تفسير سورة سورة يونس من كتاب التفسير الوسيط
المعروف بـالتفسير الوسيط لطنطاوي
.
لمؤلفه
محمد سيد طنطاوي
.
المتوفي سنة 1431 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.وبعد : فهذا تفسير وسيط لسورة " يونس " –عليه السلام- حاولت فيه أن أكشف عن بعض ما اشتملت عليه السورة الكريمة من توجيهات سامية وآداب عالية، وهدايات جامعة وإرشادات حكيمة، وحجج باهرة، تقذف حقها على باطل الضالين فتدمغه فإذا هو زاهق..
وقد رأيت من الخير قبل أن أبدأ في تفسيرها أن أسوق كلمة بين يديها، تكون بمثابة التعريف بها، وبمقاصدها الإجمالية.
وأحمد الله –تعالى- أجزل الحمد وأوفاه، أن وفقني قبل ذلك لتفسير سور : الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، التوبة "...
والله أسأل أن يجعل القرآن ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا، إنه أكرم مسئول، وأعظم مأمول.
وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
المؤلف د. محمد سيد طنطاوي
تمهيد بين يدي السورة
١- سورة يونس –عليه السلام- هي السورة العاشرة في ترتيب المصحف، فقد سبقتها سور : " الفاتحة، البقرة، آل عمران، النساء، المائدة، الأنعام، الأعراف، الأنفال، التوبة ".
٢- وكان نزولها بعد سورة " الإسراء ".
٣- وعدد آياتها : تسع ومائة آية عند الجمهور. وفي المصحف الشامي مائة وعشر آيات.
٤- وسميت بهذا الاسم تكريما ليونس –عليه السلام- ولقومه الذين آمنوا به واتبعوه قبل أن ينزل بهم العذاب، وفي ذلك تقول السورة الكريمة :[ فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين ]( ١ ).
٥- وسورة يونس من السور المكية، وعلى هذا سار المحققون من العلماء.
وقيل إنها مكية سوى الآية الأربعين منها وهي قوله –تعالى- [ ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين ] والآيتين الرابعة والتسعين، والخامسة والتسعين وهما قوله –تعالى- :[ فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك، فاسأل الذين يقرأون الكتاب من قبلك، لقد جاءك الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين ].
قال صاحب المنار : وقال السيوطي في الإتقان : استثنى منها الآيات ٤٠، ٩٤، ٩٥، فقيل إنها مدنية نزلت في اليهود. وقيل : من أولها إلى رأس أربعين آية مكي، والباقي مدني، حكاه ابن الفرس والسخاوي في جمال القراء.
ثم قال صاحب المنار : وأقول إن موضوع السورة لا يقبل هذا من جهة الدراية، وهو مما لم تثبت به رواية، وكون المراد بالذين يقرأون الكتاب في الآية ( ٩٤ ) اليهود لا يقتضى أن تكون نزلت بالمدينة، وبيان ذلك من وجهين :
أحدهما : أن المراد بالشك فيها الفرض لا وقوع الشك حقيقة، ولذلك قال الرسول صلى الله عليه وسلم : " لا أشك ولا أسأل "، وهو مرسل يؤيده قول ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن البصري.
وثانيهما : أن هذا المعنى نزل في سورة مكية أخرى، كقوله –تعالى- في سورة الإسراء :[ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم ]( ٢ ).
وقوله –سبحانه- في سورة الأنبياء :[ فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ]( ٣ ).
والذي تطمئن إليه النفس، أن سورة يونس جميعها مكية، كما قال المحققون من العلماء، لأن الذين قالوا بوجود آية أو آيات مدنية فيها لم يأتوا برواية صحيحة تصلح مستندا لهم، ولأن السورة الكريمة من مطلعها إلى نهايتها تشاهد فيها سمات القرآن المكي واضحة جلية، فهي تهتم بإثبات وحدانية الله، وبإثبات صدق النبي صلى الله عليه وسلم وبإثبات أن هذا القرآن من عند الله، وأن البعث حق، وأن ما أورده المشركون من شبهات حول الدعوة الإسلامية، قد تولت السورة الكريمة دحضه بأسلوب منطقي رصين..
والذي يطالع هذه السورة الكريمة بتدبر وخشوع، يراها في مطلعها تتحدث عن سمو القرآن الكريم في هدايته وإحكامه، وعن موقف المشركين من النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته، وعن الأدلة على وحدانية الله وقدرته.
قال –تعالى- :[ الر. تلك آيات الكتاب الحكيم. أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم، أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم، قال الكافرون إن هذا لساحر مبين ].
ثم نراها في الربع الثاني منها تصور بأسلوب حكيم طبيعة الإنسان فتقول [ وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسّه، كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون ] الآية ١٢.
ثم تحكي مصارع الظالمين، وأقوالهم الفاسدة، ورد القرآن عليهم فتقول :[ ولقد أهلكنا القرون من قبلكم لما ظلموا، وجاءتهم رسلهم بالبينات، وما كانوا ليؤمنوا كذلك نجزي القوم المجرمين. ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون ].
وبعد أن تمضي السورة الكريمة في دحض أقوال المشركين، وفي بيان الطبائع البشرية، نراها في مطلع الربع الثالث. تصور لنا حسن عاقبة المتقين، وسوء عاقبة الضالين، فتقول :[ والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم. للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون، والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة يمثلها وترهقهم ذلة ما لهم من الله من عاصم، كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ].
ثم تأمر السورة الكريمة النبي صلى الله عليه وسلم أن يسأل المشركين بأسلوب توبيخي عمن يرزقهم من السموات والأرض، وعمن يبدأ الخلق ثم يعيده، وعمن يهدي إلى الحق، فتقول :[ قل من يرزقكم من السماء والأرض أم من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر، فسيقولون الله، فقل أفلا تتقون. فذلكم الله ربكم الحق فإذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون ].
وبعد أن تتحدى السورة الكريمة المشركين أن يأتوا بسورة من مثل القرآن الكريم. وتعلن عن عجزهم على رءوس الأشهاد، تأخذ في تسلية الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تصوير جانب من أحوالهم في حياتهم وبعد مماتهم فتقول :
[ بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله، كذلك كذب الذين من قبلهم فانظر كيف كان عاقبة الظالين. ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين. وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريء مما تعملون.. ].
ثم نراها في الربع الرابع توجه نداء إلى الناس كافة تدعوهم فيه إلى الإقبال على ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من مواعظ فيها الشفاء لما في الصدور، وفيها الهداية لما في النفوس فنقول :
[ يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين. قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ].
ثم تسوق جانبا من مظاهر قدر الله النافذة، وعلمه المحيط بكل شيء، فتقول :[ وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن، ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه، وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين ].
وفي مطلع الربع الخامس منها تحكي لنا جانبا من قصة نوح –عليه السلام- مع قومه، وكيف أنه نصحهم، وذكرهم بآيات الله، ولكنهم لم يستمعوا إليه، فكانت عاقبتهم الإغراق بالطوفان قال –تعالى- :
[ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف، وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا فانظر كيف كان عاقبة المنذرين ].
ثم تحكي لنا جانبا من قصة موسى –عليه السلام- مع فرعون، ومن المحاورات، والمجادلات التي دارت بينهما، ومن الدعوات المستجابة التي توجه بها موسى إلى خالقه، فتقول :[ وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، ربنا ليضلوا عن سبيلك، ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. قال قد أجيبت دعوتكا فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ].
ثم نراها في الربع السادس والأخير منها، تحكي لنا ما قاله فرعون عندما أدركه الغرق، كما تخبرنا عن النهاية الطيبة التي لقوم يونس –عليه السلام- بسبب إيمانهم، ثم تسوق ألوانا من مظاهر قدرة الله، ومن حكمه العادل بين عباده، ومن رعايته لأوليائه ورسله فتقول :[ ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين ].
ثم تختم السورة الكريمة بتوجيه نداء إلى الناس تبين لهم فيه أن من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه، وأن من ضل فإنما يضل عليها فتقول :[ قل يأيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها، وما أنا عليكم بوكيل. واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين ].
***
تلك أهم المقاصد الإجمالية التي اشتملت عليها السورة الكريمة، ومنها نرى بوضوح أن السورة الكريمة قد عنيت بارزة بإثبات وحدانية الله وقدرته النافذة، وعلمه المحيط بكل شيء، تارة عن طريق مخلوقاته التي يشاهدونها كما في قوله –تعالى- :[ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب... ].
وتارة عن طريق اعترافهم بأن الله وحده هو خالقهم ورازقهم ومدبر أمرهم كما في قوله –تعالى- :[ قل من يرزقكم من السماء والأرض، أم من يملك السمع والأبصار، ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون ].
وتارة عن طريق لجوئهم إليه وحده لاسيما عند الشدائد والمحن، كما حدث من فرعون عندما أدركه الغرق.
كذلك نرى السورة الكريمة قد عنيت بدعوة الناس إلى التدبر والتفكر وإلى الاعتبار بمصارع الظالمين، وإلى عدم التعلق بزخرف الحياة الدنيا..
[ إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله في السموات والأرض لآيات لقوم يتقون. إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها، والذين هم عن آياتنا غافلون، أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون ].
كذلك نرى السورة الكريمة قد اهتمت بالرد على الشبهات التي أثارها المشركون حول القرآن الكريم، وحول البعث وما فيه من ثواب وعقاب...
فأثبتت أن هذا القرآن من عند الله، وتحدتهم أن يأتوا بسورة من مثله فقالت :[ أم يقولون افتراء، قل فأتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين ].
كما أثبتت أن يوم القيامة حق، وأنهم لن ينجيهم من عذاب الله في ذلك اليوم ندمهم أو ما يقدمونه من فداء فقالت :[ ولو أن لكل نفس ظلمت ما في الأرض لافتدت به، وأسروا الندامة لما رأوا العذاب، وقضى بينهم بالقسط وهم لا يظلمون ].
هذا، والسورة الكريمة بعد كل ذلك تمتاز بأنها قد عرضت ما عرضت من هدايات وتوجيهات بأسلوب بليغ مؤثر، تقشعر منه الجلود، وتلين منه القلوب، وتخشع له النفوس.. مما يدل على أن هذا القرآن من عند الله. ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
د. محمد سيد طنطاوي
١ - الآية ٩٨..
٢ - الآية ١٠١..
٣ - الآية ٧ تفسير المنار ج١١ ص١٤١ الطبعة الرابعة – مكتبة القاهرة..
٢ - الآية ١٠١..
٣ - الآية ٧ تفسير المنار ج١١ ص١٤١ الطبعة الرابعة – مكتبة القاهرة..
ﰡ
التفسير قال الله- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ٢]
سورة يونس من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي.
وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد، وتارة مركبة من حرفين، أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة.
فالسور التي افتتحت بحرف واحد ثلاثة، وهي سورة: ص، ق، ن.
والسور التي افتتحت بحرفين تسعة، وهي: طه، طس، يس، وحم في ست سور، هي:
غافر، فصلت، الزخرف. الدخان، الجاثية، الأحقاف.
والسور التي بدئت بثلاثة أحرف، ثلاث عشرة سورة، وهي: ألم في ست سور هي:
البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، والر في خمس سور هي:
يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر، وطسم في سورتين هما: الشعراء، القصص.
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما: الأعراف، الرعد. وسورتان بدئتا بخمسة أحرف وهما: مريم، والشورى.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢)سورة يونس من السور التي افتتحت ببعض حروف التهجي.
وقد وردت هذه الفواتح تارة مفردة بحرف واحد، وتارة مركبة من حرفين، أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة.
فالسور التي افتتحت بحرف واحد ثلاثة، وهي سورة: ص، ق، ن.
والسور التي افتتحت بحرفين تسعة، وهي: طه، طس، يس، وحم في ست سور، هي:
غافر، فصلت، الزخرف. الدخان، الجاثية، الأحقاف.
والسور التي بدئت بثلاثة أحرف، ثلاث عشرة سورة، وهي: ألم في ست سور هي:
البقرة، آل عمران، العنكبوت، الروم، لقمان، السجدة، والر في خمس سور هي:
يونس، هود، يوسف، إبراهيم، الحجر، وطسم في سورتين هما: الشعراء، القصص.
وهناك سورتان بدئتا بأربعة أحرف وهما: الأعراف، الرعد. وسورتان بدئتا بخمسة أحرف وهما: مريم، والشورى.
12
فيكون مجموع السور التي افتتحت بالحروف المقطعة تسعا وعشرين سورة.
هذا، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين:
الرأى الأول يرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس- في إحدى الروايات عنه- كما ذهب إليه الشعبي، وسفيان الثوري، وغيرهم من العلماء. فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور.
ويروى عن ابن عباس انه قال: عجزت العلماء عن إدراكها. وعن على- رضى الله عنه- قال: «إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي» وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال: «سر الله فلا تطلبوه».
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأى، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس، لأنه من المتشابه، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.
وقد أجيب عن ذلك، بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس، فالرسول ﷺ كان يفهم المراد منها، وكذلك بعض أصحابه المقربين، ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل السور.
أما الرأى الثاني فيرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى:
١- أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبي ﷺ «من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح». وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها، كسورة «ص» وسورة «يس».
ولا يخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، والغرض من التسمية رفع الاشتباه.
هذا، وقد وقع خلاف بين العلماء في المعنى المقصود بتلك الحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، ويمكن إجمال خلافهم في رأيين رئيسين:
الرأى الأول يرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها غير معروف، فهي من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
وإلى هذا الرأى ذهب ابن عباس- في إحدى الروايات عنه- كما ذهب إليه الشعبي، وسفيان الثوري، وغيرهم من العلماء. فقد أخرج ابن المنذر وغيره عن الشعبي أنه سئل عن فواتح السور فقال: إن لكل كتاب سرا، وإن سر هذا القرآن في فواتح السور.
ويروى عن ابن عباس انه قال: عجزت العلماء عن إدراكها. وعن على- رضى الله عنه- قال: «إن لكل كتاب صفوة، وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي» وفي رواية أخرى عن الشعبي أنه قال: «سر الله فلا تطلبوه».
ومن الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الرأى، أنه إذا كان الخطاب بهذه الفواتح غير مفهوم للناس، لأنه من المتشابه، فإنه يترتب على ذلك أنه كالخطاب بالمهمل، أو مثل ذلك كمثل المتكلم بلغة أعجمية مع أناس عرب لا يفهمونها.
وقد أجيب عن ذلك، بأن هذه الألفاظ لم ينتف الإفهام عنها عند كل الناس، فالرسول ﷺ كان يفهم المراد منها، وكذلك بعض أصحابه المقربين، ولكن الذي ننفيه أن يكون الناس جميعا فاهمين لمعنى هذه الحروف المقطعة في أوائل السور.
أما الرأى الثاني فيرى أصحابه: أن المعنى المقصود منها معلوم، وأنها ليست من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه.
وأصحاب هذا الرأى قد اختلفوا فيما بينهم في تعيين هذا المعنى المقصود على أقوال كثيرة من أهمها ما يأتى:
١- أن هذه الحروف أسماء للسور، بدليل قول النبي ﷺ «من قرأ حم السجدة حفظ إلى أن يصبح». وبدليل اشتهار بعض السور بالتسمية بها، كسورة «ص» وسورة «يس».
ولا يخلو هذا القول من الضعف، لأن كثيرا من السور قد افتتحت بلفظ واحد من هذه الفواتح، والغرض من التسمية رفع الاشتباه.
13
٢- وقيل: إن هذه الحروف قد جاءت هكذا فاصلة للدلالة على انقضاء سورة، وابتداء أخرى.
٣- وقيل: إنها حروف مقطعة، بعضها من أسماء الله- تعالى- وبعضها من صفاته فمثلا «ألم» أصلها أنا الله أعلم.
٤- وقيل: إنها اسم الله الأعظم، الى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال. والتي أوصلها السيوطي في كتابه «الإتقان» إلى أكثر من عشرين قولا.
٥- ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور، للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها. فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة.
وفضلا عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيترتب على ذلك أن يسمعوا حكما، وهدايات قد تكون سببا في إيمانهم. ولعل مما يشهد بصحة هذا الرأى: أن الآيات التي تلى هذه الحروف المقطعة، تتحدث عن القرآن وعن كونه معجزة للرسول ﷺ في أغلب المواضع.
ومن ذلك قوله- تعالى-: في أول سورة البقرة الم، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وقوله سبحانه في أول سورة هود: الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ وقوله- سبحانه- في أول سورة إبراهيم: الر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
وهكذا نرى أن كثيرا من السور التي افتتحت بالحروف المقطعة، قد أعقبت هذا الافتتاح بالحديث الصريح أو الضمنى عن القرآن الكريم، وأن هذه السور إذا تأملتها من أولها إلى آخرها ترى من أهدافها الاساسية إثبات وحدانية الله، وإثبات صحة الرسالة المحمدية، وإثبات أن هذا القرآن الذي هو معجزة الرسول الخالدة- منزل من عند الله- تعالى-.
هذه خلاصة لآراء العلماء في المراد بالحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع- مثلا- إلى كتاب «الإتقان» للسيوطي، وإلى كتاب «البرهان». للزركشى، وإلى تفسير الآلوسى.
٣- وقيل: إنها حروف مقطعة، بعضها من أسماء الله- تعالى- وبعضها من صفاته فمثلا «ألم» أصلها أنا الله أعلم.
٤- وقيل: إنها اسم الله الأعظم، الى غير ذلك من الأقوال التي لا تخلو من مقال. والتي أوصلها السيوطي في كتابه «الإتقان» إلى أكثر من عشرين قولا.
٥- ولعل أقرب الأقوال إلى الصواب أن يقال: إن هذه الحروف المقطعة قد وردت في افتتاح بعض السور، للإشعار بأن هذا القرآن الذي تحدى الله به المشركين هو من جنس الكلام المركب من هذه الحروف التي يعرفونها، ويقدرون على تأليف الكلام منها. فإذا عجزوا عن الإتيان بسورة من مثله، فذلك لبلوغه في الفصاحة والحكمة مرتبة يقف فصحاؤهم وبلغاؤهم دونها بمراحل شاسعة.
وفضلا عن ذلك فإن تصدير بعض السور بمثل هذه الحروف المقطعة يجذب أنظار المعرضين عن استماع القرآن حين يتلى عليهم إلى الإنصات والتدبر لأنه يطرق أسماعهم في أول التلاوة ألفاظ غير مألوفة في مجاري كلامهم، وذلك مما يلفت أنظارهم ليتبينوا ما يراد منها، فيترتب على ذلك أن يسمعوا حكما، وهدايات قد تكون سببا في إيمانهم. ولعل مما يشهد بصحة هذا الرأى: أن الآيات التي تلى هذه الحروف المقطعة، تتحدث عن القرآن وعن كونه معجزة للرسول ﷺ في أغلب المواضع.
ومن ذلك قوله- تعالى-: في أول سورة البقرة الم، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. وقوله سبحانه في أول سورة هود: الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ وقوله- سبحانه- في أول سورة إبراهيم: الر. كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ.
وهكذا نرى أن كثيرا من السور التي افتتحت بالحروف المقطعة، قد أعقبت هذا الافتتاح بالحديث الصريح أو الضمنى عن القرآن الكريم، وأن هذه السور إذا تأملتها من أولها إلى آخرها ترى من أهدافها الاساسية إثبات وحدانية الله، وإثبات صحة الرسالة المحمدية، وإثبات أن هذا القرآن الذي هو معجزة الرسول الخالدة- منزل من عند الله- تعالى-.
هذه خلاصة لآراء العلماء في المراد بالحروف المقطعة التي افتتحت بها بعض السور القرآنية، ومن أراد مزيدا لذلك فليرجع- مثلا- إلى كتاب «الإتقان» للسيوطي، وإلى كتاب «البرهان». للزركشى، وإلى تفسير الآلوسى.
14
ثم قال- تعالى-: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ.
تِلْكَ اسم إشارة والمشار إليه الآيات. والمراد بها آيات القرآن الكريم. ويندرج فيها آيات السورة التي معنا.
والكتاب: مصدر كتب كالكتب، وأصل الكتب: ضم أديم إلى أديم بالخياطة، واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط والمراد به القرآن الكريم على الصحيح.
قال الآلوسى: «وأما حمل الكتاب على الكتب التي خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما، كما أخرجه ابن أبى حاتم عن قتادة فهو في غاية البعد «١» ».
والحكيم- بزنة فعيل- مأخوذ من الفعل حكم بمعنى منع. تقول حكمت الفرس أى وضعت الحكمة في فمها لمنعها من الجموح والنفور.
والمقصود أن هذا الكتاب ممتنع عن الفساد، ومبرأ من الخلل والتناقض والاختلاف.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: «وفي وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه منها: أن الحكيم هو ذو الحكمة، بمعنى اشتماله على الحكمة- فيكون الوصف للنسبة كلابن وتامر- ومنها أن الحكيم بمعنى الحاكم، بدليل قوله- تعالى-: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ومنها أن الحكيم بمعنى المحكم والإحكام معناه المنع من الفساد، فيكون المراد منه أنه لا تغيره الدهور أو المراد منه براءته من الكذب والتناقض «٢» ».
والمعنى: تلك الآيات السامية، والمنزلة عليك يا محمد، هي آيات الكتاب، المشتمل على الحكمة والصواب المحفوظ من كل تحريف أو تبديل الناطق بكل ما يوصل إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
وصحت الإشارة إلى آيات الكتاب مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها، لأن الإشارة إلى جميعها، حيث كانت بصدد الإنزال، ولأن الله- تعالى- قد وعد رسوله ﷺ بنزول القرآن عليه، كما في قوله: - تعالى-: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ووعد الله- تعالى- لا يتخلف.
ثم بين- سبحانه- موقف المشركين من دعوته فقال: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ..
روى الضحاك عن ابن عباس قال: لما بعث الله- تعالى- رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم
تِلْكَ اسم إشارة والمشار إليه الآيات. والمراد بها آيات القرآن الكريم. ويندرج فيها آيات السورة التي معنا.
والكتاب: مصدر كتب كالكتب، وأصل الكتب: ضم أديم إلى أديم بالخياطة، واستعمل عرفا في ضم الحروف بعضها إلى بعض بالخط والمراد به القرآن الكريم على الصحيح.
قال الآلوسى: «وأما حمل الكتاب على الكتب التي خلت قبل القرآن من التوراة والإنجيل وغيرهما، كما أخرجه ابن أبى حاتم عن قتادة فهو في غاية البعد «١» ».
والحكيم- بزنة فعيل- مأخوذ من الفعل حكم بمعنى منع. تقول حكمت الفرس أى وضعت الحكمة في فمها لمنعها من الجموح والنفور.
والمقصود أن هذا الكتاب ممتنع عن الفساد، ومبرأ من الخلل والتناقض والاختلاف.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: «وفي وصف الكتاب بكونه حكيما وجوه منها: أن الحكيم هو ذو الحكمة، بمعنى اشتماله على الحكمة- فيكون الوصف للنسبة كلابن وتامر- ومنها أن الحكيم بمعنى الحاكم، بدليل قوله- تعالى-: وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ومنها أن الحكيم بمعنى المحكم والإحكام معناه المنع من الفساد، فيكون المراد منه أنه لا تغيره الدهور أو المراد منه براءته من الكذب والتناقض «٢» ».
والمعنى: تلك الآيات السامية، والمنزلة عليك يا محمد، هي آيات الكتاب، المشتمل على الحكمة والصواب المحفوظ من كل تحريف أو تبديل الناطق بكل ما يوصل إلى السعادة الدنيوية والأخروية.
وصحت الإشارة إلى آيات الكتاب مع أنها لم تكن قد نزلت جميعها، لأن الإشارة إلى جميعها، حيث كانت بصدد الإنزال، ولأن الله- تعالى- قد وعد رسوله ﷺ بنزول القرآن عليه، كما في قوله: - تعالى-: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ووعد الله- تعالى- لا يتخلف.
ثم بين- سبحانه- موقف المشركين من دعوته فقال: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ..
روى الضحاك عن ابن عباس قال: لما بعث الله- تعالى- رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٥٨ الطبعة المنيرية.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٥ طبعة عبد الرحمن محمد سنة ١٣٥٧ هـ سنة ١٩٣٧ م.
(٢) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٥ طبعة عبد الرحمن محمد سنة ١٣٥٧ هـ سنة ١٩٣٧ م.
15
أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، وقالوا الله أعظم من أن يكون رسوله بشرا مثل محمد، فأنزل الله- تعالى-: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً... الآية «١».
والهمزة في قوله «أكان» لإنكار تعجبهم، ولتعجب السامعين منه لوقوعه في غير موضعه.
وقوله لِلنَّاسِ جار ومجرور حال من قوله عَجَباً والمراد بهم مشركو مكة ومن لف لفهم في إنكار ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: عَجَباً خبر كان، والعجب والتعجيب- استعظام أمر خفى سببه.
وقوله: أَنْ أَوْحَيْنا في تأويل مصدر أى: إيحاؤنا، وهو اسم كان. والوحى:
الإعلام في خفاء، والمقصود به ما أوحاه الله- تعالى- إلى نبيه ﷺ من قرآن وغيره.
وقوله: إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أى إلى بشر من جنسهم يعرفهم ويعرفونه.
وقوله: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ الإنذار إخبار معه تخويف في مدة تتسع التحفظ من المخوف منه، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار، وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله- تعالى-:
والمراد بالناس هنا: جميع الذين يمكنه ﷺ أن يبلغهم دعوته.
وقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا البشارة: إخبار معه ما يسر فهو أخص من الخبر، سمى بذلك لأن أثره يظهر على البشرة التي هي ظاهر الجلد.
وقوله: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أى أن لهم سابقة ومنزلة رفيعة عند ربهم.
وأصل القدم العضو المخصوص. وأطلقت على السبق، لكونها سببه وآلته، فسمى المسبب باسم السبب من باب المجاز المرسل، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد.
وأصل الصدق أن يكون في الأقوال، ويستعمل أحيانا في الأفعال فيقال: فلان صدق في القتال، إذا وفاه حقه، فيعبر بصفة الصدق عن كل فعل فاضل.
وإضافة القدم إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة كقولهم: مسجد الجامع، والأصل قدم صدق. أى محققة مقررة. وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق. ثم جعل الصدق كأنه صاحبها.
ويجوز أن تكون إضافة القدم إلى الصدق من باب إضافة المسبب إلى السبب، وفي ذلك
والهمزة في قوله «أكان» لإنكار تعجبهم، ولتعجب السامعين منه لوقوعه في غير موضعه.
وقوله لِلنَّاسِ جار ومجرور حال من قوله عَجَباً والمراد بهم مشركو مكة ومن لف لفهم في إنكار ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: عَجَباً خبر كان، والعجب والتعجيب- استعظام أمر خفى سببه.
وقوله: أَنْ أَوْحَيْنا في تأويل مصدر أى: إيحاؤنا، وهو اسم كان. والوحى:
الإعلام في خفاء، والمقصود به ما أوحاه الله- تعالى- إلى نبيه ﷺ من قرآن وغيره.
وقوله: إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أى إلى بشر من جنسهم يعرفهم ويعرفونه.
وقوله: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ الإنذار إخبار معه تخويف في مدة تتسع التحفظ من المخوف منه، فإن لم تتسع له فهو إعلام وإشعار لا إنذار، وأكثر ما يستعمل في القرآن في التخويف من عذاب الله- تعالى-:
والمراد بالناس هنا: جميع الذين يمكنه ﷺ أن يبلغهم دعوته.
وقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا البشارة: إخبار معه ما يسر فهو أخص من الخبر، سمى بذلك لأن أثره يظهر على البشرة التي هي ظاهر الجلد.
وقوله: أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ أى أن لهم سابقة ومنزلة رفيعة عند ربهم.
وأصل القدم العضو المخصوص. وأطلقت على السبق، لكونها سببه وآلته، فسمى المسبب باسم السبب من باب المجاز المرسل، كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد.
وأصل الصدق أن يكون في الأقوال، ويستعمل أحيانا في الأفعال فيقال: فلان صدق في القتال، إذا وفاه حقه، فيعبر بصفة الصدق عن كل فعل فاضل.
وإضافة القدم إلى الصدق من إضافة الموصوف إلى الصفة كقولهم: مسجد الجامع، والأصل قدم صدق. أى محققة مقررة. وفيه مبالغة لجعلها عين الصدق. ثم جعل الصدق كأنه صاحبها.
ويجوز أن تكون إضافة القدم إلى الصدق من باب إضافة المسبب إلى السبب، وفي ذلك
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٦ طبعة عيسى الحلبي.
16
تنبيه إلى أن ما نالوه من منازل رفيعة عند ربهم. إنما هو بسبب صدقهم في أقوالهم وأفعالهم ونياتهم.
قال الإمام ابن جرير ما ملخصه: واختلف أهل التأويل في معنى قوله: قَدَمَ صِدْقٍ فقال بعضهم معناه: أن لهم أجرا حسنا بسبب ما قدموه من عمل صالح..
وقال آخرون معناه: أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة.
وقال آخرون: معنى ذلك أن محمدا ﷺ شفيع لهم.
ثم قال: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال معناه: أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستحقون بها منه الثواب، وذلك أنه محكي عن العرب قولهم: هؤلاء أهل القدم في الإسلام. أى هؤلاء الذين قدموا فيه خيرا، فكان لهم فيه تقديم.
ويقال: لفلان عندي قدم صدق وقدم سوء، وذلك بسبب ما قدم إليه من خير أو شر، ومنه قول حسان بن ثابت- رضى الله عنه-:
ومعنى الآية الكريمة: أبلغ الجهل وسوء التفكير بمشركي مكة ومن على شاكلتهم، أن كان إيحاؤنا إلى رجل منهم يعرفهم ويعرفونه لكي يبلغهم الدين الحق، أمرا عجبا، يدعوهم إلى الدهشة والاستهزاء بالموحى إليه ﷺ حتى لكأن النبوة في زعمهم تتنافى مع البشرية.
إن الذي يدعو الى العجب حقا هو ما تعجبوا منه، لأن الله- تعالى- اقتضت حكمته أن يجعل رسله الى الناس من البشر، لأن كل جنس يأنس لجنسه، وينفر من غيره، هو- سبحانه- أعلم حيث يجعل رسالته.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: فما معنى اللام في قوله أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً وما الفرق بينه وبين قولك: كان عند الناس عجبا؟
قلت: معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها. ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم. وليس في «عند الناس» هذا المعنى.
والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر. وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم. فقد كانوا يقولون: العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب. وأن يذكر لهم البعث. وينذر بالنار ويبشر بالجنة. وكل واحد من هذه الأمور ليس
قال الإمام ابن جرير ما ملخصه: واختلف أهل التأويل في معنى قوله: قَدَمَ صِدْقٍ فقال بعضهم معناه: أن لهم أجرا حسنا بسبب ما قدموه من عمل صالح..
وقال آخرون معناه: أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة.
وقال آخرون: معنى ذلك أن محمدا ﷺ شفيع لهم.
ثم قال: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب قول من قال معناه: أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستحقون بها منه الثواب، وذلك أنه محكي عن العرب قولهم: هؤلاء أهل القدم في الإسلام. أى هؤلاء الذين قدموا فيه خيرا، فكان لهم فيه تقديم.
ويقال: لفلان عندي قدم صدق وقدم سوء، وذلك بسبب ما قدم إليه من خير أو شر، ومنه قول حسان بن ثابت- رضى الله عنه-:
لنا القدم العليا إليك وخلفنا | لأولنا في طاعة الله تابع «١» |
إن الذي يدعو الى العجب حقا هو ما تعجبوا منه، لأن الله- تعالى- اقتضت حكمته أن يجعل رسله الى الناس من البشر، لأن كل جنس يأنس لجنسه، وينفر من غيره، هو- سبحانه- أعلم حيث يجعل رسالته.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: فما معنى اللام في قوله أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً وما الفرق بينه وبين قولك: كان عند الناس عجبا؟
قلت: معناه أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها. ونصبوه علما لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم. وليس في «عند الناس» هذا المعنى.
والذي تعجبوا منه أن يوحى إلى بشر. وأن يكون رجلا من أفناء رجالهم دون عظيم من عظمائهم. فقد كانوا يقولون: العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب. وأن يذكر لهم البعث. وينذر بالنار ويبشر بالجنة. وكل واحد من هذه الأمور ليس
(١) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ٥٨. طبعة دار المعرفة ببيروت.
17
بعجب، لأن الرسل المبعوثين إلى الأمم لم يكونوا إلا بشرا مثلهم.
وقال الله- تعالى-: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «١».
وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب- أيضا- لأن الله- تعالى- إنما يختار من استحق الاختيار لجمعه أسباب الاستقلال لما اختير له من النبوة. والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء قال- تعالى-: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى «٢».
والبعث للجزاء على الخير والشر. هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجبا إنما العجب والمنكر في العقول، تعطيل الجزاء «٣».
وقدم- سبحانه- خبر كان وهو عَجَباً على اسمها وهو أَنْ أَوْحَيْنا. لأن المقصود بالإنكار في الآية إنما هو تعجبهم ودهشتهم من أن يكون الرسول بشرا.
وقدم- سبحانه- الإنذار على التبشير، لأن التخلية مقدمة على التحلية، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي.
ولم يذكر المنذر به، لتهويله وتعميمه حتى يزداد خوفهم وإقبالهم على الدين الحق، الذي يؤدى اتباعه إلى النجاة من العذاب.
وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم وحدهم المستحقون له، بخلاف الإنذار فإنه يشمل المؤمن والكافر. ولذا قال- سبحانه- أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أى جميع الناس.
وذكر- سبحانه- في جانب التبشير المبشر به- وهو حصولهم على المنزلة الرفيعة عند ربهم- لكي تقوى رغبتهم في طاعته. ومحبتهم لعبادته، وبذلك ينالون ما بشرهم به.
ثم وضح- سبحانه- ما قاله الكافرون عند مجيء الرسول ﷺ بدعوته فقال:
قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ.
أى: قال الكافرون المتعجبون من أن يكون ﷺ رسولا إليهم، إن هذا الإنسان الذي يدعى النبوة لساحر بيّن السحر واضحه. حيث إنه استطاع بقوة تأثيره في النفوس أن يفرق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه.
وقال الله- تعالى-: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «١».
وإرسال الفقير أو اليتيم ليس بعجب- أيضا- لأن الله- تعالى- إنما يختار من استحق الاختيار لجمعه أسباب الاستقلال لما اختير له من النبوة. والغنى والتقدم في الدنيا ليس من تلك الأسباب في شيء قال- تعالى-: وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى «٢».
والبعث للجزاء على الخير والشر. هو الحكمة العظمى فكيف يكون عجبا إنما العجب والمنكر في العقول، تعطيل الجزاء «٣».
وقدم- سبحانه- خبر كان وهو عَجَباً على اسمها وهو أَنْ أَوْحَيْنا. لأن المقصود بالإنكار في الآية إنما هو تعجبهم ودهشتهم من أن يكون الرسول بشرا.
وقدم- سبحانه- الإنذار على التبشير، لأن التخلية مقدمة على التحلية، وإزالة ما لا ينبغي مقدم في الرتبة على فعل ما ينبغي.
ولم يذكر المنذر به، لتهويله وتعميمه حتى يزداد خوفهم وإقبالهم على الدين الحق، الذي يؤدى اتباعه إلى النجاة من العذاب.
وخص التبشير بالمؤمنين لأنهم وحدهم المستحقون له، بخلاف الإنذار فإنه يشمل المؤمن والكافر. ولذا قال- سبحانه- أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ أى جميع الناس.
وذكر- سبحانه- في جانب التبشير المبشر به- وهو حصولهم على المنزلة الرفيعة عند ربهم- لكي تقوى رغبتهم في طاعته. ومحبتهم لعبادته، وبذلك ينالون ما بشرهم به.
ثم وضح- سبحانه- ما قاله الكافرون عند مجيء الرسول ﷺ بدعوته فقال:
قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ.
أى: قال الكافرون المتعجبون من أن يكون ﷺ رسولا إليهم، إن هذا الإنسان الذي يدعى النبوة لساحر بيّن السحر واضحه. حيث إنه استطاع بقوة تأثيره في النفوس أن يفرق بين الابن وأبيه، والأخ وأخيه.
(١) سورة الإسراء الآية ٩٥.
(٢) سورة «سبأ» الآية ٣٧.
(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٤. طبعة مصطفى الحلبي.
(٢) سورة «سبأ» الآية ٣٧.
(٣) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٤. طبعة مصطفى الحلبي.
18
وعلى هذه القراءة التي وردت عن ابن كثير والكوفيين تكون الإشارة إلى الرسول- صلى الله عليه وسلم.
وقرأ الباقون: إن هذا لسحر مبين أى: إن هذا القرآن لسحر واضح، لأنه خارق للعادة في جذبه النفوس إلى الايمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابو حيان ما ملخصه: «ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحرا ظاهر الفساد، لم يحتج إلى جواب، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة، وخلطتهم له، - وأنه لا علم له بالسحر- وقد أتاهم بعد بعثته بكتاب إلهى مشتمل على مصالح الدنيا والآخرة مع الفصاحة والبلاغة التي أعجزتهم...
وقولهم هذا هو دين الكفرة مع أنبيائهم. فقد قال فرعون وقومه في موسى- عليه السلام- إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ وقال قوم عيسى فيه عند ما جاءهم بالبينات هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد» «١».
وقال الآلوسى «وفي قولهم هذا اعتراف منهم بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر، نازل من حضرة خلاق القوى والقدر، ولكنهم يسمونه سحرا تماديا في العناد، كما هو شنشنة المكابر اللجوج، وشنشنة المفحم المحجوج» «٢».
وجاءت الجملة الكريمة بدون حرف عطف، لكونها استئنافا مبنيا على سؤال مقدر، فكأنه قيل: فماذا قالوا بعد هذا التعجب؟ فكان الجواب: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ.
ويرى الامام ابن جرير أن الآية فيها كلام محذوف، فقد قال: - رحمه الله-: «وفي الكلام حذف استغنى بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره، وتأويل الكلام: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم، فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم وبشرهم وأنذرهم قال المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله إن هذا الذي جاءنا به محمد ﷺ لسحر مبين» «٣».
وقد اشتملت جملة إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ على جملة من المؤكدات، للإشارة إلى رسوخهم في الكفر، وإلى أنهم مع وضوح الأدلة على صدق الرسول ﷺ لم يزدادوا إلا جحودا وعنادا، وصدق الله إذ يقول: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
وقرأ الباقون: إن هذا لسحر مبين أى: إن هذا القرآن لسحر واضح، لأنه خارق للعادة في جذبه النفوس إلى الايمان بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابو حيان ما ملخصه: «ولما كان قولهم فيما لا يمكن أن يكون سحرا ظاهر الفساد، لم يحتج إلى جواب، لأنهم يعلمون نشأته معهم بمكة، وخلطتهم له، - وأنه لا علم له بالسحر- وقد أتاهم بعد بعثته بكتاب إلهى مشتمل على مصالح الدنيا والآخرة مع الفصاحة والبلاغة التي أعجزتهم...
وقولهم هذا هو دين الكفرة مع أنبيائهم. فقد قال فرعون وقومه في موسى- عليه السلام- إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ وقال قوم عيسى فيه عند ما جاءهم بالبينات هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ ودعوى السحر إنما هي على سبيل العناد والجحد» «١».
وقال الآلوسى «وفي قولهم هذا اعتراف منهم بأن ما عاينوه خارج عن طوق البشر، نازل من حضرة خلاق القوى والقدر، ولكنهم يسمونه سحرا تماديا في العناد، كما هو شنشنة المكابر اللجوج، وشنشنة المفحم المحجوج» «٢».
وجاءت الجملة الكريمة بدون حرف عطف، لكونها استئنافا مبنيا على سؤال مقدر، فكأنه قيل: فماذا قالوا بعد هذا التعجب؟ فكان الجواب: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ.
ويرى الامام ابن جرير أن الآية فيها كلام محذوف، فقد قال: - رحمه الله-: «وفي الكلام حذف استغنى بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره، وتأويل الكلام: أكان للناس عجبا أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم، فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم وبشرهم وأنذرهم قال المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله إن هذا الذي جاءنا به محمد ﷺ لسحر مبين» «٣».
وقد اشتملت جملة إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ على جملة من المؤكدات، للإشارة إلى رسوخهم في الكفر، وإلى أنهم مع وضوح الأدلة على صدق الرسول ﷺ لم يزدادوا إلا جحودا وعنادا، وصدق الله إذ يقول: فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ.
(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٥ ص ١٢٣- طبعة مطبعة السعادة سنة ١٣٣٨ هـ.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٦٣.
(٣) تفسير ابن جرير ج ١١ ص ٦٠ طبعة بولاق سنة ١٣٢٧ هـ.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٦٣.
(٣) تفسير ابن جرير ج ١١ ص ٦٠ طبعة بولاق سنة ١٣٢٧ هـ.
19
ثم ساق- سبحانه- من مظاهر قدرته، ما يبطل تعجبهم فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣ الى ٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
قال الإمام الرازي ما ملخصه: «اعلم أنه- تعالى- لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحى والبعثة والرسالة ثم إنه- تعالى- أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد ألبتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم وينذرهم.. كان هذا الجواب إنما يتم بإثبات أمرين:
أحدهما: إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا، نافذ الحكم بالأمر والنهى.
والثاني: إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما.
فلا جرم أنه- سبحانه- ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.
أما الأول: وهو إثبات الألوهية فبقوله- تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ....
وأما الثاني: فهو إثبات المعاد والحشر والنشر بقوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً....
فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن، ونهاية الكمال» «١».
والمعنى: إن ربكم ومالك أمركم- الذي عجبتم من أن يرسل إليكم رسولا منكم هو الله الذي خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام أى أوقات.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣ الى ٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)
قال الإمام الرازي ما ملخصه: «اعلم أنه- تعالى- لما حكى عن الكفار أنهم تعجبوا من الوحى والبعثة والرسالة ثم إنه- تعالى- أزال ذلك التعجب بأنه لا يبعد ألبتة في أن يبعث خالق الخلق إليهم رسولا يبشرهم وينذرهم.. كان هذا الجواب إنما يتم بإثبات أمرين:
أحدهما: إثبات أن لهذا العالم إلها قاهرا قادرا، نافذ الحكم بالأمر والنهى.
والثاني: إثبات الحشر والنشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياء عن حصولهما.
فلا جرم أنه- سبحانه- ذكر في هذا الموضع ما يدل على تحقيق هذين المطلوبين.
أما الأول: وهو إثبات الألوهية فبقوله- تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ....
وأما الثاني: فهو إثبات المعاد والحشر والنشر بقوله: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً....
فثبت أن هذا الترتيب في غاية الحسن، ونهاية الكمال» «١».
والمعنى: إن ربكم ومالك أمركم- الذي عجبتم من أن يرسل إليكم رسولا منكم هو الله الذي خلق السموات والأرض في مقدار ستة أيام أى أوقات.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٨.
20
فالمراد من اليوم معناه اللغوي وهو مطلق الوقت.
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منها كألف سنة مما تعدون.
قال الآلوسى: «وقيل هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام، لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة، ولأنه تعريف لنا بما نعرفه» «١».
وقال بعض العلماء: «ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة، فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها، وإنما ذكرت لبيان حكمة التدبير والتقدير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية.
وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله، الذي لا مصدر لإدراكه إلا هذا المصدر، فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه، والمقصود بذكرها هو الإشارة الى حكمة التقدير والتدبير والنظام الذي يسير مع الكون من بدئه إلى منتهاه» «٢».
وقال سعيد بن جبير: كان الله قادرا على أن يخلق السموات والأرض في لمحة ولحظة.
ولكنه- سبحانه- خلقهن في ستة أيام، لكي يعلم عباده التثبت والتأنى في الأمور.
وقوله: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ معطوف على ما قبله، لتأكيد مزيد قدرته وعظمته- سبحانه-.
والاستواء من معانيه اللغوية الاستقرار، ومنه قوله- تعالى- وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ.
أى: استقرت، ومن معانيه- أيضا- الاستيلاء والقهر والسلطان، ومنه قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق أى: استولى عليه وعرش الله- كما قال الراغب- مما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم وليس كما تذهب إليه أوهام العامة، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له- تعالى الله عن ذلك- لا محمولا» «٣».
وعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن تلك الأيام من أيام الآخرة التي يوم منها كألف سنة مما تعدون.
قال الآلوسى: «وقيل هي مقدار ستة أيام من أيام الدنيا وهو الأنسب بالمقام، لما فيه من الدلالة على القدرة الباهرة بخلق هذه الأجرام العظيمة في مثل تلك المدة اليسيرة، ولأنه تعريف لنا بما نعرفه» «١».
وقال بعض العلماء: «ولا ندخل في تحديد هذه الأيام الستة، فهي لم تذكر هنا لنتجه إلى تحديد مداها ونوعها، وإنما ذكرت لبيان حكمة التدبير والتقدير في الخلق حسب مقتضيات الغاية من هذا الخلق، وتهيئته لبلوغ هذه الغاية.
وعلى أية حال فالأيام الستة غيب من غيب الله، الذي لا مصدر لإدراكه إلا هذا المصدر، فعلينا أن نقف عنده ولا نتعداه، والمقصود بذكرها هو الإشارة الى حكمة التقدير والتدبير والنظام الذي يسير مع الكون من بدئه إلى منتهاه» «٢».
وقال سعيد بن جبير: كان الله قادرا على أن يخلق السموات والأرض في لمحة ولحظة.
ولكنه- سبحانه- خلقهن في ستة أيام، لكي يعلم عباده التثبت والتأنى في الأمور.
وقوله: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ معطوف على ما قبله، لتأكيد مزيد قدرته وعظمته- سبحانه-.
والاستواء من معانيه اللغوية الاستقرار، ومنه قوله- تعالى- وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ.
أى: استقرت، ومن معانيه- أيضا- الاستيلاء والقهر والسلطان، ومنه قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق أى: استولى عليه وعرش الله- كما قال الراغب- مما لا يعلمه البشر على الحقيقة إلا بالاسم وليس كما تذهب إليه أوهام العامة، فإنه لو كان كذلك لكان حاملا له- تعالى الله عن ذلك- لا محمولا» «٣».
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٦٤.
(٢) تفسير في ظلال القرآن ج ١١ ص ١٧٦٢- طبعة دار الشروق. [.....]
(٣) المفردات في غريب القرآن ص ٣٢٩.
(٢) تفسير في ظلال القرآن ج ١١ ص ١٧٦٢- طبعة دار الشروق. [.....]
(٣) المفردات في غريب القرآن ص ٣٢٩.
21
وقد ذكر العرش في القرآن الكريم في إحدى وعشرين آية، وذكر الاستواء على العرش في سبع آيات.
أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة الى أنه صفة الله- تعالى- بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه- سبحانه- بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به فيجب الإيمان بها كما وردت وتفويض العلم بحقيقتها إلى الله- تعالى-.
فعن أم سلمة- رضي الله عنها- أنها قالت في تفسير قوله- تعالى- الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى: الكيف غير معقول، والاستواء مجهول، والإقرار به من الإيمان، والجحود به كفر.
وقال الإمام مالك: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وقال محمد بن الحسن: اتفق الفقهاء جميعا على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه.
وقال الإمام الرازي: «إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه».
وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرف هذه الصفة وأمثالها عن الظاهر لاستحالة حملها على ما يفيده ظاهر اللفظ، لأنه- سبحانه- مخالف للحوادث، ووجوب حملها على ما يليق به- سبحانه-.
وعليه فإن الاستواء هنا: كناية عن القهر والعظمة والغلبة والسلطان وقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ استئناف مسوق لتقرير عظمته- سبحانه- ولبيان حكمة استوائه على العرش.
والتدبير معناه: النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود.
والمراد به هنا: التقدير الجاري على وفق الحكمة التي اقتضتها إرادة الله ومشيئته.
والمراد بالأمر: ما يتعلق بأمور المخلوقات كلها من إنس وجن وغير ذلك من مخلوقاته التي لا تعد ولا تحصى.
أى أنه سبحانه يدبر أمر مخلوقاته تدبيرا حكيما، حسبما تقتضيه إرادته وعبر بالمضارع في قوله: يُدَبِّرُ للإشارة الى تجدد التدبير واستمراره، إذ أنه- سبحانه- لا يهمل شئون خلقه.
وقوله: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ استئناف آخر مسوق لبيان تفرده في تدبيره وأحكامه.
والشفيع مأخوذ من الشفع وهو ضم الشيء إلى مثله، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو
أما الاستواء على العرش فذهب سلف الأمة الى أنه صفة الله- تعالى- بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل لاستحالة اتصافه- سبحانه- بصفات المحدثين، ولوجوب تنزيهه عما لا يليق به فيجب الإيمان بها كما وردت وتفويض العلم بحقيقتها إلى الله- تعالى-.
فعن أم سلمة- رضي الله عنها- أنها قالت في تفسير قوله- تعالى- الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى: الكيف غير معقول، والاستواء مجهول، والإقرار به من الإيمان، والجحود به كفر.
وقال الإمام مالك: الكيف غير معقول، والاستواء غير مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
وقال محمد بن الحسن: اتفق الفقهاء جميعا على الإيمان بالصفات من غير تفسير ولا تشبيه.
وقال الإمام الرازي: «إن هذا المذهب هو الذي نقول به ونختاره ونعتمد عليه».
وذهب بعض علماء الخلف إلى وجوب صرف هذه الصفة وأمثالها عن الظاهر لاستحالة حملها على ما يفيده ظاهر اللفظ، لأنه- سبحانه- مخالف للحوادث، ووجوب حملها على ما يليق به- سبحانه-.
وعليه فإن الاستواء هنا: كناية عن القهر والعظمة والغلبة والسلطان وقوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ استئناف مسوق لتقرير عظمته- سبحانه- ولبيان حكمة استوائه على العرش.
والتدبير معناه: النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المحمود.
والمراد به هنا: التقدير الجاري على وفق الحكمة التي اقتضتها إرادة الله ومشيئته.
والمراد بالأمر: ما يتعلق بأمور المخلوقات كلها من إنس وجن وغير ذلك من مخلوقاته التي لا تعد ولا تحصى.
أى أنه سبحانه يدبر أمر مخلوقاته تدبيرا حكيما، حسبما تقتضيه إرادته وعبر بالمضارع في قوله: يُدَبِّرُ للإشارة الى تجدد التدبير واستمراره، إذ أنه- سبحانه- لا يهمل شئون خلقه.
وقوله: ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ استئناف آخر مسوق لبيان تفرده في تدبيره وأحكامه.
والشفيع مأخوذ من الشفع وهو ضم الشيء إلى مثله، وأكثر ما يستعمل في انضمام من هو
22
أعلى منزلة إلى من هو أدنى منه لإعانته على ما يريده.
والاستثناء هنا مفرغ من أعم الأوقات والأحوال. أى: ما من شفيع يستطيع أن يشفع لغيره في جميع الأوقات والأحوال إلا بعد إذنه- سبحانه-.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «١».
وقوله- سبحانه-: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى «٢».
واسم الإشارة في قوله- سبحانه- ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ يعود إلى ذات الله- تعالى- الموصوفة بتلك الصفات الجليلة.
أى: ذلكم الموصوف بالخلق والتدبير والتصرف في شئون خلقه وفق مشيئته، هو الله ربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ولا تشركوا معه أحدا في ذلك.
ثم ختم- سبحانه- الآية بالأمر بالتذكر فقال: أَفَلا تَذَكَّرُونَ أى: أتعلمون أن الله- تعالى- هو خالقكم وهو القادر على كل شيء، ومع ذلك تستبعدون أن يكون الرسول بشرا، فهلا تذكرتم قدرة الله وحكمته حتى تثوبوا إلى رشدكم، وتتبعوا الحق الذي جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم: وإيثار تَذَكَّرُونَ على تفكرون للإيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر الى عمق في التفكير والبحث والتأمل. إذا أن مظاهر قدرة الله وعظمته نراها واضحة جلية في الأنفس والآفاق.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد ساقت ألوانا من مظاهر قدرة الله- تعالى- وبالغ حكمته، ونفاذ أحكامه حتى يخلص له الناس العبادة والطاعة.
ثم بين- سبحانه- أن مرجع العباد جميعا إليه، وأنه سيجازى كل إنسان بما يستحق.
فقال- تعالى- إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا.
أى: إلى الله- تعالى- وحده مرجعكم جميعا بعد الموت ليحاسبكم على أعمالكم، وقد وعد الله بذلك وعدا صدقا، ولن يخلف الله وعده.
قال أبو حيان: وانتصب وَعْدَ اللَّهِ وحَقًّا على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة، والتقدير وعد الله وعدا، فلما حذف الناصب أضاف المصدر الى الفاعل، وذلك كقوله
والاستثناء هنا مفرغ من أعم الأوقات والأحوال. أى: ما من شفيع يستطيع أن يشفع لغيره في جميع الأوقات والأحوال إلا بعد إذنه- سبحانه-.
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى-: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «١».
وقوله- سبحانه-: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى «٢».
واسم الإشارة في قوله- سبحانه- ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ يعود إلى ذات الله- تعالى- الموصوفة بتلك الصفات الجليلة.
أى: ذلكم الموصوف بالخلق والتدبير والتصرف في شئون خلقه وفق مشيئته، هو الله ربكم فأخلصوا له العبادة والطاعة ولا تشركوا معه أحدا في ذلك.
ثم ختم- سبحانه- الآية بالأمر بالتذكر فقال: أَفَلا تَذَكَّرُونَ أى: أتعلمون أن الله- تعالى- هو خالقكم وهو القادر على كل شيء، ومع ذلك تستبعدون أن يكون الرسول بشرا، فهلا تذكرتم قدرة الله وحكمته حتى تثوبوا إلى رشدكم، وتتبعوا الحق الذي جاءكم به نبيكم صلى الله عليه وسلم: وإيثار تَذَكَّرُونَ على تفكرون للإيذان بظهور الأمر وأنه كالمعلوم الذي لا يفتقر الى عمق في التفكير والبحث والتأمل. إذا أن مظاهر قدرة الله وعظمته نراها واضحة جلية في الأنفس والآفاق.
وبذلك نرى الآية الكريمة قد ساقت ألوانا من مظاهر قدرة الله- تعالى- وبالغ حكمته، ونفاذ أحكامه حتى يخلص له الناس العبادة والطاعة.
ثم بين- سبحانه- أن مرجع العباد جميعا إليه، وأنه سيجازى كل إنسان بما يستحق.
فقال- تعالى- إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا.
أى: إلى الله- تعالى- وحده مرجعكم جميعا بعد الموت ليحاسبكم على أعمالكم، وقد وعد الله بذلك وعدا صدقا، ولن يخلف الله وعده.
قال أبو حيان: وانتصب وَعْدَ اللَّهِ وحَقًّا على أنهما مصدران مؤكدان لمضمون الجملة، والتقدير وعد الله وعدا، فلما حذف الناصب أضاف المصدر الى الفاعل، وذلك كقوله
(١) سورة البقرة الآية ٢٥٥.
(٢) سورة النجم الآية ٢٦.
(٢) سورة النجم الآية ٢٦.
23
«صبغة الله» و «صنع الله» والتقدير في حَقًّا: حق ذلك حقا» «١».
وقوله: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كالتعليل لما أفاده قوله- سبحانه- إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ فإن غاية البدء والإعادة هو الجزاء المناسب على الأعمال الدنيوية.
أى: إن شأنه- سبحانه- أن يبدأ الخلق عند تكوينه ثم يعيده الى الحياة مرة أخرى بعد موته وفنائه.
ثم بين- سبحانه- الحكمة من الإعادة بعد الموت فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
والقسط- كما يقول الراغب- النصيب بالعدل. يقال: قسط الرجل إذا جار وظلم.
ومنه قوله- تعالى- أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
ويقال أقسط فلان إذا عدل، ومنه قوله- تعالى- وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
والحميم: الماء الذي بلغ أقصى درجات الحرارة، قال- تعالى- وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ أى: فعل ما فعل سبحانه من بدء الخلق وإعادتهم ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بعدله الجزاء الطيب الذي أعده لهم، وأما الذين كفروا فيجزيهم- أيضا- بعد له ما يستحقونه من شراب حميم يقطع أمعاءهم، ومن عذاب مؤلم لأبدانهم، وذلك بسبب كفرهم واستحبابهم العمى على الهدى.
وقوله: بِالْقِسْطِ حال من فاعل لِيَجْزِيَ ليجزيهم ملتبسا بالقسط.
ويصح أن يكون المعنى: فعل ما فعل ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجزاء الحسن بسبب عدلهم وتمسكهم بتكاليف دينهم، وأما الذين كفروا فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم.
قال الجمل ما ملخصه: وقال- سبحانه- وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ... بتغيير في الأسلوب للمبالغة في استحقاقهم للعقاب. وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة، والعذاب وقع بالعرض. وأنه- تعالى- يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه، ولذلك لم يعينه، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم «٢».
وبعد أن بين- سبحانه- جانبا من مظاهر قدرته في خلق السموات والأرض، أتبع ذلك
وقوله: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ كالتعليل لما أفاده قوله- سبحانه- إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ فإن غاية البدء والإعادة هو الجزاء المناسب على الأعمال الدنيوية.
أى: إن شأنه- سبحانه- أن يبدأ الخلق عند تكوينه ثم يعيده الى الحياة مرة أخرى بعد موته وفنائه.
ثم بين- سبحانه- الحكمة من الإعادة بعد الموت فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ، وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ.
والقسط- كما يقول الراغب- النصيب بالعدل. يقال: قسط الرجل إذا جار وظلم.
ومنه قوله- تعالى- أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
ويقال أقسط فلان إذا عدل، ومنه قوله- تعالى- وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.
والحميم: الماء الذي بلغ أقصى درجات الحرارة، قال- تعالى- وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ أى: فعل ما فعل سبحانه من بدء الخلق وإعادتهم ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بعدله الجزاء الطيب الذي أعده لهم، وأما الذين كفروا فيجزيهم- أيضا- بعد له ما يستحقونه من شراب حميم يقطع أمعاءهم، ومن عذاب مؤلم لأبدانهم، وذلك بسبب كفرهم واستحبابهم العمى على الهدى.
وقوله: بِالْقِسْطِ حال من فاعل لِيَجْزِيَ ليجزيهم ملتبسا بالقسط.
ويصح أن يكون المعنى: فعل ما فعل ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات الجزاء الحسن بسبب عدلهم وتمسكهم بتكاليف دينهم، وأما الذين كفروا فلهم شراب من حميم وعذاب أليم بسبب كفرهم.
قال الجمل ما ملخصه: وقال- سبحانه- وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ... بتغيير في الأسلوب للمبالغة في استحقاقهم للعقاب. وللتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة هو الإثابة، والعذاب وقع بالعرض. وأنه- تعالى- يتولى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه وكرمه، ولذلك لم يعينه، وأما عقاب الكفرة فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم «٢».
وبعد أن بين- سبحانه- جانبا من مظاهر قدرته في خلق السموات والأرض، أتبع ذلك
(١) تفسير البحر المحيط لأبى حيان ج ٥ ص ١٢٤.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٣٤ طبعة حجازي بالقاهرة.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٣٤ طبعة حجازي بالقاهرة.
24
بذكر مظاهر أخرى لقدرته، تتمثل في خلق الشمس والقمر والليل والنهار فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥ الى ٦]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)
ففي هاتين الآيتين- كما يقول الآلوسى- تنبيه على الاستدلال على وجوده- تعالى- ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته. بآثار صنيعه في النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر، وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير إليه إشارة إجمالية، وإرشاد إلى أنه- سبحانه- حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبير البديع، فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى «١» ».
وقوله جَعَلَ يجوز أن يكون بمعنى أنشأ وأبدع، فيكون لفظ ضِياءً حال من المفعول، ويجوز أن يكون بمعنى صير فيكون اللفظ المذكور مفعولا ثانيا.
وقوله ضِياءً جمع ضوء كسوط وسياط، وحوض وحياض، وقيل هو مصدر ضاء يضوء ضياء كقام يقوم قياما، وصام يصوم صياما، وعلى كلا الوجهين فالكلام على حذف مضاف.
والمعنى: الله- تعالى- وحده هو الذي جعل لكم الشمس ذات ضياء، وجعل لكم القمر ذا نور، لكي تنتفعوا بهما في مختلف شئونكم.
قال الجمل: «وخص الشمس بالضياء لأنه أقوى وأكمل من النور، وخص القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء ولأنهما إذا تساويا لم يعرف الليل من النهار، فدل ذلك على أن الضياء المختص بالشمس أكمل وأقوى من النور المختص بالقمر» «٢».
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٥ الى ٦]
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦)
ففي هاتين الآيتين- كما يقول الآلوسى- تنبيه على الاستدلال على وجوده- تعالى- ووحدته وعلمه وقدرته وحكمته. بآثار صنيعه في النيرين بعد التنبيه على الاستدلال بما مر، وبيان لبعض أفراد التدبير الذي أشير إليه إشارة إجمالية، وإرشاد إلى أنه- سبحانه- حين دبر أمورهم المتعلقة بمعاشهم هذا التدبير البديع، فلأن يدبر مصالحهم المتعلقة بمعادهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب أولى وأحرى «١» ».
وقوله جَعَلَ يجوز أن يكون بمعنى أنشأ وأبدع، فيكون لفظ ضِياءً حال من المفعول، ويجوز أن يكون بمعنى صير فيكون اللفظ المذكور مفعولا ثانيا.
وقوله ضِياءً جمع ضوء كسوط وسياط، وحوض وحياض، وقيل هو مصدر ضاء يضوء ضياء كقام يقوم قياما، وصام يصوم صياما، وعلى كلا الوجهين فالكلام على حذف مضاف.
والمعنى: الله- تعالى- وحده هو الذي جعل لكم الشمس ذات ضياء، وجعل لكم القمر ذا نور، لكي تنتفعوا بهما في مختلف شئونكم.
قال الجمل: «وخص الشمس بالضياء لأنه أقوى وأكمل من النور، وخص القمر بالنور لأنه أضعف من الضياء ولأنهما إذا تساويا لم يعرف الليل من النهار، فدل ذلك على أن الضياء المختص بالشمس أكمل وأقوى من النور المختص بالقمر» «٢».
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٦٧.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٣٤.
(٢) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٣٤.
25
هذا دليل. ومما يدل على التفرقة بين الشمس والقمر في نورهما قوله- تعالى-: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً «١» وقوله- سبحانه-: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً «٢».
وقوله: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ معطوف على ما قبله.
والتقدير: جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة في الزمان أو المكان أو غيرهما قال- تعالى-: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.
المنازل: جمع منزل، وهي أماكن النزول، وهي- كما يقول بعضهم- ثمانية وعشرون منزلا، وتنقسم إلى اثنى عشر برجا وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت، لكل برج منها منزلان وثلث منزل، وينزل القمر في كل ليلة منزلا منها إلى انقضاء ثمانية وعشرين.
ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما، ويستتر ليلة واحدة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما «٣».
والضمير في قوله: قَدَّرْناهُ يعود الى القمر، كما في قوله- تعالى-: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ.
أى: الله- تعالى- هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا، وقدر للقمر منازل ينزل فيها في كل ليلة على هيئة خاصة، وطريقة بديعة تدل على قدرة الله وحكمته.
قالوا: وكانت عودة الضمير إلى القمر وحده، لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس: ولأن منازله معلومة محسوسة، ولأنه العمدة في تواريخ العرب، ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأغلب «٤».
وجوز بعضهم أن يكون الضمير للشمس والقمر معا، أى: وقدر لهما منازل، أو قدر لسيرهما منازل لا يجاوزانها في السير، ولا يتعدى أحدهما على الآخر كما قال- تعالى-:
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «٥».
وإنما وحد الضمير للإيجاز كما في قوله- تعالى-: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «٦».
وقوله: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ بيان للحكمة من الخلق والتقدير.
وقوله: وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ معطوف على ما قبله.
والتقدير: جعل الشيء أو الأشياء على مقادير مخصوصة في الزمان أو المكان أو غيرهما قال- تعالى-: وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ.
المنازل: جمع منزل، وهي أماكن النزول، وهي- كما يقول بعضهم- ثمانية وعشرون منزلا، وتنقسم إلى اثنى عشر برجا وهي: الحمل، والثور، والجوزاء، والسرطان، والأسد، والسنبلة، والميزان، والعقرب، والقوس، والجدى، والدلو، والحوت، لكل برج منها منزلان وثلث منزل، وينزل القمر في كل ليلة منزلا منها إلى انقضاء ثمانية وعشرين.
ويستتر ليلتين إن كان الشهر ثلاثين يوما، ويستتر ليلة واحدة إن كان الشهر تسعة وعشرين يوما «٣».
والضمير في قوله: قَدَّرْناهُ يعود الى القمر، كما في قوله- تعالى-: وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ.
أى: الله- تعالى- هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا، وقدر للقمر منازل ينزل فيها في كل ليلة على هيئة خاصة، وطريقة بديعة تدل على قدرة الله وحكمته.
قالوا: وكانت عودة الضمير إلى القمر وحده، لسرعة سيره بالنسبة إلى الشمس: ولأن منازله معلومة محسوسة، ولأنه العمدة في تواريخ العرب، ولأن أحكام الشرع منوطة به في الأغلب «٤».
وجوز بعضهم أن يكون الضمير للشمس والقمر معا، أى: وقدر لهما منازل، أو قدر لسيرهما منازل لا يجاوزانها في السير، ولا يتعدى أحدهما على الآخر كما قال- تعالى-:
لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «٥».
وإنما وحد الضمير للإيجاز كما في قوله- تعالى-: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «٦».
وقوله: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ بيان للحكمة من الخلق والتقدير.
(١) سورة نوح الآية ١٦.
(٢) سورة الفرقان الآية ٦١.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٣٤.
(٤) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٦٩.
(٥) سورة يس الآية ٤٠.
(٦) سورة التوبة الآية ٦٢.
(٢) سورة الفرقان الآية ٦١.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٣٤.
(٤) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٦٩.
(٥) سورة يس الآية ٤٠.
(٦) سورة التوبة الآية ٦٢.
26
أى: جعل- سبحانه- الشمس ضياء، والقمر نورا، وقدره منازل، لتعلموا عدد السنين التي يفيدكم علمها في مصالحكم الدينية والدنيوية ولتعلموا الحساب بالأوقات من الأشهر والأيام لضبط عباداتكم ومعاملاتكم.
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: يخبر الله- تعالى- عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته، وعظيم سلطانه، أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء، وجعل شعاع القمر نورا، هذا فن وهذا فن آخر، ففاوت بينهما لئلا يشتبها، وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل، وقدر القمر منازل، فأول ما يبدو القمر يكون صغيرا، ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى. فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام». «١»
واسم الإشارة في قوله ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يعود إلى المذكور من جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل.
أى: ما خلق الله ذلك الذي ذكره لكم إلا خلقا ملتبسا بالحق، ومقترنا بالحكمة البالغة التي تقتضيها مصالحكم.
وقوله: يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ استئناف مسوق لبيان المنتفعين بهذه الدلائل الدالة على قدرة الله ووحدانيته ورحمته بعباده.
أى: يفصل- سبحانه- ويوضح البراهين الدالة على قدرته لقوم يعلمون الحق، فيستجيبون له، ويكثرون من طاعة الله وشكره على ما خلق وأنعم.
ثم بين- سبحانه- لونا آخر من ألوان قدرته ورحمته فقال: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ طولا وقصرا، وحرا وبردا، وتعاقبا دقيقا لا يسبق أحدهما معه الآخر وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من أنواع الانس والجن والحيوان والنبات والنجوم وغير ذلك من المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى..
إن في كل ذلك الذي خلقه لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ أى: لدلائل عظيمة كثيرة دالة على قدرة الله ورحمته ووحدانيته، لقوم يتقون الله- تعالى- فيحذرون عقابه، ويرجون رحمته.
وخص- سبحانه- المتقين بالذكر، لأنهم هم المنتفعون بنتائج التدبر في هذه الدلائل.
وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد سلك أنجع الوسائل في مخاطبة الفطرة البشرية، حيث
قال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: يخبر الله- تعالى- عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته، وعظيم سلطانه، أنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء، وجعل شعاع القمر نورا، هذا فن وهذا فن آخر، ففاوت بينهما لئلا يشتبها، وجعل سلطان الشمس بالنهار وسلطان القمر بالليل، وقدر القمر منازل، فأول ما يبدو القمر يكون صغيرا، ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى. فبالشمس تعرف الأيام، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام». «١»
واسم الإشارة في قوله ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يعود إلى المذكور من جعل الشمس ضياء والقمر نورا وتقديره منازل.
أى: ما خلق الله ذلك الذي ذكره لكم إلا خلقا ملتبسا بالحق، ومقترنا بالحكمة البالغة التي تقتضيها مصالحكم.
وقوله: يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ استئناف مسوق لبيان المنتفعين بهذه الدلائل الدالة على قدرة الله ووحدانيته ورحمته بعباده.
أى: يفصل- سبحانه- ويوضح البراهين الدالة على قدرته لقوم يعلمون الحق، فيستجيبون له، ويكثرون من طاعة الله وشكره على ما خلق وأنعم.
ثم بين- سبحانه- لونا آخر من ألوان قدرته ورحمته فقال: إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ طولا وقصرا، وحرا وبردا، وتعاقبا دقيقا لا يسبق أحدهما معه الآخر وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من أنواع الانس والجن والحيوان والنبات والنجوم وغير ذلك من المخلوقات التي لا تعد ولا تحصى..
إن في كل ذلك الذي خلقه لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ أى: لدلائل عظيمة كثيرة دالة على قدرة الله ورحمته ووحدانيته، لقوم يتقون الله- تعالى- فيحذرون عقابه، ويرجون رحمته.
وخص- سبحانه- المتقين بالذكر، لأنهم هم المنتفعون بنتائج التدبر في هذه الدلائل.
وبذلك نرى أن القرآن الكريم قد سلك أنجع الوسائل في مخاطبة الفطرة البشرية، حيث
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٨. [.....]
27
لفت الأنظار إلى ما اشتمل عليه هذا الكون من مخلوقات شاهدة محسوسة، تدل على وحدانية الله، وقدرته النافذة، ورحمته السابغة بعباده.
ثم بينت السورة الكريمة ما أعده الله من عذاب للكافرين، وما أعده من ثواب للطائعين، فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
قال الإمام الرازي: «اعلم أنه- تعالى- لما أقام الدلائل على صحة القول بإثبات الإله القادر الرحيم الحكيم، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها وفي شرح أحوال من يؤمن بها» «١».
والمراد بلقائه- سبحانه- الرجوع إليه يوم القيامة للحساب والجزاء. والمعنى: إن الذين لا يرجون ولا يتوقعون لقاءنا يوم القيامة لحسابهم على أعمالهم في الدنيا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا رضاء جعلهم لا يفكرون إلا في التشبع من زينتها ومتعها، واطمأنوا بها، اطمئنانا صيرهم يفرحون بها ويسكنون إليها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا التنزيلية والكونية الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا غافِلُونَ بحيث لا يخطر على بالهم شيء مما يدل عليه هذه الآيات من عبر وعظات.
ثم بينت السورة الكريمة ما أعده الله من عذاب للكافرين، وما أعده من ثواب للطائعين، فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧ الى ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
قال الإمام الرازي: «اعلم أنه- تعالى- لما أقام الدلائل على صحة القول بإثبات الإله القادر الرحيم الحكيم، وعلى صحة القول بالمعاد والحشر والنشر، شرع بعده في شرح أحوال من يكفر بها وفي شرح أحوال من يؤمن بها» «١».
والمراد بلقائه- سبحانه- الرجوع إليه يوم القيامة للحساب والجزاء. والمعنى: إن الذين لا يرجون ولا يتوقعون لقاءنا يوم القيامة لحسابهم على أعمالهم في الدنيا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا رضاء جعلهم لا يفكرون إلا في التشبع من زينتها ومتعها، واطمأنوا بها، اطمئنانا صيرهم يفرحون بها ويسكنون إليها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا التنزيلية والكونية الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا غافِلُونَ بحيث لا يخطر على بالهم شيء مما يدل عليه هذه الآيات من عبر وعظات.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٣٨.
28
فأنت ترى أن الله- تعالى- قد وصف هؤلاء الأشقياء بأربع صفات ذميمة.
وصفهم- أولا- بعدم الرجاء في لقاء الله- تعالى- بأن صاروا لا يطمعون في ثواب، ولا يخافون من عقاب، لإنكار الدار الآخرة.
ووصفهم- ثانيا- بأنهم رضوا بالحياة الدنيا، بأن أصبح همهم محصورا فيها، وفي لذائذها وشهواتها.
قال الإمام الرازي: واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن اللذات الروحانية، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية، وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى من استغرقه الله في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها، واستغراقه في طلبها» «١».
ووصفهم- ثالثا- بأنهم اطمأنوا بهذه الحياة، اطمئنان الشخص إلى الشيء الذي لا ملاذ له سواه، فإذا كان السعداء يطمئنون إلى ذكر الله، فإن هؤلاء الأشقياء ماتت قلوبهم عن كل خير، وصارت لا تطمئن إلا إلى زينة الحياة الدنيا.
ووصفهم- رابعا- بالغفلة عن آيات الله التي توقظ القلب، وتهدى العقل، ونحفز النفس إلى التفكير والتدبير.
وبالجملة فهذه الصفات الأربع تدل دلالة واضحة على أن هؤلاء الأشقياء قد آثروا دنياهم على أخراهم، واستحبوا الضلالة على الهدى، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فماذا كان مصيرهم كما بينه- سبحانه- في قوله: أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
أى: أولئك المتصفون بتلك الصفات الخسيسة، مقرهم وملجؤهم الذي يلجئون إليه النار وبئس القرار، بسبب ما اجترحوه من سيئات وما اقترفوه من منكرات.
هذه هي صفات هؤلاء الأشقياء، وذلك هو جزاؤهم العادل، أما السعداء فقد بين الله- تعالى- بعد ذلك صفاتهم وثوابهم فقال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
أى: آمنوا بما يجب الإيمان به، وعملوا في دنياهم الأعمال الصالحة التي ترفع درجاتهم عند ربهم.
يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أى يرشدهم ربهم ويوصلهم بسبب إيمانهم وعملهم الصالح إلى غايتهم وهي الجنة.
وصفهم- أولا- بعدم الرجاء في لقاء الله- تعالى- بأن صاروا لا يطمعون في ثواب، ولا يخافون من عقاب، لإنكار الدار الآخرة.
ووصفهم- ثانيا- بأنهم رضوا بالحياة الدنيا، بأن أصبح همهم محصورا فيها، وفي لذائذها وشهواتها.
قال الإمام الرازي: واعلم أن الصفة الأولى إشارة إلى خلو قلبه عن اللذات الروحانية، وفراغه عن طلب السعادات الحاصلة بالمعارف الربانية، وأما هذه الصفة الثانية فهي إشارة إلى من استغرقه الله في طلب اللذات الجسمانية واكتفائه بها، واستغراقه في طلبها» «١».
ووصفهم- ثالثا- بأنهم اطمأنوا بهذه الحياة، اطمئنان الشخص إلى الشيء الذي لا ملاذ له سواه، فإذا كان السعداء يطمئنون إلى ذكر الله، فإن هؤلاء الأشقياء ماتت قلوبهم عن كل خير، وصارت لا تطمئن إلا إلى زينة الحياة الدنيا.
ووصفهم- رابعا- بالغفلة عن آيات الله التي توقظ القلب، وتهدى العقل، ونحفز النفس إلى التفكير والتدبير.
وبالجملة فهذه الصفات الأربع تدل دلالة واضحة على أن هؤلاء الأشقياء قد آثروا دنياهم على أخراهم، واستحبوا الضلالة على الهدى، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
فماذا كان مصيرهم كما بينه- سبحانه- في قوله: أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ.
أى: أولئك المتصفون بتلك الصفات الخسيسة، مقرهم وملجؤهم الذي يلجئون إليه النار وبئس القرار، بسبب ما اجترحوه من سيئات وما اقترفوه من منكرات.
هذه هي صفات هؤلاء الأشقياء، وذلك هو جزاؤهم العادل، أما السعداء فقد بين الله- تعالى- بعد ذلك صفاتهم وثوابهم فقال- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
أى: آمنوا بما يجب الإيمان به، وعملوا في دنياهم الأعمال الصالحة التي ترفع درجاتهم عند ربهم.
يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ أى يرشدهم ربهم ويوصلهم بسبب إيمانهم وعملهم الصالح إلى غايتهم وهي الجنة.
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٣٩.
29
وإنما لم تذكر تعويلا على ظهورها وانسياق النفس إليها، بعد أن عرف أن مأوى الكافرين النار وبئس القرار..
قال الإمام ابن كثير: يحتمل أن تكون الباء في قوله بِإِيمانِهِمْ للسببية، فيكون التقدير بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة إلى الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة، ويحتمل أن تكون للاستعانة كما قال مجاهد: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ:
أى: يكون إيمانهم لهم نورا يمشون به وقال ابن جريج في الآية: يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول له من أنت؟ فيقول أنا عملك، فيجعل له نوره من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله- تعالى- يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ. والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة. وريح منتنة فيلزم صاحبه حتى يقذفه في النار..» «١».
وقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أى: تجرى من تحت منازلهم أو مقاعدهم الأنهار، وهم آمنون مطمئنون في الجنات، يتنعمون فيها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت. ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أى: دعاؤهم في هذه الجنات يكون بقولهم:
سبحانك اللهم. فالدعوى هاهنا بمعنى الدعاء. يقال: دعا يدعو دعاء ودعوى. كما يقال:
شكا يشكو شكاية وشكوى.
ولفظ سبحان: اسم مصدر بمعنى التسبيح وهو منصوب بفعل مضمر لا يكاد يذكر معه.
ولفظ اللهم أصله يا الله، فلما استعمل دون حرف النداء الذي هو «يا» جعلت هذه الميم المشددة في آخره عوضا عن حرف النداء.
قال الإمام الرازي: «ومما يقوى أن المراد من الدعوى هنا الدعاء، أنهم قالوا: اللهم.
وهذا نداء الله- تعالى- ومعنى قولهم: سبحانك اللهم. إنا نسبحك. كقول القانت في دعاء القنوت «اللهم إياك نعبد».
ثم قال: ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله- تعالى-: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أى: وما تعبدون، فيكون معنى الآية: أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف، بل على سبيل
قال الإمام ابن كثير: يحتمل أن تكون الباء في قوله بِإِيمانِهِمْ للسببية، فيكون التقدير بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة إلى الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة، ويحتمل أن تكون للاستعانة كما قال مجاهد: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ:
أى: يكون إيمانهم لهم نورا يمشون به وقال ابن جريج في الآية: يمثل له عمله في صورة حسنة وريح طيبة إذا قام من قبره يعارض صاحبه ويبشره بكل خير فيقول له من أنت؟ فيقول أنا عملك، فيجعل له نوره من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله- تعالى- يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ. والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة. وريح منتنة فيلزم صاحبه حتى يقذفه في النار..» «١».
وقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أى: تجرى من تحت منازلهم أو مقاعدهم الأنهار، وهم آمنون مطمئنون في الجنات، يتنعمون فيها بما لا عين رأت ولا أذن سمعت. ولا خطر على قلب بشر.
وقوله: دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ أى: دعاؤهم في هذه الجنات يكون بقولهم:
سبحانك اللهم. فالدعوى هاهنا بمعنى الدعاء. يقال: دعا يدعو دعاء ودعوى. كما يقال:
شكا يشكو شكاية وشكوى.
ولفظ سبحان: اسم مصدر بمعنى التسبيح وهو منصوب بفعل مضمر لا يكاد يذكر معه.
ولفظ اللهم أصله يا الله، فلما استعمل دون حرف النداء الذي هو «يا» جعلت هذه الميم المشددة في آخره عوضا عن حرف النداء.
قال الإمام الرازي: «ومما يقوى أن المراد من الدعوى هنا الدعاء، أنهم قالوا: اللهم.
وهذا نداء الله- تعالى- ومعنى قولهم: سبحانك اللهم. إنا نسبحك. كقول القانت في دعاء القنوت «اللهم إياك نعبد».
ثم قال: ويجوز أن يراد بالدعاء العبادة، ونظيره قوله- تعالى-: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أى: وما تعبدون، فيكون معنى الآية: أنه لا عبادة لأهل الجنة إلا أن يسبحوا الله ويحمدوه، ويكون اشتغالهم بذلك الذكر لا على سبيل التكليف، بل على سبيل
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٨.
30
الابتهاج بذكر الله- تعالى-» «١».
وقوله وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ معطوف على ما قبله. والتحية: التكرمة بالحال الجليلة، وأصلها أحياك الله حياة طيبة. والسلام: بمعنى السلامة من كل مكروه.
أى: دعاؤهم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم. وتحيتهم التي يحيون بها هي السلامة من كل مكروه.
وهذه التحية تكون من الله- تعالى- لهم كما في قوله- سبحانه- تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «٢».
وتكون من الملائكة كما في قوله- تعالى-: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ «٣».
وتكون منهم فيما بينهم كما يتبادر من قوله- تعالى- لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً.. «٤».
وقوله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أى: وختام دعائهم يكون بقولهم:
الحمد لله رب العالمين.
قال الإمام القرطبي ما ملخصه: «ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن التهليل والتسبيح والحمد قد يسمى دعاء».
روى الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض، ورب العرش الكريم». قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب.
والذي يقطع النزاع ويثبت أن هذا يسمى دعاء، وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء، وإنما هو تعظيم لله- تعالى- وثناء عليه، ما رواه النسائي عن سعد بن أبى وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين، فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له».
وقوله وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ معطوف على ما قبله. والتحية: التكرمة بالحال الجليلة، وأصلها أحياك الله حياة طيبة. والسلام: بمعنى السلامة من كل مكروه.
أى: دعاؤهم في الجنة أن يقولوا سبحانك اللهم. وتحيتهم التي يحيون بها هي السلامة من كل مكروه.
وهذه التحية تكون من الله- تعالى- لهم كما في قوله- سبحانه- تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ «٢».
وتكون من الملائكة كما في قوله- تعالى-: وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ «٣».
وتكون منهم فيما بينهم كما يتبادر من قوله- تعالى- لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً.. «٤».
وقوله: وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أى: وختام دعائهم يكون بقولهم:
الحمد لله رب العالمين.
قال الإمام القرطبي ما ملخصه: «ويؤخذ من هذه الآية الكريمة أن التهليل والتسبيح والحمد قد يسمى دعاء».
روى الشيخان عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ كان يقول عند الكرب: «لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض، ورب العرش الكريم». قال الطبري: كان السلف يدعون بهذا الدعاء ويسمونه دعاء الكرب.
والذي يقطع النزاع ويثبت أن هذا يسمى دعاء، وإن لم يكن فيه من معنى الدعاء شيء، وإنما هو تعظيم لله- تعالى- وثناء عليه، ما رواه النسائي عن سعد بن أبى وقاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظالمين، فإنه لن يدعو بها مسلم في شيء إلا استجيب له».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٤٣.
(٢) سورة الأحزاب الآية ٤٤.
(٣) سورة الرعد الآيتان ٢٤، ٢٥.
(٤) سورة مريم الآية ٦١.
(٢) سورة الأحزاب الآية ٤٤.
(٣) سورة الرعد الآيتان ٢٤، ٢٥.
(٤) سورة مريم الآية ٦١.
31
ويستحب للداعي أن يقول في آخر دعائه كما قال الله- تعالى- حكاية عن أهل الجنة:
وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «١».
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر لطفه ورحمته بالناس، وما جبلوا عليه من صفات وطبائع فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
قال صاحب المنار: «هاتان الآيتان في بيان شأن من شئون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم في حياتهم الدنيا من خير وشر، ونفع وضر، وشعورهم بالحاجة إلى الله- تعالى- واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها، واستعجالهم الأمور قبل أوانها وهو تعريض بالمشركين، وحجة على ما يأتون من شرك وما ينكرون من أمر البعث، متمم لما قبله، ولذلك عطف عليه «٢».
وقوله: يُعَجِّلُ من التعجيل بمعنى طلب الشيء قبل وقته المحدد له والاستعجال:
طلب التعجيل بالشيء.
والأجل: الوقت المحدد لانقضاء المدة. وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره.
وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «١».
ثم بين- سبحانه- بعض مظاهر لطفه ورحمته بالناس، وما جبلوا عليه من صفات وطبائع فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢)
قال صاحب المنار: «هاتان الآيتان في بيان شأن من شئون البشر وغرائزهم فيما يعرض لهم في حياتهم الدنيا من خير وشر، ونفع وضر، وشعورهم بالحاجة إلى الله- تعالى- واللجوء إلى دعائه لأنفسهم وعليها، واستعجالهم الأمور قبل أوانها وهو تعريض بالمشركين، وحجة على ما يأتون من شرك وما ينكرون من أمر البعث، متمم لما قبله، ولذلك عطف عليه «٢».
وقوله: يُعَجِّلُ من التعجيل بمعنى طلب الشيء قبل وقته المحدد له والاستعجال:
طلب التعجيل بالشيء.
والأجل: الوقت المحدد لانقضاء المدة. وأجل الإنسان هو الوقت المضروب لانتهاء عمره.
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣١٣.
(٢) تفسير المنار ج ١١ ص ٣١١.
(٢) تفسير المنار ج ١١ ص ٣١١.
32
والمراد بالناس هنا- عند عدد من المفسرين-: المشركون الذي وصفهم الله- تعالى- قبل ذلك بأنهم لا يرجون لقاءه ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها.
ولقد حكى القرآن في كثير من آياته، أن المشركين قد استعجلوا الرسول ﷺ في نزول العذاب، ومن ذلك قوله- تعالى- وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «١»، وقوله- تعالى-: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٢».
والمعنى: ولو يعجل الله- تعالى- لهؤلاء المشركين العقوبة التي طلبوها، تعجيلا مثل استعجالهم الحصول على الخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أى: لأميتوا وأهلكوا جميعا، ولكن الله- تعالى- الرحيم بخلقه، الحكيم في أفعاله، لا يعجل لهم العقوبة التي طلبوها كما يعجل لهم طلب الخير لحكمة هو يعلمها فقد يكون من بين هؤلاء المتعجلين للعقوبة من يدخل في الإسلام، ويتبع الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الرازي: «فقد بين- سبحانه- في هذه الآية: أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم، لأنه- تعالى- لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا، ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنوا بعد ذلك، وربما خرج من أصلابهم من كان مؤمنا، وذلك يقتضى أن لا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر» «٣».
ومن العلماء من يرى أن المراد بالناس هنا ما يشمل المشركين وغيرهم، وأن الآية الكريمة تحكى لونا من ألوان لطف الله بعباده ورحمته بهم.
ومن المفسرين الذين اقتصروا على هذا الاتجاه في تفسيرهم الإمام ابن كثير، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: يخبر- تعالى- عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم، أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والسخاء، ولهذا قال: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ.. أى لو استجاب لهم جميع ما دعوه به في ذلك لأهلكهم.
ولقد حكى القرآن في كثير من آياته، أن المشركين قد استعجلوا الرسول ﷺ في نزول العذاب، ومن ذلك قوله- تعالى- وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ، وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ «١»، وقوله- تعالى-: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «٢».
والمعنى: ولو يعجل الله- تعالى- لهؤلاء المشركين العقوبة التي طلبوها، تعجيلا مثل استعجالهم الحصول على الخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ أى: لأميتوا وأهلكوا جميعا، ولكن الله- تعالى- الرحيم بخلقه، الحكيم في أفعاله، لا يعجل لهم العقوبة التي طلبوها كما يعجل لهم طلب الخير لحكمة هو يعلمها فقد يكون من بين هؤلاء المتعجلين للعقوبة من يدخل في الإسلام، ويتبع الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الإمام الرازي: «فقد بين- سبحانه- في هذه الآية: أنهم لا مصلحة لهم في تعجيل إيصال الشر إليهم، لأنه- تعالى- لو أوصل ذلك العقاب إليهم لماتوا وهلكوا، ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنوا بعد ذلك، وربما خرج من أصلابهم من كان مؤمنا، وذلك يقتضى أن لا يعاجلهم بإيصال ذلك الشر» «٣».
ومن العلماء من يرى أن المراد بالناس هنا ما يشمل المشركين وغيرهم، وأن الآية الكريمة تحكى لونا من ألوان لطف الله بعباده ورحمته بهم.
ومن المفسرين الذين اقتصروا على هذا الاتجاه في تفسيرهم الإمام ابن كثير، فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: يخبر- تعالى- عن حلمه ولطفه بعباده أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم، أو أموالهم أو أولادهم بالشر في حال ضجرهم وغضبهم، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك، فلهذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفا ورحمة، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأموالهم أو لأولادهم بالخير والبركة والسخاء، ولهذا قال: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ.. أى لو استجاب لهم جميع ما دعوه به في ذلك لأهلكهم.
(١) سورة العنكبوت الآيتان ٥٢، ٥٣.
(٢) سورة الأنفال الآية ٤٢.
(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٤٨ طبعة عبد الرحمن محمد.
(٢) سورة الأنفال الآية ٤٢.
(٣) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٤٨ طبعة عبد الرحمن محمد.
33
ثم قال: ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك، كما جاء في الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار في مسنده عن جابر قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «لا تدعوا على أنفسكم، لا تدعوا على أولادكم، لا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم».
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم «١».
أما الإمام الآلوسى فقد حكى هذين الوجهين، ورجح الأول منهما فقال: «قوله: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ... وهم الذين لا يرجون لقاء الله- تعالى- المذكورون في قوله:
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا... والمراد لو يعجل الله لهم الشر الذي كانوا يستعجلون به تكذيبا واستهزاء... »، وأخرج ابن جرير عن قتادة: أنه قال: «هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له، وفيه حمل الناس على العموم، والمختار الأول، ويؤيده ما قيل: من أن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال: «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» «٢».
والذي يبدو لنا أن كون لفظ الناس للجنس أولى، ويدخل فيه المشركون دخولا أوليا، لأنه لا توجد قرينة تمنع من إرادة ذلك، وحتى لو صح ما قيل من أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقوله اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ منصوب على المصدرية، والأصل: ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير، فحذف تعجيلا وصفته المضافة، وأقيم المضاف إليه مقامها.
ثم بين- سبحانه- ما يشير إلى الحكمة في عدم تعجيل العقوبة فقال: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
والطغيان: مجاوزة الحد في كل شيء، ومنه طغى الماء إذا ارتفع وتجاوز حده.
ويعمهون: من العمه، يقال: عمه- كفرح ومنع- عمها، إذا تحير وتردد فهو عمه وعامه.
أى: لا نعجل للناس ما طلبوه من عقوبات، وإنما نترك الذين لا يرجون لقاءنا إلى يوم
وقال مجاهد في تفسير هذه الآية: هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه: اللهم لا تبارك فيه والعنه، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم «١».
أما الإمام الآلوسى فقد حكى هذين الوجهين، ورجح الأول منهما فقال: «قوله: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ... وهم الذين لا يرجون لقاء الله- تعالى- المذكورون في قوله:
إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا... والمراد لو يعجل الله لهم الشر الذي كانوا يستعجلون به تكذيبا واستهزاء... »، وأخرج ابن جرير عن قتادة: أنه قال: «هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له، وفيه حمل الناس على العموم، والمختار الأول، ويؤيده ما قيل: من أن الآية نزلت في النضر بن الحارث حين قال: «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» «٢».
والذي يبدو لنا أن كون لفظ الناس للجنس أولى، ويدخل فيه المشركون دخولا أوليا، لأنه لا توجد قرينة تمنع من إرادة ذلك، وحتى لو صح ما قيل من أن الآية نزلت في النضر بن الحارث، فإن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وقوله اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ منصوب على المصدرية، والأصل: ولو يعجل الله للناس الشر تعجيلا مثل استعجالهم بالخير، فحذف تعجيلا وصفته المضافة، وأقيم المضاف إليه مقامها.
ثم بين- سبحانه- ما يشير إلى الحكمة في عدم تعجيل العقوبة فقال: فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ.
والطغيان: مجاوزة الحد في كل شيء، ومنه طغى الماء إذا ارتفع وتجاوز حده.
ويعمهون: من العمه، يقال: عمه- كفرح ومنع- عمها، إذا تحير وتردد فهو عمه وعامه.
أى: لا نعجل للناس ما طلبوه من عقوبات، وإنما نترك الذين لا يرجون لقاءنا إلى يوم
(١) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٩.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٧٩. [.....]
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٧٩. [.....]
34
القيامة، على سبيل الإمهال والاستدراج في الدنيا في طغيانهم يتحيرون ويترددون، بحيث تلتبس عليهم الأمور فلا يعرفون الخير من الشر.
ثم صور- سبحانه- طبيعة الإنسان في حالتي العسر واليسر فقال: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ...
والمس: اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإحساس والإصابة.
والضر: ما يصيب الإنسان من سوء الحال في نفسه أو بدنه أو غيرهما مما يحبه ويشتهيه.
والمعنى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ عن طريق المرض أو الفقر أو غيرهما دَعانا بإلحاح وتضرع لكي نكشفه عنه، فهو تارة يدعونا وهو مضطجع على جنبه، وتارة يدعونا وهو قاعد، وتارة يدعونا وهو قائم على قدميه.
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ وما أصابه من سوء مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ أى:
مضى واستمر في غفلته الأولى حتى لكأنه لم تنزل به كروب، ولم يسبق له أن دعانا بإلحاح لكشفها.
وخص- سبحانه- هذه الأحوال بالذكر، لعدم خلو الإنسان عنها في العادة.
وقيل: يصح أن يراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار، لأنها قد تكون خفيفة فيدعو الله وهو قائم، وقد تكون متوسطة فيدعوه وهو قاعد، وقد تكون ثقيلة فيدعوه وهو نائم.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: «فإن قلت: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟
قلت: معناه أن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها، سواء أكان منبطحا عاجزا عن النهوض، أم كان قاعدا لا يقدر على القيام، أم كان قائما لا يطيق المشي.
ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشد حالا وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف، وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء، لأن الإنسان للجنس..» «١».
وفي التعبير بالمس إشارة إلى أن ما أصابه من ضر حتى ولو كان يسيرا فإنه لا يترك الدعاء والابتهال إلى الله بأن يكشفه عنه.
ثم صور- سبحانه- طبيعة الإنسان في حالتي العسر واليسر فقال: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ...
والمس: اتصال أحد الشيئين بآخر على وجه الإحساس والإصابة.
والضر: ما يصيب الإنسان من سوء الحال في نفسه أو بدنه أو غيرهما مما يحبه ويشتهيه.
والمعنى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ عن طريق المرض أو الفقر أو غيرهما دَعانا بإلحاح وتضرع لكي نكشفه عنه، فهو تارة يدعونا وهو مضطجع على جنبه، وتارة يدعونا وهو قاعد، وتارة يدعونا وهو قائم على قدميه.
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ وما أصابه من سوء مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ أى:
مضى واستمر في غفلته الأولى حتى لكأنه لم تنزل به كروب، ولم يسبق له أن دعانا بإلحاح لكشفها.
وخص- سبحانه- هذه الأحوال بالذكر، لعدم خلو الإنسان عنها في العادة.
وقيل: يصح أن يراد بهذه الأحوال تعميم أصناف المضار، لأنها قد تكون خفيفة فيدعو الله وهو قائم، وقد تكون متوسطة فيدعوه وهو قاعد، وقد تكون ثقيلة فيدعوه وهو نائم.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الآية: «فإن قلت: فما فائدة ذكر هذه الأحوال؟
قلت: معناه أن المضرور لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتى يزول عنه الضر، فهو يدعونا في حالاته كلها، سواء أكان منبطحا عاجزا عن النهوض، أم كان قاعدا لا يقدر على القيام، أم كان قائما لا يطيق المشي.
ويجوز أن يراد أن من المضرورين من هو أشد حالا وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف، وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام، وكلهم لا يستغنون عن الدعاء واستدفاع البلاء، لأن الإنسان للجنس..» «١».
وفي التعبير بالمس إشارة إلى أن ما أصابه من ضر حتى ولو كان يسيرا فإنه لا يترك الدعاء والابتهال إلى الله بأن يكشفه عنه.
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٨٢.
35
وقوله لِجَنْبِهِ في موضع الحال من فاعل دَعانا وأَوْ لتنويع الأحوال، أو لأصناف المضار.
والتعبير بقوله- سبحانه- مَرَّ يمثل أدق تصوير لطبيعة الإنسان الذي يدعو الله عند البلاء، وينساه عند الرخاء، فهو في حالة البلاء يدعو الله في كل الأحوال، فإذا ما انكشف عنه البلاء مر واندفع في تيار الحياة. بدون كابح، ولا زاجر، ولا مبالاة، وبدون توقف ليتدبر أو ليعتبر...
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى: كما زين لهذا الإنسان الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء، زين لهؤلاء المسرفين المتجاوزين لحدود الله، ما كانوا يعملونه من إعراض عن ذكره، ومن غفلة عن حكمته وعن سننه في كونه.
قال الآلوسى: «وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء، ويهرع إليه في الشدة، واللائق بحال العاقل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء، فإن ذلك أرجى للإجابة. ففي الحديث الشريف: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».
وأخرج أبو الشيخ عن أبى الدرداء قال: ادع الله يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك.
وفي حديث للترمذي عن أبى هريرة ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد «من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكروب، فليكثر من الدعاء عند الرخاء» «١».
وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «وقد ذم الله- تعالى- من هذه طريقته وصفته في الدعاء. أما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك، - لأنه يدعو الله في الشدة والرخاء-، وفي الحديث الشريف: «عجبا لأمر المؤمن لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» «٢».
وبعد أن بين- سبحانه- جانبا من شأنه مع الناس ومن شأنهم معه. أتبع ذلك ببيان مصير الأمم الظالمة ليكون في ذلك عبرة وعظة فقال- تعالى-:
والتعبير بقوله- سبحانه- مَرَّ يمثل أدق تصوير لطبيعة الإنسان الذي يدعو الله عند البلاء، وينساه عند الرخاء، فهو في حالة البلاء يدعو الله في كل الأحوال، فإذا ما انكشف عنه البلاء مر واندفع في تيار الحياة. بدون كابح، ولا زاجر، ولا مبالاة، وبدون توقف ليتدبر أو ليعتبر...
ثم ختم- سبحانه- الآية بقوله: كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أى: كما زين لهذا الإنسان الدعاء عند البلاء والإعراض عند الرخاء، زين لهؤلاء المسرفين المتجاوزين لحدود الله، ما كانوا يعملونه من إعراض عن ذكره، ومن غفلة عن حكمته وعن سننه في كونه.
قال الآلوسى: «وفي الآية ذم لمن يترك الدعاء في الرخاء، ويهرع إليه في الشدة، واللائق بحال العاقل التضرع إلى مولاه في السراء والضراء، فإن ذلك أرجى للإجابة. ففي الحديث الشريف: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».
وأخرج أبو الشيخ عن أبى الدرداء قال: ادع الله يوم سرائك يستجب لك يوم ضرائك.
وفي حديث للترمذي عن أبى هريرة ورواه الحاكم عن سلمان وقال صحيح الإسناد «من سره أن يستجيب الله له عند الشدائد والكروب، فليكثر من الدعاء عند الرخاء» «١».
وقال الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآية: «وقد ذم الله- تعالى- من هذه طريقته وصفته في الدعاء. أما من رزقه الله الهداية والسداد والتوفيق والرشاد فإنه مستثنى من ذلك، - لأنه يدعو الله في الشدة والرخاء-، وفي الحديث الشريف: «عجبا لأمر المؤمن لا يقضى الله له قضاء إلا كان خيرا له: إن أصابته ضراء فصبر كان خيرا له، وإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن» «٢».
وبعد أن بين- سبحانه- جانبا من شأنه مع الناس ومن شأنهم معه. أتبع ذلك ببيان مصير الأمم الظالمة ليكون في ذلك عبرة وعظة فقال- تعالى-:
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٨٠.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٩.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤٠٩.
36
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٣ الى ١٤]
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)والخطاب في قوله: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا.. لأهل مكة الذين كانوا معاصرين للنبي ﷺ ومناوئين لدعوته، ويدخل فيه غيرهم ممن يصلح للخطاب على سبيل التبع.
والقرون جمع قرن. والقرن- كما يقول القرطبي- الأمة من الناس، قال الشاعر:
إذا ذهب القرن الذي كنت فيهم | وخلفت في قرن فأنت غريب |
وفي الحديث الشريف: «خير القرون قرني- يعنى أصحابى- ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم».
فالقرن على هذا مدة من الزمان. قيل: ستون عاما، وقيل سبعون، وقيل ثمانون، وقيل: مائة سنة، وعليه أكثر أصحاب الحديث، أن القرن مائة سنة، واحتجوا بأن النبي ﷺ قال لعبد الله بن بسر: «تعيش قرنا» فعاش مائة سنة «١».
ولَمَّا ظرف بمعنى حين، وهو متعلق بقوله أَهْلَكْنَا.
والمعنى: ولقد أهلكنا أهل القرون السابقة عليكم يا أهل مكة. حين استمروا في ظلمهم وعنادهم، وحين أصروا على كفرهم بعد أن جاءتهم رسلهم بالدلائل الدالة على وحدانية الله، وعلى صدقهم فيها يبلغونه عن ربهم، فعليكم- أيها الغافلون- أن تثوبوا إلى رشدكم، وأن تتبعوا الحق الذي جاءكم به نبيكم كي لا يصيبكم ما أصاب الظالمين من قبلكم.
وقوله: وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ يدل على إفراط أولئك المهلكين في الظلم،
(١) تفسير القرطبي ج ٦ ص ٢٩٤.
37
وبلوغهم فيه أقصى الغايات، لأنهم مع وضوح الشواهد على صدق الرسل، استمروا في جحودهم وظلمهم.
وقوله: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا معطوف على ظَلَمُوا. أى: أهلكنا أهل القرون السابقين عليكم حين استمروا على ظلمهم، وحين علم الله- تعالى- منهم الإصرار على الكفر، فإهلاكهم كان بسبب مجموع هذين الأمرين.
وقوله: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ تذييل قصد به التهديد والوعيد.
أى: مثل ذلك الجزاء الأليم وهو إهلاك الظالمين، نجزى القوم المجرمين في كل زمان ومكان.
وقوله- سبحانه-: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ معطوف على قوله أَهْلَكْنَا.
والخلائف جمع خليفة. وهو كل من يخلف غيره ويأتى من بعده.
أى: ثم جعلناكم أيها المكلفون باتباع النبي ﷺ خلفاء في الأرض من بعد أولئك الأقوام المهلكين لنرى ونشاهد ونعلم أى عمل تعملون في خلافتكم فنجازيكم على ذلك بالجزاء المناسب الذي تقتضيه حكمتنا وإرادتنا، وكَيْفَ مفعول مطلق ل تَعْمَلُونَ لا لِنَنْظُرَ لأن الاستفهام له الصدارة، فلا يعمل فيه ما قبله.
قال الآلوسى: واستعمال النظر بمعنى العلم مجاز، حيث شبه بنظر الناظر. وعيان المعاين في تحققه. والمراد نعاملكم معاملة من يطلب العلم بأعمالكم ليجازيكم بحسبها، كقوله- تعالى- لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «١».
قال قتادة: صدق الله ربنا، ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرا، بالليل والنهار.
ثم حكى- سبحانه- بعض المقترحات الفاسدة التي اقترحها المشركون على النبي ﷺ ورد عليها بما يبطلها فقال- تعالى-:
وقوله: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا معطوف على ظَلَمُوا. أى: أهلكنا أهل القرون السابقين عليكم حين استمروا على ظلمهم، وحين علم الله- تعالى- منهم الإصرار على الكفر، فإهلاكهم كان بسبب مجموع هذين الأمرين.
وقوله: كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ تذييل قصد به التهديد والوعيد.
أى: مثل ذلك الجزاء الأليم وهو إهلاك الظالمين، نجزى القوم المجرمين في كل زمان ومكان.
وقوله- سبحانه-: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ معطوف على قوله أَهْلَكْنَا.
والخلائف جمع خليفة. وهو كل من يخلف غيره ويأتى من بعده.
أى: ثم جعلناكم أيها المكلفون باتباع النبي ﷺ خلفاء في الأرض من بعد أولئك الأقوام المهلكين لنرى ونشاهد ونعلم أى عمل تعملون في خلافتكم فنجازيكم على ذلك بالجزاء المناسب الذي تقتضيه حكمتنا وإرادتنا، وكَيْفَ مفعول مطلق ل تَعْمَلُونَ لا لِنَنْظُرَ لأن الاستفهام له الصدارة، فلا يعمل فيه ما قبله.
قال الآلوسى: واستعمال النظر بمعنى العلم مجاز، حيث شبه بنظر الناظر. وعيان المعاين في تحققه. والمراد نعاملكم معاملة من يطلب العلم بأعمالكم ليجازيكم بحسبها، كقوله- تعالى- لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «١».
قال قتادة: صدق الله ربنا، ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرا، بالليل والنهار.
ثم حكى- سبحانه- بعض المقترحات الفاسدة التي اقترحها المشركون على النبي ﷺ ورد عليها بما يبطلها فقال- تعالى-:
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٨٣.
38
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٥ الى ١٧]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧)قال الآلوسى ما ملخصه: «عن مقاتل قال: إن الآية وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا..
نزلت في جماعة من قريش قالوا للنبي ﷺ إن كنت تريد أن نؤمن لك، فأت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات والعزى وليس فيه ما يعيبها. وإن لم ينزل الله- تعالى- عليك ذلك فقل أنت هذا من نفسك، أو بدله فاجعل مكان آية عذاب آية رحمة، ومكان حرام حلالا، ومكان حلال حراما، «١».
والمعنى: وإذا تتلى على أولئك المشركين آياتنا الواضحة المنزلة عليك- يا محمد- قالوا على سبيل العناد والحسد: ائت بقرآن آخر سوى هذا القرآن الذي تتلوه علينا، أو بدله بأن تجعل مكان الآية التي فيها سب لآلهتنا، آية أخرى فيها مدح لها.
وفي الآية الكريمة التفات من الخطاب إلى الغيبة، إظهارا للإعراض عنهم، حتى لكأنهم غير حاضرين، وغير أهل لتوجيه الخطاب إليهم.
والمراد بالآيات: الآيات القرآنية الدالة على وحدانية الله- تعالى- وعلى صدق الرسول ﷺ فيما يبلغه عن ربه، وأضافها- سبحانه- إليه على سبيل التشريف
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٨٥.
39
والتعظيم، وأسند التلاوة إلى الآيات بصيغة المبنى للمفعول، للإشارة إلى أن هذه الآيات لوضوحها، ولمعرفتهم التامة لتاليها، صارت بغير حاجة إلى تعيين تاليها صلى الله عليه وسلم.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: فماذا كان غرضهم- وهم أدهى الناس وأمكرهم- في هذا الاقتراح؟
قلت: الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع ولاختبار الحال، وأنه إذا وجد منه تبديل، فإما أن يهلكه الله فينجوا هم منه أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه، وتصحيحا لافترائه على الله» «١».
وقوله: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هذا القول أمر من الله- تعالى- لرسوله ﷺ بأن يرد عليهم بما يزهق باطلهم.
وكلمة تِلْقاءِ مصدر من اللقاء كتبيان من البيان، وكسر التاء فيهما سماعي، والقياس في هذا المصدر فتحها كالتكرار والتطواف والتجوال.
والمعنى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- على سبيل التوبيخ: لا يصح لي بحال من الأحوال، أن أبدل هذا القرآن من عند نفسي ومن جهتها وإنما أنا أبلغكم ما أنزل الله على منه، بدون زيادة أو نقصان، أو تغيير أو تبديل.
وقوله: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ تعليل لمضمون ما قبله من امتناع الإتيان بغيره أو تبديله، والاقتصار على اتباع الوحى.
أى: إنى أخاف إن عصيت ربي أية معصية، عذاب يوم عظيم الهول، وإذا كان شأنى أن أخشاه- سبحانه- من أية معصية ولو كانت صغيرة، فكيف لا أخشاه إن عصيت بتبديل كلامه استجابة لأهوائكم؟
ثم لقن الله- تعالى- رسوله ﷺ ردا آخر عليهم، زيادة في تسفيه أفكارهم فقال- تعالى-: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ، وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وقوله: وَلا أَدْراكُمْ بِهِ بمعنى ولا أعلمكم وأخبركم به، أى:
بهذا القرآن. يقال: دريت الشيء وأدرانى الله به، أى أعلمنى وأخبرنى به.
وأدرى فعل ماض، وفاعله مستتر يعود على الله- عز وجل- والكاف والميم مفعول به.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: فماذا كان غرضهم- وهم أدهى الناس وأمكرهم- في هذا الاقتراح؟
قلت: الكيد والمكر. أما اقتراح إبدال قرآن بقرآن ففيه أنه من عندك وأنك قادر على مثله، فأبدل مكانه آخر، وأما اقتراح التبديل والتغيير فللطمع ولاختبار الحال، وأنه إذا وجد منه تبديل، فإما أن يهلكه الله فينجوا هم منه أو لا يهلكه فيسخروا منه، ويجعلوا التبديل حجة عليه، وتصحيحا لافترائه على الله» «١».
وقوله: قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هذا القول أمر من الله- تعالى- لرسوله ﷺ بأن يرد عليهم بما يزهق باطلهم.
وكلمة تِلْقاءِ مصدر من اللقاء كتبيان من البيان، وكسر التاء فيهما سماعي، والقياس في هذا المصدر فتحها كالتكرار والتطواف والتجوال.
والمعنى: قل لهم- أيها الرسول الكريم- على سبيل التوبيخ: لا يصح لي بحال من الأحوال، أن أبدل هذا القرآن من عند نفسي ومن جهتها وإنما أنا أبلغكم ما أنزل الله على منه، بدون زيادة أو نقصان، أو تغيير أو تبديل.
وقوله: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ تعليل لمضمون ما قبله من امتناع الإتيان بغيره أو تبديله، والاقتصار على اتباع الوحى.
أى: إنى أخاف إن عصيت ربي أية معصية، عذاب يوم عظيم الهول، وإذا كان شأنى أن أخشاه- سبحانه- من أية معصية ولو كانت صغيرة، فكيف لا أخشاه إن عصيت بتبديل كلامه استجابة لأهوائكم؟
ثم لقن الله- تعالى- رسوله ﷺ ردا آخر عليهم، زيادة في تسفيه أفكارهم فقال- تعالى-: قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ، وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ وقوله: وَلا أَدْراكُمْ بِهِ بمعنى ولا أعلمكم وأخبركم به، أى:
بهذا القرآن. يقال: دريت الشيء وأدرانى الله به، أى أعلمنى وأخبرنى به.
وأدرى فعل ماض، وفاعله مستتر يعود على الله- عز وجل- والكاف والميم مفعول به.
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٢٩.
40
والمعنى: قل لهم- أيضا- أيها الرسول الكريم- لو شاء الله- تعالى- أن لا أتلوا عليكم هذا القرآن لفعل، ولو شاء أن يجعلكم لا تدرون منه شيئا، لفعل- أيضا-، فإن مرد الأمور كلها إليه، ولكنه- سبحانه- شاء وأراد أن أتلوه عليكم، وأن يعلمكم به بواسطتى، فأنا رسول مبلغ ما أمرنى الله بتبليغه.
قال القرطبي: «وقرأ ابن كثير: ولأدراكم به بغير ألف بين للام والهمزة.
والمعنى: لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل» «١».
وجاءت الآية الكريمة بدون عطف على ما قبلها، إظهارا لكمال شأن المأمور به. وإيذانا باستقلاله، فإن ما سبق كان للرد على اقتراحهم تبديل القرآن. وهذه الآية للرد على اقتراحهم الإتيان بغيره.
ومفعول المشيئة محذوف. لأن جزاء الشرط ينبئ عنه، أى: لو شاء الله عدم تلاوته ما تلوته عليكم:
وقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ تعليل للملازمة المستلزمة لكون عدم التلاوة وعدم العلم منوط بمشيئة الله- تعالى- وقوله: عُمُراً منصوب على الظرفية وهو كناية عن المدة الطويلة. أى: فأنتم تعلمون أنى قد مكثت فيما بينكم، مدة طويلة من الزمان، قبل أن أبلغكم هذا القرآن، حفظتم خلالها أحوالى، وأحطتم خبرا بأقوالى وأفعالى، وعرفتم أنى لم أقرأ عليكم من آية أو سورة مما يشهد أن هذا القرآن إنما هو من عند الله- تعالى-.
والهمزة في قوله أَفَلا تَعْقِلُونَ داخلة على محذوف. وهي للاستفهام التوبيخي.
والتقدير: أجهلتم هذا الأمر الجلى الواضح، فصرتم لا تعقلون أن أمثال هذه الاقتراحات المتعنتة التي اقترحتموها لا يملك تنفيذها أحد إلا الله- تعالى-.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: «أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يرد عليهم بما جاء في هذه الآية وتقريره: أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله ﷺ من أول عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله. وأنه ما طالع كتابا ولا تتلمذ على أستاذ ولا تعلم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه، جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين، وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا
قال القرطبي: «وقرأ ابن كثير: ولأدراكم به بغير ألف بين للام والهمزة.
والمعنى: لو شاء الله لأعلمكم به من غير أن أتلوه عليكم فهي لام التأكيد دخلت على ألف أفعل» «١».
وجاءت الآية الكريمة بدون عطف على ما قبلها، إظهارا لكمال شأن المأمور به. وإيذانا باستقلاله، فإن ما سبق كان للرد على اقتراحهم تبديل القرآن. وهذه الآية للرد على اقتراحهم الإتيان بغيره.
ومفعول المشيئة محذوف. لأن جزاء الشرط ينبئ عنه، أى: لو شاء الله عدم تلاوته ما تلوته عليكم:
وقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ تعليل للملازمة المستلزمة لكون عدم التلاوة وعدم العلم منوط بمشيئة الله- تعالى- وقوله: عُمُراً منصوب على الظرفية وهو كناية عن المدة الطويلة. أى: فأنتم تعلمون أنى قد مكثت فيما بينكم، مدة طويلة من الزمان، قبل أن أبلغكم هذا القرآن، حفظتم خلالها أحوالى، وأحطتم خبرا بأقوالى وأفعالى، وعرفتم أنى لم أقرأ عليكم من آية أو سورة مما يشهد أن هذا القرآن إنما هو من عند الله- تعالى-.
والهمزة في قوله أَفَلا تَعْقِلُونَ داخلة على محذوف. وهي للاستفهام التوبيخي.
والتقدير: أجهلتم هذا الأمر الجلى الواضح، فصرتم لا تعقلون أن أمثال هذه الاقتراحات المتعنتة التي اقترحتموها لا يملك تنفيذها أحد إلا الله- تعالى-.
قال الإمام الرازي ما ملخصه: «أمر الله تعالى رسوله ﷺ أن يرد عليهم بما جاء في هذه الآية وتقريره: أن أولئك الكفار كانوا قد شاهدوا رسول الله ﷺ من أول عمره إلى ذلك الوقت، وكانوا عالمين بأحواله. وأنه ما طالع كتابا ولا تتلمذ على أستاذ ولا تعلم من أحد، ثم بعد انقراض أربعين سنة على هذا الوجه، جاءهم بهذا الكتاب العظيم المشتمل على نفائس علم الأصول ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأولين، وعجز عن معارضته العلماء والفصحاء والبلغاء، وكل من له عقل سليم فإنه يعرف أن مثل هذا
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٣٠.
41
لا يحصل إلا بالوحي والإلهام من الله- تعالى- «١».
ثم ختم- سبحانه- الرد على هؤلاء الذين لا يرجون لقاءه، بالحكم عليهم بعدم الفلاح فقال- تعالى- فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ والاستفهام في قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ للإنكار والنفي.
أى: لا أحد أشد ظلما عند الله، وأجدر بعقابه وغضبه، ممن افترى عليه الكذب، بأن نسب إليه- سبحانه- ما هو برىء منه، أو كذب بآياته وحججه التي أنزلها لتأييد رسله.
وقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ تذييل قصد به التهديد والوعيد.
أى: إن حال وشأن هؤلاء المجرمين، أنهم لا يفلحون. ولا يصلون إلى ما يبغون ويريدون.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الشواهد الدالة على صدق النبي ﷺ فيما بلغه عن ربه فقال عند تفسيره لهذه الآية: «لا أحد أشد ظلما ممن افترى على الله كذبا، وتقول على الله، وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك.. ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء. فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا. فلا بد أن الله ينصب من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس. فإن الفرق بين محمد ﷺ وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء. فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد ﷺ وكذب مسيلمة..» «٢».
ثم حكى- سبحانه- أقبح رذائلهم، وهي عبادتهم لغير الله، ودعواهم أن أصنامهم ستشفع لهم فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٨]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
ثم ختم- سبحانه- الرد على هؤلاء الذين لا يرجون لقاءه، بالحكم عليهم بعدم الفلاح فقال- تعالى- فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ، إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ والاستفهام في قوله: فَمَنْ أَظْلَمُ للإنكار والنفي.
أى: لا أحد أشد ظلما عند الله، وأجدر بعقابه وغضبه، ممن افترى عليه الكذب، بأن نسب إليه- سبحانه- ما هو برىء منه، أو كذب بآياته وحججه التي أنزلها لتأييد رسله.
وقوله: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ تذييل قصد به التهديد والوعيد.
أى: إن حال وشأن هؤلاء المجرمين، أنهم لا يفلحون. ولا يصلون إلى ما يبغون ويريدون.
هذا، وقد ساق الإمام ابن كثير عند تفسيره لهذه الآيات بعض الشواهد الدالة على صدق النبي ﷺ فيما بلغه عن ربه فقال عند تفسيره لهذه الآية: «لا أحد أشد ظلما ممن افترى على الله كذبا، وتقول على الله، وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك.. ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء. فإن من قال هذه المقالة صادقا أو كاذبا. فلا بد أن الله ينصب من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس. فإن الفرق بين محمد ﷺ وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين وقت الضحى وبين نصف الليل في حندس الظلماء. فمن شيم كل منهما وأفعاله وكلامه يستدل من له بصيرة على صدق محمد ﷺ وكذب مسيلمة..» «٢».
ثم حكى- سبحانه- أقبح رذائلهم، وهي عبادتهم لغير الله، ودعواهم أن أصنامهم ستشفع لهم فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٨]
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨)
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٥٧.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤١.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٢ ص ٤١.
42
وهذه الآية الكريمة معطوفة على قوله- تعالى- قبل ذلك وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا..
عطف القصة على القصة.
والعبادة: الطاعة البالغة حد النهاية في الخضوع والتعظيم.
أى: وهؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا، ويطلبون قرآنا غير هذا القرآن أو تبديله، بلغ من جهلهم وسفههم أنهم يعبدون من دون الله أصناما لا تضرهم ولا تنفعهم، لأنها جمادات لا قدرة لها على ذلك.
والمقصود بوصفها بأنها لا تضر ولا تنفع: بطلان عبادتها، لأن من شأن المعبود أن يملك الضر والنفع، وأن يكون مثيبا على الطاعة ومعاقبا على المعصية.
وقوله: مِنْ دُونِ اللَّهِ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل يَعْبُدُونَ أى:
يعبدونها متجاوزين الله وتاركين طاعته.
وما موصولة أو نكرة موصوفة. والمراد بها الأصنام التي عبدوها من دون الله.
قال الجمل: «ونفى الضر والنفع هنا عن الأصنام باعتبار الذات، وإثباتهما لها في سورة الحج في قوله يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ باعتبار السبب، فلا يرد كيف نفى عن الأصنام الضر والنفع، وأثبتهما لها في سورة الحج» «١».
وقوله: وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ حكاية لأقوالهم السخيفة عند ما يدعون إلى عبادة الله وحده.
والشفعاء: جمع شفيع، وهو من يشفع لغيره في دفع ضرر أو جلب نفع.
أى: أنهم يدينون بالعبادة لأصنام لا تضرهم إن تركوا عبادتها، ولا تنفعهم إن عبدوها، فإذا ما طلب منهم أن يجعلوا عبادتهم لله وحده قالوا: إننا نعبد هذه الأصنام لتكون شفيعة لنا عند الله في دنيانا، بأن نتوسل إليه بها في إصلاح معاشنا، وفي آخرتنا إن كان هناك ثواب وعقاب يوم القيامة.
وهنا يأمر الله- تعالى- نبيه ﷺ أن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فيقول: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ.
أى: قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين: إن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء في هذا الكون ولا يعلم أن هناك من يشفع عنده مما تزعمون شفاعته. فهل تعلمون أنتم ما لا يعلمه، وهل
عطف القصة على القصة.
والعبادة: الطاعة البالغة حد النهاية في الخضوع والتعظيم.
أى: وهؤلاء الذين لا يرجون لقاءنا، ويطلبون قرآنا غير هذا القرآن أو تبديله، بلغ من جهلهم وسفههم أنهم يعبدون من دون الله أصناما لا تضرهم ولا تنفعهم، لأنها جمادات لا قدرة لها على ذلك.
والمقصود بوصفها بأنها لا تضر ولا تنفع: بطلان عبادتها، لأن من شأن المعبود أن يملك الضر والنفع، وأن يكون مثيبا على الطاعة ومعاقبا على المعصية.
وقوله: مِنْ دُونِ اللَّهِ جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل يَعْبُدُونَ أى:
يعبدونها متجاوزين الله وتاركين طاعته.
وما موصولة أو نكرة موصوفة. والمراد بها الأصنام التي عبدوها من دون الله.
قال الجمل: «ونفى الضر والنفع هنا عن الأصنام باعتبار الذات، وإثباتهما لها في سورة الحج في قوله يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ باعتبار السبب، فلا يرد كيف نفى عن الأصنام الضر والنفع، وأثبتهما لها في سورة الحج» «١».
وقوله: وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ حكاية لأقوالهم السخيفة عند ما يدعون إلى عبادة الله وحده.
والشفعاء: جمع شفيع، وهو من يشفع لغيره في دفع ضرر أو جلب نفع.
أى: أنهم يدينون بالعبادة لأصنام لا تضرهم إن تركوا عبادتها، ولا تنفعهم إن عبدوها، فإذا ما طلب منهم أن يجعلوا عبادتهم لله وحده قالوا: إننا نعبد هذه الأصنام لتكون شفيعة لنا عند الله في دنيانا، بأن نتوسل إليه بها في إصلاح معاشنا، وفي آخرتنا إن كان هناك ثواب وعقاب يوم القيامة.
وهنا يأمر الله- تعالى- نبيه ﷺ أن يرد عليهم بما يخرس ألسنتهم فيقول: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ.
أى: قل يا محمد لهؤلاء الجاهلين: إن الله- تعالى- لا يخفى عليه شيء في هذا الكون ولا يعلم أن هناك من يشفع عنده مما تزعمون شفاعته. فهل تعلمون أنتم ما لا يعلمه، وهل
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٣٧.
43
تخبرونه بما لا يعلم له وجودا في السموات ولا في الأرض؟!! فالمقصود بهذه الجملة الكريمة التهكم بهم، والسخرية بعقولهم وأفكارهم، ونفى أن تكون الأوثان شفعاء عند الله بأبلغ وجه.
والعائد في قوله بِما لا يَعْلَمُ محذوف. والتقدير بما لا يعلمه.
وقوله فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف، وهو مؤكد للنفي، لأن مالا يوجد فيهما فهو منتف عادة.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت كيف: أنبأوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم، وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل. فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق علمه به، كما يخبر الرجل بما لا يعلمه.
وقوله فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ تأكيد لنفيه، لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم» «١».
وقوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عن كل شريك، وعما قاله هؤلاء الجاهلون من أن الأصنام شفعاء عنده.
وبذلك تكون الآية الكريمة قد وبخت المشركين على عبادتهم لغير الله وعلى جهالاتهم وتقولهم على الله بغير علم.
ثم بين- سبحانه- أن عبادة الناس لغيره- تعالى- إنما حدثت بعد أن اختلفوا واتبعوا الهوى. فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٩]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)
والمراد بالناس: الجنس البشرى كله في جملته، فإنهم كانوا أمة واحدة. ثم كثروا وتفرقوا وصاروا شعوبا وقبائل.
والعائد في قوله بِما لا يَعْلَمُ محذوف. والتقدير بما لا يعلمه.
وقوله فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف، وهو مؤكد للنفي، لأن مالا يوجد فيهما فهو منتف عادة.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت كيف: أنبأوا الله بذلك؟ قلت: هو تهكم بهم، وبما ادعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأن الذي أنبأوا به باطل. فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق علمه به، كما يخبر الرجل بما لا يعلمه.
وقوله فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ تأكيد لنفيه، لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم» «١».
وقوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عن كل شريك، وعما قاله هؤلاء الجاهلون من أن الأصنام شفعاء عنده.
وبذلك تكون الآية الكريمة قد وبخت المشركين على عبادتهم لغير الله وعلى جهالاتهم وتقولهم على الله بغير علم.
ثم بين- سبحانه- أن عبادة الناس لغيره- تعالى- إنما حدثت بعد أن اختلفوا واتبعوا الهوى. فقال:
[سورة يونس (١٠) : آية ١٩]
وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩)
والمراد بالناس: الجنس البشرى كله في جملته، فإنهم كانوا أمة واحدة. ثم كثروا وتفرقوا وصاروا شعوبا وقبائل.
(١) راجع تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣١.
44
ويرى بعض المفسرين أن المراد بالناس هنا: العرب خاصة، فإنهم كانوا حنفاء على ملة إبراهيم، إلى أن ظهر فيهم عمرو بن لحى الذي ابتدع لهم عبادة الأصنام.
قال الآلوسى: «قوله وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا أى: وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف، وروى هذا عن ابن عباس والسدى ومجاهد.. وذلك من عهد آدم- عليه السلام- إلى أن قتل قابيل هابيل.
وقيل إلى زمن إدريس- عليه السلام- وقيل إلى زمن نوح. وقيل كانوا كذلك في زمنه- عليه السلام- بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر.
وقيل: من لدن إبراهيم- عليه السلام- إلى أن أظهر عمرو بن لحي عبادة الأصنام، وهو المروي عن عطاء. وعليه فالمراد من الناس العرب خاصة. وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكى عنهم من رذائل، وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك» «١».
وقوله: فَاخْتَلَفُوا أى ما بين ضال ومهتد، فبعث الله إليهم رسله، ليبشروا المهتدين بجزيل الثواب، ولينذروا الضالين بسوء العقاب.
والفاء للتعقيب، وهي لا تنافى امتداد زمان اتفاقهم على الحق، لأن المراد بيان أن وقوع الاختلاف بينهم إنما حدث عقيب انتهاء مدة الاتفاق، لا عقيب حدوثه.
والمراد بالكلمة في قوله:
أى: ولولا كلمة سبقت من ربك بتأخير القضاء بين الطائعين والعاصين إلى يوم القيامة، لقضى بينهم- سبحانه- في هذه الدنيا. فيما كانوا يختلفون فيه وذلك بأن يعجل للكافرين والعصاة العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، ولكنه- سبحانه- اقتضت حكمته عدم تعجيل العقوبة في الدنيا، وأن يجعل الدار الآخرة هي دار الجزاء والثواب والعقاب.
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة الوعيد الشديد على الاختلاف المؤدى إلى التفرقة في الدين، وإلى الشقاق والنزاع، كما تضمنت تسلية الرسول ﷺ عما أصابه من قومه: فكأنه- سبحانه- يقول إن الاختلاف من طبيعة البشر، فلا تنتظر من الناس جميعا أن يكونوا مؤمنين. ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من ألوان تعنت المشركين وجهالاتهم فقال- تعالى-:
قال الآلوسى: «قوله وَما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا أى: وما كان الناس كافة من أول الأمر إلا متفقين على الحق والتوحيد من غير اختلاف، وروى هذا عن ابن عباس والسدى ومجاهد.. وذلك من عهد آدم- عليه السلام- إلى أن قتل قابيل هابيل.
وقيل إلى زمن إدريس- عليه السلام- وقيل إلى زمن نوح. وقيل كانوا كذلك في زمنه- عليه السلام- بعد أن لم يبق على الأرض من الكافرين ديار إلى أن ظهر بينهم الكفر.
وقيل: من لدن إبراهيم- عليه السلام- إلى أن أظهر عمرو بن لحي عبادة الأصنام، وهو المروي عن عطاء. وعليه فالمراد من الناس العرب خاصة. وهو الأنسب بإيراد الآية الكريمة إثر حكاية ما حكى عنهم من رذائل، وتنزيه ساحة الكبرياء عن ذلك» «١».
وقوله: فَاخْتَلَفُوا أى ما بين ضال ومهتد، فبعث الله إليهم رسله، ليبشروا المهتدين بجزيل الثواب، ولينذروا الضالين بسوء العقاب.
والفاء للتعقيب، وهي لا تنافى امتداد زمان اتفاقهم على الحق، لأن المراد بيان أن وقوع الاختلاف بينهم إنما حدث عقيب انتهاء مدة الاتفاق، لا عقيب حدوثه.
والمراد بالكلمة في قوله:
وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ | ما قضاه الله- تعالى- وأراده من تأخير الحكم بين المؤمنين وغيرهم إلى يوم القيامة. |
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة الوعيد الشديد على الاختلاف المؤدى إلى التفرقة في الدين، وإلى الشقاق والنزاع، كما تضمنت تسلية الرسول ﷺ عما أصابه من قومه: فكأنه- سبحانه- يقول إن الاختلاف من طبيعة البشر، فلا تنتظر من الناس جميعا أن يكونوا مؤمنين. ثم حكى- سبحانه- لونا آخر من ألوان تعنت المشركين وجهالاتهم فقال- تعالى-:
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٩٠.
45
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٠]
وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)ومرادهم بالآية التي طلبوها: آية كونية سوى القرآن الكريم، بأن تكون معه ﷺ ناقة كناقة صالح- عليه السلام- أو تكون معه عصا كعصا موسى- عليه السلام- وكأنهم لا يعتبرون القرآن آية كبرى، ومعجزة عظمى على صدقه صلى الله عليه وسلم.
ومرادهم بإنزالها عليه: ظهورها على يديه ﷺ حتى يروا ذلك بأعينهم.
أى: ويقول هؤلاء المشركون لنبيهم ﷺ هلا أنزل الله عليك آية أخرى سوى القرآن الكريم تكون شاهدة لك بالنبوة، كأن تعيد إلى الحياة آباءنا، وكأن تحول جبال مكة إلى بساتين».
ومطالبهم هذه إنما طلبوها على سبيل العناد والتعنت لا على سبيل الاسترشاد والثبت، قال- تعالى-: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ.. «١».
وقوله: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أمر من الله- تعالى- لرسوله ﷺ بأن يرد عليهم بما يفحمهم.
أى: قل لهم في الجواب على هذه المطالب المتعنتة: إن هذه المطالب التي طلبتموها هي من علم الغيب الذي استأثر الله به، فقد يجيبكم إليها- سبحانه- وقد لا يجيبكم، فانتظروا فيما يقضيه الله في أمر تعنتكم في مطالبكم، إنى معكم من المنتظرين لقضائه وقدره، ولما يفعله بي وبكم.
فالجملة الكريمة تهديد لهم على تعنتهم وجهلهم، وتهوينهم من شأن القرآن الكريم، مع أنه أصدق معجزة للرسول ﷺ وأعظمها.
ولقد حكى القرآن- في آيات أخرى كثيرة- المطالب المتعنتة التي طلبها المشركون من النبي ﷺ والتي تدل على عنادهم وجحودهم، ومن ذلك قوله- تعالى-: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً. أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً. أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا، أَوْ
(١) سورة الأنعام الآية ١١١. [.....]
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨ
ﰔ
ﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓ
ﰕ
ﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ
ﰖ
يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ. قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا «١».
كما حكى أيضا- سبحانه- أنه لو أجابهم إلى مطالبهم لما آمنوا، لأنهم معاندون جاحدون فقال- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
«٢».
وقال- سبحانه-: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ «٣».
وبعد أن ساقت السورة الكريمة جانبا من أقوال الذين لا يرجون لقاء الله ومن مقترحاتهم الباطلة ومن معتقداتهم الفاسدة، أتبعت ذلك بتصوير بعض الطبائع البشرية تصويرا صادقا يكشف عن أحوال النفوس في حالتي السراء والضراء فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
كما حكى أيضا- سبحانه- أنه لو أجابهم إلى مطالبهم لما آمنوا، لأنهم معاندون جاحدون فقال- تعالى- إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
«٢».
وقال- سبحانه-: وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ «٣».
وبعد أن ساقت السورة الكريمة جانبا من أقوال الذين لا يرجون لقاء الله ومن مقترحاتهم الباطلة ومن معتقداتهم الفاسدة، أتبعت ذلك بتصوير بعض الطبائع البشرية تصويرا صادقا يكشف عن أحوال النفوس في حالتي السراء والضراء فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)
(١) سورة الإسراء الآيات ٩٠- ٩٣.
(٢) سورة يونس الآيتان ٩٥، ٩٦.
(٣) سورة الأنعام الآية ٧.
(٢) سورة يونس الآيتان ٩٥، ٩٦.
(٣) سورة الأنعام الآية ٧.
47
وقوله أَذَقْنَا من الذوق وحقيقته إدراك الطعام ونحوه بالذوق باللسان واستعمل هنا على سبيل المجاز في إدراك ما يسر وما يؤلم من المعنويات كالرحمة والضراء.
قال الآلوسى «والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل، لما روى من أن الله- تعالى- سلط عليهم القحط سبع سنين، حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه أن يدعو لهم بالخصب، ووعدوه بالإيمان، فلما دعا لهم ورحمهم الله- تعالى- بالمطر، طفقوا يطعنون في آياته- تعالى- ويعاندون نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن الناس عام لجميع الكفار» «١».
والضراء من الضر، وهو ما يصيب الإنسان في نفسه من أمراض وأسقام.
والمكر: هو التدبير الخفى الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يتوقعه من مضرة وكيد.
والمعنى: وإذا أذقنا الناس منا رحمة كأن منحناهم الصحة والسعادة والغنى من بعد ضراء أصابتهم في أنفسهم أو فيمن يحبون، ما كان منهم إلا المبادرة إلى الطعن في آياتنا الدالة على قدرتنا، والاستهزاء بها والتهوين من شأنها.
وأسند إذاقته الرحمة إلى ضمير الجلالة، وأسند المساس إلى الضراء، رعاية للأدب مع الله- تعالى-، لأنه وإن كان كل شيء من عنده، إلا أن الأدب معه- سبحانه- يقتضى إسناد الخير إليه والشر إلى غيره كما في قوله- تعالى-: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وفي الحديث: «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك».
وإذا الأولى شرطية، والثانية فجائية والجملة بعدها جواب الشرط.
وجاء التعبير بإذا الفجائية في الجواب، للإشارة إلى توغلهم في الجحود والكنود فهم بمجرد أن حلت النعمة بهم محل النقمة، عادوا إلى عنادهم وجهلهم، ونسبوا كل خير إلى غيره- تعالى-.
قال الرازي: «واعلم أنه- تعالى- ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة في قوله- تعالى- وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ.. إلا أنه- تعالى- زاد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة.
قال الآلوسى «والمراد بالناس كفار مكة على ما قيل، لما روى من أن الله- تعالى- سلط عليهم القحط سبع سنين، حتى كادوا يهلكون فطلبوا منه أن يدعو لهم بالخصب، ووعدوه بالإيمان، فلما دعا لهم ورحمهم الله- تعالى- بالمطر، طفقوا يطعنون في آياته- تعالى- ويعاندون نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقيل: إن الناس عام لجميع الكفار» «١».
والضراء من الضر، وهو ما يصيب الإنسان في نفسه من أمراض وأسقام.
والمكر: هو التدبير الخفى الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يتوقعه من مضرة وكيد.
والمعنى: وإذا أذقنا الناس منا رحمة كأن منحناهم الصحة والسعادة والغنى من بعد ضراء أصابتهم في أنفسهم أو فيمن يحبون، ما كان منهم إلا المبادرة إلى الطعن في آياتنا الدالة على قدرتنا، والاستهزاء بها والتهوين من شأنها.
وأسند إذاقته الرحمة إلى ضمير الجلالة، وأسند المساس إلى الضراء، رعاية للأدب مع الله- تعالى-، لأنه وإن كان كل شيء من عنده، إلا أن الأدب معه- سبحانه- يقتضى إسناد الخير إليه والشر إلى غيره كما في قوله- تعالى-: وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وفي الحديث: «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك».
وإذا الأولى شرطية، والثانية فجائية والجملة بعدها جواب الشرط.
وجاء التعبير بإذا الفجائية في الجواب، للإشارة إلى توغلهم في الجحود والكنود فهم بمجرد أن حلت النعمة بهم محل النقمة، عادوا إلى عنادهم وجهلهم، ونسبوا كل خير إلى غيره- تعالى-.
قال الرازي: «واعلم أنه- تعالى- ذكر هذا المعنى بعينه فيما تقدم من هذه السورة في قوله- تعالى- وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ.. إلا أنه- تعالى- زاد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها دقيقة أخرى ما ذكرها في تلك الآية، وتلك الدقيقة هي أنهم يمكرون عند وجدان الرحمة.
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٩٣.
48
وفي الآية المتقدمة ما كانت هذه الدقيقة مذكورة فثبت بما ذكرنا أن عادة هؤلاء الأقوام اللجاج والعناد والمكر «١».
وقوله: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أمر من الله- تعالى- لرسوله ﷺ بأن يرد عليهم بما يبطل مكرهم.
أى: قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين الذين يسرعون بالمكر في مقام الشكر، إن الله- تعالى- أسرع مكرا منكم لأنه لا يخفى عليه شيء من مكركم، ولأن الحفظة من الملائكة يسجلون عليكم أقوالكم وأفعالكم، التي تحاسبون عليها في يوم القيامة حسابا عسيرا، وسترون أن مكركم السيئ لا يحيق إلا بكم.
وقوله: أَسْرَعُ أفعل تفضيل من الفعل الثلاثي سرع- كضخم وحسن-، أو من الفعل الرباعي «أسرع» عند من يرى ذلك.
والجملة الكريمة تحقيق للانتقام منهم. وتنبيه على أن مكرهم الخفى غير خاف على الحفظة من الملائكة فضلا عن الخالق- عز وجل- الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وسمى- سبحانه- إنكارهم لآياته واستهزاءهم بها مكرا، لأنهم كانوا كثيرا ما يتجمعون سرا، ليتشاوروا في المؤامرات التي يعرقلون بها سير الدعوة الإسلامية، وفي الشبهات التي يوجهونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ساق- سبحانه- مشهدا حيا. تراه العيون، وتهتز له القلوب، ويجعل المشاعر تتجه إلى الله وحده بالدعاء فقال- تعالى- هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ...
والسير معناه: الانتقال من مكان إلى آخر. والتسيير معناه: جعل الإنسان أو الحيوان أو غيرهما يسير بذاته، أو بواسطة دابة أو سفينة أو غيرهما، مما سخره الله- تعالى- له بقدرته ورحمته.
أى: هو- سبحانه- الذي يسيركم بقدرته ورحمته في البر والبحر، بواسطة ما وهبكم من قدرة على السير، أو ما سخر لكم من دواب وسفن وغيرهما مما تستعملونه في سفركم، وكل ذلك من أجل مصلحتكم ومنفعتكم.
ثم قال- تعالى- حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها....
وقوله: قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ أمر من الله- تعالى- لرسوله ﷺ بأن يرد عليهم بما يبطل مكرهم.
أى: قل يا محمد لهؤلاء الجاحدين الذين يسرعون بالمكر في مقام الشكر، إن الله- تعالى- أسرع مكرا منكم لأنه لا يخفى عليه شيء من مكركم، ولأن الحفظة من الملائكة يسجلون عليكم أقوالكم وأفعالكم، التي تحاسبون عليها في يوم القيامة حسابا عسيرا، وسترون أن مكركم السيئ لا يحيق إلا بكم.
وقوله: أَسْرَعُ أفعل تفضيل من الفعل الثلاثي سرع- كضخم وحسن-، أو من الفعل الرباعي «أسرع» عند من يرى ذلك.
والجملة الكريمة تحقيق للانتقام منهم. وتنبيه على أن مكرهم الخفى غير خاف على الحفظة من الملائكة فضلا عن الخالق- عز وجل- الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
وسمى- سبحانه- إنكارهم لآياته واستهزاءهم بها مكرا، لأنهم كانوا كثيرا ما يتجمعون سرا، ليتشاوروا في المؤامرات التي يعرقلون بها سير الدعوة الإسلامية، وفي الشبهات التي يوجهونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
ثم ساق- سبحانه- مشهدا حيا. تراه العيون، وتهتز له القلوب، ويجعل المشاعر تتجه إلى الله وحده بالدعاء فقال- تعالى- هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ...
والسير معناه: الانتقال من مكان إلى آخر. والتسيير معناه: جعل الإنسان أو الحيوان أو غيرهما يسير بذاته، أو بواسطة دابة أو سفينة أو غيرهما، مما سخره الله- تعالى- له بقدرته ورحمته.
أى: هو- سبحانه- الذي يسيركم بقدرته ورحمته في البر والبحر، بواسطة ما وهبكم من قدرة على السير، أو ما سخر لكم من دواب وسفن وغيرهما مما تستعملونه في سفركم، وكل ذلك من أجل مصلحتكم ومنفعتكم.
ثم قال- تعالى- حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها....
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٦٥.
49
والفلك: ما عظم من السفن. ويستعمل هذا اللفظ عند كثير من العلماء للواحد والجمع.
والظاهر أن المراد به هنا الجمع، بدليل قوله وَجَرَيْنَ أى: السفن.
والمراد بالريح الطيبة: الريح المناسبة لسير السفن، والموافقة لا تجاهها.
أى: هو- سبحانه- وحده الذي ينقلكم من مكان إلى آخر في البر والبحر، حتى إذا كنتم في إحدى مرات تسييركم راكبين في السفن التي سخرها لكم، وجرت هذه السفن بمن فيها بسبب الريح الطيبة إلى المكان الذي تقصدونه، وأنتم في حالة فرح غامر، وسرور شامل.. جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ....
والريح العاصف: هي الريح الشديدة القوية. يقال: عصفت الريح وأعصفت فهي عاصف إذا اشتدت في سرعتها وهيجانها.
والموج: ما ارتفع من مياه البحار، والظن هنا بمعنى اليقين أو الاعتقاد الراجح، وقوله:
أُحِيطَ بِهِمْ، أى: أحاط بهم البلاء من كل ناحية. يقال لمن وقع في بلية: قد أحيط به.
وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بعدوه جعله على حافة الهلاك.
أى بعد أن جرت السفن بهؤلاء القوم في البحر وهم في فرح وحبور، جاءت إليهم ريح عاصفة شديدة السرعة والتقلب، وارتفع إليها الموج من كل مكان، واعتقد ركابها- الذين كانوا منذ قليل فرحين مبتهجين- أنهم قد أحاط بهم الهلاك كما يحيط العدو بعدوه.
وقوله: بِهِمْ فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، لأنه كان الظاهر أن يقال: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم لكن جاء الكلام على أسلوب الالتفات للمبالغة في تقبيح أحوالهم، وسوء صنيعهم.
قال صاحب الكشاف «فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟ قلت:
المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح» «١».
وقوله: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ بيان لما قالوه بعد أن داهمتهم الرياح العاصفة، والأمواج العالية وبعد أن أيقنوا أنهم على حافة الموت.
أى في تلك الساعات العصيبة، واللحظات الحرجة، توجهوا إلى الله وحده قائلين: نقسم لك يا ربنا، ويا من لا يعجزك شيء، لئن أنجيتنا من تلك الأهوال التي نحن فيها، لنكونن
والظاهر أن المراد به هنا الجمع، بدليل قوله وَجَرَيْنَ أى: السفن.
والمراد بالريح الطيبة: الريح المناسبة لسير السفن، والموافقة لا تجاهها.
أى: هو- سبحانه- وحده الذي ينقلكم من مكان إلى آخر في البر والبحر، حتى إذا كنتم في إحدى مرات تسييركم راكبين في السفن التي سخرها لكم، وجرت هذه السفن بمن فيها بسبب الريح الطيبة إلى المكان الذي تقصدونه، وأنتم في حالة فرح غامر، وسرور شامل.. جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ، وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ....
والريح العاصف: هي الريح الشديدة القوية. يقال: عصفت الريح وأعصفت فهي عاصف إذا اشتدت في سرعتها وهيجانها.
والموج: ما ارتفع من مياه البحار، والظن هنا بمعنى اليقين أو الاعتقاد الراجح، وقوله:
أُحِيطَ بِهِمْ، أى: أحاط بهم البلاء من كل ناحية. يقال لمن وقع في بلية: قد أحيط به.
وأصل هذا أن العدو إذا أحاط بعدوه جعله على حافة الهلاك.
أى بعد أن جرت السفن بهؤلاء القوم في البحر وهم في فرح وحبور، جاءت إليهم ريح عاصفة شديدة السرعة والتقلب، وارتفع إليها الموج من كل مكان، واعتقد ركابها- الذين كانوا منذ قليل فرحين مبتهجين- أنهم قد أحاط بهم الهلاك كما يحيط العدو بعدوه.
وقوله: بِهِمْ فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، لأنه كان الظاهر أن يقال: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم لكن جاء الكلام على أسلوب الالتفات للمبالغة في تقبيح أحوالهم، وسوء صنيعهم.
قال صاحب الكشاف «فإن قلت: ما فائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة؟ قلت:
المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعى منهم الإنكار والتقبيح» «١».
وقوله: دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ بيان لما قالوه بعد أن داهمتهم الرياح العاصفة، والأمواج العالية وبعد أن أيقنوا أنهم على حافة الموت.
أى في تلك الساعات العصيبة، واللحظات الحرجة، توجهوا إلى الله وحده قائلين: نقسم لك يا ربنا، ويا من لا يعجزك شيء، لئن أنجيتنا من تلك الأهوال التي نحن فيها، لنكونن
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٣١.
50
من الشاكرين لك، المطيعين لأمرك، المتبعين لشرعك.
وهنا، وبعد هذا الدعاء العريض، هدأت العاصفة. وانخفضت الأمواج، وسكنت النفوس بعض السكون، ووصلت السفن إلى شاطئ الأمان فماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة كما صورها القرآن الكريم: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ...
أى: فحين أنجاهم الله- تعالى- بفضله ورحمته من هذا الكرب العظيم الذي كانوا فيه، إذا هم يسعون في الأرض فسادا. ويرتكبون البغي الفاضح الذي لا يخفى قبحه على أحد.
وقيد البغي بكونه بغير الحق، لأنه لا يكون إلا كذلك، إذا البغي معناه: تجاوز الحق، يقال: بغى الجرح إذا تجاوز حده في الفساد.
فقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ تأكيد لما يفيده البغي من التعدي والظلم، فهو بغى ظاهر سافر لا يخفى قبحه على أحد.
وقيل قيده بذلك ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه. فإنه يسمى بغيا في الجملة، لكنه بحق. وهو قول ضعيف، لأن دفع البغي لا يسمى بغيا وإنما يسمى إنصافا من الظالم، ولذا قال القرآن الكريم: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ «١».
وجاء التعبير بالفاء وإذا الفجائية، للإشعار بأنهم قوم بلغ بهم اللؤم والجحود، أنهم بمجرد أن وطئت أقدامهم بر الأمان، نسوا ما كانوا فيه من أهوال، وسارعوا إلى الفساد في الأرض، دون أن يردعهم رادع، أو يصدهم ترغيب أو ترهيب.
والتعبير بقوله فِي الْأَرْضِ للإشارة إلى أن بغيهم قد شمل أقطارها، ولم يقتصر على جانب من جوانبها.
وقوله- سبحانه- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ خطاب منه- سبحانه- لأولئك البغاة في كل زمان ومكان، قصد به التهديد والوعيد.
أى: يا أيها الناس الذين تضرعوا إلينا في ساعات الشدة، وهرولوا إلى البغي بعد زوال تلك الشدة، اعلموا أن بغيكم هذا مرجعه إليكم لا إلى غيركم فأنتم وحدكم الذين تتحملون سوء عاقبته في الدنيا والآخرة.
وهنا، وبعد هذا الدعاء العريض، هدأت العاصفة. وانخفضت الأمواج، وسكنت النفوس بعض السكون، ووصلت السفن إلى شاطئ الأمان فماذا كانت النتيجة؟
كانت النتيجة كما صورها القرآن الكريم: فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ...
أى: فحين أنجاهم الله- تعالى- بفضله ورحمته من هذا الكرب العظيم الذي كانوا فيه، إذا هم يسعون في الأرض فسادا. ويرتكبون البغي الفاضح الذي لا يخفى قبحه على أحد.
وقيد البغي بكونه بغير الحق، لأنه لا يكون إلا كذلك، إذا البغي معناه: تجاوز الحق، يقال: بغى الجرح إذا تجاوز حده في الفساد.
فقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ تأكيد لما يفيده البغي من التعدي والظلم، فهو بغى ظاهر سافر لا يخفى قبحه على أحد.
وقيل قيده بذلك ليخرج البغي على الغير في مقابلة بغيه. فإنه يسمى بغيا في الجملة، لكنه بحق. وهو قول ضعيف، لأن دفع البغي لا يسمى بغيا وإنما يسمى إنصافا من الظالم، ولذا قال القرآن الكريم: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ «١».
وجاء التعبير بالفاء وإذا الفجائية، للإشعار بأنهم قوم بلغ بهم اللؤم والجحود، أنهم بمجرد أن وطئت أقدامهم بر الأمان، نسوا ما كانوا فيه من أهوال، وسارعوا إلى الفساد في الأرض، دون أن يردعهم رادع، أو يصدهم ترغيب أو ترهيب.
والتعبير بقوله فِي الْأَرْضِ للإشارة إلى أن بغيهم قد شمل أقطارها، ولم يقتصر على جانب من جوانبها.
وقوله- سبحانه- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ خطاب منه- سبحانه- لأولئك البغاة في كل زمان ومكان، قصد به التهديد والوعيد.
أى: يا أيها الناس الذين تضرعوا إلينا في ساعات الشدة، وهرولوا إلى البغي بعد زوال تلك الشدة، اعلموا أن بغيكم هذا مرجعه إليكم لا إلى غيركم فأنتم وحدكم الذين تتحملون سوء عاقبته في الدنيا والآخرة.
(١) سورة الشورى الآية ٤١.
51
واعلموا أن هذا البغي إنما تتمتعون به متاع الحياة الدنيا التي لا بقاء لها، وإنما هي إلى زوال وفناء.
واعلموا كذلك أن مردكم إلينا بعد هذا التمتع الفاني. فنخبركم يوم الدين بكل أعمالكم، وسنجازيكم عليها بالجزاء الذي تستحقونه.
وقوله: إِنَّما بَغْيُكُمْ مبتدأ وخبره عَلى أَنْفُسِكُمْ أى هو عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم.
وقوله: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا: قرأ حفص عن عاصم مَتاعَ بفتح العين على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر. أى: تتمتعون به متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية.
وقرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: هو متاع الحياة الدنيا. وقوله:
ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تذييل قصد به تهديدهم على بغيهم، ووعيدهم عليه بسوء المصير حتى يرتدعوا وينزجروا.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
١- أن من الواجب على العاقل أن يكثر من ذكر الله في حالتي الشدة والرخاء، وأن لا يكون ممن يدعون الله عند الضر وينسونه عند العافية، ففي الحديث الشريف: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».
٢- ان الناس جبلوا على الرجوع إل الله وحده عند المصائب والمحن، وفي ذلك يقول الآلوسى: «روى أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبى وقاص قال: لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبى جهل فركب البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أصحاب السفينة لركابها: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئا. فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص، ما ينجيني في البر غيره. اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتى محمدا حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوا كريما. قال: فجاء فأسلم.
وفي رواية ابن سعد عن أبى مليكه: أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله- تعالى- ويوحدونه فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله- تعالى-. قال: «فهذا ما يدعونا إليه محمد ﷺ فارجعوا بنا». فرجع وأسلم... » «١».
وقال الفخر الرازي: «يحكى أن واحدا قال لجعفر الصادق: اذكر لي دليلا على إثبات
واعلموا كذلك أن مردكم إلينا بعد هذا التمتع الفاني. فنخبركم يوم الدين بكل أعمالكم، وسنجازيكم عليها بالجزاء الذي تستحقونه.
وقوله: إِنَّما بَغْيُكُمْ مبتدأ وخبره عَلى أَنْفُسِكُمْ أى هو عليكم في الحقيقة لا على الذين تبغون عليهم.
وقوله: مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا: قرأ حفص عن عاصم مَتاعَ بفتح العين على أنه مصدر مؤكد لفعل مقدر. أى: تتمتعون به متاع الحياة الدنيا الزائلة الفانية.
وقرأ الجمهور بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير: هو متاع الحياة الدنيا. وقوله:
ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تذييل قصد به تهديدهم على بغيهم، ووعيدهم عليه بسوء المصير حتى يرتدعوا وينزجروا.
هذا، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هذه الآيات ما يأتى:
١- أن من الواجب على العاقل أن يكثر من ذكر الله في حالتي الشدة والرخاء، وأن لا يكون ممن يدعون الله عند الضر وينسونه عند العافية، ففي الحديث الشريف: «تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة».
٢- ان الناس جبلوا على الرجوع إل الله وحده عند المصائب والمحن، وفي ذلك يقول الآلوسى: «روى أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبى وقاص قال: لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبى جهل فركب البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أصحاب السفينة لركابها: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغنى عنكم شيئا. فقال عكرمة: لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص، ما ينجيني في البر غيره. اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتى محمدا حتى أضع يدي في يده، فلأجدنه عفوا كريما. قال: فجاء فأسلم.
وفي رواية ابن سعد عن أبى مليكه: أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله- تعالى- ويوحدونه فقال: ما هذا؟ فقالوا: هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله- تعالى-. قال: «فهذا ما يدعونا إليه محمد ﷺ فارجعوا بنا». فرجع وأسلم... » «١».
وقال الفخر الرازي: «يحكى أن واحدا قال لجعفر الصادق: اذكر لي دليلا على إثبات
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ٩٧.
52
الصانع؟ فقال له: أخبرنى عن حرفتك: فقال: أنا رجل أتجر في البحر. فقال له: صف لي كيفية حالك. فقال: ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح واحد من ألواحها، وجاءت الرياح العاصفة. فقال جعفر: هل وجدت في قلبك تضرعا ودعاء. فقال: نعم.
فقال جعفر: فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت» «١».
وقد ساق صاحب المنار قصة ملخصها «أن رجلا إنجليزيا قرأ ترجمة قوله- تعالى- هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. فراعته بلاغة وصفها لطغيان البحر.. وكان يعمل قائدا لإحدى السفن.. فسأل بعض المسلمين: أتعلمون أن نبيكم ﷺ قد سافر في البحار؟ فقالوا له: لا.. فأسلم الرجل لأنه اعتقد أن القرآن ليس من كلام البشر وإنما هو كلام الله- تعالى... » «٢».
٣- دل قوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ... على أن البغي يجازى أصحابه عليه في الدنيا والآخرة.
فأما في الآخرة فهو ما دل عليه إنذار أهله بأنه- سبحانه- سيجازيهم عليه أسوأ الجزاء.
وأما في الدنيا فبدليل قوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ويؤيده ما رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة سوى البغي وقطيعة الرحم» «٣».
قال الآلوسى. وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى «فقد أخرج أبو نعيم والخطيب والديلمي وغيرهم عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر والنكث والبغي» ثم تلا ﷺ قوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. وقوله- تعالى- فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وقوله- تعالى- وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما».
فقال جعفر: فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت» «١».
وقد ساق صاحب المنار قصة ملخصها «أن رجلا إنجليزيا قرأ ترجمة قوله- تعالى- هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ. فراعته بلاغة وصفها لطغيان البحر.. وكان يعمل قائدا لإحدى السفن.. فسأل بعض المسلمين: أتعلمون أن نبيكم ﷺ قد سافر في البحار؟ فقالوا له: لا.. فأسلم الرجل لأنه اعتقد أن القرآن ليس من كلام البشر وإنما هو كلام الله- تعالى... » «٢».
٣- دل قوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ... على أن البغي يجازى أصحابه عليه في الدنيا والآخرة.
فأما في الآخرة فهو ما دل عليه إنذار أهله بأنه- سبحانه- سيجازيهم عليه أسوأ الجزاء.
وأما في الدنيا فبدليل قوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ ويؤيده ما رواه البخاري في الأدب المفرد والترمذي وابن ماجة والحاكم من حديث أبى بكر الصديق- رضى الله عنه- أن رسول الله ﷺ قال: ما من ذنب يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة سوى البغي وقطيعة الرحم» «٣».
قال الآلوسى. وفي الآية من الزجر عن البغي ما لا يخفى «فقد أخرج أبو نعيم والخطيب والديلمي وغيرهم عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث هن رواجع على أهلها: المكر والنكث والبغي» ثم تلا ﷺ قوله- تعالى- يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ. وقوله- تعالى- فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وقوله- تعالى- وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لو بغى جبل على جبل لدك الباغي منهما».
(١) تفسير الفخر الرازي ج ١٧ ص ٢٧.
(٢) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٣٤٤.
(٣) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٣٤٣.
(٢) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٣٤٤.
(٣) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٣٤٣.
53
وكان المأمون يتمثل بهذين البيتين لأخيه:
ثم ساق- سبحانه- مثلا لمتاع الحياة الدنيا الزائل، ولزخرفها الفاني، فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٤]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)
وقوله- سبحانه- إِنَّما مَثَلُ... المثل بمعنى المثل، والمثل: النظير والشبيه، ثم اطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه- وهو الذي يضرب فيه- لمورده الذي ورد فيه أولا، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية وأشباهها.
والأمثال إنما تضرب لتوضيح المعنى الخفى، وتقريب الشيء المعقول من الشيء المحسوس، وعرض الأمر الغائب في صورة المشاهد، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب، وأثبت في النفوس.
والمعنى: إنما صفة الحياة الدنيا وحالها في سرعة زوالها، وانصرام نعيمها بعد إقباله. كحال ماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أى: فكثر بسببه نبات الأرض حتى التف وتشابك بعضه ببعض لازدهاره وتجاوزه ونمائه.
يا صاحب البغي إن البغي مصرعه | فارجع فخير فعال المرء أعدله |
فلو بغى جبل يوما على جبل | لاندك منه أعاليه وأسفله «١» |
[سورة يونس (١٠) : آية ٢٤]
إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤)
وقوله- سبحانه- إِنَّما مَثَلُ... المثل بمعنى المثل، والمثل: النظير والشبيه، ثم اطلق على القول السائر المعروف لمماثلة مضربه- وهو الذي يضرب فيه- لمورده الذي ورد فيه أولا، ولا يكون إلا فيما فيه غرابة. ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة، وعلى هذا المعنى يحمل المثل في هذه الآية وأشباهها.
والأمثال إنما تضرب لتوضيح المعنى الخفى، وتقريب الشيء المعقول من الشيء المحسوس، وعرض الأمر الغائب في صورة المشاهد، فيكون المعنى الذي ضرب له المثل أوقع في القلوب، وأثبت في النفوس.
والمعنى: إنما صفة الحياة الدنيا وحالها في سرعة زوالها، وانصرام نعيمها بعد إقباله. كحال ماء أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ أى: فكثر بسببه نبات الأرض حتى التف وتشابك بعضه ببعض لازدهاره وتجاوزه ونمائه.
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٠٠.
54
وشبه- سبحانه- الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض، لأن ماء السماء وهو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه بزيادة أو نقص- بخلاف ماء الأرض- فكان تشبيه الحياة به أنسب.
وقوله: مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ معناه: وهذا النبات الذي نما وازدهر بسبب نزول المطر من السماء، بعضه مما يأكله الناس كالبقول والفواكه. وبعضه مما تأكله الأنعام كالحشائش والأعشاب المختلفة.
وجملة مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حال من النبات.
وقوله: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ.. تصوير بديع لما صارت عليه الأرض بعد نزول الماء عليها، وبعد أن أنبتت من كل زوج بهيج.
ولفظ حَتَّى غاية لمحذوف: أى نزل المطر من السماء فاهتزت الأرض وربت وأنبتت النبات الذي ما زال ينمو ويزدهر حتى أخذت الأرض زخرفها.
والزخرف: الذهب وكمال حسن الشيء. ومن القول أحسنه، ومن الأرض ألوان نباتها.
أى: حتى إذا استوفت الأرض حسنها وبهاءها وجمالها، وازينت بمختلف أنواع النباتات ذات المناظر البديعة، والألوان المتعددة.
قال صاحب الكشاف: «وهو كلام فصيح. جعلت الأرض آخذة زخرفها وزينتها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها، وتزينت بغيرها من ألوان الزينة، أصل ازينت تزينت» «١».
وقوله: وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أى: وظن أهل تلك الأرض الزاخرة بالنباتات النافعة. أنهم قادرون على قطف ثمارها، ومتمكنون من التمتع بخيراتها، ومن الانتفاع بغلاتها.
وقوله: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً.. تصوير معجز لما أصاب زرعها من هلاك بعد نضرته واستوائه وأَوْ للتنويع أى: تارة يأتى ليلا وتارة يأتى نهارا.
والجملة الكريمة جواب إذا في قوله حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها...
أى: بعد أن بلغت الأرض الذروة في الجمال وفي تعلق الآمال بمنافع زروعها، أتاها قضاؤنا
وقوله: مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ معناه: وهذا النبات الذي نما وازدهر بسبب نزول المطر من السماء، بعضه مما يأكله الناس كالبقول والفواكه. وبعضه مما تأكله الأنعام كالحشائش والأعشاب المختلفة.
وجملة مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حال من النبات.
وقوله: حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ.. تصوير بديع لما صارت عليه الأرض بعد نزول الماء عليها، وبعد أن أنبتت من كل زوج بهيج.
ولفظ حَتَّى غاية لمحذوف: أى نزل المطر من السماء فاهتزت الأرض وربت وأنبتت النبات الذي ما زال ينمو ويزدهر حتى أخذت الأرض زخرفها.
والزخرف: الذهب وكمال حسن الشيء. ومن القول أحسنه، ومن الأرض ألوان نباتها.
أى: حتى إذا استوفت الأرض حسنها وبهاءها وجمالها، وازينت بمختلف أنواع النباتات ذات المناظر البديعة، والألوان المتعددة.
قال صاحب الكشاف: «وهو كلام فصيح. جعلت الأرض آخذة زخرفها وزينتها على التمثيل بالعروس إذا أخذت الثياب الفاخرة من كل لون فاكتستها، وتزينت بغيرها من ألوان الزينة، أصل ازينت تزينت» «١».
وقوله: وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أى: وظن أهل تلك الأرض الزاخرة بالنباتات النافعة. أنهم قادرون على قطف ثمارها، ومتمكنون من التمتع بخيراتها، ومن الانتفاع بغلاتها.
وقوله: أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً.. تصوير معجز لما أصاب زرعها من هلاك بعد نضرته واستوائه وأَوْ للتنويع أى: تارة يأتى ليلا وتارة يأتى نهارا.
والجملة الكريمة جواب إذا في قوله حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها...
أى: بعد أن بلغت الأرض الذروة في الجمال وفي تعلق الآمال بمنافع زروعها، أتاها قضاؤنا
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٣٢٣.
55
النافذ، وأمرنا المقدر لإهلاكها بالليل وأصحابها نائمون، أو بالنهار وهم لا هون، فجعلناها بما عليها كالأرض المحصودة، التي استؤصل زرعها.
وقوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ تأكيد لهلاكها واستئصال ما عليها من نبات بصورة سريعة حاسمة.
أى: جعلناها كالأرض المحصودة التي قطع زرعها، حتى لكأنها لم يكن بها منذ وقت قريب: الزرع النضير، والنبات البهيج، والنخل الباسق، والطلع النضيد.
قال القرطبي قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أى: لم تكن عامرة. من غنى بالمكان إذا أقام فيه وعمره، والمغانى في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس» «١».
وقال ابن كثير: قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أى كأنها ما كانت حينا قبل ذلك، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن، ولهذا جاء في الحديث الشريف: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا.
ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط فيقول لا» «٢».
والمراد بالأمس هنا: الوقت الماضي القريب: لا خصوص اليوم الذي قبل يومك.
وقوله: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تذييل قصد به الحض على التفكير والاعتبار.
أى: كهذا المثل في وضوحه وبيانه لحال الحياة الدنيا، وقصر مدة التمتع بها نفصل الآيات ونضرب الأمثال الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا لقوم يحسنون التفكير والتدبر في ملكوت السموات والأرض.
قال الجمل ما ملخصه: «وهذه الآية مثل ضربه الله- تعالى- للمتشبث في الدنيا الراغب في زهرتها وحسنها.. ووجه التمثيل أن غاية هذه الدنيا التي ينتفع بها المرء، كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به، وقع اليأس منه، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذتها» «٣».
وقوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ تأكيد لهلاكها واستئصال ما عليها من نبات بصورة سريعة حاسمة.
أى: جعلناها كالأرض المحصودة التي قطع زرعها، حتى لكأنها لم يكن بها منذ وقت قريب: الزرع النضير، والنبات البهيج، والنخل الباسق، والطلع النضيد.
قال القرطبي قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أى: لم تكن عامرة. من غنى بالمكان إذا أقام فيه وعمره، والمغانى في اللغة: المنازل التي يعمرها الناس» «١».
وقال ابن كثير: قوله: كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ أى كأنها ما كانت حينا قبل ذلك، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن، ولهذا جاء في الحديث الشريف: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا فيغمس في النار غمسة فيقال له: هل رأيت خيرا قط؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول لا.
ويؤتى بأشد الناس عذابا في الدنيا فيغمس في النعيم غمسة ثم يقال له: هل رأيت بؤسا قط فيقول لا» «٢».
والمراد بالأمس هنا: الوقت الماضي القريب: لا خصوص اليوم الذي قبل يومك.
وقوله: كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ تذييل قصد به الحض على التفكير والاعتبار.
أى: كهذا المثل في وضوحه وبيانه لحال الحياة الدنيا، وقصر مدة التمتع بها نفصل الآيات ونضرب الأمثال الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا لقوم يحسنون التفكير والتدبر في ملكوت السموات والأرض.
قال الجمل ما ملخصه: «وهذه الآية مثل ضربه الله- تعالى- للمتشبث في الدنيا الراغب في زهرتها وحسنها.. ووجه التمثيل أن غاية هذه الدنيا التي ينتفع بها المرء، كناية عن هذا النبات الذي لما عظم الرجاء في الانتفاع به، وقع اليأس منه، ولأن المتمسك بالدنيا إذا نال منها بغيته أتاه الموت بغتة فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذتها» «٣».
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٢٨. [.....]
(٢) تفسير أبن كثير ج ٢ ص ٤١٣.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٤٢.
(٢) تفسير أبن كثير ج ٢ ص ٤١٣.
(٣) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٤٢.
56
وبعد أن بين- سبحانه- حال الحياة الدنيا، وقصر مدة التمتع بها، أتبع ذلك بدعوة الناس جميعا إلى العمل الصالح الذي يوصلهم إلى الجنة فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
والمقصود بدار السلام: الجنة التي أعدها الله- تعالى- لعباده المؤمنين، وسميت بذلك، لأنها الدار التي سلم أهلها من كل ألم وآفة. أو لأن تحيتهم فيها سلام، أو لأن السلام من أسماء الله- تعالى- فأضيفت إليه تعظيما لشأنها، وتشريفا لقدرها، كما يقال للكعبة: بيت الله.
وقوله:
والتقدير: الشيطان يدعوكم إلى إيثار متاع الحياة الدنيا وزخرفها، والله- تعالى- يدعو الناس جميعا إلى الإيمان الحق الذي يوصلهم إلى دار كرامته.
وقوله: وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو المؤدى بصاحبه إلى رضوان الله ومغفرته.
والمراد بالصراط المستقيم: الدين الحق الذي شرعه الله لعباده. وبلغه لهم عن طريق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله:
والزينة: اسم لما يتزين به الإنسان من ألوان اللباس وأوانى الطعام والشراب، ووسائل الركوب.. وغير ذلك مما يستعمله الإنسان في زينته ورفاهيته.
والمال: يشمل أصناف الزينة، ويشمل غير ذلك مما يتملكه الإنسان.
والمعنى: وقال موسى- عليه السلام- مخاطبا ربه، بعد أن فقد الأمل في إصلاح فرعون وملئه: يا ربنا إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وأصحاب الرياسات منهم، الكثير من مظاهر الزينة والرفاهية والتنعم، كما أعطيتهم الكثير من الأموال في هذه الحياة الدنيا.
وهذا العطاء الجزيل لهم قد يضعف الإيمان في بعض النفوس، إما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الناظرين إليها، وإما بالترهيب الذي يملكه هؤلاء المنعمون، بحيث يصيرون قادرين على إذلال غيرهم.
واللام في قوله رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ لام العاقبة والصيرورة أى: أعطيتهم ما أعطيتهم من الزينة والمال، ليخلصوا لك العبادة والطاعة، وليقابلوا هذا العطاء بالشكر، ولكنهم لم يفعلوا بل قابلوا هذه النعم بالجحود والبطر، فكانت عاقبة أمرهم الخسران والضلال، فأزل يا مولانا هذه النعم من بين أيديهم.
قال القرطبي: «اختلف في هذه اللام، وأصح ما قبل فيها- وهو قول الخليل وسيبويه- أنها لام العاقبة والصيرورة، وفي الخبر: «إن لله- تعالى- ملكا ينادى كل يوم:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧)
والمقصود بدار السلام: الجنة التي أعدها الله- تعالى- لعباده المؤمنين، وسميت بذلك، لأنها الدار التي سلم أهلها من كل ألم وآفة. أو لأن تحيتهم فيها سلام، أو لأن السلام من أسماء الله- تعالى- فأضيفت إليه تعظيما لشأنها، وتشريفا لقدرها، كما يقال للكعبة: بيت الله.
وقوله:
وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ | معطوف على محذوف يدل عليه السياق. |
وقوله: وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ وهو المؤدى بصاحبه إلى رضوان الله ومغفرته.
والمراد بالصراط المستقيم: الدين الحق الذي شرعه الله لعباده. وبلغه لهم عن طريق نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله:
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ | بيان لحسن عاقبة الذين استجابوا لدعوته، واتبعوا صراطه المستقيم. |
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ | من باب عطف القصة على القصة، وهو من قبيل عطف الخاص على العام، لما في هذا الخاص من عبر وعظات. |
مُوسى وَهارُونَ عليهما السلام.. إِلى فِرْعَوْنَ الذي قال لقومه «أنا ربكم الأعلى» وإلى مَلَأَهُ أى: خاصته وأشراف مملكته وأركان دولته، ولذلك اقتصر عليهم، لأن غيرهم كالتابع لهم.
بِآياتِنا أى: بعثناهما إليهم مؤيدين بآياتنا، الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا وعلى صدقهما فيما يبلغانه عنا من هدايات وتوجيهات.
ويرى كثير من المفسرين أن المراد بقوله بِآياتِنا الآيات التسع التي جاء ذكرها في قوله تعالى في سورة الإسراء وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ.. «١».
(١) الآية ١٠١.
110
قال الجمل: «وتقدم في الأعراف منها ثمانية، ثنتان في قوله- تعالى- فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ «١» وقوله: وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ «٢».
وواحدة في قوله- تعالى-: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ «٣» وخمسة في قوله- تعالى-: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ.... «٤». والتاسعة في هذه السورة- سورة يونس- في قوله- تعالى-:
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ «٥».
ثم بين- سبحانه- موقف فرعون وملئه من دعوة موسى لهم فقال: فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ.
والاستكبار: ادعاء الكبر من غير استحقاق، والفاء فصيحة، والتقدير: ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى وهارون إلى فرعون وملئه، فأتياهم ليبلغاهم دعوة الله، ويأمراهم بإخلاص العبادة له، فاستكبروا عن طاعتهما، وأعجبوا بأنفسهم، وكانوا قوما شأنهم وديدنهم الإجرام، وهو ارتكاب ما عظم من الذنوب، وقبح من الأفعال.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة: فاستكبروا عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها» «٦».
ثم بين- سبحانه- ما تفوهوا به من أباطيل عند ما جاءهم موسى بدعوته فقال: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ.
أى: فلما وصل إليهم الحق الذي جاءهم به موسى- عليه السلام- من عندنا لا من غيرنا قالُوا على سبيل العناد والحقد والغرور إِنَّ هذا الذي جئت به يا موسى لَسِحْرٌ مُبِينٌ أى: لسحر واضح ظاهر لا يحتاج إلى تأمل أو تفكير.
والتعبير بقوله جاءَهُمُ يفيد أن الحق قد وصل إليهم بدون تعب منهم، فكان من الواجب عليهم- لو كانوا يعقلون- أن يتقبلوه بسرور واقتناع.
وفي قوله مِنْ عِنْدِنا تصوير لشناعة الجريمة التي ارتكبوها في جانب الحق، الذي جاءهم من عند الله- تعالى- لا من عند غيره.
وواحدة في قوله- تعالى-: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ «٣» وخمسة في قوله- تعالى-: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ.... «٤». والتاسعة في هذه السورة- سورة يونس- في قوله- تعالى-:
رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ «٥».
ثم بين- سبحانه- موقف فرعون وملئه من دعوة موسى لهم فقال: فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ.
والاستكبار: ادعاء الكبر من غير استحقاق، والفاء فصيحة، والتقدير: ثم بعثنا من بعد أولئك الرسل موسى وهارون إلى فرعون وملئه، فأتياهم ليبلغاهم دعوة الله، ويأمراهم بإخلاص العبادة له، فاستكبروا عن طاعتهما، وأعجبوا بأنفسهم، وكانوا قوما شأنهم وديدنهم الإجرام، وهو ارتكاب ما عظم من الذنوب، وقبح من الأفعال.
ورحم الله صاحب الكشاف فقد قال عند تفسيره لهذه الجملة: فاستكبروا عن قبولها، وهو أعظم الكبر أن يتهاون العبيد برسالة ربهم بعد تبينها، ويتعظموا عن تقبلها» «٦».
ثم بين- سبحانه- ما تفوهوا به من أباطيل عند ما جاءهم موسى بدعوته فقال: فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ.
أى: فلما وصل إليهم الحق الذي جاءهم به موسى- عليه السلام- من عندنا لا من غيرنا قالُوا على سبيل العناد والحقد والغرور إِنَّ هذا الذي جئت به يا موسى لَسِحْرٌ مُبِينٌ أى: لسحر واضح ظاهر لا يحتاج إلى تأمل أو تفكير.
والتعبير بقوله جاءَهُمُ يفيد أن الحق قد وصل إليهم بدون تعب منهم، فكان من الواجب عليهم- لو كانوا يعقلون- أن يتقبلوه بسرور واقتناع.
وفي قوله مِنْ عِنْدِنا تصوير لشناعة الجريمة التي ارتكبوها في جانب الحق، الذي جاءهم من عند الله- تعالى- لا من عند غيره.
(١) الآية ١٠٧
(٢) الآية ١٠٨
(٣) الآية ١٣٠
(٤) الآية ١٣٣
(٥) الآية ٨٨- حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣١٥
(٦) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٤.
(٢) الآية ١٠٨
(٣) الآية ١٣٠
(٤) الآية ١٣٣
(٥) الآية ٨٨- حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣١٥
(٦) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٦٤.
111
والمراد بالحق هنا: الآيات والمعجزات التي جاءهم بها موسى- عليه السلام- لتكون دليلا على صدقه فيما يبلغه عن ربه.
وقولهم- كما حكى القرآن عنهم- إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ بالقسم المؤكد: يدل على تبجحهم الذميم، وكذبهم الأثيم، حيث وصفوا الحق الذي لا باطل معه بأنه سحر واضح، وهكذا عند ما تقسو القلوب وتفسق النفوس، تتحول الحقائق في زعمها إلى أكاذيب وأباطيل.
ثم حكى القرآن الكريم رد موسى- عليه السلام- على مفترياتهم فقال: قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.
وفي الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام، والتقدير:
قال موسى لفرعون وملئه منكرا عليهم غرورهم وكذبهم، أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ الذي هو أبعد ما يكون عن السحر، حين مشاهدتكم له.
أتقولون عنه إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ.
يا سبحان الله!! أفلا عقل لكم يحجزكم عن هذا القول الذي يدل على الجهالة والغباء، انظروا وتأملوا أَسِحْرٌ هذا الذي ترون حقيقته بأعينكم، وترتجف من عظمته قلوبكم، والحال أنه لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ في أى عمل من شأنه أن يهدى إلى الخير والحق.
فقد حذفت جملة إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ لدلالة قوله أَسِحْرٌ هذا عليه.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: هم قطعوا بقولهم: إن هذا لسحر مبين، على أنه سحر فكيف قيل لهم أتقولون: أسحر هذا؟
قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ: أتعيبونه وتطعنون فيه، وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول، إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه.
وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ كأنه قيل:
أتقولون ما تقولون: يعنى قولهم: إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا؟
وأن يكون جملة قوله «أسحر هذا ولا يفلح الساحرون» حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا أجئتما إلينا بالسحر تطلبان به الفلاح وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.. «١».
وقولهم- كما حكى القرآن عنهم- إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ بالقسم المؤكد: يدل على تبجحهم الذميم، وكذبهم الأثيم، حيث وصفوا الحق الذي لا باطل معه بأنه سحر واضح، وهكذا عند ما تقسو القلوب وتفسق النفوس، تتحول الحقائق في زعمها إلى أكاذيب وأباطيل.
ثم حكى القرآن الكريم رد موسى- عليه السلام- على مفترياتهم فقال: قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.
وفي الآية الكريمة كلام محذوف دل عليه المقام، والتقدير:
قال موسى لفرعون وملئه منكرا عليهم غرورهم وكذبهم، أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ الذي هو أبعد ما يكون عن السحر، حين مشاهدتكم له.
أتقولون عنه إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ.
يا سبحان الله!! أفلا عقل لكم يحجزكم عن هذا القول الذي يدل على الجهالة والغباء، انظروا وتأملوا أَسِحْرٌ هذا الذي ترون حقيقته بأعينكم، وترتجف من عظمته قلوبكم، والحال أنه لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ في أى عمل من شأنه أن يهدى إلى الخير والحق.
فقد حذفت جملة إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ لدلالة قوله أَسِحْرٌ هذا عليه.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: هم قطعوا بقولهم: إن هذا لسحر مبين، على أنه سحر فكيف قيل لهم أتقولون: أسحر هذا؟
قلت: فيه أوجه: أن يكون معنى قوله: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ: أتعيبونه وتطعنون فيه، وكان عليكم أن تذعنوا له وتعظموه، من قولهم: فلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول، إذا قال بعضهم لبعض ما يسوءه.
وأن يحذف مفعول أتقولون وهو ما دل عليه قولهم: إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ كأنه قيل:
أتقولون ما تقولون: يعنى قولهم: إن هذا لسحر مبين، ثم قيل: أسحر هذا؟
وأن يكون جملة قوله «أسحر هذا ولا يفلح الساحرون» حكاية لكلامهم، كأنهم قالوا أجئتما إلينا بالسحر تطلبان به الفلاح وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.. «١».
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٧.
112
وقال الجمل: «قوله- تعالى- قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ.. أى: قال جملا ثلاثة:
الأولى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ والثانية أَسِحْرٌ هذا والثالثة وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.
وقوله لِلْحَقِّ أى في شأنه ولأجله، وقوله لَمَّا جاءَكُمْ أى: حين مجيئه إياكم من أول الأمر من غير تأمل وتدبر، وهذا مما ينافي القول المذكور.
وقوله: قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ هنا مقول القول محذوف لدلالة ما قبله عليه، وإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتفوه به.
وقوله- سبحانه- حكاية عن موسى أَسِحْرٌ هذا مبتدأ وخبر، وهو استفهام إنكارى مستأنف من جهته- عليه السلام- تكذيبا لقولهم، وتوبيخا إثر توبيخ، وتجهيلا بعد تجهيل» «١».
وقوله: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ جملة حالية من ضمير المخاطبين، وقد جيء بها تأكيدا للإنكار السابق، وما فيه من معنى التوبيخ والتجهيل.
أى: أتقولون للحق إنه سحر، والحال أنه لا يفلح فاعله، أى: لا يظفر بمطلوب، ولا ينجو من مكروه، وأنا قد أفلحت، وفزت بالحجة، ونجوت من الهلكة.
ثم كشف القرآن الكريم عن حقيقة الدوافع التي جعلتهم يصفون الحق بأنه سحر مبين فقال- تعالى-: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ.
واللفت: الصرف واللى يقال: لفته يلفته لفتا، أى: صرفه عن وجهته إلى ذات اليمين أو الشمال.
أى: قال فرعون وملؤه لموسى- عليه السلام- بعد أن جاءهم بالحق المبين: أجئتنا يا موسى بما جئتنا به لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أى: لتصرفنا عن الدين الذي وجدنا عليه آباءنا، وتكون لك ولأخيك هارون الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ أى السيادة والرياسة والزعامة الدينية والدنيوية في الأرض بصفة عامة، وفي أرض مصر بصفة خاصة.
ثم أكدوا إنكارهم لما جاءهم به موسى- عليه السلام- من الدين الحق فقالوا- كما حكى القرآن عنهم- وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أى وما نحن لكما بمصدقين فيما جئتما به،
الأولى: أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ والثانية أَسِحْرٌ هذا والثالثة وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ.
وقوله لِلْحَقِّ أى في شأنه ولأجله، وقوله لَمَّا جاءَكُمْ أى: حين مجيئه إياكم من أول الأمر من غير تأمل وتدبر، وهذا مما ينافي القول المذكور.
وقوله: قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ هنا مقول القول محذوف لدلالة ما قبله عليه، وإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يتفوه به.
وقوله- سبحانه- حكاية عن موسى أَسِحْرٌ هذا مبتدأ وخبر، وهو استفهام إنكارى مستأنف من جهته- عليه السلام- تكذيبا لقولهم، وتوبيخا إثر توبيخ، وتجهيلا بعد تجهيل» «١».
وقوله: وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ جملة حالية من ضمير المخاطبين، وقد جيء بها تأكيدا للإنكار السابق، وما فيه من معنى التوبيخ والتجهيل.
أى: أتقولون للحق إنه سحر، والحال أنه لا يفلح فاعله، أى: لا يظفر بمطلوب، ولا ينجو من مكروه، وأنا قد أفلحت، وفزت بالحجة، ونجوت من الهلكة.
ثم كشف القرآن الكريم عن حقيقة الدوافع التي جعلتهم يصفون الحق بأنه سحر مبين فقال- تعالى-: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ.
واللفت: الصرف واللى يقال: لفته يلفته لفتا، أى: صرفه عن وجهته إلى ذات اليمين أو الشمال.
أى: قال فرعون وملؤه لموسى- عليه السلام- بعد أن جاءهم بالحق المبين: أجئتنا يا موسى بما جئتنا به لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أى: لتصرفنا عن الدين الذي وجدنا عليه آباءنا، وتكون لك ولأخيك هارون الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ أى السيادة والرياسة والزعامة الدينية والدنيوية في الأرض بصفة عامة، وفي أرض مصر بصفة خاصة.
ثم أكدوا إنكارهم لما جاءهم به موسى- عليه السلام- من الدين الحق فقالوا- كما حكى القرآن عنهم- وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ أى وما نحن لكما بمصدقين فيما جئتما به،
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٣٦٥.
113
لأن تصديقنا لكما يخرجنا عن الدين الذي وجدنا عليه آباءنا، وينزع منا ملكنا الذي تتمتع بكبريائه خاصتنا، وتعيش تحت سلطانه وقهره عامتنا.
وأفردوا موسى- عليه السلام- بالخطاب في قولهم أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا.. لأنه هو الذي كان يجابههم بالحجج التي تقطع دابر باطلهم، ويرد على أكاذيبهم بما يفضحهم ويكشف عن غرورهم وغبائهم.
وجمعوا بين موسى وهارون- عليهما السلام- في قولهم وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ باعتبار شمول الكبرياء والرياسة والملك لهما، وباعتبار أن الإيمان بأحدهما يستلزم الإيمان بالآخر.
هذا، والذي يتدبر هذه الآية الكريمة، يرى أن التهمة التي وجهها فرعون وملؤه إلى موسى وهارون- عليهما السلام-، هي تهمة قديمة جديدة فقوم نوح- مثلا- يمتنعون عن قبول دعوته، لأنه في نظرهم جاء بما جاء به بقصد التفضل عليهم، وفي هذا يقول القرآن الكريم:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَفَلا تَتَّقُونَ. فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ، ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ «١». أى: يريد أن تكون له السيادة والفضل عليكم، فيكون زعيما وأنتم له تابعون.
ولقد أفاض في شرح هذا المعنى صاحب الظلال- رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فقال ما ملخصه:
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة، التي يقوم عليها نظامهم السياسى والاقتصادى، وهو الخوف على السلطان في الأرض، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.
إنها العلة القديمة الجديدة التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة دعوات الإصلاح ورمى الدعاة بأشنع التهم والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة.. إنها هي «الكبرياء في الأرض» وما تقوم عليه من معتقدات باطلة، يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير، بكل ما فيها من زيف وفساد، وأوهام وخرافات، لأن تفتح القلوب على العقيدة الصحيحة، خطر على القيم الجاهلية الموروثة.
وما كان رجال من أذكياء قريش- مثلا- ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد ﷺ من صدق وسمو، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد، ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم
وأفردوا موسى- عليه السلام- بالخطاب في قولهم أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا.. لأنه هو الذي كان يجابههم بالحجج التي تقطع دابر باطلهم، ويرد على أكاذيبهم بما يفضحهم ويكشف عن غرورهم وغبائهم.
وجمعوا بين موسى وهارون- عليهما السلام- في قولهم وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ، وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ باعتبار شمول الكبرياء والرياسة والملك لهما، وباعتبار أن الإيمان بأحدهما يستلزم الإيمان بالآخر.
هذا، والذي يتدبر هذه الآية الكريمة، يرى أن التهمة التي وجهها فرعون وملؤه إلى موسى وهارون- عليهما السلام-، هي تهمة قديمة جديدة فقوم نوح- مثلا- يمتنعون عن قبول دعوته، لأنه في نظرهم جاء بما جاء به بقصد التفضل عليهم، وفي هذا يقول القرآن الكريم:
وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، أَفَلا تَتَّقُونَ. فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ، ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ «١». أى: يريد أن تكون له السيادة والفضل عليكم، فيكون زعيما وأنتم له تابعون.
ولقد أفاض في شرح هذا المعنى صاحب الظلال- رحمه الله- عند تفسيره لهذه الآية الكريمة فقال ما ملخصه:
وإذن فهو الخوف من تحطيم معتقداتهم الموروثة، التي يقوم عليها نظامهم السياسى والاقتصادى، وهو الخوف على السلطان في الأرض، هذا السلطان الذي يستمدونه من خرافات عقائدهم الموروثة.
إنها العلة القديمة الجديدة التي تدفع بالطغاة إلى مقاومة دعوات الإصلاح ورمى الدعاة بأشنع التهم والفجور في مقاومة الدعوات والدعاة.. إنها هي «الكبرياء في الأرض» وما تقوم عليه من معتقدات باطلة، يحرص المتجبرون على بقائها متحجرة في قلوب الجماهير، بكل ما فيها من زيف وفساد، وأوهام وخرافات، لأن تفتح القلوب على العقيدة الصحيحة، خطر على القيم الجاهلية الموروثة.
وما كان رجال من أذكياء قريش- مثلا- ليخطئوا إدراك ما في رسالة محمد ﷺ من صدق وسمو، وما في عقيدة الشرك من تهافت وفساد، ولكنهم كانوا يخشون على مكانتهم
(١) سورة المؤمنون الآيتان ٢٣، ٢٤.
114
الموروثة، القائمة على ما في تلك العقيدة من خرافات وتقاليد، كما خشي الملأ من قوم فرعون على سلطانهم في الأرض، فقالوا متبجحين وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ «١».
ثم حكت الآيات الكريمة بعد ذلك ما طلبه فرعون من ملئه، وما دار بين موسى- عليه السلام- وبين السحرة من محاورات فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
أى: وقال فرعون لخاصته بعد أن رأى من موسى الإصرار على دعوته ودعوة قومه إلى عبادة الله وحده، وبعد أن شاهد عصاه وقد تحولت إلى ثعبان مبين.
قال فرعون لخاصته بعد أن رأى كل ذلك من موسى- عليه السلام- ائْتُونِي أيها الملأ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أى: بكل ساحر من أفراد مملكتي تكون عنده المهارة التامة في فن السحر، والخبرة الواسعة بطرقه وأساليبه.
وقوله: فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ... معطوف على كلام محذوف يستدعيه المقام والتقدير، فامتثل القوم أمر فرعون وأسرعوا في إحضار السحرة، فلما جاءوا والتقوا بموسى- عليه السلام- وخيروه بقوله إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى.
قالَ لَهُمْ مُوسى على سبيل التحدي أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ من ألوان سحركم، ليرى الناس حقيقة فعلكم، وليميزوا بين حقي وباطلكم.
فَلَمَّا أَلْقَوْا أى: فلما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم.
قالَ لهم مُوسى على سبيل السخرية مما صنعوه.
ثم حكت الآيات الكريمة بعد ذلك ما طلبه فرعون من ملئه، وما دار بين موسى- عليه السلام- وبين السحرة من محاورات فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧٩ الى ٨٢]
وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢)
أى: وقال فرعون لخاصته بعد أن رأى من موسى الإصرار على دعوته ودعوة قومه إلى عبادة الله وحده، وبعد أن شاهد عصاه وقد تحولت إلى ثعبان مبين.
قال فرعون لخاصته بعد أن رأى كل ذلك من موسى- عليه السلام- ائْتُونِي أيها الملأ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ أى: بكل ساحر من أفراد مملكتي تكون عنده المهارة التامة في فن السحر، والخبرة الواسعة بطرقه وأساليبه.
وقوله: فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ... معطوف على كلام محذوف يستدعيه المقام والتقدير، فامتثل القوم أمر فرعون وأسرعوا في إحضار السحرة، فلما جاءوا والتقوا بموسى- عليه السلام- وخيروه بقوله إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى.
قالَ لَهُمْ مُوسى على سبيل التحدي أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ من ألوان سحركم، ليرى الناس حقيقة فعلكم، وليميزوا بين حقي وباطلكم.
فَلَمَّا أَلْقَوْا أى: فلما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم.
قالَ لهم مُوسى على سبيل السخرية مما صنعوه.
(١) تفسير (في ظلال القرآن) للأستاذ سيد قطب ج ١١ ص ٤٦٦.
ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ، إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ أى: قال لهم موسى: أيها السحرة، إن الذي جئتم به هو السحر بعينه، وليس الذي جئت به أنا مما وصفه فرعون وملؤه بأنه سحر مبين.
وإن الذي جئتم به سيمحقه الله ويزيل أثره من النفوس، عن طريق ما أمرنى الله به- سبحانه- من إلقاء عصاي، فقد جرت سنته- سبحانه- أنه لا يصلح عمل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وصنيعكم هذا هو من نوع الإفساد وليس من نوع الإصلاح.
وقوله: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ تأكيد لسنة الله- تعالى- في تنازع الحق والباطل، والصلاح والفساد.
أى: أنه جرت سنة الله تعالى- أن لا يصلح عمل المفسدين، بل يمحقه ويبطله، وأنه- سبحانه- يحق الحق أى يثبته ويقويه ويؤيده بِكَلِماتِهِ النافذة، وقضائه الذي لا يرد، ووعده الذي لا يتخلف وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك لأن كراهيتهم لإحقاق الحق وإبطال الباطل، لا تعطل مشيئة الله، ولا تحول بين تنفيذ آياته وكلماته وقد كان الأمر كذلك فقد أوحى الله إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «١».
ثم انتقلت السورة الكريمة للحديث عن جانب مما دار بين موسى- عليه السلام- وبين قومه بنى إسرائيل، إثر الحديث عن جانب مما دار بينه وبين فرعون وملئه وسحرته فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٧]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)
وإن الذي جئتم به سيمحقه الله ويزيل أثره من النفوس، عن طريق ما أمرنى الله به- سبحانه- من إلقاء عصاي، فقد جرت سنته- سبحانه- أنه لا يصلح عمل الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون وصنيعكم هذا هو من نوع الإفساد وليس من نوع الإصلاح.
وقوله: وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ تأكيد لسنة الله- تعالى- في تنازع الحق والباطل، والصلاح والفساد.
أى: أنه جرت سنة الله تعالى- أن لا يصلح عمل المفسدين، بل يمحقه ويبطله، وأنه- سبحانه- يحق الحق أى يثبته ويقويه ويؤيده بِكَلِماتِهِ النافذة، وقضائه الذي لا يرد، ووعده الذي لا يتخلف وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك لأن كراهيتهم لإحقاق الحق وإبطال الباطل، لا تعطل مشيئة الله، ولا تحول بين تنفيذ آياته وكلماته وقد كان الأمر كذلك فقد أوحى الله إلى موسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ. فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «١».
ثم انتقلت السورة الكريمة للحديث عن جانب مما دار بين موسى- عليه السلام- وبين قومه بنى إسرائيل، إثر الحديث عن جانب مما دار بينه وبين فرعون وملئه وسحرته فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٣ الى ٨٧]
فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)
(١) سورة الأعراف الآيتان ١١٧، ١١٨. [.....]
116
قال الجمل: «قوله- سبحانه- فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ... لما ذكر الله- تعالى- ما أتى به موسى- عليه السلام- من المعجزات العظيمة الباهرة، أخبر- سبحانه- أنه مع مشاهدة هذه المعجزات، ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه. وإنما ذكر الله هذا تسلية لنبيه محمد ﷺ لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه، وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإيمان به، واستمرارهم على الكفر والتكذيب، فبين الله له أن له أسوة بالأنبياء- عليهم الصلاة والسلام-. لأن ما جاء به موسى من المعجزات، كان أمرا عظيما. ومع ذلك فما آمن له إلا ذرية من قومه» «١».
والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يدل عليه السياق، والتقدير: لقد أتى موسى- عليه السلام- بالمعجزات التي تشهد بصدقه، والتي على رأسها، أن ألقى عصاه فإذا هي تبتلع ما فعله السحرة، ومع كل تلك البراهين الدالة على صدقه، فما آمن به إلا ذرية من قومه.
والمراد بالذرية هنا: العدد القليل من الشباب، الذين آمنوا بموسى، بعد أن تخلف عن الإيمان آباؤهم وأغنياؤهم.
قال الآلوسى: قوله إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أى: إلا أولاد بعض بنى إسرائيل حيث دعا- عليه السلام- الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من شبابهم فالمراد من الذرية: الشبان لا الأطفال «٢».
والضمير في قوله مِنْ قَوْمِهِ يعود لموسى- عليه السلام-، وعليه يكون المعنى:
فما آمن لموسى- عليه السلام- في دعوته إلى وحدانية الله، إلا عدد قليل من شباب قومه بنى إسرائيل، الذين كانوا يعيشون في مصر، والذين كان فرعون يسومهم سوء
والآية الكريمة معطوفة على كلام محذوف يدل عليه السياق، والتقدير: لقد أتى موسى- عليه السلام- بالمعجزات التي تشهد بصدقه، والتي على رأسها، أن ألقى عصاه فإذا هي تبتلع ما فعله السحرة، ومع كل تلك البراهين الدالة على صدقه، فما آمن به إلا ذرية من قومه.
والمراد بالذرية هنا: العدد القليل من الشباب، الذين آمنوا بموسى، بعد أن تخلف عن الإيمان آباؤهم وأغنياؤهم.
قال الآلوسى: قوله إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ أى: إلا أولاد بعض بنى إسرائيل حيث دعا- عليه السلام- الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من شبابهم فالمراد من الذرية: الشبان لا الأطفال «٢».
والضمير في قوله مِنْ قَوْمِهِ يعود لموسى- عليه السلام-، وعليه يكون المعنى:
فما آمن لموسى- عليه السلام- في دعوته إلى وحدانية الله، إلا عدد قليل من شباب قومه بنى إسرائيل، الذين كانوا يعيشون في مصر، والذين كان فرعون يسومهم سوء
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ٢ ص ٢٦٧.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٤٨.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١٢ ص ١٤٨.
117
العذاب، أما آباؤهم وأصحاب الجاه فيهم، فقد انحازوا إلى فرعون طمعا في عطائه، وخوفا من بطشه بهم.
ويرى بعض المفسرين أن الضمير في قوله مِنْ قَوْمِهِ يعود إلى فرعون لا إلى موسى.
فيكون المعنى: فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قوم فرعون.
قال ابن كثير ما ملخصه مرجحا هذا الرأى: «يخبر الله- تعالى- أنه لم يؤمن بموسى- عليه السلام- مع ما جاء به من الآيات والحجج، إلا قليل من قوم فرعون، من الذرية- وهم الشباب-، على وجل وخوف منه ومن ملئه.
قال العوفى عن ابن عباس: «إن الذرية التي آمنت لموسى من قوم فرعون منهم:
امرأته، ومؤمن آل فرعون، وخازنه، وامرأة خازنه».
ثم قال: واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية، أنها من بنى إسرائيل، لا من قوم فرعون. لعود الضمير على أقرب مذكور.
وفي هذا نظر، لأن من المعروف أن بنى إسرائيل كلهم آمنوا بموسى. واستبشروا به، فقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به.
وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل؟» «١».
والذي نراه أن ما اختاره ابن جرير من عودة الضمير إلى موسى- عليه السلام- أرجح، لأن هناك نوع خفاء في إطلاق كلمة الذرية على من آمن من قوم فرعون، ومنهم زوجته، وامرأة خازنه.
ولأنه لا دليل على أن بنى إسرائيل كلهم قد آمنوا بموسى، بل الحق أن منهم من آمن به ومنهم من كفر به، كقارون والسامري وغيرهما.
ولأن رجوع الضمير إلى موسى- عليه السلام- هو الظاهر المتبادر من الآية، لأنه أقرب مذكور، وليس هناك ما يدعو إلى صرف الآية الكريمة عن هذا الظاهر.
ورحم الله ابن جرير فقد قال في ترجيحه لما ذهب إليه من عودة الضمير إلى موسى- عليه السلام- ما ملخصه:
وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية، القول الذي ذكرته عن مجاهد وهو أن الذرية في
ويرى بعض المفسرين أن الضمير في قوله مِنْ قَوْمِهِ يعود إلى فرعون لا إلى موسى.
فيكون المعنى: فما آمن لموسى إلا عدد قليل من شباب قوم فرعون.
قال ابن كثير ما ملخصه مرجحا هذا الرأى: «يخبر الله- تعالى- أنه لم يؤمن بموسى- عليه السلام- مع ما جاء به من الآيات والحجج، إلا قليل من قوم فرعون، من الذرية- وهم الشباب-، على وجل وخوف منه ومن ملئه.
قال العوفى عن ابن عباس: «إن الذرية التي آمنت لموسى من قوم فرعون منهم:
امرأته، ومؤمن آل فرعون، وخازنه، وامرأة خازنه».
ثم قال: واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية، أنها من بنى إسرائيل، لا من قوم فرعون. لعود الضمير على أقرب مذكور.
وفي هذا نظر، لأن من المعروف أن بنى إسرائيل كلهم آمنوا بموسى. واستبشروا به، فقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به.
وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى وهم بنو إسرائيل؟» «١».
والذي نراه أن ما اختاره ابن جرير من عودة الضمير إلى موسى- عليه السلام- أرجح، لأن هناك نوع خفاء في إطلاق كلمة الذرية على من آمن من قوم فرعون، ومنهم زوجته، وامرأة خازنه.
ولأنه لا دليل على أن بنى إسرائيل كلهم قد آمنوا بموسى، بل الحق أن منهم من آمن به ومنهم من كفر به، كقارون والسامري وغيرهما.
ولأن رجوع الضمير إلى موسى- عليه السلام- هو الظاهر المتبادر من الآية، لأنه أقرب مذكور، وليس هناك ما يدعو إلى صرف الآية الكريمة عن هذا الظاهر.
ورحم الله ابن جرير فقد قال في ترجيحه لما ذهب إليه من عودة الضمير إلى موسى- عليه السلام- ما ملخصه:
وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية، القول الذي ذكرته عن مجاهد وهو أن الذرية في
(١) تفسير أبن كثير ج ٤ ص ٣٢٣.
118
هذا الموضع، أريد بها ذرية من أرسل إليه موسى من بنى إسرائيل، وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى، فلأن تكون الهاء في قوله مِنْ قَوْمِهِ من ذكر موسى لقربها من ذكره أولى من أن تكون من ذكر فرعون، لبعد ذكره منها.
ولأن في قوله عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الدليل الواضح على أن الهاء في قوله إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ من ذكر موسى لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام على خوف منه، ولم يكن على خوف من فرعون..» «١».
وقوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ... حال من كلمة ذُرِّيَّةٌ، وعَلى هنا بمعنى مع. والضمير في قوله مَلَائِهِمْ يعود إلى ملأ الذرية، وهم كبار بنى إسرائيل الذين لاذوا بفرعون طمعا في عطائه أو خوفا من عقابه ولم يتبعوا موسى- عليه السلام-.
والمعنى: فما آمن لموسى الا عدد قليل من شباب قومه، والحال أن إيمانهم كان مع خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنوهم عن دينهم، أى: أن يعذبوهم ليحملوهم على ترك اتباع موسى- عليه السلام.
والضمير في يَفْتِنَهُمْ يعود إلى فرعون خاصة، لأنه هو الآمر بالتعذيب ولأن الملأ إنما كانوا يأتمرون بأمره، وينتهون عن نهيه، فهم كالآلة في يده يصرفها كيف يشاء.
وجملة أَنْ يَفْتِنَهُمْ في تأويل مصدر، بدل اشتمال من فرعون، أى: على خوف من فرعون فتنته.
وقوله: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ اعتراض تذييلى مؤكد لمضمون ما قبله، ومقرر لطغيان فرعون وعتوه.
أى: وإن فرعون المتكبر متجبر في أرض مصر كلها، وإنه لمن المسرفين المتجاوزين لكل حد في الظلم والبغي وادعاء ما ليس له.
والمتجبرون والمسرفون يحتاجون في مقاومتهم إلى إيمان عميق، واعتماد على الله وثيق، وثبات يزيل المخاوف ويطمئن القلوب إلى حسن العاقبة، ولذا قال موسى لأتباعه المؤمنين:
يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ.
أى: قال موسى لقومه تطمينا لقلوبهم، وقد رأى الخوف من فرعون يعلو وجوه بعضهم:
يا قوم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ حق الإيمان، وأسلمتم وجوهكم له حق الإسلام فعليه وحده
ولأن في قوله عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ الدليل الواضح على أن الهاء في قوله إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ من ذكر موسى لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام على خوف منه، ولم يكن على خوف من فرعون..» «١».
وقوله: عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ... حال من كلمة ذُرِّيَّةٌ، وعَلى هنا بمعنى مع. والضمير في قوله مَلَائِهِمْ يعود إلى ملأ الذرية، وهم كبار بنى إسرائيل الذين لاذوا بفرعون طمعا في عطائه أو خوفا من عقابه ولم يتبعوا موسى- عليه السلام-.
والمعنى: فما آمن لموسى الا عدد قليل من شباب قومه، والحال أن إيمانهم كان مع خوف من فرعون ومن أشراف قومهم أن يفتنوهم عن دينهم، أى: أن يعذبوهم ليحملوهم على ترك اتباع موسى- عليه السلام.
والضمير في يَفْتِنَهُمْ يعود إلى فرعون خاصة، لأنه هو الآمر بالتعذيب ولأن الملأ إنما كانوا يأتمرون بأمره، وينتهون عن نهيه، فهم كالآلة في يده يصرفها كيف يشاء.
وجملة أَنْ يَفْتِنَهُمْ في تأويل مصدر، بدل اشتمال من فرعون، أى: على خوف من فرعون فتنته.
وقوله: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ اعتراض تذييلى مؤكد لمضمون ما قبله، ومقرر لطغيان فرعون وعتوه.
أى: وإن فرعون المتكبر متجبر في أرض مصر كلها، وإنه لمن المسرفين المتجاوزين لكل حد في الظلم والبغي وادعاء ما ليس له.
والمتجبرون والمسرفون يحتاجون في مقاومتهم إلى إيمان عميق، واعتماد على الله وثيق، وثبات يزيل المخاوف ويطمئن القلوب إلى حسن العاقبة، ولذا قال موسى لأتباعه المؤمنين:
يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ.
أى: قال موسى لقومه تطمينا لقلوبهم، وقد رأى الخوف من فرعون يعلو وجوه بعضهم:
يا قوم إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ حق الإيمان، وأسلمتم وجوهكم له حق الإسلام فعليه وحده
(١) تفسير أبن جرير ج ٧ ص ١٠٤ طبعة دار المعرفة- بيروت.
119
اعتمدوا، وبجنابه وحده تمسكوا، فإن من توكل على الله واتجه إليه، كان الله معه بنصره وتأييده.
ثم حكى القرآن جوابهم الذي يدل على صدق يقينهم فقال: فَقالُوا أى مجيبين لنصيحة نبيهم عَلَى اللَّهِ وحده لا على غيره تَوَكَّلْنا واعتمدنا وفوضنا أمورنا إليه.
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أى يا ربنا لا تجعلنا موضوع فتنة وعذاب للقوم الظالمين. بأن تمكنهم منا فيسوموننا سوء العذاب، وعندئذ يعتقدون أنهم على الحق ونحن على الباطل، لأننا لو كنا على الحق- في زعمهم- لما تمكنوا منا، ولما انتصروا علينا.
ثم أضافوا إلى هذا الدعاء دعاء آخر، أكثر صراحة من سابقه في المباعدة بينهم وبين الظالمين فقالوا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
أى: نحن لا نلتمس منك يا مولانا ألا تجعلنا فتنة لهم فقط، بل نلتمس منك- أيضا- أن تنجينا من شرور القوم الكافرين، وأن تخلصنا من سوء جوارهم، وأن تفرق بيننا وبينهم كما فرقت بين أهل المشرق وأهل المغرب.
قال الإمام الشوكانى: «وفي هذا الدعاء الذي تضرعوا به إلى الله- دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم» «١».
وبعد هذا الدعاء المخلص، وجه الله- تعالى- نبيه موسى وأخاه هارون- عليهما السلام- إلى ما يوصل إلى نصرهما ونصر أتباعهما فقال- تعالى- وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً...
وقوله تَبَوَّءا من التبوء وهو اتخاذ المباءة أى المنزل، كالتوطن بمعنى اتخاذ الوطن.
يقال بوأته وبوأت له منزلا إذا أنزلته فيه، وهيأته له.
والمعنى: وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون بعد أن لج فرعون في طغيانه وفي إنزال العذاب بالمؤمنين- أن اتخذا لقومكما المؤمنين بيوتا خاصة بهم في مصر، ينزلون بها، ويستقرون فيها، ويعتزلون فرعون وجنده، إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا.
وقوله وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أى: واجعلوا هذه البيوت التي حللتم بها مكانا لصلاتكم وعبادتكم، بعد أن حال فرعون وجنده بينكم وبين أداء عباداتكم في الأماكن المخصصة لذلك.
ثم حكى القرآن جوابهم الذي يدل على صدق يقينهم فقال: فَقالُوا أى مجيبين لنصيحة نبيهم عَلَى اللَّهِ وحده لا على غيره تَوَكَّلْنا واعتمدنا وفوضنا أمورنا إليه.
رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أى يا ربنا لا تجعلنا موضوع فتنة وعذاب للقوم الظالمين. بأن تمكنهم منا فيسوموننا سوء العذاب، وعندئذ يعتقدون أنهم على الحق ونحن على الباطل، لأننا لو كنا على الحق- في زعمهم- لما تمكنوا منا، ولما انتصروا علينا.
ثم أضافوا إلى هذا الدعاء دعاء آخر، أكثر صراحة من سابقه في المباعدة بينهم وبين الظالمين فقالوا وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ.
أى: نحن لا نلتمس منك يا مولانا ألا تجعلنا فتنة لهم فقط، بل نلتمس منك- أيضا- أن تنجينا من شرور القوم الكافرين، وأن تخلصنا من سوء جوارهم، وأن تفرق بيننا وبينهم كما فرقت بين أهل المشرق وأهل المغرب.
قال الإمام الشوكانى: «وفي هذا الدعاء الذي تضرعوا به إلى الله- دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم» «١».
وبعد هذا الدعاء المخلص، وجه الله- تعالى- نبيه موسى وأخاه هارون- عليهما السلام- إلى ما يوصل إلى نصرهما ونصر أتباعهما فقال- تعالى- وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً...
وقوله تَبَوَّءا من التبوء وهو اتخاذ المباءة أى المنزل، كالتوطن بمعنى اتخاذ الوطن.
يقال بوأته وبوأت له منزلا إذا أنزلته فيه، وهيأته له.
والمعنى: وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون بعد أن لج فرعون في طغيانه وفي إنزال العذاب بالمؤمنين- أن اتخذا لقومكما المؤمنين بيوتا خاصة بهم في مصر، ينزلون بها، ويستقرون فيها، ويعتزلون فرعون وجنده، إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا.
وقوله وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً أى: واجعلوا هذه البيوت التي حللتم بها مكانا لصلاتكم وعبادتكم، بعد أن حال فرعون وجنده بينكم وبين أداء عباداتكم في الأماكن المخصصة لذلك.
(١) تفسير (فتح القدير) للإمام الشوكانى ج ٢ ص ٤٦٦.
120
قال القرطبي: «المراد صلوا في بيوتكم سرا لتأمنوا، وذلك حين أخافهم فرعون، فأمروا بالصبر واتخاذ المساجد في البيوت، والإقدام على الصلاة، والدعاء، إلى أن ينجز الله وعده، وهو المراد بقوله قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا وكان من دينهم أنهم لا يصلون إلا في البيع والكنائس ماداموا على أمن، فإذا خافوا فقد أذن لهم أن يصلوا في بيوتهم... » «١».
وقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أى: داوموا عليها، وأدوها في أوقاتها بخشوع وإخلاص، فإن في أدائها بهذه الصورة. وسيلة إلى تفريج الكروب، وفي الحديث الشريف: «كان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر صلى».
وقوله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ تذييل قصد به بعث الأمل في نفوسهم متى أدوا ما كلفوا به.
أى: وبشر المؤمنين بالنصر والفلاح في الدنيا، وبالثواب الجزيل في الآخرة.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: كيف نوع الخطاب فثنى أولا، ثم جمع، ثم وحد آخرا؟
قلت: خوطب موسى وهارون- عليه السلام- أن يتبوآ لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور. ثم خص موسى- عليه السلام- بالبشارة التي هي الغرض تعظيما لها، وللمبشر بها» «٢».
ولأن بشارة الأمة- كما يقول الآلوسى- وظيفة صاحب الشريعة، وهي من الأعظم أسرّ وأوقع في النفس «٣».
هذا، ومن التوجيهات الحكيمة التي نأخذها من هذه الآية الكريمة، أن مما يعين المؤمنين على النصر والفلاح، أن يعتزلوا أهل الكفر والفسوق والعصيان، إذا لم تنفع معهم النصيحة، وأن يستعينوا على بلوغ غايتهم بالصبر والصلاة، وأن يقيموا حياتهم فيما بينهم على المحبة الصادقة، وعلى الأخوة الخالصة، وأن يجعلوا توكلهم على الله وحده وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.
ثم حكى القرآن الكريم بعد ذلك، ما تضرع به موسى- عليه السلام- إلى الله- تعالى- من دعوات خاشعات، بعد أن يئس من إيمان فرعون وملئه فقال- سبحانه-:
وقوله: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أى: داوموا عليها، وأدوها في أوقاتها بخشوع وإخلاص، فإن في أدائها بهذه الصورة. وسيلة إلى تفريج الكروب، وفي الحديث الشريف: «كان رسول الله ﷺ إذا حزبه أمر صلى».
وقوله وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ تذييل قصد به بعث الأمل في نفوسهم متى أدوا ما كلفوا به.
أى: وبشر المؤمنين بالنصر والفلاح في الدنيا، وبالثواب الجزيل في الآخرة.
قال صاحب الكشاف: «فإن قلت: كيف نوع الخطاب فثنى أولا، ثم جمع، ثم وحد آخرا؟
قلت: خوطب موسى وهارون- عليه السلام- أن يتبوآ لقومهما بيوتا ويختاراها للعبادة، وذلك مما يفوض إلى الأنبياء. ثم سيق الخطاب عاما لهما ولقومهما باتخاذ المساجد والصلاة فيها، لأن ذلك واجب على الجمهور. ثم خص موسى- عليه السلام- بالبشارة التي هي الغرض تعظيما لها، وللمبشر بها» «٢».
ولأن بشارة الأمة- كما يقول الآلوسى- وظيفة صاحب الشريعة، وهي من الأعظم أسرّ وأوقع في النفس «٣».
هذا، ومن التوجيهات الحكيمة التي نأخذها من هذه الآية الكريمة، أن مما يعين المؤمنين على النصر والفلاح، أن يعتزلوا أهل الكفر والفسوق والعصيان، إذا لم تنفع معهم النصيحة، وأن يستعينوا على بلوغ غايتهم بالصبر والصلاة، وأن يقيموا حياتهم فيما بينهم على المحبة الصادقة، وعلى الأخوة الخالصة، وأن يجعلوا توكلهم على الله وحده وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.
ثم حكى القرآن الكريم بعد ذلك، ما تضرع به موسى- عليه السلام- إلى الله- تعالى- من دعوات خاشعات، بعد أن يئس من إيمان فرعون وملئه فقال- سبحانه-:
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٢٧١.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٩.
(٣) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٥٢.
(٢) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٤٩.
(٣) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٥٢.
121
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩)والزينة: اسم لما يتزين به الإنسان من ألوان اللباس وأوانى الطعام والشراب، ووسائل الركوب.. وغير ذلك مما يستعمله الإنسان في زينته ورفاهيته.
والمال: يشمل أصناف الزينة، ويشمل غير ذلك مما يتملكه الإنسان.
والمعنى: وقال موسى- عليه السلام- مخاطبا ربه، بعد أن فقد الأمل في إصلاح فرعون وملئه: يا ربنا إنك أعطيت فرعون وأشراف قومه وأصحاب الرياسات منهم، الكثير من مظاهر الزينة والرفاهية والتنعم، كما أعطيتهم الكثير من الأموال في هذه الحياة الدنيا.
وهذا العطاء الجزيل لهم قد يضعف الإيمان في بعض النفوس، إما بالإغراء الذي يحدثه مظهر النعمة في نفوس الناظرين إليها، وإما بالترهيب الذي يملكه هؤلاء المنعمون، بحيث يصيرون قادرين على إذلال غيرهم.
واللام في قوله رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ لام العاقبة والصيرورة أى: أعطيتهم ما أعطيتهم من الزينة والمال، ليخلصوا لك العبادة والطاعة، وليقابلوا هذا العطاء بالشكر، ولكنهم لم يفعلوا بل قابلوا هذه النعم بالجحود والبطر، فكانت عاقبة أمرهم الخسران والضلال، فأزل يا مولانا هذه النعم من بين أيديهم.
قال القرطبي: «اختلف في هذه اللام، وأصح ما قبل فيها- وهو قول الخليل وسيبويه- أنها لام العاقبة والصيرورة، وفي الخبر: «إن لله- تعالى- ملكا ينادى كل يوم:
122
لدوا للموت وابنوا للخراب» أى: لما كان عاقبة أمرهم إلى الضلال، صار كأنه أعطاهم ليضلوا» «١».
وقال صاحب المنار: «قوله: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أى: لتكون عاقبة هذا العطاء إضلال عبادك عن سبيلك الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل والعمل الصالح، ذلك لأن الزينة سبب الكبر والخيلاء والطغيان على الناس، وكثرة الأموال تمكنهم من ذلك، وتخضع رقاب الناس لهم، كما قال- تعالى- إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.
فاللام في قوله لِيُضِلُّوا تسمى لام العاقبة والصيرورة، وهي الدالة على أن ما بعدها أثر وغاية فعلية لمتعلقها، يترتب عليه بالفعل لا بالسببية، ولا بقصد فاعل الفعل الذي تتعلق به كقوله- تعالى- فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً... «٢».
ومنهم من يرى أن هذه اللام للتعليل، والفعل منصوب بها، فيكون المعنى:
وقال موسى مخاطبا ربه: يا ربنا إنك قد أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، وإنك يا ربنا قد أعطيتهم ذلك على سبيل الاستدراج ليزدادوا طغيانا على طغيانهم، ثم تأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وشبيه بهذه الجملة في هذا المعنى قوله- تعالى-: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ «٣».
وقد رجح هذا المعنى الإمام ابن جرير فقال: «والصواب من القول في ذلك عندي أنها لام كي، ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه، ويضلوا عن سبيلك عبادك عقوبة منك لهم، وهذا كما قال جل ثناؤه لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ. «٤».
ومنهم من يرى أن هذه اللام هي لام الدعاء، وأنها للدعاء عليهم بالزيادة من الإضلال والغواية فيكون المعنى:
وقال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا اللهم يا ربنا زدهم ضلالا على ضلالهم.
وقال صاحب المنار: «قوله: رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ أى: لتكون عاقبة هذا العطاء إضلال عبادك عن سبيلك الموصلة إلى مرضاتك باتباع الحق والعدل والعمل الصالح، ذلك لأن الزينة سبب الكبر والخيلاء والطغيان على الناس، وكثرة الأموال تمكنهم من ذلك، وتخضع رقاب الناس لهم، كما قال- تعالى- إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى، أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى.
فاللام في قوله لِيُضِلُّوا تسمى لام العاقبة والصيرورة، وهي الدالة على أن ما بعدها أثر وغاية فعلية لمتعلقها، يترتب عليه بالفعل لا بالسببية، ولا بقصد فاعل الفعل الذي تتعلق به كقوله- تعالى- فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً... «٢».
ومنهم من يرى أن هذه اللام للتعليل، والفعل منصوب بها، فيكون المعنى:
وقال موسى مخاطبا ربه: يا ربنا إنك قد أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، وإنك يا ربنا قد أعطيتهم ذلك على سبيل الاستدراج ليزدادوا طغيانا على طغيانهم، ثم تأخذهم أخذ عزيز مقتدر.
وشبيه بهذه الجملة في هذا المعنى قوله- تعالى-: وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ، إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ «٣».
وقد رجح هذا المعنى الإمام ابن جرير فقال: «والصواب من القول في ذلك عندي أنها لام كي، ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه، ويضلوا عن سبيلك عبادك عقوبة منك لهم، وهذا كما قال جل ثناؤه لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً. لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ. «٤».
ومنهم من يرى أن هذه اللام هي لام الدعاء، وأنها للدعاء عليهم بالزيادة من الإضلال والغواية فيكون المعنى:
وقال موسى يا ربنا إنك أعطيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا اللهم يا ربنا زدهم ضلالا على ضلالهم.
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٧٤.
(٢) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٤٧٣.
(٣) سورة آل عمران الآية ١٧٨.
(٤) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ١٠٨.
(٢) راجع تفسير المنار ج ١١ ص ٤٧٣.
(٣) سورة آل عمران الآية ١٧٨.
(٤) تفسير ابن جرير ج ٧ ص ١٠٨.
123
وقد سار على هذا الرأى صاحب الكشاف. فقد قال ما ملخصه: «فإن قلت: ما معنى قوله: لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ؟
قلت: هو دعاء بلفظ الأمر كقوله: ربنا اطمس واشدد. وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا، وردد عليهم النصائح والمواعظ زمانا طويلا. وحذرهم من عذاب الله ومن انتقامه، وأنذرهم سوء عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرا وعلى الإنذار إلا استكبارا، وعن النصيحة إلا نبوا، ولم يبق له مطمع فيهم. وعلم بالتجربة وطول الصحبة أو بوحي من الله، أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال.
لما رأى منهم كل ذلك: اشتد غضبه عليهم، وكره حالهم، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره وهو ضلالهم.
فكأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال..» «١».
وعلى أية حال فهذه الأقوال الثلاثة، لكل واحد منها اتجاهه في التعبير عن ضيق موسى- عليه السلام- لإصرار فرعون وشيعته على الكفر، ولما هم فيه من نعم لم يقابلوها بالشكر، بل قابلوها بالجحود والبطر.
وإن كان الرأى الأول هو أظهرها في الدلالة على ذلك، وأقربها إلى سياق الآية الكريمة.
قال الشوكانى: «وقرأ الكوفيون لِيُضِلُّوا بضم الياء. أى: ليوقعوا الإضلال على غيرهم. وقرأ الباقون بالفتح أى يضلون في أنفسهم» «٢».
وقوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ. فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ دعا عليهم بما يستحقونه من عقوبات بسبب إصرارهم على الكفر والضلال.
والطمس: الإهلاك والإتلاف ومحو أثر الشيء يقال: طمس الشيء ويطمس طموسا إذا زال بحيث لا يرى ولا يعرف لذهاب صورته.
والشد: الربط والطبع على الشيء، بحيث لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخل فيه ما هو خارج منه.
والمعنى: وقال موسى مخاطبا ربه: يا ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، وقد أعطيتهم ذلك ليشكروك، ولكنهم لم يفعلوا، بل قابلوا عطاءك بالجحود، اللهم
قلت: هو دعاء بلفظ الأمر كقوله: ربنا اطمس واشدد. وذلك أنه لما عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضا مكررا، وردد عليهم النصائح والمواعظ زمانا طويلا. وحذرهم من عذاب الله ومن انتقامه، وأنذرهم سوء عاقبة ما كانوا عليه من الكفر والضلال، ورآهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرا وعلى الإنذار إلا استكبارا، وعن النصيحة إلا نبوا، ولم يبق له مطمع فيهم. وعلم بالتجربة وطول الصحبة أو بوحي من الله، أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال.
لما رأى منهم كل ذلك: اشتد غضبه عليهم، وكره حالهم، فدعا الله عليهم بما علم أنه لا يكون غيره وهو ضلالهم.
فكأنه قال: ليثبتوا على ما هم عليه من الضلال..» «١».
وعلى أية حال فهذه الأقوال الثلاثة، لكل واحد منها اتجاهه في التعبير عن ضيق موسى- عليه السلام- لإصرار فرعون وشيعته على الكفر، ولما هم فيه من نعم لم يقابلوها بالشكر، بل قابلوها بالجحود والبطر.
وإن كان الرأى الأول هو أظهرها في الدلالة على ذلك، وأقربها إلى سياق الآية الكريمة.
قال الشوكانى: «وقرأ الكوفيون لِيُضِلُّوا بضم الياء. أى: ليوقعوا الإضلال على غيرهم. وقرأ الباقون بالفتح أى يضلون في أنفسهم» «٢».
وقوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ، وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ. فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ دعا عليهم بما يستحقونه من عقوبات بسبب إصرارهم على الكفر والضلال.
والطمس: الإهلاك والإتلاف ومحو أثر الشيء يقال: طمس الشيء ويطمس طموسا إذا زال بحيث لا يرى ولا يعرف لذهاب صورته.
والشد: الربط والطبع على الشيء، بحيث لا يخرج منه ما هو بداخله، ولا يدخل فيه ما هو خارج منه.
والمعنى: وقال موسى مخاطبا ربه: يا ربنا إنك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الحياة الدنيا، وقد أعطيتهم ذلك ليشكروك، ولكنهم لم يفعلوا، بل قابلوا عطاءك بالجحود، اللهم
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥.
(٢) تفسير فتح القدير، للإمام الشوكانى ج ٢ ص ٤٧٠. [.....]
(٢) تفسير فتح القدير، للإمام الشوكانى ج ٢ ص ٤٧٠. [.....]
124
يا ربنا اطمس على أموالهم بأن تهلكها وتزيلها وتمحقها من بين أيديهم، حتى ترحم عبادك المؤمنين، من سوء استعمال الكافرين لنعمك في الإفساد والأذى.
وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ بأن تزيدها قسوة على قسوتها، وعنادا على عنادها مع استمرارها على ذلك، حتى يأتيهم العذاب الأليم الذي لا ينفع عند إتيانه إيمان، ولا تقبل معه توبة، لأنهما حدثا في غير وقتهما.
قال الجمل: «وهذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى- عليه السلام- «١».
وقال الإمام ابن كثير: «وهذه الدعوة كانت من موسى- عليه السلام- غضبا لله- تعالى- ولدينه على فرعون وملئه. الذين تبين له أنه لا خير فيهم، كما دعا نوح- عليه السلام- على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً.. ولهذا استجاب الله- تعالى- لموسى- عليه السلام- هذه الدعوة فيهم..» «٢».
فقال: قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما، وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.
أى: قال الله- تعالى- لموسى وهارون- عليهما السلام-: أبشرا فقد أجبت دعوتكما في شأن فرعون وملئه فَاسْتَقِيما على أمرى، وامضيا في دعوتكما الناس إلى الحق، وأثبتا على ما أنتما عليه من الإيمان بي والطاعة لأمري.
وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ما جرت به سنتي في خلقي، ولا يدركون طريق الخير من طريق الشر.
وكان الجواب من الله- تعالى- لموسى وهارون، مع أن الداعي موسى فقط كما صرحت الآيات السابقة، لأن هارون كان يؤمن على دعاء أخيه موسى والتأمين لون من الدعاء.
هذا، ومن الحكم والعظات التي نأخذها من هاتين الآيتين الكريمتين: أن من علامات الإيمان الصادق. أن يكون الإنسان غيورا على دين الله، ومن مظاهر هذه الغيرة أن يتمنى زوال النعمة من بين أيدى المصرين على جحودهم وفسوقهم وبطرهم لأن وجود النعم بين أيديهم كثيرا ما يكون سببا في إيذاء المؤمنين، وإدخال القلق والحيرة على نفوس بعضهم.
وأن الداعي متى توجه إلى الله- تعالى- بقلب سليم، ولسان صادق، كان دعاؤه مرجو القبول عنده- سبحانه-.
وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ بأن تزيدها قسوة على قسوتها، وعنادا على عنادها مع استمرارها على ذلك، حتى يأتيهم العذاب الأليم الذي لا ينفع عند إتيانه إيمان، ولا تقبل معه توبة، لأنهما حدثا في غير وقتهما.
قال الجمل: «وهذا الطمس هو أحد الآيات التسع التي أوتيها موسى- عليه السلام- «١».
وقال الإمام ابن كثير: «وهذه الدعوة كانت من موسى- عليه السلام- غضبا لله- تعالى- ولدينه على فرعون وملئه. الذين تبين له أنه لا خير فيهم، كما دعا نوح- عليه السلام- على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً.. ولهذا استجاب الله- تعالى- لموسى- عليه السلام- هذه الدعوة فيهم..» «٢».
فقال: قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما، وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ.
أى: قال الله- تعالى- لموسى وهارون- عليهما السلام-: أبشرا فقد أجبت دعوتكما في شأن فرعون وملئه فَاسْتَقِيما على أمرى، وامضيا في دعوتكما الناس إلى الحق، وأثبتا على ما أنتما عليه من الإيمان بي والطاعة لأمري.
وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ما جرت به سنتي في خلقي، ولا يدركون طريق الخير من طريق الشر.
وكان الجواب من الله- تعالى- لموسى وهارون، مع أن الداعي موسى فقط كما صرحت الآيات السابقة، لأن هارون كان يؤمن على دعاء أخيه موسى والتأمين لون من الدعاء.
هذا، ومن الحكم والعظات التي نأخذها من هاتين الآيتين الكريمتين: أن من علامات الإيمان الصادق. أن يكون الإنسان غيورا على دين الله، ومن مظاهر هذه الغيرة أن يتمنى زوال النعمة من بين أيدى المصرين على جحودهم وفسوقهم وبطرهم لأن وجود النعم بين أيديهم كثيرا ما يكون سببا في إيذاء المؤمنين، وإدخال القلق والحيرة على نفوس بعضهم.
وأن الداعي متى توجه إلى الله- تعالى- بقلب سليم، ولسان صادق، كان دعاؤه مرجو القبول عنده- سبحانه-.
(١) حاشية الجمل على الجلالين ج ١ ص ٣٧٠.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٢٥.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٢٥.
125
ثم ختم- سبحانه- قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون في هذه السورة الكريمة ببيان سنة من سننه التي لا تتخلف، وهي حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المكذبين فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)
قوله- سبحانه- وَجاوَزْنا هو من جاوز المكان، إذا قطعه وتخطاه وخلفه وراء ظهره وهو متعد بالباء إلى المفعول الأول الذي كان فاعلا في الأصل، وإلى الثاني بنفسه.
والمراد بالبحر هنا: بحر القلزم، وهو المسمى الآن بالبحر الأحمر. وقوله بَغْياً وَعَدْواً أى ظلما واعتداء. يقال: بغى فلان على فلان بغيا، إذا تطاول عليه وظلمه.
ويقال: عدا عليه عدوا وعدوانا إذا سلبه حقه.
وهما مصدران منصوبان على الحالية بتأويل اسم الفاعل. أى: باغين وعادين. أو على المفعولية لأجله أى: من أجل البغي والعدوان.
والمعنى: وجاوزنا ببني إسرائيل البحر، وهم تحت رعايتنا وقدرتنا، حيث جعلناه لهم طريقا
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)
قوله- سبحانه- وَجاوَزْنا هو من جاوز المكان، إذا قطعه وتخطاه وخلفه وراء ظهره وهو متعد بالباء إلى المفعول الأول الذي كان فاعلا في الأصل، وإلى الثاني بنفسه.
والمراد بالبحر هنا: بحر القلزم، وهو المسمى الآن بالبحر الأحمر. وقوله بَغْياً وَعَدْواً أى ظلما واعتداء. يقال: بغى فلان على فلان بغيا، إذا تطاول عليه وظلمه.
ويقال: عدا عليه عدوا وعدوانا إذا سلبه حقه.
وهما مصدران منصوبان على الحالية بتأويل اسم الفاعل. أى: باغين وعادين. أو على المفعولية لأجله أى: من أجل البغي والعدوان.
والمعنى: وجاوزنا ببني إسرائيل البحر، وهم تحت رعايتنا وقدرتنا، حيث جعلناه لهم طريقا
126
يبسا، فساروا فيه حتى بلغوا نهايته، فأتبعهم فرعون وجنوده لا لطلب الهداية والإيمان، ولكن لطلب البغي والعدوان.
قال الآلوسى: «وذلك أن الله- تعالى- لما أخبر موسى وهارون- عليهما السلام- بإجابته دعوتهما، أمرهما بإخراج بنى إسرائيل من مصر ليلا، فخرجا بهم على حين غفلة من فرعون وملئه، فلما أحسن بذلك، خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين، فالتفت القوم فإذا الطامة الكبرى وراءهم، فقالوا يا موسى، هذا فرعون وجنوده وراءنا. وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص، فأوحى الله- تعالى- إلى موسى، أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم، وصار لكل سبط طريق فسلكوا، ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وبنو إسرائيل قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله، فسلكه فرعون وجنوده، فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج من البحر، انطبق عليهم وغشيهم من اليم ما غشيهم» «١».
ثم حكى- سبحانه- ما قاله فرعون عند ما نزل به قضاء الله الذي لا يرد فقال- تعالى-: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
أى: لقد اتبع فرعون وجنوده بنى إسرائيل بغيا وعدوا، فانطبق عليه البحر، ولفه تحت أمواجه ولججه، حتى إذا أدركه الغرق وعاين الموت وأيقن أنه لا نجاة له منه، قال آمنت وصدقت. بأنه لا معبود بحق سوى الإله الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من القوم الذين أسلموا نفوسهم لله وحده وأخلصوها لطاعته.
ولما كان هذا القول قد جاء في غير أوانه، وأن هذا الإيمان لا ينفع لأنه جاء عند معاينة الموت، فقد رد الله- تعالى- على فرعون بقوله- سبحانه- آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
أى: آلآن تدعى الإيمان حين يئست من الحياة، وأيقنت بالموت، والحال أنك كنت قبل ذلك من العصاة المفسدين في الأرض، المصرين على تكذيب الحق الذي جاءك به رسولنا موسى- عليه السلام- والظرف «آلآن» متعلق بمحذوف متأخر، والاستفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار.
وقوله: وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ جملة حالية من فاعل الفعل المقدر، أى: آلآن تدعى
قال الآلوسى: «وذلك أن الله- تعالى- لما أخبر موسى وهارون- عليهما السلام- بإجابته دعوتهما، أمرهما بإخراج بنى إسرائيل من مصر ليلا، فخرجا بهم على حين غفلة من فرعون وملئه، فلما أحسن بذلك، خرج هو وجنوده على أثرهم مسرعين، فالتفت القوم فإذا الطامة الكبرى وراءهم، فقالوا يا موسى، هذا فرعون وجنوده وراءنا. وهذا البحر أمامنا فكيف الخلاص، فأوحى الله- تعالى- إلى موسى، أن اضرب بعصاك البحر، فضربه فانفلق اثنى عشر فرقا كل فرق كالطود العظيم، وصار لكل سبط طريق فسلكوا، ووصل فرعون ومن معه إلى الساحل وبنو إسرائيل قد خرجوا من البحر ومسلكهم باق على حاله، فسلكه فرعون وجنوده، فلما دخل آخرهم وهم أولهم بالخروج من البحر، انطبق عليهم وغشيهم من اليم ما غشيهم» «١».
ثم حكى- سبحانه- ما قاله فرعون عند ما نزل به قضاء الله الذي لا يرد فقال- تعالى-: حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
أى: لقد اتبع فرعون وجنوده بنى إسرائيل بغيا وعدوا، فانطبق عليه البحر، ولفه تحت أمواجه ولججه، حتى إذا أدركه الغرق وعاين الموت وأيقن أنه لا نجاة له منه، قال آمنت وصدقت. بأنه لا معبود بحق سوى الإله الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من القوم الذين أسلموا نفوسهم لله وحده وأخلصوها لطاعته.
ولما كان هذا القول قد جاء في غير أوانه، وأن هذا الإيمان لا ينفع لأنه جاء عند معاينة الموت، فقد رد الله- تعالى- على فرعون بقوله- سبحانه- آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ، وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ.
أى: آلآن تدعى الإيمان حين يئست من الحياة، وأيقنت بالموت، والحال أنك كنت قبل ذلك من العصاة المفسدين في الأرض، المصرين على تكذيب الحق الذي جاءك به رسولنا موسى- عليه السلام- والظرف «آلآن» متعلق بمحذوف متأخر، والاستفهام للتقريع والتوبيخ والإنكار.
وقوله: وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ جملة حالية من فاعل الفعل المقدر، أى: آلآن تدعى
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦٠.
127
الإيمان والحال أنك عصيت قبل وكنت من المفسدين.
قال الإمام ابن كثير: «وهذا الذي حكاه الله- تعالى- عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك. من أسرار الغيب التي أعلم الله- تعالى- بها رسوله- صلى الله عليه وسلم-، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله.
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «لما قال فرعون:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل لي يا محمد لو رأيتنى وقد أخذت حالا من حال البحر- أى طينا أسود من طين البحر- فدسسته في فمه مخافة أن تناله الرحمة».
ورواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبى حاتم في تفاسيرهم، من حديث، حماد بن سلمة وقال الترمذي: حديث حسن.
ثم ساق ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث في هذا المعنى» «١».
وقوله- سبحانه-: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً.. تهكم به، وتخييب لآماله، وقطع لدابر أطماعه، والمعنى إن دعواك الإيمان الآن مرفوضة، لأنها جاءت في غير وقتها، وإننا اليوم بعد أن حل بك الموت، نلقى بجسمك الذي خلا من الروح على مكان مرتفع من الأرض لتكون عبرة وعظة للأحياء الذين يعيشون من بعدك سواء أكانوا من بنى إسرائيل أم من غيرهم، حتى يعرف الجميع بالمشاهدة أو الإخبار، سوء عاقبة المكذبين، وأن الألوهية لا تكون إلا لله الواحد الأحد، الفرد الصمد.
قال الإمام الشوكانى: «قوله فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ.. قرئ ننجيك بالتخفيف، والجمهور على التثقيل.
أى: نلقيك على نجوة من الأرض. وذلك أن بنى إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون قد غرق، وقالوا: هو أعظم شأنا من ذلك، فألقاه الله على نجوة من الأرض أى مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه.
ومعنى بِبَدَنِكَ بجسدك بعد سلب الروح منه. وقيل معناه بدرعك والدرع يسمى بدنا، ومنه قول كعب بن مالك:
قال الإمام ابن كثير: «وهذا الذي حكاه الله- تعالى- عن فرعون من قوله هذا في حاله ذاك. من أسرار الغيب التي أعلم الله- تعالى- بها رسوله- صلى الله عليه وسلم-، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل- رحمه الله.
حدثنا سليمان بن حرب، حدثنا حماد بن سلمة، عن على بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- «لما قال فرعون:
آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، قال جبريل لي يا محمد لو رأيتنى وقد أخذت حالا من حال البحر- أى طينا أسود من طين البحر- فدسسته في فمه مخافة أن تناله الرحمة».
ورواه الترمذي، وابن جرير، وابن أبى حاتم في تفاسيرهم، من حديث، حماد بن سلمة وقال الترمذي: حديث حسن.
ثم ساق ابن كثير بعد ذلك جملة من الأحاديث في هذا المعنى» «١».
وقوله- سبحانه-: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً.. تهكم به، وتخييب لآماله، وقطع لدابر أطماعه، والمعنى إن دعواك الإيمان الآن مرفوضة، لأنها جاءت في غير وقتها، وإننا اليوم بعد أن حل بك الموت، نلقى بجسمك الذي خلا من الروح على مكان مرتفع من الأرض لتكون عبرة وعظة للأحياء الذين يعيشون من بعدك سواء أكانوا من بنى إسرائيل أم من غيرهم، حتى يعرف الجميع بالمشاهدة أو الإخبار، سوء عاقبة المكذبين، وأن الألوهية لا تكون إلا لله الواحد الأحد، الفرد الصمد.
قال الإمام الشوكانى: «قوله فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ.. قرئ ننجيك بالتخفيف، والجمهور على التثقيل.
أى: نلقيك على نجوة من الأرض. وذلك أن بنى إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون قد غرق، وقالوا: هو أعظم شأنا من ذلك، فألقاه الله على نجوة من الأرض أى مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه.
ومعنى بِبَدَنِكَ بجسدك بعد سلب الروح منه. وقيل معناه بدرعك والدرع يسمى بدنا، ومنه قول كعب بن مالك:
ترى الأبدان فيها مسبغات | على الأبطال واليلب الحصينا |
(١) راجع تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٢٧، طبعة دار الشعب.
128
أراد بالأبدان الدروع «١» - وباليلب- بفتح الياء واللام- الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود.
وقوله: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ تذييل قصد به دعوة الناس جميعا إلى التأمل والتدبر، والاعتبار بآيات الله، وبمظاهر قدرته.
أى: وإن كثيرا من الناس لغافلون عن آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا على إهلاك كل ظالم جبار.
قال ابن كثير: وكان هلاك فرعون يوم عاشوراء. كما قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قدم النبي ﷺ المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي ﷺ لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم فصوموه» «٢».
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بعض مظاهر نعمه على بنى إسرائيل بعد أن أهلك عدوهم فرعون فقال- تعالى-: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.
وقوله: بَوَّأْنا أى: أنزلنا وأسكنا، من التبوء، وهو اتخاذ المباءة أى: المنزل والمسكن.
وفي إضافة المبوأ إلى الصدق مدح له، فقد جرت عادة العرب على أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا: رجل صدق إذا كان متحليا بمكارم الأخلاق.
قال الآلوسى: «والمراد بهذا المبوأ، كما رواه ابن المنذر وغيره عن الضحاك: الشام ومصر، فإن بنى إسرائيل الذين كانوا في زمان موسى- عليه السلام- وهم المرادون هنا، ملكوا ذلك حسبما ذهب إليه جمع من الفضلاء «٣».
وأخرج أبو الشيخ وغيره عن قتادة أن المراد به الشام وبيت المقدس، واختاره بعضهم، بناء على أن أولئك لم يعودوا إلى مصر بعد ذلك.
وينبغي أن يراد ببني إسرائيل على القولين، ما يشمل ذريتهم بناء على أنهم ما دخلوا الشام في حياة موسى- عليه السلام- إنما دخلها أبناؤهم- بقيادة يوشع بن نون.
وقيل المراد به أطراف المدينة إلى جهة الشام، وببني إسرائيل الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ تذييل قصد به دعوة الناس جميعا إلى التأمل والتدبر، والاعتبار بآيات الله، وبمظاهر قدرته.
أى: وإن كثيرا من الناس لغافلون عن آياتنا الدالة على وحدانيتنا وقدرتنا على إهلاك كل ظالم جبار.
قال ابن كثير: وكان هلاك فرعون يوم عاشوراء. كما قال البخاري: حدثنا محمد بن بشار، حدثنا غندر، حدثنا شعبة، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قدم النبي ﷺ المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون. فقال النبي ﷺ لأصحابه: أنتم أحق بموسى منهم فصوموه» «٢».
ثم بين- سبحانه- بعد ذلك بعض مظاهر نعمه على بنى إسرائيل بعد أن أهلك عدوهم فرعون فقال- تعالى-: وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ.
وقوله: بَوَّأْنا أى: أنزلنا وأسكنا، من التبوء، وهو اتخاذ المباءة أى: المنزل والمسكن.
وفي إضافة المبوأ إلى الصدق مدح له، فقد جرت عادة العرب على أنهم إذا مدحوا شيئا أضافوه إلى الصدق فقالوا: رجل صدق إذا كان متحليا بمكارم الأخلاق.
قال الآلوسى: «والمراد بهذا المبوأ، كما رواه ابن المنذر وغيره عن الضحاك: الشام ومصر، فإن بنى إسرائيل الذين كانوا في زمان موسى- عليه السلام- وهم المرادون هنا، ملكوا ذلك حسبما ذهب إليه جمع من الفضلاء «٣».
وأخرج أبو الشيخ وغيره عن قتادة أن المراد به الشام وبيت المقدس، واختاره بعضهم، بناء على أن أولئك لم يعودوا إلى مصر بعد ذلك.
وينبغي أن يراد ببني إسرائيل على القولين، ما يشمل ذريتهم بناء على أنهم ما دخلوا الشام في حياة موسى- عليه السلام- إنما دخلها أبناؤهم- بقيادة يوشع بن نون.
وقيل المراد به أطراف المدينة إلى جهة الشام، وببني إسرائيل الذين كانوا على عهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
(١) تفسير فتح القدير ج ٢ ص ٤٧٠.
(٢) تفسير أبن كثير ج ٤ ص ٢٢٩.
(٣) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦٧.
(٢) تفسير أبن كثير ج ٤ ص ٢٢٩.
(٣) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦٧.
129
والمعنى: ولقد أنزلنا بنى إسرائيل بعد هلاك عدوهم فرعون منزلا صالحا مرضيا، فيه الأمان، والاطمئنان لهم، وأعطيناهم فوق ذلك الكثير من ألوان المأكولات والمشروبات الطيبات التي أحللناها لهم.
وقوله: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ.... توبيخ لهم على موقفهم الجحودى من هذه النعم التي أنعم الله بها عليهم.
أى: أنهم ما تفرقوا في أمور دينهم ودنياهم على مذاهب شتى، إلا من بعد ما جاءهم العلم الحاسم لكل شبهة، وهو ما بين أيديهم من الوحى الذي أمرهم الله- تعالى- أن يتلوه حق تلاوته، وان لا يستخدموه في التأويلات الباطلة.
فالجملة الكريمة توبخهم على جعلهم العلم الذي كان من الواجب عليهم أن يستعملوه- في الحق والخير- وسيلة للاختلاف والابتعاد عن الطريق المستقيم.
وقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ تذييل قصد به الزجر عن الاختلاف واتباع الباطل.
أى: إن ربك يفصل بين هؤلاء المختلفين، فيجازى أهل الحق بما يستحقونه من ثواب، ويجازى أهل الباطل بما يستحقونه من عقاب.
وبعد هذا الحديث المتنوع عن قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وملئه، ومع قومه بنى إسرائيل، وجه القرآن خطابا إلى النبي ﷺ تثبيتا لقلبه، وتسلية له عما أصابه من أذى، فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
وقوله: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ.... توبيخ لهم على موقفهم الجحودى من هذه النعم التي أنعم الله بها عليهم.
أى: أنهم ما تفرقوا في أمور دينهم ودنياهم على مذاهب شتى، إلا من بعد ما جاءهم العلم الحاسم لكل شبهة، وهو ما بين أيديهم من الوحى الذي أمرهم الله- تعالى- أن يتلوه حق تلاوته، وان لا يستخدموه في التأويلات الباطلة.
فالجملة الكريمة توبخهم على جعلهم العلم الذي كان من الواجب عليهم أن يستعملوه- في الحق والخير- وسيلة للاختلاف والابتعاد عن الطريق المستقيم.
وقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ تذييل قصد به الزجر عن الاختلاف واتباع الباطل.
أى: إن ربك يفصل بين هؤلاء المختلفين، فيجازى أهل الحق بما يستحقونه من ثواب، ويجازى أهل الباطل بما يستحقونه من عقاب.
وبعد هذا الحديث المتنوع عن قصة موسى- عليه السلام- مع فرعون وملئه، ومع قومه بنى إسرائيل، وجه القرآن خطابا إلى النبي ﷺ تثبيتا لقلبه، وتسلية له عما أصابه من أذى، فقال- تعالى-:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٤ الى ٩٧]
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
130
والمراد مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ هنا: ما أوحاه الله- تعالى- إلى نبيه ﷺ من قصص حكيم يتعلق بأنبياء الله- تعالى- ورسله.
قال الآلوسى: «وخصت القصص بالذكر، لأن الأحكام المنزلة عليه ﷺ ناسخة لأحكامهم، ومخالفة لها فلا يتصور سؤالهم عنها» «١».
والمراد بالكتاب: جنسه فيشمل التوراة والإنجيل.
والمعنى: فإن كنت أيها الرسول الكريم- على سبيل الفرض والتقدير- في شك مما أنزلنا إليك من قصص حكيم كقصة موسى ونوح وغيرهما فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ وهم علماء أهل الكتاب، فإن ما قصصناه عليك ثابت في كتبهم.
فليس المراد من هذه الآية ثبوت الشك للرسول ﷺ وإنما المراد على سبيل الفرض والتقدير، لا على سبيل الثبوت.
قال ابن كثير: «قال قتادة بن دعامة: بلغنا أن رسول الله ﷺ قال: «لا أشك ولا أسأل».
وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري، وهذا فيه تثبيت للأمة، وإعلام لهم بأن صفة نبيهم ﷺ موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدى أهل الكتاب، كما قال- تعالى- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ.. «٢».
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في شأن عيسى- عليه السلام-: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ...
فعيسى- عليه السلام- يعلم علم اليقين أنه لم يقل ذلك، وإنما يفرض قوله فرضا.
ليستدل عليه بأنه لو قاله لعلمه الله- تعالى- منه.
أى: إن كنت قلته- على سبيل الفرض والتقدير- فقولي هذا لا يخفى عليك.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: فإن قلت: كيف قال الله- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ.. ؟
قلت: هو على سبيل الفرض والتمثيل. كأنه قيل: فإن وقع لك شك- مثلا- وخيل
قال الآلوسى: «وخصت القصص بالذكر، لأن الأحكام المنزلة عليه ﷺ ناسخة لأحكامهم، ومخالفة لها فلا يتصور سؤالهم عنها» «١».
والمراد بالكتاب: جنسه فيشمل التوراة والإنجيل.
والمعنى: فإن كنت أيها الرسول الكريم- على سبيل الفرض والتقدير- في شك مما أنزلنا إليك من قصص حكيم كقصة موسى ونوح وغيرهما فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ وهم علماء أهل الكتاب، فإن ما قصصناه عليك ثابت في كتبهم.
فليس المراد من هذه الآية ثبوت الشك للرسول ﷺ وإنما المراد على سبيل الفرض والتقدير، لا على سبيل الثبوت.
قال ابن كثير: «قال قتادة بن دعامة: بلغنا أن رسول الله ﷺ قال: «لا أشك ولا أسأل».
وكذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن البصري، وهذا فيه تثبيت للأمة، وإعلام لهم بأن صفة نبيهم ﷺ موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدى أهل الكتاب، كما قال- تعالى- الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ.. «٢».
وشبيه بهذه الآية قوله- تعالى- في شأن عيسى- عليه السلام-: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ. إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ...
فعيسى- عليه السلام- يعلم علم اليقين أنه لم يقل ذلك، وإنما يفرض قوله فرضا.
ليستدل عليه بأنه لو قاله لعلمه الله- تعالى- منه.
أى: إن كنت قلته- على سبيل الفرض والتقدير- فقولي هذا لا يخفى عليك.
قال صاحب الكشاف ما ملخصه: فإن قلت: كيف قال الله- تعالى- لرسوله صلى الله عليه وسلم: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ.. ؟
قلت: هو على سبيل الفرض والتمثيل. كأنه قيل: فإن وقع لك شك- مثلا- وخيل
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦٨.
(٢) تفسير أبن كثير ج ٤ ص ٢٣١.
(٢) تفسير أبن كثير ج ٤ ص ٢٣١.
131
لك الشيطان خيالا منه تقديرا فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ.
والمعنى: أن الله- عز وجل- قدم ذكر بنى إسرائيل، وهم قراء الكتاب ووصفهم بأن العلم قد جاءهم، لأن أمر رسول الله ﷺ مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن، وصحة نبوة محمد ﷺ ويبالغ في ذلك فقال: فإن وقع لك شك فرضا وتقديرا. فسل علماء أهل الكتاب يعنى أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك، بحيث يصلحون لمراجعة مثلك، فضلا عن غيرك.
فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله ﷺ لا وصفه بالشك فيه.
ويجوز أن يكون على طريق التهييج والإلهاب كقوله فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ..
ولذلك قال ﷺ عند نزوله: «لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق».
وقيل: خوطب رسول الله ﷺ والمراد خطاب أمته.
ومعناه: «فإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم..» «١».
وقوله لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ كلام مستأنف مؤكد لاجتثاث إرادة الشك.
والتقدير: أقسم لقد جاءك الحق الذي لا لبس فيه من ربك لا من غيره، فلا تكونن من الشاكين المترددين في صحة ذلك.
وقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ تعريض بأولئك الشاكين والمكذبين له ﷺ من قومه. أى: ولا تكونن من القوم الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صدقك فيما تبلغه عنا، فتكون بذلك من الخاسرين الذين أضاعوا دنياهم وأخراهم.
قال الآلوسى: «وفائدة النهى في الموضعين التهييج والإلهاب نظير ما مر. والمراد بذلك الإعلام بأن الامتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما، فكيف بمن يمكن اتصافه بذلك..» «٢».
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
والمعنى: أن الله- عز وجل- قدم ذكر بنى إسرائيل، وهم قراء الكتاب ووصفهم بأن العلم قد جاءهم، لأن أمر رسول الله ﷺ مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم فأراد أن يؤكد علمهم بصحة القرآن، وصحة نبوة محمد ﷺ ويبالغ في ذلك فقال: فإن وقع لك شك فرضا وتقديرا. فسل علماء أهل الكتاب يعنى أنهم من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك، بحيث يصلحون لمراجعة مثلك، فضلا عن غيرك.
فالغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى رسول الله ﷺ لا وصفه بالشك فيه.
ويجوز أن يكون على طريق التهييج والإلهاب كقوله فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ..
ولذلك قال ﷺ عند نزوله: «لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق».
وقيل: خوطب رسول الله ﷺ والمراد خطاب أمته.
ومعناه: «فإن كنتم في شك مما أنزلنا إليكم..» «١».
وقوله لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ كلام مستأنف مؤكد لاجتثاث إرادة الشك.
والتقدير: أقسم لقد جاءك الحق الذي لا لبس فيه من ربك لا من غيره، فلا تكونن من الشاكين المترددين في صحة ذلك.
وقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ تعريض بأولئك الشاكين والمكذبين له ﷺ من قومه. أى: ولا تكونن من القوم الذين كذبوا بآيات الله الدالة على صدقك فيما تبلغه عنا، فتكون بذلك من الخاسرين الذين أضاعوا دنياهم وأخراهم.
قال الآلوسى: «وفائدة النهى في الموضعين التهييج والإلهاب نظير ما مر. والمراد بذلك الإعلام بأن الامتراء والتكذيب قد بلغا في القبح والمحذورية إلى حيث ينبغي أن ينهى عنهما من لا يمكن أن يتصف بهما، فكيف بمن يمكن اتصافه بذلك..» «٢».
وقوله: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ، وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ
(١) تفسير الكشاف ج ٢ ص ٢٥٣.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦٨.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٦٨.
132
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥ
ﱡ
ﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶ
ﱢ
ﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ
ﱣ
ﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖ
ﱤ
ﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ
ﱥ
ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔ
ﱦ
توبيخ للكافرين على إصرارهم على الكفر، وجحودهم للحق.
والمراد بكلمة ربك: حكمه النافذ، وقضاؤه الذي لا يرد، وسنته التي لا تتغير ولا تتبدل في الهداية والإضلال.
والمراد بالآية: المعجزات والبراهين الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
أى: إن الذين حكم الله- تعالى- عليهم بعدم الإيمان- لأنهم استحبوا العمى على الهدى- لا يؤمنون بالحق الذي جئت به- أيها الرسول الكريم.. مهما سفت لهم من معجزات وبراهين دالة على صدقك..
ولكنهم سيؤمنون بأن ما جئت به هو الحق، حين يرون العذاب الأليم وقد نزل بهم من كل جانب.
وهنا سيكون إيمانهم كلا إيمان، لأنه جاء في غير وقته، وصدق الله إذ يقول: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا.. «١».
وسيكون حالهم كحال فرعون، الذي عند ما أدركه الغرق قال آمنت.
وبذلك ترى الآيات الكريمة قد نهت عن الشك والافتراء في شأن الحق الذي جاء به الرسول ﷺ بأبلغ أسلوب، وأقوى بيان، كما بينت سنة من سنن الله في خلقه، وهي أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدى، ومن لا يفتح بصيرته للنور لا يراه، فتكون نهايته إلى الضلال، مهما تكن الآيات والبينات الدالة على طريق الحق.
ثم فتحت السورة الكريمة للمكذبين باب الأمل والنجاة، فذكرتهم بقوم يونس- عليه السلام- الذين نجوا من العذاب بسبب إيمانهم، كما ذكرتهم بإرادة الله التامة، وقدرته النافذة، ودعتهم إلى الاعتبار والاتعاظ بما اشتمل عليه هذا الكون.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تسوق كل ذلك وغيره بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٨ الى ١٠٣]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
والمراد بكلمة ربك: حكمه النافذ، وقضاؤه الذي لا يرد، وسنته التي لا تتغير ولا تتبدل في الهداية والإضلال.
والمراد بالآية: المعجزات والبراهين الدالة على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
أى: إن الذين حكم الله- تعالى- عليهم بعدم الإيمان- لأنهم استحبوا العمى على الهدى- لا يؤمنون بالحق الذي جئت به- أيها الرسول الكريم.. مهما سفت لهم من معجزات وبراهين دالة على صدقك..
ولكنهم سيؤمنون بأن ما جئت به هو الحق، حين يرون العذاب الأليم وقد نزل بهم من كل جانب.
وهنا سيكون إيمانهم كلا إيمان، لأنه جاء في غير وقته، وصدق الله إذ يقول: فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا.. «١».
وسيكون حالهم كحال فرعون، الذي عند ما أدركه الغرق قال آمنت.
وبذلك ترى الآيات الكريمة قد نهت عن الشك والافتراء في شأن الحق الذي جاء به الرسول ﷺ بأبلغ أسلوب، وأقوى بيان، كما بينت سنة من سنن الله في خلقه، وهي أن من لا يأخذ بأسباب الهدى لا يهتدى، ومن لا يفتح بصيرته للنور لا يراه، فتكون نهايته إلى الضلال، مهما تكن الآيات والبينات الدالة على طريق الحق.
ثم فتحت السورة الكريمة للمكذبين باب الأمل والنجاة، فذكرتهم بقوم يونس- عليه السلام- الذين نجوا من العذاب بسبب إيمانهم، كما ذكرتهم بإرادة الله التامة، وقدرته النافذة، ودعتهم إلى الاعتبار والاتعاظ بما اشتمل عليه هذا الكون.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تسوق كل ذلك وغيره بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٨ الى ١٠٣]
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)
(١) سورة غافر الآية ٨٥.
133
قال القرطبي ما ملخصه: «روى في قصة يونس- عليه السلام- عن جماعة من المفسرين، أن قوم يونس كانوا بنينوى من أرض الموصل- بالعراق- وكانوا يعبدون الأصنام، فأرسل الله إليهم يونس يدعوهم إلى الإسلام، وترك ما هم عليه فأبوا، فقيل: إنه أقام يدعوهم تسع سنين فيئس من إيمانهم. فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبحهم إلى ثلاث ففعل. وقالوا: هو رجل لا يكذب فارقبوه، فإن أقام معكم وبين أظهركم فلا عليكم، وإن ارتحل عنكم، فهو نزول العذاب لا شك...
فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم، فأصبحوا فلم يجدوه، فآمنوا وتابوا، ودعوا الله ولبسوا المسوح، وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وردوا المظالم..
قال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا العذاب لما نفعهم الإيمان» «١».
فلما كان الليل تزود يونس وخرج عنهم، فأصبحوا فلم يجدوه، فآمنوا وتابوا، ودعوا الله ولبسوا المسوح، وفرقوا بين الأمهات والأولاد من الناس والبهائم، وردوا المظالم..
قال الزجاج: إنهم لم يقع بهم العذاب، وإنما رأوا العلامة التي تدل على العذاب، ولو رأوا العذاب لما نفعهم الإيمان» «١».
وكلمة فَلَوْلا في قوله- سبحانه- فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ | للحث والتحضيض، فهي بمعنى هلا. |
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٨٧.
134
والمقصود بالقرية أهلها وهم أقوام الأنبياء السابقين، وهي اسم كان. وقوله آمَنَتْ خبرها. وقوله فَنَفَعَها إِيمانُها معطوف على آمَنَتْ.
والمعنى: فهلا عاد المكذبون إلى رشدهم وصوابهم، فآمنوا بالحق الذي جاءتهم به رسلهم، فنجوا بذلك من عذاب الاستئصال الذي حل بهم فقطع دابرهم، كما نجا منه قوم يونس- عليه السلام- فإنهم عند ما رأوا أمارات العذاب الذي أنذرهم به نبيهم آمنوا وصدقوا، فكشف الله عنهم هذا العذاب الذي كاد ينزل بهم، ومتعهم بالحياة المقدرة لهم، إلى حين انقضاء آجالهم في هذه الدنيا.
قال الإمام الشوكانى: والاستثناء بقوله: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ.. منقطع، وهو استثناء من القرية لأن المراد أهلها.
والمعنى: فهلا قرية واحدة من القرى التي أهلكناها آمنت إيمانا معتدا به- وذلك بأن يكون خالصا لله- قبل معاينة العذاب، ولم تؤخره كما أخره فرعون، لكن قوم يونس «لما آمنوا» إيمانا معتدا به قبل معاينة العذاب، أو عند أول المعاينة قبل حلوله بهم «كشفنا عنهم عذاب الخزي» أى: الذل والهوان.
وقيل يجوز أن يكون متصلا، والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس..» «١».
وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه: «وما يرويه بعض المفسرين هنا من أن العذاب نزل عليهم، وجعل يدور على رءوسهم.. ونحو هذا، ليس له أصل لا في القرآن ولا في السنة...
وفي الآية إشارة إلى أنه لم توجد قرية آمنت بأجمعها بنبيها المرسل إليها من سائر القرى، سوى قوم يونس.
والبقية دأبهم التكذيب، كلهم أو أكثرهم، كما قال- تعالى- وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ.
وفي الحديث الصحيح: «عرض على الأنبياء، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس- أى العدد القليل- والنبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد» «٢».
وفي الآية الكريمة- أيضا- تسلية الرسول ﷺ عما أصابه من حزن بسبب إعراض
والمعنى: فهلا عاد المكذبون إلى رشدهم وصوابهم، فآمنوا بالحق الذي جاءتهم به رسلهم، فنجوا بذلك من عذاب الاستئصال الذي حل بهم فقطع دابرهم، كما نجا منه قوم يونس- عليه السلام- فإنهم عند ما رأوا أمارات العذاب الذي أنذرهم به نبيهم آمنوا وصدقوا، فكشف الله عنهم هذا العذاب الذي كاد ينزل بهم، ومتعهم بالحياة المقدرة لهم، إلى حين انقضاء آجالهم في هذه الدنيا.
قال الإمام الشوكانى: والاستثناء بقوله: إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ.. منقطع، وهو استثناء من القرية لأن المراد أهلها.
والمعنى: فهلا قرية واحدة من القرى التي أهلكناها آمنت إيمانا معتدا به- وذلك بأن يكون خالصا لله- قبل معاينة العذاب، ولم تؤخره كما أخره فرعون، لكن قوم يونس «لما آمنوا» إيمانا معتدا به قبل معاينة العذاب، أو عند أول المعاينة قبل حلوله بهم «كشفنا عنهم عذاب الخزي» أى: الذل والهوان.
وقيل يجوز أن يكون متصلا، والجملة في معنى النفي، كأنه قيل: ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس..» «١».
وقال الشيخ القاسمى ما ملخصه: «وما يرويه بعض المفسرين هنا من أن العذاب نزل عليهم، وجعل يدور على رءوسهم.. ونحو هذا، ليس له أصل لا في القرآن ولا في السنة...
وفي الآية إشارة إلى أنه لم توجد قرية آمنت بأجمعها بنبيها المرسل إليها من سائر القرى، سوى قوم يونس.
والبقية دأبهم التكذيب، كلهم أو أكثرهم، كما قال- تعالى- وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ.
وفي الحديث الصحيح: «عرض على الأنبياء، فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس- أى العدد القليل- والنبي معه الرجل، والنبي معه الرجلان، والنبي ليس معه أحد» «٢».
وفي الآية الكريمة- أيضا- تسلية الرسول ﷺ عما أصابه من حزن بسبب إعراض
(١) تفسير فتح القدير ج ٢ ص ٤٧٣. [.....]
(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٣٤٠٠.
(٢) تفسير القاسمى ج ٦ ص ٣٤٠٠.
135
قومه عن دعوته، وفيها كذلك تعريض بأهل مكة، وإنذارهم من سوء عاقبة الإصرار على الكفر والجحود، وحض لهم على أن يكونوا كقوم يونس- عليه السلام- الذين آمنوا قبل نزول العذاب فنفعهم إيمانهم.
ثم أضاف- سبحانه- إلى هذه التسلية لرسوله ﷺ تسلية أخرى فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً... ومفعول المشيئة محذوف والتقدير:
ولو شاء ربك- يا محمد- إيمان أهل الأرض كلهم جميعا لآمنوا دون أن يتخلف منهم أحد، ولكنه- سبحانه- لم يشأ ذلك، لأنه مخالف للحكمة التي عليها أساس التكوين والتشريع، والإثابة والمعاقبة، فقد اقتضت حكمته- سبحانه- أن يخلق الكفر والإيمان، وأن يحذر من الكفر ويحض على الإيمان، ثم بعد ذلك من كفر فعليه تقع عقوبة كفره، ومن آمن فله ثواب إيمانه.
والهمزة في قوله- سبحانه- أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ للاستفهام الإنكارى، والفاء للتفريع.
والمراد بالناس: المصرين على كفرهم وعنادهم.
والمعنى: تلك هي مشيئتنا لو أردنا إنفاذها لنفذناها، ولكننا لم نشأ ذلك فهل أنت يا محمد في وسعك أن تكره الناس الذين لم يرد الله هدايتهم على الإيمان؟.
لا، ليس ذلك في وسعك ولا في وسع الخلق جميعا، بل الذي في وسعك هو التبليغ لما أمرناك بتبليغه.
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية أخرى للرسول ﷺ ودفع لما يضيق به صدره، من إعراض بعض الناس عن دعوته.
وقوله- سبحانه- وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ... تأكيد لما اشتملت عليه الآية السابقة من قدرة نافذة لله- تعالى- أى: وما صح وما استقام لنفس من الأنفس، أن تؤمن في حال من الأحوال، إلا بإذن الله» أى: إلا بإرادته ومشيئته وتوفيقه وهدايته.
وقوله: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ. معطوف على محذوف يدل عليه الكلام السابق دلالة الضد على الضد، والرجس: يطلق على الشيء القبيح المستقذر.
والمعنى: وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله، فيأذن لمن يشاء من تلك الأنفس بالإيمان، ويجعل الرجس أى الكفر وما يترتب عليه من عذاب على القوم الذين لم يستعملوا عقولهم فيما يهدى إلى الحق والخير، بل استعملوها فيما يوصل إلى الأباطيل والشرور.
ثم أضاف- سبحانه- إلى هذه التسلية لرسوله ﷺ تسلية أخرى فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً... ومفعول المشيئة محذوف والتقدير:
ولو شاء ربك- يا محمد- إيمان أهل الأرض كلهم جميعا لآمنوا دون أن يتخلف منهم أحد، ولكنه- سبحانه- لم يشأ ذلك، لأنه مخالف للحكمة التي عليها أساس التكوين والتشريع، والإثابة والمعاقبة، فقد اقتضت حكمته- سبحانه- أن يخلق الكفر والإيمان، وأن يحذر من الكفر ويحض على الإيمان، ثم بعد ذلك من كفر فعليه تقع عقوبة كفره، ومن آمن فله ثواب إيمانه.
والهمزة في قوله- سبحانه- أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ للاستفهام الإنكارى، والفاء للتفريع.
والمراد بالناس: المصرين على كفرهم وعنادهم.
والمعنى: تلك هي مشيئتنا لو أردنا إنفاذها لنفذناها، ولكننا لم نشأ ذلك فهل أنت يا محمد في وسعك أن تكره الناس الذين لم يرد الله هدايتهم على الإيمان؟.
لا، ليس ذلك في وسعك ولا في وسع الخلق جميعا، بل الذي في وسعك هو التبليغ لما أمرناك بتبليغه.
وفي هذه الجملة الكريمة تسلية أخرى للرسول ﷺ ودفع لما يضيق به صدره، من إعراض بعض الناس عن دعوته.
وقوله- سبحانه- وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ... تأكيد لما اشتملت عليه الآية السابقة من قدرة نافذة لله- تعالى- أى: وما صح وما استقام لنفس من الأنفس، أن تؤمن في حال من الأحوال، إلا بإذن الله» أى: إلا بإرادته ومشيئته وتوفيقه وهدايته.
وقوله: وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ. معطوف على محذوف يدل عليه الكلام السابق دلالة الضد على الضد، والرجس: يطلق على الشيء القبيح المستقذر.
والمعنى: وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله، فيأذن لمن يشاء من تلك الأنفس بالإيمان، ويجعل الرجس أى الكفر وما يترتب عليه من عذاب على القوم الذين لم يستعملوا عقولهم فيما يهدى إلى الحق والخير، بل استعملوها فيما يوصل إلى الأباطيل والشرور.
136
ولما كان التأمل في ملكوت السموات والأرض، يعين على التفكير السليم، وعلى استعمال العقل فيما يهدى إلى الحق والخير، أمر الله- تعالى- الناس بالنظر والاعتبار فقال- سبحانه-: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ....
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لقومك: انظروا وتأملوا وتفكروا فيما اشتملت عليه السموات من شموس وأقمار، وكواكب ونجوم، وسحاب وأمطار...
وفيما اشتملت عليه الأرض من زروع وأنهار، ومن جبال وأشجار، ومن حيوانات ودواب متنوعة.
انظروا إلى كل ذلك وتفكروا، فإن هذا التفكر يهدى أصحاب العقول السليمة إلى أن لهذا الكون إلها واحدا عليما قديرا، هو وحده المستحق للعبادة والطاعة.
وقوله: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ توبيخ للغافلين عن النظر السليم الذي يؤدى إلى الهداية.
وما نافية، والمراد بالآيات: ما أشار إليه- سبحانه- قبل ذلك بقوله: ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والنذر: جمع نذير، وهو من يخبر غيره بأمر مخوف حتى يحذره.
والمعنى: انظروا وتفكروا واعتبروا بما في السموات والأرض من آيات بينات دالة على وحدانية الخالق وقدرته..
ومع ذلك فإن الآيات مهما اتضحت، والنذر مهما تعددت، لا تجدى شيئا، بالنسبة لمن تركوا الإيمان، وأصروا على الجحود والعناد.
ويجوز أن تكون ما للاستفهام الإنكارى، فيكون المعنى وأى شيء تجدى الآيات السماوية والأرضية، والنذر بحججها وبراهينها، أمام قوم جاحدين معاندين، قد استحبوا الكفر على الإيمان؟.
ثم ساق- سبحانه- للمكذبين برسوله ﷺ تهديدا يخلع قلوبهم فقال: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
قال القرطبي: «الأيام هنا بمعنى الوقائع، يقال فلان عالم بأيام العرب أى بوقائعهم قال قتادة: يعنى وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، والعرب تسمى العذاب أياما والنعم أياما، كقوله- تعالى- وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام» «١».
أى: قل- أيها الرسول الكريم- لقومك: انظروا وتأملوا وتفكروا فيما اشتملت عليه السموات من شموس وأقمار، وكواكب ونجوم، وسحاب وأمطار...
وفيما اشتملت عليه الأرض من زروع وأنهار، ومن جبال وأشجار، ومن حيوانات ودواب متنوعة.
انظروا إلى كل ذلك وتفكروا، فإن هذا التفكر يهدى أصحاب العقول السليمة إلى أن لهذا الكون إلها واحدا عليما قديرا، هو وحده المستحق للعبادة والطاعة.
وقوله: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ توبيخ للغافلين عن النظر السليم الذي يؤدى إلى الهداية.
وما نافية، والمراد بالآيات: ما أشار إليه- سبحانه- قبل ذلك بقوله: ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والنذر: جمع نذير، وهو من يخبر غيره بأمر مخوف حتى يحذره.
والمعنى: انظروا وتفكروا واعتبروا بما في السموات والأرض من آيات بينات دالة على وحدانية الخالق وقدرته..
ومع ذلك فإن الآيات مهما اتضحت، والنذر مهما تعددت، لا تجدى شيئا، بالنسبة لمن تركوا الإيمان، وأصروا على الجحود والعناد.
ويجوز أن تكون ما للاستفهام الإنكارى، فيكون المعنى وأى شيء تجدى الآيات السماوية والأرضية، والنذر بحججها وبراهينها، أمام قوم جاحدين معاندين، قد استحبوا الكفر على الإيمان؟.
ثم ساق- سبحانه- للمكذبين برسوله ﷺ تهديدا يخلع قلوبهم فقال: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ، قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
قال القرطبي: «الأيام هنا بمعنى الوقائع، يقال فلان عالم بأيام العرب أى بوقائعهم قال قتادة: يعنى وقائع الله في قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، والعرب تسمى العذاب أياما والنعم أياما، كقوله- تعالى- وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ، وكل ما مضى لك من خير أو شر فهو أيام» «١».
(١) تفسير القرطبي ج ٨ ص ٣٨٦.
137
والمعنى: إذا كان الأمر كما قصصنا عليك من إثابتنا للمؤمنين، وجعل الرجس على الذين لا يعقلون، فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لدعوتك، إلا العذاب الذي نزل بالمكذبين لدعوة الرسل من قبلك؟ فالاستفهام للتهكم والتقريع.
وقوله: قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أمر من الله- تعالى- لنبيه ﷺ بأن يستمر في تهديدهم ووعيدهم.
أى: قل- يا محمد- لهؤلاء الجاحدين للحق الذي جئت به: إذا فانتظروا العذاب الذي نزل بالسابقين من أمثالكم، إنى معكم من المنتظرين لوعد ربي لي، ولوعيده لكم.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة ببيان سنة من سننه التي لا تتخلف ولا تتبدل فقال: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا، كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ.
والجملة الكريمة عطف على محذوف، والتقدير: تلك سنتنا في خلقنا نهلك الأمم المكذبة ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا الذين أرسلناهم لإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وننجي- أيضا- الذين آمنوا برسلنا وصدقوهم وقوله كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ الكاف في كَذلِكَ بمعنى: مثل، وهي صفة لمصدر محذوف، واسم الإشارة يعود على الإنجاء الذي تكفل الله به للرسل السابقين ولمن آمن بهم ولفظ حَقًّا منصوب بفعل مقدر أى: حق ذلك علينا حقا أى: مثل ذلك الإنجاء الذي تكفلنا به لرسلنا ولمن آمن بهم، ننج المؤمنين بك- أيها الرسول الكريم-، ونعذب المصرين على تكذيبك، وهذا وعد أخذناه على ذاتنا فضلا منا وكرما.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا «١» وبذلك ترى الآيات الكريمة قد حضت الضالين على الاقتداء بقوم يونس- عليه السلام- لكي ينجوا من العذاب، وذكرتهم بنفاذ إرادة الله وقدرته، ودعتهم إلى التفكر في ملكوت السموات والأرض، وأخبرتهم بأن سنة الله ماضية في إنجاء المؤمنين، وفي إهلاك المكذبين.
وبعد هذا الحديث المتنوع الذي زخرت به سورة يونس- عليه السلام- عن وحدانية الله وقدرته، وعن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن النفس الإنسانية وأحوالها، وعن يوم القيامة وأهوالها...
بعد كل ذلك وجهت في ختامها نداءين إلى الناس أمرتهم فيهما بإخلاص العبادة لله- تعالى- وبالاعتماد عليه وحده، وبتزكية نفوسهم...
وقوله: قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ أمر من الله- تعالى- لنبيه ﷺ بأن يستمر في تهديدهم ووعيدهم.
أى: قل- يا محمد- لهؤلاء الجاحدين للحق الذي جئت به: إذا فانتظروا العذاب الذي نزل بالسابقين من أمثالكم، إنى معكم من المنتظرين لوعد ربي لي، ولوعيده لكم.
ثم ختم- سبحانه- هذه الآيات الكريمة ببيان سنة من سننه التي لا تتخلف ولا تتبدل فقال: ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا، كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ.
والجملة الكريمة عطف على محذوف، والتقدير: تلك سنتنا في خلقنا نهلك الأمم المكذبة ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا الذين أرسلناهم لإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، وننجي- أيضا- الذين آمنوا برسلنا وصدقوهم وقوله كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ الكاف في كَذلِكَ بمعنى: مثل، وهي صفة لمصدر محذوف، واسم الإشارة يعود على الإنجاء الذي تكفل الله به للرسل السابقين ولمن آمن بهم ولفظ حَقًّا منصوب بفعل مقدر أى: حق ذلك علينا حقا أى: مثل ذلك الإنجاء الذي تكفلنا به لرسلنا ولمن آمن بهم، ننج المؤمنين بك- أيها الرسول الكريم-، ونعذب المصرين على تكذيبك، وهذا وعد أخذناه على ذاتنا فضلا منا وكرما.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا «١» وبذلك ترى الآيات الكريمة قد حضت الضالين على الاقتداء بقوم يونس- عليه السلام- لكي ينجوا من العذاب، وذكرتهم بنفاذ إرادة الله وقدرته، ودعتهم إلى التفكر في ملكوت السموات والأرض، وأخبرتهم بأن سنة الله ماضية في إنجاء المؤمنين، وفي إهلاك المكذبين.
وبعد هذا الحديث المتنوع الذي زخرت به سورة يونس- عليه السلام- عن وحدانية الله وقدرته، وعن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وعن النفس الإنسانية وأحوالها، وعن يوم القيامة وأهوالها...
بعد كل ذلك وجهت في ختامها نداءين إلى الناس أمرتهم فيهما بإخلاص العبادة لله- تعالى- وبالاعتماد عليه وحده، وبتزكية نفوسهم...
(١) سورة الإسراء الآية ٧٧.
138
ﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰ
ﱧ
ﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ
ﱨ
ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌ
ﱩ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ
ﱪ
ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅ
ﱫ
ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ
ﱬ
استمع إلى السورة الكريمة في ختامها وهي تقول:
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٩]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨)
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
والمعنى: قُلْ أيها الرسول الكريم، لجميع من ارتاب في دينك.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الذي جئتكم به من عند الله- تعالى-، وترغبون في تحويلي عنه، فاعلموا أنى برىء من شككم ومن أديانكم التي أنتم عليها.
ومادام الأمر كذلك، فأنا «لا أعبد الذين تعبدون من دون الله» من آلهة باطلة في حال من الأحوال.
وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ- تعالى- الذي خلقكم والَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ عند انقضاء آجالكم، ويعاقبكم على كفركم.
وقوله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تأكيد لإخلاص عبادته ﷺ لله وحده.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٩]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨)
وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
والمعنى: قُلْ أيها الرسول الكريم، لجميع من ارتاب في دينك.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي الذي جئتكم به من عند الله- تعالى-، وترغبون في تحويلي عنه، فاعلموا أنى برىء من شككم ومن أديانكم التي أنتم عليها.
ومادام الأمر كذلك، فأنا «لا أعبد الذين تعبدون من دون الله» من آلهة باطلة في حال من الأحوال.
وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ- تعالى- الذي خلقكم والَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ عند انقضاء آجالكم، ويعاقبكم على كفركم.
وقوله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ تأكيد لإخلاص عبادته ﷺ لله وحده.
139
أى: وأمرت من قبل خالقي- عز وجل- بأن أكون من المؤمنين بأنه لا معبود بحق سواه.
وأوثر الخطاب باسم الجنس «الناس» مع تصديره بحرف التنبيه، تعميما للخطاب، وإظهارا لكمال العناية بشأن المبلغ إليهم.
وعبر عن شكهم «بإن» المفيدة لعدم اليقين، مع أنهم قد شكوا فعلا في صحة هذا الدين بدليل عدم إيمانهم به، تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه، وتنزيها لساحة هذا الدين عن أن يتحقق الشك فيه من أى أحد، وتوبيخا لهم على وضعهم الأمور في غير مواضعها.
وقدم- سبحانه- ترك عبادة الغير على عبادته- عز وجل-، إيذانا بمخالفتهم من أول الأمر، ولتقديم التخلية على التحلية.
وتخصيص التوفي بالذكر، للتهديد والترهيب، أى: ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد، ولأنه أشد الأحوال مهابة في القلوب.
وقوله: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً... معطوف على قوله: أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وحَنِيفاً حال من الدين أو من الوجه، والحنيف: هو المائل عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام.
وخص الوجه بالذكر، لأنه أشرف الأعضاء.
والمعنى: أن الله- سبحانه- أمره بالاستقامة في الدين. والثبات عليه، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال.
قال الآلوسى: «إقامة الوجه للدين، كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته- تعالى-، والإعراض عما سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء، يقيم وجهه في مقابلته، بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا، إذ لو التفت بطلت المقابلة، فلذا كنى به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين، فالمراد بالوجه الذات.
أى: اصرف ذاتك وكليتك للدين..» «١».
وقوله- تعالى-: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تأكيد للأمر بإخلاص العبادة لله- تعالى- وحده. وهو معطوف على أَقِمْ.
وأوثر الخطاب باسم الجنس «الناس» مع تصديره بحرف التنبيه، تعميما للخطاب، وإظهارا لكمال العناية بشأن المبلغ إليهم.
وعبر عن شكهم «بإن» المفيدة لعدم اليقين، مع أنهم قد شكوا فعلا في صحة هذا الدين بدليل عدم إيمانهم به، تنزيلا للمحقق منزلة المشكوك فيه، وتنزيها لساحة هذا الدين عن أن يتحقق الشك فيه من أى أحد، وتوبيخا لهم على وضعهم الأمور في غير مواضعها.
وقدم- سبحانه- ترك عبادة الغير على عبادته- عز وجل-، إيذانا بمخالفتهم من أول الأمر، ولتقديم التخلية على التحلية.
وتخصيص التوفي بالذكر، للتهديد والترهيب، أى: ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد، ولأنه أشد الأحوال مهابة في القلوب.
وقوله: وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً... معطوف على قوله: أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وحَنِيفاً حال من الدين أو من الوجه، والحنيف: هو المائل عن كل دين من الأديان إلى دين الإسلام.
وخص الوجه بالذكر، لأنه أشرف الأعضاء.
والمعنى: أن الله- سبحانه- أمره بالاستقامة في الدين. والثبات عليه، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال.
قال الآلوسى: «إقامة الوجه للدين، كناية عن توجيه النفس بالكلية إلى عبادته- تعالى-، والإعراض عما سواه، فإن من أراد أن ينظر إلى شيء نظر استقصاء، يقيم وجهه في مقابلته، بحيث لا يلتفت يمينا ولا شمالا، إذ لو التفت بطلت المقابلة، فلذا كنى به عن صرف العمل بالكلية إلى الدين، فالمراد بالوجه الذات.
أى: اصرف ذاتك وكليتك للدين..» «١».
وقوله- تعالى-: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ تأكيد للأمر بإخلاص العبادة لله- تعالى- وحده. وهو معطوف على أَقِمْ.
(١) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٧٨.
140
أى: استقم على ما أنت عليه من إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده واثبت على ذلك، ولا تكونن من الذين أشركوا مع الله آلهة أخرى.
ثم أضاف- سبحانه- إلى ذلك تأكيدا آخر فقال: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ.
أى: ولا تدع من دون الله في أى وقت من الأوقات ما لا يَنْفَعُكَ إذا دعوته لدفع مكروه أو جلب محبوب وَلا يَضُرُّكَ إذا تركته وأهملته.
فَإِنْ فَعَلْتَ شيئا مما نهيناك عنه فَإِنَّكَ إِذاً تكون مِنَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بإيرادها مورد المهالك، لإشراكها مع الله- تعالى- آلهة أخرى.
ثم بين- سبحانه- أنه وحده هو الضار والنافع فقال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
«المس» : أعم من اللمس في الاستعمال، يقال: مسه السوء والكبر والعذاب والتعب، أى: أصابه ذلك ونزل به.
والضر: اسم للألم والحزن وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما، كما أن النفع اسم للذة والسرور وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما.
والخير: اسم لكل ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبلة.
والمعنى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ كمرض وتعب وحزن، فلا كاشف له، أى: لهذا الضر إِلَّا هُوَ- سبحانه-.
وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ كمنحة وغنى وقوة فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ أى: فلا يستطيع أحد أن يرد هذا الخير عنك.
وعبر- سبحانه- بالفضل مكان الخير للإرشاد إلى تفضله على عباده بأكثر مما يستحقون من خيرات.
وقوله يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أى: يصيب بذلك الفضل والخير مَنْ يَشاءُ إصابته مِنْ عِبادِهِ.
وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أى: وهو الكثير المغفرة والرحمة لمن تاب إليه، وتوكل عليه، وأخلص له العبادة.
وفي معنى هذه الآية جاء قوله- تعالى-: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها،
ثم أضاف- سبحانه- إلى ذلك تأكيدا آخر فقال: وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ.
أى: ولا تدع من دون الله في أى وقت من الأوقات ما لا يَنْفَعُكَ إذا دعوته لدفع مكروه أو جلب محبوب وَلا يَضُرُّكَ إذا تركته وأهملته.
فَإِنْ فَعَلْتَ شيئا مما نهيناك عنه فَإِنَّكَ إِذاً تكون مِنَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بإيرادها مورد المهالك، لإشراكها مع الله- تعالى- آلهة أخرى.
ثم بين- سبحانه- أنه وحده هو الضار والنافع فقال: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ، وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
«المس» : أعم من اللمس في الاستعمال، يقال: مسه السوء والكبر والعذاب والتعب، أى: أصابه ذلك ونزل به.
والضر: اسم للألم والحزن وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما، كما أن النفع اسم للذة والسرور وما يفضى إليهما أو إلى أحدهما.
والخير: اسم لكل ما كان فيه منفعة أو مصلحة حاضرة أو مستقبلة.
والمعنى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ كمرض وتعب وحزن، فلا كاشف له، أى: لهذا الضر إِلَّا هُوَ- سبحانه-.
وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ كمنحة وغنى وقوة فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ أى: فلا يستطيع أحد أن يرد هذا الخير عنك.
وعبر- سبحانه- بالفضل مكان الخير للإرشاد إلى تفضله على عباده بأكثر مما يستحقون من خيرات.
وقوله يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أى: يصيب بذلك الفضل والخير مَنْ يَشاءُ إصابته مِنْ عِبادِهِ.
وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أى: وهو الكثير المغفرة والرحمة لمن تاب إليه، وتوكل عليه، وأخلص له العبادة.
وفي معنى هذه الآية جاء قوله- تعالى-: ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها،
141
وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ
«١».
وقال ابن كثير: «وروى ابن عساكر عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوه أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم» «٢».
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بنداء آخر- أمر رسوله ﷺ أن يوجهه للناس فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ...
أى: قل- أيها الرسول الكريم- مخاطبا جميع الناس، سواء منهم من سمع نداءك أم من سيبلغه هذا النداء من بعدك قل لهم جميعا: قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ المتمثل في كتاب الله وفي سنتي مِنْ رَبِّكُمْ وليس من أحد سواه.
فَمَنِ اهْتَدى إلى هذا الحق، وعمل بمقتضاه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أى: فإنما تكون منفعة هدايته لنفسه لا لغيره.
وَمَنْ ضَلَّ عن هذا الحق وأعرض عنه فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أى: فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه.
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أى بحفيظ يحفظ أموركم، وإنما أنا بشير ونذير والله وحده هو الذي يتولى محاسبتكم على أعمالكم.
ثم أمره- سبحانه- باتباع ما أوحاه إليه فقال: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
أى: وَاتَّبِعْ- أيها الرسول الكريم- في جميع شئونك ما يُوحى إِلَيْكَ من ربك من تشريعات حكيمة، وآداب قويمة..
وَاصْبِرْ على مشاق الدعوة وتكاليفها..
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بينك وبين قومك، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. لأنه هو العليم بالظواهر والبواطن، وهو الذي لا معقب لحكمه.
وبعد: فهذه هي سورة يونس- عليه السلام- رأينا ونحن نفسرها كيف أقامت الأدلة على وحدانية الله- عز وجل- وعلى كمال قدرته، وشمول علمه، ونفاذ إرادته، وسعة رحمته، وسمو عزته..
«١».
وقال ابن كثير: «وروى ابن عساكر عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«اطلبوا الخير دهركم كله، وتعرضوا لنفحات ربكم، فإن لله نفحات من رحمته، يصيب بها من يشاء من عباده، واسألوه أن يستر عوراتكم، ويؤمن روعاتكم» «٢».
ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بنداء آخر- أمر رسوله ﷺ أن يوجهه للناس فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ...
أى: قل- أيها الرسول الكريم- مخاطبا جميع الناس، سواء منهم من سمع نداءك أم من سيبلغه هذا النداء من بعدك قل لهم جميعا: قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ المتمثل في كتاب الله وفي سنتي مِنْ رَبِّكُمْ وليس من أحد سواه.
فَمَنِ اهْتَدى إلى هذا الحق، وعمل بمقتضاه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أى: فإنما تكون منفعة هدايته لنفسه لا لغيره.
وَمَنْ ضَلَّ عن هذا الحق وأعرض عنه فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أى: فإنما يكون وبال ضلاله على نفسه.
وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ أى بحفيظ يحفظ أموركم، وإنما أنا بشير ونذير والله وحده هو الذي يتولى محاسبتكم على أعمالكم.
ثم أمره- سبحانه- باتباع ما أوحاه إليه فقال: وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ.
أى: وَاتَّبِعْ- أيها الرسول الكريم- في جميع شئونك ما يُوحى إِلَيْكَ من ربك من تشريعات حكيمة، وآداب قويمة..
وَاصْبِرْ على مشاق الدعوة وتكاليفها..
حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بينك وبين قومك، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ. لأنه هو العليم بالظواهر والبواطن، وهو الذي لا معقب لحكمه.
وبعد: فهذه هي سورة يونس- عليه السلام- رأينا ونحن نفسرها كيف أقامت الأدلة على وحدانية الله- عز وجل- وعلى كمال قدرته، وشمول علمه، ونفاذ إرادته، وسعة رحمته، وسمو عزته..
(١) سورة فاطر الآية ٢.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٣٤.
(٢) تفسير ابن كثير ج ٤ ص ٢٣٤.
142
وكيف أنها أقامت الأدلة- أيضا- على صدق الرسول ﷺ فيما يبلغه عن ربه، وعلى أن هذا القرآن من عنده- سبحانه.
وكيف أنها ساقت الأدلة على أن يوم القيامة حق، وعلى أحوال الناس فيه، مما يرقق القلوب القاسية، ويبعث في النفوس الخشية وحسن الاستعداد لهذا اليوم الهائل الشديد، وكيف أنها ساقت جانبا من أحوال بعض الأنبياء مع أممهم، وقررت سنة من سنن الله التي لا تتخلف، وهي نجاة رسل الله والمؤمنين بهم، وجعل الرجس على الذين لا يعقلون.
وكيف أنها بينت أحوال الناس في السراء والضراء... بيانا صادقا قويا مؤثرا، من شأنه أن يحملهم على التحلي بالأخلاق الكريمة والتخلي عن الأخلاق الذميمة.
نسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
المدينة المنورة السبت ٧ من المحرم سنة ١٤٠١ الموافق ١٥/ ١١/ ١٩٨٠ م
وكيف أنها ساقت الأدلة على أن يوم القيامة حق، وعلى أحوال الناس فيه، مما يرقق القلوب القاسية، ويبعث في النفوس الخشية وحسن الاستعداد لهذا اليوم الهائل الشديد، وكيف أنها ساقت جانبا من أحوال بعض الأنبياء مع أممهم، وقررت سنة من سنن الله التي لا تتخلف، وهي نجاة رسل الله والمؤمنين بهم، وجعل الرجس على الذين لا يعقلون.
وكيف أنها بينت أحوال الناس في السراء والضراء... بيانا صادقا قويا مؤثرا، من شأنه أن يحملهم على التحلي بالأخلاق الكريمة والتخلي عن الأخلاق الذميمة.
نسأل الله- تعالى- أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، وأنس نفوسنا.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه أجمعين.
المدينة المنورة السبت ٧ من المحرم سنة ١٤٠١ الموافق ١٥/ ١١/ ١٩٨٠ م
143
تفسير سورة هود عليه السلام
145
تعريف بسورة هود- عليه السلام-
١- سورة هود- عليه السلام- هي السورة الحادية عشرة في ترتيب المصحف فقد سبقتها في هذا الترتيب سورة الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس.
أما ترتيبها في النزول، فهي السورة الثانية والخمسون، وكان نزولها بعد سورة يونس.
٢- وعدد آياتها: ثلاث وعشرون ومائة آية.
٣- وقد سماها النبي ﷺ بسورة هود، فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال:
قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت! قال: «شيبتني» «هود» و «الواقعة»، و «المرسلات» و «عم يتساءلون» و «إذا الشمس كورت».
وفي رواية: شيبتني هود وأخواتها.
قال القرطبي بعد أن ساق بعض الأحاديث في فضل هذه السورة. ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس. وتشيب منه الرءوس» «١».
٤- متى نزلت سورة هود؟
جمهور العلماء على أن سورة هود جميعها مكية، وقيل هي مكية إلا ثلاث آيات منها: وهي قوله- تعالى- فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ... الآية ١٢.
وقوله- تعالى- أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ الآية ١٧.
وقوله- تعالى-: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ الآية ١١٤.
والذي نرجحه أن السورة كلها مكية، وسنرى عند تفسيرنا لهذه الآيات التي قيل بأنها مدنية، ما يشهد لصحة ما ذهبنا إليه.
كذلك نرجح أن هذه السورة الكريمة، كان نزولها في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج، وذلك لأن نزولها- كما سبق أن أشرنا- كان بعد سورة يونس، وسورة يونس كان نزولها بعد سورة الإسراء، التي افتتحت بالحديث عنه.
١- سورة هود- عليه السلام- هي السورة الحادية عشرة في ترتيب المصحف فقد سبقتها في هذا الترتيب سورة الفاتحة، والبقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس.
أما ترتيبها في النزول، فهي السورة الثانية والخمسون، وكان نزولها بعد سورة يونس.
٢- وعدد آياتها: ثلاث وعشرون ومائة آية.
٣- وقد سماها النبي ﷺ بسورة هود، فقد روى الترمذي عن ابن عباس قال:
قال أبو بكر: يا رسول الله قد شبت! قال: «شيبتني» «هود» و «الواقعة»، و «المرسلات» و «عم يتساءلون» و «إذا الشمس كورت».
وفي رواية: شيبتني هود وأخواتها.
قال القرطبي بعد أن ساق بعض الأحاديث في فضل هذه السورة. ففي تلاوة هذه السور ما يكشف لقلوب العارفين سلطانه وبطشه فتذهل منه النفوس. وتشيب منه الرءوس» «١».
٤- متى نزلت سورة هود؟
جمهور العلماء على أن سورة هود جميعها مكية، وقيل هي مكية إلا ثلاث آيات منها: وهي قوله- تعالى- فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ، وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ... الآية ١٢.
وقوله- تعالى- أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ الآية ١٧.
وقوله- تعالى-: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ الآية ١١٤.
والذي نرجحه أن السورة كلها مكية، وسنرى عند تفسيرنا لهذه الآيات التي قيل بأنها مدنية، ما يشهد لصحة ما ذهبنا إليه.
كذلك نرجح أن هذه السورة الكريمة، كان نزولها في الفترة التي أعقبت حادث الإسراء والمعراج، وذلك لأن نزولها- كما سبق أن أشرنا- كان بعد سورة يونس، وسورة يونس كان نزولها بعد سورة الإسراء، التي افتتحت بالحديث عنه.
(١) تفسير القرطبي ج ٩ ص ٢ طبعة دار الكاتب العربي بالقاهرة.
147
وهذه الفترة التي كانت قبيل حادث الإسراء والمعراج والتي أعقبته، تعتبر من أشق الفترات وأحرجها وأصعبها في تاريخ الدعوة الإسلامية.
ففي هذه الفترة مات أبو طالب عم النبي ﷺ والمدافع عنه، وماتت كذلك السيدة خديجة- رضى الله عنها- التي كانت نعم المواسى له عما يصيبه من أذى... ففقد الرسول ﷺ بموتهما نصيرين عزيزين، كانت لهما مكانتهما العظيمة في نفسه، وتعرض ﷺ في هذه الفترة لألوان من الأذى والاضطهاد فاقت كل ما سبقها وبلغت الحرب المعلنة من المشركين عليه وعلى دعوته، أقسى وأقصى مداها..
قال ابن إسحاق خلال حديثه عن هذه الفترة: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله ﷺ المصائب بهلك خديجة- وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها- ويهلك عمه أبى طالب- وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله ﷺ من الأذى، ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبى طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا.
ثم قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير قال لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله ﷺ ذلك التراب دخل رسول الله ﷺ بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب، وهي تبكى، ورسول الله ﷺ يقول لها: «لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع أباك»..
قال: ويقول بين ذلك: «ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» «١».
وسنرى عند استعراضنا للسورة الكريمة، أنها صورت هذه الفترة أكمل تصوير.
٥- مناسبتها لسورة يونس- عليه السلام-:
قال الآلوسى- رحمه الله-: ووجه اتصالها بسورة يونس، أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح- عليه السلام- مختصرة جدا ومجملة، فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور.. ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك، فإن قوله- تعالى- هنا الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ... نظير قوله- سبحانه- هناك الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ... بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط- أيضا-، حيث ختمت بنفي الشرك، واتباع الوحى، وافتتحت هذه ببيان الوحى والتحذير من الشرك «٢».
ففي هذه الفترة مات أبو طالب عم النبي ﷺ والمدافع عنه، وماتت كذلك السيدة خديجة- رضى الله عنها- التي كانت نعم المواسى له عما يصيبه من أذى... ففقد الرسول ﷺ بموتهما نصيرين عزيزين، كانت لهما مكانتهما العظيمة في نفسه، وتعرض ﷺ في هذه الفترة لألوان من الأذى والاضطهاد فاقت كل ما سبقها وبلغت الحرب المعلنة من المشركين عليه وعلى دعوته، أقسى وأقصى مداها..
قال ابن إسحاق خلال حديثه عن هذه الفترة: ثم إن خديجة بنت خويلد وأبا طالب هلكا في عام واحد، فتتابعت على رسول الله ﷺ المصائب بهلك خديجة- وكانت له وزير صدق على الإسلام يشكو إليها- ويهلك عمه أبى طالب- وكان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه، وذلك قبل مهاجره إلى المدينة بثلاث سنين.
فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله ﷺ من الأذى، ما لم تكن تطمع فيه في حياة أبى طالب، حتى اعترضه سفيه من سفهاء قريش، فنثر على رأسه ترابا.
ثم قال ابن إسحاق: فحدثني هشام بن عروة، عن أبيه عروة بن الزبير قال لما نثر ذلك السفيه على رأس رسول الله ﷺ ذلك التراب دخل رسول الله ﷺ بيته، والتراب على رأسه، فقامت إليه إحدى بناته، فجعلت تغسل عنه التراب، وهي تبكى، ورسول الله ﷺ يقول لها: «لا تبكى يا بنية، فإن الله مانع أباك»..
قال: ويقول بين ذلك: «ما نالت منى قريش شيئا أكرهه حتى مات أبو طالب» «١».
وسنرى عند استعراضنا للسورة الكريمة، أنها صورت هذه الفترة أكمل تصوير.
٥- مناسبتها لسورة يونس- عليه السلام-:
قال الآلوسى- رحمه الله-: ووجه اتصالها بسورة يونس، أنه ذكر في سورة يونس قصة نوح- عليه السلام- مختصرة جدا ومجملة، فشرحت في هذه السورة وبسطت فيها ما لم تبسط في غيرها من السور.. ثم إن مطلعها شديد الارتباط بمطلع تلك، فإن قوله- تعالى- هنا الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ... نظير قوله- سبحانه- هناك الر. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ... بل بين مطلع هذه وختام تلك شدة ارتباط- أيضا-، حيث ختمت بنفي الشرك، واتباع الوحى، وافتتحت هذه ببيان الوحى والتحذير من الشرك «٢».
(١) السيرة النبوية لابن هشام ج ٢ ص ١٤٥.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٧٨ الطبعة المنيرية.
(٢) تفسير الآلوسى ج ١١ ص ١٧٨ الطبعة المنيرية.
148
٦- عرض إجمالى للسورة الكريمة:
عند ما نطالع سورة هود بتدبر وتأمل، نراها في الربع الأول «١» منها- قد افتتحت بالتنويه بشأن القرآن الكريم. وبدعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، وإلى التوجه إليه بالاستغفار والتوبة الصادقة، حتى ينالوا السعادة في دنياهم وآخرتهم.
قال- تعالى-: الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثم وضحت السورة جانبا من مسالك الكافرين، تلك المسالك التي تدل على جهالاتهم بعلم الله التام، وبقدرته النافذة، وفصلت مظاهر هذه القدرة، وشمول هذا العلم..
قال- تعالى-: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ، يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ثم بينت أحوال الإنسان في حالة منحه النعمة، وفي حالة سلبها عنه، وساقت للرسول ﷺ من الآيات ما يسليه عما أصابه من كفار مكة، وتحدتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن الكريم، وأنذرتهم بسوء عاقبة المعرضين عن دعوة الله، الصادين عن سبيله، الكافرين بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب، وبشرت المؤمنين بحسن العاقبة، وضربت المثل المناسب لكل من فريقى الكافرين والمؤمنين.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول:
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ....
إلى أن تقول بعد حديث مفصل عن الكافرين وسوء عاقبتهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا، أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع «٢» الثاني من سورة هود، وجدناها تسوق لنا بأسلوب مفصل،
عند ما نطالع سورة هود بتدبر وتأمل، نراها في الربع الأول «١» منها- قد افتتحت بالتنويه بشأن القرآن الكريم. وبدعوة الناس إلى إخلاص العبادة لله- تعالى- وحده، وإلى التوجه إليه بالاستغفار والتوبة الصادقة، حتى ينالوا السعادة في دنياهم وآخرتهم.
قال- تعالى-: الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ. وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ، وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.
ثم وضحت السورة جانبا من مسالك الكافرين، تلك المسالك التي تدل على جهالاتهم بعلم الله التام، وبقدرته النافذة، وفصلت مظاهر هذه القدرة، وشمول هذا العلم..
قال- تعالى-: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ، أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ، يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ.
ثم بينت أحوال الإنسان في حالة منحه النعمة، وفي حالة سلبها عنه، وساقت للرسول ﷺ من الآيات ما يسليه عما أصابه من كفار مكة، وتحدتهم أن يأتوا بعشر سور من مثل القرآن الكريم، وأنذرتهم بسوء عاقبة المعرضين عن دعوة الله، الصادين عن سبيله، الكافرين بالآخرة وما فيها من ثواب وعقاب، وبشرت المؤمنين بحسن العاقبة، وضربت المثل المناسب لكل من فريقى الكافرين والمؤمنين.
استمع إلى السورة الكريمة وهي تصور كل ذلك بأسلوبها البليغ المؤثر فتقول:
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ....
إلى أن تقول بعد حديث مفصل عن الكافرين وسوء عاقبتهم: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ، أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا، أَفَلا تَذَكَّرُونَ.
فإذا ما وصلنا إلى الربع «٢» الثاني من سورة هود، وجدناها تسوق لنا بأسلوب مفصل،
(١) الآيات من ١- ٢٤.
(٢) الآيات من ٢٥- ٤٠.
(٢) الآيات من ٢٥- ٤٠.
149
قصة نوح- عليه السلام- مع قومه، فتحكى أمره لهم بعبادة الله وحده، كما تحكى الرد القبيح الذي رد به عليه زعماؤهم، وكيف أنه- عليه السلام- لم يقابل سفاهتهم بمثلها، بل خاطبهم بلفظ «يا قوم» الدال على أنه واحد منهم، يسره ما يسرهم، ويؤلمه ما يؤلمهم، ومع هذا فقد لجوا في طغيانهم وقالوا له- كما حكى القرآن عنهم- يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا، فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ....
فكان رده عليهم إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ....
وقد أتاهم الله- تعالى- بالعذاب الذي استعجلوه فأغرقهم بالطوفان الذي غشيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، والذي قطع دابرهم.
ثم نراها بعد ذلك في الربع «١» الثالث، تقص علينا مشهدا مؤثرا، مشهد نوح- عليه السلام- وهو ينادى ابنه الذي استحب الكفر على الإيمان فيقول له بشفقة وحرص:
يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ.
ولكن الابن العاق لا يستمع إلى نصيحة أبيه العطوف بل يقول له: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ.
ويجيبه الأب بحزن وحسم لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.
ويتضرع الأب الحزين إلى ربه فيقول: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ.
ويأتيه الجواب من الله- تعالى-: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
ويلجأ نوح- عليه السلام- إلى خالقه، مستعيذا به من غضبه فيقول: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
فيقبل الله- تعالى- ضراعته فيقول: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ، وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ، وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ.
ثم يختم الله- تعالى- قصة نوح، بتسلية النبي- صلى الله عليه وسلم-، وبما يدل على أن هذا القرآن من عند الله، فيقول: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
فكان رده عليهم إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ....
وقد أتاهم الله- تعالى- بالعذاب الذي استعجلوه فأغرقهم بالطوفان الذي غشيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، والذي قطع دابرهم.
ثم نراها بعد ذلك في الربع «١» الثالث، تقص علينا مشهدا مؤثرا، مشهد نوح- عليه السلام- وهو ينادى ابنه الذي استحب الكفر على الإيمان فيقول له بشفقة وحرص:
يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ.
ولكن الابن العاق لا يستمع إلى نصيحة أبيه العطوف بل يقول له: سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ.
ويجيبه الأب بحزن وحسم لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ، وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ.
ويتضرع الأب الحزين إلى ربه فيقول: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ.
ويأتيه الجواب من الله- تعالى-: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ، فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ، إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ.
ويلجأ نوح- عليه السلام- إلى خالقه، مستعيذا به من غضبه فيقول: رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ، وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ.
فيقبل الله- تعالى- ضراعته فيقول: يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ، وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ، وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ.
ثم يختم الله- تعالى- قصة نوح، بتسلية النبي- صلى الله عليه وسلم-، وبما يدل على أن هذا القرآن من عند الله، فيقول: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
(١) الآيات من ٤١- ٦٠.
150
ثم تسوق السورة بعد ذلك قصة هود- عليه السلام- مع قومه، فتحكى دعوته لهم إلى عبادة الله- تعالى-، ومصارحته إياهم بأنه لا يريد منهم أجرا على دعوته وإرشادهم إلى ما يزيدهم غنى على غناهم وقوة على قوتهم، ولكنهم قابلوا تلك النصائح الغالية بالتكذيب والسفاهة، فقالوا له- كما حكت السورة عنهم- يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ، وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ، وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ.....
فيرد عليهم هود بقوله: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها....
ثم كانت النتيجة بعد هذه المحاورات والمجادلات أن نجى الله هودا، والذين آمنوا معه، أما الكافرون بدعوته، فقد نزل بهم العذاب الغليظ، الذي تركهم صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية...
وفي الربع «١» الرابع منها تسوق لنا السورة الكريمة، ما دار بين صالح وقومه، حيث أمرهم بعبادة الله، وذكرهم بنعمه عليهم، وحذرهم من الاعتداء على الناقة التي هي لهم آية.. ولكنهم استخفوا بتذكيره وبتحذيره فكانت النتيجة إهلاكهم...
قال- تعالى- فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ. وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ.
ثم قصت علينا السورة الكريمة، ما فعله إبراهيم- عليه السلام- عند ما جاءه رسل الله بالبشرى، وكيف أنهم قالوا له عند ما أنكرهم وأوجس منهم خيفة: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ....
ثم وضحت حال لوط- عليه السلام- عند ما جاءه هؤلاء الرسل وحكت ما دار بينه وبين قومه الذين جاءوه يهرعون إليه عند ما رأوا الرسل، فقال لهم: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي، أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ.....
فيقولون له في صفاقة وانحراف عن الفطرة السليمة: لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ.
وأسقط في يد لوط- عليه السلام-، وأحس بضعفه أمام هؤلاء المنحرفين المندفعين إلى
فيرد عليهم هود بقوله: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ، وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ. مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ. إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها....
ثم كانت النتيجة بعد هذه المحاورات والمجادلات أن نجى الله هودا، والذين آمنوا معه، أما الكافرون بدعوته، فقد نزل بهم العذاب الغليظ، الذي تركهم صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية...
وفي الربع «١» الرابع منها تسوق لنا السورة الكريمة، ما دار بين صالح وقومه، حيث أمرهم بعبادة الله، وذكرهم بنعمه عليهم، وحذرهم من الاعتداء على الناقة التي هي لهم آية.. ولكنهم استخفوا بتذكيره وبتحذيره فكانت النتيجة إهلاكهم...
قال- تعالى- فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ. وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ.
ثم قصت علينا السورة الكريمة، ما فعله إبراهيم- عليه السلام- عند ما جاءه رسل الله بالبشرى، وكيف أنهم قالوا له عند ما أنكرهم وأوجس منهم خيفة: لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ....
ثم وضحت حال لوط- عليه السلام- عند ما جاءه هؤلاء الرسل وحكت ما دار بينه وبين قومه الذين جاءوه يهرعون إليه عند ما رأوا الرسل، فقال لهم: يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي، أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ.....
فيقولون له في صفاقة وانحراف عن الفطرة السليمة: لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ، وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ.
وأسقط في يد لوط- عليه السلام-، وأحس بضعفه أمام هؤلاء المنحرفين المندفعين إلى
(١) الآيات من ٦٢- ٨٣.
151
ارتكاب الفاحشة، اندفاع المجنون إلى حتفه، فقال بأسى وحزن: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ.
وهنا كشف له الرسل عن طبيعتهم، وأخبروه بمهمتهم وطلبوا منه أن يغادر هو ومن آمن معه مكان إقامتهم، فإن العذاب نازل بهؤلاء المجرمين بعد وقت قصير.
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ، إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
ثم تتابع السورة الكريمة في الربع الخامس «١»، حديثها عن جانب من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم، فتحدثنا عن قصة شعيب- عليه السلام- مع قومه، وكيف أنه قال لهم مقالة كل رسول لقومه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.
ثم نهاهم بأسلوب رصين حكيم، عن ارتكاب الفواحش التي كانت منتشرة فيهم، وهي إنقاص الكيل والميزان، وبخس الناس أشياءهم...
ولكنهم- كعادة السفهاء الطغاة- قابلوا نصائحه بالتهكم والاستخفاف والوعيد...
فكانت النتيجة أن حل بهم عذاب الله الذي أهلكهم، كما أهلك أمثالهم.
قال- تعالى- وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ.
ثم تسوق السورة بعد ذلك بإيجاز، جانبا من قصة موسى مع فرعون وملئه، الذين اتبعوا أمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد.
ثم تعقب على كل تلك القصص السابقة، بتعقيب يدل على أن هذا القرآن من عند الله، وأنه- سبحانه- لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون... قال- تعالى-:
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ....
أما في الربع السادس «٢» والأخير منها، فنراها تبين بأسلوب قوى منذر، أن الناس سيأتون
وهنا كشف له الرسل عن طبيعتهم، وأخبروه بمهمتهم وطلبوا منه أن يغادر هو ومن آمن معه مكان إقامتهم، فإن العذاب نازل بهؤلاء المجرمين بعد وقت قصير.
قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ، لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ، إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ، إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ، أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ. فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ، مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ.
ثم تتابع السورة الكريمة في الربع الخامس «١»، حديثها عن جانب من قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم، فتحدثنا عن قصة شعيب- عليه السلام- مع قومه، وكيف أنه قال لهم مقالة كل رسول لقومه يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ.
ثم نهاهم بأسلوب رصين حكيم، عن ارتكاب الفواحش التي كانت منتشرة فيهم، وهي إنقاص الكيل والميزان، وبخس الناس أشياءهم...
ولكنهم- كعادة السفهاء الطغاة- قابلوا نصائحه بالتهكم والاستخفاف والوعيد...
فكانت النتيجة أن حل بهم عذاب الله الذي أهلكهم، كما أهلك أمثالهم.
قال- تعالى- وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا، وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ. كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها، أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ.
ثم تسوق السورة بعد ذلك بإيجاز، جانبا من قصة موسى مع فرعون وملئه، الذين اتبعوا أمر فرعون، وما أمر فرعون برشيد.
ثم تعقب على كل تلك القصص السابقة، بتعقيب يدل على أن هذا القرآن من عند الله، وأنه- سبحانه- لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون... قال- تعالى-:
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ، وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ....
أما في الربع السادس «٢» والأخير منها، فنراها تبين بأسلوب قوى منذر، أن الناس سيأتون
(١) الآيات من ٨٤- ١٠٧. [.....]
(٢) الآيات ص ١٠٨ إلى آخر السورة.
(٢) الآيات ص ١٠٨ إلى آخر السورة.
152
يوم القيامة، منهم الشقي ومنهم السعيد، وأنه- سبحانه- سيوفى كل فريق منهم جزاءه غير منقوص.
ثم ترشد إلى ما يوصل إلى السعادة، فتدعو إلى الاستقامة على أمر الله، وإلى عدم الركون إلى الظالمين، وإلى إقامة الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، وإلى الصبر الجميل.
قال- تعالى-: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
ثم ختمت السورة الكريمة ببيان أن من أهم مقاصد ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم، تثبيت فؤاد النبي ﷺ وتقوية قلبه، وتسليته عما أصابه، وتبشيره بأن العاقبة له ولأتباعه.
قال- تعالى-: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
٧- أهم الموضوعات التي عنيت السورة الكريمة بالحديث عنها:
من استعراضنا لسورة هود، ومن معرفة الفترة التي نزلت فيها، نستطيع أن نقول: إن السورة الكريمة قد عنيت بالحديث عن موضوعات متنوعة من أهمها ما يأتى:
(ا) ترغيب الناس في طاعة الله، وتحذيرهم من معصيته، وهذا المعنى نراه في كثير من آيات سورة هود، ومن ذلك:
قوله- تعالى-: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ....
وقوله- تعالى- حكاية عن هود- عليه السلام-: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ....
وقوله- تعالى- حكاية عن شعيب- عليه السلام-: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ....
(ب) تسلية الرسول ﷺ عما أصابه من قومه، ومن مظاهر هذه التسلية، أن
ثم ترشد إلى ما يوصل إلى السعادة، فتدعو إلى الاستقامة على أمر الله، وإلى عدم الركون إلى الظالمين، وإلى إقامة الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، وإلى الصبر الجميل.
قال- تعالى-: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا، إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ. وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ، وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ. وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ، إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ. وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ.
ثم ختمت السورة الكريمة ببيان أن من أهم مقاصد ذكر قصص الأنبياء في القرآن الكريم، تثبيت فؤاد النبي ﷺ وتقوية قلبه، وتسليته عما أصابه، وتبشيره بأن العاقبة له ولأتباعه.
قال- تعالى-: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ، وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ. وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ.
٧- أهم الموضوعات التي عنيت السورة الكريمة بالحديث عنها:
من استعراضنا لسورة هود، ومن معرفة الفترة التي نزلت فيها، نستطيع أن نقول: إن السورة الكريمة قد عنيت بالحديث عن موضوعات متنوعة من أهمها ما يأتى:
(ا) ترغيب الناس في طاعة الله، وتحذيرهم من معصيته، وهذا المعنى نراه في كثير من آيات سورة هود، ومن ذلك:
قوله- تعالى-: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ....
وقوله- تعالى- حكاية عن هود- عليه السلام-: وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً، وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ....
وقوله- تعالى- حكاية عن شعيب- عليه السلام-: وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ، وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ. بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ....
(ب) تسلية الرسول ﷺ عما أصابه من قومه، ومن مظاهر هذه التسلية، أن
153
السورة الكريمة قد اشتملت في معظم آياتها على قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم. فقد ذكرت نواحي متنوعة من قصة نوح مع قومه، ومن قصة هود مع قومه، ومن قصة صالح مع قومه، ومن قصة شعيب مع قومه، ومن قصة لوط مع قومه...
وقد تحدثت خلال كل قصة عن المسالك الخبيثة، والمجادلات الباطلة، التي اتبعها الطغاة مع أنبيائهم الذين جاءوا لسعادتهم وهدايتهم.
كما ختمت كل قصة من هذه القصص، ببيان حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة المكذبين..
وفي ذلك ما فيه من التسلية للرسول الكريم ﷺ عما لحقه من أذى، وما أصابه من اضطهاد، وما تعرض له من اعتداء عليه وعلى أصحابه.
وكأن ما ورد في هذه السورة من قصص طويل متنوع، يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إن ما أصابك من قومك يا محمد، قد أصاب الأنبياء السابقين من أقوامهم، فاصبر كما صبروا، فإنه ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسول من قبلك.
(ج) إقامة الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله، وليس من كلام البشر..
فقد تحداهم هنا أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم تحداهم في موطن آخر أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا، وساق لهم- على لسان الرسول ﷺ الكثير من أخبار الأولين، ومن قصص الأنبياء مع أقوامهم مع أن الرسول ﷺ لم يكن معاصرا لهؤلاء السابقين، ولم يكن قارئا لأخبارهم فدل ذلك على أن هذا القرآن من عند الله، وعلى أن الرسول ﷺ صادق فيما يبلغه عن ربه.
قال- تعالى-: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وقال- تعالى-: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
(د) بيان سنة من سنن الله التي لا تتخلف، وهي أنه- سبحانه- لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بإعراضهم عن الحق، واتباعهم للهوى، واستحقاقهم للعقوبة التي هي جزاء عادل لكل ظالم.
وقد تحدثت خلال كل قصة عن المسالك الخبيثة، والمجادلات الباطلة، التي اتبعها الطغاة مع أنبيائهم الذين جاءوا لسعادتهم وهدايتهم.
كما ختمت كل قصة من هذه القصص، ببيان حسن عاقبة المؤمنين، وسوء عاقبة المكذبين..
وفي ذلك ما فيه من التسلية للرسول الكريم ﷺ عما لحقه من أذى، وما أصابه من اضطهاد، وما تعرض له من اعتداء عليه وعلى أصحابه.
وكأن ما ورد في هذه السورة من قصص طويل متنوع، يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: إن ما أصابك من قومك يا محمد، قد أصاب الأنبياء السابقين من أقوامهم، فاصبر كما صبروا، فإنه ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسول من قبلك.
(ج) إقامة الأدلة على أن هذا القرآن من عند الله، وليس من كلام البشر..
فقد تحداهم هنا أن يأتوا بعشر سور من مثله فعجزوا، ثم تحداهم في موطن آخر أن يأتوا بسورة من مثله فما استطاعوا، وساق لهم- على لسان الرسول ﷺ الكثير من أخبار الأولين، ومن قصص الأنبياء مع أقوامهم مع أن الرسول ﷺ لم يكن معاصرا لهؤلاء السابقين، ولم يكن قارئا لأخبارهم فدل ذلك على أن هذا القرآن من عند الله، وعلى أن الرسول ﷺ صادق فيما يبلغه عن ربه.
قال- تعالى-: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
وقال- تعالى-: تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ، إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
(د) بيان سنة من سنن الله التي لا تتخلف، وهي أنه- سبحانه- لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم بإعراضهم عن الحق، واتباعهم للهوى، واستحقاقهم للعقوبة التي هي جزاء عادل لكل ظالم.
154
وهذا البيان نراه في مواضع متعددة من السورة، ومن ذلك قوله- تعالى- في ختام الحديث عن قصص بعض الأنبياء مع أقوامهم.
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.....
وبعد: فهذه تعريفات عن سورة هود، رأينا أن نذكرها قبل البدء في تفسيرها، وأرجو أن يكون في ذكرها ما يعطى القارئ صورة واضحة عن هذه السورة الكريمة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم محمد سيد طنطاوى
ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ. وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ، فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ. وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ، إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ، ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ، وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ. وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ. يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.....
وبعد: فهذه تعريفات عن سورة هود، رأينا أن نذكرها قبل البدء في تفسيرها، وأرجو أن يكون في ذكرها ما يعطى القارئ صورة واضحة عن هذه السورة الكريمة.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم محمد سيد طنطاوى
155