ﰡ
(مكية إلا ثلاث آيات قوله تعالى فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ إلى آخرهن حروفها ٥٥٦٧ كلماتها ١٨٣٢ وآياتها ١٠٩)
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١ الى ١٠]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (١) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (٢) إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (٣) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٤)هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (٦) إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (٧) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩)
دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠)
القراآت:
الر بالإمالة وكذلك ما بعده: أبو عمرو وخلف وحمزة وعلي والخراز عن هبيرة والنجاري عن ورش ويحيى وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان. لَساحِرٌ بالألف: ابن كثير وعاصم وحمزة وعلي وخلف. الآخرون لسحر حَقًّا إِنَّهُ بالفتح.
يزيد. ضِياءً بالهمز حيث كان: ابن مجاهد وأبو عون عن قنبل يُفَصِّلُ بالياء: ابن
الوقوف:
الر ق كوفي الْحَكِيمِ هـ ط عِنْدَ رَبِّهِمْ ط مُبِينٌ هـ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ط إِذْنِهِ ط فَاعْبُدُوهُ ط تَذَكَّرُونَ هـ جَمِيعاً ط، حَقًّا ط، إلا لمن قرأ أنه بالفتح. بِالْقِسْطِ ط يَكْفُرُونَ هـ وَالْحِسابَ ط إِلَّا بِالْحَقِّ ط لمن قرأ نفصل بالنون، ومن قرأ بالياء أمكنه أن يجعل يُفَصِّلُ حالا. يَعْلَمُونَ هـ يَتَّقُونَ هـ غافِلُونَ هـ لا لأن غافِلُونَ خبر «إن» إِنَّ ج ط للحذف تقديره يهديهم ربهم بإيمانهم إلى دار البقاء مع اتحاد المقصود وتمام الموعود النَّعِيمِ هـ سَلامٌ ج ط لأن الجملتين وإن اتفقتا فقد اعترضت جملة معطوفة أخرى لأن قوله وَآخِرُ دَعْواهُمْ معطوف على دَعْواهُمْ الأوّل الْعالَمِينَ هـ.
التفسير:
اتفقوا على أن قوله الر ليس بآية وعلى أن طه آية. ولعل الفرق أن الر لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده، عن ابن عباس الر معناه انا الله أرى. وقيل:
لا رب غيري. وقيل: الر وحم ون اسم الرحمن تِلْكَ إشارة إلى ما تضمنته السورة من الآيات، والتبعيد للتعظيم، والكتاب السورة، والحكيم ذو الحكمة لاشتماله عليها أو وصف بصفة من تكلم به ومنه قولهم للقصيدة حكيمة. وقيل: «فعيل» بمعنى «فاعل» لأنه يحكم بين الحق والباطل، أو يحكم بأن محمدا صادق لأن القرآن أظهر معجزاته وأبقاها.
وقيل: بمعنى مفعول أي حكم فيه بجميع المأمورات والمنهيات وقيل: بمعنى المحكم والإحكام المنع من الفساد وذلك أنه لا يمحوه الماء ولا يحرقه النار ولا يغيره الدهور.
ويحتمل أن يقال: الكتاب الحكيم هو القرآن أو اللوح المحفوظ أو التوراة والإنجيل، لأن جميع الكتب الإلهية متوافقة في الأصول، ويجوز أن يكون تِلْكَ إشارة إلى ما تقدم هذه السورة من آيات القرآن. واعلم أنه سبحانه لما ختم السورة المتقدمة بقوله: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة: ١٢٧] صدر هذه السورة بتعديد بعض الحروف على طريق التحدي، وذلك أن حروف القرآن من جنس الحروف التي يتلفظون بها فلولا أنه معجز لعارضوه وناقضوه. ولما بين بهذا الطريق أن محمدا رسول حق من عند الله أنكر على كفار قريش تعجبهم من كونه رسولا فقال: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً نصب على أنه خبر كان واسمه أَنْ أَوْحَيْنا وفائدة اللام في قوله: لِلنَّاسِ مع تقديمه هي أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتحدثون بها، ثم إن تعجبهم إما أن يكون من جعل البشر رسولا أو من تخصيص محمد ﷺ بالوحي والنبوة
فقد روي أنهم كانوا يقولون العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله
وكلا الأمرين ليس بعجب، أما الأول فلأن الجنس إلى الجنس أميل وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا [الأنعام: ٩] قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا. [الاسراء: ٩٥]. وأما الثاني فلأن الفقر واليتم لا يوجب في النبوة قدحا لأن الله غني عن العالمين وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى [سبأ: ٣٧] وإنما المعتبر في الاستنباء كونه متصفا بالصدق والأمانة والتقوى، وكان لمحمد ﷺ في ذلك قبل بعثه اليد الطولى إذ كان يدعى محمدا الأمين. و «أن» في قوله: أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ هي المفسرة لأن الإيحاء فيه معنى القول، أو مخففة من الثقيلة وقد عملت في ضمير شأن مقدر معناه إنه أي إن الشأن قولنا أنذر الناس. وقوله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم، والإنذار إخبار مع تخويف وإنه عام للناس كلهم، ولكن البشارة خاصة بالمؤمنين. ويحتمل أن يراد بالناس الكفار فقط ويمكن أن يكون تعجبهم عائدا إلى الإنذار والتبشير وليس ذلك بعجب بل المنكر في العقول تعطيل الأعمال وأن يترك الإنسان سدى، وإرسال الرسل أمر ما أخلى الله تعالى المكلفين عنه شيئا من الأزمنة، وبه تتم المالكية والأمر والنهي والإذن والمنع والثواب والجزاء. وإنما قدم الإنذار على التبشير لأن الإنذار تحذير عن فعل ما لا ينبغي، والتبشير ترغيب في فعل ما ينبغي والتخلية مقدمة على التحلية. ومعنى قَدَمَ صِدْقٍ سابقة فضل ومنزلة رفيعة أي سبق لهم عند الله خير. قال أحمد بن يحيى: القدم كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري: كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء. والسبب في إطلاق القدم على السابقة أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يدا لأنها تعطى باليد، وإضافة القدم إلى صدق لأجل المبالغة وللتنبيه على أنها من السوابق العظيمة أي القدم التي يصدق ويحق أن تسمى قدما. وأما عبارات المفسرين فمنهم من قال: قدم صدق هي الأعمال الصالحة، ومنهم من قال الثواب، ومنها من قال شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم. أما قوله: قالَ الْكافِرُونَ فقال القفال: فيه إضمار والتقدير: فلما أنذرهم قالوا ذلك. ثم من قرأ لساحر بالألف فقوله هذا إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومن قرأ السحر فهو إشارة الى القرآن وفيه دليل على عجزهم واعترافهم بأنهم قاصرون عن معارضته كالسحر، ومن هنا جوز بعضهم أن يكونوا أرادوا به المدح أي إنه لكمال فصاحته وتعذر الإتيان بمثله جار مجرى السحر. ثم لما أنكر عليهم تعجبهم من الأمور المذكورة وهي الواسطة أراد أن يقيم البرهان عليها بإثبات المبدأ ويبين غايتها بإثبات المعاد وذلك في آيتين متواليتين. وقد مر في الأعراف تفسير قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ
فلا حاجة إلى الإعادة.
ثم ذكر ما يدل على مزيد عظمته وجلاله وأنه لا يخرج أمر من الأمور من قضائه وتقديره فقال: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ وإنما فقد العاطف لأنهما كالتفسير والتفصيل لما دل عليه قوله: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ إلخ. والأمر الشأن أراد به أحوال الخلق وأحوال ملكوت السموات والأرض والعرش. والمعنى أنه يقضي ويقدر بمقتضى الحكمة ويفعل ما يفعله المصيب في أفعاله الناظر في أدبار الأمور وعواقبها لئلا يدخل في الوجود ما لا ينبغي. قال الزجاج: إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون إن الأصنام شفعاؤنا عند الله فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب فلا يجوز لهم أن يسألوه ما لا يعلمون أنه صواب وصلاح. ففي قوله: يُدَبِّرُ الْأَمْرَ إشارة إلى استقلاله في التصرف في جانب المبدإ، وفي قوله ما مِنْ شَفِيعٍ إشارة إلى استقلاله في طرف المعاد. ويمكن أن يقال: المراد أنه خلق العالم على أحسن الوجوه وأقربها من الأصلح مع أنه ما كان هناك شفيع يشفع في تحصيل المصالح فدل ذلك على أنه محسن إلى عباده مريد للخير والرأفة بهم كامل العناية بأحوالهم. قال أبو مسلم: الشفيع معناه الثاني من الشفع الذي يخالف الوتر أي خلق السموات والأرض وحده ولا حي معه ولا شريك يعينه ثم خلق الملائكة والثقلين، والمراد أنه لم يدخل في الوجود أحد إلا من بعد أن قال له: «كن» حتى كان وحصل. ثم أشار إلى المعلوم بالأوصاف المذكورة فقال: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ الذي يستأهل منكم العبادة بإزاء النعم الجسام من خلق السموات والأرض بما فيهما وعليهما فَاعْبُدُوهُ وحده أَفَلا تَذَكَّرُونَ فيه تنبيه على وجوب الاعتبار والنظر في الدلائل الدالة على عظمته وجلاله. ثم شرع في إثبات المعاد فقال: إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ أي رجوعكم جَمِيعاً مجموعين. وتقديم الجار والمجرور للاختصاص والمعنى لا ترجعون في العاقبة إلا إلى جزائه وحكمه فاستعدوا للقائه، ثم أكد ذلك بقوله: وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وفيه تأكيدان كما مر.
ثم قال: إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وهو استئناف فيه معنى التعليل كأنه قال إن الذي قدر على الإبداء يقدر على الإعادة بالطريق الأولى كقوله: وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ
[الواقعة: ٦١] يعني أنه سبحانه لما كان قادرا على إنشاء ذواتكم أوّلا ثم على إنشاء أجزائكم حال حياتكم ثانيا شيئا فشيئا من غير أن تكونوا عالمين بوقت حدوثه وبوقت نموّه، وجب القطع بأنه لا يمتنع عليه إعادة تلك الأجزاء بعد البلى والتفرق. ومن قرأ أنه بالفتح فعلى حذف لام التعليل أي لأنه، أو على أنه منصوب بالفعل الذي نصب
ثم ذكر غاية الإعادة وحكمتها فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قال المفسرون: في الآية إضمار والتقدير أنه يبدأ الخلق ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ثم يعيدهم ليجزي. وإنما حسن هذا الحذف لتقدم قوله: فَاعْبُدُوهُ ولأن الإعادة لا تكون إلا بعد الإماتة والإعدام. وقوله: بِالْقِسْطِ أي بالعدل متعلق ب لِيَجْزِيَ أي ليجزيهم بقسطه ويوفيهم أجرهم أو ليجزيهم بقسطهم وبما لم يظلموا أنفسهم حين آمنوا وعملوا صالحا وهذا وجه حسن لطباق قوله: بِما كانُوا يَكْفُرُونَ وفي قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا
من غير أن يدخل لام العاقبة في الجملة كما أدخلها في الأولى دليل على أنه خلق الخلق للرحمة لا للعذاب، وإنما جاء التعذيب لغرض وقوعهم في طريق القهر. والحميم الماء الذي أسخن بالنار حتى انتهى حره. قالت الأشاعرة: في الآية دلالة على عدم منزلة بين المنزلتين على ما يقول بها المعتزلة. وأجيب بأن عدم الذكر لا يدل على العدم وردّ بأن الفساق أكثر من أهل الطاعة فكيف يجوز طي ذكرهم؟ واعلم أن للعلماء في إثبات المعاد طريقين: الأول طريق القائلين بالحسن والقبح العقليين، والثاني طريق من يقول لا يجب على الله شيء أصلا يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. أما الفريق الأول فلهم على وجوب المعاد حجج عقلية منها: أنه تعالى خلق الخلق وأعطاهم عقولا وقدرا فيجب في حكمته أن يرغبهم في الخيرات ويزجرهم عن السيئات، وهذا الترغيب والزجر لا يمكن إلا بربط الثواب على الفعل والعقاب على الترك. هذا في المأمورات وبالعكس في المنهيات، وذلك الثواب المرغب والعقاب المرهب غير حاصل في الدنيا فلا بد من دار أخرى هي دار الآخرة ليحصل فيها ذلك وإلا لزم أن يكون الله تعالى كاذبا في قوله: لِيَجْزِيَ إلخ.
فإن قيل: لم لا يكفي في الترغيب والردع ما أودع الله في العقول من تحسين الخيرات وتقبيح المنكرات فلا يحتاج إلى الوعد والوعيد؟ ولئن سلم فلم لا يجوز أن يكون الغرض من الترغيب والترهيب نظام العالم لا أنه يفعل ذلك ولا يلزم منه الكذب على الله، ألستم تخصصون أكثر عمومات القرآن ثم تزعمون أنه لا كذب؟ سلمنا أنه يفعل لكن لم لا يجوز أن يكون الثواب والعقاب هو ما يصل إلى الإنسان في دار الدنيا من الراحات والآلام؟
فالجواب أن العقل وإن كان يدعو إلى فعل الخير وترك الشر إلا أن الهوى والنفس يدعوان إلى الانهماك في الشهوات الجسمانية، وإذا حصل هذا التعارض فلا بد من مرجح وما ذاك إلا ترتيب الوعد والوعيد على الأعمال، وتجويز الخلف في ذلك مناف للغرض، وأخذ
كم عالم عالم أعيت مذاهبه | وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا |
قلنا: إن لم يكن السلطان قاهرا قادرا على الرعية فلا فائدة فيه، وإن كان قاهرا غالبا ولا خوف له من المعاد فحينئذ يقدم على أنواع الظلم والإيذاء لأن الداعية النفسانية قائمة ولا وازع له في الدنيا ولا في الآخرة. ومنها أنه تعالى خلق هذا العالم وخلق فيه الناس، والعبث لا يليق بالحكيم الرحيم فوجب أن يقال: إنه خلقهم لمقصود ومصلحة وخير وليس ذلك في الدنيا لأن لذات هذا العالم جسمانية لا حقيقة لها إلا إزالة الألم، وإزالة الألم أمر عدمي وكان هذا حاصلا قبل الوجود فلا يبقى للتخليق فائدة. وأيضا إن لذات الدنيا مشوبة بالآلام بل اللذة في الدنيا كالقطرة من البحر فعلمنا أن للراحة دار أخرى. فإن قيل: ليس أنه يعذب أهل النار لا لمصلحة وفائدة لهم؟ قلنا: الفرق أن ذلك الألم استحقوه على أعمالهم وهذا الألم الحاصل في الدنيا غير مستحق فوجب أن يعقبه خيرات عظيمة وإلا فينافي كونه أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. ومنها أنه لو لم يحصل للإنسان معاد لكان أحسن من جميع الحيوانات لأنها تشاركه في اللذات الحسية لأن الروث في مذاق الجعل كاللوز في فم الإنسان، والإنسان يزيد عليها بعقل هو سبب تألمه وتأذيه في أغلب الأحوال، يتفكر في الأحوال الماضية فيتأسف، ويتأمل في الأحوال الآتية فيخاف، فلو لم يكن للإنسان معاد به يكمل حاله ويظهر سعادته كان عقله سببا لشقائه وخسته دون شرفه ومزيته. ومنها أن إيصال النعم إما أن يكون مشوبا بالآفات أو خالصا عنها، فلما أنعم الله تعالى علينا في الدنيا بالمرتبة الأولى وجب أن ينعم علينا بالمرتبة الثانية في دار أخرى إظهارا لكمال القدرة والرأفة والحكمة، فهناك ينعم على المطيعين ويعفو عن
وأما الفريق الآخر الذين لا يعللون أفعال الله تعالى برعاية المصالح فإنهم يقولون:
المعاد أمر جائز الوجود لأن تعلق النفس بالبدن لما كان في المرة الأولى جائزا فالمرة الثانية أيضا جائزة. ثم إن إله العالم قادر مختار عالم بجميع المعلومات الكليات والجزئيات فلا يعجز تمييز أجزاء بدن زيد- وإن اختلطت بأجزاء التراب والبحار- عن أجزاء بدن عمرو، وإذا ثبت هذا الإمكان وقد دل الدليل على صدق الأنبياء عليهم السلام وعلى أن القرآن كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ثم إنهم قطعوا بوقوع هذا الممكن والقرآن مشحون بآيات البعث والجزاء فوجب علينا القطع بالمعاد الجسماني. أما شبهة المنكرين فمن ذلك أنهم قالوا الدار الآخرة إن كانت شرا من هذه فالتبديل سفه، وإن كانت مثلها فعبث، وإن كانت خيرا منها فإما أن يقال إنه قادر على خلق ذلك الأجود أولا ثم تركه وفعل الأرذل فذلك سفه، أو يقال إنه ما كان قادرا ثم حدثت له القدرة فذلك انتقال من العجز إلى القدرة ومن الجهل إلى الحكمة فهو محال على القديم. والجواب أن كلا من الدارين خير في وقتها فالأولى لتحصيل الكمالات
ثم عدد بعض نعمه على المكلفين فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وهو أجوف واوي مهموز اللام قلبت واوه ياء لكسرة ما قبلها، ومن قرأ بهمزتين بينهما ألف فمحمول على القلب لأن إذا قدم اللام على العين وقع حرف العلة على الطرف فانقلب همزة كما في «كساء». وهو إما أن يكون جمع ضوء كحوض وحياض، أو مصدر ضاء يضوء مثل قام قياما وصام صياما، ولا بد من تقدير مضاف أي جعل الشمس ذات ضياء والقمر ذا نور إلا أن يحمل على المبالغة فجعلا نفس الضياء والنور كما يقال للرجل الكريم إنه كرم وجود. والضياء أقوى من النور. ولا خلاف بين العقلاء أن ضوء الشمس كيفية قائمة بها لذاتها، وأما نور القمر فقد ذهب جمهور الحكماء إلى أنه مستفاد من الشمس وبذلك يقع اختلاف أحواله من الهلالية إلى البدرية كما بينا في تفسير قوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة: ١٨٩] وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ قال في الكشاف: أي قدّر مسيره منازل أو قدره ذا منازل. ومنزلة القمر المسافة التي يقطعها في يوم وليلة بحركته الخاصة
ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ المذكور إِلَّا ملتبسا بِالْحَقِّ والصواب دون الباطل والعبث، فالشمس سلطان النهار والقمر خليفتها بالليل، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى فصولها الأربعة، وبالفصول تنتظم مصالح هذا العالم ويتحصل معايش الخلائق، وبحركة القمر يحصل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة النور ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات إلى غير ذلك من الخواص التي يرشد إليها التأمل والتدبر ولهذا قال: يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لأنهم هم الذين ينتفعون بهذه الدلائل. وقيل: المراد بالعلم هاهنا العقل الذي يعم الكل. ثم ذكر المنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار وقد مر تفسيره في سورة «البقرة» في قوله: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الآية: ١٦٤]. ومعنى قوله:
وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كقوله: وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ [الآية: ١٨٥] وقد مر في آخر «الأعراف». وإنما خص كونها آيات بالمتقين لأنهم يحذرون العاقبة فيدعوهم الحذر إلى التدبر والنظر. قال القفال: من تدبر في هذه الأحوال علم أن الدنيا مخلوقة لشقاء الناس وأن خالقها وخالقهم ما أهملهم بل جعلها لهم دار عمل، وإذا كان كذلك فلا بد من أمر ونهي ثم من ثواب وعقاب ليتميز المحسن عن المسيء، فهذه الأحوال في الحقيقة دالة على صحة القول بالمبدإ والمعاد.
ثم شرع في شرح أحوال من لا يؤمن بالمعاد ومن يؤمن به فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا عن ابن عباس ومقاتل والكلبي: معناه لا يخافون البعث كقوله تعالى:
وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء: ٤٩] واستبعد الأكثرون تفسير الرجاء بالخوف وقالوا: إنه بمعنى الطمع أي لا يطمعون في حسن لقائه كما يأمله السعداء، أو لا يتوقعونه أصلا لأنهم لا يؤمنون بالمعاد فهم ذاهلون عن طلب اللذات الحقيقية فارغون عن التوجه نحو السعادات الباقية وَرَضُوا مع ذلك بِالْحَياةِ الدُّنْيا الحسية الخسيسة وَاطْمَأَنُّوا
سكنوا إليها سكون العاشق إلى معشوقه وهذه غاية الانهماك والاستغراق في اللذات الجسمانية وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ فلا يعتبرون بالآيات ولا ينظرون في الدلائل الموصلة إلى حقيقة المبدإ والمعاد، فلم يقبلوها بالتقليد ولم ينظروا إليها بعين الاجتهاد أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ فيه معنى الجزاء ولذلك تعلق به قوله: بِما كانُوا يَكْسِبُونَ وفيه أن الأعمال السابقة هي المؤثرة في حصول العذاب الجسماني وهو النار المحسوسة، والعذاب الروحاني وهو نار البعد من المألوفات والقطيعة من السعادات الباقيات فيكون مثاله مثال من أخرج عن مجالسة معشوقة فألقي في بئر ظلمانية لا إلف بها ولا مؤنس بل يكون فيها أنواع المؤذيات وأصناف الموحشات نعوذ بالله من تلك الحالات. هذا حال من لا يؤمن بالمعاد فلا يعمل له، وأما حال الذي يؤمن به فذلك قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا استكملوا من جهة القوة النظرية وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ استكملوا من قبل القوة العملية أو صدقوا بقوله ثم حققوا التصديق بالعمل الصالح الذي جاءت به الأنبياء والكتب من عند الله، أو أشغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة ثم جوارحهم بالخدمة حتى تكون عيونهم مشغولة بالاعتبار، وآذانهم باستماع كلام الله، وألسنتهم بذكر الله وسائر أعضائهم بطاعة الله تعالى: يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ قال أكثر المفسرين: معناه يهديهم إلى الجنة ثوابا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة. ومعنى قوله: بِإِيمانِهِمْ أي بإيمانهم هذا المضموم إليه العمل الصالح، وهذا التفسير يوافق قوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الحديد: ١٢]
وقوله صلى الله عليه وسلم: «إن المؤمن إذا خرج من قبره صوّر له عمله الصالح في صورة حسنة فيقول له: أنا عملك فيكون له نورا وقائدا إلى الجنة. والكافر إذا خرج من قبره صوّر له عمله في صورة سيئة فيقول: أنا عملك فينطلق به إلى النار».
وقيل: معنى الآية إن إيمانهم يهديهم إلى مزايا من الألطاف ولوامع من الأنوار بحيث تزول بواسطتها عنهم الشكوك والشبهات فتؤدي إلى حصول المثوبات ولذلك جعل تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ بيانا له وتفسيرا لأن التمسك بسبب السعادة كالوصول إليها. فهذه الهداية عبارة عن الفوائد الزوائد الحاصلة في الدنيا بعد الإيمان. قال القفال: فعلى هذا الوجه كان المعنى يهديهم ربهم بإيمانهم وتجري من تحتهم الأنهار إلا أنه حذف الواو وجعل قوله: تَجْرِي خبرا مستأنفا منقطعا عما قبله. والتحقيق في تقرير هذا الوجه أن العلم نور والجهل ظلمة والروح كاللوح والعلوم والمعارف كالنقوش ولكن حالهم بالضد من النقوش الجسمانية، فإن تزاحم النقوش الجسمانية يكدر اللوح وتوارد النقوش المعنوية وتكاثرها يزيد لوح الروح لمعانا وإشراقا حتى إنه يقوى بها على تحصيل المعارف الباقية
الدعاء العبادة كقوله: وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [مريم: ٤٨] وإنما تكون هذه عبادتهم لا على سبيل التكليف بل على سبيل الإلهام والعادة ابتهاجا بذكر الله. وقيل:
الادعاء بين المتخاصمين والمعنى أن أهل الجنة يدعون في الدنيا والآخرة تنزيه الله من المعايب والإقرار له بالإلهية. قال القفال: أصله من الدعاء لأن الخصم يدعو خصمه إلى من يحكم بينهما. وقيل: أي طريقتهم وسيرتهم وذلك لأن المدعي للشيء مواظب عليه فيمكن أن يجعل الدعوى كناية عن الملازمة وإن لم يكن في قولهم سبحانك اللهم دعاء ولا دعوى. وقيل: أي تمنيهم كقوله: وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ [يس: ٥٧] أي ما يتمنونه.
وتقول العرب: ادّع عليّ ما شئت أي تمن فكان تمنيهم في الجنة ليس إلا تسبيح الله وتقديسه، ولقد كانوا في الدنيا يدعون في الحروب من يسكنون إليه ويستنصرونه فيقولون:
يا آل فلان فأخبر الله تعالى عنهم أن أنسهم في الجنة بذكر الله وسكونهم بتحميده وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي بعضهم يحيي بعضا بالسلام. وقيل: هي تحية الله أو الملائكة إياهم إضافة للمصدر إلى المفعول وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ هي «أن» المخففة من الثقيلة وأصله أنه الحمد لِلَّهِ على أن الضمير للشأن. قال أهل الظاهر من المفسرين: في سبب تخصيص هذه الأذكار بأهل الجنة أن قوله: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ علم بين أهل الجنة وخدامهم إذا سمعوا ذلك منهم أتوهم بما يشتهونه. قال ابن جريج: ورد في الأخبار أنه إذا مرّ بهم طير يشتهونه قالوا: سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ فيأتيهم الملك بذلك المشتهى، فإذا نالوا منه شهوتهم قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ وقال القاضي: إنه وعد المتقين بالثواب العظيم فإذا دخل أهل الجنة الجنة ووجدوا تلك المواعيد قالوا سبحانك اللهم أي نسبحك عن الخلف في الوعد. وقيل: ألهم الله بني آدم في الجنة بعد انقراض الدنيا ما افتخر به
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. وعلى هذا يدور أمرهم في العروج والنزول ما داموا في الدنيا فيكون كذلك حالهم في العقبى
لقوله: «كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون».
التأويل:
الر فيه إشارتان: إحداهما من الحق المحق إلى حبيبه محمد ﷺ كأنه قال: بآلائي عليك في الأزل وأنت في العدم وبلطفي عليك في الوجود وبرحمتي ورأفتي لك من الأزل إلى الأبد. والثانية من الحق لنبيه عليه السلام إليه يقول بإنسك معي حين خلقت روحي ولم يكن ثالث، وبلبيك الذي أجبتني به حين دعوتك للخروج من العدم فقلت: ياسين أي يا سيد فقلت: لبيك وسعديك والخير كله بيديك. وبرجوعك منك إلى حين قلت لنفسك بجذبة ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] تِلْكَ أي هذه الآيات المنزلة عليك آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ الذي وعدتك في الأزل وراثته لك ولأمتك.
والحكيم الحاكم على الكتب كلها فلا ينسخه كتاب وهو ينسخ الشرائع والأحكام والكتب كلها إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ لما رأى فيه رجولية قبول الوحي دون غيره، ويحتمل أن يكون معنى للناس الناسي عهد الله قَدَمَ صِدْقٍ محمد ﷺ لأنه أول من خرج من العدم إلى الوجود، أو هو العناية الأزلية
«سبقت رحمتي غضبي» «١»
لَساحِرٌ مُبِينٌ صدقوا في أنهم مسحورون إلا أنه سحرهم سحرة صفات فرعون النفس. إن الذي يربيكم هو الذي خلق السموات سموات أرواحكم وأرض نفوسكم من ستة أنواع هي: الروح والقلب والعقل والنفس الحيواني والنفس النباتي والصورة المعدنية ثُمَّ اسْتَوى على عرش القلب يُدَبِّرُ أمر السعادة والشقاوة يقلبه كيف يشاء. إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فرجعوا مقبولين بجذبات العناية التي صورتها خطاب ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ [الفجر: ٢٨] وحقيقتها انجذاب القلب إلى الله ونتيجتها عزوف النفس عن الدنيا واستواء الذهب والمدر عندها ورجوع
[سورة يونس (١٠) : الآيات ١١ الى ٢٠]
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٢) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥)
قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠)
القراآت:
لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ مبنيا للفاعل أجلهم بالنصب: ابن عامر ويعقوب.
الآخرون مبنيا للمفعول ورفع أَجَلُهُمْ أو بدله بضم اللام وسكون الهاء: روى خلف عن الكسائي والاختبار عنه وعن غيره الإشمام لي أن بفتح الياء وكذلك إِنِّي أَخافُ: أبو
ولأدراكم بلام الابتداء فعلا ماضيا مثبتا: روى أبو ربيعة عن البزي وحمزة. وقرأ حمزة وعلي وأبو عمرو وخلف وورش من طريق النجاري والخراز عن جبيرة وهبيرة وابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان، وحماد ويحيى من طريق أبي حمدون بالإمالة فعلا ماضيا منفيا بلا. الباقون: مثله ولكن بالتفخيم. تشركون بتاء الخطاب وكذلك في «النحل» و «الروم» : حمزة وعلي وخلف. الباقون بالياء.
الوقوف:
أَجَلُهُمْ ط لأن ما بعده مستقبل فنحن نذر يَعْمَهُونَ هـ أَوْ قائِماً ط مَسَّهُ ط يَعْمَلُونَ هـ ظَلَمُوا لا لأن الواو للحال لِيُؤْمِنُوا ط الْمُجْرِمِينَ هـ تَعْمَلُونَ هـ بَيِّناتٍ لا لأن ما بعده جواب «إذا» أَوْ بَدِّلْهُ ط. نَفْسِي ج ط لأن «ان» النافية لها صدر الكلام ولكن القائل متحد إِلَيَّ ط ج لمثل ما قلنا عَظِيمٍ هـ بِهِ ط والوصل أولى للفاء أو لشدة اتصال المعنى مِنْ قَبْلِهِ ط تَعْقِلُونَ هـ بِآياتِهِ ط الْمُجْرِمُونَ هـ عِنْدَ اللَّهِ ط فِي الْأَرْضِ ط يُشْرِكُونَ هـ فَاخْتَلَفُوا ط يَخْتَلِفُونَ هـ مِنْ رَبِّهِ ج ط للابتداء بالأمر مع الفاء فَانْتَظِرُوا ج لاحتمال الابتداء أو التعليل الْمُنْتَظِرِينَ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه ابتدأ في هذه السورة بذكر شبهات القوم فالأولى أنهم تعجبوا من تخصيص الله محمدا ﷺ بالنبوة فأزال ذلك التعجب بالإنكار وبالدلائل الدالة على صحة المبدا والمعاد فكأنه قيل: إنه ما جاء إلا بدليل التوحيد والإقرار بالمعاد فليس للتعجب معنى. ثم شرع في شبهة أخرى وهي أنهم كانوا يقولون أبدا اللهم إن كان محمد حقا فأمطر علينا حجارة من السماء فأجابهم بقوله: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ الآية. وقال القاضي: لما ذكر الوعيد على عدم الإيمان بالمبدإ والمعاد ذكر أن ذلك العذاب من حقه أن يتأخر عن هذه الحياة الدنيا وإلا نافى التكليف. وقال القفال: لما وصفهم فيما مر بالغفلة أكد ذلك بأن من غاية غفلتهم أن الرسول متى أنذرهم استعجلوا العذاب فبيّن الله تعالى أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشر إليهم فلعلهم يؤمنون، أو يخرج من أصلابهم من يؤمن. كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها كما يجيء في الآية التالية، وفي الرخاء كانوا يستعجلون النبي بالعذاب فقال ما معناه: ولو عجلنا لهم الشر الذي دعوا به كما يعجل لهم الخير ونجيبهم إليه لأميتوا وأهلكوا. قال في الكشاف: أصل الكلام ولو يعجل الله للناس الشر تعجيله لهم الخير. فوضع استعجالهم بالخير موضع تعجيله لهم
التعجيل معناه طلب العجلة إلا أن الاستعجال أشهر وأظهر. فمعنى الآية لو أراد الله عجلة الشر للناس كما أرادوا عجلة الخير لهم. وقيل: هما متلازمان فكل معجل يلزمه الاستعجال إلا أنه تعالى وصف نفسه بتكوين العجلة ووصفهم بطلبها لأن اللائق به التكوين واللائق بهم الطلب. وسمي العذاب في الآية شرا لأنه أذى وألم في حق المعاقب به. ثم إن قوله لَوْ يُعَجِّلُ كان متضمنا لمعنى نفي التعجيل فيمكن أن يكون قوله فَنَذَرُ الَّذِينَ معطوفا على منوي كأنه قيل: ولكن لا يعجل فيذرهم إلزاما للحجة أو لمصالح أخرى. ثم بين أنهم كاذبون في استعجال الشر ولو أصابهم ما طلبوه أظهروا العجل والطيش فقال:
وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ أي هذا الجنس دَعانا لِجَنْبِهِ اللام في معنى الوقت كقولك:
جئته لشهر كذا. وإن شئت قلت في موضع الحال لأن الظرف والحال متآخيان فيصح عطف أحدهما على الآخر وتأويل أحدهما بالآخر أي دعانا مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً أو وقت اضطجاعه وقعوده وقيامه. والمراد أنه يدعو الله في جميع أحواله لا يفتر عن الدعاء. ثم إن خص الضر بالمرض احتمل أن يراد أنه يدعو الله حين كان مضطجعا غير قادر على القعود أو قاعدا غير قادر على القيام، أو قائما لا يطيق المشي إلى أن يخف كل الخفة ويرزق الصحة بكمالها. أو يراد أن من المضرورين من هو أسوأ حالا وهو صاحب الفراش، ومنهم من هو أخف وهو القادر على القعود، ومنهم المستطيع للقيام وكلهم لا يصبرون على الضراء. قال بعض المفسرين: الإنسان هاهنا هو الكافر. ومنهم من بالغ فقال: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به الكافر. وهذا شبه تحكم لورود مثل قوله تعالى: هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ [الدهر: ١] إلا أن يساعده نقل صحيح.
والأصح عند العلماء العموم لأن الإنسان خلق ضعيفا لا يصبر على اللأواء ولا يشكر عند النعماء إلا من عصمه الله وقليل ما هم، وهم الذين نظرهم في جميع الأحوال على المقدر المؤجل للأمور حسب إرادته ومشيئته فلا جرم إن أصابهم السراء شكروا وإن أصابهم الضراء صبروا فأفنوا إرادتهم في إرادته ورضوا بقضائه. قال الزجاج: في الآية تقديم وتأخير والتقدير: وإذا مس الإنسان الضر لجنبه أو قاعدا أو قائما. وضعف بأن تعديد أحوال الدعاء أبلغ من تعديد أحوال الضر لأنه إذا كان داعيا على الدوام ثم نسي ذلك في وقت الرخاء كان أعجب. ومعنى مَرَّ مضى على طريقته التي له قبل مس الضراء ومرّ عن موقف الدعاء والتضرع لا يرجع إليه. ومعنى كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا كأنه لم يدعنا فخفف وحذف ضمير الشأن كَذلِكَ مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من
ثم ذكر ما يجري مجرى الردع والزجر لهم عن إلقاء الشبه والأغاليط فقال: وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ وقد مضى تفسير القرن في أول الأنعام ولَمَّا ظرف لأهلكنا والواو في وَجاءَتْهُمْ للحال أي ظلموا بالتكذيب وقد جاءتهم رُسُلُهُمْ بالدلائل والحجج على صدقهم وهي المعجزات. وقوله: وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إما أن يكون عطفا على ظَلَمُوا أو يكون اعتراضا واللام لتأكيد النفي، وإن الله قد علم منهم أنهم يصرون على الكفر والسبب في إهلاكهم تكذيب الرسل وعلم الله بإصرارهم كَذلِكَ أي مثل ذلك الجزاء وهو الاستئصال الكلي نجزي كل مجرم، وفيه وعيد لأهل مكة على تكذيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم خاطب الذين بعث إليهم رسول الله ﷺ بقوله: ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ أي استخلفناكم فِي الْأَرْضِ بعد تلك القرون لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ خيرا أو شرا.
استعير النظر للعلم الحقيقي الذي لا يتطرق إليه شك، ويعني به العلم الذي يتعلق به الجزاء كما مر في «الأعراف». قال قتادة: صدق الله ربنا ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا فأروا الله من أعمالكم خيرا بالليل والنهار. ثم حكى نوعا ثالثا من شبهاتهم فقال:
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا أي لا يؤمنون بالمعاد لأن كل من كان مؤمنا بالنشور فإنه يرجو ثواب الله ويخاف عقابه، وانتفاء اللازم دليل انتفاء الملزوم. طلبوا من الرسول أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن مع بقاء هذا القرآن على حاله، وإما تبديل هذا القرآن بنسخ بعض الآيات ووضع أخرى في مكانها، فأمره الله تعالى أن يقول في جوابهم ما يَكُونُ لِي أي ما ينبغي وما يحل أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي فنفى عن نفسه أحد القسمين الذي هو أسهل وأقل ليلزم منه نفي الأصعب الأكثر بالطريق الأولى. ثم أكد الجواب بقوله: إِنْ أَتَّبِعُ أي ما أتبع إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ إن نسخت آية تبعت النسخ وإن بدلت آية مكان آية تبعت التبديل. وقد تمسك بهذا نفاة القياس ونفاة جواز الاجتهاد. وأجيب بأن رجوعهما أيضا إلى الوحي.
ونقل عن ابن عباس أن قوله: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ منسوخ بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الفتح: ٢] وضعف بأن النسخ إنما
٩٥]. ويحتمل أن يكون على سبيل التجربة والامتحان حتى إنه إن فعل ذلك علموا أنه كاذب، أو أرادوا أن هذا القرآن مشتمل على ذم آلهتهم فطلبوا قرآنا آخر لا يكون كذلك.
ثم أكد كون هذا القرآن من عند الله سبحانه وأنه غير مستبد في إيراده فقال: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ ولا أعلمكم الله بِهِ على لساني. ومن قرأ بلام الابتداء فمعناه ما تلوته أنا عليكم ولأخبركم الله به على لسان غيري، ولكنه يمنّ على من يشاء من عباده فرآني أهلا لذلك دون غيري. وقرىء لا أَدْراكُمْ بِهِ بالهمزة. ووجهه أن تكون الهمزة مقلوبة من الألف، أو يكون من الدرء الدفع. ومعنى ادرأته جعلته دارئا أي لم أجعلكم بتلاوته خصما تدرؤنني بالجدال وتكذبونني فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً أي بعضا معتبرا من العمر وهو أربعون سنة مِنْ قَبْلِهِ أي من قبل نزول القرآن أَفَلا تَعْقِلُونَ فيه قدح في صحة عقولهم لأن ظهور مثل هذا الكتاب العظيم المشتمل على علوم الأوّلين والآخرين المعجز للثقلين عن معارضته على من عرفوا حاله من عدم التعلم والمدارسة ومخالطة العلماء إذا شك فيه أنه من قبيل الوحي والمدد السماوي، كان ذلك إنكارا للضروريات وافتراء على الله فلهذا قال فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الآية. وفيه أن هذا القرآن لو لم يكن من عند الله ثم نسبه الرسول ﷺ إلى الله لم يكن أحد أظلم منه.
ثم قبح الله أصنامهم معارضة لهم بنقض مقصودهم من الالتماس فقال وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ إن لم يعبدوه وَلا يَنْفَعُهُمْ إن عبدوه ومن حق المعبود أن يكون مثيبا معاقبا. وفيه إشعار بأنها جماد، والمعبود لا بد أن يكون أكمل من العابد، وإذا كانت المنافع والمضار كلها من الله فلا تليق العبادة إلا له وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ.
قد ذكرنا وجه ذلك في أوائل سورة البقرة في قوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [الآية: ٢٢] ثم أنكر عليهم معتقدهم بقوله: قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ والمراد انه لا وجود لكونهم شفعاء إذ لو كان موجودا لكان معلوما للعالم بالذات المحيط بجميع المعلومات وهذا مجاز مشهور. تقول: ما علم الله ذلك مني. والمقصود أنه ما وجد منك ذلك قط. وفي قوله: فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ تأكيد آخر لنفيه لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم. قوله: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ إما أن يكون من تمام ما أمر النبي ﷺ أن يقول لهم، أو ابتداء كلام من الله تعالى تنزيها لنفسه عن إشراكهم أو عن
قوله: «سبقت رحمتي غضبي» «١»
لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا ولميز المحق من المبطل. ثم ذكر نوعا رابعا من أغاليطهم فقال: وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ وقد مر تفسيره في «الأنعام» في قوله: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ [الأنعام: ٣٧] كأنهم لم يعتدّوا بالقرآن آية فاقترحوا غيره تعنتا. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ هو المختص بعلمه فَانْتَظِرُوا نزول ما اقترحتموه وهذا أمر فيه تهديد ووعيد والله ورسوله أعلم.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٢١ الى ٣٠]
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣) إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (٢٩) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠)
يمكرون بياء الغيبة: سهل وروح. الباقون: بالتاء الفوقانية.
ينشركم بالنون: ابن عامر ويزيد. الباقون يُسَيِّرُكُمْ من التسيير مَتاعَ بالنصب:
حفص والمفضل. الباقون بالرفع قِطَعاً بسكون الطاء: ابن كثير وعلي وسهل ويعقوب.
والآخرون بفتحها تتلوا بتاءين من التلاوة: حمزة وعلي وخلف وروح، وروي عن عاصم نبلوا بالنون ثم الباء الموحدة. كل نفس بالنصب الباقون: بتاء التأنيث كُلُّ بالرفع.
الوقوف:
آياتِنا ط مَكْراً ط، تَمْكُرُونَ هـ وَالْبَحْرِ ط فِي الْفُلْكِ ج ط للعدول مع أن جواب «إذا» منتظر، أُحِيطَ بِهِمْ لا لأن قوله: دَعَوُا بدل من ظَنُّوا لأن دعاءهم من لوازم ظنهم الهلاك فهو متلبس به، وإن جعل دَعَوُا جوابا عن سؤال سائل فما صنعوا كان للوقف وجه. الدِّينَ ج لاحتمال إضمار القول وجعل الدعاء في معنى القول الشَّاكِرِينَ هـ بِغَيْرِ الْحَقِّ ط. عَلى أَنْفُسِكُمْ ط، إلا لمن جعله متعلقا ب بَغْيُكُمْ تَعْمَلُونَ هـ الْأَنْعامُ ط عَلَيْها لا لأن ما بعده جواب «إذا».
بِالْأَمْسِ ط يَتَفَكَّرُونَ هـ السَّلامِ ط مُسْتَقِيمٍ هـ وَزِيادَةٌ ط وَلا ذِلَّةٌ ط، الْجَنَّةِ ج ط خالِدُونَ هـ بِمِثْلِها لا لأن قوله وَتَرْهَقُهُمْ معطوف على محذوف أي يلزمهم جزاء سيئة وترهقهم ذلة. عاصِمٍ ج ط لأن الكاف لا يتعلق ب عاصِمٍ مع تعلقها بذلة قبله معنى، لأن رهق الذلة سواد الوجه المعبر عنه بقوله كأنما مُظْلِماً ط أَصْحابُ النَّارِ ج ط خالِدُونَ هـ وَشُرَكاؤُكُمْ ج للعدول مع فاء التعقيب تَعْبُدُونَ هـ لَغافِلِينَ هـ يَفْتَرُونَ هـ.
التفسير:
لما بين في الآية المتقدمة أنهم يطلبون الآيات الزائدة عنادا ومكرا ولجاجا أكد ذلك بقوله: وَإِذا أَذَقْنَا روي أنه سبحانه سلط القحط على أهل مكة سبع سنين ثم رحمهم وأنزل الأمطار النافعة، ثم إنهم أضافوا تلك المنافع إلى الأصنام- وقيل نسبوها إلى الأنواء- فقابلوا نعم الله بالكفران فذلك مكرهم وهو احتيالهم في دفع آيات الله بكل ما يقدرون عليه من إلقاء شبهة أو تخليط في المناظرة. وفي تخصيص الإذاقة بجانب الرحمة دليل على أن الكثير من الرحمة قليل بالنسبة إلى رحمته الواسعة. وفيه أن الإنسان لغاية ضعفه الفطري لا يطيق أدنى الرحمة كما أنه لا يطيق أدنى الألم الذي يمسه. قال في الكشاف: معنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم. وهذا أيضا من جملة الضعف لأنه نسي ما عهده من الضر الشديد. و «إذا» الثانية للمفاجأة وقع مقام الفاء في
فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ [الجمعة: ١٠] قال بعض العلماء: المسير في البحر هو الله سبحانه وتعالى، وأما في البر فالمراد من التسيير التمكين والإقدار. والحق أن جميع الأفعال والحركات مستندة إلى إحداث الله تعالى، غاية ذلك أن آثار إقداره وإحداثه في البحر أظهر كما مر في تفسير قوله: وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ [البقرة: ١٦٤] قال القفال: هو الله الهادي لكم إلى السير في البحر طلبا للمعاش، وهو المسير لكم لأجل أنه هيأ لكم أسباب ذلك السير. وحتى لانتهاء الغاية والغاية مضمون الجملة الشرطية بكمالها، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة: أولها الكون في الفلك، وثانيها جري الفلك بهم بالريح الطيبة، والضمير في جَرَيْنَ للفلك على أنها جمع كما مر. وثالثها فرحهم بها. والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة أيضا: أوّلها جاءَتْها أي الفلك أو الريح الطيبة تلتها ريح عاصف ذات عصوف كلابن لذات اللبن، أو لأن لفظ الريح مذكر والعصوف شدة هبوب الريح. وثانيها وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي من جميع جوانب أحياز الفلك، والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر. وثالثها وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ أي غلب على ظنونهم الهلاك. وأصله أن العدوّ إذا أحاط بقوم أو بلد فقد دنوا من البوار، فجعل إحاطة العدوّ بالشخص مثلا في الهلاك. وقرىء في الفلكي والياء زائدة كما في «الأحمري» أو أريد به الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه. قال في الكشاف: وإنما التفت في قوله:
وَجَرَيْنَ بِهِمْ إلى آخره من الخطاب الى الغيبة للمبالغة كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح. وقال الإمام فخر الدين الرازي: الانتقال من مقام الخطاب إلى مقام الغيبة في هذه الآية دليل المقت والتبعيد كما أن عكس ذلك في
يحكى أن رجلا قال لجعفر الصادق رضي الله عنه: ما الدليل على إثبات الصانع؟
فقال: أخبرني عن حرفتك. فقال: التجارة في البحر قال: صف لي كيف حالك؟ فقال:
ركبت البحر فانكسرت السفينة وبقيت على لوح من ألواحها وجاءت الرياح العاصفة. قال جعفر الصادق رضي الله عنه: هل وجدت في قلبك تضرعا؟ فقال: نعم. قال جعفر: فإلهك هو الذي تضرعت إليه في ذلك الوقت.
لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ الشدة كما مر في الأنعام يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ البغي قصد الاستعلاء بالظلم من قولك بغى الجرح إذا ترامى إلى الفساد، وأصله الطلب فلهذا أكد المعنى بقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ قال في الكشاف:
إنما زاد هذا القيد احترازا من استيلاء المسلمين على أرض الكفرة بهدم دورهم وإحراق زروعهم كما فعل رسول الله ﷺ ببني قريظة. قلت: ويحتمل أن يراد بغير شبهة حق عندهم كقوله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ [البقرة: ٦١] من قرأ متاع بالنصب فما قبله جملة تامة أي إنما بغيكم وبال على أنفسكم وهو مصدر مؤكد كأنه قيل: يتمتعون متاع الحياة الدنيا.
ومن قرأ بالرفع فإما على أن التقدير هو متاع الدنيا بعد تمام الكلام، أو على أنه خبر وقوله: عَلى أَنْفُسِكُمْ صلة أي إنما بغيكم على أمثالكم والذين جنسهم جنسكم يعني بغى بعضكم على بعض منفعة الحياة الدنيا ولا بقاء لها والبغي من منكرات المعاصي
قال صلى الله عليه وسلم: «أسرع الخير ثوابا صلة الرحم وأعجل الشر عقابا البغي واليمين الفاجرة»
وروي «اثنتان يعجلهما الله في الدنيا: البغي وعقوق الوالدين»
وعن محمد بن كعب: ثلاث من كن فيه كن عليه: البغي والنكث والمكر. قال تعالى: إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أي لا يتهيأ لكم بغي بعضكم على بعض إلا أياما قلائل وهي مدة حياتكم مع قصرها وسرعة انقضائها ثُمَّ إلى ما وعدنا من المجازاة مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ وهو في هذا الموضع وعيد بالعقاب كقول الرجل في معرض التهديد سأخبرك بما فعلت. ثم ذكر مثلا لمن يبغي في الأرض ويغتر بالدنيا ويشتد تمسكه بها فقال: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي صفتها العجيبة الشأن كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ أي اشتبك بسبب هذا الماء
روي عن النبي ﷺ أنه قال: «سيد بنى دارا وصنع مائدة وأرسل داعيا فمن أجاب الداعي دخل الدار وأكل ورضي عنه السيد، ومن لم يجب لم يدخل ولم يأكل ولم يرض عنه السيد، فالله السيد والدار دار السلام والمائدة الجنة والداعي محمد صلى الله عليه وسلم» «١»
واتفقوا على أن دار السلام هي الجنة واختلفوا في سبب التسمية. فقيل: لأن السلام هو الله والجنة داره فالإضافة للتشريف، وإنما أطلق اسم السلام عليه تعالى لأنه سلم من الفناء والتغير ومن جميع سمات النقص والحدوث ومن الظلم والعجز والجهل وهو القادر على تخليص المضطرين عن المكاره والآفات، وكفى بدار أضافها الله تعالى لنفسه فضلا وشرفا وبهجة وسرورا. وقيل: سميت دار السلام لأن من دخلها سلم من الآفات والمخافات. وقيل:
لفشوّ السلام بينهم تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ [يونس: ١٠] وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ [الرعد: ٢٤] سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس: ٥٨] واعلم أن الدعوة عامة ولكن الهداية خاصة فلذلك قال وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ ومن هنا ذهب أهل السنة إلى أن الهداية والضلالة والخير والشر كلها بمشيئة الله تعالى وإرادته.
وقالت المعتزلة: المراد ويهدي من يشاء إلى إجابة تلك الدعوة ويعنون أن من أجاب الدعاء وأطاع واتقى فإن الله يهديه إليها. والمراد من الهداية الألطاف، ثم قسم أهل الدعوة إلى قسمين وبين حال كل طائفة فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ ولا بد من تفسير هذه الألفاظ الثلاثة: فعن ابن عباس أحسنوا أي ذكروا كلمة لا إله إلا الله. وذهب غيره إلى أن المراد إتيان الطاعات واجتناب المنهيات لأن الدرجات العالية لا تليق إلا بهم. وأما الحسنى فقال في الكشاف: المراد المثوبة الحسنى. وقال ابن الأنباري: العرب توقع هذه اللفظة على الخلة المحبوبة والخصلة المرغوب فيها، ولذلك ترك موصوفها. وأما الزيادة فحملها أهل السنة على رؤية الله لأن اللام في الحسنى للمعهود بين المسلمين من المنافع التي أعدها الله تعالى لعباده، فالزيادة عليها تكون مغايرة لها فما هي إلا الرؤية. وقالت المعتزلة: الزيادة يجب أن تكون من جنس المزيد عليه، ورؤية الله تعالى بعد تسليم جوازها ليست من جنس نعيم الجنة، فالمراد بها ما يزيد على المثوبة من التفضل كقوله:
لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر: ٣٠]. وزيف بأن الزيادة إذا كان المزيد عليه مقدرا بمقدار معين وجب أن يكون من جنسه كما لو قال الرجل لغيره: أعطيتك عشرة أمنان من الحنطة وزيادة. أما إذا كان غير مقدر كما لو قال: أعطيتك الحنطة وزيادة. لم يجب أن تكون الزيادة من جنس المزيد عليه. والمذكور في الآية لفظة الحسنى وهي الجنة وإنها مطلقة، فالزيادة عليها شيء مغاير لكل ما في الجنة.
وعن علي عليه السلام: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة.
وعن ابن عباس: الحسنى الجنة والزيادة عشر
هي أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول: ما تريدون أن أمطركم فلا يريدون شيئا إلا أمطرتهم. هذا شأن المنافع الحاصلة لهم، وأما أنها منافع خالصة عن الكدورات فأفاد ذلك بقوله: وَلا يَرْهَقُ أي لا يغشى وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ غبرة فيها سواد وَلا ذِلَّةٌ ولا أثر هوان وكسوف بال. ثم أشار إلى كون تلك المنافع الخالصة آمنة من الانقطاع بقوله:
أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وهذا معنى قول علماء الأصول «الثواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم». ثم بين حال الفريق الآخر بقوله: وَالَّذِينَ أي وجزاء الذين كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها أي جزاؤهم أن تجازى سيئة واحدة بسيئة مثلها لا يزاد عليها. ومن جوز العطف على عاملين مختلفين جوز أن يكون التقدير: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها. قالت المعتزلة: وفيه دليل على أن المراد بالزيادة في الآية المتقدمة الفضل، لأنه دل بترك الزيادة على السيئة على عدله فناسب أن يكون قد دل هناك بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله. وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ فإنهم حين ماتوا ناقصين خالين عن الملكات الحميدة كان شعورهم بذلك سببا لذلهم وهوانهم على أنفسهم، وهذا على قاعدة حكماء الإسلام أن الجهل سواد وظلمة كما أن العلم والمعرفة بياض ونور ومنه قول الشبلي رضي الله عنه:
كل بيت أنت ساكنه... غير محتاج إلى السرج
ومريض أنت عائده... قد أتاه الله بالفرج
ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي لا يعصمهم أحد من عذابه وسخطه، أو ما لهم من جهة الله ومن عنده من يعصمهم كما للمؤمنين. والتحقيق أنه لا عاصم من الله لأحد في الدنيا ولا في الآخرة إلا بإذن الله إلا أن هذا المعنى في الآخرة أظهر كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [غافر: ١٦] ثم بالغ في الكشف عن سواد وجوههم فقال:
كَأَنَّما أُغْشِيَتْ أي ألبست وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ من قرأ بسكون الطاء فمعناه البعض والطائفة ومُظْلِماً صفته. ومن قرأ بفتحها على أنه جمع قطعة فمظلما حال من الليل والعامل فيه إما معنى الفعل في مِنَ اللَّيْلِ أو أُغْشِيَتْ لأن قوله: مِنَ اللَّيْلِ صفة لقوله: قِطَعاً فكان إفضاء العامل إلى الموصوف كإفضائه الى الصفة قاله في الكشاف. واعلم أن جمعا من العلماء ذهبوا إلى أن المراد بقوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ هم الكفار لأن سواد الوجه من علامات الكفر بدليل قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ [آل عمران: ١٠٦] وقوله: وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ
[عبس: ٤٠- ٤٢] ولقوله بعدها وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ والضمير عائد إلى هؤلاء. ثم إنه وصفهم بالشرك. وقال الآخرون: اللفظ عام يتناول الكافر والفاسق إلا أن الآيات المذكورة مخصصة. ثم شرح بعض أحوال المشركين في القيامة فقال: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ منصوب بإضمار «اذكر» أو ظرف متعلق بتبلو أي في يوم كذا تبلو كل نفس. وحاصل الكلام أنه يحشر العابد والمعبود ليسألوا فيتبرأ المعبود من العابد خلاف ما كانوا يزعمون من قولهم هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وفيه إشارة إلى أن الممكن لا نسبة له إلى الواجب الحق، فإذا اتخذ الممكن معبودا برىء من ذلك في مقام لا ينفع إلا الصدق. قال في الكشاف: مَكانَكُمْ أي الزموا مكانكم لا تبرحوا حتى تنظروا ما نفعل بكم. وعند أبي علي هو اسم من أسماء الأفعال وحركته حركة بناء وهو كلمة وعيد عند العرب. وأَنْتُمْ لتأكيد الضمير في مَكانَكُمْ لسده مسد قوله:
«الزموا». وَشُرَكاؤُكُمْ عطف عليه. فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ففرقنا بينهم وقطعنا الوصل التي كانت بينهم في الدنيا. قيل: عين الكلمة «واو» لأنه من زال يزول. وإنما قلبت ياء لأن وزن الكلمة «فيعل» أي زيولنا مثل بيطره أعل إعلال سيد. وقيل: هي من زلت الشيء أزيله، فعينه على هذا ياء والوزن «فعل» ونظير زيلنا قوله: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [الآية: ٤٨] لأن حكم الله بأنه سيكون كالكائن وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ في صحة هذه الإضافة وجوه منها: أنهم جعلوا نصيبا من أموالهم لتلك الأصنام فهم شركاؤهم. ومنها أنهم متشاركون في الخطاب في قوله: مَكانَكُمْ ومنها أنهم أثبتوا هذه الشركة والشركاء.
وقيل: هم الملائكة لقوله: ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون وقيل: كل من عبد من دون الله. وقيل: الأصنام لأن هذا الخطاب مشتمل على التهديد وأنه لا يليق بالملائكة المقربين. وكيف تنطق هذه الأصنام؟ قيل: لأن الله يخلق فيهم الحياة والعقل والنطق. ثم هل يبقيهم أو يفنيهم؟ الكل محتمل ولا اعتراض لأحد عليه. وقيل: يخلق فيهم الكلام فقط. وهذا الخطاب تهديد في حق العابدين فهل يكون تهديدا في حق المعبودين؟ قالت المعتزلة: لا، لأنه لا ذنب للمعبودين ومن لا ذنب له يقبح من الله تهديده وتخويفه. وقالت الأشاعرة: لا يسأل عما يفعل. أما قول الشركاء ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ وهم كانوا قد عبدوهم فالمراد أنكم ما عبدتمونا بأمرنا وإرادتنا لقولهم:
فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً الآية. ومن أعظم أسباب الغفلة كونها جمادات لا حس لها ولا شعور. وقيل: لما في ذلك الموقف من الدهشة والحيرة فذلك الكذب يجري مجرى كذب الصبيان والمجانين والمدهوشين. وقيل: إنهم ما أقاموا لأعمال الكفار وزنا فجعلوها
والحاصل أنهم يرجعون عن الباطل ويعترفون بالحق حين لا ينفعهم ذلك.
التأويل:
وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ ذوق توبة وإنابة أو ذوق كشف وشهود مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ وهي الفسوق والأخلاق الذميمة وحجب الأوصاف إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا بإظهارها إلى غير أهلها بشرف النفس وطلب الجاه والقبول. قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً فيستدرجهم عن تلك المقامات إلى دركات البعد مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ في بر البشرية وبحر الروحانية، أو في بر العبودية وبحر الربوبية حَتَّى إِذا كُنْتُمْ في فلك جذبات العناية وَجَرَيْنَ بِهِمْ بهبوب نسيم شهود الجمال وَفَرِحُوا بالوصول والوصال جاءَتْها نكباء تجلى صفات الجلال وَجاءَهُمُ موج البلايا والمحن من أماكن النعم والبلاء موكل بالأنبياء ثم بالأولياء ثم الأمثل فالأمثل فَلَمَّا أَنْجاهُمْ فيه إشارة إلى أن أرباب الطلب لما وصلوا بجذبات الحق إلى شهود الجمال واستغراق لجج بحر الجلال، استقبلتهم عواصف العزة والكبرياء فيستدرجهم إلى البغي وهو الطلب في أرض ما سوى الحق غير الحق كَماءٍ أَنْزَلْناهُ من سماء القلب إلى أرض البشرية فَاخْتَلَطَ بِهِ الصفات المولدة من أرض البشرية مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ من الصفات الحميدة الإنسانية والذميمة البهيمية أَتاها حكمنا الأزلي لَيْلًا عند استيلاء ظلمات صفات النفس أَوْ نَهاراً عند بقاء ضوء الفيض الروحاني، لكنه بامتزاج القوة الخيالية والوهمية وقع في ورطة العقائد الباطلة كما لبعض الفلاسفة والمبتدعة. وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وهي مقام الفناء لأن صاحبه يسلم عن آفات الحجب أو مقام العلم والمعرفة لأن صاحبه يسلم عن آفة الاثنينية والجهالة وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بجذبات العناية إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ يؤدي إلى السير بالله في الله. لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى فالإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، والحسنى هي شواهد الحق والنظر إليه، والزيادة الجنة وما فيها من
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٣١ الى ٤١]
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (٣١) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)
وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (٣٦) وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١)
القراآت:
كلمات ربك وكذلك في آخر السورة على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر لا يهدي مثل يرمي: حمزة وعلي وخلف يَهْدِي بسكون الهاء وتشديد الدال: أبو جعفر ونافع غير ورش وعباس وأبو عمرو غير عباس بإشمام الفتحة قليلا يَهْدِي بكسر الهاء وتشديد الدال: عاصم غير يحيى وجبلة ورويس يهدي بكسرتين والتشديد: يحيى يهدي بفتحتين والتشديد: ابن كثير وابن عامر وورش وسهل ويعقوب غير رويس.
الوقوف:
يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ط اللَّهُ ج تَتَّقُونَ هـ ج ط رَبُّكُمُ الْحَقُّ ج ط للاستفهام مع الفاء إِلَّا الضَّلالُ ج ط تُصْرَفُونَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ ثُمَّ يُعِيدُهُ الأول ط تُؤْفَكُونَ هـ إِلَى الْحَقِّ ط لِلْحَقِّ ط أَنْ يُهْدى ج ط لما مر فَما لَكُمْ ص لحق الاستفهام الثاني تَحْكُمُونَ هـ ط إِلَّا ظَنًّا ط شَيْئاً ط يَفْعَلُونَ هـ الْعالَمِينَ هـ افْتَراهُ ط صادِقِينَ هـ تَأْوِيلُهُ ط الظَّالِمِينَ هـ لا يُؤْمِنُ بِهِ ط بِالْمُفْسِدِينَ هـ عَمَلُكُمْ ج لأن أَنْتُمْ مبتدأ والعامل واحد تَعْمَلُونَ هـ.
لما بين فضائح عبدة الأوثان أكدها بالحجج اللامعة والبراهين القاطعة من أحوال الرزق والموت والحياة والإبداء والإعادة والإرشاد والهداية، وقد بنى الحجج على الاستفهام وتفويض الجواب إلى المسئول ليكون أبلغ في إلزام الحجة وأوقع في النفوس.
فالحجة الأولى قوله: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ بإنزال الأمطار النافعة الموجبة لتولد الأغذية النباتية والحيوانية في الأرض بعد رعاية شرائط تربيتها وإنمائها وحفظها من العاهات. أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ خص الحاستين بالذكر لما في خلقهما وتسويتهما من الفطرة العجيبة،
وكان ﷺ يقول: «سبحان من بصّر بشحم وأسمع بعظم وأنطق بلحم»
ولما في تحصينهما من الآفات في المدد الطوال وهما لطيفان يؤذيهما أدنى شيء مزيد قدرة ورأفة. وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ الحيوان الماشي والطائر من النطفة والبيضة وقد مر سائر الأقوال في سورة الأنعام. وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ عمم بعد ما خصص لأن أقسام تدبيره تعالى في العالم العلوي والعالم السفلي وعالمي الغيب والشهادة أمور لا نهاية لها. وذكر كلها كالمتعذر. فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ وفيه دليل على أنهم كانوا يعبدون الأصنام بناء على أنها شفعاؤهم وأنها تقربهم إلى الله زلفى، ولكنهم كانوا مخطئين في هذا الاعتقاد فلهذا ختم الآية بقوله فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ الله الذي اعترفتم بأنه سبب فيضان جميع الخيرات فكيف أشركتم بعبادته الجمادات التي لا تقدر على نفع أو ضر.
فَذلِكُمُ الموصوف بالقدرة الكاملة والرحمة الشاملة اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ الثابت ربوبيته بالوجدان والبرهان. فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ «ذا» مزيدة و «ما» نافية أو استفهامية أو مجموع «ماذا» كلمة واحدة معناها أي شيء بعد الحق إِلَّا الضَّلالُ والمراد أنه لما ثبت وجود الواجب الحق كان ما سواه ممكنا لذاته باطلا دعوى الإلهية فيه، لأن واجب الوجود يجب أن يكون واحدا في ذاته وفي صفاته وفي جميع اعتباراته وإلا لزم افتقاره إلى ما انقسم إليه فلا يكون واجبا هف محال ولهذا ختم الآية بقوله: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر وتقعون في الضلال، إذ لا واسطة بين الأمرين، فمن يخطىء أحدهما وقع في الآخر. كَذلِكَ أي كما حق وثبت أن الحق بعده الضلال، أو كما حق أنهم مصروفون عن الحق فكذلك حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ. وتفسير الكلمة أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ على أنه بدل أي حق عليهم انتفاء الإيمان وقد علم الله منهم ذلك في الأزل، وأراد بالكلمة العدة بالعذاب وأنهم لا يؤمنون تعليل على حذف اللام. احتجت المعتزلة بمثل قوله تعالى: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ أن الصارف لو كان هو الله تعالى لم يصح منه هذا التعجيب والإنكار. وقالت الأشاعرة: قد تعلق علمه تعالى بأنهم لا يؤمنون كما قال: حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وتعلق خبره بأنهم لا يؤمنون وقدرته لم تتعلق بخلق الإيمان فيه بل بخلق الكفر
تكلم عنهم إذ لا يدعهم لحاجهم أن ينطقوا بكلمة الحق. وقوله: فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ كقوله:
فَأَنَّى تُصْرَفُونَ وقد مر في «المائدة». الحجة الثالثة قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي الآية. الاستدلال على وجود الصانع بالخلق أوّلا ثم بالهداية عادة مطردة في القرآن، فحكى عن الخليل ﷺ الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ [الشعراء: ٧٨] وعن موسى رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥] وأمر محمدا ﷺ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [الأعلى: ١- ٣] والسر فيه أن المقصود من خلق الجسد حصول الهداية للروح وارتسام العلوم والمعارف فيه بإرشاد الحق سبحانه إذ الطرق المنحرفة كثيرة والظنون والأغاليط غير محصورة، فتحصيل الوسط الحقيقي لا يمكن إلا بتوفيقه وهدايته، ولا مدخل في ذلك بالاستقلال لملك أو إنسي أو جني فضلا عن الأصنام التي هي في أدنى مراتب الوجود لأنها جمادات لا شعور لها هذا تقرير الحجة الثالثة. وقال الزجاج: يقال: هديت للحق وإلى الحق بمعنى، فجمع بين العبارتين.
ويقال: هدى بنفسه بمعنى اهتدى كما يقال شرى بمعنى اشترى ومنه قوله: أَمَّنْ لا يَهِدِّي وسائر القراآت أصلها «يهتدي» فأدغم وفتحت الهاء بحركة التاء أو كسرت لالتقاء الساكنين، وقد كسرت الياء لاتباع ما بعدها. قيل: هذه الشركاء جمادات فكيف قال في حقها إِلَّا أَنْ يُهْدى وأجيب بوجوه منها: أن المراد في الآية رؤساؤهم وأشرافهم كقوله:
اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً [التوبة: ٣١] والمراد أن الله سبحانه هو الذي يهدي الخلق إلى الدين الحق بالدلائل النقلية وبما يمكنهم منه من الدلائل العقلية، وأما هؤلاء الدعاة والرؤساء فإنهم لا يقدرون على أن يهدوا غيرهم إلا إذا هداهم الله. ومنها أنهم لما اتخذوها آلهة وصفهم الله تعالى بصفة من يعقل كقوله: إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ [فاطر: ١٤] ومنها أن ذلك بالفرض والتقدير يعني أنها لو كانت بحيث يمكنها أن تهتدي فإنها لا تهدي غيرها إلا أن تهدى. ومنها أن البنية عندنا ليست بشرط في صحة الحياة
فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ.
ثم بين ما بنوا عليه أمر دينهم فقال: وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا أي في إقرارهم بالله لأنه قول غير مستند إلى برهان عندهم بل سمعوه من أسلافهم أو في قولهم للأصنام أنها آلهة أو شفعاء، وعلى هذا فالمراد بالأكثر الجميع. إِنَّ الظَّنَّ في معرفة الله وفيما يجب تحقيقه لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ وهو العلم والتحقيق شَيْئاً من الغناء. والمعنى أن الظن لا يقوم مقام العلم في شيء من الأحوال. ثم أوعدهم على اتباعهم الظن وتقليد الآباء بقوله:
إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ. وتمسك نفاة القياس بالآية ظاهر من قبل أن القياس لا يفيد إلا الظن، وأجيب بأن التمسك بالعمومات لا يفيد إلا الظن وهذه الآية من العمومات فلم يجب اتباعها بزعمكم، وما أفضى ثبوته إلى نفيه كان متروكا. ولما فرغ من دلائل التوحيد شرع في إثبات النبوة فقال: ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى أي افتراء من دون الله أو كلمة «أن» بمعنى اللام أي ما ينبغي له وما استقام أن يكون مفترى. والحاصل أن وصفه ليس وصف شيء يمكن أن يفترى به على الله لأنه معجز لا يقدر البشر على إتيان مثله وإنما القادر عليه هو الله تعالى. وَلكِنْ كان تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب المنزلة لإعجازه دونها فهو عيار عليها شاهد بصحتها، ونفس هذا التصديق أيضا معجز لأن أقاصيصه موافقة لما في كتب الأولين مع أنه لم يتعلم قط ولم يتلمذ، ولأن بشارته جاءت في تلك الكتب على وفق دعواه، ولأنه يخبر عن الغيوب المستقبلة فيقع مطابقا فظهر أن القرآن معجز من قبل اشتماله على الغيوب الماضية والمستقبلة. أما أنه معجز من جهة اشتماله على العلوم الجمة فذلك قوله: وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ أي يبين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع كقوله: كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ [النساء: ٢٤] قال في الكشاف قوله: لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ داخل في حيز الاستدراك كأنه قال: ولكن كان تصديقا وتفصيلا منتفيا عنه الريب كائنا من رب العالمين، وجوز أن يكون مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ متعلقا بتصديق وتفصيل ولا رَيْبَ فِيهِ اعتراض كقولك: زيد لا شك فيه كريم.
والمعنى ولكن كان تصديقا من رب العالمين وتفصيلا منه لا ريب فيه. ثم أعاد بيان إعجازه مرة أخرى فقال مستفهما على سبيل الإنكار أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إن كان الأمر
التأويل:
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ أي من ينزل من سماء النفس مطر الهواجس ويخرج من أرض النفس نبات الأفعال والأعمال، وينزل من سماء القلب مطر أثار فيض الروح ويخرج من أرض النفس نبات الصفات البشرية والحيوانية، أو ينزل من سماء الروح مطر فيض الروح ويخرج من أرض القلب نبات الأوصاف الحميدة، أو ينزل من سماء القدرة مطر تجلي الصفات والفيض الرباني ويخرج من أرض الروح المحبة والأخلاق الإلهية، أو ينزل من سماء الذات مطر تجلي الصفات ويخرج من أرض الوجود نبات الفناء في الله وثمرات البقاء بالله أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ فيكون سمعه الذي به يسمع، وبصره الذي به يبصر. يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ النفس من القالب والقلب من الروح والروح من القلب وبالعكوس وَمَنْ يُدَبِّرُ أمر الإنسان بالتربية من التراب إلى أن يصل إلى رب الأرباب.
فسيقولون هذه الأحوال كلها من الله فقل لمن بلغ نظره إلى هذه المراتب العلية وإنها عتبة باب التوحيد والمعرفة أَفَلا تَتَّقُونَ بالله عن غيره لتدخلوا بيت الوحدة كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ هكذا جرى القلم في الأزل على الذين خرجوا عن قبول فيض النور حين رش على الخلق من نوره. وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ وتفصيل الجملة التي هي مكتوبة عنده في أم الكتاب وهو علمه القائم بذاته. وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ الذين أفسدوا استعدادهم الفطري والله أعلم.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٤٢ الى ٦٠]
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (٤٦)وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)
يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٦٠)
القراآت:
أَفَأَنْتَ بتليين الهمزة ونحوه: الأصبهاني عن ورش وحمزة في الوقف.
وَلكِنَّ النَّاسَ بالتخفيف والرفع: حمزة وعلي وخلف يَحْشُرُهُمْ بالياء: حفص.
الباقون بالنون نرينك أو نتوفينك بالنون الخفيفة: رويس آلان بوزن «عالان» بحذف الهمزة التي بعد اللام وإلقاء حركتها على اللام حيث كان: أبو جعفر ونافع وزمعة وحمزة في الوقف رَبِّي إِنَّهُ بفتح الياء: أبو عمرو وأبو جعفر ونافع. فَلْيَفْرَحُوا بياء الغيبة تجمعون بتاء الخطاب: ابن عامر ويزيد. وقرأ زيد على ضده، وقرأ رويس كليهما على الخطاب. الباقون على الغيبة فيهما.
الوقوف:
إِلَيْكَ ط لا يَعْقِلُونَ هـ إِلَيْكَ ط لا يُبْصِرُونَ هـ يَظْلِمُونَ هـ بَيْنَهُمْ ط مُهْتَدِينَ هـ يَفْعَلُونَ هـ رَسُولٌ ج ط لا يُظْلَمُونَ هـ صادِقِينَ هـ ما
ط أَجَلٌ ط وَلا يَسْتَقْدِمُونَ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ آمَنْتُمْ بِهِ ط، تَسْتَعْجِلُونَ هـ الْخُلْدِ ج ط للاستفهام مع أن القائل واحد تَكْسِبُونَ هـ أَحَقٌّ هُوَ ط بِمُعْجِزِينَ هـ لَافْتَدَتْ بِهِ ط الْعَذابَ ج ط للعطف على أَسَرُّوا دون رَأَوُا يُظْلَمُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط لا يَعْلَمُونَ هـ تُرْجَعُونَ هـ لِلْمُؤْمِنِينَ هـ فَلْيَفْرَحُوا ط يَجْمَعُونَ هـ وَحَلالًا ط تَفْتَرُونَ هـ الْقِيامَةِ ط لا يَشْكُرُونَ هـ.
التفسير:
إن الإنسان إذا قوي بغضه لإنسان آخر وعظمت نفرته عنه صارت نفسه متوجهة إلى طلب مقابحه في كلامه معرضة عن جهات محاسنه فيه، وكما أن الصمم في الأذن معنى ينافي حصول إدراك الصوت، والعمى في العين أمر ينافي حصول إدراك الصورة، فكذلك حصول هذا البغض الشديد يضاد وقوف الإنسان على محاسن من يعاديه، فبين الله سبحانه في أولئك الكفار من بلغت حاله في النفرة والعداوة إلى هذا الحد يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن وعلمت الشرائع ولكنهم لا يسمعون ولا يقبلون وينظرون إليك يعاينون أدلة الصدق وأعلام النبوة ولكنهم لا يتبصرون ولا يصدقون. قال أهل المعاني: المستمع إلى القرآن كالمستمع إلى النبي صلّى الله عليه وسلم بخلاف النظر. فكان في المستمعين كثرة فجمع ليطابق اللفظ المعنى ووحد النظر حملا على اللفظ إذ لم يكثروا كثرتهم. ثم قال: أتطمع أن تقدر على إسماع الصم ولو انضم إلى صممهم عدم عقولهم، أو تقدر على هداية العمي ولا سيما إذا قرن بفقد البصر فقد البصيرة، إنما يقدر على ردهم إلى حالة الكمال خالق القدر والقوى وحده. وهذا الحصر إنما يفهم من قوله: أَفَأَنْتَ. والمقصود من هذا الكلام تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلم فإن الطبيب إذا رأى مريضا لا يقبل العلاج أصلا أعرض عنه ولم يستوحش من ذلك لأن التقصير من المزاج لا من الصنعة والحذق. ثم أكد عدم قابليتهم في الفطرة مع إشارة إلى ما يلحقهم من الوعيد يوم القيامة بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ الآية. فسرها المعتزلة بأن المراد من نفي الظلم أنه ما ألجأ أحد إلى هذه القبائح والمنكرات ولكنهم باختيار أنفسهم أقدموا عليها. وأجاب الواحدي عنه بأنه إنما نفى الظلم عن نفسه لأنه يتصرف في ملك نفسه فلا اعتراض عليه. وإنما قال: وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ لأن الفعل منسوب إليهم بسبب الكسب. والتحقيق أنه نفى الظلم عنه لأن وقوع فريق القهر ضروري، ونسب الظلم إليهم لخصوص وقوعهم في الطريق وفيه دقة. ثم ذكر وعيد الكفار فقال: وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ أي واذكر يوم يحشرهم كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا في محل النصب على الحال أي مشبهين بمن لم يلبث إِلَّا ساعَةً وقوله يَتَعارَفُونَ إما حال أخرى أو بيان لقوله: كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا لأن التعارف لا يبقى مع طول العهد. ويجوز أن يكون قوله:
جَمِيعاً ليشمل الفريقين صريحا والله أعلم. قوله: قَدْ خَسِرَ استئناف فيه معنى التعجب كأنه قيل: ما أخسرهم! وفيه شهادة من الله على خسرانهم. وجوز في الكشاف أن يكون على إرادة القول أي يتعارفون بينهم قائلين ذلك. ثم أكد خسرانهم بقوله: وَما كانُوا مُهْتَدِينَ أي في رعاية مصالح هذه التجارة لأنهم أعطوا الكثير الشريف الباقي وقنعوا بالقليل الخسيس الفاني كمن رأى زجاجة خسيسة فظنها جوهرة نفيسة فاشتراها بكل ماله، فإذا عرضها على الناقدين خاب سعيه وفات أمله.
ثم سلى رسوله صلّى الله عليه وسلم فقال: وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ وجوابه محذوف. وقوله: فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ جواب أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ والمعنى وإما نرينك في أعدائك بعض الذي نعدهم في الدنيا فذاك، أو نتوفينك قبل أن تدركه فنحن نريكهم في الآخرة لأن مرجع الكل إلينا. ولقد صدق الله وعده فقد أراه في هذه الدار خزيهم وقهرهم بالقتل والأسر والاستعلاء عليهم والاستيلاء على ديارهم وأموالهم، والذي سيريه في الآخرة أكثر وأدوم يدل عليه لفظ «ثم» لتبعيد الرتبة في قوله: ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ ولا يخفى نتيجة هذه الشهادة من السخط والعقاب، ويحتمل أن يراد إنطاق جوارحهم يوم القيامة جعل ذلك بمنزلة شهادة الله. ثم بيّن أنه ما أهمل أمة من الأمم من رسول في وقت من الأوقات فقال: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ وزمان الفترة محمول على ضعف دعوة النبي صلّى الله عليه وسلم المتقدم ووقوع موجبات التخليط في شرعه. فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ فبلغ فكذبه قوم وصدقه آخرون قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ أي حكم وفصل بالعدل فأنجى الرسول والمصدقون وعذب المكذبون فهذه الآية نظيرة قوله:
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء: ١٥] ويحتمل أن يقال: المراد ولكل أمة من الأمم يوم القيامة رسول ينسبون إليه ويدعون به فكأنه تعالى يقول: أنا شهيد على
٣٤] فلم يحسن الجمع بين الفاءين. ثم زيف رأيهم في استعجال العذاب مرة أخرى فقال:
قُلْ أَرَأَيْتُمْ أي أخبروني إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أي في حين الغفلة والراحة. أَوْ نَهاراً حين الاشتغال بطلب المعاش كما مر في أول الأعراف ماذا يَسْتَعْجِلُ أي شيء يستعجل مِنْهُ أي من العذاب الْمُجْرِمُونَ وإنما لم يقل «ماذا يستعجلون منه» دلالة على موجب ترك الاستعجال وهو الإجرام، لأن حق المجرم أن يخاف التعذيب على إجرامه وإن أبطأ مجيئه فضلا عن أن يستعجله. و «من» للبيان أو للابتداء والمعنى أن العذاب كله مر المذاق موجب للنفار فأيّ شيء يستعجلون منه وليس شيء منه يوجب الاستعجال؟ أو المراد التعجب كأنه قيل: أيّ شيء هائل شديد يستعجلون؟ وقيل: الضمير في «منه» لله تعالى وجواب الشرط محذوف وهو تندموا على الاستعجال أو تعرفوا الخطأ فيه. و «ماذا» الجملة مفعول أَرَأَيْتُمْ ويجوز أن يكون جوابا للشرط كقولك إن أتيتك ماذا تطعمني، ثم تتعلق الجملة ب أَرَأَيْتُمْ ويجوز أن يكون اعتراضا وجواب الشرط ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ والمعنى إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان، ودخول حرف الاستفهام على «ثم» كدخوله على الواو والفاء إلا أنه على إرادة القول أي قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب آلْآنَ آمنتم به وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ على جهة التكذيب والإنكار
ثم حكى عنهم أنهم بعد هذه البيانات استفهموا تارة أخرى عن تحقيق العذاب فقال:
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ وهو استخبار على جهة الاستهزاء والإنكار أي أحق ما تعدنا به من نزول العذاب في العاجل؟ وهذا السؤال جهل محض لأنه تقدم ذكره مع الجواب مرة واحدة فلا وجه للإعادة، ولأنه قد تبين بالبراهين القاطعة صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم فيلزم القطع بصحة كل ما يخبر عن وقوعه. وقيل: المراد أحق ما جئت به من القرآن والشرائع؟ وقيل: أي ما تعدنا من البعث والقيامة؟ فأمره الله تعالى أن يجيبهم بقوله: قُلْ إِي وَرَبِّي ومعناه نعم ولكنه مستعمل مع القسم البتة. وفائدة هذا القسم في جوابهم أن يكون قد أبرز الكلام معهم على الوجه المعتاد بينهم استمالة لقلوبهم. ومن الظاهر أن من أخبر عن شيء وأكده بالقسم فقد أخرجه عن حد الهزل وأدخله في باب الجد. فقد يكون هذا القدر مقنعا إذا لم يكن الخصم ألد. ثم أكد مضمون المقسم عليه بقوله وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين العذاب.
والغرض التنبيه على أن أحدا لا يدافع نفسه عما أراد الله وقضى. ثم زاد في التأكيد بقوله:
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ الآية. وقد مر مثله في «آل عمران» و «المائدة». وقوله: ظَلَمَتْ صفة لنفس. أما قوله: وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ فقد قيل: الإسرار بمعنى الإظهار والهمزة للسلب أي أظهروا الندامة حينئذ لضعفهم وليس هناك تجلد. والمشهور أنه الإخفاء وسببه أنهم بهتوا حين عاينوا ما سلبهم قواهم فلم يطيقوا صراخا ولا بكاء، أو أخفوا الندامة من سفلتهم وأتباعهم حياء منهم وخوفا من توبيخهم. وهذا التزوير في أول ما يرون العذاب، أما عند إحاطة النار بهم فلا يبقى هذا التماسك، أو أراد بالإخفاء الإخلاص لأن من أخلص في الدعاء أسره، وفيه تهكم بهم وبإخلاصهم لأنهم أتوا بذلك في غير وقته وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ قيل: أي بين المؤمنين والكافرين. وقيل: بين الرؤساء والأتباع، وقيل: بين الكفار بإنزال العقوبة عليهم. وقيل: بين الظالمين من الكفار والمظلومين منهم فيكون في
ثم ذكر آيتين أن له جميع ما قرر بحكم المالكية والقدرة على الإحياء والإماتة والإبداء والإعادة. وقيل: في وجه النظم أنه لما ذكر حديث الافتداء بيّن أنه ليس للظالم شيء يفتدي به فإن كل الأشياء ملكه وملكه. وقيل: إنه لما أقسم على حقية ما جاء به النبي وكان دليلا إقناعيا أراد أن يصححها بالبرهان النير فذكر أن كل ما في هذا العالم من نبات وحيوان وجسد وروح وظلمة ونور وعلوي وسفلي بسيط ومركب فهو ملكه، فلكونه قادرا على جميع الممكنات يقدر على إيصال الرحمة إلى أوليائه والعذاب إلى أعدائه، ولكونه منزها عن النقائص والآفات يكون بريئا عن الخلف في الوعد والإيعاد. وفي تصدير الكلام بكلمة «ألا» تنبيه للغافلين وإيقاظ للنائمين وتقريع للناظرين في الأسباب الظاهرة القائلين: البستان للأمير، والدار للوزير، والغلام لزيد والجارية لعمرو، ولا يعلمون أن كلها عوار وودائع.
ولا بد يوما أن ترد الودائع واعلم أن الطريق إلى إثبات نبوة الأنبياء بأمور أحدها: إظهار المعجزة على يده مطابقا لدعواه، وقد قرره الله سبحانه في هذه السورة على أحسن الوجوه حيث قال: وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى إلى تمام الآيتين. والثاني أن نعلم بعقولنا أن الاعتقاد الحق والعمل الصالح ما هو فكل من جاء ودعا الخلق إلى ذلك وادعى الرسالة وكان لنفسه قوّة تكميل الناقصين غلب على ظننا أنه النبي الحق، فأشار سبحانه إلى هذا الطريق بقوله:
قل يا أَيُّهَا النَّاسُ الآية. فوصف القرآن بصفات أربع: الأولى كونه موعظة والمراد بها الزجر عما لا ينبغي كالطبيب ينهى المريض أوّلا عما يضره. الثانية كونه شفاء لما في الصدور لحصول العقائد الحقة والأخلاق الحميدة فيها بدل أضدادها كالطبيب يعيد الصحة بدل المرض والأخلاط المحمودة بدل الأخلاط الفاسدة بالمعالجات الصائبة والأدوية النافعة. الثالثة حصول الهدى بسببه وذلك أنه إذا زالت الملكات الرديئة التي طبيعتها الظلمة وصارت مرآة النفس مصقولة محاذية لعالم القدس انطبع فيها نقش الملكوت وتجلى لها قدس اللاهوت. الرابعة كونه رحمة للمؤمنين وذلك بأن تصير النفس البالغة إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية بحيث تفيض أنوارها على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام هذا العالم. وإنما خص المؤمنين بهذه الرحمة لأن كل روح لم يتوجه إلى خدمة أرواح الأنبياء المطهرين لم ينتفع بأنوارهم كما أن كل جرم لم يقع في مواجهة قرص الشمس لا يستضيء بنورها. والحاصل أن الموعظة إشارة إلى تطهير ظواهر الخلق عما لا ينبغي وهو الشريعة، والشفاء إشارة إلى تطهير الأرواح عن العقائد الفاسدة
ولما أرشد سبحانه إلى الطريق الموصل إلى السعادات الباقية الروحانية ذكر أنها هي التي يجب أن يكمل الفرح بحصولها دون السعادات الفانية الجسمانية فقال: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ قال في الكشاف: أصل الكلام بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا والتكرير للتقرير والتأكيد، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا فحذف أحد الفعلين لدلالة الآخر عليه. والفاء داخلة لمعنى الشرط كأنه قيل: إن فرحوا بشيء فليخصوهما بالفرح، وجوز أن يراد بفضل الله وبرحمته فليعتنوا فبذلك فليفرحوا، وأن يراد قد جاءتكم موعظة بفضل الله وبرحمته فبذلك أي بمجيئها فليفرحوا. وعلى هذا يكون قُلْ اعتراضا. ومن قرأ بتاء الخطاب فمعناه على ما نقل عن زيد بن ثابت فبذلك فلتفرحوا يا أصحاب محمد هو خير مما يجمع الكفار، ونسبت هذه القراءة إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وهو الأصل والقياس لأنه أدل على الأمر بالفرح وأشد تحريضا به.
وإنما قلنا إنه الأصل لأن حكم الأمر في المخاطب والغائب واحد إلا أنه خفف أمر المخاطب بحذف اللام وبحذف حرف المضارعة لكثرة الاستعمال فاضطروا إلى همزة الوصل. ومن قرأ تجمعون بتاء الخطاب فإنه عنى المخاطبين والغائبين جميعا إلا أنه غلب الخطاب كما يغلب التذكير، أو كأنه أراد المؤمنين وفيه حث لهم على ترجيح الجواذب العقلية الروحانية على النوازع النفسانية الجسدانية لأنه لا معنى لهذه اللذات الجسمانية إلا دفع الآلام، والمعنى العدمي لا يستحق الفرح به، وبتقدير أن تكون صفات ثبوتية إلا أن التضرر بآلامها أقوى من الانتفاع بلذاتها فلا نسبة للذة الوقاع- وهي أقوى اللذات- إلى ألم القولنج وسائر الآلام القوية. وأيضا إن مداخل اللذات الجسمانية معظمها البطن والفرج، ومداخل الآلام كل جزء من أجزاء البدن. وأيضا اللذات الجسمانية لا بقاء لها مثلا إذا زال ألم الجوع زال الالتذاذ بالأكل، وكل ما لا بقاء له لا يشتد فرح العاقل بحصوله، ولو لم يحصل في لذة الأكل والوقاع إلا إتعاب الحواس والجوارح في مقدماتها ولواحقها لكفى.
ومن المعلوم أن الفرح الحاصل بحدوث الولد لا يعادل الحزن الواقع عند موته وفيه قال المعري:
إن حزنا في ساعة الموت ضعا | ف سرور في ساعة الميلاد |
وعن أبيّ بن كعب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلا قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فقال: بكتاب الله والإسلام.
ومثله ما روي عن أبي سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته أن جعلكم من أهله. ثم أشار إلى طريق ثالث في إثبات النبوة فقال: قُلْ أَرَأَيْتُمْ الآية. وتقريره أنكم تحكمون بحل بعض الأشياء وبحرمة بعضها فإن كان هذا لمجرد التشهي فذلك طريق باطل مهجور بالاتفاق لأدائه إلى التنازع والتشاجر واختلاف الآراء وافتراق الأهواء، وإن كان لأنه حكم الله فيكم فبم عرفتم ذلك فإن كان بقول رسول أرسله إليكم فقد اعترفتم بصحة النبوة وإلا كان افتراء على الله. وفي الآية أيضا إشارة إلى فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم من تحريم السوائب والبحائر وقولهم: هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ [الأنعام: ١٣٨] وغير ذلك. وما أَنْزَلَ الجملة في محل الرفع بالابتداء وخبره آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ وقُلْ مكرر للتأكيد والرابط محذوف، ومجموع المبتدأ والخبر متعلق ب أَرَأَيْتُمْ والمعنى أخبروني الذي أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراما وحلالا آلله أذن لكم في تحريمه وتحليله أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ وعن الزجاج أن «ما» في ما أَنْزَلَ بمعنى الاستفهام منصوبا ب أَنْزَلَ وأنه مع معموله مفعول أَرَأَيْتُمْ معناه أخبرونيه. وعلى هذا يكون قُلْ آللَّهُ كلاما مستأنفا. ومعنى أنزل خلق وأنشأ كقوله: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ [الزمر: ٦] وذلك أن كل ما في الأرض من زرع أو ضرع فإنه بسبب الماء النازل من السماء. قال في الكشاف: ويجوز أن تكون الهمزة في آللَّهُ للإنكار و «أم» منقطعة بمعنى «بل» أتفترون على الله تقريرا للافتراء. ثم قال: وَما ظَنُّ الَّذِينَ يعني أي شيء ظنهم في ذلك اليوم وما يصنع بهم فيه؟ وهو في صورة الاستعلام ولكن المراد تعظيم وعيد من يفتري على الله حيث أبهم أمره وكفى به زاجرا للمفتي في الأحكام بغير علم فليتق الله وليصمت لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ إذ أنعم عليهم بالعقل ورحمهم بإرسال النبي وتعليم الشرائع وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعمة بجحد نبيه أو مخالفته.
التأويل:
أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ صم آذان القلوب أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ عمي أبصار البصائر. ويوم نحشرهم حشر العوام خروج أجسادهم من القبور إلى المحشر، وحشر الخواص خروج أرواحهم الأخروية من قبور أجسادهم الدنيوية بالسير والسلوك، وحشر الأخص خروجهم من قبور الأنانية الروحانية إلى هوية الربانية كما قال: يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ [مريم: ٨٥] كأن لم يلبثوا إلا ساعة من النهار لأنه لا نسبة لمدة الدنيا إلى ما بين الأزل والأبد. يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرفون تفاوت مقامات كل صنف من
قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ أي أقسم بربك الذي يريك أن وقوع الأمور الأخروية حق لأنك عبرت على الجنة والنار ليلة المعراج ظلمت بإفساد الاستعدادات. أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ الأرواح وأرض القلوب والنفوس أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ لأهل السعادة ولأهل الشقاوة في الأزل حَقٌّ... هُوَ يُحيِي قلوب بعضهم بالمعرفة وَيُمِيتُ قلوب آخرين بالجهل، أو يحيي بالنور ويميت بالظلمة، أو يحيي بصفة الجمال ويميت بصفة الجلال يا أَيُّهَا النَّاسُ يا أهل النسيان قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ هي خطاب أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف: ١٧٢] وهو داء العشق وشفاء من ذلك الداء وهو توفيق إجابة بَلى لِما فِي الصُّدُورِ وهو القلب فإنها درة صدف الصدر وهدى عناية خاصة إذ الدعوة عامة والهداية خاصة. ورحمة اتصال إمداد الفيض إلى أن يبلغ غاية الكمال ويفوز بالوصول والوصال قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وهو إسماع الخطاب ورحمته وهو الإبقاء على مدلول الخطاب فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يجمعه أهل الدنيا في دنياهم ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ القلوب والأرواح فضلا عن النفوس والأشباح من الواردات والشواهد فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً على أنفسكم وَحَلالًا على غيركم أي حدثت أنفسكم بأن تحصيل هذه السعادات ونيل تلك الكرامات ليس من شأننا وإنما هو من شأن الأنبياء وخواص الأولياء قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أن تعرضوا عن هذه المقامات وتحيلوها إلى غيركم وتركنوا إلى الدنيا وزخارفها أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ بأن الدعوة اختصت بهم دوننا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بتسوية الاستعداد الفطري.
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٦١ الى ٧٠]
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)
شَأْنٍ بغير همز حيث كان: أبو عمرو غير شجاع والأعشى ويزيد والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف يَعْزُبُ بالكسر حيث كان: علي. الباقون بالضم. وَلا أَصْغَرَ وَلا أَكْبَرَ بالرفع فيهما: حمزة وخلف وسهل ويعقوب والمفضل.
الآخرون بالنصب.
الوقوف:
تُفِيضُونَ فِيهِ ط مُبِينٍ هـ يَحْزَنُونَ هـ ج لأن الَّذِينَ يصلح صفة ل أَوْلِياءَ ويصلح نصبا أو رفعا على المدح فيوقف على يَتَّقُونَ أو مبتدأ خبره هُمُ الْبُشْرى
فلا يوقف على يَتَّقُونَ فِي الْآخِرَةِ
طكَلِماتِ اللَّهِ
طْعَظِيمُ
هـ ط لأنه لو وصل لأوهم أن الضمير عائد إلى أَوْلِياءَ وقول الأولياء لا يحزن الرسول.
قَوْلُهُمْ م لئلا يوهم أن قوله: إِنَّ الْعِزَّةَ مقول الكفار. جَمِيعاً ط الْعَلِيمُ هـ الْأَرْضِ ط شُرَكاءَ ط يَخْرُصُونَ هـ مُبْصِراً ط يَسْمَعُونَ هـ سُبْحانَهُ ط الْغَنِيُّ ط وَما فِي الْأَرْضِ ط بِهذا ط ما لا تَعْلَمُونَ هـ لا يُفْلِحُونَ هـ ط، يَكْفُرُونَ هـ.
التفسير:
لما بين فساد طريقة الكفار في عقائدهم وأحكامهم بيّن كونه سبحانه عالما بعمل كل أحد وبما في قلبه من الدواعي والصوارف والرياء والإخلاص وغير ذلك فقال:
وَما تَكُونُ يا محمد فِي شَأْنٍ أي أمر من الأمور. وأصله الهمز بمعنى القصد من شأنت شأنه إذا قصدت قصده. قال ابن عباس: أي في شأن من أعمال البر. وقال الحسن: في شأن الدنيا وحوائجها و «ما» في وَما تَكُونُ وما يتلوا نافية والضمير في مِنْهُ إما لله عز وجل أي نازل من عنده، وإما للشأن لأن تلاوة القرآن شأن من شؤون رسول الله صلّى الله عليه وسلم بل هو معظم شأنه ولهذا أفرد بالذكر كقوله: وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ [البقرة: ٩٨] وإما للقرآن والإضمار قبل الذكر تفخيم له كأنه قيل: وما تتلو من التنزيل من قرآن لأن كل جزء منه قرآن. ثم عمم الخطاب فقال: وَلا تَعْمَلُونَ أيها المكلفون مِنْ
أيّ عمل كان إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً شاهدين رقباء والجمع للتعظيم أو لأن المراد الملائكة الموكلون إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ الإفاضة الشروع في العمل على جهة الانصباب والاندفاع ومنه قوله: فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ [البقرة: ١٩٨] قيل: شهادة الله علمه فيلزم أنه لا يعلم الأشياء إلا عند وجودها. والجواب أن الشهادة علم خاص ولا يلزم منه امتناع تقدم العلم المطلق على الشيء كما لو أخبرنا الصادق أن زيدا يفعل كذا غدا فنكون عالمين بذلك لا شاهدين. ثم زاد في التعميم فقال: وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ أي لا يبعد ولا يغيب ومنه كلأ عازب أي بعيد، والرجل العزب لبعده عن الأهل. ومعنى مِثْقالِ ذَرَّةٍ قد مر في قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [النساء: ١٤٠]. وذلك في سورة النساء. والمقصود أنه لا يغيب عن علمه شيء أصلا وإن كان في غاية الحقارة. وإنما قال هاهنا فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ خلاف ما في سورة سبأ وهو المعهود في القرآن لأن الكلام سيق لشهادته على شؤون أهل الأرض فناسب أن يقدم ذكر ما في الأرض، هذا بعد تسليم أن الواو تفيد الترتيب. ثم بالغ في تعميم علمه فقال: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ من قرأ بالنصب على نفي الجنس أو بالرفع على الابتداء ليكون كلاما برأسه فلا إشكال، وأما من جعله منصوبا معطوفا على لفظ مثقال لأنه في موضع الجر بالفتح لامتناع الصرف، أو جعله مرفوعا معطوفا على محل مِنْ مِثْقالِ لأنه فاعل يَعْزُبُ فأورد عليه الإشكال وهو أنه يصير تقدير الآية لا يعزب عنه شيء في الأرض ولا في السماء إلا في كتاب، ويلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجا عن علم الله وإنه محال.
ويمكن أن يجاب عنه بأن الأشياء المخلوقة قسمان: قسم أوجده الله تعالى ابتداء من غير واسطة كخلق الملائكة والسموات والأرض، وقسم آخر أوجده بواسطة القسم الأول من حوادث عالم الكون والفساد، ولا شك أن هذا القسم الثاني متباعد في سلسلة العلية والمعلولية عن مرتبة واجب الوجود، فالمراد من الآية أنه لا يبعد عن مرتبة وجوده شيء في الأرض ولا في السماء إلا هو في كتاب مبين. وهو كتاب أثبت فيه صور تلك المعلومات، والغرض الرد على من يزعم أنه تعالى غير عالم بالجزئيات. أو نقول: إن الاستثناء منقطع بمعنى لكن هو في كتاب مبين. وذكر أبو علي الجرجاني صاحب النظم أن «إلا» بمعنى الواو على أن الكلام قد تم عند قوله: وَلا أَكْبَرَ ثم وقع الابتداء بكلام آخر فقال: إِلَّا فِي كِتابٍ أي وهو أيضا في كتاب مُبِينٍ والعرب تضع «إلا» موضع واو النسق كثيرا ومنه قوله: إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ إِلَّا مَنْ ظَلَمَ [النمل: ١١] يعني ومن ظلم. وقوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا يعني والذين ظلموا.
وعن سعيد بن جبير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم سئل من أولياء الله؟ فقال: هم الذين يذكر الله برؤيتهم.
يعني أن مشاهدتهم تذكر أمر الآخرة لما فيهم من آثار الخشوع والإخبات والسكينة.
وعن عمر سمعت النبي صلّى الله عليه وسلم يقول: «إن من عباد الله عبادا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله. قالوا: يا رسول الله أخبرنا من هم وما أعمالهم فلعلنا نحبهم.
قال: هم قوم تحابوا في الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فو الله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس. ثم قرأ الآية» «١».
يحكى أن إبراهيم الخواص كان في البادية ومعه واحد يصحبه، فاتفق في بعض الليالي ظهور حالة قوية وكشف تام له فجلس في موضعه وجاءه السباع ووقفوا بالقرب منه والمريد تسلق على رأس شجرة خوفا منها والشيخ كان فارغا من تلك السباع، فلما أصبح زالت تلك الحالة. ففي الليلة الثانية وقعت بعوضة على بدنه فأظهر الجزع من تلك البعوضة فقال المريد: كيف تليق هذه الحالة بما قبلها؟ فقال الشيخ: تحملنا البارحة ما تحملناه بسبب قوة الوارد الغيبي، فلما غاب ذلك الوارد فإنا أضعف خلق الله. ثم أخبر الله سبحانه عنهم بأن هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ
فقيل: بشراهم في الدنيا ما
عن أبي ذر رضي الله عنه قلت: يا رسول الله إن الرجل يعمل العمل لله ويحبه الناس. قال: تلك عاجل بشرى المؤمن.
والدليل العقلي عليه أن الكمال محبوب لذاته فكل من اتصف بصفة الكمال كان محبوبا لكل أحد إذا أنصفه ولم يحسده، ولا كمال للعبد أعلى وأشرف من كونه مستغرق القلب في معرفة الله معرضا عما سواه. ونور الله مخدوم بالذات ففي أي قلب حصل كان مخدوما بالطبع لما سوى الله. وقيل: هي الرؤيا الصالحة.
وعنه صلّى الله عليه وسلم: «الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة» «١»
وسبب تخصيص هذا العدد أن النبي صلّى الله عليه وسلم استنبىء بعد أربعين سنة إلى كمال عمره- وهو ثلاث وستون سنة- وكان يأتيه الوحي أوّلا بطريق المنام ستة أشهر. ونسبة هذه المدة إلى ثلاث وعشرين سنة التي هي جميع مدة الوحي نسبة الواحد إلى ستة وأربعين. وأما أن الرؤيا الصادقة توجب لبشارة فلأنها دليل صفاء القلب واتصال النفس إلى عالم القدس والاطلاع على بعض ما هنالك. وعن عطاء: البشرى في الدنيا هي البشارة عند الموت تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ [فصلت: ٣٠] وأما البشرى في الآخرة فتلقي الملائكة إياهم مسلمين مبشرين بالفوز والكرامة وما يرون من بياض وجوههم وإعطاء الصحائف بأيمانهم وما يقرأون منها إلى آخر أحوالهم في الجنة تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
لا تغيير لأقواله ولا إخلاف لمواعيده وقد مر مثله في «الأنعام» لِكَ
إشارة إلى كونهم مبشرين في الدارين، وكلتا الجملتين اعتراض ولا يجب أن يقع بعد الاعتراض كلام. تقول: فلان ينطق بالحق والحق أبلج، قال القاضي: تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
يدل على أنها قابلة للتبديل، وكل ما يقبل العدم امتنع أن يكون قديما ومحل المنع ظاهر فإن نفي شيء عن شيء لا يلزم منه إمكانه له كقول الموحد: لا شريك لله. ثم سلى رسوله عن صنيع الفريق المكذبين فقال:
وَلا يَحْزُنْكَ أو نقول: إنه كما أزال الحزن عنه في الآخرة بقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ أزال الحزن عنه في الدنيا بقوله: وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ أي تكذيبهم لك وتهديدهم بالخدم
فقيل: لأن العزة لله. جَمِيعاً إن الغلبة والقهر له ولحزبه كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة: ٢١] وقرىء «أن» بالفتح لا على أنه بدل فإن ذلك يؤدي إلى أن القوم كانوا يقولون إن العزة لله جميعا والرسول كان يحزنه ذلك وهذا كفر، بل لأن التقدير لأن العزة على صريح التعليل، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم واثقا بوعد الله تعالى في جميع الأحوال وإن كان قد يقع في بعض الحروب والوقائع انكسار وهزيمة فإن الأمور بخواتيمها. ثم أكد الوعد بقوله: هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ يسمع ما يقولون ويعلم ما يدبرون فيكفيك شرهم.
ثم زاد في التأكيد مع إشارة إلى فساد عقيدة المشركين فقال: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ فخصص ذوي العقول إما للتغليب وإما لأن الآية سيقت لبيان فساد عقائد أهل الشرك، فذكر أن العقلاء المميزين- وهم الملائكة والثقلان- كلهم عبيد له ولا يصلح أحد منهم لأن يكون شريكا له فما وراءهم ممن لا يسمع ولا يعقل كالأصنام أولى بأن لا يكون ندا له. ثم أكد هذا المعنى بقوله وَما يَتَّبِعُ «ما» نافية ومفعول يَدْعُونَ محذوف أي ليس يتبع الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ شركاء في الحقيقة إنما هي أسماء لا مسميات لها لأن شركة الله في الربوبية محال. وإنما حذف أحد المكررين للدلالة، فالأول مفعول يَدْعُونَ والثاني مفعول يَتَّبِعُ ويجوز أن تكون «ما» استفهامية بمعنى أي شيء يتبعون. وشُرَكاءَ على هذا نصب ب يَدْعُونَ ولا حاجة إلى إضمار. ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «من» كأنه قيل: ولله ما يتبعه الذين يدعون من دون الله شركاء أي وله شركاؤهم. ثم زاد في التأكيد فقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ وقد مر مثله في سورة الأنعام. ثم ذكر طرفا من آثار قدرته مع إشارة إلى بعض نعمه فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ طلبا للراحة وَالنَّهارَ مُبْصِراً ذا إبصار باعتبار صاحبه أي جعله مضيئا لتهتدوا به في حوائجكم وهذان طرفان من منافع الليل والنهار إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تأمل وتدبر وقبول.
ثم حكى نوعا آخر من أباطيلهم فقال: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ وقد مر في «البقرة». ولما نزه نفسه عن اتخاذ الولد برهن على ذلك بقوله: هُوَ الْغَنِيُّ وتقريره أن الغنى التام يوجب امتناع كونه ذا أجزاء، وحصول الولد لا يتصور إلا بعد انفصال جزء منه يكون كالبذر بالنسبة إلى النبات، وأيضا إنما يحتاج إلى الولد وإلى توليد المثل الذي يقوم
التأويل:
وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ من النبوة وَما تَتْلُوا من شأن النبوة مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ يا أمة محمد صلّى الله عليه وسلم مِنْ عَمَلٍ من الأعمال من قبول القرن ورده من مثقال ذرة مما أظهر من حركة في أرض البشرية بعمل من أعمال الخير والشر. وَلا فِي السَّماءِ أي في سماء القلوب بالنيات الصالحة والفاسدة وَلا أَصْغَرَ من الحركة وهو القصد دون الفعل وَلا أَكْبَرَ من النية وهو العمل أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الذين هم أعداء النفوس لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من تمني النظر بنفوسهم وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ على ما فاتهم من شهوات النفوس للعداوة القائمة بينهم هُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا
بالوقائع والمبشرات فِي الْآخِرَةِ
بكشف القناع عن جمال العزة. تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ
لأحكامه الأزلية حيث قال للولي كن وليا وللعدوّ كن عدوا وَلا يَحْزُنْكَ يا رسول القلب قول مشركي النفوس في تزيين شهوات الدنيا ولذاتها في نظرك إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً يعز من يشاء في الدنيا وفي الآخرة جميعا فلا يمنعه نعيم الدنيا عن نعيم الآخرة بل ربما يعينه على الآخرة كما
جاء في الحديث الرباني «وإن من عبادي من لا يصلحه الا الغنى فإن أفقرته يفسده ذلك»
أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ أي القلوب السماوية والنفوس الأرضية إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ أي يظنون أنهم يتبعون شركاء الدنيا والهوى باختيارهم لا باختيارنا
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٧١ الى ٩٢]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (٧٥)
فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥)
وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧) وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (٩٢)
وَشُرَكاؤُكُمْ بالرفع: يعقوب إِنْ أَجْرِيَ بفتح الياء حيث كان: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص ويكون لكما بياء الغيبة: حماد ويزيد وزيد.
الباقون بتاء التأنيث آلسحر بالمد: يزيد وأبو عمرو أن تبويا بالياء: الخراز وحمزة في الوقف وإن شاء لين الهمزة. الآخرون بالهمز. لِيُضِلُّوا بضم الياء: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل وَلا تَتَّبِعانِّ بتخفيف النون: ابن عامر غير الحلواني عن هشام. تَتَّبِعانِّ خفيفة التاء والنون: ابن مجاهد والنقاش عن ابن ذكوان، وفي كلتا القراءتين خففت النون ثم كسرت لالتقاء الساكنين تشبيها بنون التثنية. الباقون والحلواني عن هشام تَتَّبِعانِّ بتشديدها في الحالين منت أنه بكسر الهمزة على الاستئناف بدلا من آمَنْتُ: حمزة وعلي وخلف. الآخرون بالفتح. ننجيك من الإنجاء: سهل ويعقوب وقتيبة. والآخرون بالتشديد.
الوقوف:
نَبَأَ نُوحٍ م لئلا يوهم أن «إذ» ظرف لقوله: اتْلُ بل التقدير: واذكر إذ قال. وَلا تُنْظِرُونِ هـ مِنْ أَجْرٍ ط عَلَى اللَّهِ ج لأن التقدير وقد أمرت مِنَ الْمُسْلِمِينَ هـ بِآياتِنا ج للفاء ولأن أمر النظر للعبرة يقتضي التثبيت للتدبر الْمُنْذَرِينَ هـ مِنْ قَبْلُ ط الْمُعْتَدِينَ هـ مُجْرِمِينَ هـ مُبِينٌ هـ لَمَّا جاءَكُمْ ط بناء على أن التقدير أتقولون للحق لما جاءكم هو سحر والاستفهام في قوله: أَسِحْرٌ يستحق الابتداء وسيجيء له مزيد بيان هذا ط للفصل بين الأخبار والاستخبار السَّاحِرُونَ هـ فِي الْأَرْضِ ط بِمُؤْمِنِينَ هـ عَلِيمٍ هـ مُلْقُونَ هـ ما جِئْتُمْ بِهِ ط لمن قرأ آلسحر مستفهما السِّحْرُ ط سَيُبْطِلُهُ ط الْمُفْسِدِينَ هـ الْمُجْرِمُونَ هـ أَنْ يَفْتِنَهُمْ ط فِي الْأَرْضِ ج لاتصال الكلام الْمُسْرِفِينَ هـ مُسْلِمِينَ هـ تَوَكَّلْنا ج للعدول مع اتحاد القائل الظَّالِمِينَ هـ لا للعطف. الْكافِرِينَ هـ ج وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ط لأن قوله
التفسير:
لما بالغ في تقرير الدلائل والبينات والجواب عن الشبهات شرع في قصص الأنبياء المتقدمين، لأن نقل الكلام من أسلوب إلى أسلوب أقرب إلى انشراح الصدور ودفع الملال مع أن في ذكرها تسلية للرسول وعبرة للمعتبر إلى غير ذلك من الفوائد التي سبق ذكرها في «الأعراف». ومعنى كبر ثقل وشق كقوله: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ [البقرة: ٤٥] وفي مقامي وجوه منها: أنه زيادة كقولك: فعلت كذا لمكان فلان أي لأجله، وكقوله تعالى: وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ [الرحمن: ٤٦] أي ربه ومثله قولهم: فلان ثقيل الظل.
ومنها أن يراد به المكث أي شق عليكم مكثي بين أظهركم مددا طوالا ألف سنة إلا خمسين عاما، ولا شك أن من ألف طريقة ويدعى إلى خلافها ولا سيما إذا تكرر الدعاء كان ذلك موجبا للتنفر والثقل، وخاصة إذا كانت تلك الطريقة مقتضاة النفس والطبيعة الداعيتين إلى اللذات العاجلة. ومنها أن يكون المقام بمعنى القيام لأنهم كانوا يقومون على أرجلهم في الوعظ والتذكير ليكون مكانهم بينا وكلامهم مسموعا كما يحكى عن عيسى عليه السلام أنه كان يعظ الحواريين قائما وهم قعود. وجواب الشرط إما قوله:
فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ أي إن شدة بغضكم لي تحملكم على الإقدام على إيذائي وأنا لا أقابل ذلك الشر بالتوكل على الله فإن ذلك هجيراي قديما وحديثا وإما قوله: فَأَجْمِعُوا وقوله: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ اعتراض كقولك: إن كنت أنكرت عليّ شيئا فالله حسبي فاعمل ما تريد. ولا يحسن أن يقال: إن الفاء الثانية عاطفة للاختلاف طلبا وخبرا، ومعنى فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ اعزموا عليه من أجمع الأمر إذا نواه وعزم عليه قاله الفراء. وقال أبو الهيثم: أجمع أمره أي جعله جميعا بعد ما كان متفرقا وتفرقه أنه يقول مرة أفعل كذا ومرة أفعل كذا، فلما عزم على أمر واحد فقد جمعه أي جعله جميعا. فهذا هو الأصل في الإجماع ثم صار بمعنى العزم حتى وصل ب «على» فقيل: أجمعت على الأمر أي عزمت عليه والفصيح أجمعت الأمر، والمراد بالأمر وجوه مكرهم وكيدهم. وانتصب شُرَكاءَكُمْ على المفعول معه أي مع شركائكم. ومن قرأ بالرفع جعله عطفا على الضمير المتصل، وإنما يحسن ذلك من غير تأكيد بالمنفصل للفصل. والمراد بالشركاء إما من هم على مثل قولهم ودينهم، وإما الأصنام. وحسن إسناد الإجماع إليهم على وجه التهكم
حصلوا كل ما تقدرون عليه من الأسباب المؤدية الى مطلوبكم غير مقتصرين على ذلك بل ضامين إلى أنفسكم شركاءكم الذين تزعمون أن حالكم يقوى بمكانهم. ثم ضم إلى ذلك قيدا آخر فقال: ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً قال أبو الهيثم: أي مبهما من قولهم غم علينا الهلال فهو مغموم أي التبس. وقال الليث: لقي غمة من أمره إذا لم يهتد له. وقال الزجاج: أي ليكن أمركم الذي أجمعتموه ظاهرا منكشفا أي تجاهرونني بالإهلاك. ويحتمل أن يراد بهذا الأمر العيش والحال أي أهلكوني لئلا يكون عيشكم بسببي غصة وحالكم عليكم غمة أي غما وهما والغم والغمة كالكرب والكربة. ثم زاد قيدا آخر فقال: ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ ذلك الأمر الذي تريدون بي أي أدوا إليّ قطعه واحكموا بصحته وإمضائه.
وعن القفال أن فيه تضمينا والمعنى ألقوا إليّ ما استقر عليه رأيكم محكما مفروغا منه. ثم ختم الكلام بقوله: وَلا تُنْظِرُونِ أي عجلوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير إهمال، ومعلوم أن مثل هذا الكلام لا يصدر إلا عمن بلغ في التوكل الغاية القصوى. ثم بين أن كل ما أتى به فإن ذلك فارغ من الطمع الدنيوي والغرض الخسيس فقال: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن نصحي وتذكيري فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فما كان عندي ما ينفركم عني وتتهمونني لأجله من طمع أو غرض عاجل إِنْ أَجْرِيَ ليس أجري إِلَّا عَلَى اللَّهِ أي ما نصحتكم إلا لوجهه ولا يثيبني إلا هو. وفي الآية نكتة كأنه أراد أنه لا يخاف منهم بوجه من الوجوه لا بإيصال الشر وذلك قوله: فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ إلى آخره. ولا بانقطاع الخير منهم وذلك قوله: فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ الآية. وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أي سواء قبلتم دين الإسلام أو لم تقبلوه فأنا مأمور بأن أكون على دين الإسلام، أو مأمور بالاستسلام لكل ما ألقى من قبل هذه الدعوة. فَكَذَّبُوهُ بقوا على تكذيبهم إلى آخر المدة المتطاولة.
فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ قد ذكرنا في «الأعراف» الفرق بين هذه العبارة وبين ما هنالك وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ يخلفون الهالكين بالطوفان فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ تعظيم لشأن إهلاكهم وتحذير لغيرهم وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ من بعد نوح رُسُلًا كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحات والمعجزات الباهرات فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ الآية وقد مر تفسيرها في أواسط الأعراف إلا أنه زيد هاهنا لفظة «به» فقيل: لتناسب ما قبله وهو كَذَّبُوا
وكذلك في «الأعراف» راعى المناسبة لأن ما قبله وَلكِنْ كَذَّبُوا [الآية: ٩٦] بغير الباء ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد الرسل أو الأمم بِآياتِنا يعني الآيات التسع فَاسْتَكْبَرُوا عن قبولها وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ كفارا ذوي آثام ولذلك اجترءوا على رد الآيات. أما قوله: أَسِحْرٌ هذا فليس بمقول لقوله: أَتَقُولُونَ لأنهم قطعوا في قوله:
إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ بأنه سحر، وما استفهموا ولكن الوجه فيه أن يقال: إن القول هاهنا بمعنى الطعن والعيب كالذكر في قوله: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ [الأنبياء: ٦٠] ومنه قولهم: فلان يخاف القالة أي مطاعن الناس فكأنه قال: أتعيبون الحق وتطعنون فيه؟ ثم أنكر عليهم قولهم فقال: أَسِحْرٌ هذا أو يقال: مفعول تقولون محذوف وهو قولهم إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ أو يقال: جملة قوله أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ حكاية لكلامهم كأنهم قالوا منكرين لما جاءا به أجئتما بالسحر تطلبان به الفلاح ولا يفلح السحرة، لأن حاصل صنيعهم تخييل وتمويه قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا التركيب يدل على الالتواء ومنه الفتل والالتفات «افتعال» من اللفت وهو الصرف واللي وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ أي الملك والعز في أرض مصر. قال الزجاج: سمى الملك كبرياء لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا. وأيضا فالنبي صلّى الله عليه وسلم إذا اعترف القوم بصدقه صارت مقاليد أمر أمته إليه وصار أكبر القوم. وقيل: لأن الملوك موصوفون بالكبر والحاصل أنهم عللوا عدم قبولهم دعوة موسى بأمرين: التمسك بالتقليد وهو عبادة آبائهم الأصنام، والحرص في طلب الدنيا والجد في بقاء الرياسة. ويجوز أن يقصدوا ذمهما وأنهما إن ملكا أرض مصر تجبرا وتكبرا. ثم صرحوا بالتكذيب قائلين وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ ثم حاولوا المعارضة وقد مرت تلك القصة في «الأعراف». أما قوله: ما جِئْتُمْ بِهِ فمعناه الذي جئتم به هو السحر لا الذي سماه فرعون وقومه سحرا من آيات الله. قال الفراء: وإنما قال السحر بالألف واللام لأنه جواب الكلام الذي سبق كأنهم قالوا لموسى ما جئت به سحر. فقال موسى: بل ما جئتم به السحر. فوجب دخول الألف واللام لأن النكرة إذا عادت عادت معرفة. يقول الرجل لغيره: لقيت رجلا. فيقول له: من الرجل؟ ولو قال: من رجل؟ لم يقع في وهمه أنه يسأل عن الرجل الذي ذكره. ومن قرأ آلسحر بالاستفهام فما استفهامية مبتدأ وجِئْتُمْ بِهِ خبره كأنه قيل أي شيء جئتم به. ثم قال على وجه التوبيخ السحر أي أهو لسحر أو آلسحر جئتم به إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ بإظهار المعجزة عليه إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يؤيده بجميل الخاتمة وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ يثبته بِكَلِماتِهِ بمواعيده أو بما سبق من قضائه أو بأوامره فَما آمَنَ لِمُوسى أي في أول أمره إِلَّا ذُرِّيَّةٌ
قال ابن عباس: لفظة الذرية يعبر بها عن القوم على وجه التحقير، ولا ريب أن المراد هاهنا ليس هو الإهانة، فالمراد التصغير بمعنى قلة العدد. وقيل: المراد أولاد من أولاد قومه كأنه دعا الآباء فلم يجيبوه خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من أبنائهم مع الخوف من فرعون أن يصرفهم عن دينهم بتسليط أنواع البلاء عليهم. وقيل: إن الذرية أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون وأمهاتهم من بني إسرائيل. وقيل: الذرية مؤمن آل فرعون وآسية امرأته وخازنه وامرأة خازنه وماشطته، فالضمير في قَوْمِهِ على هذا لفرعون وعوده إلى موسى أظهر لأنه أقرب المذكورين، ولما نقل أن الذين آمنوا به كانوا من بني إسرائيل والضمير في ملئهم إما لفرعون على جهة التعظيم لأنه ذو أصحاب يأتمرون له، أو المراد آل فرعون بحذف المضاف، أو للذرية يعني أشراف بني إسرائيل لأنهم كانوا يمنعون أعقابهم خوفا من فرعون عليهم وعلى أنفسهم يدل على ذلك قوله:
أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي يعذبهم فرعون. ثم أكد أسباب الخوف بقوله: وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ لغالب فِي الْأَرْضِ أرض مصر وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في القتل والتعذيب أو لمن المجاوزين الحد لأنه من أخس العبيد فادعى الربوبية العليا وَقالَ مُوسى تثبيتا لقومه إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ صدقتم به وبآياته فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا خصوه بتفويض أموركم إليه إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ قال العلماء: المؤخر في مثل هذه السورة مقدم في المعنى نظيره: إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوة. والمراد إن كانت بك قوة فإن ضربك زيد فاضربه فكأنه قيل لهم في حال إسلامهم إن كنتم منقادين لتكاليف ربكم بالإخلاص مصدقين له بالتحقيق عارفين بأنه واجب الوجود لذاته وما سواه محدث مخلوق مقهور تحت حكمه وتدبيره، ففوضوا جميع أموركم إليه وحده. فَقالُوا مؤتمرين لموسى عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا ثم اشتغلوا بالدعاء قائلين رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً أي موضع فتنة لهم. والمراد بالفتنة تعذيبهم أو صرفهم عن دينهم، أو المراد لا تفتن بنا فرعون وقومه لأنك لو سلطتهم علينا صار ذلك شبهة لهم في أنا لسنا على الحق. ويجوز أن تكون الفتنة بمعنى المفتون أي لا تجعلنا مفتونين بأن تمكنهم من صرفنا عن الدين الحق، ولما قدموا التضرع إلى الله في أن يصون دينهم عن الفساد أتبعوه سؤال عصمة أنفسهم فقال: وَنَجِّنا الآية. وفي ذلك دليل على أن عنايتهم بمصالح الدين فوق اهتمامهم بمصالح النفس، وهكذا يجب أن تكون عقيدة كل مسلم والله الموفق. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً تبوّأ بالمكان اتخذه مباءة ومرجعا مثل توطنه إذا اتخذه وطنا. واختلف المفسرون في البيوت فمنهم من ذهب إلى أنها المساجد كقوله: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ
ومضمون البشارة أنه جعلت الأرض كلها لهذه الأمة مسجدا وطهورا دون سائر الأمم فإنهم أمروا باتخاذ موضع يرجعون إليه البتة للعبادة والله أعلم بمراده. ثم إن موسى عليه السلام لما بالغ في إظهار المعجزات القاهرة، ورأى القوم مصرين على الجحود والإنكار أخذ يدعو عليهم، ومن حق من يدعو على الغير أن يذكر أوّلا سبب الدعاء عليه فلهذا قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالًا فالزينة عبارة عن الصحة والجمال واللباس والدواب وأثاث البيت والأموال ما يزيد على ذلك من الصامت والناطق. عن ابن عباس كانت لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة.
قالت الأشاعرة: اللام في قوله: لِيُضِلُّوا لام التعليل كأن موسى عليه السلام قال: يا رب إنك أعطيتهم هذه الزينة والأموال لأجل أن يضلوا، ففيه دلالة على أنه تعالى تسبب لضلالهم وأراد منهم ذلك وإلا لم يهيىء أسبابه. ثم شرع في الدعاء عليهم بالطمس على أموالهم. والطمس المحو أو المسخ كما مر في سورة النساء في قوله سبحانه: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً [النساء: ٤٧] وبالشد على قلوبهم ومعناه الاستيثاق والختم. وقالت المعتزلة: قوله لِيُضِلُّوا دعاء بلفظ الأمر للغائب، دعا عليهم بثلاثة أمور: بالضلال
لِيُضِلُّوا على التفاسير كلها وما بينهما اعتراض، وإما أن يكون جوابا لقوله وَاشْدُدْ ويجوز أن يكون دعاء بلفظ النهي معطوفا على اشْدُدْ. قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما أضاف الدعوة إليهما لأن موسى كان يدعو وهارون يؤمن، ويجوز أن يكونا جميعا يدعوان إلا أنه خص موسى بالذكر في الآية لأصالته في الرسالة، والمعنى أن دعاءكما مستجاب وما طلبتما كائن ولكن في وقته فَاسْتَقِيما فاثبتا على ما أنتما عليه من التبليغ والإنذار زيادة في إلزام الحجة، ولا تستعجلا فقد لبث نوح في قومه ألف سنة إلا قليلا. قال ابن جريج: فمكث موسى بعد الدعاء أربعين سنة يدعوهم إلى الله وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أن الاستعجال لا يفيد في اجابة الدعاء فقد يستجاب الدعاء ولكن يظهر الأثر بعد حين. وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ قد مرت تلك القصة في أوائل سورة البقرة في قوله:
وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة: ٥٠] الآية، ومعنى قوله: فَأَتْبَعَهُمْ لحقهم. يقال: تبعه حتى أتبعه، والبغي الإفراط في الظلم والعدو ومجاوزة الحد. وفي الآية سؤال وهو أن فرعون تاب ثلاث مرات إحداها قوله: آمَنْتُ وثانيتها أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وثالثتها وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فلم تقبل توبته. والجواب من وجوه: الأول أنه إيمان اليائس وأنه لا يقبل لأن الإلجاء ينافي التكليف. الثاني أنها لم تكن مقرونة بالإخلاص وإنما كانت لدفع البلية الحاضرة والمحنة الناجزة. الثالث أن ذلك التوحيد كان مبنيا على محض التقليد والمخذول كان من الدهرية المنكرين لوجود الصانع، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا تزول ظلمته إلا بنور الحجة القطعية. الرابع ما روي أن بعض بني إسرائيل لما جاوز البحر اشتغلوا بعبادة العجل فلعله أراد الإيمان بذلك العجل الذي آمنوا بعبادته في ذلك الوقت، وكانت هذه الكلمة سببا لزيادة الكفر. الخامس أن أكثر اليهود يميلون إلى التجسيم والتشبيه ولذلك عبدوا العجل فكأنه ما آمن إلا بالإله الموصوف
يروى أن جبريل عليه السلام أتى فرعون بفتيا ما قول الأمير في عبد نشأ في مال مولاه ونعمته فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه؟
فكتب فرعون فيه يقول أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده الكافر نعمته أن يغرق في البحر، ثم إن فرعون لما غرق دفع جبريل إليه خطه فعرفه.
أما قوله آلْآنَ فالمشهور من الأخبار أنه قول جبريل. وقيل: إنه قول الله سبحانه والتقدير:
أتؤمن الساعة في وقت الاضطرار حين ألجمك الغرق وأدركك. وقوله: وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ في مقابلة قوله: وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ
يروى أن جبريل أخذ يملأ فاه بالطين حين قال: آمَنْتُ لئلا يتوب غضبا عليه،
والأقرب عند العلماء أن هذا الخبر غير صحيح لأنه إن قال ذلك حين بقاء التكليف لم يجز على جبريل أن يمنعه من التوبة بل يجب أن يحثه عليها أو على كل طاعة لقوله تعالى: وَتَعاوَنُوا [المائدة: ٢] ولو منعه لكانت التوبة ممكنة لأن الأخرس قد يتوب بأن يعزم بقلبه على ترك المعاودة إلى القبيح، ولو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر والرضا بالكفر كفر. وكيف يليق به سبحانه أن يقول لموسى وهارون فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: ٤٤] ثم يأمر جبريل بمنعه عن الإيمان. ولو قيل إن جبريل فعل ذلك من تلقاء نفسه كان منافيا لقوله: وَما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ [مريم: ٦٤] لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ [الأنبياء: ٢٧] وإن كان قال ذلك بعد زوال التكليف فلم يكن لما فعل جبريل فائدة اللهم إلا أن يقال: إنه دس حال البحر في فيه في وقت لا ينفعه إيمانه غضبا لله على الكافر. قوله: فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ فيه أقوال منها:
أن معناه نخرجك من البحر ونخلصك مما وقع فيه قومك من قعر البحر ولكن بعد أن تغرق. وقوله: بِبَدَنِكَ في موضع الحال أي في الحال التي لا روح فيك وإنما أنت بدن. قال كعب: رماه الماء إلى الساحل كأنه ثور، أو المراد ببدنك كاملا سويا لم ينقص منه شيء ولم يتغير، أو عريانا لست إلا بدنا وفيه نوع تهكم كأنه قيل: ننجيك لكن هذه النجاة إنما تحصل لبدنك لا لروحك كما يقال: نعتقك أو نخلصك من السجن ولكن بعد أن تموت. وقيل: ننجيك ببدنك أي نلقيك بنجوة من الأرض وهي المكان المرتفع.
وقيل: ببدنك أي بدرعك. قال الليث: البدن الدرع القصير الكمين. عن ابن عباس قال:
كان عليه درع من ذهب يعرف بها فأخرجه الله من الماء مع ذلك الدرع ليعرف، فإن صحت هذه الرواية كانت معجزة لموسى عليه السلام. وأما قوله: لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ
فقيل: إن قوما اعتقدوا في إلهيته وزعموا أن مثله لا يموت فأظهر الله تعالى أمره بأن أخرجه من الماء بصورته حتى يشاهدوه، وزالت الشبهة عن قلوبهم وكانت مطروحة على ممر من بني إسرائيل فلهذا قيل: لِمَنْ خَلْفَكَ وقيل: إنه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والإهانة بعد ما سمعوا منه قوله: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى [النازعات: ٢٤] ليكون ذلك زجرا للعابرين عن مثل طريقته، ويعرفوا أنه كان بالأمس في نهاية الجلالة ثم آل أمره إلى ما آل، فلا يجترأوا على نحو ما اجترأ عليه. وقيل: المراد ليكون طرحك بالساحل وحدك دون المغرقين آية من آيات الله للأمم الآتية، ثم زجر هذه الأمة عن ترك النظر في الدلائل وحثهم على التأمل والاعتبار فقال وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ.
التأويل:
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ الروح إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وهم القلب والسمع والنفس وصفاتها يا قَوْمِ إِنْ كانَ عظم عَلَيْكُمْ مَقامِي في الأخلاق الحميدة الروحانية ودعائي إلى الله ببراهينه الواضحة فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ من حظ من حظوظ مشاربكم الدنيوية ما حظي إلا من مواهب الله وشهود جماله. وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ خلفاء الله في أرضه وباقي التأويل كما مر في «الأعراف». وهكذا في قصة موسى وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ لأن الفلاح هو الخلاص عن قيد الوجود المجازي. وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ أي الذكر بِكَلِماتِهِ وهي لا إله إلا الله وَلَوْ كَرِهَ أهل الهوى والنفوس الأمارة فَما آمَنَ لِمُوسى القلب إلا صفاته أو بعض صفات فرعون النفس بتبديل أخلاقها الذميمة بالأخلاق الحميدة القلبية عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ النفس والهوى والدنيا وشهواتها أن يصرفهم إلى حالها الطبيعية التي جبلت عليها. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى القلب وهارون السر أن هيئا لصفاتكما بمصر عالم الروح مقامات ومنازل لا في عالم النفس السفلي. واجعلوا تلك المقامات متوجهة إلى طلب الحق. وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ أديموا العروج من المقامات الروحانية إلى المواصلات الربانية لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ ليكون عاقبة أمرهم أن ينقطعوا أو يقطعوا بتلك الملاذ عن السير في طلبك رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ بمحقها وتحقيرها في نظرهم وَاشْدُدْ طريق النظر إلى الدنيا وما فيها عَلى قُلُوبِهِمْ واجعل همتهم عليه في طلبك والنظر إليك فقط حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فإن النفس وصفاتها لا يؤمنون بالآخرة وطلب الحق حتى يذيقهم ألم الفطام عن الدنيا ومشتهياتها. سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ طريق الوصول إلى الله ولا يعرفون قدره وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ هم القلب والسر وصفاتها. والبحر بحر الروحانية الملكوتية فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ النفس وصفاتها بعد الفطام عن شوائب عالم الملك
[سورة يونس (١٠) : الآيات ٩٣ الى ١٠٩]
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (٩٤) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٩٧)
فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧)
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (١٠٩)
بَوَّأْنا مثل أَنْشَأْنا ونجعل بالنون: يحيى وحماد. الآخرون بالياء التحتانية. ثُمَّ نُنَجِّي من الإنجاء: نصر وروح ويزيد. نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من الإنجاء أيضا: علي وسهل ويعقوب وحفص والمفضل. الآخرون بالتشديد فيهما.
الوقوف:
الطَّيِّباتِ ج للابتداء بالنفي مع الفاء الْعِلْمُ ط يَخْتَلِفُونَ ٥ مِنْ قَبْلِكَ ج لانقطاع النظم مع اتفاق المعنى المُمْتَرِينَ هـ لا للعطف الْخاسِرِينَ هـ لا يُؤْمِنُونَ هـ لا لتعلق لو بما قبلها الْأَلِيمَ هـ يُونُسَ ط حِينٍ هـ جَمِيعاً ط مُؤْمِنِينَ هـ بِإِذْنِ اللَّهِ ط أي وهو يجعل لا يَعْقِلُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط للفصل بين الاستخبار والإخبار. لا يُؤْمِنُونَ هـ مِنْ قَبْلِهِمْ ط مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ هـ كَذلِكَ
ج لاحتمال يراد ننجيهم كإنجاء الرسل أو يكون الوقف على آمَنُوا والتقدير ننجي المؤمنين إنجاء كذلك وحَقًّا عَلَيْنا اعتراض. الْمُؤْمِنِينَ هـ يَتَوَفَّاكُمْ ج لاحتمال أن يراد وقد أمرت الْمُؤْمِنِينَ هـ لا للعطف حَنِيفاً ج للعطف مع زيادة نون التأكيد المؤذن بالاستئناف الْمُشْرِكِينَ هـ وَلا يَضُرُّكَ ج للابتداء بالشرط مع الفاء الظَّالِمِينَ هـ إِلَّا هُوَ ج للعطف مع حق الفصل بين المتضادين لِفَضْلِهِ ط مِنْ عِبادِهِ ط الرَّحِيمُ هـ مِنْ رَبِّكُمْ ج لِنَفْسِهِ ج عَلَيْها ج للعطف مع النفي بِوَكِيلٍ هـ ط يَحْكُمَ اللَّهُ ج لاحتمال العطف والاستئناف الْحاكِمِينَ هـ.
التفسير:
لما ذكر ما وقع عليه الختم في واقعة فرعون وجنوده أراد أن يذكر ما وقع عليه الختم في واقعة بني إسرائيل فقال: وَلَقَدْ بَوَّأْنا أي أسكناهم مسكن صدق أو إسكان صدق فيكون المبوأ اسم مكان أو مصدرا، والعرب إذا مدحت شيئا أضافته إلى الصدق ليعلم أن كل ما يظن به من الخير ويطلب منه فإنه يصدق ذلك الظن ويوجد فيه فيكون المعنى منزلا صالحا مرضيا. والمراد ببني إسرائيل إما اليهود الذين كانوا في زمن موسى عليه السلام فمبوّأ الصدق الشام ومصر وما يدانيها فإنها بلاد كثيرة الخصب غزيرة الأرزاق ومع ذلك فقد أورثهم الله جميع ما كان تحت تصرف فرعون وقومه من الناطق والصامت فَمَا اخْتَلَفُوا في دينهم وما تشعبوا فيه شعبا وكانوا على طريقة واحدة حتى قرأوا التوراة فقابلوها بضد المقصود منها وبدلوا الاتفاق بالاختلاف وأحدثوا المذاهب المتعددة، وإما اليهود المعاصرون لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، وإلى هذا ذهب جم غفير من المفسرين. عن ابن عباس: هم قريظة والنضير وبنو قينقاع، أنزلناهم منزل الصدق ما بين المدينة والشام ورزقناهم من طيبات تلك البلاد رطبا وتمرا ليس في غيرها، فبقوا على دينهم ولم يظهر فيهم الاختلاف حتى جاءهم سبب العلم وهو القرآن النازل على محمد صلّى الله عليه وسلم
ولما بيّن كيفية اختلاف اليهود في شأن كتابهم أو في شأن رسوله حقق حقيقته وحقيقة ما أنزل عليه بقوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ والشك في اللغة ضم الشيء بعضه إلى بعض ومنه شك الجوهر في العقد، وشككته بالرمح أي خرقته وانتظمته، والشكيكة الفرقة من الناس، والشكاك البيوت المصطفة. والشاك يضم إلى ما يتوهمه شيئا آخر خلافه، والخطاب فيه للرسول في الظاهر والمراد أمته كقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ [الطلاق:
١] والدليل عليه قوله بعيد ذلك قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي ولأنه لو كان شاكا في شأنه لكان غيره بالشك أولى. ويمكن أن يقال: الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلم حقيقة ولكن ورد على سبيل الفرض والتمثيل كأنه قيل: فإن وقع لك شك مثلا والقضية الشرطية لا إشعار فيها البتة بوقوع الشرط ولا عدم وقوعه، بل المراد استلزام الأول للثاني على تقدير وقوع الأول. وقد يكونان محالين كقول القائل: إن كانت الخمسة زوجا كانت منقسمة بمتساويين. وفيه من الفوائد الإرشاد إلى طلب الدلائل لأجل مزيد اليقين وحصول الطمأنينة، وفيه استمالة لأمته والحث لهم على السؤال عما كانوا منه في شك، وفيه أن أهل الكتاب من الإحاطة بصحة ما أنزل إليك بحيث يصلحون لمراجعه مثلك فضلا عن غيرك فيكون الغرض وصف الأحبار بالرسوخ في العلم بصحة ما أنزل إلى الرسول لا وصف الرسول بالشك، ولذلك
قال صلّى الله عليه وسلم عند نزوله: لا أشك ولا أسأل بل أشهد أنه الحق.
وعن ابن عباس: لا والله ما شك طرفة عين ولا سأل أحدا منهم. وقيل: «إن» نافية أي فما كنت في شك يعني لا نأمرك بالسؤال لأنك شاك ولكن لتزداد يقينا. وقيل: الخطاب لكل سامع يتأتى منه الشك. ومن المسئول منه قال المحققون: هم مؤمنوا أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وعبد الله بن صوريا وتميم الداري وكعب الأحبار لأنهم هم الذين يوثق بخبرهم. ومنهم من قال: الكل سواء لأنهم إذا بلغوا حد التواتر وقرأوا آية من التوراة والإنجيل تدل على البشارة بمقدم محمد صلّى الله عليه وسلم فقد حصل الغرض، لأن تلك الآية لما بقيت مع توفر دواعيهم على تحريف نعته كانت من أقوى الدلائل. والظاهر أن المقصود من السؤال معرفة حقيقة القرآن وصحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم لقوله: مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ وقيل:
السؤال راجع إلى قوله: فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ. ثم إنه سبحانه لما بين الطريق المزيل للشك شهد بحقيته فقال: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ثم إن فرق المكلفين بعد المصدقين إما متوقفون في صدقه وإما مكذبون فنهى الفريقين مخاطبا في الظاهر لنبيه قائلا
وقد مر مثله في هذه السورة. وقالت المعتزلة: إن عدم إيمان هذا الفريق إلى حين وقوع اليأس وموتهم على الكفر مكتوب عند الله وثبت عليهم قوله في الأزل بما يجري عليهم، لكنها كتابة معلوم لا كتابة مقدر ومراد. وقالت الأشاعرة: كلمته حكمة وإرادته وخلقه فيهم الكفر، وقد مر أمثال هذه الأبحاث مرارا كثيرة. وأما الآخرون فذلك قوله: فَلَوْلا كانَتْ أي فهلا حصلت قَرْيَةٌ واحدة آمَنَتْ تابت عن الكفر وأخلصت الإيمان قبل معاينة العذاب فَنَفَعَها إِيمانُها لوقوعه في وقت الاختيار والتكليف دون أوان اليأس والاضطرار إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ هو استثناء منقطع أي ولكن قوم يونس لأن أول الكلام جرى على القرية وإن كان المراد أهلها. وقيل: إن «لولا» في هذا المقام بمعنى النفي كأنه قيل:
ما آمنت قرية من القرى الهالكة إلا قوم يونس.
يروى أن يونس صلّى الله عليه وسلم بعث إلى نينوى من أرض الموصل فكذبوه فذهب عنهم مغاضبا كما سيجيء في سورة الأنبياء، فلما فقدوه خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجوا أربعين ليلة. وقيل: قال لهم يونس إن أجلكم أربعون ليلة فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا ثم يهبط حتى يغشى مدينتهم ويسوّد سطوحهم، فلبسوا المسوح وبرزوا إلى الصعيد بأنفسهم ونسائهم وصبيانهم ودوابهم وفرّقوا بين النساء والصبيان وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات والعجيج وأظهروا الإيمان والتوبة وتضرعوا فرحمهم وكشف عنهم وكان يوم عاشوراء يوم الجمعة.
وعن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادوا المظالم حتى إن الرجل منهم كان يقتلع الحجر وقد وضع عليه أساس بنائه فيرده. وقيل: خرجوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا يا حي حين لا حي ويا حي محيي الموتى ويا حي لا إله إلا أنت، فقالوها فكشف عنهم ومتعوا بالإيمان والأعمال الصالحة وبالخيرات الدنيوية إلى حين انقضاء آجالهم. وعن الفضيل بن عياض قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلت وأنت أعظم منها وأجل، افعل بنا ما أنت أهله ولا تفعل بنا ما نحن أهله. ثم بيّن أن الإيمان وضده كلاهما بمشيئة الله وتقديره فقال: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً قالت الأشاعرة: هذه القضية تفيد الشمول والإحاطة
وأول المعتزلة المشيئة بمشيئة الإلجاء والقسر. وأجيب بأن الكلام في الإيمان الذي كان يطلبه النبي منهم وهو الإيمان المنوط به التكليف لا الإيمان القسري الذي لا ينتفع به المكلف، فلو حمل الإيمان المذكور في الآية وكذا المشيئة على إيمان الإلجاء ومشيئة القسر لم ينتظم الكلام. ثم ذكر أن القدرة القاهرة والمشيئة النافذة ليست إلا للحق سبحانه وتعالى فقال: أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ فأولى الاسم حرف الاستفهام للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الكلام في المكره من هو وما هو إلا الله وحده. فحمل المعتزلة هذا الإكراه على الإلجاء ومعناه أن يفعل في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان. وحمل الأشاعرة الإكراه على خلق الإيمان ومعناه أنه قادر على خلق الإيمان والكفر فيهم لا أنت بدليل قوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ أي الكفر والفسق عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ وفسر المعتزلة الإذن بمنح الألطاف والرجس بالخذلان، لأن الرجس هو العذاب والخذلان سببه، وخصصوا النفس بالنفس المعلوم إيمانها والذين لا يعقلون يعني المصرين على الكفر. واستدلت الأشاعرة بقوله: وَما كانَ لِنَفْسٍ على أنه لا حكم للأشياء قبل ورود الشرع لأن الإذن عبارة عن الإطلاق في الفعل ورفع الحجر.
وإذا كان أصل الشرع- وهو الإيمان بإذن الله- فما ترتب عليه أولى. أجابت المعتزلة بأن المراد بالإذن التوفيق والتسهيل والألطاف. ولما بين أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية حتى لا يتوهم أن الحق هو الجبر المحض فقال: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي شيء فيهما من الآيات والعبر. ثم ذكر أن التفكر والتدبر في هذه الدلائل لا ينفع في حق من حكم الله عليه في الأزل بالشقاء فقال: وَما تُغْنِي يحتمل أن تكون «ما» نافية أي لا تفيد هذه الْآياتُ وَالنُّذُرُ وهي جمع نذير صفة أو مصدر في حق المحكوم عليهم بعدم الإيمان. وأن تكون استفهامية للإنكار بمعنى أي شيء يغني عنهم؟ ثم قال: فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ والمراد أن الأنبياء المتقدمين كانوا يتوعدون كفار زمانهم بأيام مشتملة على أنواع العذاب أو بوقائع الله فيهم وهم يكذبونهم ويسخرون منهم، وكذلك كان يفعل الكفار المعاصرون للرسول ﷺ فقال سبحانه قُلْ فَانْتَظِرُوا وفيه تهديد ووعيد بأنه سينزل بهؤلاء مثل ما أنزل بأولئك من الإهلاك بعد إنجاء الرسول وأتباعه كما حكى تلك الأحوال الماضية بقوله:
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا الآية. قالت المعتزلة: حَقًّا عَلَيْنا المراد به الوجوب والاستحقاق إذ لا يحسن تعذيب الرسول والمؤمنين. وقالت الأشاعرة: إنه حق بحسب الوعد والحكم فإن
سأصبر حتى يعجز الصبر عن صبري | وأصبر حتى يحكم الله في أمري |
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني | صبرت على شيء أمر من الصبر |
وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ يعني متولدات الروح العلوي من القلب والسر دون النفس لأنها من البنات لا من البنين مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزلا عليا في العالم النوراني وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الفيض الرباني الفائض على الروح لأن الروح مستو على عرش القلب، فكل ما فاض من صفة الروحانية على الروح يفيض الروح على القلب والسر، فما اختلف القلب والسر حتى جاءهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: فمن قبلها صار مقبولا، ومن ردها كان مردودا. وبوجه آخر مُبَوَّأَ صِدْقٍ بين الإصبعين من أصابع الرحمن فَمَا اخْتَلَفُوا حتى أدركهم علم الله الأزلي بالسعادة والشقاء فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ خلق الإنسان ضعيفا، فإذا انفتح عليه أبواب الكرامات وهبت رياح السعادات فربما ظن أنه مما يخادع به الأطفال فلا يدري هل هو من كرامة الاجتباء أو من وخامة الابتلاء، فكان النبي ﷺ من خصوصية إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ [الكهف: ١١٠] يرتع في هذه الرياض وباختصاص يُوحى إِلَيَّ [الكهف: ١١٠] يسقى بكاسات المناولات من تلك الحياض، فشك عند سكره أنها من شهود التلوين أو من كشوف التمكين، فأدركته العناية الأزلية فأكرم بخطاب لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ بل كان هذا النهي نهي التكوين فما كان ممتريا ولهذا قال: والله لا أشك ولا أسأل. إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا من أنه كل ميسر لما خلق له قُلْ فَانْتَظِرُوا ظهور ما قدر لكم وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بالفناء عن النفس وصفاتها حنيفا طاهرا عن لوث الالتفات إلى ما سواه والله أعلم.
تم الجزء الحادي عشر، وبه يتم المجلد الثالث من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان للعلامة نظام الدين النيسابوري، ويليه المجلد الرابع وأوله تفسير سورة هود
فهرس المجلد الثالث من تفسير غرائب القرآن ورغائب الفرقان