تفسير سورة يونس

فتح الرحمن في تفسير القرآن
تفسير سورة سورة يونس من كتاب فتح الرحمن في تفسير القرآن .
لمؤلفه تعيلب . المتوفي سنة 2004 هـ
مكية وهي مائة وتسع آيات

﴿ الر ﴾ تعديد للحروف على طريق التحدي. و ﴿ تِلْكَ ءايات الكتاب ﴾ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات والكتاب السورة. و ﴿ الحكيم ﴾ ذو الحكمة لاشتماله عليها ونطقه بها. أو وصف بصفة محدثة. قال الأعشى :
وَغَرِيبَةٍ تَأْتِي الْمُلُوكَ حَكِيمَة قَدْ قُلْتُها لِيُقَالَ مَنْ ذَا قَالَهَا
الهمزة لإنكار التعجب والتعجيب منه. و ﴿ أَنْ أَوْحَيْنَا ﴾ اسم كان، وعجباً : خبرها. وقرأ ابن مسعود :«عجب » فجعله اسماً وهو نكرة و ﴿ أَنْ أَوْحَيْنَا ﴾ خبراً وهو معرفة، كقوله :
يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ وَمَاءُ ***
والأجود أن تكون «كان » تامة، وأن أوحينا بدلاً من عجب. فإن قلت : فما معنى اللام في قوله :﴿ كَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا ﴾ ؟ وما هو الفرق بينه وبين قولك : أكان عند الناس عجباً ؟ قلت : معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علماً لهم يوجهون نحوه استهزائهم وإنكارهم، وليس في عند الناس هذا المعنى، والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر، وأن يكون رجلاً من أفناء رجالهم، دون عظيم من عظمائهم، فقد كانوا يقولون : العجب أنّ الله لم يجد رسولاً يرسله إلى الناس إلاّ يتيم أبي طالب، وأن يذكر لهم البعث وينذر بالنار ويبشر بالجنة، وكل واحد من هذه الأمور ليس بعجب، لأنّ الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلاّ بشر مثلهم. وقال الله تعالى :﴿ قُل لَوْ كَانَ فِى الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً ﴾ [ الإسراء : ٩٥ ] وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب أيضاً، لأنّ الله تعالى : إنما يختار من استحق الاختيار، لجمعه أسباب الاستقلال بما اختير له من النبوّة. والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء ﴿ وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى ﴾ [ سبأ : ٣٧ ] والبعث للجزاء على الخير والشرّ هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجباً ؟ إنما العجب العجيب والمنكر في العقول تعطيل الجزاء ﴿ أَنْ أَنذِرِ الناس ﴾ أن هي المفسرة ؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول : ويجوز أن تكون المخففة من الثقيلة، وأصله : أنه أنذر الناس، على معنى : أن الشأن قولنا أنذر الناس. و ﴿ أَنَّ لَهُمْ ﴾ الباء معه محذوف ﴿ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبّهِمْ ﴾ أي سابقة وفضلاً ومنزلة رفيعة. فإن قلت : لم سميت السابقة قدماً ؟ قلت : لما كان السعي والسبق بالقدم، سميت المسعاة الجميلة والسابقة قدماً، كما سميت النعمة يداً لأنها تعطى باليد. وباعاً لأنّ صاحبها يبوع بها، فقيل : لفلان قدم في الخير. وإضافته إلى صدق دلالة على زيادة فضل، وأنه من السوابق العظيمة، وقيل : مقام صدق ﴿ إِنَّ هَذَا ﴾ إن هذا الكتاب وما جاء به محمد ﴿ لسحر ﴾ ومن قرأ :«لساحر » فهذا إشارة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو دليل عجزهم واعترافهم به وإن كانوا كاذبين في تسميته سحراً، وفي قراءة أبيّ :«ما هذا إلاّ سحر ».
﴿ يُدَبِّرُ ﴾ يقضي ويقدر على حسب مقتضى الحكمة ويفعل ما يفعل المتحري للصواب الناظر في أدبار الأمور وعواقبها، لئلا يلقاه ما يكره آخراً. و ﴿ الأمر ﴾ أمر الخلق كله وأمر ملكوت السموات والأرض والعرش. فإن قلت : ما موقع هذه الجملة ؟ قلت : قد دلّ بالجملة قبلها على عظمة شأنه وملكه بخلق السموات والأرض، مع بسطتها واتساعها في وقت يسير، وبالاستواء على العرش، وأتبعها هذه الجملة لزيادة الدلالة على العظمة وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره، وكذلك قوله :﴿ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ﴾ دليل على العزة والكبرياء، كقوله :﴿ يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن ﴾ [ النبأ : ٣٨ ] و ﴿ ذلكم ﴾ إشارة إلى المعلوم بتلك العظمة، أي ذلك العظيم الموصوف بما وصف به هو ربكم، وهو الذي يستحق منكم العبادة ﴿ فاعبدوه ﴾ وحده ولا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلاً عن جماد لا يضرّ ولا ينفع ﴿ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ فإن أدنى التفكر والنظر ينبهكم على الخطأ فيما أنتم عليه.
﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً ﴾ أي لا ترجعون في العاقبة إلاّ إليه فاستعدوا للقائه ﴿ وَعَدَ الله ﴾ مصدر مؤكد لقوله :﴿ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ و ﴿ حَقًّا ﴾ مصدر مؤكد لقوله :﴿ وَعَدَ الله ﴾. ﴿ إنَّهُ يبدؤ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ استئناف معناه التعليل لوجوب المرجع إليه، وهو أنّ الغرض ومقتضى الحكمة بابتداء الخلق وإعادته هو جزاء المكلفين على أعمالهم. وقرئ :«أنه يبدؤ الخلق » بمعنى لأنه. أو هو منصوب بالفعل الذي نصب وعد الله : أي وعد الله وعداً بدأ الخلق ثم إعادته. والمعنى : إعادة الخلق بعد بدئه. وقرئ :«وعد الله »، على لفظ الفعل. ويبدىء، من أبدأ. ويجوز أن يكون مرفوعاً بما نصب حقاً، أي حقّ حقاً بدأ الحلق، كقوله :
أَحَقّاً عِبَادَ اللَّهِ أَنّ لَسْتُ جَائِيا وَلاَ ذَاهِباً إلاّ عَلَيَّ رَقِيبُ
وقرئ :«حق أنه يبدؤ الخلق » كقولك : حق أنّ زيداً منطلق ﴿ بالقسط ﴾ بالعدل، وهو متعلق بيجزى. والمعنى : ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجورهم. أو بقسطهم وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا حين آمنوا وعملوا صالحاً، لأنّ الشرك ظلم. قال الله تعالى :﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ] والعصاة : ظلاّم أنفسهم، وهذا أوجه، لمقابلة قوله :﴿ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ﴾.
الياء في ﴿ ضِيَاء ﴾ منقلبة عن واو ضوء لكسرة ما قبلها. وقرئ :«ضئاء » بهمزتين بينهما ألف على القلب، بتقديم اللام على العين، كما قيل في عاق : عقا. والضياء أقوى من النور ﴿ وَقَدَّرَهُ ﴾ وقدّر القمر. والمعنى وقدّر مسيره ﴿ مَنَازِلَ ﴾ أو قدّره ذا منازل، كقوله تعالى :﴿ والقمر قدرناه مَنَازِلَ ﴾ [ يس : ٣٩ ]. ﴿ والحساب ﴾ وحساب الأوقات من الشهور والأيام والليالي ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى المذكور أي ما خلقه إلاّ ملتبساً بالحق الذي هو الحكمة البالغة ولم يخلقه عبثاً. وقرئ :«يفصل »، بالياء.
خصّ المتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى النظر والتدبر.
﴿ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ﴾ لا يتوقعونه أصلاً، ولا يخطرونه ببالهم لغفلتهم المستولية عليهم، المذهلة باللذات وحبّ العاجل عن التفطن للحقائق. أو لا يأملون حسن لقائنا كما يأمله السعداء أو لا يخافون سوء لقائنا الذي يجب أن يخاف ﴿ وَرَضُواْ بالحياة الدنيا ﴾ من الآخرة، وآثروا القليل الفاني على الكثير الباقي، كقوله تعالى :﴿ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة ﴾ [ التوبة : ٣٨ ]. ﴿ واطمأنوا بِهَا ﴾ وسكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها، فبنووا شديداً وأمّلوا بعيداً.
﴿ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ﴾ يسدّدهم بسبب إيمانهم للاستقامة على سلوك السبيل المؤدّي إلى الثواب، لذلك جعل ﴿ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ الأنهار ﴾ بياناً له وتفسيراً، لأنّ التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها، ويجوز أن يريد : يهديهم في الآخرة بنور إيمانهم إلى طريق الجنة، كقوله تعالى :﴿ يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم ﴾ [ الحديد : ١٢ ] ومنه الحديث : " إنّ المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صُوِّر حسنة، فيقول له : أنا عملك، فيكون له نوراً وقائداً إلى الجنة وأما الكافر إذا خرج من قبره صور له عمله في صورة سيئة فيقول له أنا عملك فينطلق به حتى يدخله النار " فإن قلت : فلقد دلّت هذه الآية على أنّ الإيمان الذي يستحق به العبد الهداية والتوفيق والنور يوم القيامة، هو إيمان مقيد، وهو الإيمان المقرون بالعمل الصالح، والإيمان الذي لم يقرن بالعمل الصالح فصاحبه لا توفيق له ولا نور. قلت : الأمر كذلك. ألا ترى كيف أوقع الصلة مجموعاً فيها بين الإيمان والعمل، كأنه قال : إنّ الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح، ثم قال : بإيمانهم، أي بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح، وهو بين واضح لا شبهة فيه.
﴿ دَعْوَاهُمْ ﴾ دعاؤهم، لأنّ «اللَّهم » نداء لله ومعناه : اللَّهم إنا نسبحك، كقول القانت في دعاء القنوت : اللَّهم إياك نعبد ولك نصلّي ونسجد. ويجوز أن يراد بالدعاء : العبادة ﴿ وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله ﴾ [ مريم : ٤٨ ] على معنى : أن لا تكليف في الجنة ولا عبادة، وما عبادتهم إلاّ أن يسبحوا الله ويحمدوه، وذلك ليس بعبادة، إنما يلهمونه فينطقون به تلذذاً بلا كلفة، كقوله تعالى :﴿ وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً ﴾ [ الأنفال : ٣٥ ]. ﴿ وَءَاخِرُ دعواهم ﴾ وخاتمة دعائهم الذي هو التسبيح ﴿ أَنِ ﴾ يقولوا :﴿ الحمد للَّهِ رَبّ العالمين ﴾. ومعنى ﴿ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سلام ﴾ أنّ بعضهم يحيي بعضاً بالسلام. وقيل : هي تحية الملائكة إياهم، إضافة للمصدر إلى المفعول. وقيل : تحية الله لهم. وأن هي المخففة من الثقيلة، وأصله : أنه الحمد لله، على أن الضمير للشأن كقوله :
أَنّ كُلَّ هالِكٌ مَنْ يَحْفَي وَيَنْتَعِلُ ***
وقرئ :«أَنَّ الحمدَ لله » بالتشديد ونصب الحمد.
أصله ﴿ وَلَوْ يُعَجّلُ الله لِلنَّاسِ الشر ﴾ تعجيله لهم الخير، فوضع ﴿ استعجالهم بالخير ﴾ موضع تعجيله لهم الخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم وإسعافه بطلبتهم، حتى كأنّ استعجالهم بالخير تعجيل لهم، والمراد أهل مكة. وقولهم : فأمطر علينا حجارة من السماء، يعني : ولو عجلنا لهم الشرّ الذي دعوا به كما نعجل لهم الخير ونجيبهم إليه ﴿ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ لأميتوا وأهلكوا. وقرئ :«لقضى إليهم أجلهم » على البناء للفاعل، وهو الله عزّ وجلّ، وتنصره قراءة عبد الله :«لقضينا إليهم أجلهم » فإن قلت : فكيف اتصل به قوله :﴿ فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ﴾ وما معناه ؟ قلت : قوله :﴿ وَلَوْ يُعَجّلُ الله ﴾ متضمن معنى نفي التعجيل، كأنه قيل : ولا نعجل لهم الشرّ، ولا نقضي إليهم أجلهم فنذرهم ﴿ فِي طغيانهم ﴾ أي فنمهلهم ونفيض عليهم النعمة مع طغيانهم، إلزاماً للحجّة عليهم.
﴿ لِجَنبِهِ ﴾ في موضع الحال، بدليل عطف الحالين عليه أي دعانا مضطجعاً ﴿ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا ﴾. فإن قلت : فما فائدة ذكر هذه الأحوال ؟ قلت : معناه أنّ المضرور لا يزال داعياً لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضرّ، فهو يدعونا في حالاته كلها - إن كان مضطجعاً عاجز النهض متخاذل النوء أو كان قاعداً لا يقدر على القيام، أو كان قائماً لا يطيق المشي والمضطرب - إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها والمسحة بتمامها. ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشدّ حالاً وهو صاحب الفراش. ومنهم من هو أخفّ وهو القادر على القعود. ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء، لأنّ الإنسان للجنس ﴿ مَرَّ ﴾ أي مضى على طريقته الأولى قبل مسّ الضرّ، ونسي حال الجهد. أو مرّ عن موقف الابتهال والتضرع لا يرجع إليه، كأنه لا عهد له به ﴿ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا ﴾، كأنه لم يدعنا، فخفف وحذف ضمير الشأن قال :
كَأَنْ ثَدْيَاهُ حُقّانِ ***
﴿ كذلك ﴾ مثل ذلك التزيين ﴿ زُيّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ﴾ زين الشيطان بوسوسته أو الله بخذلانه وتخليته ﴿ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ من الإعراض عن الذكر واتباع الشهوات.
﴿ لَمَّا ﴾ ظرف لأهلكنا : والواو في ﴿ وَجَاءتْهُمْ ﴾ للحال، أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رسلهم بالحجج والشواهد على صدقهم وهي المعجزات. وقوله :﴿ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ يجوز أن يكون عطفاً على ظلموا، وأن يكون اعتراضاً واللام لتأكيد النفي، يعني : ما كانوا يؤمنون حقاً تأكيداً لنفي إيمانهم، وأن الله قد علم منهم أنهم يصرون على كفرهم، وأن الإيمان مستبعد منهم. والمعنى : أن السبب في إهلاكهم تكذيب الرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم بعد أن ألزموا الحجّة ببعثه الرسل ﴿ كذلك ﴾ مثل ذلك الجزاء يعني الإهلاك ﴿ نَجْزِي ﴾ كل مجرم، وهو وعيد لأهل مكة على إجرامهم بتكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقرئ :«يجزي » بالياء.
﴿ ثُمَّ جعلناكم ﴾ الخطاب للذين بعث إليهم محمد صلى الله عليه وسلم، أي استخلفناكم في الأرض بعد القرون التي أهلكنا ﴿ لِنَنظُرَ ﴾ أتعملون خيراً أم شراً فنعاملكم على حسب عملكم. و ﴿ كَيْفَ ﴾ في محل النصب بتعلمون لا بننظر، لأنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يتقدّم عليه عامله. فإن قلت : كيف جاز النظر على الله تعالى وفيه معنى المقابلة قلت : هو مستعار للعلم المحقق الذي هو العلم بالشيء موجوداً شبه بنظر الناظر وعيان المعاين في تحققه.
غاظهم ما في القرآن من ذمّ عبادة الأوثان والوعيد للمشركين، فقالوا :﴿ ائت بِقُرْءانٍ ﴾ آخر ليس فيه ما يغيظنا من ذلك نتبعك ﴿ أَوْ بَدّلْهُ ﴾ بأن تجعل مكان آية عذاب آية رحمة، وتسقط ذكر الآلهة وذمّ عبادتها. فأمر بأن يجيب عن التبديل، لأنه داخل تحت قدرة الإنسان، وهو أن يضع مكان آية عذاب آية رحمة مما أنزل، وأن يسقط ذكر الآلهة. وأما الإتيان بقرآن آخر، فغير مقدور عليه للإنسان ﴿ مَا يَكُونُ لِى ﴾ ما ينبغي لي وما يحلّ، كقوله تعالى :﴿ مَا يَكُونُ لِى أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِى بِحَقّ ﴾ [ المائدة : ١١٦ ]. ﴿ أَنْ أُبَدّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِى ﴾ من قبل نفسي. وقرئ : بفتح التاء : من غير أن يأمرني بذلك ربي ﴿ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَىَّ ﴾ لا آتي ولا أذر شيئاً من نحو ذلك، إلاّ متبعاً لوحي الله وأوامره، إن نسخت آية تبعت النسخ، وأن بدِّلت آية مكان آية تبعت التبديل، وليس إليّ تبديل ولا نسخ ﴿ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى ﴾ بالتبديل والنسخ من عند نفسي ﴿ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾. فإن قلت : أما ظهر وتبين لهم العجز عن الإتيان بمثل القرآن حتى قالوا :﴿ ائت بِقُرْءانٍ غَيْرِ هذا ﴾ ؟ قلت : بلى، ولكنهم كانوا لا يعترفون بالعجز، وكانوا يقولون : لو نشاء لقلنا مثل هذا. ويقولون : افترى على الله كذباً، فينسبونه إلى الرسول ويزعمونه قادراً عليه وعلى مثله. مع علمهم بأنّ العرب مع كثرة فصحائها وبلغائها إذا عجزوا عنه، كان الواحد منهم أعجز. فإن قلت : لعلهم أرادوا : ائت بقرآن غير هذا أو بدّله، من جهة الوحي كما أتيت بالقرآن من جهته. وأراد بقوله :﴿ مَا يَكُونُ لِى ﴾ ما يتسهل لي وما يمكنني أن أُبدّله. قلت : يردّه قوله :﴿ إِنّى أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبّى ﴾. فإن قلت : فما كان غرضهم وهم أدهى الناس وأنكرهم في هذا الاقتراح ؟ قلت : الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن، ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير، فللطمع ولاختبار الحال. وأنه إن وجد منه تبديل، فإما أن يهلكه الله فينجو منه، أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه وتصحيحاً لافترائه على الله.
﴿ لَّوْ شَاء الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ ﴾ يعني أن تلاوته ليست إلاّ بمشيئة الله وإحداثه أمراً عجيباً خارجاً عن العادات، وهو أن يخرج رجل أميّ لم يتعلم ولم يستمع ولم يشاهد العلماء ساعة من عمره، ولا نشأ في بلد فيه علماء فيقرأ عليهم كتاباً فصيحاً، يبهر كل كلام فصيح، ويعلو على كل منثور ومنظوم، مشحوناً بعلوم من علوم الأصول والفروع، وأخبار مما كان وما يكون، ناطقاً بالغيوب التي لا يعلمها إلاّ الله، وقد بلغ بين ظهرانيكم أربعين سنة تطلعون على أحواله، ولا يخفى عليكم شيء من أسراره، وما سمعتم منه حرفاً من ذلك، ولا عرفه به أحد من أقرب الناس منه وألصقهم به ﴿ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ ﴾ ولا أعلمكم به على لساني. وقرأ الحسن :«ولا أدراتكم به » على لغة من يقول : اعطاته وأرضاته، في معنى أعطيته وأرضيته. وتعضده قراءة ابن عباس :«ولا أنذرتكم به ». ورواه الفراء :«ولا ادرأتكم به » وبالهمز. وفيه وجهان، أحدهما : أن تقلب الألف همزة، كما قيل : لبأت بالحج. ورثأت الميت وحلأت السويق، وذلك لأنّ الألف والهمزة من وادٍ واحد. ألا ترى أنّ الألف إذا مستها الحركة انقلبت همزة. والثاني : أن يكون من درأته إذا دفعته، وأدرأته إذا جعلته دارئاً. والمعنى : ولا جعلتكم بتلاوته خصماء تدرؤونني بالجدال وتكذبونني. وعن ابن كثير :«ولأدراكم به » بلام الابتداء لإثبات الإدراء ومعناه : لو شاء الله ما تلوته أنا عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة ورآني لها أهلاً دون سائر الناس ﴿ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً ﴾ وقرئ :«عمراً » بالسكون. يعني : فقد أقمت فيما بينكم يافعاً وكهلاً، فلم تعرفوني متعاطياً شيئاً من نحوه ولا قدرت عليه، ولا كنت متواصفاً بعلم وبيان فتتهموني باختراعه ﴿ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ فتعلموا أنه ليس إلاّ من الله لا من مثلي. وهذا جواب عما دسّوه تحت قولهم : ائت بقرآن غير هذا من إضافة الافتراء إليه.
﴿ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً ﴾ يحتمل أن يريد افتراء المشركين على الله في قولهم : إنه ذو شريك وذو ولد، وأن يكون تفادياً مما أضافوه إليه من الافتراء.
﴿ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ ﴾ الأوثان التي هي جماد لا تقدر على نفع ولا ضرّ. وقيل : إن عبدوها لن تنفعهم، وإن تركوا عبادتها لم تضرّهم، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية. وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزّى ومناة وهبل وأسافاً ونائلة ﴿ و ﴾ كانوا ﴿ يَقُولُونَ هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله ﴾ وعن النضر بن الحرث : إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزّى ﴿ أَتُنَبّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ ﴾ أتخبرونه بكونكم شفعاء عنده، وهو إنباء بما ليس بالمعلوم لله، وإذا لم يكن معلوماً له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات، لم يكن شيئاً لأنّ الشيء ما يعلم [ به ] ويخبر عنه، فكان خبراً ليس له مخبر عنه. فإن قلت : كيف أنبأوا الله بذلك ؟ قلت : هو تهكم بهم وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأنّ الذي أنبؤا به باطل غير منطوٍ تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه كما يخبر الرجل الرجل بما لا يعلمه. وقرئ :«أتنبئون » بالتخفيف. وقوله :﴿ فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض ﴾ تأكيد لنفيه ؛ لأنّ ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم ﴿ تُشْرِكُونَ ﴾ قرئ بالتاء والياء وما موصولة أو مصدرية، أي عن الشركاء الذين يشركونهم به أو عن إشراكهم.
﴿ وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً ﴾ حنفاء متفقين على ملة واحدة من غير أن يختلفوا بينهم، وذلك في عهد آدم إلى أن قتل قابيل هابيل. وقيل : بعد الطوفان حين لم يذر الله من الكافرين دياراً ﴿ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ ﴾ وهوتأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة ﴿ لَّقُضِىَ بِيْنَهُمْ ﴾ عاجلاً فيما اختلفوا فيه، ولميز المحق من المبطل، وسبق كلمته بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف، وتلك دار ثواب وعقاب.
وقالوا :﴿ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ مّن رَّبّهِ ﴾ أرادوا آية من الآيات التي كانوا يقترحونها وكانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات، وجعلوا نزولها كلا نزول، وكأنه لم ينزل آية قط، حتى قالوا :﴿ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ رَبَّهُ ﴾، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرّد وانهماكهم في الغيّ ﴿ فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ ﴾ أي هو المختصّ بعلم الغيب المستأثر به لا علم لي ولا لأحد به، يعني أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلاّ هو ﴿ فانتظروا ﴾ نزول ما اقترحتموه ﴿ إِنّى مَعَكُم مّنَ المنتظرين ﴾ لما يفعل الله بكم لعنادكم وجحودكم الآيات.
سلط الله القحط سبع سنين على أهل مكة حتى كادوا يهلكون، ثم رحمهم بالحيا، فلما رحمهم طفقوا يطعنون في آيات الله ويعادون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويكيدونه، و «إذا » الأولى للشرط، والآخرة جوابها وهي للمفاجأة، والمكر : إخفاء الكيد وطيه، من الجارية الممكورة المطوية الخلق. ومعنى ﴿ مَسَّتْهُمْ ﴾ خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. فإن قلت : ما وصفهم بسرعة المكر، فكيف صحّ قوله :﴿ أَسْرَعُ مَكْرًا ﴾ ؟ قلت : بلى دلت على ذلك كلمة المفاجأة، كأنه قال : وإذا رحمناهم من بعد ضراء فاجئوا وقوع المكر منهم، وسارعوا إليه قبل أن يغسلوا رؤوسهم من مسّ الضرّاء، ولم يتلبثوا ريثما يسيغون غصتهم. والمعنى : أنّ الله تعالى دبر عقابكم وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون في إطفاء نور الإسلام ﴿ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ ﴾ إعلام بأنّ ما تظنونه خافياً مطوياً لا يخفى على الله، وهو منتقم منكم. وقرئ :«يمكرون »، بالتاء والياء. وقيل : مكرهم قولهم : سقينا بنوء كذا. وعن أبي هريرة : إنّ الله ليُصَبِّح القوم بالنعمة ويُمَسِّيهم بها، فتصبح طائفة منهم بها كافرين يقولون : مطرنا بنوء كذا.
قرأ زيد بن ثابت :«ينشركم » ومثله قوله :﴿ فانتشروا فِى الأرض ﴾ [ الجمعة : ١٠ ]، ﴿ ثُمَّ إِذَا أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُون ﴾ [ الروم : ٢٠ ] فإن قلت : كيف جعل الكون في الفلك غاية للتسيير في البحر، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك ؟ قلت : لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد «حتى » بما في حيّزها، كأنه قيل : يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف وتراكم الأمواج والظنّ للهلاك والدعاء بالإنجاء. فإن قلت : ما جواب «إذا » ؟ قلت : جاءتها. فإن قلت : فدعوا ؟ قلت : بدل من ظنوا ؛ لأنّ دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو ملتبس به. فإن قلت : ما فائدة صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة ؟ قلت : المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح. فإن قلت : ما وجه قراءة أمّ الدرداء :«في الفلكي » بزيادة ياء النسب ؟ قلت : قيل هما زائدتان كما في الخارجي والأحمري. ويجوز أن يراد به اللجّ والماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلاّ فيه. والضمير في ﴿ جرين ﴾ للفلك، لأنه جمع فلك كالأسد، في فعل أخي فعل. وفي قراءة أمّ الدرداء :«للفلك » أيضاً ؛ لأنّ الفلكي يدلّ عليه ﴿ جَاءتْهَا ﴾ جاءت الريح الطيبة، أي تلقتها. وقيل : الضمير للفلك ﴿ من كُلّ مَّكَانَ ﴾ من جميع أمكنة الموج ﴿ أُحِيطَ بِهِمْ ﴾ أي أهلكواجعل إحاطة العدوّ بالحي مثلاً في الهلاك ﴿ مُخْلِصِينَ لَهُ الدين ﴾ من غير إشراك به ؛ لأنهم لا يدعون حينئذ غيره معه ﴿ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا ﴾ على إرادة القول. أو لأنّ ﴿ دَعَوُاْ ﴾ من جملة القول :﴿ يَبْغُونَ فِى الأرض ﴾.
﴿ يَبْغُونَ فِى الأرض ﴾ يفسدون فيها ويعبثون متراقين في ذلك، ممعنين فيه، من قولك : بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد. فإن قلت : فما معنى قوله :﴿ بِغَيْرِ الحق ﴾ والبغي لا يكون بحق ؟ قلت : بلى، وهو استيلاء المسلمين على أرض الكفرة، وهدم دورهم، وإحراق زروعهم وقطع أشجارهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. قرىء :«متاع الحياة الدنيا »، بالنصب : فإن قلت : ما الفرق بين القراءتين ؟ قلت : إذا رفعت كان المتاع خبراً للمبتدإ الذي هو ﴿ بَغْيُكُمْ ﴾ و ﴿ على أَنفُسِكُمْ ﴾ صلته، كقوله :﴿ فبغى عَلَيْهِمْ ﴾ ومعناه : إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا لابقاء لها وإذا نصبت ﴿ فَعَلَىَّ أَنفُسَكُمْ ﴾ خبر غير صلة معناه إنما بغيكم بال على أنفسكم، و ﴿ متاع الحياة الدنيا ﴾ في موضع المصدر المؤكد، كأنه قيل : تتمتعون متاع الحياة الدنيا. ويجوز أن يكون الرفع على : هو متاع الحياة الدنيا بعد تمام الكلام. وعن البني صلى الله عليه وسلم أنه قال :«لا تمكر ولا تعن ماكراً، ولا تبغ ولا تعن باغياً، ولا تنكث ولا تعن ناكثاً » وكان يتلوها. وعنه عليه الصلاة والسلام :«أسرع الخير ثواباً صلة الرحم، وأعجل الشرّ عقاباً البغي واليمين الفاجرة »، وروي :«ثنتان يعجلهما الله تعالى في الدنيا : البغي وعقوق الوالدين » وعن ابن عباس رضي الله عنه : لو بغى جبل على جبل لدك الباغي. وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين في أخيه :
يَا صَاحِبَ الْبَغْيِ إنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَة فَارْبَعْ فَخَيْرُ فِعَالِ الْمَرْءِ أَعْسَلُهُ
لَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْماً عَلَى جَبَل لانْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيهِ وَأَسْفَلُهُ
وعن محمد بن كعب : ثلاث من كنّ فيه كنّ عليه : البغي والنكث والمكر. قال الله تعالى :﴿ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ ﴾.
هذا من التشبيه المركب، شبهت حال الدنيا في سرعة تقضيها وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وتكاثف، وزين الأرض بخضرته ورفيفه ﴿ فاختلط بِهِ ﴾ فاشتبك بسببه حتى خالط بعضه بعضاً ﴿ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت ﴾ كلام فصيح : جعلت الأرض آخذة زخرفها على التمثيل بالعروس، إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون، فاكتستها وتزينت بغيرها من ألوان الزين. وأصل ﴿ ازّينت ﴾ تزينت، فأدغم. وبالأصل قرأ عبد الله. وقرئ :«وأزينت »، أي أفعلت، من غير إعلال الفعل كأغيلت أي صارت ذات زينة. وازيانت، بوزن ابياضت ﴿ قَادِرُونَ عَلَيْهَا ﴾ متمكنون من منفعتها محصلون لثمرتها، رافعون لعلتها ﴿ أَتَاهَا أَمْرُنَا ﴾ وهو ضرب زرعها ببعض العاهات بعد أمنهم واستيقانهم أنه قد سلم ﴿ فَجَعَلْنَاهَا ﴾ فجعلنا زرعها ﴿ حَصِيداً ﴾ شبيهاً بما يحصد من الزرع في قطعه واستئصاله ﴿ كَأَن لَّمْ تَغْنَ ﴾ كأن لم يغن زرعها، أي لم ينبت على حذف المضاف في هذه المواضع لا بدّ منه، وإلاّ لم يستقم المعنى. وقرأ الحسن :«كأن لم يغن » بالياء على أن الضمير للمضاف المحذوف، الذي هو الزرع. وعن مروان أنه قرأ على المنبر :«كأن لم تتغن » بالأمس، من قول الأعشى :
طَوِيلُ الثّوَاءِ طَوِيلُ التَّغَنِّي ***
والأمس مثل في الوقت القريب كأنه قيل : كأن لم تغن آنفاً.
﴿ دَارُ السلام ﴾ الجنة، أضافها إلى اسمه تعظيماً لها. وقيل السلام السلامة ؛ لأنّ أهلها سالمون من كل مكروه. وقيل : لفشوّ السلام بينهم وتسليم الملائكة عليهم ﴿ إِلاَّ قِيلاً سلاما سلاما ﴾ [ الواقعة : ٢٦ ] ﴿ وَيَهْدِى ﴾ ويوفق ﴿ مَن يَشَآء ﴾ وهم الذين علم أنّ اللطف يجدي عليهم، لأنّ مشيئته تابعة لحكمته ومعناه : يدعو العباد كلهم إلى دار السلام، ولا يدخلها إلاّ المهديون.
﴿ الحسنى ﴾ المثوبة الحسنى ﴿ وَزِيَادَةٌ ﴾ وما يزيد على المثوبة وهي التفضل. ويدلّ عليه قوله تعالى :﴿ وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ ﴾ [ النساء : ١٧٣ ] وعن عليّ رضي الله عنه : الزيادة : غرفة من لؤلؤة واحدة. وعن ابن عباس رضي الله عنه : الحسنى : الحسنة، والزيادة : عشر أمثالها. وعن الحسن رضي الله عنه : عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وعن مجاهد رضي الله عنه : الزيادة مغفرة من الله ورضوان. وعن يزيد بن شجرة : الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنة فتقول : ما تريدون أن أمطركم ؟ فلا يريدون شيئاً إلاّ أمطرتهم. وزعمت المشبهة والمجبرة أن الزيادة النظر إلى وجه الله تعالى، وجاءت بحديث مرفوع :«إذا دخل أهل الجنة الجنة نودوا أن يا أهل الجنة فيكشف الحجاب فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً هو أحبّ إليهم منه » ﴿ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ ﴾ لا يغشاها ﴿ قَتَرٌ ﴾ غبرة فيها سواد ﴿ وَلاَ ذِلَّةٌ ﴾ ولا أثر هوان وكسوف بال. والمعنى لا يرهقهم ما يرهق أهل النارإذكاراً بما ينقذهم منه برحمته. ألا ترى إلى قوله تعالى ﴿ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ ﴾ [ عبس : ٤١ ] ﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ [ يونس : ٢٧ ].
فإن قلت : ما وجه قوله :﴿ والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاء سَيّئَةٍ بِمِثْلِهَا ﴾ وكيف يتلاءم ؟ قلت : لا يخلو، إمّا أن يكون ﴿ والذين كَسَبُواْ ﴾ معطوفاً على قوله :﴿ لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ﴾ [ يونس : ٢٦ ] كأنه قيل : وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها، وإمّا أن يقدّر : وجزاء الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها على معنى : جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها، وهذا أوجه من الأوّل، لأنّ في الأوّل عطفاً على عاملين وإن كان الأخقش بجيزه. وفي هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل، لأنه دلّ بترك الزيادة على السيئة على عدله، ودلّ ثمة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله. وقرئ :«يرهقهم ذلة » بالياء ﴿ مّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ ﴾ أي لا يعصمهم أحد من سخط الله وعذابه. ويجوز ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما يكون للمؤمنين ﴿ مُظْلِماً ﴾ حال من الله. ومن قرأ :( قطعاً ) بالسكون من قوله :﴿ بِقِطْعٍ مّنَ اليل ﴾ [ هود : ٨١ ] جعله صفة له. وتعضده قراءة أبيّ بن كعب : كأنما يغشى وجوههم قطع من الليل مظلم. فإن قلت : إذا جعلت مظلماً حالاً من الليل، فما العامل فيه ؟ قلت : لا يخلو إمّا أن يكون ﴿ أُغْشِيَتْ ﴾ من قبل إن ﴿ مِّنَ الليل ﴾ صفة لقوله :﴿ قِطَعًا ﴾ فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإضفائه إلى الصفة، وإمّا أن يكون معنى الفعل في ﴿ مِّنَ الليل ﴾.
﴿ مَكَانَكُمْ ﴾ الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما يفعل بكم. و ﴿ أَنتُمْ ﴾ أكد به الضمير في مكانكم لسدّه مسدّ قوله : الزموا ﴿ وَشُرَكَاؤُكُمْ ﴾ عطف عليه. وقرئ :«وشركاءكم » على أنّ الواو بمعنى مع، والعامل فيه ما في مكانكم من معنى الفعل ﴿ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ ففرّقنا بينهم وقطعنا أقرانهم. والوصل التي كانت في بينهم في الدنيا. أو فباعدنا بينهم بعد الجمع بينهم في الموقف. وتبرؤ شركائهم منهم ومن عبادتهم، كقوله تعالى :﴿ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا ﴾ [ غافر : ٧٣ ] وقرئ :«فزايلنا بينهم » كقولك : صاعر خدّه وصعره، وكالمته وكلّمته. ﴿ مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴾ إنما كنتم تعبدون الشياطين، حيث أمروكم أن تتخذوا لله أنداداً فأطعتموهم.
﴿ إَن كُنَّا ﴾ هي المخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية، وهم الملائكة والمسيح ومن عبدوه من دون الله من أولي العقل، وقيل : الأصنام ينطقها الله عزّ وجلّ فتشافههم بذلك مكان الشفاعة التي زعموها وعلقوا بها أطماعهم.
﴿ هُنَالِكَ ﴾ في ذلك المقام وفي ذلك الموقف أوفى ذلك الوقت على استعارة اسم المكان للزمان ﴿ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ ﴾ تختبر وتذوق ﴿ مَّا أَسْلَفَتْ ﴾ من العمل فتعرف كيف هو، أقبيح أم حسن، أنافع أم ضارّ، أمقبول أم مردود ؟ كما يختبر الرجل الشيء ويتعرّفه ليكتنه حاله. ومنه قوله تعالى :﴿ يَوْمَ تبلى السرائر ﴾ [ الطارق : ٩ ] وعن عاصم : نبلو كلَّ نفس، بالنون ونصب كل : أي نختبرها باختبار ما أسلفت من العمل، فنفرق حالها بمعرفة حال عملها : إن كان حسناً فهي سعيدة، وإن كان سيئاً فهي شقية. والمعنى : نفعل بها فعل الخابر، كقوله تعالى :﴿ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾ [ هود : ٧ ] ويجوز أن يراد نصيب بالبلاء وهو العذاب كل نفس عاصية بسبب ما أسلفت من الشرّ. وقرىء :«تتلو »، أي تتبع ما أسلفت ؛ لأنّ عمله هو الذي يهديه إلى طريق الجنة أو إلى طريق النار. أو تقرأ في صحيفتها ما قدّمت من خير أو شرّ ﴿ مولاهم الحق ﴾ ربهم الصادق ربوبيته ؛ لأنهم كانوا يتولون ما ليس لربوبيته حقيقة. أو الذي يتولى حسابهم وثوابهم، العدل الذي لا يظلم أحداً. وقرىء :«الحق » بالفتح على تأكيد قوله :﴿ رُدُّواْ إلى الله ﴾ [ الأنعام : ٦٢ ] كقولك : هذا عبد الله الحق لا الباطل. أو على المدح كقولك : الحمد لله. أهل الحمد ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ وضاع عنهم ما كانوا يدعون أنهم شركاء لله. أو بطل عنهم ما كانوا يختلقون من الكذب وشفاعة الآلهة.
﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء والأرض ﴾ أي يرزقكم منهما جميعاً، لم يقتصر برزقكم على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته ﴿ مِنْ يَمْلِكُ السمع والأبصار ﴾ من يستطيع خلقهما وتسويتهما على الحدّ الذي سويا عليه من الفطرة العجيبة. أو من يحميهما ويحصنهما من الآفات مع كثرتها في المدد الطوال، وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء بكلاءته وحفظه ﴿ وَمَن يُدَبّرُ الأمر ﴾ ومن يلي تدبير أمر العالم كله، جاء بالعموم بعد الخصوص ﴿ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ أفلا تقون أنفسكم ولا تحذرون عليها عقابه فيما أنتم بصدده من الضلال.
﴿ فَذَلِكُمُ ﴾ إشارة إلى من هذه قدرته وأفعاله ﴿ رَبُّكُمُ الحق ﴾ الثابت ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لمن حقق النظر ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال ﴾ يعني أن الحق والضلال لا واسطة بينهما، فمن تخطى الحق وقع في الضلال ﴿ فأنى تُصْرَفُونَ ﴾ عن الحق إلى الضلال، وعن التوحيد إلى الشرك، وعن السعادة إلى الشقاء.
﴿ كَذَلِكَ ﴾ مثل ذلك الحق ﴿ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبّكَ ﴾ أي كما حق وثبت أنّ الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق، فكذلك حقّت كلمة ربك ﴿ عَلَى الذين فَسَقُواْ ﴾ أي تمرّدوا في كفرهم وخرجوا إلى الحدّ الأقصى فيه، و ﴿ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ بدل من الكلمة أي حقّ عليهم انتفاء الإيمان، وعلم الله منهم ذلك. أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان، وأن إيمانهم غير كائن. أو أراد بالكلمة : العدة بالعذاب، وأنهم لا يؤمنون تعليل، بمعنى : لأنهم لا يؤمنون.
فإن قلت : كيف قيل لهم ﴿ هَلْ مِن شُرَكَائِكُمْ مَّن يبدأ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ وهم غير معترفين بالإعادة ؟ قلت : قد وضعت إعادة الخلق لظهور برهانها موضع ما إن دفعه دافع كان مكابراً ردّاً للظاهر البين الذي لا مدخل للشبهة فيه، دلالة على أنهم في إنكارهم لها منكرون أمراً مسلماً معترفاً بصحته عند العقلاء، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم :﴿ قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ ﴾ فأمره بأن ينوب عنهم في الجواب، يعني أنه لا يدعهم لجاجهم ومكابرتهم أن ينطقوا بكلمة الحق فكلم عنهم.
يقال : هداه للحق وإلى الحق فجمع بين اللغتين : ويقال : هدى بنفسه بمعنى اهتدى، كما يقال : شرى بمعنى اشترى. ومنه قوله :﴿ أَمَّن لاَّ يَهِدِّى ﴾. وقرئ :«لا يهدّى » بفتح الهاء وكسرها مع تشديد الدال. والأصل : يهتدي، فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء، أو كسرت لالتقاء الساكنين، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها. وقرئ :«إلاّ أن يهدى » من هداه وهدّاه للمبالغة. ومنه قولهم : تهدى. ومعناه أن الله وحده هو الذي يهدي للحق، بما ركب في المكلفين من العقول وأعطاهم من التمكين للنظر في الأدلة التي نصبها لهم، وبما لطف بهم ووفقهم وألهمهم وأخطر ببالهم ووقفهم على الشرائع، فهل من شركائكم الذين جعلتم أنداداً لله أحد من أشرفهم كالملائكة والمسيح وعزير، يهدي إلى الحق مثل هداية الله. ثم قال : أفمن يهدي إلى الحق هذه الهداية أحقّ بالاتباع، أم الذي لا يهدي أي لا يهتدي بنفسه، أو لا يهدي غيره إلاّ أن يهديه الله وقيل : معناه أم من لا يهتدي من الأوثان إلى مكان فينتقل إليه ﴿ إِلاَّ أَن يهدى ﴾ إلاّ أن ينقل، أو لا يهتدي ولا يصحّ منه الاهتداء إلاّ أن ينقله الله من حاله إلى أن يجعله حيواناً مكلفاً فيهديه ﴿ فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ بالباطل، حيث تزعمون أنهم أنداداً لله.
﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ ﴾ في قرارهم بالله ﴿ إِلاَّ ظَنّا ﴾ لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم ﴿ إَنَّ الظن ﴾ في معرفة الله ﴿ لاَ يُغْنِى مِنَ الحق ﴾ وهو العلم ﴿ شَيْئاً ﴾ وقيل : وما يتبع أكثرهم في قولهم للأصنام أنها آلهة وأنَّها شفعاء عند الله إلاّ الظنّ. والمراد بالأكثر : الجميع ﴿ إِنَّ الله عَلِيمٌ ﴾ وعيد على ما يفعلون من اتباع الظنّ وتقليد الآباء. وقرىء :«تفعلون » بالتاء.
﴿ وَمَا كَانَ هذا القرءان ﴾ افتراء ﴿ مِن دُونِ الله ولكن ﴾ كان ﴿ تَصْدِيقَ الذى بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ وهو ما تقدمه من الكتب المنزلة، لأنه معجز دونها فهو عيار عليها وشاهد لصحتها، كقوله تعالى :﴿ هُوَ الحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾ [ فاطر : ٣١ ]. وقرئ :«ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب » على : ولكن هو تصديق وتفصيل. ومعنى وَمَا كَانَ أن يَفْتَرِى. وما صحّ وما استقام، وكان محالاً أن يكون مثله في علو أمره وإعجازه مفتري ﴿ وَتَفْصِيلَ الكتاب ﴾ وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، من قوله :﴿ كتاب الله عَلَيْكُمْ ﴾ [ النساء : ٢٤ ]. فإن قلت : بم اتصل قوله :﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبّ العالمين ﴾ قلت : هو داخل في حيز الاستدراك. كأنه قال : ولكن كان تصديقاً وتفصيلاً منتفياً عنه الريب كائناً من رب العالمين. ويجوز أن يراد : ولكن كان تصديقاً من رب العالمين وتفصيلاً منه لا ريب في ذلك، فيكون ﴿ مِن رَّبِّ العالمين ﴾ متعلقاً بتصديق وتفصيل، أو يكون ﴿ لاَ رَيْبَ فِيهِ ﴾ اعتراضاً، كما تقول : زيد لا شكّ فيه كريم.
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افتراه ﴾ بل أيقولون : اختلقه، على أن الهمزة تقرير لإلزام الحجة عليهم. أو إنكار لقولهم واستبعاد. والمعنيان متقاربان ﴿ قُلْ ﴾ إن كان الأمر كما تزعمون ﴿ فَأْتُواْ ﴾ أنتم على وجه الافتراء ﴿ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ ﴾ فأنتم مثلي في العربية والفصاحة. ومعنى ﴿ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ ﴾ أي شبيهة به في البلاغة وحسن النظم. وقرئ :«بسورة مثله » على الإضافة، أي : بسورة كتاب مثله ﴿ وادعوا ﴾ من دون الله ﴿ مَنِ استطعتم ﴾ من خلقه للاستعانة به على الإتيان بمثله : يعني : أنّ الله وحده هو القادر على أن يأتي بمثله لا يقدر على ذلك أحد غيره، فلا تستعينوه وحده، ثم استعينوا بكل من دونه ﴿ إِن كُنتُمْ صادقين ﴾ أنه افتراء.
﴿ بَلْ كَذَّبُواْ ﴾ بل سارعوا إلى التكذيب بالقرآن، وفاجئوه في بديهة السماع قبل أن يفقهوه ويعلموا كنه أمره، وقبل أن يتدبروه ويقفوا على تأويله ومعانيه وذلك لفرط نفورهم عما يخالف دينهم وشرادهم عن مفارقة دين آبائهم، كالناشئ على التقليد من الحشوية، إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه - وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة - أنكرها في أوّل وهلة، واشمأز منها قبل أن يحسّ إدراكها بحاسّة سمعه من غير فكر في صحة أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلاّ صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب. فإن قلت : ما معنى التوقع في قوله :﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ ؟ قلت : معناه أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل، تقليداً للآباء. وكذبوه بعد التدبر، تمرداً وعناداً، فذمهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرّر عليهم التحدّي، ورازوا قواهم في المعارضة واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغياً وحسداً ﴿ كَذَلِكَ ﴾ أي مثل ذلك التكذيب ﴿ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ ﴾ يعني قبل النظر في معجزات الأنبياء وقبل تدبرها من غير إنصاف من أنفسهم، ولكن قلدوا الآباء وعاندوا.
وقيل : هو في الذين كذبوا وهم شاكون. ويجوز أن يكون معنى ﴿ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ﴾ ولم يأتهم بعد تأويل ما فيه من الإخبار بالغيوب أي عاقبته، حتى يتبين لهم أهو كذب أم صدق، يعني أنه كتاب معجز من جهتين : من جهة إعجاز نظمه، ومن جهة ما فيه من الإخبار بالغيوب، فتسرعوا إلى التكذيب به قبل أن ينظروا في نظمه وبلوغه حدّ الإعجاز، وقبل أن يخبروا أخباره بالمغيبات وصدقه وكذبه.
﴿ وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ﴾ يصدق به في نفسه، ويعلم أنه حق، ولكنه يعاند بالتكذيب. ومنهم من يشكّ فيه لا يصدق به، أو يكون للاستقبال، أي : ومنهم من سيؤمن به ومنهم من سيصرّ ﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين ﴾ بالمعاندين، أو المصرين.
﴿ وَإِن كَذَّبُوكَ ﴾ وإن تموا على تكذيبك ويئست من إجابتهم، فتبرأ منهم وخلهم فقد أعذرت، كقوله تعالى :﴿ فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنّى بَرِىء ﴾ [ الشعراء : ٢١٦ ] وقيل : هي منسوخة بآية السيف.
﴿ وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ معناه : ومنهم ناس يستمعون إليك إذا قرآت القرآن وعلمت الشرائع، ولكنهم لا يعون ولا يقبلون وناس ينظرون إليك ويعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يصدقون. ثم قال : أتطمع أنك تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم ؛ لأن الأصم العاقل ربما تفرّس واستدلّ إذا وقع في صماخه دويّ الصوت، فإذا اجتمع سلب السمع والعقل جميعاً فقد تمّ الأمر.
وأتحسب أنك تقدر على هداية العمي ولو انضم إلى العمى - وهو فقد البصر - فقد البصيرة ؛ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة قد يحدس ويتظنن. وأما العمى مع الحمق فجهد البلاء، يعني أنهم في اليأس من أن يقبلوا ويصدقوا، كالصمّ والعمي الذين لا بصائر لهم ولا عقول. وقوله :﴿ أَفَأَنتَ..... أَفَأَنتَ ﴾ دلالة على أنه لا يقدر على إسماعهم وهدايتهم إلاّ الله عزّ وجلّ بالقسر والإلجاء، كما لا يقدر على ردّ الأصم والأعمى المسلوبي العقل حديدي السمع والبصر راجحي العقل، إلاّ هو وحده.
﴿ إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئًا ﴾ أي لا ينقصهم شيئاً مما يتصل بمصالحهم من بعثة الرسل وإنزال الكتب، ولكنهم يظلمون أنفسهم بالكفر والتكذيب، ويجوز أن يكون وعيداً للمكذبين، يعني : أن ما يلحقهم يوم القيامة من العذاب لاحق بهم على سبيل العدل والاستيجاب. ولا يظلمهم الله به، ولكنهم ظلموا أنفسهم باقتراف ما كان سبباً فيه.
﴿ إِلاَّ سَاعَةً مّنَ النهار ﴾ يستقربون وقت لبثهم في الدنيا. وقيل : في القبور، لهول ما يرون ﴿ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ﴾ يعرف بعضهم بعضاً، كأنهم لم يتفارقوا إلاّ قليلاً، وذلك عند خروجهم من القبور ثم ينقطع التعارف بينهم لشدّة الأمر عليهم. فإن قلت :﴿ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ ﴾ و ﴿ يَتَعَارَفُونَ ﴾ كيف موقعهما ؟ قلت : أما الأولى فحال من «هم » أي يحشرهم مشبهين بمن لم يلبث إلاّ ساعة. وأما الثانية فإما أن تتعلق بالظرف. وإما أن تكون مبينة، لقوله :﴿ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً ﴾ لأنّ التعارف لا يبقى مع طول العهد وينقلب تناكراً ﴿ قَدْ خَسِرَ ﴾ على إرادة القول، أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك، أو هي شهادة من الله تعالى على خسرانهم. والمعنى أنهم وضعوا في تجارتهم وبيعهم الإيمان بالكفر ﴿ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ للتجارة عارفين بها، وهو استئناف فيه معنى التعجب، كأنه قيل : ما أخسرهم !
﴿ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ﴾ جواب نتوفينك، وجواب نرينك محذوف، كأنه قيل : وإما نرينك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن نريكه فنحن نريكه في الآخرة. فإن قلت : الله شهيد على ما يفعلون في الدارين، فما معنى ثم ؟ قلت : ذكرت الشهادة والمراد مقتضاها ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قال : ثم الله معاقب على ما يفعلون. وقرأ ابن أبي عبلة :«ثم » بالفتح، أي هنالك. ويجوز أن يراد : أنّ الله مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة، حين ينطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم وأرجلهم شاهدة عليهم.
﴿ وَلِكُلّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ ﴾ يبعث إليهم لينبههم على التوحيد، ويدعوهم إلى دين الحق ﴿ فَإِذَا جَاء ﴾ هم ﴿ رَسُولَهُمْ ﴾ بالبينات فكذبوه، ولم يتبعوه ﴿ قُضِىَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي بين النبيّ ومكذّبيه ﴿ بالقسط ﴾ بالعدل، فأنجى الرسول وعذّب المكذّبون، كقوله ؛ ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ الإسراء : ١٥ ] أو لكل أمّة من الأمم يوم القيامة رسول تنسب إليه وتدعى به، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، كقوله تعالى :﴿ وَجِىء بالنبيين والشهداء وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ بالحق ﴾ [ الزمر : ٦٩ ].
﴿ متى هذا الوعد ﴾ استعجال لما وعدوا من العذاب استبعاداً له.
﴿ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِى ضَرّا ﴾ من مرض أو فقر ﴿ وَلاَ نَفْعاً ﴾ من صحة أو غنى ﴿ إِلاَّ مَا شَاء الله ﴾ استثناء منقطع : أي ولكن ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضرر وجلب العذاب ؟ ﴿ لِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ ﴾ يعني أن عذابكم له أجل مضروب عند الله وحدّ محدود من الزمان ﴿ إِذَا جَاء ﴾ ذلك الوقت أنجز وعدكم لا محالة، فلا تستعجلوا. وقرأ ابن سيرين :«فإذا جاء آجالهم ».
﴿ بَيَاتًا ﴾ نصب على الظرف، بمعنى. وقت بيات، فإن قلت : هلا قيل ليلاً أو نهاراً ؟ قلت : لأنه أريد : إن أتاكم عذابه وقت بيات فبيتكم وأنتم ساهون لا تشعرون، كما يبيت العدو المباغت. والبيات بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم، وكذلك قوله :﴿ نَهَارًا ﴾ معناه في وقت أنتم فيه مشتغلون بطلت بالمعاش والكسب. ونحوه ﴿ بياتا وَهُمْ نَائِمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٨ ]، ﴿ ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴾ [ الأعراف : ٩٨ ] الضمير في ﴿ مِنْهُ ﴾ للعذاب. والمعنى : أن العذاب كله مكروه مرّ المذاق موجب للنفار، فأي شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال. ويجوز أن يكون معناه التعجب، كأنه قيل أي شيء هول شديد يستعجلون منه، ويجب أن تكون «من » للبيان في هذا الوجه. وقيل : الضمير في ﴿ مِنْهُ ﴾ لله تعالى. فإن قلت : بم تعلق الاستفهام ؟ وأين جواب الشرط قلت تعلق بأرأيتم لأنَّ المعنى : أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون وجواب الشرط محذوف وهو : تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ فيه. فإن قلت : فهلا قيل : ماذا تستعجلون منه. قلت : أريدت الدلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام ؛ لأنّ من حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه، ويهلك فزعاً من مجيئه وإن أبطأ، فضلاً أن يستعجله. ويجوز أن يكون ﴿ مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون ﴾ جواباً للشرط، كقولك : إن أتيتك ماذا تطعمني ؟ بما تتعلق الجملة بأرأيتم، وأن يكون.
﴿ أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ ءامَنْتُمْ بِهِ ﴾ جواب الشرط، و ﴿ مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون ﴾ اعتراضاً. والمعنى : إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، ودخول حرف الاستفهام على ثم، كدخوله على الواو والفاء في قوله :﴿ أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى ﴾ [ الأعراف : ٩٧ ]، ﴿ أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى ﴾ [ الأعراف : ٩٨ ]. ﴿ ءآلئان ﴾ على إرادة القول، أي : قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب : آلآن آمنتم به ﴿ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ﴾ يعني : وقد كنتم به تكذبون ؛ لأنّ استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار. وقرىء :«آلان »، بحذف الهمزة بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام.
﴿ ثُمَّ قِيلَ الذين ظَلَمُواْ ﴾ عطف على «قيل » المضمر قبل آلآن.
﴿ وَيَسْتَنْبِئُونَكَ ﴾ ويستخبرونك فيقولون :﴿ أَحَقٌّ هُوَ ﴾ وهو استفهام على جهة الإنكار والاستهزاء. وقرأ الأعمش :«آلحق هو »، وهو أدخل في الاستهزاء، لتضمنه معنى التعريض بأنه باطل. وذلك أنّ اللام للجنس، فكأنه قيل : أهو الحق لا الباطل ؟ أو أهو الذي سميتموه الحق، والضمير للعذاب الموعود. و ﴿ إِى ﴾ بمعنى «نعم » في القسم خاصة، كما كان «هل » بمعنى «قد » في الاستفهام خاصة. وسمعتهم يقولون في التصديق : إيوَ، فيصلونه بواو القسم ولا ينطقون به وحده ﴿ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ ﴾ بفائتين العذاب، وهو لاحق بهم لا محالة.
﴿ ظَلَمَتْ ﴾ صفة لنفس على : ولو أنّ لكل نفس ظالمة ﴿ مَّا فِى الأرض ﴾ أي ما في الدنيا اليوم من خزائنها وأموالها وجميع منافعها على كثرتها ﴿ لاَفْتَدَتْ بِهِ ﴾ لجعلته فدية لها. يقال : فده فافتدى. ويقال : افتداه أيضاً بمعنى فداه ﴿ وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب ﴾ لأنهم بهتوا لرؤيتهم ما لم يحتسبوه ولم يخطر ببالهم وعاينوا من شدة الأمر وتفاقمه ما سلبهم قواهم وبهرهم فلم يطيقوا عنده بكاء ولا صراخاً ولا ما يفعله الجازع، سوى إسرار الندم والحسرة في القلوب، كما ترى المقدّم للصلب يثخنه ما دهمه من فظاعة الخطب، ويغلب حتى لا ينبس بكلمة ويبقى جامداً مبهوتاً، وقيل : أسر رؤساؤهم الندامة من سفالتهم الذين أضلوهم حياء منهم وخوفاً من توبيخهم وقيل أسروها أخلصوها، إما لأن إخفاءها إخلاصها، وإما من قولهم : سرّ الشيء، خالصه. وفيه تهكم بهم وبأخطائهم وقت إخلاص الندامة. وقيل : أسروا الندامة : أظهروها، من قولهم : أسر الشيء وأشره إذا أظهره. وليس هناك تجلد ﴿ وَقُضِىَ بَيْنَهُمْ ﴾ أي بين الظالمين والمظلومين، دلّ على ذلك ذكر الظلم.
ثم أتبع ذلك الإعلام بأنّ له الملك كله، وأنه المثيب المعاقب، وما وعدوه من الثواب والعقاب فهو حق. وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجىء ولا يغتر به المغترون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٥:ثم أتبع ذلك الإعلام بأنّ له الملك كله، وأنه المثيب المعاقب، وما وعدوه من الثواب والعقاب فهو حق. وهو القادر على الإحياء والإماتة، لا يقدر عليهما غيره، وإلى حسابه وجزائه المرجع، ليعلم أن الأمر كذلك، فيخاف ويرجىء ولا يغتر به المغترون.
﴿ قَدْ جَاءتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ ﴾ أي قد جاءكم كتاب جامع لهذه الفوائد من موعظة وتنبيه على التوحيد ﴿ و ﴾ هو ﴿ شِفَآء ﴾ أي دواء ﴿ لِّمَا فِي ﴾ صدوركم من العقائد الفاسدة ودعاء إلى الحق ﴿ وَرَحْمَةً ﴾ لمن آمن به منكم.
وأصل الكلام : بفضل الله وبرحمته فليفرحوا، فبذلك فليفرحوا، والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحد الفعلين لدلالة المذكور عليه، والفاء داخلة لمعنى الشرط ؛ كأنه قيل : إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما. ويجوز أن يراد : بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا. ويجوز أن يراد : قد جاءتكم موعطة بفضل الله وبرحمته، فبذلك : فبمجيئها فليفرحوا. وقرئ :«فلتفرحوا » بالتاء وهو الأصل والقياس، وهي قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما روي. وعنه : لتأخذوا مصافكم » قالها في بعض الغزوات. وفي قراءة أبيّ :«فافرحوا » ﴿ هُوَ ﴾ راجع إلى ذلك. وقرىء :«مما تجمعون » بالياء والتاء. وعن أبيّ بن كعب : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا :﴿ قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ ﴾ فقال : بكتاب الله والإسلام » وقيل :«فضله » الإسلام «ورحمته » ما وعد عليه.
﴿ أَرَأَيْتُمْ ﴾ أخبروني. و ﴿ مَّاَ أَنزَلَ الله ﴾ «ما » في موضع النصب، بأنزل، أو بأرأيتم، في معنى : أخبرونيه ﴿ فَجَعَلْتُمْ مّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً ﴾ أي أنزله الله رزقاً حلالاً كله فبعضتموه وقلتم : هذا حلال وهذا حرام، كقولهم :﴿ هذه أنعام وَحَرْثٌ حِجْرٌ ﴾، ﴿ مَا فِى بُطُونِ هذه الانعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أزواجنا ﴾ ﴿ الله أَذِنَ لَكُمْ ﴾ متعلق بأرأيتم. وقل : تكرير للتوكيد. والمعنى : أخبروني آلله أذن لكم في التحليل والتحريم فأنتم تفعلون ذلك بإذنه، أم تتكذبون على الله في نسبة ذلك إليه. ويجوز أن تكون الهمزة للإنكار، وأم منقطعة بمعنى : بل أتفترون على الله، تقريراً للافتراء. وكفى بهذه الآية زاجرة زجراً بليغاً عن التجوز فيما يسئل عنه من الأحكام. وباعثة على وجوب الاحتياط فيه، وأن لا يقول أحد في شيء جائز أو غير جائز إلاّ بعد إيقان وإتقان، ومن لم يوقن فليتق الله وليصمت، وإلاّ فهو مفتر على الله.
﴿ يَوْمُ القيامة ﴾ منصوب بالظن، وهو ظنّ واقع فيه، يعني : أي شيء ظنّ المفترين في ذلك اليوم ما يصنع بهم فيه وهو يوم الجزاء بالإحسان والإساءة، وهو وعيد عظيم حيث أبهم أمره. وقرأ عيسى ابن عمر :«وما ظنّ » على لفظ الفعل. ومعناه : وأي ظنّ ظنّوا يوم القيامة. وجيء به على لفظ الماضي لأنه كائن فكأن قد كان ﴿ إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ﴾ حيث أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بالوحي وتعليم الحلال والحرام ﴿ ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ﴾ هذه النعمة ولا يتبعون ما هدوا إليه.
﴿ وَمَا تَكُونُ فِى شَأْنٍ ﴾ «ما » نافية والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والشأن : الأمر، وأصله الهمز بمعنى القصد، من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. والضمير في ﴿ مِنْهُ ﴾ للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هو معظم شأنه، أو للتنزيل، كأنه قيل : وما تتلو من التنزيل من قرآن، لأنّ كلّ جزء منه قرآن، والإضمار قبل الذكر تفخيم له. أو لله عزّ وجلّ. وما ﴿ تَعْمَلُونَ ﴾ أنتم جميعاً ﴿ مِنْ عَمَلٍ ﴾ أيّ عمل كان ﴿ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا ﴾ شاهدين رقباء نحصي عليكم ﴿ إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ﴾ من أفاض في الأمر إذا اندفع فيه ﴿ وَمَا يَعْزُبُ ﴾. قرئ بالضم والكسر «وما يبعد وما يغيب »، ومنه : الروض العازب ﴿ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك وَلا أَكْبَرَ ﴾ القراءة بالنصب والرفع، والوجه النصب على نفي الجنس، والرفع على الابتداء ليكون كلاماً برأسه، وفي العطف على محل ﴿ مِن مّثْقَالِ ذَرَّةٍ ﴾ أو على لفظ ﴿ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ ﴾ [ النساء : ٤٠ ] فتحاً في موضع الجرّ لامتناع الصرف : إشكال، لأنّ قولك :«لا يعزب عنه شيء إلاّ في كتاب » مشكل. فإن قلت : لم قدّمت الأرض على السماء، بخلاف قوله : في سورة سبأ ﴿ عالم الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِى السموات وَلاَ فِى الأرض ﴾ [ سبأ : ٣ ] ؟ قلت : حق السماء أن تقدم على الأرض، ولكنه لما ذكر شهادته على شئون أهل الأرض وأحوالهم وأعمالهم، ووصل بذلك قوله :﴿ لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ ﴾ [ سبأ : ٣ ] لاءم ذلك أن قدّم الأرض على السماء، على أنّ العطف بالواو حكمه حكم التثنية.
﴿ أَوْلِيَاء الله ﴾ الذين يتولونه بالطاعة ويتولاهم بالكرامة.
وقد فسر ذلك في قوله :﴿ الذين ءامَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ﴾ فهم توليهم إياه ﴿ لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِى الأخرة ﴾.
فهو توليه إياهم. وعن سعيد بن جبير : أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل : من أولياء الله ؟ فقال :«هم الذين يذكر الله برؤيتهم » يعني السمت والهيئة. وعن ابن عباس رضي الله عنهما : الإخبات والسكينة. وقيل : هم المتحابون في الله. وعن عمر رضي الله عنه : سمعت النبيّ صلى الله عليه وسلم يقول :«إنَّ من عباد الله عباداً ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله » قالوا : يا رسول الله، خبرنا من هم وما أعمالهم ؟ فلعلنا نحبهم، قال :«هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور، وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس » ثم قرأ الآية :﴿ الذين كَفَرُواْ ﴾ نصب أو رفع على المدح أو على وصف الأولياء أو على الابتداء والخبر لهم البشرى، والبشرى في الدنيا ما بشر الله به المؤمنين المتقين في غير مكان من كتابه، وعن النبي صلى الله عليه وسلم :«هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له » وعنه عليه الصلاة والسلام : ذهبت النبوّة وبقيت المبشرات. وقيل : هي محبة الناس له والذكر الحسن. وعن أبي ذرّ :
قلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم : الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس فقال :«تلك عاجل بشرى المؤمن » وعن عطاء : لهم البشرى عند الموت تأتيهم الملائكة بالرحمة. قال الله تعالى :﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملئكة أَن لا تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة ﴾ [ فصلت : ٣٠ ] وأمّا البشرى في الآخرة فتلقى الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة، وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرءون منها، وغير ذلك من البشارات ﴿ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله ﴾ لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده، كقوله تعالى :﴿ مَا يُبَدَّلُ القول لَدَىَّ ﴾ [ ق : ٢٩ ] و ﴿ ذلك ﴾ إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض.
﴿ وَلاَ يَحْزُنكَ ﴾ وقرئ :«ولا يحزنك » من أحزنه ﴿ قَوْلُهُمْ ﴾ تكذيبهم لك، وتهديدهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك، وسائر ما يتكلمون به في شأنك ﴿ إِنَّ العزة للَّهِ ﴾ استئناف بمعنى التعليل، كأنه قيل : ما لي لا أحزن ؟ فقيل : إن العزّة لله جميعاً، أي إن الغلبة والقهر في ملكة الله جميعاً، لا يملك أحد شيئاً منها لا هم ولا غيرهم، فهو يغلبهم وينصرك عليهم ﴿ كَتَبَ الله لاَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى ﴾ [ المجادلة : ٢١ ]. ﴿ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا ﴾ [ غافر : ٥١ ] وقرأ أبو حيوة «أن العزة » بالفتح بمعنى لأن العزة على صريح التعليل ومن جعله بدلاً من قولهم ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكر من القراءة به ﴿ هُوَ السميع العليم ﴾ يسمع ما يقولون. ويعلم ما يدبرون ويعزمون عليه. وهو مكافئهم بذلك.
﴿ مَن فِى السماوات وَمَنْ فِى الأرض ﴾ يعني العقلاء المميزين وهم الملائكة والثقلان، وإنما خصّهم، ليؤذن أنّ هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكته فهم عبيد كلهم، وهو سبحانه وتعالى : ربهم ولا يصلح أحد منهم للربوبية، ولا أن يكون شريكاً له فيها، ما وراءهم مما لا يعقل أحقّ أن لا يكون له ندّاً وشريكاً، وليدلّ على أن من اتّخذ غيره رباً من ملك أو إنسي فضلاً عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد وترك النظر. ومعنى : وما يتبعون شركاء، أي : وما يتبعون حقيقة الشركاء وإن كانوا يسمونها شركاء، لأنّ شركة الله في الربوبية محال ﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ ﴾ ظنهم أنها شركاء ﴿ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ﴾ يحزرون ويقدرون أن تكون شركاء تقديراً باطلاً. ويجوز أن يكون ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ ﴾ في معنى الاستفهام، يعني : وأي شيء يتبعون. و ﴿ شُرَكَاء ﴾ على هذا نصب بيدعون، وعلى الأوّل بيتبع. وكان حقه. وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء، فاقتصر على أحدهما للدلالة. ويجوز أن تكون «ما » موصولة معطوفة على «من » كأنه قيل : ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء، أي : وله شركاؤهم. وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه : تدعون، بالتاء، ووجهه أن يحمل ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ ﴾ على الاستفهام، أي : وأي شيء يتبع الذين تدعونهم شركاء من الملائكة والنبيين، يعني : أنهم يتبعون الله ويطيعونه، فما لكم لا تفعلون مثل فعلهم ؟ كقوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبّهِمُ الوسيلة ﴾ [ الإسراء : ٥٧ ] ثم صرف الكلام عن الخطاب إلى الغيبة فقال : إن يتبع هؤلاء المشركون إلاّ الظن، ولا يتبعون ما يتبع الملائكة والنبييون من الحق.
ثم نبه على عظيم قدرته ونعمته الشاملة لعباده التي يستحق بها أن يوحّدوه بالعبادة، بأنه جعل لهم الليل مظلماً ليسكنوا فيه مما يقاسون في نهارهم من تعب التردّد في المعاش، والنهار مضيئاً يبصرون فيه مطالب أرزاقهم ومكاسبهم ﴿ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ سماع معتبر مدّكر.
﴿ سبحانه ﴾ تنزيه له عن اتخاذ الولد، وتعجب من كلمتهم الحمقاء ﴿ هُوَ الغنى ﴾ علة لنفي الولد لأنّ ما يطلب به الولد من يلد، وما يطلبه له السبب في كله الحاجة، فمن الحاجة منتفية عنه كان الولد عنه منتفياً ﴿ لَّهُ مَا فِي السموات وَمَا فِي الأرض ﴾ فهو مستغن بملكه لهم عن اتخاذ أحد منهم ولدا ﴿ إِنْ عِندَكُمْ مّن سُلْطَانٍ بهذا ﴾ ما عندكم من حجة بهذا القول والباء حقها أن تتعلق بقوله :﴿ إِنْ عِندَكُمْ ﴾ على أن يجعل القول مكاناً للسلطان، كقولك : ما عندكم بأرضكم موز، كأنه قيل : إن عندكم فيما تقولون سلطان ﴿ أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ لما نفى عنهم البرهان جعلهم غير عالمين، فدلّ على أنّ كل قول لا برهان عليه لقائله فذاك جهل وليس بعلم.
﴿ يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب ﴾ بإضافة الولد إليه.
﴿ متاع فِى الدنيا ﴾ أي افتراؤهم هذا منفعة قليلة في الدنيا، وذلك حيث يقيمون رياستهم في الكفر ومناصبة النبي صلى الله عليه وسلم بالتظاهر به، ثم يلقون الشقاء المؤبد بعده.
﴿ كَبُرَ عَلَيْكُمْ ﴾ عظم عليكم وشقّ وثقل. ومنها قوله تعالى :﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين ﴾ [ البقرة : ٤٥ ]. ويقال : تعاظمه الأمر ﴿ مَّقَامِى ﴾ مكاني، يعني نفسه، كما تقول : فعلت كذا لمكان فلان : وفلان ثقيل الظل. ومنه :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ ﴾ [ الرحمن : ٤٦ ] بمعنى خاف ربه. أو قيامي ومكثي بين أظهركم مدداً طوالاً أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً أو مقامي وتذكيري ؛ لأنهم كانوا إذا وعظوا الجماعة قاموا على أرجلهم يعظونهم، ليكون مكانهم بيناً وكلامهم مسموعاً، كما يحكى عن عيسى صلوات الله عليه أنه كان يعظ الحواريين قائماً وهم قعود ﴿ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ﴾ من أجمع الأمر، وأزمعه، إذا نواه وعزم عليه. قال :
هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْماً وَأَمْرِي مُجْمعُ ***
والواو بمعنى «مع » يعني : فأجمعوا أمركم مع شركائكم. وقرأ الحسن :«وشركاؤكم » بالرفع عطفاً على الضمير المتصل، وجاز من غير تأكيد بالمنفصل لقيام الفاصل مقامه لطول الكلام، كما تقول : اضرب زيداً وعمرو. وقرئ :«فاجمعوا » من الجمع. وشركاءكم نصب للعطف على المفعول، أو لأنّ الواو بمعنى «مع » وفي قراءة أبيّ :«فأجمعوا أمركم وادعوا شركاءكم » فإن قلت : كيف جاز إسناد الإجماع إلى الشركاء ؟ قلت : على وجه التهكم، كقوله :﴿ قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ ﴾ [ الأعراف : ١٩٥ ] فإن قلت : ما معنى الأمرين ؟ أمرهم الذي يجمعونه، وأمرهم الذي لا يكون عليهم غمة ؟ قلت : أمّا الأمر الأوّل فالقصد إلى إهلاكه، يعني : فأجمعوا ما تريدون من إهلاكي واحتشدوا فيه وابذلوا وسعكم في كيدي. وإنما قال ذلك إظهاراً لقلة مبالاته وثقته بما وعده ربه من كلاءته وعصمته إياه، وأنهم لن يجدوا إليه سبيلاً. وأما الثاني ففيه وجهان، أحدهما : أن يراد مصاحبتهم له وما كانوا فيه معه من الحال الشديدة عليهم المكروهة عندهم، يعني : ثم أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة : أي غماً وهماً، والغم والغمة، كالكرب والكربة. والثاني أن يراد به ما أريد بالأمر الأوّل، والغمة السترة من غمه إذا ستره. ومنها قوله عليه السلام : " ولا غمة في فرائض الله " أي لا تستر، ولكن يجاهر بها، يعني : ولا يكن قصدكم إلى إهلاكي مستوراً عليكم ولكن مكشوفاً مشهوراً تجاهرونني به ﴿ ثُمَّ اقضوا إِلَىَّ ﴾ ذلك الأمر الذي تريدون بي، أي : أدّوا إليَّ قطعه وتصحيحه، كقوله تعالى :﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر ﴾ [ الحجر : ٦٦ ] أو أدّوا إليّ ما هو حق عليكم عندكم من هلاكي كما يقضي الرجل غريمه ﴿ وَلاَ تُنظِرُونَ ﴾ ولا تمهلوني. قرىء :«ثم افضوا إليّ » بالفاء بمعنى : ثم انتهوا إليّ بشرّكم. وقيل : هو من أفضى الرجل إذا خرج إلى الفضاء، أي أصحروا به إليَّ وأبرزوه لي ﴿ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ﴾.
فإن أعرضتم عن تذكيري ونصيحتي ﴿ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ ﴾ فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهموني لأجله من طمع في أموالكم وطلب أجر على عظتكم ﴿ إِنْ أَجْرِىَ إِلاَّ عَلَى الله ﴾ وهو الثواب الذي يثيبني به في الآخرة أي : ما نصحتكم إلاّ لوجه الله، لا لغرض من أغراض الدنيا ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين ﴾ الذين لا يأخذون على تعليم الدين شيئاً ولا يطلبون به دنيا، يريد : أن ذلك مقتضى الإسلام، والذي كل مسلم مأمور به.
والمراد أن يجعل الحجّة لازمة لهم ويبرىء ساحته، فذكر أن توليهم لم يكن [ عن ] تفريط منه في سوق الأمر معهم على الطريق الذي يجب أن يساق عليه، وإنما ذلك لعنادهم وتمرّدهم لا غير.
﴿ فَكَذَّبُوهُ ﴾ فتموا على تكذيبه، وكان تكذيبهم له في آخر المدّة المتطاولة كتكذيبهم في أوّلها، وذلك عند مشارفة الهلاك بالطوفان ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ ﴾ يخلفون الهالكين بالغرق ﴿ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين ﴾ تعظيم لما جرى عليهم، وتحذير لمن أنذرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مثله، وتسلية له.
﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ من بعد نوح ﴿ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ ﴾ يعني هوداً وصالحاً وإبراهيم ولوطاً وشعيباً ﴿ فَجَاءوهُم بالبينات ﴾ بالحجج الواضحة المثبتة لدعواهم ﴿ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ ﴾ فما كان إيمانهم إلاّ ممتنعاً كالمحال لشدّة شكيمتهم في الكفر وتصميمهم عليه ﴿ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ﴾ يريد أنهم كانوا قبل بعثة الرسل أهل جاهلية مكذبين بالحق. فما وقع فصل بين حالتهم بعد بعثة الرسل وقبلها، كأن لم يبعث إليهم أحد ﴿ كَذَلِكَ نَطْبَعُ ﴾ مثل ذلك الطبع المحكم نطبع ﴿ على قُلوبِ المعتدين ﴾ والطبع جار مجرى الكناية عن عنادهم ولجاجهم، لأنّ الخذلان يتبعه. ألا ترى كيف أسند إليهم الاعتداء ووصفهم به.
﴿ مّن بَعْدِهِمْ ﴾ من بعد الرسل ﴿ بئاياتنا ﴾ بالآيات التسع ﴿ فاستكبروا ﴾ عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها ﴿ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ ﴾ كفاراً ذوي آثام عظام، فلذلك استكبروا عنها واجترءوا على ردّها.
﴿ فَلَمَّا جَاءهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا ﴾ فلما عرفوا أنه هو الحق، وأنه من عند الله، لا من قبل موسى وهارون ﴿ قالوا ﴾ لحبهم الشهوات ﴿ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ وهم يعلمون أنّ الحق أبعد شيء من السحر الذي ليس إلاّ تمويهاً وباطلاً.
فإن قلت : هم قطعوا بقولهم :﴿ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ على أنه سحر، فكيف قيل لهم : أتقولون أسحر هذا ؟ قلت : فيه أوجه : أن يكون معنى قوله :﴿ أَتقُولُونَ لِلْحَقّ ﴾ أتعيبونه وتطعنون فيه. وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم : فلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول إذا قال بعضهم لبعض ما يسوؤه، ونحو القول : الذكر، في قوله :﴿ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ ﴾ [ الأنبياء : ٦٠ ] ثم قال :﴿ أَسِحْرٌ هذا ﴾ فأنكر ما قالوه في عيبه والطعن عليه، وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دلّ عليه قولهم :﴿ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ كأنه قيل : أتقولون ما تقولون، يعني قولهم : إن هذا لسحر مبين، ثم قيل : أسحر هذا ؟ وأن يكون جملة قوله :﴿ أَسِحْرٌ هذا وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون ﴾ حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا : أَجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ﴿ وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون ﴾ كما قال موسى للسحرة : ما جئتم به آلسحر، إنّ الله سيبطله.
﴿ لِتَلْفِتَنَا ﴾ لتصرفنا. واللفت والفتل : أخوان، ومطاوعهما الالتفات والانفتال ﴿ عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءابَاءنَا ﴾ يعنون عبادة الأصنام ﴿ وَتَكُونَ لَكُمَا الكبرياء ﴾ أي الملك ؛ لأن الملوك موصوفون بالكبر. ولذلك قيل للملك الجبار، ووصف بالصيد والشوس، ولذلك وصف ابن الرقيات مصعباً في قوله :
مُلْكُهُ مُلْكُ رَأْفَةٍ لَيْسَ فِيه جَبَرُوتٌ مِنْهُ وَلاَ كُبْرِيَاءُ
ينفي ما عليه الملوك من ذلك. ويجوز أن يقصدوا ذمّهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا، كما قال القبطي لموسى عليه السلام : إن تريد إلاّ أن تكون جباراً في الأرض ﴿ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ ﴾ أي مصدّقين لكما فيما جئتما به. وقرىء :«يطبع » ويكون لكما، بالياء.
﴿ مَا جِئْتُمْ بِهِ ﴾ ما موصولة واقعة مبتدأ. و ﴿ السحر ﴾ خبر، أي الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحراً من آيات الله. وقرئ :«آلسحر » على الاستفهام. فعلى هذه القراءة «ما » استفهامية، أي : أيّ شيء جئتم به، أهو السحر ؟ وقرأ عبد الله :«ما جئتم به سحر » وقرأ أبيّ :«ما أتيتم به سحر ». والمعنى : لا ما أتيت به.
﴿ إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ ﴾ سيمحقه أو يظهر بطلانه بإظهار المعجزة على الشعوذة ﴿ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين ﴾ لا يثبته ولا يديمه، ولكن يسلط عليه الدمار.
﴿ وَيُحِقُّ الله الحق ﴾ ويثبته ﴿ بكلماته ﴾ بأوامره وقضاياه. وقرئ :«بكلمته » بأمره ومشيئته.
﴿ فَمَا ءامَنَ لموسى ﴾ في أوّل أمره ﴿ إِلاَّ ذُرّيَّةٌ مّن قَوْمِهِ ﴾ إلاّ طائفة من ذراري بني إسرائيل، كأنه قيل : إلاّ أولاد من أولاد قومه. وذلك أنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفاً من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف. وقيل : الضمير في قومه لفرعون، والذرية : مؤمن آل فرعون، وآسية امرأته، وخازنه، وامرأة خازنه وماشطته. فإن قلت : إلام يرجع الضمير في قوله :﴿ وَمَلَئِهِمْ ﴾ ؟ قلت : إلى فرعون، بمعنى آل فرعون، كما يقال : ربيعة ومضر. أو لأنه ذو أصحاب يأتمرون له. ويجوز أن يرجع إلى الذرية، أي على خوف من فرعون وخوف من أشراف بني إسرائيل، لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفاً من فرعون عليهم وعلى أنفسهم. ويدلّ عليه قوله :﴿ أَن يَفْتِنَهُمْ ﴾ يريد أن يعذبهم ﴿ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض ﴾ لغالب فيها قاهر ﴿ وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين ﴾ في الظلم والفساد، وفي الكبر والعتوّ بادعائه الربوبية.
﴿ إن كُنْتُمْ ءَامَنْتُم بِاللهِ ﴾ صدقتم به وبآياته ﴿ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ ﴾ فإليه أسندوا أمركم في العصمة من فرعون. ثم شرط في التوكل الإسلام، وهو أن يسلموا نفوسهم لله، أي يجعلوها له سالمة خالصة لا حظّ للشيطان فيها ؛ لأن التوكل لا يكون مع التخليط. ونظيره في الكلام : إن ضربك زيد فاضربه، وإن كانت بك قوّة.
﴿ فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا ﴾ إنما قالوا ذلك، لأن القوم كانوا مخلصين، لا جرم أن الله سبحانه قبل توكلهم، وأجاب دعاءهم، ونجاهم وأهلك من كانوا يخافونه، وجعلهم خلفاء في أرضه، فمن أراد أن يصلح للتوكل على ربه والتفويض إليه، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص ﴿ لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً ﴾ موضع فتنة لهم، أي : عذاب يعذبوننا ويفتنوننا عن ديننا. أو فتنة لهم يفتتنون بنا ويقولون : لو كان هؤلاء على الحق لما أصيبوا.
تبوّأ المكان : اتخذه مباءة، كقولك : توطنه، إذا اتخذه وطناً. والمعنى اجعلا بمصر بيوتاً من بيوته مباءة لقومكما ومرجعاً يرجعون إليه للعبادة والصلاة فيه ﴿ واجعلوا بُيُوتَكُمْ ﴾ تلك ﴿ قِبْلَةً ﴾ أي مساجد متوجهة نحو القبلة وهي الكعبة، وكان موسى ومن معه يصلون إلى الكعبة، وكانوا في أوّل أمرهم مأمورين بأن يصلوا في بيوتهم خفية من الكفرة، لئلا يظهروا عليهم فيؤذوهم ويفتنوهم عن دينهم، كما كان المؤمنون على ذلك في أوّل الإسلام بمكة. فإن قلت : كيف نوّع الخطاب، فثنى أوّلاً، ثم جمع، ثم وحد آخراً. قلت : خوطب موسى وهارون عليهما السلام أن يتبوآ لقومهما بيوتاً، ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوّض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عامّاً لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأنّ ذلك واجب على الجمهور، ثم خصّ موسى عليه السلام بالبشارة التي هي الغرض، تعظيماً لها وللمبشر بها.
الزينة : ما يتزين به من لباس أو حلي أو فرش أو أثاث أو غير ذلك. وعن ابن عباس رضي الله عنه : كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت. فإن قلت : ما معنى قوله :﴿ رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ ﴾ ؟ قلت : هو دعاء بلفظ الأمر، كقوله :﴿ رَبَّنَا اطمس ﴾، ﴿ واشدد ﴾، وذلك أنه لما عرض عليهم أيات الله وبيناته عرضاً مكرّراً وردّد عليهم النصائح والمواعظ زماناً طويلاً، وحذرهم عذاب الله وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال المبين، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفراً، وعلى الإنذار إلاّ استكباراً، وعن النصيحة إلاّ نبوّا، ولم يبق له مطمع فيهم، وعلم بالتجربة وطول الصحبة أنه لا يجيء منهم إلاّ الغي والضلال، وأنّ إيمانهم كالمحال الذي لا يدخل تحت الصحة، أو علم ذلك بوحي من الله - اشتد غضبه عليهم، وأفرط مقته وكراهته لحالهم، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، كما تقول : لعن الله إبليس، وأخزى الله الكفرة، مع علمك أنه لا يكون غير ذلك، وليشهد عليهم بأنه لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلاّ أن يخذلوا ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه، كأنه قال : ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال. وليكونوا ضلالاً، وليطبع الله على قلوبهم فلا يؤمنوا وما عليّ منهم، هم أحقّ بذلك وأحقّ كما يقوله الأب المشفق لولده الشاطر إذا ما لم يقبل منه، حسرة على ما فاته من قبول نصيحته، وحرداً عليه، لا أن يريد خلاعته واتباعه هواه. ومعنى الشدّ على القلوب. الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان ﴿ فَلاَ يُؤْمِنُواْ ﴾ جواب للدعاء الذي هو «اشدد » أو دعاء بلفظ النهي، وقد حملت اللام في ليضلوا على التعليل، على أنهم جعلوا نعمة الله سبباً في الضلال، فكأنهم أوتوها ليضلّوا. وقوله :﴿ فَلاَ يُؤْمِنُواْ ﴾ عطف على ليضلوا. وقوله :﴿ رَبَّنَا اطمس على أموالهم واشدد على قُلُوبِهِمْ ﴾ دعاء معترض بين المعطوف والمعطوف عليه. وقرأ الفضل الرقاشي :«أئنك آتيت » على الاستفهام، واطمس بضم الميم.
قرئ :«دعواتكما ». قيل : كان موسى يدعو وهارون يؤمّن. ويجوز أن يكونا جميعاً يدعوان. والمعنى : إنّ دعاءكما مستجاب، وما طلبتما كائن ولكن في وقته ﴿ فاستقيما ﴾ فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة والزيادة في إلزام الحجّة، فقد لبث نوح عليه السلام في قومه ألف عام إلاّ قليلاً ولا تستعجلا. قال ابن جريج، فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة ﴿ وَلاَ تَتَّبِعَانّ سَبِيلَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ أي لا تتبعا طريق الجهلة بعادة الله في تعليقه الأمور بالمصالح، ولا تعجلا فإن العجلة ليست بمصلحة. وهذا كما قال لنوح عليه السلام ﴿ إِنّى أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين ﴾ [ هود : ٤٦ ]. وقرئ :«ولا تتبعان » بالنون الخفيفة، وكسرها لالتقاء الساكنين تشبيهاً بنون التثنية، وبتخفيف التاء من تبع.
قرأ الحسن : وجوزنا من أجاز المكان وجوزه وجاوزه، وليس من جوز الذي في بيت الأعشى :
وَإذَا تَجَوَّزْنَا حِبَالِ قَبِيلَةٍ ***
لأنه لو كان منه لكان حقه أن يقال وجوّزنا بني إسرائيل في البحر كما قال :
كَمَا جَوَّزَ السَّكِّيّ فِي الْبَابِ فَيْتَقُ***
﴿ فَأَتْبَعَهُمْ ﴾ فلحقهم. يقال : تبعته حتى أتبعته. وقرأ الحسن :«وعدوّا ». وقرئ : أنه بالفتح على حذف الياء التي هي صلة الإيمان، وإنه بالكسر على الاستئناف بدلاً من آمنت. كرر المخذول المعنى الواحد ثلاث مرات في ثلاث عبارات حرصاً على القبول، ثم لم يقبل منه حيث أخطأ وقته. وقاله حين لم يبق له اختيار قط، وكانت المّرة الواحدة كافية في حال الاختيار وعند بقاء التكليف.
﴿ ءآلئان ﴾ أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين أدركك الغرق وأيست من نفسك. قيل : قال ذلك حين ألجمه الغرق يعني حين أوشك أن يغرق. وقيل : قاله بعد أن غرق في نفسه. والذي يحكي أنه حين قال :﴿ ءامَنتُ ﴾ أخذ جبريل من حال البحر فدسه في فيه، فللغضب لله على الكافر في وقت قد علم أنّ إيمانه لا ينفعه. وأمّا ما يضم إليه من قولهم : خشية أن تدركه رحمة الله فمن زيادات الباهتين لله وملائكته : وفيه جهالتان، إحداهما : أنّ الإيمان يصحّ بالقلب كإيمان الأخرس، فحال البحر لا يمنعه. والأخرى : أنّ من كره إيمان الكافر وأحبّ بقاءه على الكفر فهو كافر لأن الرضا بالكفر كفر ﴿ مِنَ المفسدين ﴾ من الضالين المضلين عن الإيمان، كقوله :﴿ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زدناهم عَذَابًا فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ ﴾ [ النحل : ٩٨ ]. وروي : أنّ جبريل عليه السلام أتاه بفتيا : ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادّعى السيادة دونه ؟ فكتب فرعون فيه : يقول أبو العباس الوليد بن مصعب : جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعماه أن يغرق في البحر، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل خطه فعرفه.
﴿ نُنَجّيكَ ﴾ بالتشديد والتخفيف : نبعدك مما وقع فيه قومك من قعر البحر. وقيل : نلقيك بنجوة من الأرض. وقرىء :«ننحيك » بالحاء : نلقيك بناحية مما يلي البحر، وذلك أنه طرح بعد الغرق بجانب البحر قال كعب : رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور ﴿ بِبَدَنِكَ ﴾ في موضع الحال، أي : في الحال التي لا روح فيك، وإنما أنت بدن، أو ببدنك كاملاً سوياً لم ينقص منه شيء ولم يتغير، أو عرياناً لست إلا بدناً من غير لباس، أو بدرعك. قال عمرو بن معديكرب :
أَعَاذِلُ شكَّتِي بَدَنِي وَسَيْفِي وَكُلُّ مُقَلِّصٍ سَلِسُ القِيَادِ
وكانت له درع من ذهب يعرف بها. وقرأ أبو حنيفة رحمه الله :«بأبدانك » هو على وجهين : إما أن يكون مثل قولهم : هوى بأجرامه، يعني : ببدنك كله وافياً بأجزائه. أو يريد : بدروعك كأنه كان مظاهراً بينها ﴿ لِمَنْ خَلْفَكَ ءايَةً ﴾ لمن وراءك من الناس علامة، وهم بنو إسرائيل، وكان في أنفسهم أن فرعون أعظم شأناً من أن يغرق. وروي أنهم قالوا : ما مات فرعون ولا يموت أبداً. وقيل : أخبرهم موسى بهلاكه فلم يصدّقوه، فألقاه الله على الساحل حتى عاينوه، وكأن مطرحه كان على ممرّ من بني إسارئيل حتى قيل : لمن خلفك. وقيل :﴿ لِمَنْ خَلْفَكَ ﴾ لمن يأتي بعدك من القرون. ومعنى كونه آية : أن تظهر للناس عبوديته ومهانته، وأنّ ما كان يدّعيه من الربوبية باطل محال، وأنه مع ما كان فيه من عظم الشأن وكبرياء الملك آل أمره إلى ما ترون لعصيانه ربه عزّ وجلّ، فما الظنّ بغيره، أو لتكون عبرة تعتبر بها الأمم بعدك، فلا يجترئوا على نحو ما اجترأت عليه إذا سمعوا بحالك وبهوانك على الله. وقرىء :«لمن خلقك » بالقاف : أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته. ويجوز أن يراد : ليكون طرحك على الساحل وحدك وتمييزك من بين المغرقين لئلا يشتبه على الناس أمرك، ولئلا يقولوا لادّعائك العظمة إنّ مثله لا يغرق ولا يموت آية من آيات الله التي لا يقدر عليها غيره، وليعلموا أنَّ ذلك تعمد منه لإماطة الشبه في أمرك.
﴿ مُبَوَّأَ صِدْقٍ ﴾ منزلاً صالحاً مرضياً وهو مصر والشام ﴿ فَمَا اختلفوا ﴾ في دينهم وما تشعبوا فيه شعباً إلاّ من بعد ما قرأوا التوراة وكسبوا العلم بدين الحق ولزمهم الثبات عليه واتحاد الكلمة، وعلموا أن الاختلاف فيه تفرّق عنه. وقيل : هو العلم بمحمد صلى الله عليه وسلم واختلاف بني إسرائيل، وهم أهل الكتاب، اختلافهم في صفته ونعته، وأنه هو أم ليس به. بعد ما جاءهم العلم والبيان أنه هو لم يرتابوا فيه. كما قال الله تعالى :﴿ الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ ﴾ [ البقرة : ١٤٦ ].
فإن قلت : كيف قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم :﴿ فَإِن كُنتَ في شَكّ مّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ ﴾ مع قوله في الكفرة :﴿ وَإِنَّهُمْ لَفِى شَكّ مّنْهُ مُرِيبٍ ﴾. قلت : فرق عظيم بين قوله :﴿ إِنَّهُمْ لَفِى شَكٌّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ بإثبات الشكّ لهم على سبيل التأكيد والتحقيق، وبين قوله :﴿ فَإِن كُنتَ فِي شَكّ ﴾ بمعنى الفرض والتمثيل، كأنه قيل : فإن وقع لك شك مثلاً وخيّل لك الشيطان خيالاً منه تقديراً ﴿ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَؤونَ الكتاب ﴾ والمعنى : أنّ الله عزّ وجلّ قدم ذكر بني إسرائيل وهم قرأة الكتاب، ووصفهم بأنّ العلم قد جاءهم، لأنّ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد أم يأكد علمهم بصحة القرآن وصحة نبوّة محمد عليه [ الصلاة و ] السلام، ويبالغ في ذلك، فقال : فإن وقع لك شكّ فرضاً وتقديراً وسبيل من خالجته شبهة في الدين أن يسارع إلى حّلها وإماطتها، إما بالرجوع إلى قوانين الدين وأدلته، وإما بمقادحة العلماء المنبهين على الحقّ فسل علماء أهل الكتاب، يعني : أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك وقتلها علماً بحيث يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم فضلاً عن غيرك، فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل الله إلى رسول الله، لا وصف رسول الله بالشكّ فيه، ثم قال :﴿ لَقَدْ جَاءكَ الحق مِن رَّبّكَ ﴾ أي ثبت عندك بالآيات والبراهين القاطعة أنّ ما أتاك هو الحق الذي لا مدخل فيه للمرية ﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين ﴾.
﴿ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بآيات الله ﴾ أي فاثبت ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية عنك والتكذيب بآيات الله. ويجوز أن يكون على طريقة التهييج والإلهاب، كقوله :﴿ فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً للكافرين وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ ءايات الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ ﴾ [ القصص : ٨٧ ] ولزيادة التثبيت والعصمة، ولذلك قال عليه السلام عند نزوله : " ولا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق " وعن ابن عباس رضي الله عنه : لا والله ما شكّ طرفة عين، ولا سأل أحداً منهم، وقيل : خوطب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمراد خطاب أمته. فإن كنتم في شكّ مما أنزلنا إليكم، لقوله :﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً ﴾ [ النساء : ١٧٤ ] وقيل : الخطاب للسامع ممن يجوز عليه الشكّ، كقول العرب : إذا عزّ أخوك فهن. وقيل :«إن » للنفي، أي : فما كنت في شك فاسأل، يعني : لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك، ولكن لتزداد يقيناً، كما ازداد إبراهيم عليه السلام بمعاينة إحياء الموتى. وقرئ :«فاسأل الذين يقرؤون الكتب ».
﴿ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبّكَ ﴾ ثبت عليهم قول الله الذي كتبه في اللوح وأخبر به الملائكة أنهم يموتون كفاراً فلا يكون غيره. وتلك كتابة معلوم لا كتابة مقدّر ومراد تعالى الله عن ذلك.
﴿ فَلَوْلاَ كَانَتْ ﴾ فهلا كانت ﴿ قَرْيَةٌ ﴾ واحدة من القرى التي أهلكناها، تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل المعاينة وقت بقاء التكليف، ولم تأخر كما أخر فرعون إلى أن أخذ بمخنقه ﴿ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ﴾ بأن يقبله الله منها لوقوعه في وقت الاختيار. وقرأ أبيّ وعبد الله :«فهلا كانت » ﴿ إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ ﴾ استثناء من القرى ؛ لأنّ المراد أهاليها، وهو استثناء منقطع بمعنى : ولكن قوم يونس لما آمنوا. ويجوز أن يكون متصلاً والجملة في معنى النفي، كأنه قيل : ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلاّ قوم يونس، وانتصابه على أصل الاستثناء. وقرئ بالرفع على البدل، هكذا روي عن الجرمي والكسائي. روي أن يونس عليه السلام بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه، فذهب عنهم مغاضباً، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب. فلبسوا المسوح، وعجوا أربعين ليلة. وقيل : قال لهم يونس : إن أجلكم أربعون ليلة، فقالوا : إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيماً أسود هائلاً يدخن دخاناً شديداً ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم، وفرّقوا بين النساء والصبيان، وبين الذواب وأولادها، فحنّ بعضها على بعض، وعلت الأصوات والعجيج، وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا، فرحمهم الله وكشف عنهم، وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة. وعن ابن مسعود : بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم، حتى إنّ الرجل كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيردّه، وقيل : خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا : قد نزل بنا العذاب فما ترى ؟ فقال لهم : قولوا :«يا حيّ حين لا حيّ، ويا حيّ محيي الموتى، ويا حيّ لا إله إلاّ أنت » فقالوها فكشف عنهم. وعن الفضيل بن عياض : قالوا :«اللَّهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلّت، وأنت أعظم منها وأجلّ، افعل بنا ما أنت أهله، ولا تفعل بنا ما نحن أهله ».
﴿ وَلَوْ شَاء رَبُّكَ ﴾ مشيئة القسر والإلجاء ﴿ لآمَنَ مَن فِى الأرض كُلُّهُمْ ﴾ على وجه الإحاطة والشمول ﴿ جَمِيعاً ﴾ على الإيمان مطبقين عليه لا يختلفون فيه. ألا ترى إلى قوله :﴿ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس ﴾ يعني إنما يقدر على إكراههم واضطرارهم إلى الإيمان هو لا أنت. وإيلاء الاسم حرف الاستفهام، وللإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره من هو ؟ وما هو إلاّ هو وحده لا يشارك فيه، لأنه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطّرون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشر.
﴿ وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ ﴾ يعني من النفوس التي علم أنها تؤمن ﴿ إِلاَّ بِإِذْنِ الله ﴾ أي بتسهيله وهو منح الألطاف ﴿ وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ قابل بالإذن بالرجس وهو الخذلان، والنفس المعلوم إيمانها بالذين لا يعقلون وهم المصرون على الكفر، كقوله :﴿ صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ وسمي الخذلان رجسا وهو العذاب لأنه سببه. وقرئ :«الرجز » بالزاي. وقرئ :«ونجعل » بالنون.
﴿ مَاذَا فِى السموات والأرض ﴾ من الآيات والعبر ﴿ وَمَا تُغْنِى الآيات والنذر ﴾ والرسل المنذرون. أو الإنذارات ﴿ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ ﴾ لا يتوقع إيمانهم، وهم الذين لا يعقلون وقرىء : وما يغني بالياء، و «ما » نافية، أو استفهامية.
﴿ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ وقائع الله تعالى فيهم. كما يقال :«أيام العرب » لوقائعها.
﴿ ثُمَّ نُنَجّى رُسُلَنَا ﴾ معطوف على كلام محذوف يدلّ عليه قوله :﴿ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ ﴾ كأنه قيل : نهلك الأمم ثم ننجي رسلنا، على حكاية الأحوال الماضية ﴿ والذين ءامَنُواْ ﴾ ومن آمن معهم، كذلك ﴿ نُنجِ المؤمنين ﴾ مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم، ونهلك المشركين. و ﴿ حَقّاً عَلَيْنَا ﴾ اعتراض، يعني : حقّ ذلك علينا حقاً. وقرئ :«ننجّ » بالتشديد.
﴿ يا أَيُّهَا الناس ﴾ يا أهل مكة ﴿ إِن كُنتُمْ فِى شَكّ مّن دِينِى ﴾ وصحته وسداده، فهذا ديني فاسمعوا وصفه، واعرضوه على عقولكم، وانظروا فيه بعين الإنصاف، لتعلموا أنه دين لا مدخل فيه للشكّ، وهو أني لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون من هو إلهكم وخالقكم ﴿ ولكن أَعْبُدُ الله الذى يَتَوَفَّاكُمْ ﴾ وإنما وصفه بالتوفي، ليريهم أنه الحقيق بأن يخاف ويتقي، فيعبدون دون ما لا يقدر على شيء ﴿ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين ﴾ يعني أنّ الله أمرني بذلك، بما ركب فيّ من العقل، وبما أوحي إليّ في كتابه. وقيل : معناه إن كنتم من ديني ومما أنا عليه أثبت عليه أن تركه وأوافقكم فلا تحدّثوا أنفسكم بالمحال ولا تشكوا في أمري، واقطعوا عني أطماعكم، واعلموا أني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله، ولا اختار الضلالة على الهدى، كقوله :﴿ قُلْ يا أَيُّهَا الكافرون لا أعبد ما تعبدون ﴾ [ الكافرون : ١-٢ ]. ﴿ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ ﴾ أصله : بأن أكون، فحذف الجار، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذف الحروف الجارّة مع «أن » و «أن ». وأن يكون من الحذف غير المطرد، وهو قوله : أمرتك الخير فاصدع بما تؤمر.
فإن قلت : عطفُ قوله :﴿ وَأَنْ أَقِمْ ﴾ على ﴿ أَنْ أَكُونَ ﴾ فيه إشكال، لأنّ «أن » لا تخلو من أن تكون التي للعبارة، أو التي تكون مع الفعل في تأويل المصدر، فلا يصح أن تكون للعبارة وإن كان الأمر مما يتضمن معنى القول، لأنّ عطفها على الموصولة يأبى ذلك. والقول بكونها موصولة مثل الأولى، لا بساعد عليه لفظ الأمر، وهو ﴿ أَقِمِ ﴾ لأنّ الصلة حقها أن تكون جملة تحتمل الصدق والكذب. قلت : قد سوّغ سيبويه أن توصل «أن » بالأمر والنهي، وشبه ذلك بقزلهم : أنت الذي تفعل، على الخطاب ؛ لأنّ الغرض وصلها بما تكون معه في معنى المصدر. والأمر والنهي دالان على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال ﴿ أَقِمْ وَجْهَكَ ﴾ استقم إليه ولا تلتفت يمينا ولا شمالاً. و ﴿ حَنِيفاً ﴾ حال من الذين، أو من الوجه.
﴿ فَإِن فَعَلْتَ ﴾ معناه : فإن دعوت من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرّك، فكني عنه بالفعل إيجازاً ﴿ فَإِنَّكَ إِذًا مّنَ الظالمين ﴾ إذاً جزاء للشرط وجواب لسؤال مقدّر، كأن سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان. وجعل من الظالمين ؛ لأنه لا ظلم أعظم من الشرك، ﴿ إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ [ لقمان : ١٣ ].
أتبع النهي عن عبادة الأوثان ووصفها بأنها لا تنفع ولا تضرّ، أنّ الله عزّ وجلّ هو الضارّ النافع، الذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلاّ هو وحده دون كل أحد، فكيف بالجماد الذي لا شعور به. وكذلك إن أرادك بخير لم يرد أحد ما يريده بك من فضله وإحسانه، فكيف بالأوثان ؟ فهو الحقيق إذاً بأن توجه إليه العبادة دونها، وهو أبلغ من قوله :﴿ إِنْ أَرَادَنِىَ الله بِضُرّ هَلْ هُنَّ كاشفات ضُرّهِ أَوْ أَرَادَنِى بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ ممسكات رَحْمَتِهِ ﴾ [ الزمر : ٣٨ ]. فإن قلت : لم ذكر المسّ في أحدهما، والإرادة في الثاني ؟ قلت : كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً : الإرادة والإصابة في كل واحد من الضرّ والخير، وأنه لا رادّ لما يريده منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسّ وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الآخر ؛ ليدلّ بما ذكر على ما ترك، على أنه قد ذكر الإصابة بالخير في قوله تعالى :﴿ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ ﴾ والمراد بالمشيئة : مشيئة المصلحة.
﴿ قَدْ جَاءكُمُ الحق ﴾ فلم يبق لكم عذر ولا على الله حجّة، فمن اختار الهدى واتباع الحق فما نفع باختياره إلاّ نفسه، ومن آثر الضلال فما ضرّ إلاّ نفسه، واللام وعلى : دلا على معنى النفع والضرّ. وكل إليهم الأمر بعد إبانة الحق وإزاحة العلل. وفيه حثّ على إيثار الهدى واطراح الضلال مع ذلك ﴿ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ بحفيظ موكول إليّ أمركم وحملكم على ما أريد، إنما أنا بشير ونذير.
﴿ واصبر ﴾ على دعوتهم واحتمال أذاهم وإعراضهم ﴿ حتى يَحْكُمَ الله ﴾ لك بالنصرة عليهم والغلبة.
وروي أنها لما نزلت جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الأنصار فقال : " إنكم ستجدون بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني " يعني أني أُمرت في هذه الآية بالصبر على ما سامتني الكفرة فصبرت فاصبروا أنتم على ما يسومكم الأمراء الجورة »، قال أنس : فلم نصبر. وروي أنّ أبا قتادة تخلف عن تلقي معاوية حين قدم المدينة وقد تلقته الأنصار، ثم دخل عليه من بعد، فقال له : ما لك لم تتلقنا ؟ قال : لم تكن عندنا دواب. قال : فأين النواضح ؟ قال : قطعناها في طلبك وطلب أبيك يوم بدر، وقال صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الأنصار، إنكم ستلقون بعدي أثرة " قال معاوية : فماذا قال : قال :«فاصبروا حتى تلقوني » قال فاصبر. قال : إذن نصبر. فقال عبد الرحمن بن حسان :
أَلاَ أبْلِغْ مُعَاوِيَةَ بْنَ حَرْب ***أَمِيرَ الظّالِمِينَ نَثَا كَلاَمِي
بِأَنّا صَابِرُونَ فَمُنْظِرُوكُم ***إلَى يَوْمِ التَّغَابُنِ وَالْخِصَامِ
Icon