكذلك تلك السرر تتطامَنُ، ثم يرتفع.
وقال المبرد: الإبل هنا: القطعُ العظيمة من السَّحاب.
وقال الثعلبي: ولم أجد لذلك أصلاً في كتب الأئمة.
قال القرطبي: قد ذكره الأصمعي أبو سعيد بن عبد الملك بن قريب، قال أبو عمرو: من قرأها: ﴿أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ بالتخفيف، عنى بها: البعير؛ لأنها من ذوات الأربع، يبرك، فتحمل عليه الحمولة، وغيره من ذوات الأربع، لا يحمل عليه إلا وهو قائم، ومن قرأها بالتثقيل فقال: «الإبل» عنى بها السحاب التي تحمل الماء والمطر.
وقال الماورديُّ: وفي الإبل وجهان:
أظهرهما: أنها «الإبل».
وإن كان المراد بها الإبل من النعم؛ فلأن الإبل أجمع للمنافع من سائر الحيوان؛ لأن ضروبه أربعة: حلوبة، وركوبة، وأكولة، وحمولة، والإبل تجمع هذه الخلال الأربع، فكانت النعمة بها أعم، وظهور القدرة بها أتم.
وقيل للحسن: الفيل أعظم في الأعجوبة فقال: العرب بعيدة العهدِ بالفيل ثم هو لا يؤكل لحمه ولا يركب ظهره، ولا يحلب درّه.
فصل في الكلام على الإبل
الإبل: اسم جمع، واحده: بعير، وناقة، وجمل، ولا واحد لها من لفظها، وهو مؤنث، ولذلك تدخل عليه تاء التأنيث تصغيره، فيقال: أبيلة.
قال القرطبيُّ: لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين، فالتأنيث لها لازم، وربما قالوا للإبل: إبْل - بسكون الباء - للتخفيف، والجمع: آبال واشتقوا من لفظه، فقالوا: تأبل زيد، أي كثرت إبله. وتعجبوا من هذا، فقالوا: ما آبله ﴿أي: ما أكثر إبله﴾ وتقدم في سورة «الأنعام».
قوله: «كَيْفَ» : منصوب ب «خُلِقتْ» على حد نصبها في قوله تعالى: ﴿كَيْفَ تَكْفُرُونَ﴾، والجملة بدل من «الإبل» بدل اشتمال، فتكون في محل جر، وهي في الحقيقة معلقة بالنظر، وقد دخلت «إلى» على «كيف» في قولهم: «انظر إلى كيف يصنع»، وقد تبدل الجملة المشتملة على استفهام من اسم ليس فيه استفهام، كقولهم: «عرفت زيداً أبو من هو» على خلاف بين النحويين.
وقرأ العامة: «خُلِقَتْ، ورُفِعَتْ، ونُصِبَتْ، وسُطِحَتْ» مبنياً للمفعول، والتاء ساكنة للتأنيث.
وقرأ أمير المؤمنين، وابن أبي عبلة، وأبو حيوة، قال القرطبي: وابن السميفع وأبو العالية: «خلقتُ» وما بعده بتاء المتكلم، مبنياً للفاعل.
والعامة على: «سُطِحَتْ» مخففاً.
وقرأ الحسنُ وأبو حيوة وأبو رجاء: «سُطِّحَتْ» بتشديد الطاء وإسكان التاء.
قال القشيريُّ: وليس هذا مما يطلب فيه نوع حكمة.
قوله: ﴿وَإِلَى السمآء كَيْفَ رُفِعَتْ﴾، أي: رفعت عن الأرض بغير عمدٍ بعيدة المدى.
وقيل: رفعت فلا ينالها شيء.
قوله: ﴿وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ نصباً ثابتاً راسخاً لا يميل ولا يزول، وذلك أن الأرض لما دحيت مادت، فأرساها بالجبال، كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ﴾ [الأنبياء: ٣١].
قوله: ﴿وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ ممهدة، أي: بسطتْ ومدتْ، واستدل بعضهم بهذا على أن الأرض ليست بكرةٍ.
قال ابنُ الخطيب: وهو ضعيف؛ لأن الكرة إذا كانت في غاية العطمة تكون كل قطعة منها كالسطح.
فإن قيل: ما المناسبة بين هذه الأشياء؟.
فالجواب: قال الزمخشريُّ: من فسَّر الإبل بالسحاب، فالمناسبة ظاهرة، وذلك تشبيه ومجاز، ومن حملها على الإبل، فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين:
الأول: أن القرآن نزل على العرب، وكانوا يسافرون كثيراً، وكانوا يسيرون عليها في المهامه والقفار، مستوحشين، منفردين عن الناس، والإنسان إذا انفرد أقبل على التفكُّر في الأشياء؛ لأنه ليس معه من يحادثه، وليس هناك من يشغل به سمعه وبصره، فلا بد من أن يجعل دأبه الفكر، فإذا فكر في تلك الحال، فأوَّل ما يقع بصره فلا بد من أن يجعل دأبه الفكر، فإذا فكر في تلك الحال، فأوَّل ما يقع بصره على الجمل الذي هو راكبه، فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر إلى فوق لم ير غير السماء، وغذا نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإذا نظر إلى تحت لم ير غير الأرض، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلودِ والانفراد، حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النَّظر.
الثاني: أن جميع المخلوقات دالة على الصانع - جلت قدرته - إلا انها قسمان: منها ما للشهوة فيه حظّ كالوجه الحسن، والبساتين للنُّزهة، والذهب والفضة، ونحوها، فهذه مع دلالتها على الصَّانع، قد يمنع استحسانها عن إكمال النظر فيها.
ومنها ما لا حظّ فيه للشهوة كهذه الأشياء، فأمر بالنظر فيها، إذ لا مانع من إكمال النظر.
وقيل : رفعت فلا ينالها شيء.
قال ابنُ الخطيب١ : وهو ضعيف ؛ لأن الكرة إذا كانت في غاية العطمة تكون كل قطعة منها كالسطح.
فإن قيل : ما المناسبة بين هذه الأشياء ؟.
فالجواب : قال الزمخشريُّ٢ : من فسَّر الإبل بالسحاب، فالمناسبة ظاهرة، وذلك تشبيه ومجاز، ومن حملها على الإبل، فالمناسبة بينها وبين السماء والأرض والجبال من وجهين :
الأول : أن القرآن نزل على العرب، وكانوا يسافرون كثيراً، وكانوا يسيرون عليها في المهامه والقفار، مستوحشين، منفردين عن الناس، والإنسان إذا انفرد أقبل على التفكُّر في الأشياء ؛ لأنه ليس معه من يحادثه، وليس هناك من يشغل به سمعه وبصره، فلا بد من أن يجعل دأبه الفكر، فإذا فكر في تلك الحال، فأوَّل ما يقع بصره على الجمل الذي هو راكبه، فيرى منظراً عجيباً، وإن نظر إلى فوق لم ير غير السماء، وإذا نظر يميناً وشمالاً لم ير غير الجبال، وإذا نظر إلى تحت لم ير غير الأرض، فكأنه تعالى أمره بالنظر وقت الخلودِ والانفراد، حتى لا تحمله داعية الكبر والحسد على ترك النَّظر.
الثاني : أن جميع المخلوقات دالة على الصانع - جلت قدرته - إلا أنها قسمان : منها ما للشهوة فيه حظّ كالوجه الحسن، والبساتين للنُّزهة، والذهب والفضة، ونحوها، فهذه مع دلالتها على الصَّانع، قد يمنع استحسانها عن إكمال النظر فيها.
ومنها ما لا حظّ فيه للشهوة كهذه الأشياء، فأمر بالنظر فيها، إذ لا مانع من إكمال النظر.
٢ الكشاف ٤/٧٤٥، والرازي ٣١/١٤٤..
﴿إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ﴾ : واعظ.
﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾ أي بمسلّط فتقتلهم، ثم نسختها آية السيف.
وقرأ العامة: «بمصيطر» بالصَّاد.
وهشام: بالسِّين.
وخلف: بإشمام الصاد زاياً بلا خلاف.
وعن خلاَّد: وجهان.
وقرأ هارون الأعور: «بمصيطر» - بفتح الطاء - اسم مفعول، لأن «سيطر» عندهم متعدٍّ.
[ويدل على ذلك فعل المطاوعة، وهو تسيطر، ولم يجيء اسم على مفعل إلا مسيطر، ومبيقر، ومهيمن، ومبيطر؛ من سيطر، وهيمن، وبيطر، وقد جاء مجيمر اسم وادٍ، ومديبر، ويمكن أن يكون أصلهما مجمر ومدبر، فصغراً.
قال شهاب الدين: قد تقدم أن بعضهم جعل مهيمناً مصغراً، وتقدم أنه خطأ عظيم، وذلك في سورة المائدة].
قال القرطبيُّ: «وفي الصحاح: المسيطر والمصيطر: المسلط على الشيء، ليشرف عليه ويتعهَّد أحواله، ويكتب عمله، وأصله من السطر؛ لأن معنى السطر ألاَّ يتجاوز، فالكتاب مسطر، والذي يفعله مسطر ومسيطر، يقال: سيطرت علينا، وقال تعالى: ﴿لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ﴾، وسطره أي: صرعه».
قوله ﴿إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ﴾ استثناء منقطع، أي: لكن من تولّى عن الوعظ والتذكر، فيعذبه الله العذاب الأكبر، وهو جهنم الدائم عذابها، وإنما قال: «الأكبر» ؛ لأنهم عذّبوا في الدنيا بالجوع، والقَحْط، والأسْر، والقَتْل، ويؤيد هذا التأويل: قراءة ابن مسعود: «إلا مَنْ تَوَلَّى وكَفَر فإنَّه يُعَذِّبُهُ الله».
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ وزيد بن عليٍّ، وزَيْدُ بنُ أسلمَ، وقتادةُ: «ألا» حرف استفتاح وتنبيه؛ كقول امرئ القيس: [الطويل]
٥١٨٧ - الاَ رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ....................................
و «مَنْ» على هذا شرط، فالجملة مقدرة شرطية، والجواب: «فيعذبه الله»، والمبتدأ بعد الفاء مضمر، والتقدير: فهو يعذبه الله؛ لأنه لو أريد الجواب بالفعل الذي بعد الفاء لكان: «إلا من تولى وكفر يعذبه الله».
[قال شهال الدين: أو موصول مضمن معناه].
وقرأ العامة :«بمصيطر » بالصَّاد.
وهشام١ : بالسِّين.
وخلف : بإشمام الصاد زاياً بلا خلاف.
وعن خلاَّد : وجهان.
وقرأ هارون الأعور :«بمصيطر » - بفتح الطاء - اسم مفعول، لأن «سيطر » عندهم متعدٍّ.
[ ويدل على ذلك فعل المطاوعة، وهو تسيطر، ولم يجيء اسم على مفعل إلا مسيطر، ومبيقر، ومهيمن، ومبيطر ؛ من سيطر، و بيقر، وهيمن، وبيطر، وقد جاء مجيمر اسم وادٍ، ومديبر، ويمكن أن يكون أصلهما مجمر ومدبر، فصغراً.
قال شهاب الدين٢ : قد تقدم أن بعضهم جعل مهيمناً مصغراً، وتقدم أنه خطأ عظيم، وذلك في سورة المائدة ]٣.
قال القرطبيُّ٤ :«وفي الصحاح٥ : المسيطر والمصيطر : المسلط على الشيء، ليشرف عليه ويتعهَّد أحواله، ويكتب عمله، وأصله من السطر ؛ لأن معنى السطر ألاَّ يتجاوز، فالكتاب مسطر، والذي يفعله مسطر ومسيطر، يقال : سيطرت علينا، وقال تعالى :﴿ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ ﴾، وسطره أي : صرعه ».
٢ الدر المصون ٦/٥١٤..
٣ سقط من ب..
٤ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٢٦..
٥ الصحاح ٢/٦٨٣..
وقيل : هو استثناء متصل، والمعنى : لست مسلَّطاً إلى على من تولى وكفر، فأنت مسلَّط عليه بالجهاد، والله - تعالى - يعذبه ذلك العذاب الأكبر، فلا نسخ في الآية على هذا التقدير.
وقرأ ابنُ عبَّاسٍ٢ وزيد بن عليٍّ، وزَيْدُ بنُ أسلمَ، وقتادةُ :«ألا » حرف استفتاح وتنبيه ؛ كقول امرئ القيس :[ الطويل ]
٥١٨٧- ألا رُبَّ يَوْمٍ لَكَ مِنْهُنَّ صَالِحٍ ***. . . ٣
و«مَنْ » على هذا شرط، فالجملة مقدرة شرطية، والجواب :«فيعذبه الله »، والمبتدأ بعد الفاء مضمر، والتقدير : فهو يعذبه الله ؛ لأنه لو أريد الجواب بالفعل الذي بعد الفاء لكان :«إلا من تولى وكفر يعذبه الله ».
[ قال شهاب الدين٤ : أو موصول مضمن معناه ]٥.
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٧٥، والبحر المحيط ٨/٤٦٠، والدر المصون ٦/٥١٥..
٣ صدر بيت وعجزه:
*** ولا سيما يوم بدارة جلجل
ينظر ديوان امرىء القيس ص ١٠، والجنى الداني ص ٣٣٤، ٤٤٣، وخزانة الأدب ٣/٤٤٤، ٤٥١، والدرر ٣/١٨٣، وشرح شواهد المغني ١/٤١٢، ٢/٥٥٨ وشرح المفصل ٢/٨٢، والصاحبي في فقه اللغة ص ١٥٥، ولسان العرب (سوا)، ورصف المباني ص ١٩٣، وشرح الأشموني ١/٢٤١، ومغني اللبيب ص ١٤، ٣١٣، ٤٢١، وهمع الهوامع ١/٢٣٤..
٤ الدر المصون ٦/٥١٥..
٥ سقط من ب..
٥١٨٨ - وكُلُّ ذِي غِيْبَةٍ يَئُوبُ | وغَائِبُ المَوْتِ لا يَئُوبُ |
قال أبو حاتمٍ: لا يجوز التشديد، ولو جاز جاز مثله في الصيام والقيام.
وقيل: لغتان بمعنى.
قال شهابُ الدين: وقد اضطربت فيها أقوال التصريفيّين.
فقيل: هو مصدر ل «أيَّبَ» على وزن «فَيْعَل» ك «بَيْطَر» يقال منه: «أيَّبَ يُؤيبُ
وقيل: بل هو مصدر ل «أوَّبَ» بزنة «فَوْعَلَ» ك «حَوْقَلَ»، والأصل: «إوْوَاب» بواوين، الأولى: زائدة، والثانية: عين الكلمة، فسكنت الأولى بعد كسرة، فقلبت ياء، فصارت: «إيواباً»، فاجتمعت ياء وواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء بعدها، فوزنه «فِيعَال» ك «حِيقَال»، والأصل: «حِوقَال».
وقيل: بل هو مصدر ل «أوَّبَ»، على وزن «فَعْوَل»، ك «جَهْور»، والأصل: «إوْوَاب» على ومن «فِعْوَال»، ك «جِهْوَار»، والأولى عين الكلمة، والثانية زائدة، وفعل به ما فعل بما قبله من القلب والإدغام، للعلل المتقدمة، وهي مفهومة مما مرَّ.
فإن قيل: الإدغام مانعٌ من قلب الواو ياء.
قيل: إنما يمنع إذا كانت الواو والياء عينان، وقد عرفت أن الياء في «فَيْعَل»، والواو في «فَوْعَل، وفَعْوَل» زائدتان.
وقيل: بل هو مصدر ل «أوَّبَ» بزنة: «فعَّل» نحو: «كذَّبَ كِذَّاباً»، والأصل: «إوَّاب» قلبت الواو الأولى ياء لانكسار ما قبلها، فقيل: «إيواباً».
قال الزمخشريُّ: كديوان في «دِوَّان»، ثم فعل به ما فعل ب «سيِّد وميِّت»، يعني أصله: سَيْود، فقلبت وأدغم، وإلى هذا نحا أبو الفضل أيضاً.
إلاَّ انَّ أبا حيَّان ردَّ ما قالاه: بأنهم نصُّوا على أن الواو الموضوعة على الإدغام وجاء ما قبها مكسوراً، فلا تقلب الواو الأولى ياء لأجل الكسرة، قال: ومثلوا بنفس «إوَّاب» مصدر: «أوَّبَ» مشدداً، وب «اخرواط»، مصدر «اخروَّطَ» قال: وأما تشبيه الزمخشري ب «ديوان»، فليس بجيد؛ لأنهم لم ينطقوا بها الوضع مدغمة، ولم يقولوا: «دوان»، ولولا الجمع على: «دواوين» لم يعلم أن أصل هذه الياء واو، وقد نصوا على شذوذ: «ديوان»، فلا يقاس عليه غيره.
قال شهاب الدين: أما كونهم لم ينطقوا ب «دوان»، فلم يلزم منه رد ما قاله الزمخشري، ونص النحاة على أن أصل «ديوان» :«دِوَّان»، و «قيراط» :«قِرَّاط» بدليل الجمع على «دواوين وقراريط» وكونه شاذًّا لا يقدح؛ لأنه لم يذكره مقيساً عليه، بل منظراً به.
وقيل: هو مصدر ل «أوَّب» بزنة: «أكْرمَ» من الأوب، والأصل «إواب»، ك «إكرام»، فأبدلت الهمزة الثانية ياء لسكونها بعد همزة مكسورة، فصار اللفظ «إيواباً»، اجتمعت الواو والياء على ما تقدم فقلب وأدغم ووزنه: «إفْعَال» وهذا واضح.
وقال ابن عطية في هذا الوجه: سهلت الهمزة وكان الإدغام يردها «إواباً» لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس. انتهى.
وهذا ليس بجيد، لما عرفت من أنه لما قلبت الهمزة ياء، فالقياس أن تفعل ما تقدم منقلب الواو إلى الياء من دون عكس.
قال شعاب الدين: «وإنَّما ذكرت هذه الأوجه مشروحة، لصعوبتها، وعدم من يمعن النظر في مثل هذه المواضع القلقةِ، وقدم الخبر في قوله:» إلَيْنَا، وعَلَيْنَا «مبالغة في التشديد في الوعيد». والله أعلم.
روى الثَّعلبيُّ في تفسيره عن أبيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة الغَاشِيَةِ حَاسبهُ اللهُ حِسَاباً يَسِيْراً».