ﰡ
وخلاصة الجواب: أنه لا مصلحة لهم في إيصال الشر إليهم، إذ لو أوصله إليهم لماتوا وهلكوا، ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنوا بعد ذلك، أو خرج من صلبهم من يكون مؤمنًا.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا...﴾ الآية، مناسبتها لما قبلها: أنهم لما استدعوا حلول الشر بهم، وأنه تعالى لا يفعل ذلك بطلبهم، بل يترك من لا يرجو لقائه يعمه في طغيانه.. بين شدة افتقار الناس إليه واضطرارهم إلى استمطار إحسانه، مسيئهم ومحسنهم، وأن من لا يرجو لقاءه مضطر إليه حالة مس التفسير له، فكل يلجأ إليه حينئذٍ، ويفرده بأنه القادر على كشف الضر، ذكره في "البحر".
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا...﴾ الآية، سبب نزولها: ما أخرجه (١) ابن جرير، من طريق الضحاك عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا، - ﷺ -، رسولًا، أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر ذلك منهم، فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا، أما وجد الله من يرسله إلا يتيم أبي طالب، فأنزل الله تعالى: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ...﴾ الآية.
التفسير وأوجه القراءة
١ - ﴿الر﴾ هذه (٢) الحروف تقرأ ساكنة غير معربة هكذا: ألف لام را والأخير منها غير مهموز.
(٢) المراغي.
قال ابن الجوزي (١): فأما قوله: ﴿الر﴾ قرأ ابن كثير: ﴿الر﴾ بفتح الراء. وقرأ أبو عمرو وابن عامر وحمزة والكسائي ﴿الر﴾ على الهجاء مكسورة، وقد ذكرنا في أول سورة البقرة ما يشتمل على بيان هذا الجنس، وقد خصت هذه الكلمة بستة أقوال:
أحدها: أن معناها، أنا الله أرى، رواه الضحاك، عن ابن عباس.
والثاني: أنا الله الرحمن، رواه عطاء، عن ابن عباس.
والثالث: أنه بعض اسم من أسماء الله، روى عكرمة، عن ابن عباس قال: ﴿الر﴾ و ﴿حم﴾ و ﴿نون﴾ حروف الرحمن، فالراء والحاء والميم والنون بعض حروف الرحمن.
والرابع: أنه قسم أقسم الله به، رواه ابن أبي طلحة، عن ابن عباس.
والخامس: أنه اسم من أسماء القرآن، قاله مجاهد وقتادة.
والسادس: أنه اسم لسورة قاله ابن زيد.
وقد (٢) اتفق القراء على أن ﴿الر﴾ ليس بآية وعلى أن طه آية. وفي "مقنع" أبي عمرو الداني، أن العادّين لطه آية هم الكوفيون فقط. قيل: ولعل الفرق بينهما أن ﴿الر﴾ لا يشاكل مقاطع الآية التي بعده.
والإشارة بقوله: ﴿تِلْكَ﴾ إلى ما تضمنته هذه السورة من الآيات، وأتى باسم إشارة البعيد مع كونها قريبة تنزيلًا لبعدها الرتبي منزلة البعد الحسي، وهو مبتدأ خبره ما بعده؛ أي: هذه الآيات المذكورة في هذه السورة هي ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ أي: آيات من القرآن المحكم بمعنى، المبين في مبانيه الموضح في
(٢) الشوكاني.
٢ - والاستفهام في قوله: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا﴾ لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ؛ أي: لا ينبغي ولا يليق لهم أن يتعجبوا من إرسال هذا الرسول لهم، فهذا رد عليهم في قولهم: العجب أن الله لم يجد رسولًا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب، وهم من فرط حماقتهم، وقصر نظرهم على الأمور العاجلة، وجهلهم بحقيقة الوحي، مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلا في المال مع أن خفة المال أليق بحاله، - ﷺ -، وما هو بصدده، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم السلام قبله كذلك، اهـ "بيضاوي". والعجب: حالةٌ تعتري الإنسان من رؤية شيءٍ على خلاف العادة، وقيل: العجب حالة تعتري الإنسان عند الجهل بسبب الشيء، اهـ "خازن". وقيل: هو استعظام أمر خفي اهـ.
واسم كان ﴿أَنْ أَوْحَيْنَا﴾؛ أي إيحاؤنا ﴿إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ﴾ محمَّد، - ﷺ -، وخبره ﴿عَجَبًا﴾؛ أي: هل كان عجبًا لأهل مكة إيحاؤنا، وإرسالنا إلى رجل من جنسهم ونسبهم بـ ﴿أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾؛ أي: بأن خوف الكافرين من عذاب الله؛ أي: لا ينبغي لهم العجب من ذلك؛ لأنه ليس في إيحائنا إلى رجل من جنسهم ما يقتضى العجب، فإنه لا يلابس الجنس ويرشده، ويخبره عن الله سبحانه إلا من كان من جنسه، ولو كان من غير جنسهم لكان من الملائكة أو من الجن، ويتعذر المقصود من الإِرسال حينئذٍ؛ لأنهم لا يأنسون إليه ولا يشاهدونه، ولو فرضنا تشكله لهم وظهوره، فإما أن يظهر في غير شكل النوع الإِنساني، وذلك أوحش لقلوبهم وأبعد من أنسهم، أو في الشكل الإِنساني، فلا بد من إنكارهم
وقد كان لرسول الله، - ﷺ -، قبل أن يصطفيه الله تعالى بإرساله، من خصال الكمال عند قريش، ما هو أشهر من الشمس، وأظهر من النهار، حتى كانوا يسمونه الأمين.
وقرأ ابن مسعود (١): ﴿عجب﴾ بالرفع على أن كان تامة وعجب فاعلها، والمعنى: أحدث للناس عجب لأن أوحينا إلى رجل منهم، ومعنى: كونه للناس عجبًا، أنهم جعلوه لهم أعجوبة يتعجبون منها، ونصبوه علمًا لهم يوجهون نحوه استهزاءهم وإنكارهم. وقرأ رؤبة: ﴿إِلَى رَجُلٍ﴾ بسكون الجيم، وهي لغة تميمية، يسكنون فعلًا، نحو: سبع وعضد، في سبع وعضد. ولما كان الإنذار عامًّا، كان متعلقه - وهو الناس - عامًّا، ولما كانت البشارة خاصة كان متعلقها خاصًّا، وهو الذين آمنوا.
وقوله: ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ معطوف على ﴿أَنْذِرِ النَّاسَ﴾ والمعنى: أكان للناس عجبًا إيحاؤنا إلى رجل منهم، بأن أنذر (٢) الناس كافة، وأعلمهم بالتوحيد والبعث وسائر مقاصد الدين، مع التخويف بعاقبة ما هم عليه، من كفر وضلال، وبشر الذين آمنوا منهم بما أوحيناه إليك، بأن لهم قدم صدق؛ أي: أعمالًا صالحةً استوجبوا بها الثواب منه تعالى، ومنزلة رفيعة نالوها بصدق القول وحسن النية.
وفي "الخازن": واختلفت (٣) عبارة المفسرين وأهل اللغة في معنى ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ فقال ابن عباس: أجرًا حسنًا بما قدموا من أعمالهم. وقال الضحاك:
(٢) المراغي.
(٣) الخازن.
وقال زيد بن أسلم: هو شفاعة محمَّد، - ﷺ -، وهو قول قتادة. وقيل: لهم منزلة رفيعة عند ربهم، وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقولهم: مسجد الجامع، وصلاة الأولى، وحب الحصيد. والفائدة في هذه الإضافة: التنبيه على زيادة الفضل ومدح القدم؛ لأن كل شيء أضيف إلى الصدق فهو ممدوح، ومثله في مقعد صدق ومدخل صدق.
وقال أبو عبيدة: كل سابق في خير أو شر، فهو عند العرب قدم، يقال: لفلان قدم في الإِسلام وقدم في الخير، ولفلان عندي قدم صدق وقدم سوء. وقال الليث وأبو الهيثم: القدم: السابقة، والمعنى: أنه قد سبق لهم عند الله خير، والسبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم، فسمى المسبب باسم السبب، كما سميت النعمة يدًا؛ لأنها تعطى باليد اهـ.
وجملة قوله: ﴿قَالَ الْكَافِرُونَ﴾ مستأنفة (١) استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل: ماذا صنعوا بعد التعجب. وقال القفال: قبله إضمار، تقديره: فلما أتاهم (٢) بوحي الله وتلاه عليهم، قال الكافرون المتعجبون من إيحاء الله تعالى إليه، المنكرون لتوحيد الله ورسالة رسوله: ﴿إِنَّ هَذَا﴾ القرآن الذي جاء به محمَّد، - ﷺ -، ﴿لَسَاحِرٌ مُبِينٌ﴾؛ أي: ظاهر واضح، يبين لكم أنه مبطل فيما يدعيه. وجعلوه سحرًا؛ لأنه خارق للعادة في تأثيره في القلوب، وجذبه النفوس إلى الإِيمان به، واحتقار الحياة، ولذاتها في سبيل الله.
(٢) المراغي.
قال ابن عطية (١): وقولهم في الإنذار والبشارة سحر، إنما هو بسبب أنه: فرق كلمتهم وحال بين القريب وقريبه. فأشبه ذلك ما يفعله الساحر، وظنوه من ذلك الباب. وقال الزمخشري: وهذا دليل عجزهم واعترافهم به، وإن كانوا كاذبين في تسميته سحرًا وقرأ (٢) الجمهور، وأبو عمرو وابن عامر ونافع: ﴿لسحر﴾ إشارة إلى الوحي أو القرآن. وقرأ عاصم وحمزة والكسائي وخلف والأعمش وابن محيصن وابن مسعود وأبو رزين ومسروق وابن جبير ومجاهد وابن وثاب وطلحة وابن كثير وعيسى بن عمرو، بخلاف عنهما ﴿لساحر﴾ إشارة إلى الرسول، - ﷺ -، وفي مصحف أبيّ ﴿ما هذا إلا سحر﴾. وقرأ الأعمش أيضًا ﴿ما هذا إلا ساحر﴾.
وحاصل المعنى على القراءة الثانية أعني القراءة على صيغة اسم الفاعل؛ أي (٣): إن الكافرين لما جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشرهم، قالوا متعجبين: إن هذا الذي يدعي أنه رسول وهو محمَّد، - ﷺ -، ساحر ظاهر. وعلى القراءة الأولى، أعني؛ قراءة المصدر؛ أي: إن هذا القرآن لكذب ظاهر ووصف الكفار القرآن بكونه سحرًا، يدل على عظم القرآن عندهم من حيث تعذر المعارضة عليهم
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
٣ - ثم إن الله سبحانه وتعالى جاء بكلام يبطل به العجب الذي حصل للكفار، من الإيحاء إلى رجل منهم فقال: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ﴾ ومالككم ومعبودكم الذي يستحق منكم العبادة هو ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: هو المعبود بحق الذي لا يعبد معه سواه ﴿الَّذِي خَلَقَ﴾ وأوجد ﴿السموات والأرض﴾ واخترعهما على غير مثال سابق ﴿في﴾ مقدار ﴿سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾ معلومة التي أولها الأحد، وآخرها الجمعة ﴿ثُمَّ﴾ بعد خلق السموات والأرض ﴿اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ﴾ العظيم المخلوق قبلهما استواء يليق بعظمته وجلاله، لا يكيف ولا يمثل ولا يعطل ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾ حالة كونه ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾ أي يدبر أمر ملكوت السموات والأرض ويصرفها على الوجه الأكمل، ويقدرها ويقضيها بحسب ما اقتضته حكمته وتعلقت به إرادته.
أي: من (١) كان له هذا الاقتدار العظيم الذي تضيق العقول عن تصوره كيف يكون إرساله لرسول إلى الناس من جنسهم، محلًا للتعجب؟ مع كون الكفار يعترفون بذلك، فكيف لا يعترفون بصحة هذه الرسالة بهذا الرسول؟.
وحاصل المعنى: أي إن (٢) ربكم هو الله الذي خلق العوالم السماوية التي فوقكم، وهذه الأرض التي تعيشون على ظهرها في ستة أزمنة، قد تم في كل زمن منها، طور من أطوارها، وقدرها بمقادير أرادها، ثم استوى على عرشه الذي جعله مركز هذا التدبير لهذا الملك العظيم، استواء يليق بعظمته وجلاله، حالة كونه يدبر أمر ملكه بما اقتضاه علمه من النظام، واقتضته حكمته من الأحكام، ولا يستنكر من هو رب هذا الخلق المدبر لأمور عباده، أن يفيض ما شاء من علمه على من اصطفى من خلقه، ما يهديهم به، لما فيه كمالهم من
(٢) المراغي.
قال الزجاج (١): إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية، كانوا يقولون: إن الأصنام شفعاؤنا عند الله.
فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه بشيء إلا بعد إذنه؛ لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب فقال: ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ أي، لا يوجد (٢) شفيع يشفع لأحد عنده تعالى إلا من بعد إذنه، والآية بمعنى، قوله سبحانه؛ ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾. وقد جاء في كتابه تعالى، أنه لا يشفع أحد عنده بإذنه إلا من ارتضاه للشفاعة كما قال ﴿يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا﴾ ومن أذن له بالشفاعة لا يشفع إلا لمن رضي له الرحمن، لإيمانه وصالح عمله كما قال: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾. وفي هذا إيماء لدحض العقيدة التي كان يعتقدها مشركو العرب، ومقلدوهم من أهل الكتاب من أن الأصنام والأوثان وعباده المقربين من الملائكة والبشر، يشفعون
(٢) المراغي.
﴿ذَلِكُمُ﴾ الرب، الموصوف بالصفات السابقة، من الخلق والتقدير والحكمة والتدبير والتصرف في أمر الشفاعة، يأذن بها لمن يشاء هو ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: المعبود بحق في الوجود ﴿رَبُّكُمْ﴾ المتولي شؤونكم ﴿فَاعْبُدُوهُ﴾؛ أي: أفردوه بالعبادة ولا تشركوا به شيئًا، ولا تشركوا معه أحدًا، لا في شفاعة، ولا في غيرها، فالشفعاء لا يملكون لكم من دونه نفعًا ولا ضرًّا، بل هو الذي يملك ذلك وحده، وهو قد هداكم إلى أسباب النفع والضر الكسبية بالعقول والمشاعر التي سخرها لكم، وإلى أسباب النفع والضر الغيبية بوحيه، فلا تطلبوا نفعًا ولا ضرًّا إلا بالأسباب التي سخرها لكم، وما تعجزون عنه أو تجهلون أسبابه فادعوه فيه تعالى وحده يحصل لكم ما فيه ترغبون، أو يدفع عنكم ما تكرهون وهذه الجملة زيادة تأكيد لقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾.
والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾ للاستفهام الإنكاري المضمن للتوبيخ والتقريع، داخلة على محذوف، والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، والتقدير: أتجهلون هذا الحق الواضح، فلا تتذكرون أن الذي خلق السموات والأرض، وانفرد بتدبير هذا العالم، هو الذي يجب أن يعبد، ولا يعبد سواه، وذلك هو مقتضى الفطرة، والإعراض عنه غفلة يجب التنبيه إليها.
٤ - ﴿إِلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى لا إلى غيره ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾، أي: رجوعكم أيها الخلائق بالبعث بعد الموت، للمجازاة على أعمالكم؛ أي: إلى ربكم وحده دون غيره من معبوداتكم وشفعائكم وأوليائكم ترجعون ﴿جَمِيعًا﴾ بعد الموت وفناء هذا العالم الذي أنتم فيه، لا يتخلف منكم أحد، فلا حكم إلا حكمه، ولا نافذ إلا أمره ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه
﴿إنه﴾ تعالى ﴿يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾؛ أي: المخلوق فالمصدر بمعنى المفعول، وينشئه من العدم المحض حين التكوين، ليأمرهم بالعبادة ثم يميتهم ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾؛ أي: ينشؤه نشأة أخرى، من العدم بالبعث بعد انحلاله وفنائه ﴿لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ باللهِ ورسوله ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ بامتثال المأمورات واجتناب المنهيات على إيمانهم وأعمالهم الصالحة ﴿بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: بالعدل الذي لا جور فيه لا ينقص من أجورهم شيئًا. وقال البيضاوي: قوله: ﴿بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: بعدله، أو بعدالتهم وقيامهم على العدل في أمورهم، أو بإيمانهم؛ لأنه العدل القويم، كما أن الشرك ظلم عظيم، وهو الأوجه لمقابلة قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ إلخ. والجزاء (٢) بالعدل لا يمنع أن يزيدهم ربهم شيئًا من فضله، ويضاعف لهم كما وعد على ذلك في آيات أخرى، منها قوله: ﴿لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ﴾ وقوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ وفي هذه الجملة (٣) إيماء إلى أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة، هو الإثابة وإيصال الرحمة، وأما عقاب الكفرة، فكأنه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم وسوء أفعالهم؛ أي: إنه تعالى يعيدهم لأجل جزائهم بالعدل، فيعطي كل عامل حقه من الثواب الذي جعله لعمله، وهذا المعنى، قد جاء في آيات كثيرة كقوله: ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا﴾ وقوله: ﴿قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
والعدل في الأمور كلها مما يتطلبه الإيمان كما قال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
وقد اتفق (١) العلماء جميعًا، ماديهم وروحيهم على أن الأرض وجميع الأجرام السماوية، قد وجدت بعد أن لم تكن، وإن كانوا لا يزالون يبحثون عن كيفية تلك النشأة والقوة المتصرفة في أصل مادتها، وهم جميعًا متفقون على توقع خراب هذه الأرض والكواكب المرتبطة بها في هذا النظام الشمسي الجامع لها، بأن تصيب الأرض قارعة من الأجرام السماوية تبسها بسًّا، فتكون هباءً منبثًا. وهَا هُوَذَا، قد حمل البدء بالفعل، والإعادة أهون من البدء، فمن قدر على البدء يكون أقدر على الإعادة، كما قال في سورة الروم: ﴿وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ﴾.
وقرأ (٢) عبد الله، وأبو جعفر والأعمش وسهل بن شعيب ويزيد بن القعقاع: ﴿أنه يبدأ الخلق﴾ بفتح الهمزة. قال الزمخشري: هو منصوب بالفعل الذي نصب ﴿وعد الله﴾، والتقدير: وعد الله تعالى بدأ الخلق، ثم إعادته والمعنى: إعادة الخلق بعد بدئه، ﴿وعد الله﴾ على لفظ الفعل، ويجوز أن يكون مرفوعًا بما نصب حقًّا؛ أي: حق حقًّا بدء الخلق ثم إعادته كقوله:
أَحَقًّا عِبَادَ اللهِ أَنْ لَسْتُ جَائِيَا | وَلاَ ذَاهِبًا إلَّا عَلَيَّ رَقِيْبُ |
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ باللهِ ورسوله محمَّد، - ﷺ -، وبالقرآن ﴿لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ﴾؛ أي: من ماء حار قد انتهى حره ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾؛ أي: وجيع يبلغ وجعه إلى قلوبهم ﴿بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾؛ أي: بسبب كفرهم بالله ورسوله؛ أي: إن
(٢) البحر المحيط.
وتعليل الرجوع إليه تعالى بأنه لجزاء المؤمنين الصالحين، بيان منه، بأنه المقصود بالذات، إذ هو الذي يكون به منتهى كمال الارتقاء البشري، للذين زكوا أنفسهم، وطهروا قلوبهم وأخبتوا إلى ربهم، فيلقى من عمل الصالحات من النعيم المادي، ما هو خال من الشوائب التي تخالطه في نعيم الدنيا، ومن النعيم الروحي، وهو رضوان الله الأكبر مما لا يعلم كنهه في هذه الحياة أحدٌ، كما قال: ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ﴾ وجاء في الحديث القدسي "أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" رواه البخاري.
وأما جزاء الكافرين الظالمين لأنفسهم، وللناس على تدسيتهم لأنفسهم، بالكفر والخطايا، فليس من المقاصد التي اقتضتها الحكمة الإلهية في خلق الإنسان، ولكنها مقتضى العدل، ومقتضى مشيئته تعالى في ارتباط الأسباب بالمسببات، والعلل بالمعلولات.
٥ - ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً﴾؛ أي: ذات ضياء أو مضيئة ﴿و﴾ جعل ﴿القمر نورًا﴾ أي: ذا نور أو منيرًا؛ إن ربكم الذي خلق السموات والأرض هو الذي جعل الشمس مضيئة نهارًا، والقمر منيرًا ليلًا، ودبر أمور معاشكم هذا التدبير البديع، فأجدر به وأولى أن يدبر أمور معادكم، بإرسال الرسل، وإنزال الكتب، والضوء والنور، بمعنى واحد، لغة، والضوء أقوى من النور، استعمالًا بدليل هذه الآية. وقيل: الضوء: لما كان من ذاته، كالشمس والنار، والنور: لما كان مكتسبًا من غيره ويدل على ذلك قوله: ﴿وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا﴾. والسراج: نوره من ذاته، والضياء والضوء: ما أضاء لك.
(٢) الخازن.
فإن (١) في العلم بعدد السنين من المصالح الدينية؛ والدنيوية ما لا يحصى، وفي العلم بحساب الأشهر والأيام والليالي من ذلك ما لا يخفى، ولولا هذا التقدير الذي قدره الله سبحانه.. لم يعلم الناس بذلك، ولا عرفوا ما يتعلق به كثير من مصالحهم، والسنة تتحصل من اثني عشر شهرًا، والشهر يتحصل من ثلاثين يومًا، إن كان كاملًا، واليوم يتحصل من ساعات معلومة هي: أربع وعشرون ساعة للَّيل والنهار، وقد يكون لكل واحد منهما اثنتا عشرة ساعة في أيام الاستواء، ويزيد أحدهما على الآخر في أيام الزيادة والنقصان، والاختلاف بين السنة الشمسية والقمرية معروف.
والمعنى: قدره منازل لتعلموا بتلك المنازل حساب الأوقات، من الأشهر والأيام، لضبط عباداتكم ومعاملاتكم المالية والمدنية، ولولا هذا النظام المشاهد.. لتعذر العلم بذلك على الأميين، من أهل البدو والحضر، إذ حساب السنين والشهور الشمسية لا يعلم إلا بالدراسة، ومن ثم جعل الشارع الحكيم الصوم والحج وعدة الطلاق بالحساب القمري، الذي يعرفه كل أحد بالمشاهدة، ولعبادتي الصوم والحج حكمة أخرى وهي: دورانهما في جميع فصول السنة، فيعبد المسلمون ربهم في جميع الأوقات من حارة وباردة وطويلة وقصير ومعتدلة.
﴿مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ﴾ المذكور من جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وتقديره: منازل ﴿إِلَّا﴾ خلقًا ملابسًا ﴿بِالْحَقِّ﴾ والصواب والحكمة البالغة ومطابقة المصلحة في أمور المعاملات، والعبادات، ولم يخلق ذلك باطلًا ولا عبثًا؛ أي: ما خلق
وخص من يعلم بتفصيل الآيات لهم؛ لأنهم الذين ينتفعون بتفصيل الآيات، ويتدبرون بها في الاستدلال والنظر الصحيح. وقرأ قنبل (٢) ﴿ضئاء﴾ هنا وفي الأنبياء والقصص، بهمزة قبل الألف، بدل الياء. وقرأ ابن مصرف: ﴿وَالْحِسَابَ﴾ بفتح الحاء، ورواه أبو توبة: عن العرب. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص: ﴿يفصل﴾ بالياء جريًا على لفظة الله، وباقي السبعة بالنون على سبيل الالتفات، والإخبار بنون العظمة.
٦ - ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾؛ أي: في تعاقبهما، أو في تفاوتهما بازدياد
(٢) البحر المحيط.
﴿لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾؛ أي: لدلائل (١) عظيمة على وجود الصانع ووحدانيته، وحكمته في الإبداع والإتقان، وفي تشريع العقائد والأحكام ﴿لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ مخالفة سننه تعالى في التكوين، وسننه في التشريع، فلله سنن في حفظ الصحة، من خالفها مرض، وله سنن في تزكية الأنفس، من خالفها، وأفسدها بارتكاب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، جوزي على ذلك في الآخرة أشد الجزاء.
٧ - ﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾؛ أي: لا يخافون لقاءنا يوم القيامة لتكذيبهم بالبعث والمجازاة، فهم مكذبون بالثواب والعقاب، أو لا يطمعون ثوابنا؛ لأنهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ﴿وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ واختاروها بدل الآخرة، وعملوا في طلبها فهم راضون بزينة الدنيا وزخرفها ﴿وَاطْمَأَنُّوا بِهَا﴾؛ أي: سكنوا ومالوا إليها مطمئنين فيها. وهذه الطمأنينة التي حصلت في قلوب الكفار، من الميل إلى الدنيا ولذاتها، أزالت عن قلوبهم الوجل والخوف، فإذا سمعوا الإنذار والتخويف لم يصل ذلك إلى قلوبهم. والمعنى؛ أي: إن الذين لا يتوقعون
والعطف (١) إما لتغاير الوصفين، والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأسًا والانهماك في الشهوات، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلًا، وإما لتغاير الفريقين، والمراد بالأولين، من أنكر البعث ولم يرد إلا الحياة الدنيا، وبالآخرين من ألهاه حب العاجل عن التأمل في الآجل والاستعداد له.
٨ - ﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالصفات السابقة ﴿مَأْوَاهُمُ﴾ ومسكنهم في الآخرة ﴿النَّار﴾ جزاء ﴿بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾؛ أي: جزاءً على ما كانوا يقترفون من السيئات طول حياتهم، فهم قد دنسوا أنفسهم بشرور الوثنية، وظلمات الشهوات الحيوانية، فلم يبق لنور الحق والخير مكان فيها، ومن ثم لا يجدون ملجأً بعد هول الحساب إلا جهنم دار العذاب.
٩ - وبعد (٢) أن أبان جزاء الفريق الأول.. كان من الواضح أن تستشرف نفس القارئ والسامع إلى جزاء الفريق الثاني فقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ أي: شغلوا قلوبهم وأرواحهم بتحصيل المعرفة ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾؛ أي: شغلوا جوارحهم بالخدمة، فعينهم مشغولة بالاعتبار، وأذنهم مشغولة بسماع كلام الله تعالى، ولسانهم مشغول بذكر الله ﴿يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ﴾؛ أي: يهديهم إلى الجنة ثوابًا لهم على إيمانهم وأعمالهم الصالحة، وإنما لم يذكر الجنة تعويلًا على ظهورها،
(٢) المراغي.
وقوله: ﴿تجري﴾ وتسيل ﴿مِنْ تَحْتِهِمُ﴾؛ أي: من تحت قصورهم وأشجارهم ﴿الْأَنْهَار﴾ الأربعة الماء واللبن والخمر والعسل، جملة مستأنفة أو خبر ثانٍ؛ لأن، أو: حال من مفعول يهديهم. وقوله: ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾ خبر آخر، أو حال أخرى من الأنهار أو متعلق بتجري؛ أي: إنهم يكونون جالسين على سرر مرفوعة في البساتين والأنهار التي تجري من بين أيديهم.
١٠ - ﴿دَعْوَاهُمْ﴾؛ أي: دعاؤهم ونداؤهم ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة ﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾؛ أي: نسبحك يا الله تسبيحًا، ونقدسك تقديسًا من كل النقائص ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ﴾؛ أي: تحية بعضهم لبعض ﴿فِيهَا﴾؛ أي: في الجنة؛ أي: أو تحية الله، أو الملائكة لهم فيها ﴿سَلَامٌ﴾؛ أي: قول سلام عليكم، الدال على السلامة من كل مكروه، وهي تحية المؤمنين في الدنيا ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ﴾؛ أي: وخاتمة دعائهم وثنائهم الذي هو التسبيح ﴿أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: أن يقولوا الحمد لله رب العالمين؛ أي: خاتمة تسبيحهم في كل مجلس، أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين لا أن معناه: انقطاعه؛ أي: الحمد، فإن أقوال أهل الجنة وأحوالها لا آخر لها، اهـ "كرخي".
أي (١): أن أهل الجنة لما عاينوا ما هم فيه من السلامة عن الآفات، والمخافات، علموا أن كل هذه الأحوال السنية إنما كانت بإحسان الله تعالى عليهم، فاشتغلوا بالثناء على الله تعالى، فقالوا الحمد لله رب العالمين وإنما وقع
وإن آخر كل حال من أحوالهم من دعاء يناجون به ربهم، ومطلب يطلبونه من إحسانه وكرمه ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ كما أنه أول ثناء عليه، حين دخولها كما قال: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ﴾ كما أنه آخر كلام الملائكة كما قال: ﴿وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
فعلى كل مؤمن أن يستعد لها بتزكية نفسه، وترقية روحه، ويعلم أنه لن يكون أهلًا لها إلا بالعمل، ومجاهدة النفس والهوى، كما قال تعالى: ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (١٢٣) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (١٢٤)﴾.
وقال أهل (٢) التفسير: كلمة ﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ علامة بين أهل الجنة والخدم
(٢) الخازن.
وقيل: إن المراد بقوله: ﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾ اشتغال أهل الجنة بالتسبيح والتحميد، والتقديس لله عَزَّ وَجَلَّ، والثناء عليه بما هو أهله، وفي هذا الذكر والتحميد سرورهم، وابتهاجهم، وكمال لذتهم، ويدل عليه ما روي عن جابر قال: سمعت رسول الله، - ﷺ -، يقول: "أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون ولا يشغلون ولا يبولون ولا يتغوطون ولا يمتخطون"، قالوا: فما بال الطعام؟ قال: "جشاء ورشح كرشح المسك يلهمون التسبيح والتحميد، كما يلهمون النفس" وفي رواية "التسبيح والحمد" أخرجه مسلم. قوله: جشاء؛ أي: يخرج ذلك الطعام جشاء وعرقًا.
وقال الزجاج: أعلم الله أن أهل الجنة يبتدئون بتعظيم الله وتنزيهه، ويختمون بشكره والثناء عليه، انتهى. وقرأ (١) عكرمة، ومجاهد وقتادة وابن يعمر وبلال بن أبي بردة وأبو مجلز وأبو حيوة وابن محيصن، ويعقوب: ﴿إن الحمد لله﴾ بالتشديد ونصب الحمد. قال ابن جني: ودلت قراءة الجمهور بالتخفيف ورفع الحمد على أن ﴿أن﴾ هي المخففة كقول الأعشى:
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوْفِ الْهِنْدِ قَدْ عَلِمُوْا | إِن هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحَفَى وَينْتَعِلُ |
ونزل لما استعجل المشركون رسول الله، - ﷺ -، بالعذاب الذي أنذرهم نزوله بهم، كما حكى الله عنهم في نحو قوله: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ﴾ وقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ
١١ - قوله تعالى: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ﴾؛ أي: ولو يعجل الله سبحانه وتعالى للناس إجابة الدعاء في طلب الشر، وفيما عليهم فيه مضرة في نفس، أو مال، أو ولد عند الغضب، أو الضمير من البلاء ﴿اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ﴾؛ أي: تعجيلًا مثل استعجالهم إجابة الدعاء في طلب الخير، الذي يدعونه من الله، أو حصول الخير الذي يرجونه بعلاج الأسباب، التي يظنون أنها قد تأتي به قبل أوانه ﴿لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾؛ أي: لحكم عليهم حلول أجلهم قبل أوانه، ووقته الطبيعي وفرغ من هلاكهم وماتوا جميعًا كما هلك الذين كذّبوا الرسل من قبلهم، واستعجلوهم بالعذاب، ولكن الله أرحم بهم من أنفسهم. وقد بعث محمدًا، - ﷺ -، بالهداية الدائمة، وقضى بأن يؤمن به قومه العرب، ويحملوا دينهم إلى العجم، وأنه يعاقب المعاندين من قومه في الدنيا، بما فيه تأديب لهم، كما بين ذلك بقوله: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ ويؤخر عذاب سائر الكافرين إلى يوم القيامة، ولم يقض بإهلاكهم واستئصالهم بل يذرهم إلى نهاية آجالهم كما قال: ﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ الخ.
وقال ابن قتيبة (١): إن الناس عند الغضب والضجر، قد يدعون على أنفهسم وأهلهم وأولادهم، بالموت وتعجيل البلاء، كما يدعون بالرزق والرحمة وإعطاء السؤال، يقول: لو أجابهم الله إذا دعوه بالشر الذي يستعجلون به استعجالهم بالخير.. لقضى إليهم أجلهم، يعني: لفرغ من هلاكهم، ولكن الله عَزَّ وَجَلَّ بفضله وكرمه يستجيب للداعي بالخير، ولا يستجيب له في الشر.
وقرأ ابن عامر (٢): ﴿لقضى﴾ مبنيًّا للفاعل ﴿أجلهم﴾ بالنصب. وقرأ الأعمش ﴿لقضينا﴾ وباقي السبعة مبنيًّا للمفعول ﴿وأجلهم﴾ بالرفع. وقوله:
(٢) البحر المحيط.
وحاصل المعنى (٢): أي فنترك الذين لا يرجون لقاءنا ممن تقدم ذكره، فيما هم فيه من طغيان في الكفر والتكذيب، يترددون فيه متحيرين لا يهتدون سبيلًا للخروج منه، ولا نعجل لهم العذاب في الدنيا بالاستئصال، حتى يأتي أمر الله في جماعتهم بنصر رسوله، - ﷺ -، عليهم وفي أفرادهم بقتل بعضهم، وموت بعض، ومأواهم النار وبئس القرار، إلا من تاب وآمن منهم.
وقد يكون المراد ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه، بما يقترفونه من ظلم وفساد في الأرض، لأهلكهم كما جاء في قوله: ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾. ومن هذا دعاؤهم على أنفسهم حين اليأس، ودعاء بعضهم على بعض حين الغضب، كما قال: ﴿وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ﴾؛ أي: وما دعاء الكافرين بربهم أو بنعمه فيما يخالف شرعه بسننه في خلقه، إلا في ضياع، لا يستجيبه الله لهم، لحلمه عليهم ورحمته بهم.
١٢ - ثم بين الله سبحانه وتعالى أنهم كاذبون في استعجال الشر، ولو أصابهم ما طلبوه.. لأظهروا العجز والجزع فقال: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ﴾؛ أي: إذا أصاب جنس الإنسان، مسلمًا كان أو كافرًا. وقيل: المراد به، الكافر ﴿الضُّرُّ﴾؛ أي:
(٢) المراغي.
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا﴾ وأزلنا ﴿عَنْهُ ضُرَّهُ﴾ وجهده الذي دعانا إليه، حال شعوره بعجزه، عن كشفه بنفسه، أو بغيره من الأسباب ﴿مَرَّ﴾ ومضى واستمر في طريقته التي كان عليها قبل مس الضر، من الغفلة عن ربه، والكفر به ﴿كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ﴾؛ أي: وكان كأنه لم يدعنا إلى كشف ضر، وجهد مسّه، وأصابه ولم نكشف عنه ضرًّا. والمعنى: أنه استمر على حالته الأولى، قبل أن يمسه الضر، ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء والضيق والفقر، وهذه (١) الحالة التي ذكرها الله سبحانه للداعي لا تختص بأهل الكفر، بل تتفق لكثير من المسلمين، تلين ألسنتهم بالدعاء، وقلوبهم بالخشوع والتذلل، عند نزول ما يكرهون بهم، فإذا كشفه الله عنهم غفلوا عن الدعاء، والتضرع، وذهلوا عما يجب عليهم من شكر النعمة التي أنعم الله بها عليهم، من إجابة دعائهم، ورفع ما نزل بهم من الضر، ودفع ما أصابهم من المكروه، وهذا مما يدل على أن الآية تعم المسلم والكافر كما يشعر به لفظ الناس ولفظ الإنسان، اللهم أوزعنا شكر نعمتك، وأذْكرنا الأحوال التي مننت علينا فيها بإجابة الدعاء، حتى نستكثر من الشكر
وهذه الآية (١)، بيان أن الإنسان قليل الصبر عند نزول البلاء، قليل الشكر عند وجدان النعماء، فإذا مسه الضر أقبل على التضرع والدعاء، مضطجعًا أو قاعدًا أو قائمًا مجتهدًا في ذلك الدعاء، طالبًا من الله تعالى إزالة تلك المحنة وتبديلها بالمنحة، فإذا كشف الله تعالى عنه بالعافية، أعرض عن الشكر ولم يتذكر ذلك الضر، ولم يعرف قدر الإنعام، وصار بمنزلة من لم يدع الله تعالى لكشف ضره، فالواجب على العاقل أن يكون صابرًا عند نزول البلاء، شاكرًا عند الفوز بالنعماء، وأن يكون كثير الدعاء والتضرع في أوقات الراحة والرفاهية، حتى يكون مجاب الدعوة في وقت المحنة. وعن رسول الله، - ﷺ -، أنه قال: "من سره أن يستجاب له عند الكرب والشدائد فليكثر الدعاء عند الرخاء".
والإشارة (٢) بقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ إلى مصدر الفعل المذكور بعده كما مر غير مرة؛ أي: مثل ذلك التزيين العجيب الذي حصل لمن مسه الضر ﴿زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: زين لهم عملهم الخبيث، والمسرف في اللغة هو الذي ينفق المال الكثير لأجل الغرض الخسيس، وشرعًا من باع دينه بدنياه واستبدلها عن آخرته. والتزيين هو إما من جهة الله تعالى على طريق التحلية وعدم اللطف بهم، أو من طريق الشيطان بالوسوسة أو من طريق النفس الأمارة بالسوء. والمعنى: أنه زين لهم الإعراض عن الدعاء، والغفلة عن الشكر والاشتغال بالشهوات.
وعبارة الجلال ﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: كما زين له الدعاء عند الضر، والإعراض عند الرخاء ﴿زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ﴾؛ أي: للمشركين ﴿مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾؛ أي: كما زين لهذا الإنسان الدعاء عند الضر والإعراض عند الرخاء، زين للمسرفين المتجاوزين الحد في الإجرام والإشراك، ما كانوا يعملون من الإعراض عن الشكر والإيمان
(٢) الشوكاني.
الإعراب
﴿الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (١) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (٢)﴾.
﴿الر﴾: ليس بمعرب ولا مبني، فلا محل له من الإعراب، إن قلنا: إنه مما استأثر الله تعالى بعلمه؛ لأن الإعراب فرع عن إدراك المعنى، وإن قلنا: إنه علم للسورة.. فتجري فيه الأوجه الخمسة، أو السبعة التي تجري، في أسماء التراجم، ولكن إعرابه لا يظهر لتعذره بسكون الوقف. ﴿تِلْكَ﴾: مبتدأ ﴿آيَاتُ الْكِتَابِ﴾: خبر ومضاف إليه. ﴿الْحَكِيمِ﴾ صفة للكتاب والجملة مستأنفة استئنافًا نحويًّا. ﴿أَكَانَ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري ﴿كَانَ﴾: فعل ماضٍ ناقص. ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق بـ ﴿عَجَبًا﴾ أو حال منه؛ لأن التقدير: أكان عجبًا للناس، أو متعلق بـ ﴿كَانَ﴾ كما ذكره: أبو البقاء. ﴿عَجَبًا﴾ خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم على اسمه ﴿أَنْ أَوْحَيْنَا﴾ ناصب وفعل وفاعل ﴿إِلَى رَجُلٍ﴾: متعلق به ﴿مِنْهُمْ﴾ صفة لرجل، والجملة الفعلية في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ مؤخرًا، تقديره: أكان إيحاؤنا إلى رجل منهم عجبًا للناس، وجملة ﴿كَانَ﴾ جملة إنشائية مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. ﴿أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ﴾: ﴿أَنْ﴾ مصدرية، أو مفسرة بمعنى: أي ﴿أَنْذِرِ النَّاسَ﴾: فعل أمر، ومفعول في محل النصب بـ ﴿أَنْ﴾ المصدرية، وفاعله ضمير يعود على ﴿رَجُلٍ﴾، والجملة في تأويل مصدر منصوب بـ ﴿أَوْحَيْنَا﴾ تقديره: أن أوحينا إلى رجل منهم إنذار الناس، أو الجملة مفسرة ﴿لأوحينا﴾ لا محل لها من الإعراب، ﴿وَبَشِّرِ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول، معطوف على ﴿أَنْ أَنْذِرِ﴾
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾.
﴿إِنَّ رَبَّكُمُ﴾: ناصب واسمه ﴿اللَّهُ﴾: خبره والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع صفة للجلالة ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول ﴿وَالْأَرْضَ﴾: معطوف على ﴿السموات﴾ ﴿فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بخلق.
﴿ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿اسْتَوَى﴾ فعل ماضٍ وفاعله ضمير يعود على الله ﴿عَلَى الْعَرْشِ﴾: متعلق به، والجملة معطوفة على جملة خلق ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في محل النصب، حال من فاعل ﴿اسْتَوَى﴾ أو في محل الرفع خبر ثانٍ؛ لـ ﴿إن﴾، أو، مستأنفة لا محل لها من الإعراب، كما ذكره في "الفتوحات" ﴿مَا مِنْ شَفِيعٍ﴾ ﴿مَا﴾: نافية. ﴿مِنْ﴾: زائدة ﴿شَفِيعٍ﴾: مبتدأ وسوغ الابتداء بالنكرة دخول ﴿مِنْ﴾ الاستغراقية عليه ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة ﴿ذَلِكُمُ﴾: مبتدأ ﴿اللَّهُ﴾: خبره ﴿رَبُّكُمْ﴾: بدل من الجلالة، أو خبر
﴿إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ﴾.
﴿إِلَيْهِ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، ومضاف إليه ﴿جَمِيعًا﴾: حال من ضمير، المخاطبين، والجملة مستأنفة. ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾: منصوب على المصدرية، بفعل محذوف، تقديره: وعدكم بالرجوع إليه وعدًا، والجملة مستأنفة، مسوقة لتأكيد ما قبلها. ﴿حَقًّا﴾: منصوب أيضًا على المصدرية، بفعل محذوف، تقديره، حق ذلك الوعد حقًّا، والجملة مؤكدة لـ ﴿وَعْدَ اللَّهِ﴾ وفي "الفتوحات" قوله: ﴿وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا﴾ مصدران منصوبان بفعلهما المقدر؛ أي: وعدكم بالرجوع إليه وعدا، وحق ذلك الوعد حقًّا، لكن الأول مؤكد لنفسه؛ لأن قوله: إليه مرجعكم جميعًا، صريح في الوعد لا يحتمل غيره، والثاني مؤكد لغيره، فإن الوعد يحتمل الحق وغيره، اهـ "بيضاوي"، وفي "زاده" المصدر إذا أكد مضمون جملة تدل على معناه، فإن كان نصًّا فيه لا تحتمل غيره.. فهو مؤكد لنفسه، كما هنا فإن إليه مرجعكم لا يحتمل غير الوعد، وإن احتملته وغيره كان مؤكدًا لغيره، مثل ﴿حَقًّا﴾ فإن الوعد يحتمل الحقية والتخلف، والعامل فيهما محذوف اهـ ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. ﴿يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾، فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الرفع، خبر ﴿إِنّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. وجملة ﴿كَفَرُوا﴾: صلة الموصول ويجوز أن يكون الموصول في محل النصب، معطوفًا على الموصول قبله، وتكون الجملة بعده مبينة لجزائهم. ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿شَرَابٌ﴾: مبتدأ ثانٍ مؤخر. ﴿مِنْ حَمِيمٍ﴾: صفة لشراب. ﴿وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾: معطوف على شراب، والجملة الاسمية في محل الرفع، خبر للمبتدأ الأول، وجملة المبتدأ الأول مستأنفة ﴿بِمَا﴾، الباء: حرف جر ﴿مَا﴾: مصدرية ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿يَكْفُرُونَ﴾ خبره وجملة ﴿كَان﴾ في تأويل مصدر، مجرور بالباء تقديره.: لهم شراب من حميم، بسبب كفرهم، الجار والمجرور متعلق بالاستقرار، الذي تعلق به الخبر. وقال أبو البقاء: الجار والمجرور في قوله: ﴿بِمَا كَانُوا﴾ في موضع رفع صفة أخرى لعذاب، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف اهـ.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾ مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة ﴿جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً﴾: فعل ومفعولان، ﴿وَالْقَمَرَ نُورًا﴾: معطوف على المفعولين، وفاعله ضمير على ﴿اللَّهِ﴾ والجملة الفعلية صلة الموصول. ﴿وَقَدَّرَهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير
﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب. ﴿فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه خبر مقدم لـ ﴿إِنَّ﴾ ﴿وَالنَّهَارِ﴾: معطوف على ﴿اللَّيْلِ﴾ ﴿وَمَا﴾ في محل الجر معطوف على اختلاف الليل ﴿خَلَقَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: متعلق به ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السموات﴾ والجمله الفعلية صلة لما، أو صفة لها والعائد أو الرابط، محذوف تقديره: وما خلقه الله ﴿لَآيَاتٍ﴾ اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر واللام حرف ابتداء ﴿لِقَوْمٍ﴾: صفة ﴿لَآيَاتٍ﴾ ﴿يَتَّقُونَ﴾: صفة ﴿لِقَوْمٍ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة.
﴿إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (٧)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿الَّذِينَ﴾ اسمها. ﴿لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول ﴿وَرَضُوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿لَا يَرْجُونَ﴾ ﴿بِالْحَيَاةِ﴾ متعلق بـ ﴿رضوا﴾ ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الحياة﴾ ﴿وَاطْمَأَنُّوا﴾: فعل وفاعل، معطوف على ﴿رضوا﴾ ﴿بِهَا﴾: متعلق بـ ﴿اطْمَأَنُّوا﴾ ﴿وَالَّذِينَ﴾ معطوف على الموصول الأول ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿عَنْ آيَاتِنَا﴾: متعلق بـ ﴿غَافِلُونَ﴾. ﴿غَافِلُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة الاسمية صلة الموصول.
﴿أُولَئِكَ﴾، مبتدأ أول ﴿مَأْوَاهُمُ﴾ مبتدأ ثانٍ. ﴿النَّارُ﴾: خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والجملة من الأول وخبره خبر، لـ ﴿إن﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة ﴿بِمَا كَانُوا﴾: الباء حرف جر وسبب ﴿ما﴾: موصولة أو موصوفة أو مصدرية ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿يَكْسِبُونَ﴾: خبره وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة لما، أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما كانوا يكسبونه، أو صلة لـ ﴿ما﴾ المصدرية تقديره: بكسبهم، الجار والمجرور متعلق بفعل محذوف، دل عليه الكلام، تقديره: جوزوا ذلك بما كانوا يكسبون، ذكره أبو البقاء.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٩)﴾.
﴿إِنَّ﴾ حرف نصب ﴿الَّذِينَ﴾: في محل النصب اسمها ﴿آمَنُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿آمَنُوا﴾ ﴿يَهْدِيهِمْ﴾: فعل ومفعول وفاعل ﴿بِإِيمَانِهِمْ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة ﴿تَجْرِي﴾: فعل مضارع ﴿مِنْ تَحْتِهِمُ﴾: متعلق به ﴿الْأَنْهَارُ﴾، فاعل والجملة في محل الرفع خبر ثانٍ لـ ﴿إن﴾ أو مستأنفة أو حال من مفعول ﴿يَهْدِيهِمْ﴾ كما في "أبي السعود" ﴿فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾: جار ومجرور خبر ثالث لـ ﴿إن﴾ أو حال ثانية من مفعول ﴿يَهْدِيهِمْ﴾، أو حال من ﴿الْأَنْهَارُ﴾ أو متعلق بـ ﴿تَجْرِي﴾: كما في "الخازن".
﴿دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٠)﴾.
﴿دَعْوَاهُمْ﴾ مبتدأ ومضاف إليه ﴿فِيهَا﴾: جار ومجرور حال من ضمير ﴿دَعْوَاهُمْ﴾. ﴿سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ﴾: خبر محكي؛ أي: دعواهم هذا اللفظ، والجملة مستأنفة ﴿وَتَحِيَّتُهُمْ﴾ مبتدأ. ﴿فِيهَا﴾ هو حال من ضمير ﴿تحيتهم﴾ ﴿سَلَامٌ﴾: خبر والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿دَعْوَاهُمْ﴾ ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ﴾: مبتدأ، ومضاف إليه ﴿أَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف. ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ﴾:
﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ﴾.
﴿وَلَوْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿لو﴾: حرف شرط غير جازم ﴿يُعَجِّلُ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل ﴿لِلنَّاسِ﴾: متعلق به ﴿الشَّرَّ﴾ مفعول به، والجملة الفعلية فعل شرط لـ ﴿لو﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿اسْتِعْجَالَهُمْ﴾ منصوب على المصدر التشبيهي، تقديره: تعجيلًا مثل استعجالهم، ثم حذف الموصوف وهو تعجيل، وأقيمت صفته مقامه وهي مثل فبقي ولو يعجل الله للناس مثل استعجالهم، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه فصار استعجالهم. ﴿بِالْخَيْرِ﴾: متعلق به ﴿لَقُضِيَ﴾ اللام رابطة لجواب ﴿لو﴾ الشرطية. ﴿إِلَيْهِمْ﴾ متلعق به ﴿أَجَلُهُمْ﴾ نائب فاعل ﴿لقضي﴾ وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة.
﴿فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ﴾.
﴿فَنَذَرُ﴾: الفاء عاطفة على محذوف تقديره: ولكن نمهل، ولا نقضي إليهم أجلهم ﴿نذر الذين﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اَللهِ﴾ والجملة الفعلية معطوفة على الجملة المحذوفة ﴿لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾ فعل وفاعل ومفعول ﴿فِي طُغْيَانِهِمْ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية صلة الموصول. وجملة ﴿يَعْمَهُونَ﴾ في محل النصب، حال من ضمير طغيانهم.
﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾.
﴿وَإِذَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إذا﴾ ظرفية شرطية ﴿مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿دَعَانَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الإنسان، والجملة جواب ﴿إذا﴾ لا محل لها من الإعراب وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة ﴿لِجَنْبِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بمحذوف حال من فاعل ﴿دَعَانَا﴾ تقديره: دعانا حالة كونه مضطجعًا على جنبه ﴿أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا﴾: معطوفان على تلك الحال
﴿فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: الفاء: عاطفة ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم ﴿كَشَفْنَا﴾ فعل وفاعل ﴿عَنْهُ﴾: متعلق به ﴿ضُرَّهُ﴾ مفعول به، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿مَرَّ﴾: فعل ماضٍ، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْإِنْسَانَ﴾ والجملة جواب ﴿لما﴾ وجملة ﴿لما﴾ من فعل شرطها وجوابها معطوفة على جملة ﴿إذا﴾ ﴿كَأَنْ﴾ مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، تقديره: كأنه ﴿لَمْ يَدْعُنَا﴾: جازم وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْإِنْسَانَ﴾ ﴿إِلَى ضُرٍّ﴾: متعلق به. وجملة ﴿مَسَّهُ﴾ صفة لضر، وجملة ﴿يَدْعُنَا﴾ في محل الرفع خبر، ﴿كَأَنْ﴾ وجملة ﴿كَأَنْ﴾ في محل النصب، حال من فاعل مر، تقديره: استمر هو على كفره حالة كونه مشبهًا بمن ﴿لَمْ يَدْعُنَا﴾ أصلًا؛ أي: رجع إلى حالته الأولى، وترك الالتجاء إلى ربه ﴿كَذَلِكَ﴾: جار ومجرور، صفة لمصدر محذوف منصوب بـ ﴿ما﴾ بعده تقديره: تزيينًا مثل ذلك التزيين الذي حصل لمن مسه الضر ﴿زُيِّنَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿لِلْمُسْرِفِينَ﴾: متعلق به ﴿مَا كَانُوا﴾: ما موصولة أو موصوفة، في محل الرفع نائب فاعل، لـ ﴿زُيِّنَ﴾ أو مصدرية ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿يَعْمَلُونَ﴾ خبره، وجملة ﴿كَان﴾ صلة لما أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما كانوا يعملونه، أو صلة ما المصدرية تقديره، كذلك زين للمسرفين عملهم الخبيث وجملة زين مستأنفة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْكِتَابِ الْحَكِيمِ﴾ ﴿الْكِتَابِ﴾: هو القرآن العظيم و ﴿الْحَكِيمِ﴾: ذو الحكمة، لاشتمال الكتاب عليها ﴿عَجَبًا﴾: وفي "المختار"، والعجب: مصدر عجيب من باب طرب، وتعجب واستعجب بمعنى، وعجب غيره تعجيبًا، والعجب والعجاب: الشيء الذي يتعجب منه، وكذا العجاب بتشديد الجيم، وهو الأكثر وكذا الأعجوبة ﴿أَنْ أَوْحَيْنَا﴾: والوحي الإعلام الخفي لامرىء بما يخفى على
وَأَنْتَ امْرُؤٌ مِنْ أَهْلِ بَيتِ دُؤَابَةٍ | لَهُمْ قَدَمٌ مَعْرُوْفَةٌ وَمَفَاخِرُ |
لَنَا الْقَدَمُ اَلْعُلْيَا إِلَيْكَ وَخَلْفَنَا | لأوَّلِنَا في طَاعَةِ اللهِ تَابِعُ |
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا﴾ والشمس: كوكب نهاري يزيل ظهوره ظلمة الليل، ولها السلطنة على سائر الكواكب. والقمر: كوكب ليلي له السلطنة على سائر النجوم. والضوء: ما كان من ذاته. والنور: ما كان مكتسبًا من غيره كما مر. والضياء: يحتمل كونه مصدرًا، وكونه جمع ضوء، كسوط وسياط ﴿مَنَازِلَ﴾: جمع منزل، وهو اسم لمكان النزول ﴿لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾
(٢) البحر المحيط.
﴿وَتَحِيَّتُهُمْ﴾ والتحية: التكرمة بقولهم: حياك الله؛ أي: أطال عمرك وحياتك. وفي "الفتوحات" التحية: التكرمة بالحالة الجليلة، أصلها: أحياك الله حياة طيبة؛ أي: ما يحيي به بعضهم بعضًا، فعلى هذا فهو مصدر مضاف لفاعله، أو تحية الملائكة إياهم كما في قوله: ﴿وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (٢٣) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ﴾ أو تحية الله لهم، كما في قوله: ﴿سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (٥٨)﴾ وعلى هذين الأخيرين، فهو مصدر مضاف لمفعوله كما في "الشهاب" ﴿سَلَامٌ﴾؛ أي سلامة من كل مكروه ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ﴾ عجل يعجل تعجيلًا، من باب فعل الرباعي، والاستعجال: مصدر استعجل السداسي، وتعجيل الشيء تقديمه على أوانه المقدر له، أو الموعود به. والاستعجال به طلب التعجيل له. والعجلة من غرائز الإنسان، كما قال تعالى: ﴿خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ﴾ فاستعجاله بالخير لشدة حرصه على منافعه وقلة صبره عنها، واستعجاله بالضر لا يكون من دأبه، بل بسبب عارض كالغضب والجهل والعناد والاستهزاء والتعجيز، أو للنجاة مما هو شر منه وقال الزمخشري (٢): أصله: ولو يعجل الله
(٢) الفتوحات.
﴿لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُم﴾ وقضاء الأجل: انتهاؤه، والأجل: المدة التي أجلها الله لعباده في دار الفناء. ﴿ونذر﴾: نترك، والطغيان: مجاوزة الحد في الشر من كفر وظلم وعدوان، والعمه: التردد والتحير في الأمر أو الشر ﴿مَرَّ﴾؛ أي: مضى في طريقته التي كان عليها من الكفر بربه.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا وضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا﴾.
ومنها: الطباق بين ﴿أَنْذِر﴾ و ﴿وَبَشِّرِ﴾.
ومنها: المبالغة في المدح في قوله: ﴿قَدَمَ صِدْقٍ﴾ لأن الإضافة فيه من إضافة الموصوف إلى الصفة، كمسجد الجامع، ففائدة هذه الإضافة عندهم التنبيه على زيادة الفضل، ومدح القدم؛ لأن كل شيء أضيف إلى الصدق، فهو ممدوح، وفيه أيضًا المجاز المرسل؛ حيث أطلق القدم الذي هو سبب في السبق، وأراد به السابقة في الخير، والعلاقة السببية.
ومنها: إطلاق المضارع، بمعنى: الماضي في قوله: ﴿إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ استحضارًا للصورة الغريبة، وفيه أيضًا إطلاق المصدر بمعنى: اسم المفعول؛ لأن الخلق هنا، بمعنى: المخلوق.
ومنها: الإيجاز في قوله: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ﴾ حيث وحد الضمير، إن قلنا إن الضمير يرجع إلى الشمس والقمر كما في "الفتوحات".
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: ﴿نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ على قراءة النون وفي قوله: ﴿لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا﴾؛ لأن مقتضى السياق لا يرجون لقاءه، أضافه إلى ضمير الجلالة، لتعظيم الأمر وتهويله.
ومنها: التشبيه في قوله: ﴿اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ﴾؛ أي: كاستعجالهم أو مثل استعجالهم، ففيه تشبيه مؤكد مجمل.
ومنها: الطباق بين كلمتي الشر والخير.
ومنها: تغير الأسلوب في قوله: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ للمبالغة في استحقاقهم للعقاب والتنبيه على أن المقصود بالذات من الإبداء والإعادة، هو الإثابة، والعذاب إنما وقع بالعرض.
ومنها: الإشارة بالبعيد إلى القريب في قوله: ﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ﴾ تنزيلًا للبعد الرتبي منزلة البعد الحسي.
ومنها: الطباق بين الليل والنهار، وبين السموات والأرض في قوله: ﴿إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾.
ومنها: الجناس المغاير في قوله: ﴿وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْر﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (١٣) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (١٧) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٨) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (١٩) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٢٠) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٢٢) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٢٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا...﴾ الآية، مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين في الآيات السالفة أنهم كانوا يتعجلون العذاب، وذكر أنه لا صلاح لهم في إجابة دعائهم ثم ذكر أنهم كاذبون
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى لما بدأ السورة بذكر الكتاب الحكيم، وإنكار المشركين الوحي على رجل منهم، ثم أقام الحجة على الوحي والتوحيد والبعث، بخلق العالم علويه وسفليه وبطبيعة الإنسان وتاريخه وغرائزه.. أعاد هنا الكلام في شأن الكتاب نفسه، وتفنيد ما اقترحه المشركون على الرسول، - ﷺ -، بشأنه وحجته البالغة عليهم، في كونه وحيًا من عند الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ....﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها؛ أن الله سبحانه وتعالى، لما بين في الآيات السالفة أنهم طلبوا منه أحد أمرين، إما الإتيان بقرآن غير هذا، أو تبديله؛ لأن فيه نبذًا لآلهتهم، وطعنًا فيها وتسفيهًا لآرائهم في عبادتها.. نعى عليهم هنا عبادة الأصنام، وبين لهم حقارة شأنها، إذ لا تستطيع نفعًا ولا ضرًّا، فكيف يليق بالعاقل أن يعبدها من دون الله تعالى؟ ويجعل لها الشفاعة عنده تعالى، وليس لديهم برهان على ما يدَّعون، سبحانه وتعالى عما يشركون.
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أقام الأدلة على فساد عبادة الأصنام، وبين سبب هذه العبادة.. ذكر هنا بيان ما كان عليه الناس من الوحدة في الدين، وما صاروا إليه من الاختلاف والفرقة فيه.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ...﴾ الآية، مناسبة (١)
قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْر...﴾ الآية، مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما ذكر أن الناس إذا أصابهم الضر.. لجؤوا إلى الله، فإذا أذاقهم الرحمة عادوا إلى عادتهم، من إهمال جانب الله تعالى، والمكر في آياته، وكان قبل ذلك قد ذكر نحوًا من هذا في قوله: ﴿وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ...﴾ الآية، وكان المذكور في الآيتين أمرًا كليًّا أوضح تعالى ذلك الأمر الكلي بمثال جلي كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي، ينقطع فيه رجاء الإنسان عن كل متعلق به، إلا الله تعالى، فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى، ويتبين بطلان عبادته ما لا يضر ولا ينفع ودعواه أنه شفيعه عند الله، ثم بعد كشف هذه النازلة عاد إلى عادته من بغيه في الأرض، فإنجاؤه تعالى إياهم، هو مثال من أذاقه الرحمة، وما كانوا فيه قبل من إشرافهم على الهلاك، هو مثال من الضر الذي مسهم.
وعبارة المراغي: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) أن القوم طلبوا من الرسول - ﷺ - آية أخرى سوى القرآن، وذكر جوابًا عن هذا، بأنه لا يملك ذلك؛ لأن هذا من الغيب الذي استأثر بعلمه.. أردف ذلك بجواب آخر، وهو أن أولئك المشركين لا يقنعون بالآيات إذا رأوها بأعينهم، بل يكابرون حسهم، ولا يؤمنون؛ إذ من عاداتهم اللجاج والعناد، فكثيرًا ما جاءتهم
(٢) المراغي.
أسباب النزول
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا...﴾ الآية، قال ابن عباس (١) والكلبي: نزلت في المستهزئين بالقرآن، من أهل مكة، قالوا: يا محمَّد ائت بقرآن غير هذا، فيه ما نسألك.
وقال مجاهد وقتادة: نزلت في جماعة من مشركي مكة، وقال مقاتل: نزلت في خمسة نفر، عبد بن أمية المخزومي، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن وائل.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ...﴾ الآية، سبب نزولها (٢): أنه لما دعا رسول الله، - ﷺ -، على أهل مكة بالجدب.. قحطوا سبع سنين، فأتاه أبو سفيان فقال: ادع لنا بالخصب فإن أخصبنا صدقنا، فسأل الله لهم، فسقوا ولم يؤمنوا.
التفسير وأوجه القراءة
١٣ - ﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا﴾، أي: وعزتي وجلالي لقد أهلكنا واستأصلنا بالعذاب الشديد ﴿الْقُرُونَ﴾؛ أي: الأمم الماضية ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾؛ أي: من قبل زمانكم يا أهل مكة ﴿لَمَّا ظَلَمُوا﴾؛ أي: حين ظلموا أنفسهم بالإشراك والتكذيب لرسلهم وباستعمال القوى والجوارح فيما لا ينبغي ﴿و﴾ الحال أنه قد ﴿جاءتهم رسلهم بالبينات﴾؛ أي: بالمعجزات الواضحات الدالة على صدقهم فيما أخبروا به عن الله تعالى ﴿وَمَا كَانُوا﴾؛ أي: وما كان تلك الأمم الماضية ﴿لِيُؤْمِنُوا﴾ برسلهم ويصدقوهم فيما جاؤوا به من عند الله تعالى، لو أبقيناهم وأمهلناهم ولم نهلكهم؛
(٢) البحر المحيط.
١٤ - ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ﴾ واللام لتأكيد النفي يعني: أن السبب في إهلاكهم، تكذيبهم للرسل، وعلم الله أنه لا فائدة في إمهالهم، بعد أن ألزموا الحجة ببعثة الرسل؛ أي: ولقد أهلكنا كثيرًا من الأمم الماضية من قبل زمانكم، كقوم نوح وعاد وثمود وقوم لوط، حين ظلموا بالتكذيب لرسلهم، والحال أنه قد جاءتهم رسلهم بالبينات، الدالة على صدقهم، وما كانوا ليؤمنوا؛ أي: وما كان من شأنهم، ولا من مقتضى استعدادهم أن يؤمنوا؛ لأنهم قد مرنوا على الكفر، وصار ديدنهم حب الشهوات واللذات، من الجاه والرياسة والظلم والفسق والفجور.
﴿كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾؛ أي: نجزي القوم المجرمين، بالإشراك والتكذيب لك يا محمَّد، جزاءً مثل الجزاء الذي جزيناه الأمم الماضية، وهو العذاب الشديد بالاستئصال إن لم يؤمنوا بك. وقرأت فرقة: ﴿يجزي﴾ بالياء؛ أي؛ يجزى الله، وهو التفات ذكره أبو حيان. وفي هذا وعيد شديد لأهل مكة، على تكذيبهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
وإهلاك الله تعالى للأمم، بالظلم ضربان:
١ - ضرب بعذاب الاستئصال، للأقوام الذين بعث الله تعالى فيهم رسلًا لهدايتهم، بالإيمان والعمل الصالح، كقوم نوح فعاندوا الرسل، فأنذروهم عاقبة الجحود والعناد بعد مجيئهم بالآيات الدالة على صدقهم.
٢ - ضرب بعذاب، هو مقتضى سنته تعالى، في نظم الاجتماع البشري، فالظلم مثلًا سبب لفساد العمران، وضعف الأمم، ولاستيلاء القوية على الضعيفة كما قال: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ﴾ وهو إما ظلم الأفراد لأنفسهم، بالفسوق والإسراف، في الشهوات المضعفة
﴿ثُمَّ﴾ بعد إهلاك تلك القرون التي تسمعون أخبارها وتنظرون آثارها ﴿جَعَلْنَاكُمْ﴾ أيتها الأمة المحمدية ﴿خَلَائِفَ﴾ يخلفون عن تلك الأمم ﴿في﴾ سكنى الأرض، وإحيائها ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾، أي: من بعد تلك القرون الماضية ﴿لِنَنْظُر﴾ أي: لكي ننظر ونعلم ﴿كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: عمل تعملونه من خير أو شر، فنجازيكم بحسبه. والمعنى (١): استخلفناكم في الأرض بعد القرون المهلكة، لننظر أتعملون خيرًا أم شرًّا، فنعاملكم على حسب عملكم. ومعنى: لننظر، أي: لنظهر في الوجود ما علمناه أزلًا، أو ليظهر متعلق علمنا، فالنظر مجاز عن هذا، وقيل: الكلام على حذف مضاف، أي: لينظر رسلنا وأولياؤنا، وأسند النظر إلى الله مجازًا، وهو لغيره. وقرأ يحيى بن الحارث الزماري: ﴿لنظر﴾ بنون واحدة وتشديد الظاء، وقال: هكذا رأيته في مصحف عثمان. ووجهها أن (٢) النون الثانية قلبت ظاء وأدغمت في الظاء. والاستفهام في كيف لطلب تعيين أحد الأمرين؛ لأن المعنى، لنعلم جواب كيف تعملون؛ أي: أي عمل تعملونه أخير أم شر، وهي معمولة لتعملون، والجملة في موضع نصب لننظر؛ لأنها معلقة، وجاز التعليق في نظر إن لم يكن من أفعال القلوب؛ لأنها وصلة فعل القلب الذي هو العلم. ومعنى الآية: ثم (٣) جعلناكم خلائف في الأرض، من بعد أولئك الأقوام، بما آتيناكم في هذا الدين، من أسباب الملك والحكم، إذ في شريعتكم، ما به سعادة الأمة في دينها ودنياها.
وفي الآية: بشارة لهذه الأمة، بأنها ستخلفهم في الأرض، إذا آمنت به واتبعت النور الذي أنزل معه، كما قال: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ وقد صدق الله وعده، فملكهم ملك الأكاسرة، والقياسرة، والفراعنة، وكثير من الأمم غيرها {لِنَنْظُرَ
(٢) العكبري.
(٣) المراغي.
وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله، - ﷺ -، قال: "إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فينظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا واحذروا فتنة النساء". أخرجه مسلم، وقوله: فاتقوا الدنيا، معناه: احذروا فتنة الدنيا، واحذروا فتنة النساء.
وقال قتادة: صدق الله ربنا، ما جعلنا خلفاء إلا لينظر إلى أعمالنا، فأروا الله من أعمالكم خيرًا بالليل، أو النهار. وفي هذا إيماء، إلى أن هذه الخلافة، منوطة بالأعمال، حتى لا يغتروا بما سينالونه، ويظنوا أنه باقٍ لهم، وأنهم يتفلتون من سننه تعالى في الظالمين.
١٥ - ثم حكى (١) الله سبحانه نوعًا ثالثًا من تعنتهم وتلاعبهم بآيات الله تعالى فقال: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ فيه التفات من الخطاب إلى الغيبة، إعراضًا عنهم، والمراد بالآيات آيات القرآن الكريم؛ أي: وإذا تلا التالي عليهم آياتنا، الدالة على إثبات التوحيد، وإبطال الشرك، حالة كونها بينات؛ أي: واضحات الدلالة على المطلوب ﴿قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ﴾ ولا يخافون ﴿لقاءنا﴾ يوم القيامة بالبعث، وهم المنكرون للمعاد؛ أي: قالوا: لمن يتلوه عليهم - وهو محمَّد، - ﷺ -، حين سمعوا ما يغيظهم فيما تلاه عليهم، من القرآن، من ذم عبادة الأوثان، والوعيد الشديد لمن عبدها: ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾؛ أي: بدل ما فيه مما نكره كسبِّ آلهتنا، وذكر البعث، وليس طلبهم تبديل جميعه؛ أي: طلبوا منه أحد أمرين: إما الإتيان بقرآن غير هذا القرآن، مع بقاء هذا القرآن على حاله، وإما تبديل هذا القرآن، بنسخ بعض آياته، أو كلها، ووضع أخرى مكانها، مما يطابق هواهم ويلائم غرضهم. والمعنى: ائت بقرآن غير هذا، مع بقاء هذا القرآن، أو بدله؛ أي: أزله بالكلية، وائت ببدله، فيكون المطلوب أحد أمرين، إما إزالته بالكلية وهو التبديل في الذات، أو الإتيان بغيره مع بقائه، فيحصل
وحاصل المعنى (١): وإذا تتلى على هؤلاء المشركين آيات الكتاب الذي أئزل إليك، حال كونها بارزات في أعلى أسلوب من البيان، دالَّات على الحق، ساطعات الحجة والبرهان، قالوا: لمن يتلوها عليهم - وهو الرسول - ﷺ - ائت بقرآن غير هذا، أو بدله؛ أي: ائت بكتاب آخر نقرؤه، ليس فيه ما لا نؤمن به، من البعث والجزاء على الأعمال، ولا ما نكرهه من ذم آلهتنا، والوعيد على عبادتها، أو بدله بأن تجعل بدل الآية المشتملة على الوعيد، آية أخرى، ولم يكن مقصدهم من هذا إلا أن يختبروا حاله، بمطالبته بالإتيان بقرآن غيره، في جملة ما بلغهم من سوره في أسلوبها، ونظمها، أو بالتصرف فيه، بالتغيير والتبديل لما يكرهونه، منه من تحقير آلهتهم وتكفير آبائهم حتى إذا فعل هذا أو ذاك، كانت دعواه أنه كلام الله، أوحاه إليه دعوى باطلة، لا يعول عليها، وكان قصارى أمره، أنه امتاز عنهم بنوع من البيان خفيت علهيم أسباب معرفته، ولم يكن بوحي من الله كما يزعمه. فأمره الله تعالى أن يقول لهم في جوابهم ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ﴿مَا يَكُونُ لِي﴾؛ أي: ما ينبغي لي ولا يحل لي ﴿أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾؛ أي: من قبل نفسي. وقرىء ﴿تلقاء﴾ بفتح التاء؛ أي: قل لهم، أيها الرسول: إنه ليس من شأني، ولا مما تجيزه لي رسالتي، أن أبدله من تلقاء نفسي، ومحض رأيي، وخالص اجتهادي.
فنفى عن نفسه أحد القسمين، وهو التبديل؛ لأنه الذي يمكنه، لو كان ذلك جائزًا، بخلاف القسم الآخر، وهو الإتيان بقرآن آخر، فإن ذلك ليس في وسعه، ولا يقدر عليه. وقيل: إنه - ﷺ - نفى عن نفسه أسهل القسمين، ليكون دليلًا على نفي أصعبهما بالطريق الأولى.
وهذا منه (٢) - ﷺ -، من باب مجاراة السفهاء، إذ لا يصدر مثل هذا الاقتراح عن العقلاء، بعد أن أمره الله سبحانه بذلك، وهو أعلم بمصالح عباده، وبما
(٢) الشوكاني.
١٦ - ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد، لهؤلاء الذين طلبوا منك تبديل القرآن وتغييره، إن هذا القرآن المتلو عليكم، هو بمشيئة الله تعالى وإرادته و ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى عدم تلاوتي لهذا القرآن عليكم، بأن لم ينزله عليّ، ولم يأمرني بتلاوته عليكم ﴿مَا تَلَوْتُهُ﴾ وقرأته عليكم ﴿وَلَا أَدْرَاكُمْ﴾ الله سبحانه وتعالى ﴿بِهِ﴾؛ أي: بهذا القرآن؛ أي: لو شاء الله ما تلوته عليكم، وما أعلمكم الله به بواسطتي، فالأمر كله منوط بمشيئة الله، ليس لي في ذلك شيء. وقوله: ﴿وَلَا أَدْرَاكُمْ﴾ معطوف على ما تلوته؛ أي: ولو شاء الله ما أدراكم بالقرآن؛ أي: ما أعلمكم به على لساني، يقال: دريت الشيء، وأدراني الله به؛ أي: علمته، وأعلمني الله به؛ أي: قل لهم (١) يا محمَّد: لو شاء الله أن لا أتلو عليكم هذا القرآن، ما تلوته عليكم، فإنما أتلوه عليكم بأمره، وتنفيذ
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ﴾ فـ ﴿لا﴾ مؤكدة وموضحة، بأن الفعل منفي، لكونه معطوفًا على منفي من أدراه، يدريه، بمعنى: أعلمه يعلمه. وقرأ ابن كثير وقنبل والبزيّ ﴿ولأدراكم﴾ بلام دخلت على فعل مثبت، معطوف على منفي، والمعنى: ولأعلمكم به من غير طريقي، وعلى لسان غيري، ولكنه يمن على من يشاء من عباده، فخصني بهذه الكرامة، ورآني لها أهلًا دون الناس. وقرأ ابن عباس وابن سيرين والحسن وأبو رجاء وابن أبي عبلة وشيبة بن نصاح: ﴿ولا أدرأتكم﴾ بهمزة ساكنة، وتاء بعدها، ثم كاف؛ أي: ولا أجعلكم بتلاوته عليكم خصماء، تدرؤونني بالجدال، وتكذبونني، من الدرء، بمعنى: الدفع يقال: درأته دفعته، كما قال تعالى؛ ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ﴾ ودرأته، جعلته دارئًا؛ أي: خصمًا. وقرأ شهر بن حوشب والأعمش ﴿ولا أنذرتكم به﴾ بالنون، والذال من الإنذار، وكذا هي في مصحف ابن مسعود. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم: ﴿ولا أدريكم﴾ بالإمالة.
وقوله: ﴿فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ﴾ تعليل لكون ذلك بمشيئة الله تعالى، ولم يكن من النبي، - ﷺ - إلا التبليغ، أي: فقد مكثت بين ظهرانيكم عمرًا طويلًا، وهو أربعون سنة، من قبل تلاوة هذا القرآن عليكم، لم أقل عليكم سورةً من مثله. ولا آية تشبه آياته، لا في العلم والهداية، ولا في البيان والبراعة، تعرفونني بالصدق والأمانة، ولست ممن يقرأ ولا ممن يكتب. والهمزة في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ للتقريع (٢) والتوبيخ داخلة على محذوف، تقديره: أعميتم عن الحق
(٢) الشوكاني.
والخلاصة (٢): أن كفار مكة، شاهدوا رسول الله - ﷺ - قبل مبعثه، وعلموا أحواله، وأنه كان أميًّا لم يقرأ كتابا، ولا تعلم من أحد، وذلك مدة أربعين سنة، ثم بعدها جاءكم بكتاب عظيم الشأن، مشتمل على نفائس العلوم والأحكام والآداب ومكارم الأخلاق، فكل من له عقل عليم، وفهم ثابت، يعلم أن هذا القرآن من عند الله تعالى، لا من عند نفسه.
وقرأ الحسن والأعمش (٣): ﴿عمرا﴾ بضم العين وسكون الميم. قال أبو عبيدة وفي العمر ثلاث لغات، عمر، بضم فسكون، وعمر بضمتين، وعمر بفتح فسكون.
(٢) الصاوي.
(٣) زاد المسير.
فصل في ذكر الأحاديث الواردة في عمر النبي - ﷺ -
وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: أنزل على رسول الله - ﷺ -، وهو ابن أربعين سنة، فمكث ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة، فهاجر إلى المدينة، فمكث بها عشر سنين، ثم توفي، - ﷺ -. متفق عليه. وفي رواية، أن رسول الله، - ﷺ -، أقام بمكة ثلاث عشرة سنة، يوحى إليه، وتوفي وهو وابن ثلاث وستين سنة. وفي رواية أن النبي - ﷺ - أقام بمكة خمس عشرة سنة، يسمع الصوت ويرى الضوء سبع سنين، ولا يرى شيئًا، وثمان سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشرًا وتوفي وهو ابن خمس وستين سنة. أخرجاه في "الصحيحين".
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: توفي رسول الله، - ﷺ - وهو ابن ثلاث وستين سنة. متفق عليه. وعن أنس رضي الله عنه قال: قبض رسول الله - ﷺ -، وهو ابن ثلاث وستين سنة، وأبو بكر وهو ابن ثلاث وستين سنة، وعمر وهو ابن ثلاث وستين سنة. أخرجه مسلم. وعن ربيعة بن أبي عبد الرحمن رضي الله عنه قال: سمعت أنس بن مالك يصف رسول الله - ﷺ - يقول: كان ربعة من القوم، ليس بالطويل البائن ولا بالقصير، أزهر اللون، ليس بالأبيض الأمهق، ولا بالآدم، ليس بجعد قطط، ولا سبط رجل، أنزل عليه الوحي وهو ابن أربعين سنة، فلبث بمكة عشر سنين ينزل عليه الوحي، وبالمدينة عشرًا، وتوفاه الله على رأس ستين سنة، وليس في رأسه ولحيته عشرون شعرة بيضاء. متفق عليه.
وقال النووي رحمه الله: ورد في عمره - ﷺ - ثلاث روايات:
أحدها: أنه - ﷺ - توفي وهو ابن ستين سنة.
والثانية: خمس وستون سنة.
والثالثة: ثلاث وستون سنة، وهي أصحها وأشهرها، رواها مسلم، من حديث أنس وعائشة وابن عباس، واتفق العلماء، على أن أصحها رواية، ثلاث وستين، وحملوا الباقي عليها، فرواية ستين سنة اقتصر فيها على العقود، وترك الكسر، ورواية الخمس متأولة أيضًا، بأنها حصل فيها اشتباه.
قوله: يسمع الصوت، أي: صوت الهاتف من الملائكة، ويرى الضوء؛
١٧ - والاستفهام في قوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ للإنكار (١)؛ أي: لا أحد أظلم ﴿مِمَّنِ افْتَرَى﴾ واختلق ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿كَذِبًا﴾ فزعم أن لله شريكًا وولدًا.
والمعنى (٢): أني لم أفتر على الله كذبًا، ولم أكذب عليه في قولي: إن هذا القرآن من عند الله تعالى، وأنتم قد افتريتم على الله الكذب، فزعمتم أن له شريكًا وولدًا، والله تعالى منزه عن الشريك والولد. وقيل معناه: إن هذا القرآن، لو لم يكن من عند الله، لما كان أحدًا في الدنيا أظلم على نفسه مني، من حيث إني افتريته على الله، ولما كان هذا القرآن من عند الله، أوحاه إليّ، وجب أن يقال: ليس أحد في الدنيا أجهل، ولا أظلم على نفسه منكم، من حيث إنكم أنكرتم أن يكون هذا القرآن من عند الله، فقد كذبتم بآياته وهو قوله: ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ﴾ تعالى القرآنية أو الكونية؛ أي: جحد يكون القرآن من عند الله تعالى، وأنكر دلائل توحيده. ففيه (٣) بيان أن الكاذب على الله، والمكذب بآياته في الكفر سواء.
وإنما زاد كذبًا في قوله (٤): ﴿افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾ مع أن الافتراء لا يكون إلا كذبًا لبيان أن هذا مع كونه افتراء على الله هو كذب في نفسه، فربما يكون الافتراء كذبًا في الإسناد فقط، كما إذا أسند ذنب زيد إلى عمرو، ذكر معنى هذا أبو السعود في تفسيره. وقوله: ﴿إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾ تعليل لكونه لا أظلم ممن افترى على الله كذبًا، أو كذب بآياته؛ أي: إن الشأن والحال لا ينجو المشركون من عذاب الله، ولا يظفرون الخير في الدنيا والآخرة، لافترائهم الكذب على الله بنسبة الشريك، ولتكذيبهم بآيات الله تعالى،
١٨ - ثم نعى الله سبحانه
(٢) الخازن.
(٣) النسفي.
(٤) الشوكاني.
وفي الآية: إيماء إلى أن سبب عبادتها وضلالهم فيما يدعون، هو اعتقادهم فيها القدرة على الضر والنفع، فرد عليهم خطأهم بأنه هو القادر على نفع من يعبده، وضر من يشرك بعبادته غيره، في الدنيا والآخرة. وقد دل تاريخ البشر في كل طور من أطواره، على أن كل ما عبده البشر من دون الله تعالى، من صنم أو وثن، فإنما عبده لاعتقاده فيه القدرة على النفع والضر، بسلطان له فوق الأسباب المعروفة، كعبادته للأوثان المتخذة من الحجارة، أو الخشب والأصنام المصنوعة من المعادن والحجارة، أو غير المصنوعة، كاللات، وهي صخرة كانت بالطائف يلت عليها السويق، عظمت حتى عبدت، أو الأشجار، كالعزى، معبودة قريش.
وقوله: ﴿وَيَقُولُونَ﴾ في حقها وشأنها، معطوف على ﴿وَيَعْبُدُونَ﴾؛ أي: ويقول هؤلاء المشركون في سبب عبادتهم لها، مع اعتقادهم أنها لا تملك الضر، ولا النفع بأنفسها إيمانهم: بأن الرب الخالق، هو الله تعالى و ﴿هَؤُلَاءِ﴾ الأصنام ﴿شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى فإنهم يزعمون أنها تشفع لهم في الدنيا، في إصلاح معايشهم، وكشف ما يهمهم، كالقحط؛ لأنهم كانوا لا يعتقدون بعثًا بعد
فأساس عقيدة الشرك، أن جميع ما يطلب من الله تعالى، لا بد أن يكون بوساطة المقربين عندهم، إذ هم لا يمكنهم التقرب من الله والحظوة عنده بأنفسهم؛ لأنها مدنسة بالمعاصي. أما الموحدون فيعتقدون أنه يجب على العاصي أن يتوجه إلى الله وحده، تائبًا إليه طالبًا مغفرته ورحمته. والاستفهام في قوله: ﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ﴾ للتوبيخ والتقريع والإنكار والتهكم. وقرأ أبو السمال العدوي ﴿أتنبئون﴾ بالتخفيف من أنبأ، ينبىء. وقرأ من عداه: بالتشديد من نبأ، ينبىء؛ أي: قل لهم يا محمَّد تبكيتًا لهم، ومبينًا لهم كذبهم ومنكرًا عليهم افتراءهم على ربهم، أتخبرون الله سبحانه وتعالى: ﴿بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: بالأمر الذي لم يعلم الله سبحانه وتعالى وجوده في السموات، وهو شفاعة الملائكة لهم، ولا وجوده في الأرض وهو شفاعة الأصنام، وإذا لم يعلم الله شيئًا من الأشياء، استحال وجود ذلك الشيء؛ لأنه تعالى لا يعزب عن علمه شيء. وقال الضحاك: أتخبرون الله أن له شريكًا، ولا يعلم الله لنفسه شريكًا في السموات ولا في الأرض، انتهى. ولو كان له شفعاء يشفعون لكم عنده، لكان أعلم بهم منكم، إذ لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، فإذًا هؤلاء لا وجود لهم عنده، وأنكم قد اتخذتم ذلك قياسًا على ما ترونه من الوساطة عند الملوك الجاهلين بأمور رعيتهم، والعاجزين عن تنفيذ مشيئتهم فيهم، بدون وساطة
﴿سُبْحَانَهُ﴾؛ أي: تنزيهًا له تعالى عن كل ما لا يليق به ﴿وَتَعَالَى﴾؛ أي: ترفع وعلا ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾؛ أي: عن شركائهم، الذين يعتقدونهم شفعاءهم عند الله تعالى. والمعنى: تنزه ربنا، وعلا علوًا كبيرًا، عما يشركون به من الشفعاء. والوسطاء، وما يفترونه عليه، من أن لأحد من خلقه وساطة عنده، وشفاعة لديه تقرب إليه زلفى، ففي هذا تحقير لمقام الربوبية والألوهية، وتشبيه الرب بعبيده من الملوك الجاهلين. وفي هذا إيماء إلى أن شؤون الرب، وسائر ما في عالم الغيب لا يعلم إلا بخبر الوحي، ومن ذلك اتخاذ الشفعاء والوسطاء عنده فيكون كفرًا صراحًا.
وقرأ العربيان (١): أبو عمرو وابن عامر، والحرميان: نافع وابن كثير وعاصم: ﴿يشركون﴾ بالياء على الغيبة هنا، وفي حرفي النحل وحرف في الروم. وذكر أبو حاتم، أنه قرأها كذلك الحسن والأعرج، وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش، وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر: في النمل فقط، بالتاء على الخطاب. وعاصم وأبو عمرو بالياء على الغيبة. وقرأ حمزة والكسائي: الخمسة بالتاء على الخطاب. وأتى بالمضارع، ولم يقل عما أشركوا للدلالة على استمرار حالهم كما جاؤوا يعبدون، وأنهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي
١٩ - ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ﴾ جميعًا ﴿إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ موحدة لله سبحانه وتعالى، مؤمنة به متفقة على فطرة الإِسلام والتوحيد، من غير أن يختلفوا بينهم؛ لأن التوحيد والإِسلام ملة قديمة اجتمعت عليها الناس قاطبةً فطرةً وتشريعًا وأن الشرك وفروعه جهالات ابتدعها الغواة؛ أي: إنهم كانوا في أول الخلق على الفطرة السليمة الصحيحة ﴿فَاخْتَلَفُوا﴾؛ أي؛ ثم اختلفوا في الأديان، وإلى ذلك الإشارة بقوله - ﷺ -: "كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". فبعث الله فيهم النبيين والمرسلين لهدايتهم، وإزالة الاختلاف بكتاب الله ووحيه،
﴿وَلَوْلَا كَلِمَةٌ﴾ حق ﴿سَبَقَتْ﴾ من الله تعالى وقضاء وقع ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ أزلًا بتأخير الجزاء العام إلى يوم القيامة ﴿لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾، أي: لعجل لهم الجزاء في الدنيا، بالقضاء بينهم ﴿فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾؛ أي: في الدين الذي يختلفون بسببه، ففي سببية بإهلاك المبطلين، وتعجيل العقوبة للمكذبين، وكان ذلك فصلًا بينهم. وعبر بالمضارع عن الماضي حكايةً للحال الماضية. وفي الآية (١) وعيد شديد على اختلاف الناس المؤدي إلى العدوان، والشقاق، ولا سيما الاختلاف في الكتاب الذي أنزل لإزالة الشقاق. وقرأ (٢) عيسى بن عمر: ﴿لقضى﴾ بالبناء للفاعل. وقرأ من عداه: بالبناء للمفعول.
٢٠ - ﴿وَيَقُولُونَ﴾ معطوف على ﴿وَيَعْبُدُونَ﴾؛ أي: وقال أهل مكة: مرة بعد مرة وكرة بعد كرة. وعبر بالمضارع لاستحضار صورة ما قالوه؛ أي: وقالوا: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ﴾؛ أي: هلا أنزل على محمَّد - ﷺ - ﴿آيَةٌ﴾ أخرى كونية، سوى القرآن ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾ دالة على صدق ما يقول، كما كان لصالح، من الناقة، ولموسى، من العصا. والقائلون (٣) ذلك هم أهل مكة، كأنهم لم يعتدوا بما قد نزل على رسول الله، - ﷺ -، من الآيات الباهرة، والمعجزات القاهرة، التي لو لم يكن منها إلا القرآن، لكفى به دليلًا بينًا، ومصدقًا قاطعًا؛ أي: هلا أنزلت عليه آية من الآيات، التي نقترحها عليه، ونطلبها منه، كإحياء الأموات وجعل الجبال ذهبًا وغير ذلك.
(٢) الشوكاني.
(٣) الشوكاني.
٢١ - ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ﴾؛ أي: وإذا أعطينا ورزقنا كفار مكة ﴿رَحْمَةً﴾؛ أي: نعمة وخصبًا ورخاء وسعة العيش ﴿مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ﴾؛ أي: من بعد فقر وقحط وشدة وبلاء، وضيق أصابهم، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حبس عنهم المطر سبع سنين، حتى هلكوا من الجوع والقحط، ثم إن الله سبحانه وتعالى رحمهم، فأنزل عليهم المطر الكثير، حتى أخصبت البلاد، وعاش الناس بعد ذلك الضر، فلم يتعظوا بذلك، بل رجعوا إلى الفساد والكفر والمكر، وهو قوله سبحانه وتعالى: ﴿إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ﴾ وتدبير ﴿في﴾ إبطال ﴿آيَاتِنَا﴾ القرآنية والكونية واستهزاء وتكذيب لها، وإذا الأولى شرطية، وجوابها ﴿إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ﴾ وهي فجائية، يستفاد منها السرعة؛ لأن المعنى: أنهم فاجؤوا المكر وسارعوا فيه؛ أي: أوقعوه على جهة الفجاءة والسرعة.
والمعنى (١): وإذا رزقنا المشركين بالله فرجًا بعد كرب، ورخاء بعد شدة أصابتهم، بادروا إلى المكر وأسرعوا بالمفاجأة به في مقام الشكر، فإذا كانت
روى البخاري ومسلم، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن قريشًا، لما استعصوا على رسول الله - ﷺ -، دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد، حتى أكلوا العظام والميت، من الجهد، وحتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان، من الجوع، فأنزل الله تعالى: ﴿فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (١١)﴾ فجاء أبو سفيان، إلى رسول الله، - ﷺ -، فقال: يا محمَّد، إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا، فادع الله لهم، فدعا لهم، فكشف الله عنهم العذاب، ومطروا، فعادوا إلى حالهم ومكرهم الأول، يطعنون في آيات الله تعالى، ويعادون رسوله - ﷺ -، ويكذبونه.
﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ﴿الِلَّهِ﴾ سبحانه وتعالى ﴿أَسْرَعُ﴾ وأعجل منكم ﴿مَكْرًا﴾؛ أي: (١) عقوبة على مكركم، وأشد أخذًا، وأقدر على الجزاء، وأن عذابه في هلاككم أسرع إليكم مما يقع منكم في دفع الحق؛ أي: إن هؤلاء (٢) الكفار لما قابلوا نعمة الله بالمكر، فالله تعالى قابل مكرهم بمكر أشد من ذلك، وهو إهلاكهم يوم بدر، وحصول الفضيحة والخزي في الدنيا، وعذاب شديد يوم القيامة. ومعنى الوصف بالأسرعية: أنه تعالى، قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم، والمكر من الله، إما الاستدراج، أو الجزاء على المكر، أي: إخفاء
(٢) المراح.
والخلاصة: أي قل لهم: إنَّ الله أسرع منكم مكرًا، فهو قد دبر عقابكم، وهو موقعه بكم قبل أن تدبروا كيف تعملون، في إطفاء نور الإِسلام، وقد سبق في تدبيره لأمور العالم، وتقديره للجزاء على الأعمال قبل وقوعها أن يعاقبكم على مكركم في الدنيا قبل الآخرة، وهو عليم بما تفعلون، لا تخفى عليه خافية.
﴿إِنَّ رُسُلَنَا﴾ الحفظة الذين يحفظون أعمالكم، ووكلهم الله تعالى بإحصاء أعمال الناس، وكتبها للحساب والمجازاة عليها في الآخرة ﴿يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ﴾ به أو يكتبون مكركم، ويعرض عليكم يوم القيامة ما في بواطنكم الخبيثة. وفي ذلك تنبيه، إلى أن ما دبروا، ليس بخاف عليه تعالى، وإلى أن انتقامه حاصل واقع بهم لا محالة، وفيه وعيد لهم شديد، وهذه الجملة تعليلية للجملة التي قبلها، فإن مكرهم إذا كان ظاهرًا لا يخفى، فعقوبة الله كائنة لا محالة. والمعنى: إن رسل الله، وهم الملائكة، يكتبون مكر الكفار، لا يخفى ذلك على الملائكة الذين هم الحفظة، فكيف يخفى على العليم الخبير؟.
وقرأ الحسن (٢)، وابن أبي إسحاق وأبو عمرو ﴿رسلنا﴾ بالتخفيف. وقرأ الحسن وقتادة ومجاهد والأعرج، ورويت عن نافع ويعقوب في رواية، وأبو عمرو في رواية ﴿يمكرون﴾ بالتحتية على الغيبة، جريًا على ما سبق. وقرأ أبو رجاء وشيبة وأبو جعفر وابن أبي إسحاق وعيسى وطلحة والأعمش والجحدري وأيوب بن المتوكل وابن محيصن وشبل وأهل مكة والسبعة: ﴿تمكرون﴾ بالتاء الفوقية على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم، والتفاتًا لقوله: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾؛ أي: قل لهم، فناسب الخطاب. وفي قوله: ﴿إِنَّ رُسُلَنَا﴾ التفات أيضًا إذ لم يأت إن رسله. وقال أيوب بن المتوكل في مصحف أبي {يا أيها الناس إن الله
(٢) البحر المحيط.
وعلينا (١) أن نعتقد بأن الملائكة، تكتب الأعمال كتابة غيبية، لم يكلفنا الله تعالى بمعرفة صفتها، وإنما كلفنا أن نؤمن بأن له نظامًا حكيمًا في إحصاء أعمالنا؛ لأجل أن نراقبه فيها، فنلتزم الحق والعدل والخير، ونجتنب أضدادها.
٢٢ - وقوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ كلام مستأنف، مسوق لبيان جناية أخرى لهم، مبنية على ما مر آنفًا، من اختلاف حالهم حسب اختلاف ما يعتريهم، من السراء والضراء، اهـ "أبو السعود"؛ أي: هو سبحانه وتعالى الإله الذي يسيركم، وينقلكم في نواحي البر وأرجائه مشاةً وركبانًا، وفي أمواج البحر بالسفن والبواخر، وفي الجو بالطائرات. وقيل: يحملكم في البر على ظهور الدواب، وفي البحر على الفلك، أي: إنه تعالى هو الذي وهبكم القدرة على السير في البر، وسخر لكم الإبل والدواب، وفي البحر بما سخر لكم من السفن التي تجري في البحر، والقطر التجارية، والسيارات، وفي الهواء بالطائرات التي تسير في الجو.
وقرأ (٢) زيد بن ثابت والحسن وأبو العالية وزيد بن علي وأبو جعفر وعبد الله بن جبير وأبو عبد الرحمن وشيبة بن عامر: ينشركم من النشر والبث. وقرأ الحسن أيضًا: ﴿ينشركم﴾ من الإنشار وهو الإحياء، وهي قراءة عبد الله. وقرأ بعض الشاميين: ﴿ينشركم﴾ بالتشديد، للتكثير من النشر، الذي هو مطاوعة الانتشار. وقرأ باقي السبعة والجمهور: ﴿يُسَيِّرُكُمْ﴾ من التسيير. قال أبو علي، هو تضعيف مبالغة لا تضعيف تعدية؛ لأن العرب تقول سرت الرجل وسيرته. ﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ﴾؛ أي: في السفن.
(٢) البحر المحيط.
قال صاحب (٢) "الكشاف": فإن قلت: كيف جعل الكون في الفلك غايةً للتسيير في البحر، والتسيير في البحر إنما هو بعد الكون في الفلك؟
قلت: لم يجعل الكون في الفلك غايةً للتسيير، ولكن الغاية مضمون الجملة الشرطية، الواقعة بعد حتى بما في حيزها، كأنه قيل: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة، وكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف، وتراكم الأمواج، وظن الهلاك والدعاء بالإنجاء. اهـ. وجواب إذا هو جاءتها.
فعلم أن الغاية: هي مضمون (٣) الجملة الشرطية بكمالها، فالقيود المعتبرة في الشرط ثلاثة:
أولها: الكون في الفلك.
والثاني: جريها بهم بالريح الطيبة، التي ليست بعاصفة.
وثالثها: فرحهم.
والقيود المعتبرة في الجزاء ثلاثة أيضًا:
الأول: جاءتها.
والثاني: وجاءهم الموج.
والثالث: ظنوا.
وقوله: ﴿دَعَوُا اللهَ﴾، بدل من ظنوا بدل اشتمال، أو مستأنف مبني على سؤال، ينساق إليه الذهن، كأنه قيل: فماذا صنعوا؟ فقيل: دعوا الله إلخ.
(٢) الفتوحات.
(٣) الشوكاني.
وفي قوله: ﴿وَجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ التفات (٢) عن الخطاب في قوله، كنتم إلى الغيبة، وحكمة الالتفات هنا، هي أن قوله: ﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ﴾ خطاب فيه امتنان، وإظهار نعمة المخاطبين، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار، والخطاب شامل، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح الشكر، ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة. ولما كان في آخر الآية ما يقتضي أنهم إذا نجوا بغوا في الأرض، عدل عن خطابهم بذلك إلى الغيبة، لئلا يخاطب المؤمنون بما لا يليق صدوره منهم، وهو البغي بغير الحق. اهـ.
﴿حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ﴾ أيها المسيرون ﴿فِي الْفُلْكِ﴾ والسفن ﴿وَجَرَيْنَ﴾؛ أي: السفن ملتبسة ﴿بِهِمْ﴾؛ أي: بالذين فيها، ففيه التفات من الخطاب إلى الغيبة كما مر ﴿بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾؛ أي: لينة الهبوب إلى جهة المقصد ﴿وَفَرِحُوا بِهَا﴾؛ أي: بتلك الريح اللينة فرحًا تامًّا وقوله: ﴿جَاءَتْهَا﴾ جواب إذا، كما مر؛ أي: جاءت تلك الريح اللينة الطيبة وتلقتها ﴿رِيحٌ عَاصِفٌ﴾؛ أي: شديدة الهبوب أزعجت سفينتهم، أو المعنى: جاءت الفلك ريح عاصف، والعصوف: شدة هبوب الريح ﴿وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ﴾ العظيم الذي أرجف قلوبهم، ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾؛ أي: من كل ناحية؛ أي: جاء الراكبين فيها الموج من جميع الجوانب للفلك. والموج ما ارتفع من الماء فوق البحر ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾؛ أي: أحاط بهم الهلاك؛ أي: ظنوا القرب من الهلاك؛ أي: غلب على ظنونهم الهلاك، وأصله من إحاطة العدو بقوم، أو ببلد، فجعل هذه الإحاطة مثلًا في الهلاك، وإن كان بغير العدو كما هنا. وقوله: ﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى، بدل من ظنوا، كما مر لكون هذا الدعاء الواقع، إنما كان عند ظن الهلاك، وهو الباعث عليه، فكان بدلًا منه بدل
(٢) البحر المحيط.
وحاصل المعنى: أي (٢) حتى إذا كنتم في الفلك التي سخرناها لكم، وجرت بمن فيها بسبب ريح مؤاتية لهم في جهة سيرهم، وفرحوا بما هم فيه، من راحة وانتعاش، وتمتع بمنظره الجميل، وهوائه العليل، جاءت ريح شديدة قوية، فاضطرب البحر وتموج سطحه كله، فتلقاهم من جميع الجوانب والنواحي، بتأثير الريح، واعتقدوا أنهم هالكون لا محالة، بإحاطة الموج بهم، فبينما يهبط الريح العاصف بهم في لجج البحر حتى كأنهم سقطوا في هاوية، إذا به يثب بهم إلى أعلى، كأنهم في قمة الجبل الشاهق. فإذا ما نزلت بهم نذر العذاب، وتقطعت بهم الأسباب.. دعوا الله مخلصين له الدين ليكشف عنهم ما حل بهم، ولا يتوجهون معه إلى وليّ، ولا شفيع ممن كانوا يتوسلون بهم إليه حال الرخاء، وقد صمموا العزيمة على طاعته، وقالوا: ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة، لنكون من جماعة الشاكرين، ولا نتوجه في تفريج كروبنا، وقضاء حوائجنا إلى وثن، ولا صنم.
٢٣ - ﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ﴾؛ أي: فلما أنجى الله سبحانه وتعالى هؤلاء الذين ظنوا أنهم أحيط بهم، وواعدوا له بالشكر على الإنجاء، إذا أنجاهم من تلك الشدائد التي أحاطت بهم، وأخرجهم إلى البر ﴿إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: فاجؤوا وأسرعوا البغي والفساد في الأرض، وزيادة في الأرض للدلالة على أن فسادهم
(٢) المراغي.
وفي قوله: ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ تأكيدًا للواقع، وتذكير بقبحه وسوء حال أهله، أو لبيان أنه بغير حق عندهم أيضًا، بأن يكون ظلمًا ظاهرًا، لا يخفى على أحد قبحه، كما جاء في قوله: ﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾. قال صاحب "الكشاف": فإن قلت: ما معنى قوله: ﴿بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾ والبغي لا يكون بحق؟
قلتُ: بلى قد يكون بحق، كاستيلاء المسلمين على أرض الكفرة وهدم دورهم، وإحراق زروعهم وقلع أشجارهم، كما فعل رسول الله، - ﷺ -، ببني قريظة. وبعد أن حكى المثل، خاطب البغاة في أي مكان كانوا، وفي أي زمان وجدوا، منبهًا واعظًا فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ الغافلون عن أنفسكم، أما كفاكم بغيًا على المستضعفين منكم اغترارًا بقوتكم وكبريائكم ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ﴾ وظلمكم في الحقيقة ﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾؛ لأن عاقبة وباله عائدة إليكم، وإنما تتمتعون ببغيكم ﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ الزائلة وهي تنقضي سريعًا، والعقاب باقٍ.
والبغي من (١) منكرات الذنوب العظام قال بعضهم: لو بغى جبل على جبل.. لاندك الباغي. وقد نظم بعضهم هذا المعنى شعرًا، وكان المأمون يتمثل به فقال:
يَا صَاحِبَ الْبَغْي إِنَّ الْبَغْيَ مَصْرَعَةٌ | فَارْجِعْ فَخَيْرُ مَقَالِ الْمَرْءِ أَعْدَلُهُ |
فَلَوْ بَغَى جَبَلٌ يَوْمًا عَلَى جَبَلٍ | لاَنْدَكَّ مِنْهُ أَعَالِيْهِ وَأَسْفَلُهُ |
(٢) أبو السعود.
وفي (١) الآية إيماء، إلى أن البغي مجزيٌّ عليه في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا، فلقوله: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ ولما جاء في الحديث الذي رواه الإِمام أحمد والبخاري: "ما من ذنب أجدر أن يعجل الله لصاحبه العقوبة في الدنيا، مع ما يدخر له في الآخرة من البغي، وقطيعة الرحم"، والذي رواه أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله، - ﷺ -، "ثلاث، هن رواجع على أهلها: المكر، والنكث، والبغي"، ثم تلا: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾، ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، ﴿فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ﴾. وأما في الآخرة فكفى دلالة على ذلك ما أفادته الآية من التهديد والوعيد.
والخلاصة: أن البغي، وهو أشنع أنواع الظلم، يرجع على صاحبه لما يولد من العداوة والبغضاء بين الأفراد ولما يوقد من نيران الفتن والثورات في الشعوب. انظر إلى من يبغي على مثله، تجده قد خلق له عدوًا، أو أعداءً، ممن يبغي عليهم.
ولا شك أن وجود الأعداء، ضرب من العقوبة، فهم يقتصون لأنفسهم منه بكل الوسائل التي يقدرون عليها، وإن هم لم يفعلوا ذلك.. فإنه يرى في أعينهم من أنواع الحنق والغضب ما لا يخفى عليه، فيتأجج قلبه حسرةً وندامةً على ما فعل، ويود أن لو لم يكن خلق لنفسه هذه الحزازات والضغائن المتغلغلة في النفوس.
وقرأ الجمهور (٢): ﴿مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ بالرفع على أنه خبر مبتدأ
(٢) البحر المحيط وزاد المسير والشوكاني.
الإعراب
﴿وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿اللام﴾: موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب. ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾: جار ومجرور، متعلق (١) بـ ﴿أهلكنا﴾ وليس بحال من القرون؛ لأنه زمان، ذكره أبو البقاء ﴿لَمَّا﴾ ظرف بمعنى حين في محل
﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٤)﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ﴾ فعل وفاعل، ومفعولان ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: صفة لخلائف، أو متعلق بـ ﴿جعلنا﴾ والجملة معطوفة على ﴿أهلكنا﴾ ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾: جار ومجرور متعلق بما تعلق به الجار والمجرور قبله ﴿لِنَنْظُرَ﴾ ﴿اللام﴾: لام كي ﴿ننظر﴾: فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة في تأويل مصدر، مجرور بلام التعليل، المتعلقة بـ ﴿جعلنا﴾ والتقدير: جعلناكم خلائف لنظرنا ﴿كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ ﴿كَيْفَ﴾: اسم استفهام في محل النصب، مفعول مقدم لـ ﴿تَعْمَلُونَ﴾ لا لننظر،
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ﴾.
﴿وَإِذَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿تُتْلَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به. ﴿آيَاتُنَا﴾: نائب فاعل ومضاف إليه. ﴿بَيِّنَاتٍ﴾: حال من آياتنا، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه، لـ ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿قَالَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾ وجملة ﴿إذا﴾ مستأنفة ﴿لَا يَرْجُونَ﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة صلة الموصول ﴿ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ﴾: مقول محكي، لـ ﴿قَالَ﴾ وإن شئت قلت: ﴿ائْتِ﴾: فعل أمر مبني على حذف حرف العلة، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿بِقُرْآنٍ﴾: متعلق به. ﴿غير﴾ صفة لـ ﴿قرآن﴾ ﴿هَذَا﴾: مضاف إليه، والجملة في محل النصب مقول: ﴿قَالَ﴾.
فائدة: ولفظ ﴿ائْتِ﴾ إن قرئ بالوصل بما قبله.. فالأمر ظاهر، وإن وقف على لقائنا.. قرئ ﴿ايت﴾ بهمزة، ثم ياء ساكنة، بعدها على حد قول ابن مالك:
وَمَدًّا ابْدِلْ ثَانِيَ الْهَمْزَيْنِ مِنْ... كَلِمَةٍ................... إلخ
﴿أَوْ﴾: حرف عطف ﴿بَدِّلْهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿ائْتِ﴾ ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿مَا يَكُونُ لِي...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿مَا﴾ نافية ﴿يَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص ﴿لِي﴾ جار ومجرور خبرها مقدم ﴿أَنْ أُبَدِّلَهُ﴾: ناصب وفعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، ﴿مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق
﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (١٦)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿لَوْ شَاءَ اللَّهُ﴾: إلى آخر الآية، مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾ وإن شئت قلت: ﴿لَوْ﴾ حرف شرط ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل، فعل شرط لـ ﴿لَوْ﴾ ومفعول المشيئة محذوف، تقديره: عدم تلاوتي إياه. ﴿مَا﴾ نافية ﴿تَلَوْتُه﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق به، والجملة جواب ﴿لَوْ﴾ الشرطية، وجملة ﴿لَوْ﴾ في محل النصب مقول القول ﴿وَلَا أَدْرَاكُمْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لَا﴾: نافية مؤكدة لنفي ما قبلها ﴿أَدْرَاكُمْ﴾: فعل ومفعول ﴿بِهِ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة تلوته ﴿فَقَدْ﴾: الفاء: تعليلية ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿لَبِثْتُ﴾: فعل وفاعل ﴿فِيكُمْ﴾: متعلق به ﴿عُمُرًا﴾: منصوب على التشبيه بظرف الزمان؛ أي: مدة متطاولة، متعلق بـ ﴿لَبِثْتُ﴾ والجملة الفعلية معللة لما قبلها، على كونها مقول القول ﴿مِنْ قَبْلِهِ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه، متعلق
﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾.
﴿فَمَنْ﴾: ﴿الفاء﴾: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان حكم من افترى على الله.. فأقول لكم. ﴿مَنْ﴾ اسم استفهام للاستفهام الإنكاري، في محل الرفع مبتدأ ﴿أَظْلَمُ﴾؛ خبره والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿مِمَّنِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿أَظْلَمُ﴾ ﴿افْتَرَى﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير، يعود على ﴿مَنِ﴾ والجملة صلة الموصول ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به ﴿كَذِبًا﴾: مفعول به ﴿أَوْ كَذَّبَ﴾: معطوف على ﴿افْتَرَى﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنِ﴾ ﴿بِآيَاتِهِ﴾: متعلق به ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه. وجملة ﴿لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ مستأنفة، مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾.
﴿وَيَعْبُدُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا﴾ عطف قصة على قصة ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: متعلق به ﴿مَا﴾: موصولة، أو موصوفة في محل النصب مفعول به ﴿لَا يَضُرُّهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾ والجملة صلة لما، أو صفة لها ﴿وَلَا يَنْفَعُهُمْ﴾: معطوف على ﴿يَضُرُّهُمْ﴾. ﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَيَعْبُدُونَ﴾. ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾: مقول محكي وإن شئت قلت: ﴿هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا﴾ مبتدأ وخبر ﴿عندَ الله﴾: متعلق بـ ﴿شُفَعَاؤُنَا﴾: والجملة في محل النصب مقول القول.
﴿قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾.
﴿وَمَا﴾: الواو: استئنافية ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَانَ النَّاسُ﴾: فعل ناقص واسمه ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿أُمَّةً﴾ خبر كان ﴿وَاحِدَةً﴾: صفة لـ ﴿أُمَّةً﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة ﴿فَاخْتَلَفُوا﴾ الفاء: عاطفة ﴿اختلفوا﴾: فعل وفاعل معطوف على جملة ﴿كَانَ﴾ ﴿وَلَوْلَا﴾ الواو: استئنافية ﴿لَوْلَا﴾: حرف امتناع لوجود ﴿كَلِمَةٌ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿سَبَقَتْ﴾ صفة لـ ﴿كَلِمَةٌ﴾ ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾: متعلق بـ ﴿سَبَقَتْ﴾ وخبر المبتدأ محذوف، وجوبًا، تقديره: ولولا كلمة سبقت من ربك، موجودة، والجملة الاسمية شرط لـ ﴿لَوْلَا﴾ لا محل لها من الإعراب ﴿لَقُضِيَ﴾: اللام: رابطة لجواب ﴿لولا﴾ ﴿قضي﴾ فعل ماض مغير الصيغة. ﴿بَيْنَهُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه، في محل الرفع نائب فاعل لـ ﴿قضي﴾ ﴿فِيمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿قضي﴾ والجملة الفعلية جواب ﴿لَوْلَا﴾ لا محل لها عن الإعراب، وجملة ﴿لَوْلَا﴾ مستأنفة ﴿فِيهِ﴾ في حرف جر وسبب. والهاء في محل
﴿وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿وَيَعْبُدُونَ﴾ ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَوْلَا﴾ حرف تحضيض بمعنى هلا ﴿أُنْزِلَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة. ﴿عَلَيْهِ﴾: متعلق به ﴿آيَةٌ﴾: نائب فاعل. ﴿مِنْ رَبِّهِ﴾: صفة لـ ﴿آيَةٌ﴾ والجملة الفعلية مقول ﴿يقولون﴾. ﴿فَقُلْ﴾ الفاء: عاطفة تفريعية ﴿قل﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة مفرعة على ﴿يقولون﴾ ﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر. ﴿الْغَيْبُ﴾: مبتدأ ﴿لِلَّهِ﴾ خبر، والجملة في محل النصب مقول قل ﴿فَانْتَظِرُوا﴾ الفاء: عاطفة تفريعية ﴿انتظروا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ﴾ ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿مَعَكُمْ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بما بعده ﴿مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿إِنِّ﴾ وجملة ﴿إِنِّ﴾ في محل النصب مقول قل.
﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (٢١)﴾.
﴿وَإِذَا﴾: الواو: استئنافية، (إذا): ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿أذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً﴾: فعل وفاعل ومفعولان. ﴿مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿أَذَقْنَا﴾ وجملة ﴿أَذَقْنَا﴾ في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذًا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿مَسَّتْهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿ضَرَّاءَ﴾ والجملة في محل الجر صفة لـ ﴿ضَرَّاءَ﴾ ﴿إذَا﴾: فجائية رابطة لجواب ﴿إذَا﴾ وجوبًا، لكون الجواب جملة اسمية، حرف لا محل لها من الإعراب ﴿لَهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿مَكْرٌ﴾: مبتدأ مؤخر والجملة جواب ﴿إذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذَا﴾ مستأنفة ﴿فِي آيَاتِنَا﴾: جار ومجرور متعلق
﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر، والجملة مستأنفة ﴿يُسَيِّرُكُمْ﴾، فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول ﴿فِي الْبَرّ﴾: متعلق بـ ﴿يسير﴾ ﴿وَالْبَحْرِ﴾: معطوف على ﴿الْبَرِّ﴾ ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية ﴿إذَا﴾ ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل نافص واسمه ﴿فِي الْفُلْكِ﴾ جار ومجرور خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الجر بإضافة ﴿إذا﴾ إليها، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي ﴿وَجَرَيْنَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿كُنْتُمْ﴾ ﴿بِهِم﴾: متعلق به. وكذا يتعلق به قوله: ﴿بِرِيحٍ﴾، ﴿طَيِّبَةٍ﴾ صفة ﴿ريح﴾ فإن قلت: كيف يتعدى فعل واحد إلى معمولين، بحرفي جر متحدين لفظًا ومعنى؟
قلت: إن الباء الأولى للتعدية، كهي في مررت يزيد، والثانية للسببية، فاختلف المعنيان، فلذلك تعلقًا بعامل واحد، ويجوز أن تكون الثانية للحال، فتتعلق بمحذوف، تقديره: وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة، فتكون الحال من ضمير الفلك اهـ "سمين" ﴿وَفَرِحُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿كُنْتُمْ﴾ ﴿بِهَا﴾ متعلق به ﴿جَاءَتْهَا رِيحٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿عَاصِفٌ﴾: صفة ﴿ريح﴾ والجملة الفعلية جواب ﴿إذًا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذَا﴾ في محل الجر، بحتى
﴿وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾.
﴿وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ﴾ فعل ومفعول وفاعل معطوف على ﴿جَاءَتْهَا﴾، ﴿مِنْ كُلِّ مَكَانٍ﴾: جار ومجرور مضاف إليه متعلق به ﴿وَظَنُّوا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿جَاءَتْهَا﴾ ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿أُحِيطَ﴾: فعل ماض مغير الصيغة ﴿بِهِمْ﴾؛ نائب فاعل له، وجملة ﴿أُحِيطَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿أَنْ﴾ وجملة ﴿أَنْ﴾ في تأويل مصدر، ساد مسد مفعولي، ظن، تقديره: وظنوا إحاطة الهلاك بهم ﴿دَعَوُا اللَّهَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، بدل من ﴿ظَنُّوا﴾ بدل اشتمال. ﴿مُخْلِصِينَ﴾ حال من واو ﴿دَعَوُا﴾ ﴿له﴾ متعلق بـ ﴿مخلصين﴾ ﴿الدِّينَ﴾ مفعول مخلصين؛ لأنه اسم فاعل يعمل عمل الفعل الصحيح، وفاعله ضمير مستكن فيه؛ أي: هم ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾: اللام: موطئة للقسم ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿أَنْجَيْتَنَا﴾: فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم، بـ ﴿إنْ﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وجوابها محذوف دل عليه جواب القسم، تقديره. لئن أنجيتنا، نكن من الشاكرين. ﴿مِنْ هَذِهِ﴾ متعلق بأنجيتنا ﴿لَنَكُونَنَّ﴾: اللام موطئة للقسم، مؤكدة للأولى ﴿نكونن﴾: فعل مضارع ناقص في محل الرفع، لتجرده عن الناصب والجازم، مبني على الفتح، لاتصاله بنون التوكيد الثقيلة، واسمها ضمير يعود على المتكلمين ﴿مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾: خبرها، والجملة جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية جواب للقسم الأول، لا محل لها من الإعراب وجملة القسم في محل النصب، مقول لقول محذوف، حال من واو ﴿دَعَوُا﴾ تقديره: دعوا الله حالة كونهم قائلين في دعائهم: لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين.
﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر،
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: يا: حرف نداء. أي: منادى نكرة مقصودة، ها: حرف تنبيه زائد ﴿النَّاسُ﴾: صفة لأي، وجملة النداء مستأنفة ﴿إنَّمَا﴾: أداة حصر ﴿بَغْيُكُمْ﴾: مبتدأ ومضاف إليه ﴿عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾؛ خبره والجملة الاسمية جواب النداء، لا محل لها من الإعراب ﴿مَتَاعَ﴾: منصوب على المصدرية، بفعل محذوف، تقديره: تمتعون متاع الحياة الدنيا، والجملة المحذوفة مستأنفة. أو مرفوع على كونه خبرًا لمبتدأ محذوف، تقديره: ذلك البغي متاع الحياة الدنيا، والجملة مستأنفة. أو مجرور على كونه صفة ﴿لأنفسكم﴾ ولكنه على تقدير مضاف، تقديره: ذوات متاع الحياة الدنيا، ويجوز أن يكون المصدر بمعنى اسم الفاعل، تقديره: ممتعات الحياة الدنيا، ذكره أبو البقاء ﴿الْحَيَاةِ﴾: مضاف إليه ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾ ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿إِلَيْنَا﴾: خبر مقدم ﴿مَرْجِعُكُمْ﴾: مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية معطوفة على الفعلية المحذوفة، أو على الاسمية المحذوفة ﴿فَنُنَبِّئُكُمْ﴾ الفاء عاطفة ﴿ننبئكم﴾ فعل ومفعول أول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة معطوفة على جملة، قوله: ثم إلينا مرجعكم ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿ننبئكم﴾ على كونه مفعولًا ثانيًا له ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾: خبره وجملة ﴿كَانَ﴾ صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط
التصريف ومفردات اللغة
﴿الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾: القرون: الأمم واحدها، قرن، وهم القوم المقترنون في زمن واحد، قيل: مئة سنة أو ثمانون سنة أو ما دونها، فيه أقوال أخر. وجاء في الحديث الشريف: خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: جمع بينة: الحجة الواضحة والمعجزة الباهرة، كعصا موسى، وناقة صالح ﴿خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ﴾: جمع خليفة، وهو من يخلف غيره في شيء. ﴿لِنَنْظُرَ﴾؛ أي: لننظر متعلق علمنا، ونشاهد ونرى ﴿وَلَا أَدْرَاكُمْ﴾: يقال؛ دريته ودريت به؛ أي: علمته ﴿عُمُرًا﴾؛ أي: مدة طويلة، أربعين سنة ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً﴾: أصل الذوق إدراك الطعم بالفم، ويستعمل في إدارك الأشياء المعنوية، كالرحمة والنعمة والعذاب والنقمة. ﴿إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا﴾، والمكر: التدبير الخفي الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يتوقعه، ومكره تعالى: تدبيره الذي يخفى على الناس، بإقامة سننه وإتمام حكمه في نظام العالم، وكله عدل وحق، فإن ساء الناس سموه شرًّا، وإن كان جزاءً عدلًا. ﴿إِنَّ رُسُلَنَا﴾ والرسل هنا: الكرام الكاتبون من الملائكة.
﴿هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ﴾ سير من باب فعل، المضعف، وهو من الثلاثي المزيد، بحرف؛ لأنه من سار يسير سيرًا، من باب باع، والتسيير جعل الشيء، أو الشخص يسير بتسخيره تعالى، أو إعطائه ما يسير عليه من دابة أو سفينة. ﴿في الفلك﴾: والفلك يستعمل جمعًا ومفردًا، فحركته إذا كان جمعًا، كحركة بدن، جمع بدنة وإذا كان مفردًا كحركة قفل، ويفرق بينهم بنحو الصفة، وهنا مستعمل في الجمع بدليل، وجرين وفي آية ﴿فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ﴾ مستعمل مفردًا ﴿بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ﴾؛ أي: لينة الهبوب، وفي " المصباح" الريح الهواء بين السماء والأرض، وأصلها الواو، لكن قلبت ياءً؛ لانكسار ما قبلها، والجمع، أرواح، ورياح، وبعضهم يقول: أرياح بالياء، على لفظ الواحد، وغَلّطه أبو حاتم، والريح مؤنثة على الأكثر، فيقال: هي الريح، وقد تذكر على معنى الهواء، فيقال: هو الريح،
حَتَّى إِذَا عَصَفَتْ رِيْحٌ مُزَعْزِعَةٌ | فِيْهَا قِطَارٌ وَرَعْدٌ صَوْتُهُ زَجَلُ |
إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا مَا أَعْصَفَتْ قَصَفَتْ | عِيْدَانَ نَجْدٍ وَلاَ يَعْبَأْنَ بِالرُّتَمِ |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها (١): الاستعارة التمثيلية في قوله: ﴿لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ حيث شبه حال العباد مع ربهم، بحال رعية مع سلطانها في إمهالهم، لينظر ماذا تعمل، واستعير الاسم الدال على المشبه به للمشبه، على سبيل التمثيل والتقريب، ولله المثل الأعلى.
ومنها: الاستفهام الإنكاري التوبيخي في قوله: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾ وفي قوله: ﴿يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ﴾ وقوله: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا﴾ ﴿فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا﴾.
ومنها: التعبير بالمضارع عن الماضي في قوله: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ وفي قوله: ﴿فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ حكايةً للحال الماضية، وإشعارًا باستمرار حالهم على ما كانوا عليه أولًا.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً﴾؛ لأن الذوق حقيقة في إدراك الطعم بالفم، شبه الإذاقة بمعنى إعطاء الرحمة بالذوق، بمعنى إدراك الطعم بجامع إيصال النفع في كل، فاشتق منه أذقنا بمعنى، أعطينا الرحمة على طريقة الاستعارة التصريحية التبعية وكذلك في قوله: ﴿مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ﴾ فيه الاستعارة التصريحية التبعية؛ لأن المس حقيقة في لمس الأجسام، فاستعاره لإصابة الضراء، ونزولها بهم.
ومنها: الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: ﴿إِنَّ رُسُلَنَا﴾ وكان مقتضى السياق أن يقول، إن رسله؛ لأنه قال قبله ﴿قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ﴾ شبه إتيان الموج من كل مكان الذي أشرف بهم إلى الهلاك، وسدّ عليهم مسالك الخلاص والنجاة، بإحاطة العدو، وأخذه بأطراف خصمه كما في "الشهاب".
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾؛ لأنه أطلق
ومنها: تقديم الجار والمجرور في قوله: ﴿ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ﴾ للدلالة على الثبات والقصر، اهـ "أبو السعود".
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٢٤) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٢٥) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٦) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (٢٧) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (٢٨) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (٢٩) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (٣٠) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٣١) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٣٢) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣٤) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (٣٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ...﴾ الآية، مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.. ضرب مثلًا عجيبًا غريبًا للحياة الدنيا، تذكر من
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذ الآية لما قبلها: أنه لما (١) كان سبب بغي الناس في هذه الحياة الدنيا هو إفراطهم في حبها والتمتع بزينتها.. ضرب بذلك مثلًا يصرف العاقل عن الغرور بها ويرشده إلى الاعتدال في طلبها، والكف عن التوسل في الحصول على ذاتها بالبغي، والظلم والفساد في الأرض، فشبه حال الدنيا، وقد أقبلت بنعيمها وزينتها، وافتتن الناس بها بعد أن تمكنوا من الاستمتاع بها، ثم أسرع ذلك النعيم في التقضي وانصرم غب إقباله واغترار الناس به بحال ما على الأرض من أنواع النبات يسوق الله إليها المطر، فيلتف بعضها على بعض، وتصبح بهجة للناظرين، ثم لا تلبث أن تنزل بها فجأة جائحة، تستأصلها وتجعلها حطامًا، كأن لم تغن بالأمس.
قوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين غرور المشركين الجاهلين بمتاع الدنيا، وضرب لهم الأمثال على ذلك.. أردف ذلك بالترغيب في الآخرة، ووصف حال المحسنين والمسيئين فيها.
وقال أبو حيان: مناسبتها لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) مثل الحياة الدنيا وما يؤول إليه من الفناء والاضمحلال، وما تضمنه من الآفات والعاهات.. ذكر تعالى أنه داع إلى دار السلامة والصحة والأمن، وهي الجنة إذ أهلها سالمون من كل مكروه.
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ....﴾، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه سبحانه وتعالى لما ذكر ما أعد للذين أحسنوا، وحالهم يوم القيامة، ومآلهم إلى الجنة.. ذكر ما أعد لأضدادهم وحالهم ومآلهم.
(٢) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين (٢) فضائح عبدة الأوثان.. أتبعها بذكر الدلائل على فساد مذهبهم، بما يوبخهم، ويحجهم بما لا يمكن إلا الاعتراف به من حال رزقهم وحواسهم، وإظهار القدرة الباهرة في الموت والحياة، فبدأ بما فيه قوام حياتهم، وهو الرزق الذي لا بد منه فمن السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات.
وعبارة المراغي هنا: مناسبتها لما قبلها: لما بين الله سبحانه وتعالى جنايات المشركين على أنفسهم، وبين فساد معتقداتهم، وما سيلقونه من الجزاء على ما فعلوا.. أردف ذلك بإقامة الحجج على المشركين في إثبات التوحيد والبعث، ثم أردفه بإثبات النبوة والرسالة والقرآن.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما استفهمهم (٣) عن أشياء من صفات الله تعالى، واعترفوا بها، ثم أنكر عليهم صرفهم عن الحق، وعبادة الله تعالى.. استفهم عن شيء هو سبب العبادة، وهو إبداء الخلق، وهم يسلمون ذلك كما قال في آية أخرى: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ ثم إعادة الخلق وهم منكرون ذلك، لكنه عطفه على ما يسلمونه، ليعلم أنهما سواء بالنسبة إلى قدرة الله تعالى.
قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ...﴾ الآية، مناسبة هذه
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
وعبارة المراغي هنا: قوله تعالى: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ....﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أقام الحجة على المشركين بما تقدم.. ذكر هنا ضربًا آخر من الحجة، أقامه عليهم سبحانه وتعالى دليلًا على توحيده وبطلان الإشراك به، جاء فيه بطريق السؤال للتوبيخ، وإلزام الخصم، فإن الكلام إذا كان ظاهرًا جليًّا ثم ذكر على سبيل الاستفهام وفوض الجواب إلى المسؤول.. يكون أوقع في النفس، وأبلغ في الدلالة على الغرض، انتهت.
التفسير وأوجه القراءة
٢٤ - ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾؛ أي: إنما صفة الحياة الدنيا في سرعة انقضائها وفنائها وزوالها، و ﴿إِنَّمَا﴾: ليست هنا للحصر؛ لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالًا غير هذا ﴿كَمَاءٍ﴾ أي: كمثل نبات ماء ومطر ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾؛ أي: أنزلنا ذلك الماء والمطر ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾ والسحاب وإنما شبه الحياة الدنيا بماء السماء دون ماء الأرض؛ لأن ماء السماء وهو المطر لا تأثير لكسب العبد فيه، بزيادة أو نقص، بخلاف ماء الأرض، فكان تشبيه الحياة به أنسب ﴿فَاخْتَلَطَ﴾ واشتبك وتراكم لكثرته ﴿بِهِ﴾؛ أي: بسبب ذلك الماء ﴿نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾ حالة كون ذلك النبات ﴿مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ﴾ من الثمار والحبوب والبقول والأبازير ﴿و﴾ مما يأكل ﴿الأنعام﴾ والبهائم، من الحشيش والكلأ والعشب؛ أي؛ ﴿إنَّمَا﴾: صفة الحياة الدنيا في صورتها ومآلها، كصفة نبات ماء نزل من السماء، فأنبتت به الأرض أزواجًا شتى، من النبات تشابكت وتراكمت والتفت واختلط بعضها، ببعض لكثرتها مع
والمعنى: إن هذه الحياة الدنيا التي ينتفع بها المرء، مثل النبات الذي لما عظم الرَّجاء في الانتفاع به.. وقع اليأس منه بالهلاك والمتمسك بالدنيا، إذا نال منها بغيته.. أتاه الموت بغتة، فسلبه ما هو فيه من نعيم الدنيا ولذاتها. وقيل: يحتمل أن يكون ضرب هذا المثل لمن ينكر المعاد، والبعث بعد الموت، وذلك؛ لأن الزرع إذا انتهى وتكامل في الحسن إلى الغاية القصوى.. أتته آفة، فتلف
والخلاصة: أي كهذا المثل الواضح الذي يمثل حال الدنيا وغرور الناس بها، مع سرعة زوالها وتعلق الآمال بها، نفصل الآيات الدالة على حقيقة التوحيد وأصول الشرائع والآداب والمواعظ وتهذيب الأخلاق، وكل ما فيه صلاح للناس، في معاشهم ومعادهم، لمن يستعمل عقله ويزن أعماله بموازين الحكمة، فليس هذا المثل قاصرًا على شخص دون شخص، بل هو عبرة لمن كان له بصيرة وتدبر، فينبغي للإنسان أن ينزل القرآن في خطاباته على نفسه، ويتأمل فيها ويتدبر، ليأتمر بأوامره وينتهي بنواهيه.
وقرأ الجمهور (١): ﴿وَازَّيَّنَتْ﴾ وأصله: وتزينت فأدغمت التاء في الزاي، فاجتلبت همزة الوصل لضرورة تسكين الزاي عند الإدغام. وقرأ أبي، وعبد الله، وزيد بن علي، والأعمش: ﴿وتزينت﴾ على وزن تفعلت. وقرأ سعد بن أبي وقاص، وأبو عبد الرحمن، وابن يعمر والحسن والشعبي وأبو العالية وقتادة ونصر بن عاصم وابن هرمز وعيسى الثقفي: ﴿وأزينت﴾ على وزن أفعلت، كأحصد الزرع؛ أي: حضرت زينتها، وحانت وصحت الياء فيه على جهة الندور، كأعليت المرأة، والقياس: وأزانت، كقولك: وأبانت. وقرأ أبو عثمان النهدي: بهمزه مفتوحة. بوزن، أفعألت قاله: عنه صاحب "اللوامح"، قال: كأنه كانت في الوزن بوزن احمارت، لكنهم كرهوا الجمع بين ساكنين، فحركت الألف فانقلبت همزة مفتوحة، ونسب ابن عطية هذه القراءة لفرقة، فقال: وقرأت فرقة، وأزيأنت
إِذا مَا الْهَوَادِيْ بِالْعَبِيْطِ احْمَأَرَّتِ
وقرأ أشياخ عوف بن أبي جميلة ﴿وازيانت﴾ بنون مشددة، وألف ساكنة قبلها. قال ابن عطية وهي قراءة أبي عثمان النهدي. وقرأت فرق ﴿وازاينت﴾ والأصل وتزاينت فأدغم. وقرأ الحسن وقتادة ﴿كأن لم يغن﴾ بالياء على التذكير، فقيل: عائد على المضاف المحذوف، الذي هو الزرع، حذف وقامت هاء التأنيث مقامه في قوله: ﴿قَادِرُونَ عَلَيْهَا﴾ وفي قوله: ﴿أتاها فجعلناها﴾. وقيل: عائد على الزخرف، والأولى عوده على الحصيد؛ أي: كأن لم يغن الحصيد. وكان مروان بن الحكم يقرأ على المنبر ﴿كأن لم تتغن﴾ بتائين مثل تتفعل. وفي مصحف أبي ﴿كأن لم تغن بالأمس وما كنا لنهلكها إلا بذنوب أهلها﴾ وفي "التحرير" نفصل الآيات، رواها عنه ابن عباس. وقيل: في مصحفه ﴿وما كان الله ليهلكها إلا بذنوب أهلها﴾ وفي "التحرير". وكان أبو سلمة بن عبد الرحمن يقرأ في قراءة أبي ﴿كأن لم تغن بالأمس وما أهلكناها إلا بذنوب أهلها﴾ ولا يحسن أن يقرأ أحد بهذه القراءة؛ لأنها مخالفة لخط المصحف، الذي أجمع عليه الصحابة والتابعون، انتهى. ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾؛ أي: مثل هذا التفصيل الذي فصلناه في الماضي نفصل في المستقبل. وقرأ أبو الدرداء ﴿لقوم يتذكرون﴾ بالذال بدل الفاء.
٢٥ - ولما ذكر الله سبحانه وتعالى صفة الدنيا، ورغب في الزهد فيها والتجنب لزخارفها.. رغب في الآخرة ونعيمها حيث قال: ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يَدْعُوا﴾ عباده ﴿إِلَى﴾ الجنة ﴿دَارِ السَّلَامِ﴾ بدعائه إلى التوحيد والإيمان؛ أي: دار السلامة يسلم من دخلها من جميع الآفات الدنيوية كالموت والمرض والمصائب والحزن والغم والتعب والنكد، أو دار يسلم الله سبحانه وتعالى فيها على أهلها، أو دار تسلم الملائكة فيها على أهلها أو دار الله السلام؛ أي: دار الله الذي سلم من كل النقائص والعيوب، والإضافة فيه للتشريف أو إلى الجنة التي تسمى دار السلام؛ لأن دار السلام، اسم لإحدى الجنان السبع أحدها: دار
عم (٢) بالدعوة أولًا، إظهارًا للحجة، وخص بالهداية ثانيًا، استغناءً عن الخلق، وإظهارًا للقدرة، فحصلت المغايرة بين الدعوتين، فالدعوة (٣) عامة على لسان رسول الله، - ﷺ -، بالدلالة والهداية، خاصة من لطف المرسل بالتوفيق والعناية، والمعنى: يدعو العباد كلهم إلى دار السلام، ولا يدخلها إلا المهديون.
وعن جابر رضي الله عنه قال: جاءت الملائكة إلى النبي، - ﷺ -، وهو نائم، فقال؛ بعضهم إنه نائم وقال بعضهم: العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم مثلًا، فاضربوا له مثلًا، فقالوا: مثله، كمثل رجل بنى دارًا وجعل فيها مأدبة، وبعث داعيًا، فمن أجاب الداعي.. دخل لدار، وأكل من المأدبة، ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، فقالوا: أولوها بفقهها، فإن العين نائمة، والقلب يقظان، فقال بعضهم: الدار الجنة، والداعي محمَّد، - ﷺ -، فمن أطاع محمدًا.. فقد أطاع الله، ومن عصى محمدًا.. فقد عصى الله، ومحمد فرق بين الناس. وفي رواية، خرج علينا رسول الله، - ﷺ -، فقال: "إني رأيت في المنام كأن جبريل عليه السلام عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلًا" رواه البخاري.
(٢) الخازن.
(٣) النسفي.
وهذا قول جماعة من الصحابة: منهم: أبو بكر الصديق، وحذيفة، وأبو موسى الأشعري، وعبادة بن الصامت رضي الله عنهم، وهو قول الحسن وعكرمة والضحاك ومقاتل والسدي، ويدل على صحة هذا القول المنقول والمعقول. أما المنقول (١): فما روي عن صهيب، أن رسول الله، - ﷺ -، قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول الله تبارك وتعالى: أتريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا، ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار، قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئًا أحب إليهم من النظر إلى ربهم تبارك وتعالى" زاد في رواية: ثم تلا هذه الآية: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ أخرجه مسلم.
وروى الطبري بسنده عن كعب بن عجرة، عن النبي، - ﷺ -، في قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ قال: "الزيادة النظر إلى وجه الله الكريم" وعن أبي بن كعب، أنه سأل رسول الله، - ﷺ -، عن قول الله سبحانه وتعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ قال: "الحسنى: الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم"، إلى غير ذلك مما لا يحصى. وأما المعقول: فنقول: إن الحسنى، لفظة مفردة، دخل عليها حرف التعريف، فانصرفت إلى المعهود السابق، وهو الجنة في قوله سبحانه: ﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ فثبت بهذا، أن المراد من لفظة: الحسنى، هو الجنة وإذا ثبت هذا وجب أن يكون المراد من الزيادة أمرًا مغايرًا لكل ما في الجنة من النعيم، وإلا لزم التكرار، وإذ كان كذلك وجب حمل هذه الزيادة على
القول الثاني: في معنى هذه الزيادة، ما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: الزيادة غرفة من لؤلؤة واحدة، لها أربعة أبواب.
والقول الثالث: إن الحسنى واحدة الحسنات، والزيادة التضعيف إلى تمام العشرة، وإلى سبع مئة. قال ابن عباس: هو مثل قوله تعالى: ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ يقول: يجزيهم بعملهم، ويزيدهم من فضله. قال قتادة: كان الحسن. يقول: الزيادة: الحسنة بعشر أمثالها، إلى سبع مئة ضعف.
القول الرابع: إن الحسنى، حسنة مثل حسنة، والزيادة مغفرة من الله ورضوان، قاله مجاهد.
القول الخامس: قول ابن زيد: إن الحسنى هي الجنة، والزيادة ما أعطاهم في الدنيا، لا يحاسبهم به يوم القيامة، اهـ من "الخازن".
﴿وَلَا يَرْهَقُ﴾: ولا يغشى ولا يغطي ﴿وُجُوهَهُمْ﴾؛ أي: وجوه أهل الجنة ﴿قَتَرٌ﴾؛ أي: سواد ﴿وَلَا ذِلَّةٌ﴾؛ أي: كآبة وحزن. قال ابن أبي ليلى: هذا بعد نظرهم إلى ربهم تبارك وتعالى؛ أي: ولا يغشى وجوههم شيء مما يغشى الكفرة، من الغبرة التي فيها سواد، ولا أثر هوان ولا انكسار بال. ﴿أُولَئِكَ﴾ الذين هذه صفتهم هم ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ وسكانها وملازموها و ﴿هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾؛ أي: ماكثون فيها مكثًا مؤبدًا، لا نهاية له، فهي لا تبيد فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمخرجين منها، فتنغص عليهم لذاتهم. والمعنى: أن هؤلاء الذين وصفت صفتهم هم أصحاب الجنة لا غيرهم، وهم فيها مقيمون لا يخرجون منها أبدًا.
وقرأ (١) الحسن وأبو رجاء وعيسى بن عمر والأعمش: ﴿قتر﴾ بسكون التاء، وهي لغة كالقدر والقدر.
٢٧ - ﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا﴾ وعملوا في الدنيا ﴿السَّيِّئَاتِ﴾؛
فائدة: وجاءت (٢) صلة المؤمنين أحسنوا وصلة الكافرين كسبوا السيئات، تنبيهًا على أن المؤمن، لما خلق على الفطرة، وأصلها بالإحسان، وعلى أن الكافر لما خلق على الفطرة، انتقل عنها وكسب السيئات، فعل ذلك محسنًا، وهذا كاسبًا للسيئات، ليدل على أن المؤمن سلك ما ينبغي وهذا سلك ما لا ينبغي. ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ﴾ وغطيت وألبست ﴿وُجُوهُهُمْ قِطَعًا﴾ وجزءًا جمع قطع ﴿مِنَ﴾ أديم ﴿اللَّيْلِ﴾ حال كونه حالكًا ﴿مُظْلِمًا﴾ لا بصيص - لمعة - فيه من نور القمر الطالع، ولا النجم الثاقب، فتشقها قطعةً بعد قطعة، فصارت ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض؛ أي: كأن وجوه أهل النار، لفرط سوادها، ألبست طائفة من سواد الليل المظلم.
﴿أُولَئِكَ﴾ الموصوفون بالصفات المذكورة الذميمة ﴿أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ﴾؛ أي: ساكنوها وملازموها و ﴿هُمْ فِيهَا﴾؛ أي: في النار ﴿خَالِدُونَ﴾؛ أي: ماكثون مكثًا مؤبدًا، لا انقضاء لها، لا يبرحونها؛ لأنه ليس لهم مأوى سواها. وقد جاء في معنى هذه الآيات، في وصف الفريقين، قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨)
(٢) البحر المحيط.
وقرىء ﴿ويرهقهم﴾ بالياء؛ لأن تأنيث الذلة مجاز. وقرأ الجمهور؛ ﴿قِطَعًا﴾ بكسر القاف وفتح الطاء، جمع قطعة، كقربة، وقرب. وقرأ ابن كثير، والكسائي: ﴿قطعا﴾ بسكون الطاء، وهو مفرد اسم للشيء المقطوع. وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلا أنه فتح الطاء. وقرأ أبي ﴿كأنما تغشى وجوههم قط من الليل مظلم﴾.
٢٨ - ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ﴾؛ أي: واذكر، يا محمَّد، لكلا الفريقين الذين أحسنوا، والذين كسبوا السيئات، قصة يوم نحشر الخلائق ونجمعهم في صعيد واحد، وهو يوم القيامة. والحشر: الجمع من كل جانب وناحية إلى موضع واحد. حالة كونهم ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: متجمعين لا يتخلف منهم أحد، أو نحشر العابدين والمعبودين ﴿ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا﴾؛ أي: للمشركين منهم بعد طول مكث، لا يكلمون بشيء قبل ذلك ﴿مَكَانَكُمْ﴾؛ أي: الزموا مكانكم وموقفكم واثبتوا فيه ﴿أَنْتُمْ﴾ أيها المشركون ﴿وشركاؤكم﴾؛ أي: معبوداتكم التي كنتم تعبدونها من دون الله تعالى، حتى تسألوا وتنظروا ما يفعل بكم. وقرأ الحسن وشيبة والقراء السبعة ﴿نحشرهم﴾ بالنون. وقرأت فرقة بالياء. وقرىء ﴿وشركاءكم﴾ بالنصب على أن الواو بمعنى: مع، والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى يحشر العابد والمعبود، لسؤالهم، ثم يقول للذين أشركوا في حالة الحشر ووقت الجمع، تقريعًا لهم على رؤوس الأشهاد، وتوبيخًا لهم مع حضور من يشاركهم في العبادة، وحضور معبوداتهم: مكانكم؛ أي: الزموا مكانكم واثبتوا فيه، وقفوا في موضعكم أنتم ومعبوداتكم، حتى تسألوا وتنظروا ما يفعل بكم ويفصل بينكم، فيما كان من سبب عبادتكم إياهم، والحجة التي يحتج بها كل فريق منكم. وفي هذا وعيد شديد، وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد، وتقريع يكون هذا عظم سيئاتكم ﴿فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: ففرقنا بين المشركين وشركائهم، وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا، وباعدنا بينهم بعد الجمع في الموقف. والمعنى: ففرقنا بين العابدين والمعبودين، وميزنا بعضهم من بعض، كما يميز بين الخصوم
٢٩ - ﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ﴾؛ أي: فكفى الله سبحانه وتعالى شهيدًا وحكمًا بيننا، وبينكم، فهو العليم بحالنا وحالكم ﴿إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ﴾؛ أي: إنا كنا عن عبادتكم إيانا ﴿لَغَافِلِينَ﴾؛ أي: لجاهلين لا نعلمها ولا نرضى بها؛ لأن العبادة لا تليق بنا، بل لله سبحانه وتعالى وحده.
والمعنى: وقد قال شركاؤهم الذين عبدوهم وجعلوهم شركاء لله سبحانه: ما كنتم إيانا تعبدون، وإنما عبدتم هواكم وضلالكم وشياطينكم، الذين أغووكم وإنما أضاف الشركاء إليهم، مع أنهم جعلوهم شركاء لله سبحانه، لكونهم جعلوا لهم نصيبًا من أموالهم، فهم شركاؤهم في أموالهم من هذه الحيثية. وقيل: لكونهم شركاءهم في هذا الخطاب، وهذا الجحد من الشركاء، وإن كان مخالفًا لما قد وقع من المشركين من عبادتهم، فمعناه إنكار عبادتهم إياهم عن أمرهم لهم بالعبادة.
٣٠ - ﴿هُنَالِكَ﴾؛ أي: في ذلك الموقف، أو في ذلك الوقت على (١) معنى استعارة إطلاق اسم المكان على الزمان؛ أي: في ذلك المقام، والموقف الذي
وقرأ حمزة والكسائي وزيد بن علي: ﴿تتلو﴾ بتاءين؛ أي: تقرأ كل نفس في صحيفة أعمالها ما قدمت من خير أو شر، أو تتبع ما أسلفت؛ لأن عملها هو الذي يهديها إلى طريق الجنة، أو إلى طريق النار. وقرأ عاصم: ﴿نبلو كل نفس﴾ بالنون فالباء ونصب كل؛ أي: نختبر كل نفس بسبب اختبار ما أسلفت من العمل السيء؛ أي: نفعل بها فعل المختبر، أو المعنى: نصيب بالبلاء الذي هو العذاب كل نفس عاصية، بسبب ما أسلفت من الشر. وقوله: ﴿وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ﴾ معطوف على فزيلنا بينهم، والضمير فيه عائد إلى الذين أشركوا؛ أي: أعرض الذين أشركوا عن المولى الباطل، ورجعوا إلى المولى الحق؛ أي: الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة، وأقروا بألوهيته ووحدانيته بعد أن كانوا في الدنيا يعبدون غيره، وردوا إلى حكمه؛ أي: ردوا إلى جزائه وما أعدَّ لهم من عقابه، ومولاهم ربهم والحق صفة له؛ أي: الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة.
وقرأ يحيى بن وثاب (٢): ﴿وردوا﴾ بكسر الراء، لما سكن للإدغام.. نقل حركة الدال إلى الراء بعد سلب حركتها. وقرىء ﴿الحق﴾ بالنصب على المدح. نحو: الحمد لله أهل الحمد. ﴿وَضَلَّ عَنْهُمْ﴾؛ أي: ضاع وغاب عنهم في الموقف، فلا ينافي قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ﴾ ﴿مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾؛ أي: ما كانوا يدعون من أن معبوداتهم آلهة، وأنها تشفع لهم.
وحاصل معنى الآية (٣): أي في موقف الحساب تختبر كل نفس من عابدة
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
فمنها: ما يسأل الله فيه العابدين.
ومنها: ما يسأل فيه المعبودين.
ومنها: ما عين فيه اسم الملائكة والجن والشياطين.
والحاصل: أن هؤلاء المشركين يرجعون في ذلك المقام إلى الحق ويعترفون به ويقرون ببطلان ما كانوا يعبدونه ويجعلونه إلهًا، ولكن حين لا ينفعهم ذلك.
٣١ - ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد، لهؤلاء المعاندين من أهل مكة ﴿مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ﴾ بما ينزله عليكم من الأمطار ﴿و﴾ يرزقكم من ﴿الأرض﴾ بما ينبته من نباتات شتَّى، من نجم وشجر تأكلون منه؛ أو تأكل أنعامكم، والاستفهام فيه للتقرير، وكذا فيما بعده؛ أي: من الذي يرزقكم منهما جميعًا، فإن الأرزاق تحصل بأسباب سماوية ومواد أرضية، أو من كل واحدة منهما، والمقصود من هذا القول، الاستدلال على حقية التوحيد، وبطلان ما هم عليه من الشرك، اهـ "أبو السعود". وهذه أسئلة ثمانية، جواب الخمسة الأولى منها: منهم، وجواب
وأم في قوله: ﴿أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ﴾ هي (١) المنقطعة؛ لأنها لم يتقدمها همزة استفهام ولا تسوية، ولكن إنما تقدر هنا ببل وحدها دون الهمزة، وقد تقرر عند الجمهور أن المنقطعة تقدر بهما، وإنما لم تقدر هنا ببل، والهمزة؛ لأنها وقع بعدها هنا اسم استفهام صريح، وهو: من والإضراب هنا على القاعدة المقررة في القرآن أنه إضراب انتقال، لا إضراب إبطال اهـ "سمين"؛ أي: وقيل لهم (٢) يا محمَّد، بل من يملك ما تتمتعون به من حاستي السمع والبصر، وأنتم بدونهما لا تدرون شيئًا من أمور العالم، وتكون الأنعام والهوام، بل والشجر خيرًا منكم؛ باستغنائها عمن يقوم بضرورات معاشها؛ أي: أم من يستطيع خلقهما وتسويتهما، أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها وسرعة انفعالهما، من أدنى شيء، وخص هاتين الحاستين بالذكر؛ لأن عليهما مدار الحياة الحيوانية، وكمال الحياة الإنسانية، إذ بهما تحصيل العلوم الأولية.
وخلاصة ذلك: بل من خلق هذه الحواس، ووهبها للناس، وحفظها مما يعتريها من الآفات، ولا شك أن الجواب عن ذلك السؤال لا حاجة فيه إلى الفكر، فإن هم تأملوا في ذلك.. ازدادوا علمًا وإعجابًا بإنعام الله بهما، وإيمانًا بأنه لا يقدر غيره على إيجادهما. وعن علي رضي الله عنه كان يقول: سبحان من بصَّر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم.
﴿وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾؛ أي: ومن يقدر أن يخرج الإنسان من النطفة والطائر من البيضة، والمؤمن من الكافر ﴿وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ﴾؛ أي: وأن يخرج النطفة من الإنسان والبيضة من الطائر والكافر من المؤمن؛ أي: وقيل لهم: بل من ذا الذي بيده أمر الموت والحياة، فيخرج الحي من الميت، والميت من الحي، فيما تعرفون من المخلوقات وما لا تعرفون، فالله هو الذي يخرج النبات
(٢) المراغي.
﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾؛ أي: ومن يتولى تدبير أمر الخليقة جميعًا، بما أودعه في كل منها من السنن، وقدره من النظام، وهذا السؤال الخامس أعم من كل من الأربعة قبله، فهو من ذكر العام بعد الخاص. ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ في جواب هذه الأسئلة الخمسة بلا تباطؤ ولا تجاحد هو ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: فسيجيبون عن هذه الأسئلة الخمسة، بأن فاعل ذلك كله هو الله سبحانه وتعالى رب العالم كله ومليكه، إذ لا جواب غيره، وهم لا يجحدون ذلك ولا ينكرونه. والهمزة في قوله: ﴿فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ للاستفهام التوبيخي، المضمن للإنكار، داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره؛ فقل: لهم يا محمَّد، عند ذلك تبكيتًا لهم ووعظًا وتذكيرًا لهم، أتعلمون ذلك فلا تتقون سخطه وعقابه لكم، بشرككم وعبادتكم لغيره، ممن لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا
٣٢ - ﴿فَذَلِكُمُ﴾ المتصف بكل تلك الصفات السالفة هو ﴿اللَّهُ﴾؛ أي: المعبود بحق ﴿رَبُّكُمُ﴾؛ أي: المربي لكم بنعمه والمدبر لأموركم ﴿الْحَقُّ﴾؛ أي: الثابت بذاته الحي المحيي لغيره المستحق للعبادة دون سواه. والاستفهام في قوله: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾ للإنكار التوبيخي، بدليل ذكر إلا الإيجابية بعده؛ أي: فماذا بعد الرب الحق، الثابتة ربوبيته إلا الضلال؛ أي: الباطل الضائع المضمحل، فالذي يفعل تلك الأمور هو الرب الحق، وعبادته وحده هي الهدى، وما سواها من عبادة الشركاء والوسائط ضلال، وكل من يعبد غيره معه فهو مشرك مبطل ضال؛ أي: فإذا ثبت أن عبادة الله حق، ثبت أن عبادة غيره من الأصنام ضلالٌ محض، إِذ لا واسطة بينهما. ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾؛ أي: فكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال، مع علمكم بما كان الله به هو الرب الحق، فما بالكم تقرون بتوحيد الربوبية دون توحيد الألوهية، فتتخذون مع الله آلهة أخرى؛ أي: فكيف تمالون من التوحيد إلى الإشراك، وعبادة الأصنام مع علمكم ذلك؟ فالاستفهام فيه، للتعجيب والابتعاد والإنكار.
﴿أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: هي أنهم لا يؤمنون بما يدعوهم إليه رسلنا، من التوحيد والهدى مهما تكن الآية بينة، والحجة ظاهرة قوية؛ أي: وجب وثبت قضاء ربك، بأنهم لا يؤمنون لرسوخهم وتمردهم في الإشراك.
وليس المراد (١): أنه يمنعهم من الإيمان بالقهر، بل هم يمتنعون منه باختيارهم، لفقدهم نور البصيرة واستقلال العقل، فلا يتوجهون إلى التمييز بين الحق والباطل والهدى والضلال، لرسوخهم في الكفر واطمئنانهم به بالتقليد، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧)﴾. وقرأ (٢) أبو جعفر وشيبة ونافع وابن عامر: ﴿كلمات ربك﴾ بالجمع هنا، وفي آخر السورة. وقرأ باقي السبعة بالإفراد.
٣٤ - والاستفهام في قوله: ﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾ للتقرير، كالاستفهامات السابقة والآتية، أي: قل لهم أيها الرسول: هل أحد من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله تعالى، أو من دون الله، من الأصنام أو الأرواح الحالة فيها، كما تزعمون،
(٢) البحر المحيط.
ولما كانوا لا يجيبون عن هذا السؤال، كما أجابوا عن الأسئلة الأولى، لإنكارهم للبعث والمعاد، لقن الله سبحانه وتعالى رسوله الجواب، فقال: ﴿قُلِ﴾ لهم، يا محمَّد، في الجواب ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى هو الذي ﴿يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾؛ أي: ينشىء المخلوقات من العدم ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ يوم القيامة للمجازاة، لا جواب غيره، إذ القادر على بدء الخلق يكون قادرًا على إعادته بالأولى، وهم ينكرون إعادة الأحياء الحيوانية، دون الأحياء النباتية، إذ هم يشاهدون بدء خلق النبات في الأرض حين ما يصيبها ماء المطر في فصل الشتاء وموته بجفافه في فصل الصيف والخريف، ثم إعادته بمثل ما بدأه مرة بعد أخرى، ويقرون بأن الله تعالى هو الذي يفعل البدء والإعادة؛ لأنهم يشاهدون كلًّا منهما، وهم لا يسلمون إلا بما يرون بأعينهم، أو يلمسونه بأيديهم. وقد أمر الله رسوله، - ﷺ -، أن يرشدهم إلى جهلهم وينبههم للتفكير في أمرهم فقال: ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ والاستفهام فيه تعجبي؛ أي: فكيف تصرفون من الحق، الذي لا محيد عنه، وهو التوحيد إلى الضلال البين، وهو الإشرك وعبادة الأصنام، وذلك من دواعي الفطرة، وخاصة العقل حين تفكيره في المصير،
٣٥ - ثم جاء باحتجاج آخر على ما ذكره، إلزامًا لهم عقب الإلزام الأول، فسألهم عن شأن من شؤون الربوبية المقتضى لاستحقاق الألوهية، وتوحيد العبادة الاعتقادية والعملية فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم، يا محمَّد، ﴿هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾؛ أي: هل من هؤلاء الشركاء الذين عبدتموهم من دون الله من يهدي ويرشد غيره إلى الحق والصواب، مما فيه صلاحكم في الدين والدنيا، بوجه من وجوه الهداية، التي بها تتم حكمة الخلق، كما يدل على ذلك قوله: ﴿قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى﴾ إذ أدنى مراتب المعبودية، هداية المعبود لعابديه إلى الحق.
والهداية لها أنواع:
١ - هداية الغريزة والفطرة التي أودعها الله في الإنسان والحيوان.
٣ - هداية التفكير والاستدلال بوساطة هذه الوسائل.
٤ - هداية الدين، وهو للنوع البشري في جملته بمثابة العقل للأفراد.
٥ - هداية التوفيق الموصل بالفعل إلى الغاية بتوجيه النفس إلى طلب الحق، وتسهيل سبله، ومنع الصوارف عنه.
ولما كانوا لا يستطيعون أن يدعوا أن أحدًا من أولئك الشركاء يهدي إلى الحق، لا من ناحية الخلق، ولا من ناحية التشريع.. لقن الله رسوله الجواب، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم، أيها الرسول، في الجواب، لا جواب غيره: ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى هو الذي ﴿يَهْدِي﴾ ويرشد من يشاء ﴿لِلْحَقِّ﴾؛ أي: إلى الحق دون غيره من شركائكم، بما نصب من الأدلة والحجج، وأرسل من الرسل، وأنزل من الكتب، وهدى إلى النظر والتدبر وأعطى من الحواس.
وفي "السمين": ﴿هدى﴾ يتعدى إلى اثنين، ثانيهما، إما باللام، أو بإلى، وقد يحذف الحرف تخفيفًا، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر، فعدى الأول والثالث بإلى، والثاني باللام، وحذف المفعول الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير: هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق، قال: الله يهدي من يشاء للحق، أفمن يهدي غيره إلى الحق، وقد تقدم أن التعدية بإلى وباللام من باب التفنن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري: يقال: هداه للحق وإلى الحق، فجمع بين اللغتين اهـ. والمراد بالحق في المواضع الثلاثة ضد الباطل. وعبارة الخطيب قل هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق بنصب الحجج وخلق الاهتداء وإرسال الرسل، ولما كانوا جاهلين بالحق في ذلك أو معاندين.. أمرَ الله تعالى رسولَه، - ﷺ -، أن يجيب بقوله: ﴿قُلِ اللَّهُ﴾ الذي له الإحاطة الكاملة، يهدي للحق من يشاء، لا أحد ممن زعمتموه شركاء. فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها، جهل محض. اهـ. يعني أن الله هو الذي يهدي للحق، فهو أحق بالاتباع لا هذه الأصنام التي لا تهتدي إلا أن تهدى، اهـ "خازن". والمعنى: قل لهم يا محمَّد: هل من شركائكم من يرشد إلى دين الإِسلام، ويدعو الناس
فالهمزة في قوله: ﴿أفمن يهدي﴾ داخلة على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أعميتم عن إبصار الحق، أم عاندتم، فمن يهدي ويرشد من يشاء إلى الحق والصلاح.. ﴿أحق﴾ وأولى من غيره بـ ﴿أَن﴾ يطاع و ﴿يُتَّبَعَ﴾ فيما شرعه ويعبد دون غيره ﴿أَمَّنْ لَا يَهِدِّي﴾ غيره ولا يهتدي بنفسه، فضلًا عن هداية غيره إلا أن يهدى؛ أي لا يهتدي في حال من الأحوال إلا في حال هدايته تعالى له، إذ لا هادي غيره، وهذا حال أشراف شركائهم من الملائكة والمسيح، وعزير عليهم السلام، أو من لا ينتقل من مكان إلى مكان، إلا أن ينقل إليه؛ لأن الأصنام خالية عن الحياة والقدرة؛ أي: أهذا الأخير أحق، أن يتبع، أم الأول فالجواب الأول أحق أن يتبع، وترك ذكر الجواب لوضوحه كما مر.
والاستفهامان في قوله: ﴿فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ للتعجيب من حالهم وسوء صنيعهم وقبيح فعلهم، وللتقريع والتوبيخ ﴿فَمَا لَكُمْ﴾ أي: فأي شيء ثبت لكم في اتخاذكم هؤلاء شركاء لله تعالى، فإنهم عاجزون عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم، أو أي شيء أصابكم، وماذا حل بكم حتى اتخذتم هؤلاء شركاء وجعلتموهم وسطاء بينكم وبين ربكم، الذي لا خالق ولا رازق ولا هادي لكم سواه ﴿كَيْفَ تَحْكُمُونَ﴾ بالباطل وتجعلون لله شركاء، أو كيف تحكمون بجواز عبادتهم وشفاعتهم عنده تعالى بدون إذنه.
وهاتان (١) جملتان، أنكر في الأولى، وتعجب من اتباعهم من لا يهدي ولا
وقد اختلف (١) القراء في ﴿لا يهدى﴾ فقرأ أهل المدينة إلا ورشًا، أم لا يهدي، بفتح الياء، وسكون الهاء وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين. قال النحاس: لا يقدر أحد أن ينطق به. وقال المبرد: من رام هذا لا بد أن يحرك حركة خفيفة. وسيبويه: يسميه اختلاس الحركة. وقرأ أبو عمرو وقالون: في رواية كذلك، إلا أنه اختلس الحركة؛ أي: بين الفتح والإسكان. وقرأ ابن عامر وابن كثير وورش وابن محيصن: كذلك إلا أنهم فتحوا الهاء؛ أي: قرءوا بفتح الياء والهاء وتشديد الدال. قال النحاس: هذه القراءة بينة في العربية، والأصل فيها يهتدي فنقلت حركة التاء إلى الهاء، وأدغمت التاء في الدال. وقرأ حفص ويعقوب والأعمش عن أبي بكر مثل قراءة ابن كثير، إلا أنهم كسروا الهاء، قالوا؛ لأن الكسر هو الأصل عند التقاء الساكنين. قال أبو حاتم: هي لغة سفلى مضر. وقرأ أبو بكر عن عاصم في رواية يحيى بن آدم ﴿يهدى﴾ بكسر الياء والهاء وتشديد الدال للاتباع، ونقل عن سيبويه أنه لا يجيز ﴿يهدى﴾ ويجيز تِهدى ونِهدى وإِهدى قال: لأن الكسرة في الياء تثقل. وقرأ حمزة والكسائي وخلف ويحيى بن وثاب: ﴿يهدى﴾ بفتح الياء وإسكان الهاء وتخفيف الدال، من هدى يهدي. قال النحاس، وهذه القراءة لها وجهان في العربية، وإن كانت بعيدة:
الأول: أن الكسائي والفراء، قالا: إن يهدي بمعنى يهتدي.
الثاني: أن أبا العباس قال: إن التقدير: أم لا يهدي غيره ثم تم الكلام.
وقال بعد ذلك: ﴿إلا أن يهدى﴾؛ أي: لكنه يحتاج أن يهدي فهو استثناء منقطع، كما تقول: فلان لا يسمع غيره إلا أن يسمع، أي: لكنه يحتاج أن يسمع.
والمعنى على القراءات المتقدمة (٢): أفمن يهدي الناس إلى الحق، وهو الله سبحانه، أحق أن يتبع ويقتدى به، أم الأحق بأن يتبع ويقتدى به من لا يهتدي بنفسه إلا أن يهديه غيره، فضلًا عن أن يهدي غيره، والاستثناء على هذا استثناء
(٢) الشوكاني.
٣٦ - وبعد أن أقام الحجج على توحيد الربوبية والألوهية، بين حال المشركين الاعتقادية، فقال: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا﴾؛ أي: وما يتبع أكثر المشركين في معتقداتهم إلا ظنًّا واهيًا، أما بعضهم فقد يتبعون العلم، فيقفون على بطلان الشرك، لكن لا يقبلون العلم عنادًا، وفي ذلك دليل على أن تحصيل العلم في الأصول واجب، والاكتفاء بالتقليد والظن غير جائز.
والمعنى (١): أي إن أكثرهم لا يتبعون في شركهم وعبادتهم لغير الله، ولا في إنكارهم للبعث وتكذيبهم للرسول، - ﷺ -، إلا ضربًا من ضروب الظن، قد يكون ضعيفًا، كأن يقيسوا غائبًا على شاهد، ومجهولًا على معروف، ويقلدون الآباء، اعتقادًا منهم أنهم لا يكونون على باطل في اعتقادهم ولا ضلال في أعمالهم، وقليل منهم كان يعلم أن ما جاء به الرسول - ﷺ - هو الحق والهدى، وأن أصنامهم وسائر معبوداتهم لا تضر ولا تنفع، ولكنهم يجحدون بآيات الله تعالى، ويكذبون رسوله، - ﷺ -، عنادًا واستكبارًا، وخوفًا على زعامتهم أن تضيع سدى فيصبحون تابعين بعد أن كانوا متبوعين.
ثم بين حكم الله في الظن، فقال: ﴿إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ﴾؛ أي: عن العلم ﴿شَيْئًا﴾ من الإغناء في العقائد، والحق هو الثابت الذي لا ريب في ثبوته وتحققه؛ أي: إن الشك لا يقوم مقام اليقين في شيء، ولا ينتفع به حيث يحتاج إلى اليقين.
وخلاصة ذلك: أن الظن لا يجعل صاحبه غنيًّا بعلم اليقين فيما يطلب فيه ذلك، كالعقائد الدينية، وبهذ تعلم أن إيمان المقلد غير صحيح، أي: إن مجرد الظن لا يغني في معرفة الحق شيئًا؛ لأن أمر الدين، إنما يبنى على العلم، وبه يتضح الحق من الباطل، والظن لا يقوم مقام العلم، ولا يدرك به الحق، ولا يغني من العلم والاعتقاد الحق شيئًا.
وفي الآية إيماءٌ، إلى أن أصول الإيمان تبنى على اليقين دون الظن، فالعلم المفيد للحق ما كان قطعيًّا من كتاب أو سنة، وهو الدين الذي لا يجوز للمسلمين التفرق، والاختلاف فيه، وما دونه مما لا يفيد إلا الظن، فلا يؤخذ به في الاعتقاد، وهو متروك للاجتهاد في الأعمال، اجتهاد الأفراد في الأعمال الشخصية، واجتهاد أولي الأمر في القضاء، مع سلوك طريق الشورى، حتى يتحقق العدل والمساواة في المصالح العامة. وفي هذه الجملة تهديد لهم، على ما وقع منهم، من الأفعال الشنيعة والأحوال القبيحة. وقرأ عبد الله ﴿تفعلون﴾ بالتاء على الخطاب التفاتًا.
الإعراب
﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ﴾.
﴿إِنَّمَا﴾: أداة حصر، ولكنها مجردة هنا عن معنى الحصر؛ لأنه تعالى ضرب للحياة الدنيا أمثالًا غير هذا، كما مر في مبحث التفسير ﴿مَثَلُ الْحَيَاةِ﴾: مبتدأ، ومضاف إليه ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة للحياة ﴿كَمَاءٍ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة مستأنفة ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾: فعل وفاعل ومفعول ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الجر، صفة لـ ﴿أمَاءٍ﴾ ﴿فَاخْتَلَطَ﴾: الفاء: عاطفة ﴿اختلط﴾ فعل ماض. ﴿بِهِ﴾ متعلق به ﴿نَبَاتُ الْأَرْضِ﴾: فاعل، ومضاف إليه، والجملة في محل الجر معطوفة على جملة ﴿أَنْزَلْنَاهُ﴾ ولكنها صفة سببية هِنَا: جار ومجرور حال من نبات الأرض ﴿يَأْكُلُ النَّاسُ﴾: فعل وفاعل ﴿وَالْأَنْعَامُ﴾: معطوف على ﴿النَّاسُ﴾ والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا﴾.
﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إِذَا﴾، على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿وَازَّيَّنَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿الْأَرْضُ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿أَخَذَتِ﴾. ﴿وَظَنَّ أَهْلُهَا﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿أَخَذَتِ﴾. ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه ﴿قَادِرُونَ﴾: خبره. ﴿عَلَيْهَا﴾ متعلق بـ ﴿قَادِرُونَ﴾ وجملة ﴿أن﴾ في تأويل مصدر ساد مسد مفعولي ظنّ، تقديره: وظن أهلها قدرتهم عليها ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾: فعل ومفعول وفاعل. ﴿لَيْلًا أَوْ نَهَارًا﴾: منصوبان على الظرفية الزمانية، متعلقان بـ ﴿أَتَاهَا﴾ وجملة ﴿أتى﴾ جواب ﴿إذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذَا﴾ من فعل شرطها وجوابها مجرور بحتى، بمعنى إلى و ﴿حَتَّى﴾ متعلقة بـ ﴿اختلط﴾ تقديره: فاختلط به نبات الأرض، إلى إتيان أمرنا إياها، وقت أخذها زخرفها، وتزينها به.
﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
﴿فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا﴾ فعل وفاعل ومفعولان، معطوف على جملة ﴿أَتَاهَا أَمْرُنَا﴾ ﴿كَأَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن، تقديره: كأنها؛ أي: كأن ثمار تلك الأرض وزروعها ﴿لَمْ﴾: حرف نفي وجزم ﴿تَغْنَ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ وعلامة جزمه حذف حرف العلة، وهي الألف؛ لأنه من غني يغنى، كرضي يرضى، وفاعله ضمير يعود على الأرض، أي: على ثمارها وزروعها. ﴿بِالْأَمْسِ﴾: متعلق به والجملة الفعلية في محل الرفع خبر كأن، تقديره: كأنها عادمة الغنى والوجود بالأمس، وجملة ﴿كَأَنْ﴾ في محل النصب، حال من هاء ﴿جعلناها﴾ تقديره فجعلناها حصيدًا، حالة كونها مشبهة بعدم الغناء بالأمس؛ أي: مشبهًا حالها بحال الشيء الذي لم يوجد بالأمس.
﴿وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
﴿وَاللَّهُ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿يَدْعُو﴾: خبره والجملة الاسمية مستأنفة ﴿إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ جار ومجرور ومضاف متعلق بـ ﴿يَدْعُو﴾ ﴿وَيَهْدِي مَنْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿يَدْعُو﴾ ﴿يَشَاءُ﴾: فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾: جار ومجرور، وصفة متعلق بـ ﴿أيَهْدِي﴾ وجملة ﴿يَشَاءُ﴾: صلة من الموصولة، والعائد محذوف، تقديره: من يشاءه.
﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
﴿لِلَّذِينَ﴾: جار ومجرور، خبر مقدم ﴿أَحْسَنُوا﴾ فعل وفاعل، صلة الموصول ﴿الْحُسْنَى﴾: مبتدأ مؤخر ﴿وَزِيَادَةٌ﴾: معطوف عليه والجملة مستأنفة ﴿وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿وَلَا ذِلَّةٌ﴾؛ معطوف على ﴿قَتَرٌ﴾ ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾ خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾. ﴿خَالِدُونَ﴾ خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من ﴿أَصْحَابُ الْجَنَّةِ﴾.
﴿وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ﴾.
﴿وَالَّذِينَ﴾: مبتدأ أول. ﴿كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، صلة الموصول ﴿جَزَاءُ سَيِّئَةٍ﴾ مبتدأ ثانٍ، ومضاف إليه ﴿بِمِثْلِهَا﴾ خبر للمبتدأ الثاني، والجملة من المبتدأ الثاني وخبره خبر للأول، والرابط محذوف تقديره؛ جزاء سيئة منهم بمثلها، والجملة من الأول وخبره معطوفة على جملة قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا﴾ وفي المقام أوجه كثيرة من الإعراب، أعرضنا عنها صفحًا خوف الإطالة
﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
﴿كَأَنَّمَا﴾: ﴿كَأَنّ﴾: حرف تشبيه ونصب، ما: كافة لكفها ما قبلها عن العمل فيما بعدها ﴿أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة مستأنفة ﴿قِطَعًا﴾: مفعول ثان لـ ﴿أُغْشِيَتْ﴾ ﴿مِنَ اللَّيْلِ﴾ صفة لـ ﴿قِطَعًا﴾ ﴿مُظْلِمًا﴾: حال من الليل ﴿أُولَئِكَ﴾: مبتدأ. ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾: خبر ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿هُمْ﴾: مبتدأ ﴿فِيهَا﴾: متعلق بـ ﴿خَالِدُونَ﴾ ﴿خَالِدُونَ﴾: خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب حال من ﴿أَصْحَابُ النَّارِ﴾.
﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿يوم﴾ منصوب على الظرفية الزمانية، والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: واذكر يوم نحشرهم، والجملة مستأنفة ﴿نَحْشُرُهُمْ﴾: فعل ومفعول ﴿جَمِيعًا﴾: حال من ضمير المفعول، وفاعله ضمير، يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾ ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿نَقُولُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير، يعود على الله، والجملة في محل الجر، معطوفة على جملة ﴿نَحْشُرُهُمْ﴾ ﴿لِلَّذِينَ﴾: متعلق بـ ﴿نَقُولُ﴾ ﴿أَشْرَكُوا﴾: فعل وفاعل، صلة الموصول ﴿مكانكم أنتم وشركاؤكم﴾: مقول محكي لـ ﴿نَقُولُ﴾ وإن شئت قلت: ﴿مَكَانَكُمْ﴾: مفعول لفعل محذوف، تقديره: الزموا مكانكم ﴿أَنْتُمْ﴾ تأكيد لضمير الفاعل، في الفعل المحذوف ﴿شُرَكَاؤُهُمْ﴾ بالرفع، معطوف على ضمير الفاعل، في الفعل المحذوف، وبالنصب، منصوب على كونه مفعولًا معه، والجملة الفعلية المحذوفة في محل النصب، مقول لـ ﴿نَقُولُ﴾ ﴿فَزَيَّلْنَا﴾ الفاء عاطفة ﴿زيلنا﴾ فعل وفاعل ﴿بَيْنَهُمْ﴾: متعلق به،
﴿فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ﴾.
﴿فَكَفَى﴾: الفاء: عاطفة، ﴿كفى باللهِ﴾: فعل وفاعل. ﴿شَهِيدَا﴾: تمييز لفاعل ﴿كفى﴾ والجملة في محل النصب، معطوف على جملة قوله: ﴿مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ﴾ ﴿بَيْنَنَا﴾ ظرف ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿شَهِيدًا﴾ ﴿وَبَيْنَكُمْ﴾: معطوف على ﴿بَيْنَنَا﴾ ﴿إن﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن. ﴿كُنَّا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿عَنْ عِبَادَتِكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿غافلين﴾ ﴿لَغَافِلِينَ﴾ خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنْ﴾ المخففة وجملة ﴿إنْ﴾ المخففة في محل النصب مقول على كونها معللة لما قبلها.
﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾.
﴿هُنَالِكَ﴾: هنا: اسم إشارة للمكان البعيد، في محل النصب على الظرفية المكانية، أو هو مستعار للزمان، اللام: لبعد المشار إليه. والكاف: حرف دال على الخطاب، والظرف متعلق بـ ﴿تَبْلُو﴾ ﴿تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة، في محل النصب على المفعولية ﴿أَسْلَفَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿كُلُّ نَفْسٍ﴾ والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما أسلفته. ﴿وَرُدُّوا﴾: فعل ونائب فاعل، معطوف على ﴿زيلنا﴾، كما في "الشوكاني" ﴿إِلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿ردوا﴾ ﴿مَوْلَاهُمُ﴾: بدل أول من الجلالة ﴿الْحَقِّ﴾ صفة لـ ﴿مَوْلَاهُمُ﴾، أو بدل ثان من الجلالة ﴿وَضَلَّ﴾ فعل ماض ﴿عَنْهُمْ﴾: متعلق به
﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ﴾ إلى قوله: ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ مقول محكي، وإن شئت، قلت ﴿مَنْ﴾: اسم استفهام، في محل الرفع ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة في محل الرفع، خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مقول القول ﴿مِنَ السَّمَاءِ﴾: متعلق بـ ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السَّمَاءِ﴾. ﴿أَمَّنْ يَمْلِكُ﴾ أم: عاطفة منقطعة؛ لأنها لم يتقدمها همزة استفهام ولا تسوية، ولكن إنما تقدر هنا، ببل وحدها، دون الهمزة؛ لأنها وقع بعدها اسم استفهام صريح ﴿من﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿يَمْلِكُ السَّمْعَ﴾ فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿وَالْأَبْصَار﴾: معطوف على السمع، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿مَن﴾ الأولى. ﴿وَمَن﴾ الواو عاطفة من: اسم استفهام مبتدأ. ﴿يُخْرِجُ الْحَيَّ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ والجملة الفعلية في محل الرفع خبر ﴿مَن﴾ الاستفهامية، والجملة معطوفة على جملة ﴿مَن﴾ الأولى ﴿مِنَ الْمَيِّتِ﴾: متعلق بـ ﴿يُخْرِجُ﴾ ﴿يُخْرِجُ الْمَيِّتَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾. ﴿مِنَ الْحَيِّ﴾: متعلق بـ ﴿يُخْرِجُ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿يُخْرِجُ﴾ الأول ﴿وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾: الواو: عاطفة ﴿مَن﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾ والجملة في محل الرفع خبر ﴿مَنْ﴾ الاستفهامية، والجملة معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى ﴿فَسَيَقُولُونَ﴾: الفاء: حرف عطف
﴿فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾.
﴿فَذَلِكُمُ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلت لكم، وأردتم بيان ما هو الحق الواجب فأقول لكم ذلكم الله ﴿ذَلِكُمُ﴾: مبتدأ ﴿اللَّهُ﴾ خبر أول ﴿رَبُّكُمُ﴾ خبر ثان. ﴿الْحَقُّ﴾: صفة للرب، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة. ﴿فَمَاذَا﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم، فذلكم الله ربكم، وأردتم بيان حقيقة الأمر، فأقول لكم: ماذا بعد الحق ﴿ماذا﴾: اسم استفهام، مركب في محل الرفع مبتدأ ﴿بَعْدَ الْحَقِّ﴾: ظرف ومضاف إليه خبر المبتدأ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿الضَّلَالُ﴾: بدل من الضمير المستكن في الخبر، والجملة الاسمية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وإن شئت قلت: ﴿ما﴾: اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿ذا﴾: اسم موصول، بمعنى: الذي، في محل الرفع خبر ﴿بَعْدَ الْحَقِّ﴾: ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول، تقديره: فما الذي استقر بعد الحق ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿الضَّلَالُ﴾: بدل من الضمير المستكن في الصلة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة ﴿فَأَنَّى﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم أنه ليس بعد الحق إلا الضلال، وأردتم بيان ما يقال: لكم في التعجب من حالكم.. فأقول لكم: ﴿أنى تصرفون﴾. ﴿أنى﴾: اسم استفهام.
﴿كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (٣٣)﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف، تقديره: حقًّا مثل حق صرفهم عن الحق ﴿حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾: إلخ؛ أي: ثبوتًا مثل ثبوت صرفهم عن الحق، ثبتت كلمة ربك على الذين فسقوا، والإشارة راجعة إلى قوله: ﴿فَأَنَّى تُصْرَفُونَ﴾ كما ذكره الزمخشري ﴿حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿حَقَّتْ﴾ ﴿فَسَقُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿أَنَّهُمْ﴾ ناصب واسمه. وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾: خبره وجملة ﴿أَنّ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على كونه بدلًا من ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾ بدل كل من كل، تقديره: حقت عليهم كلمة ربك، عدم إيمانهم، أو مجرور بلام التعليل المقدرة، أي: حقّت عليهم كلمة ربك، لأملأن جهنم لعدم إيمانهم.
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾، إلى قوله: ﴿قُلْ﴾ مقول محكي، وإن شئت، قلت: ﴿هَل﴾: حرف استفهام ﴿مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير في عود على ﴿مَنْ﴾ والجملة صلة الموصول ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾: فعل ومفعول معطوف على ﴿يَبْدَأُ﴾ وفاعله ضمير يعود على ﴿مَنْ﴾. ﴿قُلِ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿اللَّهُ يَبْدَأُ﴾: إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿اللَّهُ﴾ مبتدأ ﴿يَبْدَأُ الْخَلْقَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ والجملة خبر عن الجلالة، والجملة الاسمية في محل النصب، مقول لـ ﴿قُلِ﴾ وجملة ﴿ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ معطوفة على ﴿يَبْدَؤُا﴾ ﴿فَأَنَّى﴾ الفاء: عاطفة ﴿أنى﴾: اسم استفهام، بمعنى: كيف في محل
﴿قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (٣٥)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾ إلى قوله ﴿قُلْ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿هَلْ﴾ حرف استفهام ﴿مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿يَهْدِي﴾: فعل مضارع ﴿إِلَى الْحَقِّ﴾: متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿مِنْ﴾ والجملة صلة الموصول ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾؛ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿اللَّهُ﴾: مبتدأ. وجملة ﴿يَهْدِي﴾ خبره، والجملة في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿لِلْحَقِّ﴾: متعلق بـ ﴿يَهْدِي﴾. ﴿أَفَمَنْ﴾ الهمزة: للاستفهام، التقريري، مقدمة على الفاء العاطفة، لعراقتها في التصدير. ﴿الفاء﴾: حرف عطف وترتيب ﴿من﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ. وجملة ﴿يَهْدِي﴾ صلته ﴿إلَى الْحَقِّ﴾: متعلق به ﴿أَحَقُّ﴾: خبر لـ ﴿مِنْ﴾ الموصولة والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿اللَّهُ يَهْدِي﴾ على كونها مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿أَنْ﴾: مصدرية ﴿يُتَّبَعَ﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، منصوب بـ ﴿أَنْ﴾، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ وجملة ﴿أَن﴾ المصدرية في تأويل مصدر مجرور بالباء المحذوفة، تقديره: أحق بالاتباع ﴿أَمَّنْ﴾ ﴿أَمْ﴾: متصلة لسبقها بهمزة، يطلب بها وبأم التعيين ﴿مَن﴾ اسم موصول مبتدأ. وجملة ﴿لَا يَهِدِّي﴾؛ صلته والخبر محذوف، تقديره: أمن لا يهدي أحق بالاتباع، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿أَفَمَنْ﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من أعم الأحوال ﴿أنْ﴾: حرف نصب ومصدر. ﴿يُهْدَى﴾ فعل مضارع منصوب بأن، ونائب فاعله ضمير، يعود على ﴿مَن﴾ الموصولة، والجملة الفعلية
﴿وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ﴾.
﴿وَمَا﴾: الواو: استئنافية. ﴿ما﴾: نافية ﴿يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ﴾؛ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿ظَنًّا﴾: مفعول به ﴿إنَّ الظَّنَّ﴾: ناصب واسمه ﴿لَا يُغْنِي﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿الظَّنَّ﴾ ﴿مِنَ الْحَقِّ﴾: متعلق به ﴿شَيْئًا﴾: مفعول ﴿يغني﴾ وجملة ﴿لا يغني﴾ في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿عَلِيمٌ﴾: خبره وجملة إن مستأنفة ﴿بِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿عَلِيمٌ﴾ ﴿يَفْعَلُونَ﴾: فعل وفاعل، صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: بما يفعلونه.
التصريف ومفردات اللغة
﴿حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا﴾ قال في "الصحاح" الزخرف: الذهب، ثم يشبه به كل مموه مزور، انتهى. والمعنى: أن الأرض أخذت لونها الحسن، المشابه بعضه للون الذهب، وبعضه للون الفضة، وبعضه للون الياقوت، وبعضه للون الزمرد.
﴿يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ﴾ دار السلام: هي الجنة. والسلام: السلامة من جميع الشوائب والنقائص والأكدار. وقال الزجاج: والمعنى: والله يدعو إلى دار السلامة. ومعنى السلام والسلامة واحد، كالرضاع والرضاعة، ومنه قول الشاعر:
تُحَيَّى بِالسَّلاَمَةِ أُمُّ بَكْرٍ | وَهَلْ لَكَ بَعْدَ قَوْمِكَ مِنْ سَلاَمِ |
﴿الْحُسْنَى﴾ الحسنى: مؤنث الأحسن. قال ابن الأنباري: العرب توقع هذه اللفظة على الخصلة المحبوبة المرغوب فيها، ولذلك ترك موصوفها. والمراد بها هنا، الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله الكريم كما مر ﴿وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ﴾؛ معنى يرهق، يلحق، ومنه قيل: غلام مراهق إذا لحق بالرجال. والرهق: الغشيان، يقال: رهقه يرهقه رهقًا، من باب طرب إذا غشيه بسرعة ومنه ﴿وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا﴾؛ أي: لا تكلفني ما يشق عليّ ويعسر. ﴿فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا﴾ يقال: رهقته وأرهقته، مثل ردفته وأردفته، ففعل وأفعل بمعنى. ومنه أرهقت الصلاة إذا أخرتها حتى غشي وقت الأخرى؛ أي: دخل. وقال بعضهم: أصل الرهق: المقاربة، ومنه غلام مراهق، أي: قارب الحلم. ﴿والقتر﴾ والقترة؛ الغبار معه سواد، يقال: قتر، كفرح ونصر وضرب. وقيل: القتر: الدخان الساطع من الشواء والحطب، ومنه غبار القدر. وقيل: القتر: التقليل، ومنه ﴿لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا﴾ ويقال: قترت الشيء وأقترته وقترته؛ أي: قللته: ومنه ﴿وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ﴾ اهـ "سمين". والذلة: ما يظهر على الوجه من الخضوع والانكسار والهوان، والعاصم: المانع.
﴿هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ﴾ وفي "المختار" البلية والبلاء والبلوى واحد، والجمع البلايا، اهـ. ومعنى الكل: الاختبار وفي "السمين": وفي هنالك وجهان: الظاهر منهما بقاؤه على أصله، من دلالته على ظرف المكان، أي: في ذلك الموقف الدحض والمكان الدهش. وقيل: هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثله ﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾؛ أي: في ذلك الوقت.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: التشبيه (١) المركب في قوله: ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ حيث شبهت حال الدنيا في سرعة زوالها، وانقراض نعيمها بعد الإقبال، بحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطامًا، بعد ما التف وتكاثف وزين الأرض بخضرته ورفيفه، قاله الزمخشري.
ومنها: التشبيه البليغ في قوله: ﴿حَصِيدًا﴾؛ أي: كالمحصود وهو ما حذف فيه الأداة، ووجه الشبه.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿أتَاهَا أَمْرُنَا﴾؛ لأن الأمر هنا كناية عن العذاب والدمار.
ومنها: إطلاق الخاص بمعنى العام في قوله: ﴿كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ﴾؛ لأن المراد بالأمس الزمن الماضي، لا خصوص اليوم الذي قبل يومك.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى﴾، وفي قوله: ﴿لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ﴾.
ومنها: التشبيه المرسل المجمل في قوله: ﴿كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ﴾.
ومنها: الطباق بين كلمتي الحي والميت في قوله: ﴿وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ﴾، وبين كلمتي يبدأ ويعيد في قوله: ﴿مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾، وبين كلمتي الحق والضلال في قوله: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ﴾.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ﴾، وفي قوله: ﴿مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾، وفي قوله: ﴿مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ﴾.
ومنها: الإضافة للتشريف في قوله: ﴿دَارِ السَّلَامِ﴾ إن قلنا: إن السلام من أسماء الله تعالى.
ومنها: الوعيد والتهديد في قوله: ﴿مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ﴾؛ لأن المراد من هذا الأمر وعيدهم وتهديدهم وإهانتهم، وإلا فالمؤمنون يلزمون بالوقوف أيضًا حتى يسألوا ويحاسبوا.
ومنها: الإضافة لأدنى ملابسة في قوله: ﴿وقال شركاؤهم﴾؛ لأنه جعل الأصنام شركاءهم، من حيث إنهم اتخذوها شركاء لله في استحقاق العبادة.
ومنها: التفنن في قوله: ﴿مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ﴾ حيث عدى أولًا بإلى وثانيًا باللام.
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٣٩) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٤١) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (٤٣) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٤) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (٤٥) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (٤٦) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٤٧) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٤٨) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (٤٩) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (٥١) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٥٢) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٥٣) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٥٤) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (٥٥) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٥٦)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) قدم قولهم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ
وعبارة "المراغي": مناسبتها لما قبلها: أنه لما ذكر الله سبحانه وتعالى الأدلة على أن القرآن من عنده، وأن محمدًا - ﷺ -، عاجز كغيره عن الإتيان بمثله، ثم أتى بالحجج على بطلان شركهم، واتباع أكثرهم لأدنى الظن، وأضعفه في عقائدهم.. عاد إلى الكلام في تفنيد رأيهم في الطعن علي القرآن، بمقتضى هذا الظن الضعيف، لدى الأكثرين منهم، والجحود والعناد من الأقلين كالزعماء والمستكبرين.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) بيّن في الآية السالفة، أنهم كذبوا بالقرآن قبل أن يأتيهم تأويله، وقبل أن يحيطوا بعلمه.. أردف ذلك بذكر حالهم بعد أن يأتيهم التأويل المتوقع، وبين أنهم حينئذٍ يكونون فريقين، فريق يؤمن به، وفريق يستمر على كفره وعناده.
قوله تعالى: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أنبأ رسوله - ﷺ -، بأن من قومه من لا يؤمن به لا حالًا ولا استقبالًا، بل يصرون على التكذيب بعد ما جاءتهم البينات، وكان من شأنه - ﷺ - أن يطيل الحزن والأسف إن لم يؤمنوا بهذا الحديث.. ذكر سبب هذا، وهو أنهم قوم طبع الله على قلوبهم، وفقدوا الاستعداد للإيمان، فلا وسيلة له - ﷺ - في إصلاح حالهم، ولا قدرة له على هدايتهم.
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما وصف هؤلاء المشركين بترك التدبر والإصغاء، وتكذيبهم للرسول، - ﷺ -، والقرآن، قبل أن يأتيهم تأويله.. قفّى على ذلك بالوعيد، بما سيكون لهم من الجزاء على هذا يوم القيامة.
قوله تعالى: ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ...﴾ الآية،
قوله تعالى: ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما بين (٢) الله سبحانه وتعالى حال الرسول - ﷺ - في قومه.. بين حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم، تسليةً له، وتطمينًا لقلبه، ودلت الآية على أنه تعالى ما أهمل أمة، بل بعث إليها رسولًا، كما قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ...﴾ الآية، مناسبة (٣) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر العذاب، وأقسم على حقيقته، وأنهم لا يفلتون منه.. ذكر بعض أحوال الظالمين في الآخرة.
قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما سألوا عما وعدوا به من العذاب، أحق هو، وأجيبوا بأنه، حق لا محالة، وكان ذلك جوابًا كافيًا لمن وفقه الله تعالى للإيمان كما كان جوابًا للأعرابي، حين سأل الرسول - ﷺ -: الله أرسلك؟ وقوله عليه السلام له: "اللهم نعم" فقنع بإخباره - ﷺ -، إذ علم أنه لا يقول إلا الحق والصدق، كما قال هرقل: لم يكن ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله.. انتقل من هذا الجواب إلى ذكر البرهان القاطع على حجته، وتقريره بأن القول بالنبوة والمعاد، يتفرعان على إثبات الإله القادر الحكيم، وأن ما سواه فهو مِلْكُهُ ومُلْكُهُ، فعبر عن هذا بهذه الآية، وكان قد استقصى الدلائل على ذلك في هذه
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
أسباب النزول
وأما أسباب النزول فليست في هذه الآيات ولم نر من ذكر شيئًا منها في هذه الآيات المذكورة.
التفسير وأوجه القراءة
٣٧ - ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ﴾؛ أي: وما صح أن يكون هذا القرآن المشحون بفنون الحجج الناطقة، ببطلان الشرك وحقية التوحيد ﴿أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾؛ أي: مفترى من الخلق ﴿وَلَكِنْ﴾ كان القرآن ﴿تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾، أي: مصدق الذي قبله وأمامه، من الكتب الإلهية المنزلة على الأنبياء قبله، كالتوراة والإنجيل؛ أي: مصدقًا لها وموافقًا لها، في العقائد وبعض الفروع.
ووقعت (١) لكن هنا، أحسن موقع إذ هي بين نقيضين، وهما الكذب، والصدق المضمن للتصديق ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: وتبيين ما كتب وفرض من الأحكام والشرائع، في اللوح المحفوظ من قوله: ﴿كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: ومبينًا لما كتبه الله تعالى على عباده حالة كونه ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾ أي لا شك في كونه ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: منزلًا من مالك العالمين، جل جلاله.
والخلاصة (٢): أي لا يصح ولا يعقل أن يفتريه أحد على الله من دونه، وينسبه إليه، إذ لا يقدر على ذلك غيره عَزَّ وَجَلَّ؛ فإن ما فيه من علوم عالية، وحكم سامية، وتشريع عادل، وآداب اجتماعية، وإنباء بالغيوب الماضية، والمستقبلة، ليس في طوق البشر، ولا هو داخل تحت قدرته، وفي حيّز مكنته، ولئن سلم أن بشرًا في مكنته ذلك، فلن يكون إلا أرقى الحكماء والأنبياء والملائكة، ومثل هذا لن يفترى على الله شيئًا.
ولقد ثبت أن أشد أعداء النبي - ﷺ -، وهو أبو جهل، قال: إن محمدًا لم يكذب على بشر قط، أفيكذب على الله؟! ﴿وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ﴾ أي: ولكن كان تصديق الذي تقدمه من الوحي، لرسل الله تعالى بالإجمال، كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى صلوات الله عليهم وسلامه، بدعوته إلى أصول الدين الحق، من الإيمان بالله واليوم الآخر، وصالح الأعمال، بعد أن نسي بعض بقية
(٢) المراغي.
﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾؛ أي: وتفصيل ما كتب وأثبت من الشرائع والأحكام والعبر والمواعظ وشؤون الاجتماع ﴿لَا رَيْبَ فِيهِ﴾؛ أي: لا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه، لوضوح برهانه؛ لأنه الحق والهدى ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾؛ أي: من وحيه، لا افتراء من عند غيره، ولا اختلاقًا كما قال: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا﴾.
٣٨ - وبعد أن أبان سبحانه وتعالى، أنه أجل وأعظم من أن يفترى، لعجز الخلق عن الإتيان بمثله.. انتقل إلى حكاية زعم هؤلاء الجاهلين والمعاندين، الذين قالوا: إن محمدًا، - ﷺ -، قد افتراه، وفنّد مزاعمهم، وتعجب من حالهم، وشنيع مقالهم، وتحداهم أن يأتوا بمثله، فقال: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ﴾ (١) وأم فيه إما منقطعة، تقدر، ببل، والهمزة التي للإنكار عند سيبويه وأتباعه، وعليه فهو انتقال عن الكلام الأول، وأخذ في إنكار قول آخر، والمعنى عليه: بل أيقولون افترى هذا القرآن واختلقه محمَّد، - ﷺ -، من عند نفسه، وإما متصلة، ولا بد حينئذٍ من حذف جملة، ليصح التعادل، والتقدير: أيقرون بحقية القرآن، أم يقولون: افتراه؛ أي: بل يقول كفار مكة: اختلق محمَّد، - ﷺ -، القرآن من تلقاء نفسه؛ أي: ما كان ينبغي أن تقولوا: إن محمدًا، - ﷺ -، افتراه من عند نفسه، واختلقه. ﴿قُلْ﴾: لهم، يا محمَّد، إظهارًا لبطلان مقالتهم الفاسدة: إن كان الأمر كما تقولون من أني اختلقته وافتريته.. ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ﴾؛ أي: بسورة واحدة مماثلة لهذا القرآن، في الفصاحة والبلاغة، وحسن تركيبه وأسلوبه، ورزانة معانيه وعلمه، مفتراة من عند أنفسكم، فإن لساني لسانكم، وكلامي كلامكم، وأنتم أشد مني تمرنًا وتمرسًا للنثر والنظم منه ﴿وَادْعُوا﴾ للمعاونة والمساعدة ﴿مَنِ اسْتَطَعْتُمْ﴾ وقدرتم دعاءه وطلبه ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: من أصنامكم وآلهتكم
ومن البيّن أنه ما كان لعاقل مثله، - ﷺ -، أن يتحداهم هذا التحدي، لو لم يكن موقنًا، أن الإنس والجن لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن في جملته، ولا بسورة مثله، إذ لو كان هو الذي أنشأه وألفه لمصلحة الناس برأيه لكان عقله وذكاؤه، يمنعانه من الجزم بعجز عقلاء الخلق، من العوالم الظاهرة والباطنة عن الإتيان بسورة مثل ما أتى هو به. إذ العاقل الفطن يعلم أن ما يمكنه من الأمر، قد يمكن غيره، بل ربما وجد من هو أقدر منه عليه.
والخلاصة: أن محمدًا - ﷺ - كان على يقين بأنه من عند ربه، وأنه - ﷺ - كغيره لا يقدر على الإتيان بمثله.
وقرأ (٢) الجمهور ﴿تصديق﴾ ﴿وتفصيل﴾ بالنصب على أنه خبر لكان المحذوفة كما قدرناه في الحل. وقيل: انتصب على أنه مفعول لأجله، والعامل محذوف تقديره: ولكن أنزل للتصديق. وقرأ عيسى بن عمر ﴿تفصيل﴾ و ﴿تصديق﴾ بالرفع هنا، وفي يوسف على أنه خبر لمبتدأ محذوف؛ أي: ولكن هو تصديق. وزعم الفراء ومن تابعه: أن العرب إذا قالت: ولكن بالواو، آثرت
(٢) البحر المحيط.
٣٩ - ثم انتقل من إظهار بطلان ما قالوه في القرآن، بتحديه لهم، إلى إظهار بطلانه ببيان أن كلامهم ناشيء من عدم علمهم بحقيقة أمره، واختبار حاله، فقال: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾ وبل، فيه للإضراب الانتقالي أضرب بها عن الكلام الأول، وانتقل إلى بيان أنهم، سارعوا إلى تكذيب القرآن؛ أي: بل هم سارعوا إلى تكذيب القرآن، من غير أن يتدبروا ما فيه، ويقفوا على ما احتوى عليه من الأدلة والبراهين الدالة على حقيقته.
وقيل (١) معناه: بل كذبوا بما في القرآن من ذكر الجنة والنار والحشر والقيامة والثواب والعقاب وغيرها، مما لم يحيطوا بعلمه؛ لأنهم كانوا ينكرون ذلك له. وقيل: إنهم لما سمعوا ما في القرآن من القصص، وأخبار الأمم الحالية، ولم يكونوا سمعوها قبل ذلك.. أنكروها لجهلهم، فرد الله سبحانه وتعالى عليهم بقوله: ﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾؛ لأن القرآن العظيم مشتمل على علوم كثيرة، لا يقدر على استيعابها وتحصيلها ﴿وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾ معطوف على ﴿لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ﴾؛ أي: بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه، وبما لم يأتهم تأويله، أو هذه الجملة في محل نصب على الحال؛ أي: كذبوا به، حال كونهم لم يفهموا تأويل ما كذبوا به، ولا بلغته عقولهم.
والمعنى: أن التكذيب منهم وقع قبل الإحاطة بعلمه، وقيل: أن يعرفوا ما يؤول إليه من صدق ما اشتمل عليه، من حكاية ما سلف من أخبار الرسل المتقدمين، والأمم السابقين، ومن حكايات ما سيحدث، من الأمور المستقبلة التي أخبر عنها قبل كونها، أو قبل أن يفهموه حق الفهم.
وخلاصة ذلك: أنهم على إعجاز القرآن من جهة اللفظ والمعنى والإخبار
﴿كَذَلِكَ﴾؛ أي: مثل ذلك التكذيب من غير تدبر ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ ما كذبوا من المعجزات، التي ظهرت على أيدي أنبيائهم، عندما جاءتهم رسلهم بحجج الله وبراهينه، فإنهم كذبوا به قبل أن يحيطوا بعلمه، وقبل أن يأتيهم تأويله من عذاب الله، الذي أوعدهم به.
﴿فَانْظُرْ﴾ يا محمَّد ﴿كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم بتكذيب رسلهم، من الأمم السالفة من سوء العاقبة، بالخسف والمسخ، ونحو ذلك من العقوبات، التي حلت بهم، لتعلم مصير من ظلموا أنفسهم من بعدهم، وهذه العاقبة هي التي بينها الله تعالى في قوله: ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠)﴾. وقد أنذر الله سبحانه وتعالى قوم محمَّد، - ﷺ -؛ بمثل ما نزل بالأمم قبلهم في الدنيا، بهذه الآية وغيرها، من هذه السورة، كما أنذرهم عذاب الآخرة؛ وكذبه المعاندون المقلدون في كل ذلك، ظنًّا منهم أنه لا يقع.
٤٠ - ﴿وَمِنْهُمْ﴾؛ أي: ومن هؤلاء الذين كذبوا بالقرآن ﴿مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ في نفسه، ويعلم أنه صدق وحق؛ ولكنه كذب به مكابرةً وعنادًا. وقيل المراد: ومنهم من يؤمن به في المستقبل، وإن كذب به في الحال؛ أي: ومن هؤلاء المكذبين من يؤمن به حين إتيان تأويله، وظهور حقيقته، بعد أن سعوا في معارضته، ورازوا قواهم فيها، فتضاءلت دونها ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ﴾ ولا يصدقه في نفسه، بل كذب به جهلًا، أو ومنهم من لا يؤمن به في المستقبل، بل يبقى على جحوده وإصراره على الكفر. وقيل: الضمير في الموضعين للنبي، - ﷺ -، وقد قيل: إن هذا التقسيم خاص بأهل مكة، وقيل عام في جميع الكفار ﴿وَرَبُّكَ﴾ يا محمَّد ﴿أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ﴾؛ أي: بمن يفسدون في الأرض، بالشرك والظلم والبغي،
٤١ - ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله - ﷺ - بأن يقول لهم بالبراءة بينه وبينهم إن أصروا على تكذيبه واستمروا عليه فقال: ﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ﴾؛ أي: وإن أصروا على تكذيبك يا محمَّد ﴿فَقُلْ﴾ لهم ﴿لِي عَمَلِي﴾؛ أي: جزاء عملي، وهو البلاغ والإنذار والتبشير، وما أنا بمسيطر ولا جبار ﴿وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ﴾؛ أي: جزاء عملكم من الشرك والظلم والفساد، الذي تجزون به يوم الحساب، فقد أبلغت إليكم ما أمرت بإبلاغه، وليس عليَّ غير ذلك، والمعنى: وإن تمادوا على تكذيبك، فتبرأ منهم، فقد أعذرت وبلغت. ثم أكد هذا بقوله: ﴿أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ﴾؛ أي: لا تؤاخذوا بعملي ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾؛ أي: ولا أؤاخذ بعملكم، وهذا مثل قوله: ﴿قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾. وقد قيل: إن هذا منسوخ بآية السيف، كما ذهب إليه جماعة من المفسرين. وقال المحققون منهم: ليست بمنسوخة
٤٢ - ﴿وَمِنْهُمْ﴾؛ أي: ومن هؤلاء المشركين المكذبين ﴿مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾؛ أي: ناس يصيخون إليك بأسماعهم الظاهرة إذا قرأت القرآن، أو بينت ما فيه من أصول الشرائع والأحكام، ولكنهم لا يسمعون في الحقيقة، إذ يستمعون لعدم حصول أثر السماع، وهو حصول القبول، والعمل بما يسمعونه، فهم لا يتدبرون القول، ولا يتفقهون ما يراد منه، بل جل همهم أن يتسمعوا غرابة نظمه وجرس صوته، بترتيله كمن يستمع إلى الطائر، يغرد على غصن الشجرة ليتلذذ بصوته، لا ليفهم ما يغرد به. وقد وصف الله سبحانه وتعالى حالهم في آي أخرى فقال: ﴿مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢)﴾ وقال: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾.
والآن نرى من المسلمين، من يستمع إلى قراءة القرآن، من قارئ حسن الصوت، أو من آلات اللهو العصرية، للتلذذ بترتيله، وتوقيع صوته، لا لينتفع بعظاته وعبره، ولا ليفهم عقائده وأحكامه، وجمع الضمير في ﴿يَسْتَمِعُونَ﴾ حملًا
٤٣ - ﴿وَمِنْهُمْ﴾؛ أي: ومن هؤلاء المشركين ﴿مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ﴾؛ أي: من يتجه نظره إليك، ويبصرك بعينه الظاهرة، حين تقرأ القرآن، ولكنه لا يبصر ما آتاك الله من نور الإيمان والخلق العظيم، وأمارات الهدى، والتزام الصدق، والهمزة في قوله: ﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ﴾ للاستفهام الإنكاري أيضًا، داخله على محذوف، والفاء عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أأنت تطمع أنك تقدر على إبصار العمي، فأنت تهدي العمي. وقيل: التقدير: أينظرون إليك، فأنت تهديهم، كما في "الشوكاني". ﴿وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ﴾؛ أي: أتحسب أنك تقدر على هداية العمى، ولو انضم إلى فقد البصر فقد البصيرة؛ لأن الأعمى الذي له في قلبه بصيرة، قد يحدس؛ وأما العمى مع الحمق فجهد النبلاء وقوله: ﴿وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ﴾؛ أي: لا يتأملون ولا يفكرون بقلوبهم فيما جئت به من الدلائل العظيمة والشمائل الفخيمة، معطوف على محذوف، تقديره: أأنت تهدي العمي إن أبصروا، بل ولو كانوا لا يبصرون، والمعنى: أنت لا تهدي عمي القلوب،
وخلاصة ما تقدم: أن هداية الدين كهداية الحس، لا تكون إلا للمستعد بهداية العقل، وأن هداية العقل لا تحصل إلا بتوجيه النفس وصحة القصد، وهؤلاء قد انصرفت نفوسهم عن استعمال عقولهم استعمالًا نافعًا في الدلائل البصرية والسمعية، لإدراك، أي مطلب من المطالب الشريفة التي وراء شهواتهم وتقاليدهم. والمقصود من هذا الكلام، تسلية رسول الله، - ﷺ -، فإن الطبيب إذا رأى مريضًا لا يقبل العلاج أصلًا، أعرض عنه واستراح من الاشتغال به
٤٤ - ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾ بسلب حواسهم وعقولهم ﴿وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بإفساد الحواس والعقول، وتفويت منافعها عليها، فإن الفعل منسوب إليهم، بسبب الكسب وإن كان قد سبق قضاء الله وقدره فيهم، وتقدير الشقاوة عليهم لا يكون منه تعالى ظلمًا؛ لأنه يتصرف في ملكه كيف يشاء، والخلق كلهم عبيده، وكل من تصرف في ملكه لا يكون ظالمًا.
والمعنى: أنه تعالى لم يكن في سننه في خلقه أن ينقصهم شيئًا من الأسباب، التي يهتدون باستعمالها إلى ما فيه خيرهم، من إدراكات وإرشادات إلى الحق بإرسال الرسل ونصب الأدلة التي توصلهم إلى سعادتهم في الدنيا والآخرة، ولكن الناس يظلمون أنفهسم وحدها دون غيرها؛ لأن عقاب ظلمهم واقع عليها فهم يجنون عليها بكفرهم، بما أنعم الله عليهم من هدايات المشاعر والعقل والدين بعدم استعمالها فيما خلقت لأجله، من اتباع الحق في الاعتقاد والهدى في الأعمال، وذلك هو الصراط المستقيم الموصل لسعادة الدارين.
وقال الشوكاني: ذكر هذا عقب ما تقدم من عدم الاهتداء بالأسماع والأبصار، لبيان أن ذلك لم يكن لأجل نقص فيما خلقه الله لهم، من السمع والعقل والبصر والبصيرة، بل لأجل ما صار في طبائعهم من التعصب والمكابرة للحق، والمجادلة بالباطل والإصرار على الكفر، فهم الذين ظلموا أنفسهم بذلك، ولم يظلمهم الله شيئًا من الأشياء، بل خلقهم وجعل لهم من المشاعر، ما يدركون به أكمل إدراك، وركب فيهم من الحواس ما يصلون به إلى ما يريدون، ووفر
وقرأ (١) حمزة والكسائي: ﴿وَلَكِنَّ النَّاسَ﴾ بتخفيف النون وكسرها، لالتقاء الساكنين ورفع الناس. وقرأ الباقون: بتشديدها ونصب الناس.
٤٥ - ﴿و﴾ اذكر، يا محمَّد، لهؤلاء المشركين المنكرين للبعث قصة ﴿يوم نحشرهم﴾؛ أي: يوم نحشر المشركين وسائر الخلائق، ونجمعهم لموقف الحساب. وأصل الحشر، إخراج الجماعة وإزعاجهم من مكانهم. وقرأ الأعمش وحفص: ﴿يحشرهم﴾ بالياء مسندًا إلى ضمير الغيبة العائد على الله. إذ تقدم أن الله لا يظلم الناس شيئًا حالة كونهم ﴿كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا﴾ ولم يمكثوا في الدنيا ﴿إلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ﴾؛ أي: كأنهم لم يلبثوا في الدنيا، إلا قدر ساعة من النهار، لهول ما يرون من الشدائد، حالة كونهم ﴿يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: يعرف (٢) بعضهم بعضًا إذا خرجوا من قبورهم، كما كانوا يتعارفون في الدنيا، ثم تنقطع المعرفة بينهم إذا عاينوا أهوال يوم القيامة، يعني: يعرف بعضهم بعضًا في بعض المواطن، ويوبخ بعضهم بعضًا، فيقول، كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا، وكذا، وأغويتني وزينت لي الفعل الفلاني، لا تعارف شفقة ورأفة، كما قال تعالى: ﴿وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (١٠)﴾ وقوله: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ﴾ ولا يعرف بعضهم بعضًا في بعض المواطن. ﴿قَدْ خَسِرَ﴾ وغبن ﴿الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾ تعالى بالبعث ﴿وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾ إلى طريق النجاة؛ أي: قد هلكوا بتكذيبهم بالبعث بعد الموت، وضلوا عن طريق النجاة، وما كانوا عارفين لطريقه. وهذه شهادة من الله تعالى على خسرانهم وتعجيب منه.
وخلاصة ذلك: أن هذه الدنيا التي غرتهم بمتاعها الحقير الزائل، قصيرة الأمد، ستزول بموتهم، وسيقدرون يوم القيامة قصرها بساعة من النهار، لا تسع لأكثر من التعارف. وإن هؤلاء آثروا الحياة القصيرة المُنَغَّصَة بالأقدار، السريعة الزوال على الحياة الأبدية، بما فيها من النعيم المقيم، فلم يستعدوا لها ويعملوا
(٢) الخازن.
٤٦ - ﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ﴾؛ أي: وإن أريناك، يا محمَّد ﴿بَعْضَ﴾ العذاب ﴿الذين نعدهم﴾ به في الدنيا، فذاك الذي يستحقونه، وهم له أهل، وقد أراه ما نزل بهم من القحط والمجاعة، بدعائه، - ﷺ -، ونصره عليهم نصرًا مؤزرًا، في أول معركة هاجمه بها رؤساؤهم، وصناديدهم، وهي غزوة بدر، فقتلهم وشردهم شر تقتيل وتشريد. وكذلك فعل بهم، - ﷺ -، في غيرها من الغزوات، حتى فتح عاصمتهم، أم القرى، ودخل الناس في الدين أفواجا.
﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾ قبل أن نريك ذلك فيهم ﴿فَإِلَيْنَا﴾ لا إلى غيرنا ﴿مَرْجِعُهُمْ﴾ ومصيرهم في الآخرة ﴿ثُمَّ﴾ بعد رجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى ﴿اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى ﴿شَهِيدٌ﴾؛ أي: مشهد أعضاءهم وجوارحهم ﴿عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾ في الدنيا من الشرك والمعاصي، فمجازيهم عليه، ففعيل هنا، بمعنى: مفعل، أو المعنى: ثم بعد رجوعهم إلى الله سبحانه وتعالى شهيد؛ أي معاقب لهم على ما يفعلون في الدنيا. وعبارة "الفتوحات" هنا قوله: ﴿ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾ ثم هنا (١)، ليست للترتيب الزماني، بل هي لترتيب الأخبار، لا لترتيب القصص في نفسها. قال أبو البقاء: كقولك: زيد عالم، ثم هو كريم. وقال الزمخشري (٢): فإن قلت الله شهيد على ما يفعلون في الدارين، فما معنى ثم؟
قلتُ: ذكرت الشهادة، والمراد مقتضاها، ونتيجتها وهو العقاب، كأنه قيل: ثم الله معاقب لهم على ما يفعلون، اهـ "سمين" وإلا فهو تعالى شهيد على أفعالهم في الدنيا والآخرة. وفي "البحر": ويجوز (٣) أن يكون المعنى: أن الله تعالى مؤدِّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة، حتى تنطق جلودهم وألسنتهم وأيديهم
(٢) الكشاف.
(٣) البحر المحيط.
٤٧ - ﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الأمم الماضية ﴿رَسُولٌ﴾ بعث إليهم بشريعة خاصة، مناسبة لأحوالهم، ليدعوهم إلى الحق والتوحيد ﴿فإذا جاء رسولهم﴾ فبلغهم ما أرسل به إليهم، فكذبه بعضهم وصدقه بعضهم، ﴿قُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾؛ أي: بين الرسول وأمته ﴿بِالْقِسْطِ﴾؛ أي: بالعدل؛ أي: فصل بينهم وحكم بهلاك المكذبين له، وبنجاة الرسول ومن صدقه ﴿وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾؛ أي: والحال أنهم لا يظلمون في ذلك القضاء بتعذيبهم؛ لأنه بجرمهم. وقيل (١)، معناه: لكل أمة يوم القيام رسول، تنسب إليه، فإذا جاء رسولهم الموقف، ليشهد عليهم بالكفر والإيمان، قُضي بينهم بإنجاء المؤمنين، وعقاب الكافرين لقوله: ﴿وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ﴾.
وحاصل المعنى: أنه تعالى رحمةً بعباده، وإزالةً للحجة، جعل لكل أمة من الأمم الخالية رسولًا، بعثه فيها وقت الحاجة إليه، ليبين لهم ما يجب عليهم من الإيمان به، وباليوم الآخر، وما ينجيهم من العقاب في ذلك اليوم، وهو العمل الصالح، الذي يكون سببًا في سعادتهم في الدارين.
وفي الآية (٢): دليل على أن الله سبحانه وتعالى قد أرسل إلى كل جماعة من الأمم السالفة رسولًا، وما أهمل أمةً قط، ويدل على ذلك قوله: ﴿وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾ وقوله: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ وقوله: ﴿رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾.
فإذا جاء رسولهم وبلغهم ما يجب عليهم معرفته من أمور دينه، لم يبق لهم حينئذٍ عذر في مخالفته، فهنالك في يوم الحساب يقضي الله تعالى بينهم بالعدل، ولا يظلمون في قضائه شيئًا مما سيحل بهم من عذاب، لا يكون ظلمًا لهم؛ لأنه
(٢) المراغي.
٤٨ - ﴿وَيَقُولُونَ﴾؛ أي: ويقول كفار قريش للرسول، - ﷺ -، ومن اتبعه من المؤمنين، مكذبين له فيما أخبرهم به، من نزول العذاب بالأعداء، والنصرة للأولياء ﴿مَتَى﴾ يقع ﴿هَذَا الْوَعْدُ﴾؛ أي: هذا العذاب الموعود الذي تعدوننا به ﴿إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ في قولكم: إن الله تعالى سينتقم لكم منا، وينصركم علينا؛ أي: في نحو ما جاء في قوله: ﴿حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (٢٤) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (٢٥) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (٢٦)﴾.
٤٩ - وقد لقن الله رسوله - ﷺ - في الجواب عن هذا السؤال بقوله: ﴿قُلْ﴾: أيها الرسول لمن يستعجل الوعيد، ويقول لك متى هذا الوعد، إني بشر رسول ﴿لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي﴾ فضلًا عن غيري ﴿ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾؛ أي؛ شيئًا من التصرف في الضر، فأدفعه عنها، ولا شيئًا من النفع، فأجلبه لها، من غير طريق الأسباب، التي يقدر عليها غيري، وليس منها إنزال العذاب بالكفار المعاندين، ولا بذل النصر والمعونة للمؤمنين ﴿إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: لكن ما شاء الله تعالى من ذلك العذاب الموعود، يكون متى شاء، ولا شأن لي فيه؛ لأنه خاص بمقام الربوبية دون الرسالة، التي من وظيفتها التبليغ لا التكوين وقد جاء في معنى الآية، قوله تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ أو المعنى (١): قل لهم يا محمد؛ لا أملك ضرًّا؛ أي: دفع ضر عنها، من مرض وفقر، ولا نفعًا؛ أي: ولا جلب نفع لها، من صحة أو غنى، ولكن ما شاء الله من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضر وجلب العذاب؟.
﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾ من الأمم الذين أصروا على تكذيب رسولهم ﴿أَجَلٌ﴾ مؤقت
٥٠ - ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد، لهؤلاء الذين يستعجلون منك العذاب: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني عن حالكم، وما يمكنكم أن تفعلوه ﴿إِنْ أَتَاكُمْ﴾ وجاءكم ﴿عَذَابُهُ﴾ سبحانه وتعالى، الذي تستعجلون منه ﴿بَيَاتًا﴾؛ أي: وقت اشتغالكم بالنوم ليلًا ﴿أَوْ﴾ أتاكم ﴿نَهَارًا﴾؛ أي: وقت اشتغالكم بلهوكم ولعبكم، أو بأمور معاشكم نهارًا. وجواب الشرط جملة قوله: ﴿مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ﴾ ولكن بتقدير: الفاء؛ لأن الجملة اسمية؛ أي إن أتاكم عذابه. فأيَّ نوع من العذاب يستعجل منه المجرمون الكذّابون، أعذاب الدنيا، أم عذاب الآخرة؟ وأيًّا ما استعجلوا فهو حماقة وجهالة والاستفهام (١) فيه للإنكار المضمن معنى النهي، ووجه الإنكار عليهم في استعجالهم أن العذاب مكروه، تنفر منه القلوب، وتأباه الطبائع، فما المقتضي لاستعجالهم له. وقيل: إن جواب الشرط محذوف، تقديره: إن أتاكم عذابه.. تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ منكم فيه. وقيل: إن الجواب جملة قوله:
٥١ - ﴿أثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ﴾؛ أي: بعد ما وقع العذاب بكم حقيقةً، آمنتم به حين لا ينفعكم الإيمان، وتكون جملة ﴿مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ﴾ معترضة. والمعنى، على هذا القيل: إن أتاكم عذابه.. آمنتم به بعد وقوعه، حين لا ينفعكم الإيمان. ولكن الأول، أولى. وقرأ طلحة بن مصرف ﴿أثُمَّ﴾ بفتح الثاء، وهذا يناسبه تفسير الطبري، أهنالك. ودخول همزة الاستفهام الإنكاري على ثم في قوله: ﴿أثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ﴾ كدخولها على الواو والفاء، وهي: لإنكار إيمانهم، حيث لا ينفع الإيمان، وذلك بعد نزول العذاب، وهو يتضمن معنى التهويل عليهم، وتفظيع ما فعلوه في غير وقته، مع تركهم له في وقته الذي يحصل
والخلاصة: أي أيستعجل مجرموكم بالعذاب الذي هو أحق بالخوف منه، بدل الإيمان الذي يدفعه عنهم، ثم إذا وقع بالفعل، آمنتم به حين لا ينفع الإيمان إذ هو قد صار ضروريًّا بالمشاهدة والعيان، لا تصديقًا للرسول، عليه السلام.
وقوله: ﴿الآن﴾؛ أي: هل بعد وقوع العذاب تؤمنون ﴿و﴾ الحال أنكم ﴿قد كنتم به﴾؛ أي: بوقوع العذاب ﴿تَسْتَعْجِلُونَ﴾ تكذيبًا به واستكبارًا، كلام مستأنف بتقدير: القول غير داخل تحت القول الذي أمر الله رسوله، - ﷺ -، أن يقوله لهم. والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع، أي: وقيل لهم: الآن حين وقوع العذاب، تؤمنون به، وقد كنتم به تستعجلون تكذيبًا واستهزاءً. وقرأ طلحة والأعرج بهمزة الاستفهام، بغير مد. وقرأ الجمهور؛ ﴿الآن﴾ على الاستفهام بالمد وكذا ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ﴾.
٥٢ - وقوله: ﴿ثُمَّ قِيلَ﴾ من جهة الله ﴿لِلَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم بالكفر وعدم الإيمان: إن هذا الذي تطلبونه، ضرر محض، عار عن النفع من كل وجه، والعاقل لا يطلب ذلك، ويقال لهم على سبيل الإهانة لهم: ﴿ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ﴾؛ أي: العذاب الدائم الذي لا ينقطع، والقائل لهم هذه المقالة، والتي
٥٣ - ثم حكى الله سبحانه وتعالى عنهم بعد هذه البيانات البالغة، والجوابات عن أقوالهم الباطلة، أنهم أستفهموا تارة أخرى عن تحقق العذاب، فقال؛ ﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ﴾؛ أي: ويستخبرونك يا محمَّد أحق ما تعدنا به من نزول العذاب وقيام الساعة ﴿قُلْ﴾ لم يا محمَّد ﴿إِي وَرَبِّي﴾؛ نعم، وأقسم لكم بربي ﴿إنه لحق﴾؛ أي: إن العذاب الذي أعدكم به حق، لا شك فيه ﴿وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾؛ أي؛ بفائتين من العذاب؛ لأن من عجز عن شيء فقد فاته، ويقال: أعجزه الأمر: إذا فاته.
والمعني (١): أي ويسألونك أيها الرسول أن تنبئهم عن هذا العذاب الذي تعدهم به في الدنيا والآخرة، أحق أنه سيقع جزاء على ما كنا نكسبه من المعاصي في الدنيا، أم هو إرهاب وتخويف فحسب، قل لهم يا محمَّد: نعم أقسم لكم بربي، إنه لحق واقع ما له من دافع، وما أنتم بواجدي من يوقع العذاب بكم، عاجزًا عن إدراككم وإيقاعه بكم. وإي بكسر الهمزة وسكون الياء، كلمة يجاب بها عن كلام سبق بمعنى نعم، وإي تستعمل في القسم خاصة، كما تستعمل، هل بمعنى، قد فيه خاصة.
٥٤ - ثم ذكر ما في هذا اليوم من الأهوال فقال: ﴿وَلَوْ﴾ ثبت ﴿أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ﴾ وكفرت بالله ﴿مَا فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: جميع ما في الأرض من أنواع الملك، وصنوف النعم، وأمكنها أن تجعله فداء لها من ذلك العذاب الأليم الذي تعانيه ﴿لَافْتَدَتْ بِهِ﴾؛ أي لعادت وأنقذت بما في الأرض نفسها، من عذاب الله تعالى، ولم تدخر منه شيئًا ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾؛ أي: وأسر أولئك الذين ظلموا غمهم وأسفهم على ما فعلوا من الظلم ﴿لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ﴾ بأبصارهم؛ أي: حين معاينة العذاب بأبصارهم إذا برزت لهم نار جهنم، وأيقنوا أنهم مواقعوها لا مصرف لهم عنها، فما مثلهم إلا مثل من يقدم للصلب، يثقله ما نزل به من الخطب الجلل، ويغلب عليه الحزن الفادح، فيخرسه، ولا يستطيع أن ينطق ببنت شفة، ويبقى جامدًا مبهوتًا لا حراك به.
ثم بين أنه لا ظلم اليوم فقال: ﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم﴾؛ أي: بين الظالمين وغيرهم ﴿بالقسط﴾، أي: بالعدل ﴿وَهُمْ﴾؛ أي: والحال أن الظالمين ﴿لَا يُظلَمُونَ﴾ فيما فعل بهم من العذاب؛ أي: وقضى الله سبحانه وتعالى، وحكم بين الظالمين وبين خصومهم بالحق والعدل، وخصومهم هم، الرسل والمؤمنون بهم، وكذلك من أضلوهم وظلموهم، من المرؤوسين، والضعفاء الذين كانوا يغرونهم بالكفر، ويصدونهم عن الإيمان.
وجاء في معنى هذه الآية قوله في سورة سبأ: ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾،
٥٥ - ثم أتبع ما تقدم بالدليل على قدرته، على إنفاذ حكمه وإنجاز وعده. وكون الظالمين لا يعجزونه ولا يستطيعون منه مهربًا، فقال: ﴿أَلَاَ﴾؛ أي: انتبهوا ﴿إِنَّ لِلَّهِ﴾ لا لغيره ﴿ما في السموات والأرض﴾؛ أي: جميع ما في السموات والأرض ملكًا وخلقًا وعبيدًا؛ أي: إنه تعالى مالك السموات والأرض وكل من فيهما من العقلاء وغيرهم فليس للكافرين به شيء يملكونه، فيفتدون به أنفسهم من ذلك العذاب، بل الأشياء كلها لله، الذي إليه عقابهم جزاء ما كسبت أيديهم. وفي تصدير الجملة بحرف التنبيه، تنبيه للغافلين وإيقاظ للذاهلين.
والخلاصة: فليتذكر من نسي، وليتنبه من غفل، وليعلم من جهل، أن لله وحده جميع ما في العوالم العلوية والعوالم الأرضية، يتصرف فيها كيف يشاء، ولا يملك أحد من دونه شيئًا من التصرف والفداء في يوم البعث والجزاء.
ثم أكد ما سلف بقوله ﴿أَلَاَ﴾؛ أي: انتبهوا ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾؛ أي: إن جميع ما وعد الله به ﴿حَقٌّ﴾؛ أي: ثابت لا بد أن يقع ووعده تعالى مطابق للواقع لا شك فيه ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾؛ أي: أكثر الناس ﴿لَا يَعلَمُونَ﴾ إلا ظاهرًا من الحياة الدنيا، فهم غافلون عن حقيقة ذلك؛ أي: لا يعلمون ما فيه صلاحهم فيعملون به، وما فيه فسادهم فيجتنبونه؛ أي: إن كل ما وعد به على ألسنة رسله حق لا ريب فيه؛ لأنه وعد المالك القادر على كل شيء، ولا يعجزه شيء، ولكن أكثر الكفار منكري البعث والجزاء، لا يعلمون أمر الآخرة، لغفلتهم عنها، وقصور أنظارهم عن الوصول إلى ما يكون فيها.
٥٦ - ثم أقام الدليل على قدرته على ذلك فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ في الدنيا ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بعد الموت للجزاء، فترون ما وعد به؛ أي: إنه تعالى هو المحيي المميت، لا يتعذر عليه فعل ما أراد من الإحياء، والإماتة ثم إليه سبحانه وتعالى لا إلى غيره ترجعون؛ حين يحييكم بعد موتكم؛ ويحشركم إليه
وقرأ (١) الحسن بخلاف عنه وعيسى بن عمر: ﴿يرجعون﴾ بالياء على الغيبة.
وقرأ الجمهور: بالتاء على الخطاب.
الإعراب
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (٣٧)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية، ﴿ما﴾ نافية ﴿كَانَ هَذَا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿الْقُرْآنُ﴾: بدل من هذا ﴿أَنْ يُفْتَرَى﴾: أن حرف نصب. ﴿يُفْتَرَى﴾: فعل مضارع، مغير الصيغة، منصوب بـ ﴿أَنْ﴾ ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿الْقُرْآنُ﴾ ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور متعلق به، والجملة في تأويل مصدر منصوب على كونه خبرًا لـ ﴿كَانَ﴾ تقديره: وما كان هذا القرآن افتراءً من دون الله؛ أي: مفترى من دونه، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة. ﴿وَلَكِنْ﴾. ﴿الواو﴾ عاطفة. ﴿لكن﴾: حرف استدراك. ﴿تَصْدِيقَ﴾ معطوف على خبر ﴿كَانَ﴾ أو خبر لـ ﴿كَانَ﴾ المحذوفة، تقديره: ولكن كان تصديق الذي، وجملة كان المحذوفة معطوفة على جملة ﴿كَانَ﴾ الأولى، وهو مضاف ﴿الَّذِي﴾: مضاف إليه. ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾: ظرف ومضاف إليه، صلة الموصول ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾: معطوف على ﴿تَصْدِيقَ﴾ ﴿لَا رَيْبَ﴾ ﴿لَا﴾: نافية ﴿رَيْبَ﴾: في محل النصب اسمها ﴿فِيهِ﴾: جار ومجرور، متعلق بمحذوف خبر ﴿لَا﴾ وجملة ﴿لَا﴾ في محل النصب حال من الكتاب، تقديره: حالة كون الكتاب منتفيًا عنه الريب، وصح مجيء الحال من المضاف إليه؛ لأنه مفعول في المعنى، أو جملة ﴿لَا﴾ مستأنفة، لا محل لها من الإعراب. ﴿مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾: جار ومجرور، حال ثانية من الكتاب، تقديره: حالة كون الكتاب، كائنًا من رب العالمين.
﴿أَمْ﴾: منقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الإنكار ﴿يَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿افْتَرَاهُ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿قل﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمد، والجملة مستأنفة ﴿فَأْتُوا بِسُورَةٍ﴾: إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت، قلت: الفاء: رابطة الجواب بالشرط المحذوف، تقديره؛ إن كان الأمر كما تقولون.. ﴿فَأْتُوا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم على كونه جوابًا للشرط المحذوف ﴿بِسُورَةٍ﴾: متعلق به ﴿مِثْلِهِ﴾: صفة لـ ﴿سورة﴾ ولكنه في تأويل مشتق، تقديره: بسورة مماثلة إياه، ومثل من الأسماء المتوغلة فصح كونه صفة لنكرة ﴿وَادْعُوا مَنِ﴾: فعل وفاعل ومفعول، معطوف على ﴿فَأْتُوا﴾ ﴿اسْتَطَعْتُمْ﴾ فعل وفاعل ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة، تقديره: من استطعتم دعاءه ﴿إنْ﴾: حرف شرط ﴿كُنْتُمْ﴾، فعل ناقص واسمه، في محل الجزم بإن الشرطية ﴿صَادِقِينَ﴾ خبره، وجواب الشرط معلوم مما قبله، تقديره: إن كنتم صادقين في أني افتريته فأتوا بسورة مثله؛ لأنكم عربيون فصحاء مثلي، وجملة الشرط مستأنفة.
﴿بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ﴾.
﴿بَلْ﴾: حرف للإضراب الانتقالي ﴿كَذَّبُوا﴾ فعل وفاعل. ﴿بِمَا﴾ جار ومجرور، متعلق به والجملة مستأنفة ﴿لَمْ يُحِيطُوا﴾ فعل وفاعل، مجزوم بلم ﴿بِعِلْمِهِ﴾ متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿مَّا﴾ أو صفة لها ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿لما يأتهم﴾: فعل ومفعول ﴿تَأْوِيلُهُ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة معطوفة على جملة الصلة.
﴿كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿كَذَلِكَ﴾: صفة لمصدر محذوف، تقديره: تكذيبًا مثل تكذيب قومك إياك ﴿كَذَّبَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: جار ومجرور
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (٤٠)﴾.
﴿وَمِنْهُمْ﴾: جار ومجرور خبر مقدم ﴿مَن﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة مستأنفة ﴿يُؤْمِنُ﴾: فعل مضارع ﴿بِهِ﴾؛ متعلق به، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَن﴾ والجملة صلة ﴿مَن﴾ الموصولة ﴿وَمِنْهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة ﴿مَنْ﴾ الأولى. ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ﴾: مبتدأ وخبر ﴿بِالْمُفْسِدِينَ﴾: متعلق بـ ﴿أَعْلَمُ﴾ والجملة مستأنفة.
﴿وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
﴿وَإِنْ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿كَذَّبُوكَ﴾؛ فعل وفاعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها ﴿فَقُلْ﴾: الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿قل﴾ فعل أمر في محل الجزم على كونه جواب شرط لها، وفاعله ضمير يعود على محمَّد وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة ﴿لِي عَمَلِي﴾، إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت، قلت: ﴿لِي﴾ خبر مقدم ﴿عَمَلِي﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول محكي ﴿وَلَكُمْ﴾، خبر مقدم. ﴿عَمَلُكُمْ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿لِي عَمَلِي﴾ ﴿أَنْتُمْ بَرِيئُونَ﴾: مبتدأ وخبر، والجملة في محل النصب مقول القول لـ ﴿قل﴾. ﴿مِمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بريئون﴾ ﴿أَعْمَلُ﴾؛ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: مما أعمله. ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ﴾: مبتدأ وخبر معطوف على ﴿أنتم بريئون﴾ ﴿مِمَّا﴾ متعلق بـ ﴿بَرِيءٌ﴾. وجملة ﴿تَعْمَلُونَ﴾، صلة لـ ﴿ما﴾ أو
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (٤٢)﴾.
﴿وَمِنْهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ مؤخر، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ ﴿يَسْتَمِعُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿إِلَيْكَ﴾: متعلق به، والعائد ضمير الفاعل وجمعه نظرًا لمعنى من ﴿أَفَأَنْتَ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أيستمعون إليك ﴿أنت﴾: مبتدأ. ﴿تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية معطوفة على الجملة المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿وَلَوْ﴾ الواو: عاطفة ﴿لو﴾ حرف شرط. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ فعل شرط لـ ﴿لو﴾ وجوابها محذوف، تقديره: ولو كانوا لا يعقلون، فأنت لا تسمعهم، وجملة لو معطوفة على محذوف، تقديره: أأنت تسمع الصم إن عقلوا، بل ولو كانوا لا يعقلون، فأنت لا تسمعهم.
﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ﴾.
﴿وَمِنْهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿مَنْ﴾: مبتدأ مؤخر. ﴿يَنْظُرُ﴾: صلته، وأفرد العائد هنا، نظرًا إلى لفظ ﴿مَن﴾ والجملة معطوفة على جملة، قوله: ﴿وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ﴾. ﴿أَفَأَنْتَ﴾ الهمزة: داخلة على محذوف. والفاء: عاطفة على ذلك المحذوف، تقديره: أينظرون إليك فأنت ﴿أنت﴾: مبتدأ. وجملة ﴿تَهْدِي الْعُمْيَ﴾: خبره والجملة الاسمية معطوفة على المحذوفة، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿وَلَوْ﴾: الواو: عاطفة ﴿لو﴾: حرف شرط ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿لَا يُبْصِرُونَ﴾: خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ فعل شرط لـ ﴿لو﴾ وجواب ﴿لو﴾ معلوم مما قبله، تقديره: ولو كانوا لا يبصرون، فأنت تهدي العمى، وجملة ﴿لو﴾ معطوفة على محذوف، تقديره: أأنت تهدي العمي إن أبصروا، بل، ولو كانوا لا يبصرون.
﴿إِنَّ اللَّهَ﴾: ناصب واسمه ﴿لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا﴾: فعل ومفعولان؛ أي: لا ينقص الناس شيئًا من أعمالهم، أو شيئًا منصوب على المصدرية؛ أي: شيئًا من الظلم قليلًا أو كثيرًا، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾ وجملة ﴿لَا يَظْلِمُ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة ﴿وَلَكِنَّ النَّاسَ﴾: ناصب واسمه ﴿أنفسهم﴾ مفعول مقدم لـ ﴿يَظلِمُونَ﴾ قدم عليه لرعاية الفاصلة. وجملة ﴿يَظْلِمُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿لَكِنَّ﴾ وجملة ﴿لَكِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾.
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ﴾.
﴿وَيَوْمَ﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿يوم﴾، منصوب باذكر محذوفًا. والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿يوم﴾. ﴿كَأَنْ﴾: مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوفًا، تقديره: كأنهم ﴿لَمْ يَلْبَثُوا﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لَمْ﴾ ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿سَاعَةً﴾ منصوب على الظرفية متعلق بـ ﴿يَلْبَثُوا﴾ ﴿مِنَ النَّهَارِ﴾: صفة لساعة وجملة ﴿كَأَنْ﴾ في محل النصب حال من مفعول ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾ تقديره: واذكر يوم يحشرهم، حال كونهم مشبهين من لم يلبث إلا ساعة من النهار ﴿يَتَعَارَفُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿بَيْنَهُمْ﴾: متعلق به، والجملة في محل النصب، حال ثانية من ضمير ﴿يَحْشُرُهُمْ﴾ أو مستأنفة ﴿قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿كَذَّبُوا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿بِلِقَاءِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿وَمَا كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿مُهْتَدِينَ﴾: خبره والجملة معطوفة على جملة خسر.
﴿وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ﴾.
﴿وَإِمَّا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿إن﴾؛ حرف شرط ﴿ما﴾؛ زائدة ﴿نرين﴾ فعل مضارع في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية، على كونها فعل شرط لها، مبني
﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾.
﴿أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ﴾: فعل مضارع متصل بنون التوكيد في محل الجزم معطوف على ﴿نرين﴾. والكاف: مفعول به ﴿فَإِلَيْنَا﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿إلينا﴾: خبر مقدم ﴿مَرْجِعُهُمْ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة الاسمية في محل الجزم ﴿بإن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة ﴿ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ﴾؛ مبتدأ وخبر. ﴿عَلَى مَا يَفْعَلُونَ﴾: متعلق بـ ﴿شَهِيدٌ﴾ والجملة الاسمية في محل الجزم، معطوفة على جملة قوله: ﴿فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾.
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾.
﴿وَلِكُلِّ أُمَّةٍ﴾: جار ومجرور، ومضاف إليه خبر قدم ﴿رَسُولٌ﴾: مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة ﴿فَإِذَا﴾ الفاء: عاطفة ﴿إذا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان متعلق بالجواب الآتي ﴿جَاءَ رَسُولُهُمْ﴾ فعل وفاعل في محل الجر مضاف إليه لـ ﴿إذا﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿قُضِيَ﴾، فعل ماض مغير الصيغة ﴿بَيْنَهُمْ﴾: نائب فاعل، والجملة جواب ﴿إذا﴾ وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على الجملة الاسمية قبلها. ﴿بِالْقِسْطِ﴾: متعلق بـ ﴿قضي﴾ ﴿وَهُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿لَا يُظْلَمُونَ﴾ خبره، والجملة الاسمية في محل النصب حال من ضمير بينهم.
﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾.
﴿وَيَقُولُونَ﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة ﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ...﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿مَتَى﴾: اسم استفهام، في محل النصب على الظرفية الزمانية خبر مقدم. ﴿هَذَا الْوَعْدُ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول القول. ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ ﴿إِنْ﴾ حرف شرط ﴿كُنْتُمْ صَادِقِينَ﴾ فعل
﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي...﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿لَا﴾: نافية ﴿أَمْلِكُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد ﴿لِنَفْسِي﴾: متعلق به. ﴿ضَرًّا﴾: مفعول به ﴿وَلَا نَفْعًا﴾: معطوف عليه، والجملة الفعلية في محل النصب، مقول القول. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء. ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة في محل النصب على الاستثناء المنقطع ﴿شَاءَ اللَّهُ﴾: فعل وفاعل صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: إلا ما شاء الله ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ﴾: خبر مقدم ﴿أَجَلٌ﴾ مبتدأ مؤخر، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان، متعلق بالجواب الآتي ﴿جَاءَ أَجَلُهُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الخفض بإضافة ﴿إِذَا﴾ إليها على كونها فعل شرط لها ﴿فَلَا﴾ الفاء: رابطة ﴿لَا﴾: نافية ﴿يَسْتَأْخِرُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿سَاعَةً﴾ ظرف متعلق به، والجملة جواب ﴿إذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إذَا﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾: فعل وفاعل معطوف على ﴿يَسْتَأْخِرُونَ﴾.
﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (٥٠)﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ إلى قوله: ﴿الآن﴾ مقول محكي لـ ﴿قُلْ﴾، وإن شئت قلت ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾: فعل وفاعل، بمعنى: أخبروني، تتعدى إلى مفعولين، الأول منهما: محذوف تقديره: عن عذاب الله، والمفعول الثاني: الجملة الاستفهامية الآتية، والجملة في محل النصب مقول القول ﴿إنْ أتاكم﴾ ﴿إنْ﴾ حرف شرط ﴿أَتَاكُمْ عَذَابُهُ﴾: فعل
﴿أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾.
﴿أَثُمَّ﴾: الهمزة: للاستفهام الإنكاري، داخلة على محذوف، تقديره: أأخرتم الإيمان، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿ثم﴾: حرف عطف وترتيب وتراخ ﴿إذَا﴾: ظرف لما يستقبل. ﴿مَا﴾ زائدة ﴿وَقَعَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على العذاب، والجملة في محل الخفض بإضافة ﴿إذا﴾ على كونها فعل شرط لها، والظرف متعلق بالجواب الآتي. ﴿آمَنْتُمْ﴾ فعل وفاعل جواب ﴿إذا﴾. ﴿به﴾ متعلق بـ ﴿آمَنْ﴾ وجملة ﴿إذا﴾ معطوفة على الجملة المحذوفة. ﴿آلْآنَ﴾ الهمزة: للاستفهام التوبيخي. ﴿الآن﴾ ظرف للزمان الحاضر في محل النصب على الظرفية، مبني على الفتح، والظرف متعلق بمحذوف، تقديره: الآن تؤمنون، والجملة المحذوفة مقول لقول محذوف، تقديره: وقيل لهم: الآن تؤمنون، والقول المحذوف مستأنف ﴿وَقَدْ كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه. ﴿بِهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَسْتَعْجِلُونَ﴾ وجملة ﴿تَسْتَعْجِلُونَ﴾ خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب على الحال من فاعل ﴿تُؤمِنُونَ﴾ المحذوف.
﴿ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ﴾.
﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾.
﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ﴾: فعل وفاعل ومفعول أول؛ لأن استنبأ هنا، بمعنى: سأل، يتعدى إلى مفعولين ﴿أَحَقٌّ﴾ الهمزة للاستفهام التقريري. ﴿حق﴾ مبتدأ. ﴿هُوَ﴾: فاعل سد مسد الخبر، أو ﴿هُوَ﴾ مبتدأ مؤخر، و ﴿حق﴾: خبر مقدم، والجملة في محل النصب مفعول ثانٍ لاستنبأ معلق عنه بالاستفهام، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿إي﴾ حرف جواب بمعنى نعم، خاصة بالقسم ﴿وَرَبِّي﴾ الواو حرف جر وقسم ﴿رَبِّي﴾: مقسم به مجرور بواو القسم، الجار والمجرور، متعلق بفعل قسم محذوف، تقديره: أقسم بربي ﴿إِنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿لَحَقٌّ﴾: خبره، واللام: حرف ابتداء وجملة ﴿إِنَّ﴾ جواب القسم، لا محل لها من الإعراب، وجملة القسم في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿وَمَا﴾ الواو: عاطفة. ﴿ما﴾ حجازية ﴿أَنْتُمْ﴾: في محل الرفع اسمها ﴿بِمُعْجِزِينَ﴾: خبرها وجملة ﴿ما﴾ الحجازية في محل النصب معطوفة على جملة القسم على كونها مقولا لـ ﴿قُلْ﴾.
﴿وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (٥٤)﴾.
﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
﴿أَلَا﴾: حرف استفتاح وتنبيه ﴿إنَّ﴾: حرف نصب. ﴿لِلَّهِ﴾ خبر مقدم لـ ﴿إنَّ﴾ ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل النصب اسم ﴿إِنَّ﴾ مؤخر ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾ جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ ﴿وَالْأَرْضِ﴾: معطوف على ﴿السموات﴾ والتقدير: ألا إن ما في السموات والأرض مملوك لله سبحانه وتعالى، وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة ﴿أَلَا﴾ حرف تنبيه ﴿إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه. ﴿حَقٌّ﴾: خبره، والجملة مستأنفة ﴿وَلَكِنَّ﴾: حرف نصب واستدراك ﴿أَكْثَرَهُمْ﴾ اسمها. وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾: خبر ﴿لَكِنَّ﴾ وجملة ﴿لَكِنَّ﴾ معطوفة على جملة ﴿إِنَّ﴾.
﴿هُوَ﴾ مبتدأ. وجملة ﴿يُحْيِي﴾: خبره والجملة مستأنفة ﴿وَيُمِيتُ﴾: معطوف على ﴿يُحْيِي﴾ ﴿وَإِلَيْهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُرْجَعُونَ﴾ ﴿تُرْجَعُونَ﴾: فعل ونائب فاعل، والجملة الفعلية معطوف على الجملة الاسمية أعني: جملة ﴿هُوَ يُحْيِي﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ يُفترى: فعل مبني للمجهول من افترى الخماسي، من باب افتعل، والقائم مقام الفاعل ضمير عائد إلى القرآن، والافتراء، مصدره، وهو اختلاق الكذب من عند نفسه.
﴿أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ﴾: جمع أصم، كالحمر جمع الأحمر، وهو من به صمم، وكذلك العمي جمع الأعمى.
﴿وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ﴾: حقيقة (١) الحشر، جمع الناس في الموقف، وحقيقة البعث إحياؤهم من القبور، والتعارف يقع في الحشر الذي هو الاجتماع؛ أي: في ابتدائه، وينقطع في أثنائه، لشدة الأهوال، ويشغل كل بنفسه، وأما البعث فلا تعارف فيه، لعدم الاجتماع الذي هو لازمه.
﴿مَتَى هَذَا الْوَعْدُ﴾ مصدر بمعنى اسم المفعول؛ أي: متى هذا العذاب الموعود الذي تعدنا به يا محمَّد يقولون ذلك استعجالًا للعذاب. ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ﴾ والأجل (٢): يطلق على مدة العمر، وعلى آخر جزء منه، والمراد هنا: الثاني، كما في التفاسير، اهـ شيخنا. وفي "أبي السعود": إن جعل الأجل عبارة عن حد معين من الزمان.. فمعنى مجيئه ظاهر، وإن أريد به ما امتد إليه من الزمان.. فمجيئه عبارة عن انقضائه، إذ هناك يتحقق مجيئه بتمامه، اهـ.
(٢) الفتوحات.
وَايْمُنُ هَمْزِ أَلْ كَذَا ويُبْدَلُ | مَدًّا فِي الاسْتِفْهَامِ أَوْ يُسَهَّلُ |
﴿وَيَسْتَنْبِئُونَكَ﴾ وأصل يستنبئونك (١): أن يتعدى إلى واحد بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، تقول: استنبأت زيدًا عن عمرو، أي: طلبت منه أن يخبرني عن عمرو، فاستفعل هنا للطلب، والمفعول الأول كاف الخطاب، والمفعول الثاني، الجملة من قوله: ﴿أَحَقٌّ هُوَ﴾ على سبيل التعليق، كما مر في مبحث الإعراب. ﴿قُلْ إِي وَرَبِّي﴾ و ﴿إي﴾ من حروف الجواب بمعنى: نعم، لكن لا يجاب بها إلا مع القسم خاصة، ذكره: أبو السعود.
﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾ وإسرار الحديث؛ خفض الصوت به، وإسرار الشيء: إخفاؤه وكتمانه. وفي "السمين": ﴿وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ﴾ قيل: أسر من الأضداد، يستعمل بمعنى أظهر، ويستعمل بمعنى: أخفى، وهو المشهور في اللغة كقوله: ﴿يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾ وهو في الآية يحتمل الوجهين، وقيل: إنه ماض على بابه قد وقع، وقيل: بل هو بمعنى: المستقبل اهـ.
والندم والندامة (٢): ما يجده الإنسان في نفسه من الألم والحسرة، عقب كل فعل يظهر له ضرره، وقد يجهر به بالكلام، كما قال تعالى: ﴿يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ﴾ أو يخفيه ويكتمه حين لا يجد فائدةً من إعلانه، أو اتقاءً للشماتة أو
(٢) المراغي.
فَأَسْرَرْتُ النَّدَامَةَ يَوْمَ نَادَى | برَدِّ جِمَالِ عَاصِرَةَ الْمُنَادِيْ |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الاستعارة اللطيفة في قوله: ﴿بَيْنَ يَدَيْهِ﴾؛ لأنه كناية عما سبقه من التوراة والإنجيل، فإنهما بشرتا به.
ومنها: إطلاق المصدر بمعنى اسم الفاعل في قوله: ﴿وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿أفأنت تسمع اَلْصُّمَّ﴾ وقوله: ﴿أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ﴾.
ومنها: الاستعارة التصريحية الأصلية؛ لأنه شبه الكافرين بمن ليس له حاسة السمع، ولا حاسة البصر، بجامع عدم الاهتداء في كل إلى المقصود.
ومنها: طباق السلب في قوله: ﴿مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ﴾ و ﴿مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ﴾.
ومنها: المقابلة في قوله: ﴿لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾ وفيه أيضًا جناس الاشتقاق بين: ﴿عَمَلِي﴾ و ﴿أَعْمَلُ﴾، وكذا فيما بعده.
ومنها: الطباق بين ﴿ضرًّا﴾ ﴿ونفعا﴾ في قوله: ﴿ضَرًّا وَلَا نَفْعًا﴾ وبين ﴿بَيَاتًا﴾ و ﴿نَهَارًا﴾ وبين ﴿يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ وبين ﴿يَسْتَقْدِمُونَ﴾ و ﴿يَسْتَأْخِرُونَ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾؛ لأن الاستعجال كناية عن التكذيب. قال الزمخشري: ﴿وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾ يعني: تكذبون؛ لأن استعجالهم كان على جهة التكذيب والإنكار.
قلتُ: فجعله من باب الكناية؛ لأنها دلالة الشيء بلازمه، نحو هو طويل النجاد، كنى به عن طول قامته؛ لأن طول نجاده لازم لطول قامته، وهو باب بليغ، اهـ "سمين".
ومنها: الإطناب في قوله: ﴿أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (٥٩) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (٦٠) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (٦١) أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٦٤) وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (٦٦) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (٦٨) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية (١) لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر الأدلة على الألوهية والوحدانية والقدرة.. ذكر الدلائل الدالة على صحة النبوة والطريق المؤدي إليها، وهو القرآن المتصف بهذه الأوصاف الشريفة.
قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه (١) الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر قوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ...﴾ الآية، وكان المراد بذلك كتاب الله المشتمل على التحليل والتحريم.. بين فساد شرائعهم وأحكامهم من الحلال والحرام من غير مستند في ذلك إلى وحي.
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما أقام الأدلة العقلية على إثبات الوحي والرسالة.. أردف ذلك بذكر فعل من أفعالهم، لا ينكرونه ولا يجادلون في وجوده، وهو يثبت صحة وجودهما، ذاك أن التشريع بالتحليل والتحريم هو حق الله تعالى وحده، وأن الأصل في الأرزاق، وسائر الأشياء التي ينتفع بها الإباحة فتحريم بعض الأشياء وتحليل بعضها، إما بأمره تعالى بوساطة رسله، وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال، وإما بالافتراء على الله تعالى، وهو يلزمكم بإنكار الأول، إذ لا واسطة بينهما.
قوله تعالى: ﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ...﴾ الآية، مناسبة (٢) هذه الآية لما قبلها: أنه تعالى لما ذكر جملة من أحوال الكفار ومذاهبهم والرد عليهم ومحاورة الرسول - ﷺ - لهم وذكر فضله تعالى على الناس، وأن أكثرهم لا يشكره على فضله.. ذكر تعالى اطلاعه على أحوالهم، وحال الرسول معهم في مجاهدته لهم، وتلاوة القرآن عليهم، وأنه تعالى عالم بجميع أعمالهم، واستطرد من ذلك إلى ذكر أولياء الله تعالى، ليظهر التفاوت بين الفريقين، فريق الشيطان، وفريق الرحمن.
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما
(٢) البحر المحيط.
قوله تعالى: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ...﴾ الآية، مناسبة (١) هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين لعباده سعة علمه ومراقبته لعباده وإحصاء أعمالهم وجزاءهم عليها وذكرهم بما يجب عليهم، من شكره على تفضله عليهم.. ذكر هنا حال الشاكرين المتقين، الذين لهم حسن الجزاء يوم القيامة.
قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين لرسوله - ﷺ - صفة أوليائه، وما بشرهم به، ووعدهم في الدنيا والآخرة، وفي هذا إيماء إلى الوعد بنصره ونصر من آمن به، من أوليائه وأنصار دينه على ضعفهم وفقرهم، وكان أعداؤهم يغترون بقوتهم في مكة بكثرتهم، وكانوا لغرورهم بها يكذبون بوعد الله، وكان ذلك مما يحزنه كما قال: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾.. أردف ذلك بتسليته له - ﷺ - على ما يلقاه من أذى أعدائه، وتبشيره بالنصر والعزة والوعيد لأوليائه.
قوله تعالى: ﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما حكى أن من المشركين من اتخذوا الأوثان والأصنام شفعاء عنده تعالى.. أردف ذلك بذكر ضرب آخر من أباطيلهم، وهو زعمهم أنه تعالى جده اتخذ ولدًا، وتلك مقالة اشترك فيها المشركون واليهود والنصارى على السواء.
ما رأيت أحدًا ذكر سببًا لنزول هذه الآيات، ولكن قال أبو حيان في "البحر": قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ...﴾ الآية، نزل في قريش الذين سألوا الرسول - ﷺ -: أحق هو؟ فالناس هم كفار قريش.
التفسير وأوجه القراءة
٥٧ - ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ قيل: أراد بالناس قريشًا، وقيل: هو على العموم، وهو الأصح، وهو اختيار الطبري؛ أي: قل يا محمَّد، لكفار قريش، أو لجميع الكفار: يا أيها الناس ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾؛ أي: قد جاءكم كتاب جامع لكل ما تحتاجون إليه من المواعظ الحسنة التي تصلح أخلاقكم وأعمالكم، كالطبيب الذي ينهى المريض عما يضره. ومن في قوله: ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾ متعلقة بالفعل، أي: قد جاءتكم من ربكم موعظة فتكون ابتدائية أو متعلقة بمحذوف صفة لـ ﴿مَوْعِظَةٌ﴾ والوعظ (١): الزجر المقترن بتخويف، وقال الخليل: هو التذكير بالخير فيما يرق له القلب. وقيل: الموعظة: ما يدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة، والقرآن؛ داع إلى كل خير وصلاح بهذا الطريق ﴿و﴾ جاءكم ﴿شفاء﴾ ودواء ﴿لِمَا فِي الصُّدُور﴾؛ أي: وجاءكم كتاب شاف لما في القلوب، من أمراض الجهل؛ وذلك لأن داء الجهل أضر للقلب من داء المرض للبدن وأمراض القلب هي الأخلاق الذميمة والعقائد الفاسدة والجهالات المهلكة، فالقرآن مزيل لهذه الأمراض كلها؛ لأن فيه الوعظ والزجر والتخويف والترغيب والترهيب والتحذير والتذكير، فهو الدواء والشفاء لهذه الأمراض القلبية وإنما خص الصدر بالذكر؛ لأنه موضع القلب وغلافه وهو أعز موضع في بدن الإنسان لمكان القلب فيه، ذكره في "الخازن".
﴿و﴾ جاءكم كتاب ﴿هدى﴾؛ أي: هاد من الضلالة إلى الصراط المستقيم
والمعنى: قد (١) جاءكم كتاب جامع للحكمة العملية، الكاشفة عن محاسن الأعمال ومقابحها، والمرغبة في المحاسن، والزاجرة عن المقابح، والحكمة النظرية التي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك، وسوء الاعتقاد، وهدى إلى الحق واليقين، ورحمة للمؤمنين، حيث أنزل عليهم، فنجوا به من ظلمة الضلال إلى نور الإيمان، وتبدلت مقاعدهم من طبقات النيران بمصاعد من درجات الجنان، والتنكير فيها للتعظيم.
والخلاصة (٢): أن الآية الكريمة، أجملت إصلاح القرآن الكريم لأنفس البشر في أربعة أمور:
الأول: الموعظة الحسنة بالترغيب والترهيب بذكر ما يرق له القلب فيبعثه على الفعل أو الترك وقد جاء في معنى الآية قوله: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ﴾ وقوله: ﴿هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾.
الثاني: الشفاء لما في القلوب، من أدواء الشرك والنفاق، وسائر الأمراض التي يشعر من أحبها بضيق الصدر، كالشك في الإيمان، والبغي والعدوان وحب الظلم وبغض الحق والخير.
الثالث: الهدى إلى طريق الحق واليقين، والبعد من الضلال في الاعتقاد والعمل.
الرابع: الرحمة للمؤمنين، وهي ما تثمر لهم هداية القرآن وتفيضه على قلوبهم، ومن آثارها بذل المعروف، وإغاثة الملهوف، وكف الظلم ومنع التعدي والبغي.
وحاصل ذلك: أن موعظة القرآن وشفاءه لما في الصدور، من أمراض
(٢) المراغي.
٥٨ - ثم أمر الله تعالى رسوله - ﷺ - أن يبلغ المؤمنين، بأنه يحق لهم أن يفرحوا بفضل الله عليهم بنعمة الإيمان، وبالرحمة الخاصة بهم، الجامعة لكل ما ذكر قبلها من مقاصد الشريعة فقال: ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ﴾ والباء (١) في ﴿بِفَضْلِ اللَّهِ﴾ متعلقة بمحذوف، استغنى عن ذكره، لدلالة ما تقدم عليه وهو قوله: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، والفضل هنا بمعنى: الإفضال، ويكون معنى الآية على هذا: يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم، وشفاء لما في الصدور، وهو القرآن، بإفضال الله عليكم وإحسانه لكم، ورحمته بكم وإرادته الخير لكم ﴿فَبِذَلِكَ﴾ الفضل والرحمة ﴿فَلْيَفْرَحُوا﴾ لا بما جمعوا من حطام الدنيا، وقيل: الباء في ﴿بِفَضْلِ اللَّهِ﴾ متعلقة بفعل يفسره قوله: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ والتقدير: بفضل الله وبرحمته فليفرحوا فبذلك فليفرحوا، والتكرير للتأكيد والتقرير وإيجاب اختصاص الفضل، والرحمة بالفرح دونما عداهما من فوائد الدنيا.
قال الواحدي: الفاء في قوله تعالى: ﴿فَلْيَفْرَحُوا﴾ زائدة، كقول الشاعر:
فَإِذا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذَلِكَ فَاجْزَعِيْ
فالفاء في قوله: فاجزعي زائدة. وقيل: الفاء داخلة لمعنى الشرط، كأنه قيل: إن فرحوا بشيء.. فليخصوهما بالفرح، فإنه لا مفروح به أحق منهما. والفرح: لذة في القلب بإدراك المحبوب والمشتهي، يقال: فرحت بكذا، إذا أدركت المأمول، ولذلك أكثر ما يستعمل الفرح في اللذات البدنية الدنيوية، واستعمل هنا، فيما يرغب فيه من الخيرات.
ومعنى الآية: ليفرح المؤمنون بفضل الله وبرحمته؛ أي: بما آتاهم الله من المواعظ وشفاء الصدور وثلج اليقين بالإيمان وسكون النفس إليه، ذكره الخازن.
أي: قل (٢) لهم ليفرحوا بفضل الله وبرحمته؛ أي: إن كان شيء في الدنيا
(٢) المراغي.
﴿هُوَ﴾؛ أي: المذكور من فضل الله ورحمته ﴿خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ من الدنيا؛ لأن الآخرة أبقى؛ أي: أن الفرح بهما أفضل وأنفع من الفرح بما يجمعونه من الذهب والفضة والأنعام والحرث والخيل المسومة وسائر خيرات الدنيا؛ لأنه هو سبب السعادة في الدارين، وتلك سبب السعادة في الدنيا الزائلة فحسب، فقد نال المسلمون في العصور الأولى بسببه الملك الواسع، والمال الكثير، مع الصلاح والإصلاح مما لم يتسن لغيرهم من قبل، ولا من بعد. وبعد أن جعلوا ديدنهم جمع المال ومتاع الدنيا، ووجهوا همتهم إليه وتركوا هداية القرآن في إنفاقه والشكر عليه، ذهبت دنياهم من أيديهم إلى أيدي أعدائهم.
فإن قلت: الأمر بالفرح في قوله: ﴿فَلْيَفْرَحُوا﴾ ينافي النهي عنه في قوله: ﴿لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾.
قلت: لا منافاة بينهما، لاختلاف المتعلق، فالمأمور به هنا الفرح بفضل الله وبرحمته، والمنهي هناك، الفرح بجمع الأموال لرئاسة الدنيا وإرادة العلو بها والفساد والأشر، ولذلك جاء بعده ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ وقبله ﴿إنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ﴾.
وقرأ (١) السبعة والجمهور: ﴿فَلْيَفْرَحُوا﴾ بالياء التحتية أمرًا للغائب. وقرأ يعقوب من العشرة، وأبي ويزيد بن القعقاع والأعمش وعمرو بن فائد وكثير من السلف: ﴿فلتفرحوا﴾ بالتاء الفوقية خطابًا لأصحاب محمَّد، والمعنى على هذا فلتفرحوا بذلك يا أصحاب محمَّد، هو خير مما يجمع الكفار. وفي مصحف أبي ﴿فبذلك فافرحوا﴾ وهذه هي اللغة الكثيرة الشهيرة في أمر المخاطب، وأما فليفرحوا بالياء، هي لغة قليلة. وقرأ أبو التياح والحسن. ﴿فليفرحوا﴾ بكسر
٥٩ - ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد لهؤلاء المشركين: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾؛ أي: أخبروني أيها الجاحدون للوحي والرسالة ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ﴾؛ أي: أهذا الذي أفاضه الله عليكم من فضله وإحسانه ﴿مِنْ رِزْقٍ﴾ تعيشون به من نبات وحيوان ﴿فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ﴾؛ أي: من ذلك الرزق ﴿حَرَامًا وَحَلَالًا﴾؛ أي: فجعلتم بعضه حرامًا، وبعضه حلالًا، وقد تقدم تفصيل ذلك في سورة الأنعام بقوله: ﴿وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا﴾ إلخ، وبقوله في سورة المائدة: ﴿مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾. ويحتمل كون ما في ﴿مَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ موصولة بمعنى الذي، والعائد محذوف؛ أي: ما أنزله الله، وهي في محل نصب مفعول أول، لـ ﴿أرأيتم﴾؛ لأنه بمعنى أخبروني، والثاني: هو الجملة من قوله: ﴿آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ والرابط لهذه الجملة بالمفعول الأول محذوف، تقديره: آلله أذن لكم فيه، واعترض على هذا، بأن قوله: قل، يمنع من وقوع الجملة بعده مفعولًا ثانيًا وأجيب بأنه كرر توكيدًا للأمر بالاستخبار. وقيل: إن ﴿مَا﴾ استفهامية في محل الرفع بالابتداء وخبرها ﴿آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾. وقيل في قوله: ﴿قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ تكرير للتوكيد، والرابط محذوف ومجموع المبتدأ والخبر في محل النصب بـ ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ والمعنى: أخبروني، أهذا الذي أنزل الله إليكم من رزق، فجعلتم منه حرامًا كالبحيرة، وحلالًا كالميتة، آلله أذن لكم في تحليله وتحريمه ﴿أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ وتكذبون في نسبة ذلك إليه؛ أي: أخبروني آلله أمركم بذلك الحكم، فأنتم ممتثلون بأمره تعالى، أم لم يأذن لكم في ذلك، بل أنتم كاذبون على الله في ادعائكم أن الله أمرنا بذلك الحكم.
ومعنى (١) إنزال الرزق: كون المطر ينزل من جهة العلو، وكذلك يقضي
والظاهر (١): أن أم هنا متصلة، كما قال السفاقسيّ، أي: آلله أذن لكم، أم تكذبون عليه في نسبة الإذن إليه، ويجوز أن تكون منقطعة بمعنى، بل وهمزة التقرير لافترائهم بمعنى، بل أتفترون على الله ذلك، وإظهار الاسم الشريف وتقديمه على الفعل للدلالة على كمال الافتراء.
وفي هذه الآية الشريفة (٢): ما يصك مسامع المتصدرين للإفتاء لعباد الله في شريعته، بالتحليل والتحريم، والجواز وعدمه، مع كونهم من المقلدين الذين لا يعقلون حجج الله تعالى، ولا يفهمونها، ولا يدرون ما هي. ومبلغهم من العلم الحكاية لقول قائل من هذه الأمة قد قلدوه في دينهم، وجعلوه شارعًا مستقلًا ما عمل به من الكتاب والسنة، فهو المعمول به عندهم، وما لم يبلغه ولم يفهمه حق فهمه أو فهمه وأخطأ الصواب في اجتهاده وترجيحه، فهو في حكم المنسوخ عندهم، المرفوع حكمه عن العباد، مع كون من قلدوه متعبدًا بهذه الشريعة، كما هم متعبدون بها ومحكومًا عليه بأحكامها، كما هم محكوم عليهم بها، وقد اجتهد رأيه، وأدى ما عليه، وفاز بأجرين مع الإصابة وأجرًا واحدًا مع الخطأ. إنما الشأن في جعلهم لرأيه، الذي أخطأ فيه شريعةً مستقلة ودليلًا معمولًا به، وقد أخطؤوا في هذا خطأً بينًا، وغلطوا غلطًا فاحشًا فإن الترخيص للمجتهد في اجتهاد رأيه يخصه وحده، ولا قائل من أهل الإِسلام المعتد بأقوالهم إنه يجوز لغيره أن يعمل به تقليدًا له واقتداءً به، وما جاء به المقلدة في تقوم هذا الباطل فهو من الجهل العاطل، اللهم ارزقنا من العلم ما نميز به بين الحق والباطل، وارزقنا من الإنصاف ما نظفر به بما هو الحق عندك، يا واهب الخير والعطايا، ومانح التوفيق والهدايا.
(٢) الشوكاني.
والخلاصة: أنه لا مندوحة لكم من الاعتراف بأحد الأمرين:
إما دعوى الإذن من الله لكم بالتحريم والتحليل، وذلك اعتراف بالوحي، وأنتم تنكرونه وتزعمون أنه محال.
وإما الافتراء على الله، وهو الذي يلزمكم إذا أنكرتم الأول.
٦٠ - وبعد أن سجل سبحانه وتعالى عليهم جريمة افتراء الكذب على الله.. قفى عليه بالوعيد مع الإيماء إلى ما يكون من سوء حالهم وشدة عقابهم يوم القيامة، فقال: ﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ﴾ ويختلقون ﴿عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ عند لقائهم ربهم ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ الذي تجزى فيه كل نفس ما عملت؛ أي (٢): أي شيء ظنهم في ذلك اليوم، أيظنون أنهم يتركون بلا عقاب على جريمة افتراء الكذب على الله، وتعمده فيما هو خاص بربوبيته، وعلى نزاع له فيها وشرك به، كما قال: ﴿أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ﴾ وقال: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾.
أي: أيُّ (٣) شيءٍ ظنُّهم يومَ عرضِ الأفعال والأقوال، أيحسبون أنهم لا يسألون عن افترائهم، أو لا يجازون عليه، ولأجل ذلك يفعلون ما يفعلون، كلا إنهم لفي أشد العذاب؛ لأن معصيتهم أشد المعاصي، والاستفهام فيه للتوبيخ والتقريع المضمن بمعنى الإنكار؛ أي: لا ينبغي هذا الحسبان ولا صحة له بوجه من الوجوه. وقرأ عيسى بن عمر: ﴿وما ظن﴾ جعله فعلًا ماضيًا؛ أي: أي ظن ظن الذين يفترون، فـ ﴿مَا﴾: في موضع نصب على المصدر و ﴿ما﴾ الاستفهامية، قد تنوب عن المصدر، تقول: ما تضرب زيدًا، تريد: أيَّ ضربٍ
(٢) المراغي.
(٣) المراح.
أو المعنى (١): أن الله سبحانه وتعالى لذو فضل على الناس، في كل ما خلقه لهم من الرزق، وفي كل ما شرع لهم من الدين، ومن ذلك أن جعل الأصل فيما أنزله إليهم من الرزق الإباحة، وأن جعل حق التحريم والتحليل له وحده، كيلا يتحكم فيهم أمثالهم من عباده، كمن اتخذوه من أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله، تعالى، وهو سبحانه لم يحرم عليهم إلا ما كان ضارًّا بهم، وحصر محرمات الطعام في أمور معينة. ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ﴾؛ أي: أكثر الناس ﴿لَا يَشْكُرُونَ﴾ تلك النعم كما يجب، فلا يستعملون العقل في التأمل في دلائل الله تعالى، ولا يقبلون دعوة أنبياء الله تعالى، ولا ينتفعون باستماع كتب الله تعالى.
كما قال تعالى: ﴿وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾ ومن ثم تراهم يحرمون ما لم يحرمه الله تعالى، ويكفرون نعمه فيغالون في الزهد، وترك الزينة والطيبات من الرزق، أو يسرفون في الأكل والشرب والزينة، ابتغاء الشهرة والتكبر على الناس، مع أن الإِسلام يأمر بالاعتدال، كما قال تعالى: ﴿لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ﴾.
أخرج أحمد، عن أبي الأحوص، عن أبيه قال: أتيت رسول الله، - ﷺ -، وأنا رثّ الهيئة، فقال: "هل لك مال"؟ قلت: نعم، قال: "من أي المال"؟ قلت: من كل المال، من الإبل والرقيق والخيل والغنم، فقال: "إذا آتاك الله مالًا.. فلير أثر نعمته عليك وكرامته".
وأخرج البخاري والطبراني عن زهير بن أبي علقمة مرفوعًا: "إذا آتاك الله مالًا فلير عليك فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنًا، ولا يحب البؤس ولا التباؤس".
وبعد أن خاطب رسوله - ﷺ -، انتقل إلى خطاب الأمة كلها في شوونها وأعمالها، فقال: ﴿وَلَا تَعْمَلُونَ﴾ أيها الرسول وأيتها الأمة ﴿مِنْ عَمَلٍ﴾؛ أي: أي عمل خيرًا كان أو شرًّا، شكرًا كان أو كفرًا، وإن كان كمثقال ذرة. والاستثناء في قوله: ﴿إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾ استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة أعني: تكون تتلو تعملون؛ أي: ما تتلبسون بشيء من الأفعال الثلاثة في حال من الأحوال إلا في حال كوننا شهودًا عليكم، أي: رقباء مطلعين عليه حافظين له ﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ أي: تشرعون في ذلك المذكور من الأفعال الثلاثة السابقة وتخوضون فيه فنحفظه عليكم ونجازيكم به فإذ ظرف لشهودا. وفي التعبير بالأمكنة دليل على أن ما يفيض الإنسان مهتمًا به مندفعًا فيه جدير بأن لا يغفل عن مراقبة ربه فيه واطلاعه عليه ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ﴾ يا محمَّد أي وما يبعد عن علم ربك ولا يخفى عليه ﴿مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾ أي: وزن نملة صغيرة {فِي الْأَرْضِ
(٢) المراغي.
وقرأ الكسائي وابن وثاب والأعمش وابن مصرف (١): ﴿يعزب﴾ بكسر الزاي وكذا في سبأ. وقرأ باقي السبعة: بالضم، وهما لغتان فصيحتان.
وفي التعبير (٢) بيعزب الدال على الخفاء والبعد، دليل على أن ما شأنه أن يغيب ويبعد عنا من أعالنا، لا يغيب عن علمه تعالى، وقدم ذكر الأرض؛ لأن الكلام مع أهلها.
ثم أكد سبحانه ما سبق وبين إحاطة علمه بكل شيء فقال: ﴿وَلَا﴾ يعزب عن علمه من ﴿أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ﴾؛ أي: شيء أصغر من الذرة مما لا تبصرونه من دقاثق الكون وخفاياه ﴿وَلَا أَكْبَرَ﴾ من ذلك وإن عظم مقداره كعرشه تعالى. فأصغر وأكبر معطوفان على لفظ مثقال، وانتصبا لكونهما ممنوعين من الصرف، وسيأتي في مبحث الإعراب إيضاح ما في المقام من أوجه الإعراب وبيان الراجح منها، فانظره ﴿إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾؛ أي: في لوح محفوظ؛ أي: إلا وهو معلوم له تعالى، ومحصى عنده في كتاب عظيم الشأن، فكيف يغيب عن علمه وهو الكتاب الذي كتب فيه مقادير الموجودات كلها، إكمالًا للنظام، وبيانًا لضبط جميع الأعمال وفي معنى الآية قوله: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (٣٨) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (٣٩)﴾.
وفي ذلك (٣): إشارة إلى أن في الوجود أشياء لا تدركها الأبصار، وقد أثبت العلم الحديث بوساطة الآلات التي تكبر الأشياء أضعافًا مضاعفة أن هناك أشياء لا يمكن رؤيتها، إلا إذا كبرت عن حقيقتها آلاف المرات كالجراثيم - المكروبات - ولم تكن تخطر على البال في عصر التنزيل وقد ظهرت للناس الآن، فهي من روائع الإعجاز العظيمة الدالة على أنه من كلام العليم الخبير.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
٦٢ - ثم لما بين سبحانه إحاطته بجميع الأشياء وكان في ذلك تقوية لقلوب المطيعين وكرّ لقلوب العاصين ذكر حال المطيعين فقال: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ...﴾ إلخ، وكلمة ألا في قوله: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ﴾ حرف تنبيه؛ أي: انتبهوا أيها المخاطبون إن أولياء الله الذين يتولونه بإخلاص العبادة له وحده، والتوكل عليه، ولا يتخذون له أندادًا يحبونهم كحبه، ولا يتخذون من دونه وليًّا ولا شفيعًا يقربهم إليه زلفى ﴿لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ﴾ في الدارين من لحوق مكروه ﴿وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ من فوات مطلوب. والمراد (٢) بـ ﴿أَوْلِيَاءَ اللَّهِ﴾ خلص المؤمنين، كأنهم قربوا من الله سبحانه بطاعته واجتناب معاصيه؛ أي: لا خوف عليهم في الآخرة: مما يخاف منه الكفار والفساق والظالمون، من أهوال الموقف، وعذاب الآخرة، كما قال تعالى: ﴿لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ﴾ ولا هم يحزنون من لحوق مكروه أو ذهاب محبوب، ولا يعتريهم ذلك فيها؛ لأن مقصدهم نيل رضوان الله المستتبع للكرامة والزلفى، ولا ريب في حصول ذلك ولا خوف من فواته بموجب الوعد الإلهي. وكذلك في الدنيا لا يخافون مما يخاف منه غيرهم من الكفار، وضعفاء الإيمان، وعبيد الدنيا، من مكروه يتوقع، كما قال تعالى: ﴿فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إن كُنْتُم مُؤمِنينَ﴾.
٦٣ - وقد فسر سبحانه هؤلاء الأولياء بقوله: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بكل ما جاء من عند الله تعالى ﴿وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾ الله، سبحانه وتعالى، بامتثال المأمورات، واجتناب المنهيات.
(٢) الشوكاني.
أي: أولياء الله تعالى هم الذين جمعوا بين الإيمان الصحيح باللهِ وملائكته وكتبه وملكة التقوى له، عَزَّ وَجَلَّ، وما تقتضيه من عمل. والمراد (٢)، بنفي الخوف عنهم: أنهم لا يخافون أبدًا كما يخاف غيرهم؛ لأنهم قد قاموا بما أوجب الله عليهم، وانتهوا عن المعاصي التي نهاهم عنها، فهم على ثقة من أنفسهم وحسن ظن بربهم، وكذلك لا يحزنون على فوت مطلب من المطالب؛ لأنهم يعلمون أن ذلك بقضاء الله تعالى وقدره، فيسلمون للقضاء والقدر، ويريحون قلوبهم عن الهم والكدر، فصدورهم منشرحة، وجوارحهم نشطة، وقلوبهم مسرورة.
٦٤ - وقوله: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ تفسير لمعنى، كونهم أولياء الله تعالى؛ أي: لهم البشارة والمسرة من الله تعالى، ما داموا في الحياة الدنيا بالنصر، وحسن العاقبة في كل أمر، وباستخلافهم في الأرض، ما أقاموا شرع الله وسننه، ونصروا دينه وأعلوا كلمته، وبما يوحيه إلى أنبيائه وينزله في كتبه من كون حال المؤمنين عنده، هو إدخالهم الجنة ورضوانه عنهم، كما وقع كثير من البشارات للمؤمنين في القرآن الكريم، وكذلك ما يحصل لهم من الرؤى الصالحة، وما يتفصل الله به عليهم، من إجابة دعائهم، وما يشاهدونه من التبشير لهم عند حضور آجالهم، بتنزل الملائكة عليهم قائلين لهم: ﴿لا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة﴾.
ولهم البشرى في الآخرة، بتلقي الملائكة لهم مبشرين بالفوز بالنعم، والسلامة من العذاب، كما أشارت إليه الآية الكريمة {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ
(٢) الشوكاني.
وعبارة المراح هنا: فالبشرى (١) في الدنيا محبة الناس لهم، وذكرهم إياهم بالثناء الحسي والرؤى الصالحة، وبشرى الملائكة لهم عند الموت، وفي الآخرة تلقي الملائكة إياهم مبشرين بالفوز، والكرامة، وبياض الوجوه وإعطاء الصحف بأيمانهم، وما يقرؤون منها وغير ذلك من البشارات، انتهت.
فصل في الأحاديث المناسبة للآية
عن عبادة بن الصامت، قال: سألت رسول الله - ﷺ - عن قوله تعالى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قال: "هي الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو ترى له". أخرجه الترمذي.
وله: عن رجل من أهل مصر، قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ قال: ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت رسول الله - ﷺ - عنها، وقال: "ما سألني عنها أحد غيرك منذ أنزلت، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم، أو تُرى له". قال الترمذي: حديث حسن.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: "لم يبق بعدي من النبوة إلا المبشرات"، قالوا: وما المبشرات؟ قال: "الرؤيا الصالحة". أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة أن رسول الله - ﷺ - قال: "إذا اقترب الزمان، لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، ورؤيا المؤمن جؤء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة". متفق عليه.
وهذا لفظ البخاري، ولمسلم: "إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المسلم تكذب، وأصدقكم رؤيا أصدقكم حديثًا، ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءًا من النبوة".
﴿لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى؛ أي: لا تغيير لأقواله على العموم، ولا إخلاف لمواعيده التي وعد بها أولياءه وأهل طاعته في كتابه وعلى ألسنة رسله ﴿ذَلِكَ﴾ المذكور من البشرى بسعادة الدارين ﴿هُوَ الْفَوْزُ﴾ والظفر ﴿الْعَظِيمُ﴾ الذي لا فوز وراءه، ولا يقادر قدره ولا يماثله غيره؛ لأنه ثمرة الإيمان الحق، والتقوى في حقوق الله وحقوق الخلق، والجملتان (٢)، أعني ﴿لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ و ﴿ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ اعتراض في آخر الكلام عند من يجوزه، وفائدتهما تحقيق المبشر به وتعظيم شأنه، أو الأولى اعتراضية، والثانية تذييلية.
٦٥ - ﴿وَلَا يَحْزُنْكَ﴾ يا محمَّد ﴿قَوْلُهُمْ﴾؛ أي: قول هؤلاء المشركين، أي: إشراكهم وتكذيبهم وتهديدهم إياك، ولا يغمك تخويفهم لك؛ أي: لا تحزن لقولهم ولا تبال بما يتفوهون به في شأنك مما لا خير فيه، ولا بتكذيبهم وتشاورهم في تدبير هلاكك وإبطال أمرك. وقرأ (٣) نافع بضم الياء وكسر الزاي، من: أحزنه يحزنه، وكلاهما بمعنى. وهذا نهي للنبي - ﷺ -، عن الحزن من قول
(٢) الشوكاني.
(٣) المراح والبيضاوي.
ثم استأنف سبحانه الكلام مع الرسول، - ﷺ -، معللًا لما ذكره من النهي لرسول الله، - ﷺ - وكأن قائلًا، قال: لم لا يحزنه قولهم وهو مما يحزن؟ فقال: ﴿إن العزة لله جميعًا﴾ ليس لهم منها شيء؛ أي وإنما نهيتك عن الحزن لقولهم؛ لأن العزة والغلبة والقدرة والقهر جميعًا لله، سبحانه وتعالى، هو المنفرد بها دون غيره، لا يملك أحد من دونه شيئًا منها، فهو يهبها لمن يشاء، ويحرمها من يشاء، وهو ناصرك عليهم والمنتقم لك منهم، ولا منافاة (١) بين هذه الآية وبين قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾؛ لأن عزة الرسول، - ﷺ -، وعزة المؤمنين بإعزاز الله إياهم، فثبت بذلك أن العزة لله جميعًا وهو الذي يعز من يشاء ويذل من يشاء. وقيل: إن المشركين كانوا يتعززون بكثرة أموالهم وأولادهم وعبيدهم، فأخبر الله سبحانه وتعالى أن جميع ذلك لله تعالى وفي ملكه، فهو قادر على أن يسلبهم جميع ذلك، ويذلهم بعد العزة. وقرأ (٢) أبو حيوة: ﴿أن العزة﴾ بفتح الهمزة، وليس معمولًا لقولهم؛ لأن ذلك لا يحزن الرسول، - ﷺ -، إذ هو قول حق، وخرجت هذه القراءة على التعليل؛ أي: لا يقع منك حزن لما يقولون؛ لأجل أن العزة لله جميعًا. وقال القاضي فتحها شاذ يقارب الكفر، وإذا كسرت كان استئنافًا، وهذا يدل على فضيلة علم الإعراب.
﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿السَّمِيعُ﴾ يسمع ما يقولون في حقك وفي تكذيبهم بالحق، وادعائهم للشرك فيكافؤهم على ذلك وهو ﴿الْعَلِيمُ﴾ بما يفعلون من إيذاء وكيد لا تخفى عليه خافية، فهو مذلهم ومحبط أعمالهم.
٦٦ - ثم أقام الدليل على كون العزة لله جميعًا وكون الجزاء بيده فقال: ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ﴾؛ أي: انتبهوا أيها المخاطبون، واعلموا أن لله سبحانه وتعالى لا لغيره ﴿من في السموات ومن في الأرض﴾؛ أي: جميع من فيهما له سبحانه وتعالى لا لغيره، ومن جملتهم هؤلاء
(٢) البحر المحيط.
فإن قلت (٢): قد قال تعالى في الآية التي قبل هذه ﴿أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ﴾ بلفظة ﴿مَا﴾ وقال في هذه الآية بلفظة ﴿مَن﴾ فما فائدة ذلك؟
قلتُ: إن لفظة ﴿ما﴾ تدل على ما لا يعقل ولفظة ﴿من﴾ تدل على من يعقل، فمجموع الآيتين يدل على أن الله عزّ وجل يملك جميع من في السموات ومن الأرض من العقلاء وغيرهم، وهم عبيده وفي ملكه. وقيل: إن لفظة ﴿مَن﴾ لمن يعقل، فيكون المراد بـ ﴿مَن﴾ في السموات الملائكة العقلاء وبـ ﴿مَن﴾ في الأرض الإنس والجن، وهم العقلاء أيضًا، وإنما خصهم بالذكر لشرفهم، وإذا كان هؤلاء العقلاء المميزون في ملكه وتحت قدرته.. فغير العقلاء من الحيوانات والجمادات بطريق الأولى، أن يكونوا في ملكه، إذا ثبت هذا فتكون الأصنام التي يعبدها المشركون أيضًا في ملكه وتحت قبضته وقدرته، ويكون ذلك قدحًا في جعل الأصنام شركاء لله معبودة دونه. وفي الآية: نعي على عباد البشر والملائكة والجمادات؛ لأنهم عبدوا المملوك وتركوا المالك، وذلك مخالف لما يوجبه العقل، ولهذا أردفه بقوله: ﴿وَمَا يَتَّبِعُ﴾ المشركون ﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ ويعبدون ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ تعالى آلهة ﴿شُرَكَاءَ﴾ له تعالى حقيقة؛ لأن ذلك محال، انما هي أسماء لا مسميات لها، و ﴿مَا﴾ نافية؛ أي: إن هؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله تعالى بدعائهم في الشدائد واستغاثتهم في النوازل والتقريب إليهم بالقرابين والنذور، لا يتبعون شركاء له في الحقيقة يدبرون أمور العباد، ويكشفون الضر عنهم، إذ لا شريك له
(٢) الخازن.
ثم أكد ما سلف وزاده بيانًا، فقال: ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾؛ أي: ما يتبعون في الحقيقة فيما يقولون ﴿إلَّا الظَّنَّ﴾ والحدس في دعواهم أنهم أولياء لله وشفعاء عنده، فهم يقيسونه على ملوكهم الظالمين، المتكبرين، الذين لا يصل إليهم أحد من رعاياهم إلا بوسائل حجابه ووزرائه ووسائطه.
ثم زاد ذلك توكيدًا بقوله: ﴿وَإِنْ هُمْ﴾؛ أي: وما هم في اتباع هذا الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا ﴿إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ ويكذبون؛ أي: إلا متخرصون قائلون بغير علم بما يقولون؛ أي: ما يتبعون يقينًا إنما يتبعون ظنًّا والظن لا يغني من الحق شيئًا ﴿إن هم إلا يخرصون﴾؛ أي: يقدرون أنهم شركاء تقديرًا باطلًا وكذبًا بحتًا.
والخلاصة (١): أنهم إنما اتبعوا ظنونهم الفاسدة، وأوهامهم الباطلة، فقاسوا الرب في تدبير أمور عباده على الملوك، وجهلوا أن أفعاله تعالى إنما تجري بمقتضى مشيئته تعالى الأزلية، وفق علمه الذاتي وحكمته البالغة، العادلة، وأن جميع أوليائه وأنبيائه وملائكته عبيد مملوكون له ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (٥٧)﴾؛ أي: إن أقرب أولئك الذين يدعونهم ويتوسلون إليهم بهم، كالمسيح والملائكة ومن دونهم يتوسلون إليه راجين خائفين، لا كأعوان الملوك
٦٧ - ثم أقام البرهان على مضمون ما قبله، من نفي الشركاء له في الخلق والتقدير والشفعاء عنده حين التصرف والتدبير، فقال: ﴿هُوَ﴾ سبحانه وتعالى الإله ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ﴾ الوقت قسمين بمقتضى علمه ومشيئته بدون مساعد ولا شفيع فجعل ﴿اللَّيْلَ﴾ مظلمًا ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾؛ أي: لأجل أن تسكنوا فيه، وتستريحوا بعد طول التعب والنصب والحركة للمعاش ﴿و﴾ جعل ﴿النهار مبصرا﴾؛ أي: مضيئًا ذا إبصار، لتنتشروا في الأرض، وتقوموا بجميع أعمال العمران والكسب والشكر للرب، وقد جاء بمعنى الآية قوله تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ﴾ الجعل ﴿لَآيَاتٍ﴾؛ أي: لعبرات ﴿لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ مواعظ القرآن، فيعلمون بذلك أن الذي خلق هذه الأشياء كلها هو الله المنفرد بالوحدانية في الوجود؛ أي: إن في اختلاف الليل والنهار وحال أهلهما فيهما، لدلائل وآيات على أن المعبود بحق هو الذي خلق الليل والنهار، وخالف بينهما لقوم يسمعون ما يتلى عليهم من التذكير بحكمته تعالى، ووجه النعمة في ذلك سماع تدبر وعظة لما يسمع وقد جاء بمعنى الآية، قوله تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣)﴾.
وذكر (١) علة خلق الليل، وهي قوله: ﴿لِتَسْكُنُوا فِيهِ﴾ وحذفها من النهار، وذكر وصف النهار وحذفه من الليل، وكل من المحذوف يدل عليه مقابله، والتقدير: جعل الليل مظلمًا لتسكنوا فيه والنهار مبصرًا لتتحركوا فيه في مكاسبكم وما تحتاجون إليه بالحركة، ففيه شبه احتباك.
ثم وبخهم على هذا القول العاطل عن الدليل الباطل عند العقلاء، فقال: ﴿أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾؛ أي: أتقولون على الله قولًا لا تعلمون حقيقته، وتنسبون إليه تعالى ما لا يجوز نسبته إليه تعالى جهلًا منكم، ولا سيما بعد مجيء ما ينقضه من الأدلة العقلية، والوحي الإلهي، والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري
٦٩ - ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله - ﷺ -، أن يقول لهم قولًا يدل على أنَّ ما قالوه كذب، وأن من كذب على الله لا يفلح، فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد ليتبين لهم سوء عاقبتهم ﴿إنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ﴾ ويختلقون ﴿عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ﴾ بنسبة الشركاء إليه أو باتخاذه ولدًا لنفسه، أو بدعوى أن الأولياء يطلعون على أسرار خلقه، ويتصرفون في ملكه ﴿لَا يُفْلِحُونَ﴾؛ أي: لا يفوزون بالتمتع بالنعيم بشفاعة الولد، أو الشركاء الذين اتخذوهم له تعالى ولا ينجون من عذاب الآخرة. والمعنى: إن هؤلاء الذين يكذبون على ربهم، لا يفوزون بمطلب من المطالب، ولا يسعدون، وإن اغتروا بطول السلامة، والبقاء من النعمة، والمعنى: إن قائل هذا القول لا ينجح في سعيه، ولا يفوز بمطلوبه، بل خاب وخسر.
٧٠ - ثم بين سبحانه: أن هذا الافتراء وإن فاز صاحبه بشيء من المطالب العاجلة، فهو متاع قليل في الدنيا، ثم يتعقبه الموت والرجوع إلى الله، فيعذب المفتري عذابًا مؤبَّدًا، فقال: ﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا﴾؛ أي: حياتهم متاع قليل في الدنيا، ثم لا بد من الموت ﴿ثُمَّ﴾ بعد الموت ﴿إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ﴾؛ أي: رجوعهم إلينا بالبعث لا إلى غيرنا ﴿ثُمَّ﴾ بعد الرجوع إلينا ﴿نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ﴾؛ أي: بسبب كونهم كافرين فأين هم من الفلاح.
والمعنى: أي هؤلاء لهم متاع في الدنيا حقير يتلهون به في حياة قصيرة هي: الحياة الدنيا إذ مهما يبلغ هذا المتاع من العظمة ككثرة مال أو عظم جاء فهو قليل بالنسبة إلى ما أعد الله تعالى في الآخرة للصادقين المتقين، ثم يرجعون إلى ربهم بالبعث بعد الموت وما فيه من أهوال الحشر والحساب، فيذيقهم العذاب الشديد، بسبب كفرهم بآياته، وبالافتراء عليه وتكذيب رسله، بعد أن قامت عليهم الحجة. وفي الآية إيماء إلى أن ما يظن أنه فلاح بالحصول على
الإعراب
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٥٧)﴾.
﴿يَا أَيُّهَا﴾: يا: حرف نداء ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه زائد ﴿النَّاسُ﴾: صفة لـ ﴿أي﴾ تابع للفظه وجملة النداء مستأنفة. ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة الفعلية جواب النداء. ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿جَاء﴾ أو صفة لـ ﴿مَوْعِظَةٌ﴾ ﴿وَشِفَاءٌ﴾ معطوف على ﴿مَوْعِظَةٌ﴾ ﴿لِمَا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿شفاء﴾ أو صفة ﴿فِي الصُّدُورِ﴾ جار ومجرور صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها. ﴿وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾: معطوفان على ﴿مَوْعِظَةٌ﴾ ﴿لِلْمُؤْمِنِينَ﴾: جار ومجرور صفة.
﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (٥٨)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿بِفَضْلِ اللَّهِ...﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿بِفَضْلِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بمحذوف دل عليه المذكور بعده ﴿وَبِرَحْمَتِهِ﴾ معطوف عليه، تقديره: بفضل الله وبرحمته ليفرحوا، والجملة المحذوفة مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿فَبِذَلِكَ﴾ الفاء: عاطفة لفعل محذوف على المحذوف السابق، تقديره: فليعجبوا ﴿بذلك﴾ جار ومجرور متعلق بهذا الفعل المقدر، أعني: يعجبوا ﴿فَلْيَفْرَحُوا﴾ الفاء: عاطفة ما بعدها على يعجبوا المحذوف. واللام: لام الأمر ﴿يفرحوا﴾: مجزوم بها، والجملة معطوفة على يعجبوا ﴿هُوَ خَيْرٌ﴾ مبتدأ وخبر ﴿مِمَّا﴾: متعلق بـ ﴿خَيْرٌ﴾ وجملة ﴿يَجْمَعُونَ﴾: صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره يجمعونه.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾... إلى قوله: ﴿قُلْ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَرَأَيْتُمْ﴾ فعل وفاعل بمعنى أخبروني. ﴿مَا﴾ اسم موصول في حل النصب مفعول أول لـ ﴿أرأيتم﴾. ﴿أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل. ﴿لَكُمْ﴾ متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ الموصولة والعائد محذوف، تقديره: ما أنزله الله لكم ﴿مِنْ رِزْقٍ﴾: جار ومجرور حال من ﴿مَا﴾ أو من الضمير المحذوف. ﴿فَجَعَلْتُمْ﴾ فعل وفاعل معطوف على ﴿أَنْزَلَ﴾ ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور في محل المفعول الأول لـ ﴿جعل﴾ ﴿حَرَامًا﴾ مفعول ثانٍ لـ ﴿جَعَلْ﴾ ﴿حَلَالًا﴾ معطوف عليه؛ لأن المعنى: فجعلتم بعضه حرامًا، وبعضه حلالًا. ﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة الفعلية مؤكدة لجملة ﴿قُلْ﴾ الأولى معترضة بين الفعل ومفعوله، أعني: أرأيتم ومفعوله الثاني ﴿آللَّهُ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري، بمعنى: النفي ﴿الله﴾ مبتدأ. ﴿أَذِنَ﴾ فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾. ﴿لَكُمْ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل الرفع خبر المبتدأ، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ثان لـ ﴿أرأيتم﴾ ﴿أَمْ﴾: متصلة معادلة للهمزة ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَفْتَرُونَ﴾ وجملة ﴿تَفْتَرُونَ﴾ معطوفة على جملة ﴿آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ﴾ والمعنى: أخبروني أحصل إذن من الله لكم أم ذلك افتراء منكم وكذب، وهو استفهام لطلب التعيين، وهو الأول،
﴿وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿ما﴾: اسم استفهام إنكاري في محل الرفع مبتدأ. ﴿ظَنُّ﴾ خبره ﴿الَّذِينَ﴾ مضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿يَفْتَرُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به ﴿الْكَذِبَ﴾: مفعول به، والجملة صلة الموصول ﴿يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾: ظرف ومضاف إليه متعلق بـ ﴿ظَنُّ﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه
﴿وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا﴾.
﴿وَمَا﴾: الواو استئنافية. ﴿مَا﴾: نافية ﴿تَكُونُ﴾: فعل مضارع ناقص، واسمها ضمير يعود على محمَّد ﴿فِي شَأْنٍ﴾: جار ومجرور خبر تكون والجملة مستأنفة. ﴿وَمَا تَتْلُو﴾ الواو: عاطفة ﴿ما﴾ نافية ﴿تَتْلُو﴾ فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿مِنْهُ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَتْلُو﴾ فـ ﴿مِن﴾ تعليلية والضمير يعود على الشأن ﴿مِنْ قُرْآنٍ﴾ ﴿مِنْ﴾ زائدة ﴿قُرْآنٍ﴾: مفعول ﴿تَتْلُو﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿تَكُونُ﴾ ﴿وَلَا تَعْمَلُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿مِنْ عَمَلٍ﴾ ﴿مِن﴾ زائدة. ﴿عَمَلٍ﴾: مفعول ﴿تَعْمَلُونَ﴾ ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ من أعم أحوال المخاطبين بالأفعال الثلاثة ﴿كنا﴾ فعل ناقص واسمه ﴿عليكم﴾ متعلق بـ ﴿شُهُودًا﴾ ﴿شُهُودًا﴾ خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب على الاستثناء من أعم الأحوال والتقدير وما تتلبسون بشيء من الأفعال المذكورة في حال من الأحوال إلا في حال كوننا رقباء مطلعين عليه.
﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾.
﴿إِذْ﴾: ظرف لما مضى من الزمان متعلق بـ ﴿شُهُودًا﴾ ﴿تُفِيضُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿فِيهِ﴾: متعلق به، والجملة في محل الجر بإضافة ﴿إِذْ﴾ إليها ﴿وَمَا يَعْزُبُ﴾ الواو: استئنافية. ﴿ما﴾ نافية ﴿يَعْزُبُ﴾: فعل مضارع ﴿عَنْ رَبِّكَ﴾، متعلق به ﴿مِن﴾: زائدة ﴿مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية مستأنفة ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور حال من ذرة، أو صفة لها أو حال من ﴿مِثْقَالِ﴾ ﴿وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾: معطوف على الأرض وزيدت ﴿لا﴾ لتأكيد نفي ما قبلها. وقوله: {وَلَاَ
﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾.
﴿أَلَاَ﴾: حرف تنبيه واستفتاح ﴿إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ﴾: ناصب واسمه ومضاف إليه ﴿لَا خَوْفٌ﴾ ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل ليس ﴿خَوْفٌ﴾ اسمها. ﴿عَلَيْهِمْ﴾ خبرها، وجملة ﴿لَا﴾ في محل الرفع خبر إن، وجملة إن مستأنفة ﴿وَلَا هُمْ﴾: مبتدأ، وجملة ﴿يَحْزَنُونَ﴾ خبره، وجملة الابتداء في محل الرفع معطوفة على
(٢) الصاوي.
﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (٦٣) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
﴿الَّذِينَ﴾: اسم موصول في محل الرفع خبر لمبتدأ محذوف، تقديره: هم الذين، والجملة الاسمية مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل: من أولئك الأولياء؟ فأجاب: هم الذين، إلخ ﴿آمَنُوا﴾: فعل، وفاعل صلة الموصول ﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه. وجملة ﴿يَتَّقُونَ﴾: خبره وجملة ﴿كَانَ﴾ معطوفة على جملة الصلة ﴿لهُمْ﴾: خبر مقدم ﴿الْبُشْرَى﴾: مبتدأ مؤخر ﴿فِي الْحَيَاةِ﴾ متعلق به؛ أي: البشرى تقع في الدنيا، وفسرت بالرؤيا الصالحة؛ أو حال من ﴿الْبُشْرَى﴾؛ متعلق بمحذوف، والعامل في الحال الاستقرار في ﴿لَهُمُ﴾ لوقوعه خبرًا، اهـ "سمين". ﴿الدُّنْيَا﴾: صفة لـ ﴿الْحَيَاةِ﴾ والجملة من المبتدأ والخبر مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، كأنه قيل: ماذا أعد لهم في الدارين.
﴿وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾.
﴿وَفِي الْآخِرَةِ﴾: معطوف على الجار والمجرور قبله. ﴿لَا تَبْدِيلَ﴾ ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل إن ﴿تَبْدِيلَ﴾ اسمها. ﴿لِكَلِمَاتِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور خبر ﴿لَا﴾ والجملة معترضة في آخر الكلام، لا محل لها من الإعراب، كما سيأتي في مبحث البلاغة بيان وجه اعتراضها. ﴿ذَلِكَ﴾ مبتدأ ﴿هُوَ﴾: ضمير فصل ﴿الْفَوْزُ﴾ خبر ﴿الْعَظِيمُ﴾: صفة له، والجملة معترضة أيضًا، لا محل لها من الإعراب.
﴿وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٥)﴾.
﴿وَلَا﴾: ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿لا يحزنك قولهم﴾: فعل وفاعل مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّ الْعِزَّةَ﴾: ناصب واسمه ﴿لِلَّهِ﴾ خبره ﴿جَمِيعًا﴾ حال من ﴿الْعِزَّةَ﴾ أو توكيد لها، والجملة مستأنفة مسوقة لتعليل ما قبلها ﴿هُوَ السَّمِيعُ﴾: مبتدأ وخبر ﴿الْعَلِيمُ﴾ خبر ثانٍ؛ أو صفة لـ ﴿السَّمِيعُ﴾ والجملة مستأنفة.
﴿أَلَا﴾: حرف تنبيه ﴿إنَّ﴾ حرف نصب ﴿لِلَّهِ﴾: خبر مقدم لها ﴿مَن﴾: اسم موصول اسمها مؤخر وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة ﴿فِي السَّمَاوَاتِ﴾: جار ومجرور صلة الموصول ﴿وَمَن﴾ معطوف على ﴿مَن﴾ الأولى. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: صلتها. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية. ﴿ما﴾ نافية ﴿يَتَّبِعُ الَّذِينَ﴾ فعل وفاعل والجملة مستأنفة ﴿يَدْعُونَ﴾؛ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: متعلق به ومفعول ﴿يَدْعُونَ﴾ محذوف تقديره: آلهة ﴿شُرَكَاءَ﴾ مفعول ﴿يَتَّبِعُ﴾ أي: وما يتبعون شركاء حقيقة وإن كانوا يسمونها شركاء؛ لأن شركة الله في الربوبية محالة. ﴿إنْ﴾: نافية ﴿يَتَّبِعُونَ﴾ فعل وفاعل ﴿إلا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿الظَّنَّ﴾؛ مفعول به والجملة مستأنفة ﴿وَإِنْ هُمْ﴾: ﴿الواو﴾ عاطفة ﴿إن﴾: نافية ﴿هُمْ﴾ مبتدأ. ﴿إلا﴾: أداة استثناء مفرغ. وجملة ﴿يَخْرُصُونَ﴾ خبره والجملة معطوفة على جملة النفي قبلها.
﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (٦٧)﴾.
﴿هُوَ الَّذِي﴾: مبتدأ وخبر والجملة مستأنفة ﴿جَعَلَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الموصول ﴿لَكُمُ﴾ متعلق به ﴿اللَّيْلَ﴾: مفعول أول، والثاني محذوف، تقديره: مظلمًا، والجملة صلة الموصول. ﴿لِتَسْكُنُوا﴾ فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة بعد لام كي ﴿فِيهِ﴾ متعلق به، والجملة الفعلية في تأويل مصدر، مجرور باللام: الجار والمجرور متعلق بـ ﴿جَعَلَ﴾ ﴿وَالنَّهَارَ﴾ معطوف على ﴿اللَّيْلَ﴾ ﴿مُبْصِرًا﴾: مفعول ثان ﴿إنّ﴾: حرف نصب ﴿فِي ذَلِكَ﴾: خبر مقدم لـ ﴿إنّ﴾ ﴿لَآيَاتٍ﴾: اسمها مؤخر ﴿لِقَوْمٍ﴾؛ جار ومجرور صفة ﴿لَآيَاتٍ﴾ وجملة ﴿يَسْمَعُونَ﴾ صفة ﴿لِقَوْمٍ﴾ وجملة ﴿إن﴾ مستأنفة: مسوقة لتعليل ما قبلها.
﴿قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾.
﴿إنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾.
﴿إنْ﴾ نافية ﴿عِنْدَكُمْ﴾ خبر مقدم ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾: مبتدأ مؤخر، و ﴿مِن﴾ زائدة، والجملة مستأنفة ﴿بِهَذَا﴾: متعلق بـ ﴿سُلْطَانٍ﴾ ﴿أَتَقُولُونَ﴾ الهمزة للاستفهام الإنكاري. ﴿تقولون﴾: فعل وفاعل ﴿عَلَى اللَّهِ﴾، متعلق به ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول ﴿تقولون﴾ ﴿لَا تَعْلَمُونَ﴾، فعل وفاعل صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: ما لا تعلمونه، وجملة ﴿تقولون﴾ مستأنفة.
﴿قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (٦٩)﴾.
﴿قُلْ﴾ فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿إِنَّ﴾: حرف نصب ﴿الَّذِينَ﴾ اسمها. ﴿يَفْتَرُونَ﴾؛ فعل وفاعل، والجملة صلة الموصول ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: متعلق به ﴿الْكَذِبَ﴾: منصوب على المفعولية المطلقة، مؤكد لعامله.
وجملة ﴿لَا يُفْلِحُونَ﴾: خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول القول.
﴿مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (٧٠)﴾.
التصريف ومفردات اللغة
﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ﴾ الموعظة: هي التذكير بالعواقب، سواء كان بالزجر والترهيب، أو بالاستمالة و"الترغيب" وفي "زاده" الموعظة: مصدر بمعنى: الوعظ، وهو إرشاد المكلف ببيان ما ينفعه من محاسن الأعمال، وما يضره من القبائح والترغيب في المحاسن، والزجر عن القبائح اهـ.
﴿وَشِفَاءٌ﴾ والشفاء: الدواء، وهو في الأصل مصدر، جعل وصفًا، مبالغة، أو اسم لما يشفى به أو يتداوى به، فهو كالدواء، اسم لما يتداوى به ﴿والهدى﴾: بيان الحق المنقذ من الضلال، ويكون في الاعتقاد بالحجة والبرهان، وفي العمل ببيان المصالح والحكم ﴿وَرَحْمَةٌ﴾ والرحمة: الإحسان ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ﴾ وفضل لله: هو توفيقهم لتزكية أنفسهم، بالموعظة والهدى ﴿وَبِرَحْمَتِهِ﴾ والرحمة هي: الثمرة التي نتجت من ذلك، وبها فضلوا جميع الناس ﴿فَلْيَفْرَحُوا﴾ والفرح: لذة في القلب، بإدراك المحبوب والمشتهى، يقال: فرحت بكذا إذا أدركت المأمول، ولذلك أكثر ما يستعمل الفرح، في اللذات البدنية الدنيوية،
﴿إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ يقال: أفاض في الشيء، أو من المكان إذا اندفع فيه بقوة أو بكثرة ﴿وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ﴾ بضم الزاي وكسرها، قراءتان سبعيتان، وفي "المصباح" عزب الشيء، من باب قتل وضرب، إذا غاب وخفي، فهو عازب، ومنه قولهم: عزبت النية؛ أي: غاب عنه ذكرها، اهـ. وفي "المختار" أنه من باب دخل، وعزب الرجل بإبله يعزب؛ أي: بعد وغاب في طلب الكلأ ﴿مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ﴾؛ أي: موازن نملة صغيرة أو هباء، والمثقال: الوزن، والذرة: النملة الصغيرة الحمراء، وهي خفيفة الوزن جدًّا، وبها يضرب المثل في الصغر والخفة، وتطلق على الدقيقة من الغبار، الذي يرى في ضوء الشمس الداخل من الكوى إلى البيوت ﴿فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ والكتاب: هو اللوح المحفوظ ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ﴾ الأولياء: جمع ولي، من الولي، وهو القرب، يقال: تباعد بعد ولي، أي: بعد قرب. وفي "البيضاوي": أولياء الله: هم الذين يتولونه بالطاعة، ويتولاهم بالكرامة، اهـ. والولي: ضد العدو، فهو المحب، ومحبة العباد لله: طاعتهم له، ومحبته لهم إكرامه إياهم، كما في "شرح الكشاف"، وعلى الأول: يكون فعيل: بمعنى فاعل: وعلى الثاني: بمعنى مفعول، فهو مشترك بينهما، اهـ "شهاب". واعلم أن تركيب الواو واللام والياء، يدل على معنى القرب، فولي كل شيء، هو الذي يكون قريبًا منه، والقرب من الله بالمكان والجهة محال،
﴿جَمِيعًا﴾ توكيد للعزة، ولم يؤنث بالتاء: لأن فعيلًا يستوى فيه المذكر والمؤنث، لشبهه بالمصادر. ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ والخرص: الحزر بتقديم الزاي على الراء، والتقدير والتخمين للشيء: الذي لا يجري على قياس من وزن أو كيل، أو ذرع، كخرص الثمر على الشجر، والحب في الزرع، ويستعمل بمعنى الكذب أيضًا؛ لأنه يغلب فيه الحزر والتخمين. وفي "المصباح": خرصت النخل خرصًا - من باب قتل - حزرت ثمره، والاسم الخرص بالكسر، وخرص الكافر خرصًا فهو خارص إذا كذب اهـ. ﴿اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا﴾ الولد، يستعمل فردًا وجمعًا، وقد يجمع على أولاد وولدة وإلدة، بالكسر فيهما. ﴿وسبحان﴾ كلمة تنزيه وتقديس، وتستعمل للتعجب. ﴿مِنْ سُلْطَانٍ﴾ والسلطان: الحجة والبرهان.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ﴾ المراد بها القلوب، من باب تسمية الحال ﴿القلوب﴾ باسم المحل ﴿الصُّدُورِ﴾ أي: شفاء لما في القلوب من الحقد والحسد والبغض والعقائد الفاسدة.
ومنها: التكرار في قوله: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ عطفت الجملة الثانية على
ومنها: الطباق في قوله: ﴿حَرَامًا وَحَلَالًا﴾ وفي قوله: ﴿فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ وفي قوله: ﴿وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ﴾ وفي قوله: ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ﴾ وبين الليل والنهار في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ﴾ إلخ.
ومنها: عطف ما للشيء الواحد من الصفات بعضها على بعض في قوله: ﴿قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ﴾ تنزيلًا لتغاير الصفات منزلة تغاير الذات.
ومنها: القصر في قوله: ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا﴾ لأن تقديم الجار والمجرور على الفعل يفيد الحصر.
ومنها: إظهار الاسم الجليل وتقديمه على الفعل في قوله: ﴿أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ﴾ دلالة على كمال قبح افترائهم وتأكيدًا للتبكيت.
ومنها: جمع المؤكدات في قوله: ﴿أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ﴾ حيث أتى بحرف التنبيه، وبـ ﴿إِنَّ﴾ المؤكدة، وبالجملة الاسمية لزيادة تقرير مضمونها.
ومنها: الاعتراض في قوله: ﴿لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ فهاتان الجملتان اعتراض لتحقيق البشارة وتعظيم شأنها، وليس من شأن الاعتراض أن يقع في أثناء الكلام، اهـ "أبو السعود". وعبارة "التلخيص": ومنه الاعتراض، وهو أن يؤتى في أثناء كلام، أو بين كلامين متصلين معنى، بجملة أو أكثر، لا محل لها من الإعراب، لنكتة، سوى دفع الإيهام، انتهت.
ومنها: الاحتباك في قوله: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ حيث حذف من كل نظير ما أثبته في الآخر، فحذف من الأول وصف الليل وهو مظلمًا، وذكر حكمته وحذف من الثاني لحكمه وذكر وصفه مبصرًا، والأصل هو الذي جعل لكم الليل مظلمًا، لتسكنوا فيه، والنهار مبصرًا لتبتغوا وتتحركوا فيه.
ومنها: المجاز العقلي في قوله: ﴿وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا﴾ فإن إسناد الإبصار إلى
ومنها: الزيادة والحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (٧١) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٧٢) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (٧٣) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (٧٤) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (٧٥) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (٧٦) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (٧٧) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (٧٨) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (٧٩) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (٨٠) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (٨١) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨٢) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (٨٣) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٨٥) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٨٦) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٨٧)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر الدلائل على وحدانيته، وذكر ما جرى بين الرسول وبين الكفار.. ذكر قصصًا من قصص الأنبياء، وما جرى لهم مع قومهم
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) ذكر عناد المشركين لرسوله - ﷺ -، وتكذيبهم له، بعد أن قامت البراهين على صدقه.. أردف ذلك بذكر أقوام الرسل قبله تسلية له، - ﷺ -، وبيانًا بأن قومه لم يكونوا بدعًا في عنادهم وتكذيبهم له، بل سبقهم في مثل فعلهم كثير من سالفي الأمم، وكانت العاقبة فوز الرسل عليهم، وأمّ الله لهم النصر، فلعل أولئك القوم يتدبرون حالهم، فينزجروا بما فيه مزدجر لهم، ويعترفوا بصدقه، - ﷺ -، ويؤمنوا به قبل أن تفوت الفرصة السانحة، فيندمون، ولات ساعة مندم.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (٢) ذكر قصص نوح مع قومه، وبين عاقبة أمرهم حين كذبوه ونصر الله له عليهم.. بين هنا عبرة أخرى من عبر مكذبي الرسل، وسنةً من سننه فيهم، عسى أن يعتبر بها أهل مكة، فيعلموا أن لله سننًا لا تبديل فيها، ولا تحويل، فيتقوا مثل تلك العاقبة التي حلت بمن قبلهم، من المكذبين من قوم نوح وغيرهم، واتقاؤه في مكنتهم، وهو بأيديهم يمكنهم أن يجتنبوه ويبتعدوا عن أسبابه كالكفر والاعتداء والظلم ونحوها.
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ...﴾ الآية، أفردت قصة موسى وهارون مع فرعون وملئه، وفصلت تفصيلًا وافيًا، لما لها من شديد الخطر وعظيم الأثر إذ فيها من العبرة أن قوة الحق تثل العروش وتهد أركان الباطل، وإن علا أصحابه فقد كان الفَلْج والظفر لموسى على ذلك الطاغية، الذي قال:
(٢) المراغي.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ...﴾ الآيات، مناسبتها لما قبلها: لما كانت الآيات الماضية في ذكر الحوار بين موسى وفرعون.. ذكر هنا ما فعل فرعون في مقاومة دعوة موسى، لصد الناس عن اتباعه، باعتبار أنه ساحر، فأحضر السحرة ليقاوموا عمله، ويتغلبوا عليه فيبطلوا حجته.
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآيات لما قبلها، لما ذكر الله سبحانه وتعالى ما فعله فرعون لمقاومة دعوة موسى.. أردف ذلك بذكر ما كان من بني إسرائيل مع موسى، توطئةً لإخراجهم من أرض مصر.
التفسير وأوجه القراءة
٧١ - ﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ﴾؛ أي: واقرأ أيها الرسول على المشركين من أهل مكة وغيرهم، فيما أوعدتهم به من عقاب الله لهم، على مقتضى سننه في المكذبين لرسله من قبلك ﴿نَبَأَ نُوحٍ﴾؛ أي: بعض خبر نوح وقصته مع قومه، الذين هم أشباه قومك في العناد، ليصير داعيًا إلى مفارقة الإنكار للتوحيد والنبوة ﴿إِذْ قَالَ﴾ نوح؛ أي: حين قال ﴿لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ﴾؛ أي: شق عليكم وثقل ﴿مَقَامِي﴾ فيكم؛ أي: قيامي فيكم بالدعوة إلى عبادة ربكم، أو مكثي فيكم مدة طويلة ﴿وَتَذْكِيرِي﴾؛ أي: مع وعظي إياكم ﴿بِآيَاتِ﴾ التكوينية والتنزيلية الدالة على وحدانيته، ووجوب عبادته، فالواو بمعنى: مع، والمعنى: إن كان عظم عليكم مكثي بينكم مع تذكيري بآيات الله ﴿فَعَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا على غيره ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ واعتمدت ووثقت به وفوضت أمري إليه، وهذه الجملة جواب الشرط، والمعنى: إني لا أقابل ذلك منكم إلا بالتوكل على الله، فإن ذلك دأبي الذي أنا عليه قديمًا وحديثًا. ويجوز أن يكون جواب الشرط ﴿فَأَجْمِعُوا﴾ وجملة ﴿فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾ اعتراض كقولك: إن كنت أنكرت عليّ شيئًا فالله حسبي.
والمعنى عليه: يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي فيكم.. فإنني قد وكلت أمري إلى الله الذي أرسلني، واعتمدت عليه وحده، بعد أن أديت رسالته بقدر
والخلاصة (٢): أن نوحًا طلب إلى قومه على كثرتهم وقوتهم أن يفعلوا ما استطاعوا من الإيقاع به، مطالبةً المدل الواثق ببأسه وقوته، المعتصم بإيمانه بوعد ربه وتوكله عليه، فأمرهم بإجماع أمرهم بصادق العزيمة، وقوة الإرادة، وأن يضموا إلى هذه القوة النفسية قوة الإيمان بشركائهم وآلهتهم، وأن لا يكون في أمرهم الذي أجمعوا عليه شيء من الغمة والخفاء، الذي قد يوجب الوهن والتردد في التنفيذ.
وقرأ الجمهور (٣): ﴿مَقَامِي﴾ بفتح الميم؛ أي: قيامي بالتذكير والدعوة إلى التوحيد. وقرأ أبو مجلز وأبو رجاء وأبو الجوزاء ﴿مقامي﴾ بضمها؛ أي: إقامتي ومكثي بين أظهركم. وقرأ الجمهور: ﴿فأجمعوا﴾ بقطع الهمزة من أجمع الرجل
(٢) المراغي.
(٣) البحر المحيط بتصرف وتلخيص.
أَجْمَعُوْا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا | أَصْبَحُوْا أصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ |
وقرأ (١) أبو عبد الرحمن والحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وسلام ويعقوب فيما روي عنه: ﴿وشركاؤكم﴾ بالرفع ووجه بأنه عطفه على الضمير في ﴿فأجمعوا﴾ وقد حصل الفصل بالمفعول فحسن، أو على أنه مبتدأ محذوف الخبر، لدلالة ما قبله عليه؛ أي: وشركاؤكم فليجمعوا أمرهم. وقرأت فرقة: وشركائكم بالخفض عطفًا على الضمير في أمركم؛ أي: وأمر شركائكم فحذف كقول الآخر:
أكُلَّ امْرِىءٍ تَحْسَبِيْنَ امْرَأً | وَنَارٍ تَوَقَّدُ بِاللَّيْلِ نَارَا |
وهذا الكلام (١) من نوح عليه السلام على طريق التعجيز لهم، أخبر الله عز وجل عن نوح عليه السلام: أنه كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله، وأنه كان وائقًا بنصره إياه، غير خائف من كيدهم، علمًا منه بأنهم وآلهتهم ليس لهم نفع ولا ضر، وأن مكرهم لا يصل إليه.
٧٢ - ثم بين لهم أن كل ما أتى به إليهم، من الإعذار، والإنذار، وتبليغ الشريعة عن الله، ليس هو لطمع دنيوي، ولا لغرض خسيس، فقال: ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾؛ أي: فإن أعرضتم عن العمل بنصحي لكم، وتذكيري إياكم، أي: إن دمتم على إعراضكم بعد دعائي إياكم، وتبليغ رسالة ربي إليكم ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ﴾؛ أي: فلن يضرني ذلك؛ لأني لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرًا ولا جزاءً تؤدونه إليّ حتى تتهموني فيما جئت به، فجواب الشرط محذوف، كما في "الشهاب" والفاء في ﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾ لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والفاء في ﴿فَمَا سَأَلْتُكُمْ﴾ جزائية ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى، أي: ما جزاء عملي وثواب دعوتي، إلا على ربي الذي أرسلني إليكم، فهو يوفيني إياه، آمنتم أو توليتم ﴿وَأُمِرْتُ﴾ من جهة ربي ﴿أَنْ أَكُونَ﴾ بالفعل ﴿مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾؛ أي: من المنقادين لما أدعوكم إليه، الذين يجعلون أعمالهم خالصة لله سبحانه وتعالى، لا يأخذون عليها أجرًا، ولا يطمعون في عاجل، أو من (٢) المسلمين لكل ما يصعب من البلاء؛ أي: من المستسلمين لأمر الله، ولكل مكروه يصل إليّ منكم، لأجل هذه الدعوة. قرأ (٣) أل المدينة وأبو عمرو وابن عامر وحفص، بتحريك الياء من أجري. وقرأ الباقون، بالسكون.
٧٣ - ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾؛ أي: فكذب نوحًا قومه؛ أي: استمروا على تكذيبه وأصروا
(٢) أبو السعود.
(٣) الشوكاني.
وقيل: الخطاب في ﴿فَانْظُرْ﴾ للسامع لهذه القصة، وفي ذلك تعظيم لما جرى عليهم وتحذير لمن أنذرهم الرسول، وتسلية له، - ﷺ -، وتهديد للمشركين وتهويل عليهم
٧٤ - ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ﴾؛ أي: ثم أرسلنا من بعد نوح عليه السلام ﴿رُسُلًا﴾ مثله كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب ﴿إِلَى قَوْمِهِمْ﴾؛ أي: إلى أقوامهم الذين كانوا مثل قومه، في تكذيب رسلهم، فقد أرسل هود إلى عاد وصالح إلى ثمود، ولم يرسل رسول منهم إلى كل الأقوام، الذين كانوا في زمانه، إلا شعيبًا، فإنه أرسل إلى قومه، أهل مدين وإلى جيرانهم، أصحاب
وعبارة "الشوكاني" هنا: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾؛ أي (٢): فما أحدثوا الإيمان بل استمروا على الكفر وأصروا عليه، والمعنى: أنه ما صح ولا استقام لقوم من أولئك الأقوام، الذين أرسل الله إليهم رسله؛ أن يؤمنوا في وقت من الأوقات ﴿بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾؛ أي: من قبل تكذيبهم الواقع منهم عند مجيء الرسل إليهم.
والمعنى: أن كل قوم من العالم لم يؤمنوا زمن أن أرسل الله إليهم الرسول المبعوث إليهم على الخصوص بما كانوا مكذبين به من قبل مجيئه إليهم؛ لأنهم كانوا غير مؤمنين بل مكذبين بالدين، ولو كانوا مؤمنين لم يبعث إليهم رسولًا وهذا مبني على أن الضمير في قوله: ﴿فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ وفي قوله: ﴿بِمَا كَذَّبُوا﴾ راجع إلى القوم المذكورين في قوله: ﴿إِلَى قَوْمِهِمْ﴾ وقيل: ضمير ﴿كَذَّبُوا﴾ راجع إلى قوم نوح؛ أي: فما كان قوم الرسل ليؤمنوا بما كذب به قوم نوح، من قبل أن يأتي هؤلاء الأقوام، الذين جاؤوا من بعدهم وجاءتهم رسلهم بالبينات. وقيل: إن الباء في ﴿بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ﴾ للسببية؛ أي: فما كانوا ليؤمنوا عند مجيء الرسل بسبب ما اعتادوه من تكذيب من قبل مجيئهم وفيه نظر. وقيل المعنى: بما كذبوا به من قبل؛ أي: في عالم الذر، فإن فيهم من كذب
(٢) الشوكاني.
٧٥ - ﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ هذا عطف قصة على قصة، وخاص على عام، لمزيد الغرابة في وقائع موسى مع فرعون، كل هذا تسلية للنبي، - ﷺ -؛ أي: ثم أرسلنا من بعد أولئك الرسل، صلوات الله وسلامه عليهم، ﴿مُوسَى﴾ بن عمران ﴿و﴾ أخاه ﴿هارون﴾ معه ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾؛ أي: إلى فرعون مصر وأشراف قومه، وخصهم بالذكر؛ لأن قومهم القبط كانوا تبعًا لهم، يكفرون بكفرهم ويؤمنون بإيمانهم إن آمنوا، ويرجعون إليهم في إقامة المصالح والمهمات حالة كونهما مؤيدين ﴿بِآيَاتِنَا﴾ التسع المبينة في سورة الأعراف، وخص موسى وهارون بالذكر مع دخولهما تحت الرسل، لمزيد شرفهما وخطر شأن ما جرى بينهما وبين فرعون ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ عن قبولها ولم يتواضعوا لها؛ أي: أعرضوا عن الإيمان بها كبرًا وعلوًا، مع علمهم بأن ما جاءا به هو الحق لما كانوا عليه من العلم بصناعة السحر ﴿و﴾ لما ﴿كانوا قوما مجرمين﴾؛ أي: راسخين في الإجرام والظلم والفساد في الأرض، فبسبب ذلك اجترؤوا على ردها؛ لأن الذنوب تحول بين صاحبها وبين إدراك الحق وإبصار الصواب. قيل: وهذه الجملة معترضة مقررة لمضمون ما قبلها، والاستكبار (٢): ادعاء الكبر من غير استحقاق، والفاء فيه فاء
(٢) الفتوحات.
٧٦ - ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ﴾؛ أي: فلما جاء فرعون وقومه الحق، الذي جاء به موسى من عند الله تعالى، من الحجج والمعجزات الدالة على الربوبية والألوهية ﴿قَالُوا﴾ من فرط عتوهم وعنادهم ﴿إِنَّ هَذَا﴾ الذي جاء به موسى ﴿لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾ واضح لمن رآه وعاينه يعرفه كل أحد قالوا (١): - لحبهم الشهوات - إن هذا لسحر مبين، وهم يعلمون أن الحق أبعد شيء من السحر، الذي ليس إلا تمويهًا وباطلًا، ولم يقولوا: إن هذا لسحر مبين إلا عند معاينة العصا وانقلابها، واليد وخروجها بيضاء، ولم يتعاطوا إلا مقاومة العصا، وهي معجزة موسى التي وقع فيها عجز المعارض. وقرأ (٢) مجاهد وابن جبير والأعمش: ﴿لساحر مبين﴾ جعل خبر إن اسم فاعل، لا مصدرًا. لقراءة الجماعة.
٧٧ - ﴿قَالَ﴾ لهم موسى على وجه الإنكار والتوبيخ ﴿أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ﴾ الواضح الظاهر وهو أبعد الأشياء عن السحر، الذي هو باطل ﴿لَمَّا جَاءَكُمْ﴾؛ أي: حين جاءكم إنه سحر، من غير أن تترووا، وتتدبروا فيه، وما ترونه بأعينكم من آيات الله، وترجف له قلوبكم من عظمته، لا يمكن أن يكون سحرًا من جنس ما تعرفونه وتصنعونه بأيديكم، ومقولهم محذوف، كما قدرناه في الحل آنفًا، بقولنا: إنه سحر. والاستفهام هنا وفيما بعده للإنكار، كما أشرنا إليه. ثم استأنف إنكار ما قالوه فقال؛ ﴿أَسِحْرٌ هَذَا﴾ خبر ومبتدأ؛ أي: أسحر هذا الحق الذي جئت به الذي أمره واضح مكشوف وشأنه مشاهد معروف، لا يعني إنه ليس بسحر. وجملة قوله: ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾ في محل نصب على الحال من واو أتقولون، والرابط هو الواو بلا ضمير، كما في قول من قال: جاء الشتاء ولست أملك عدة؛ أي: أتقولون للحق إنه سحر، والحال أنه؛ أي: أن الشأن والحال لا يفلح الساحرون، أي: لا يظفرون بمطلوب ولا يفوزون بخير ولا ينجون من مكروه، فكيف يقع في هذا من هو مرسل من عند رب العالمين؟ وقد أيده بالمعجزات
(٢) البحر المحيط.
٧٨ - وجملة قوله: ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا﴾ مستأنفة استئنافًا بيانيًّا، واقعًا في جواب سؤال مقدر تقديره: فماذا قالوا بعد أن قال لهم موسى ما قال؛ أي: قالوا لموسى منكرين ﴿أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾؛ أي: لتصرفنا ﴿عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ من عبادة الأصنام ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ﴾؛ أي: الملك والعز ﴿فِي الْأَرْضِ﴾؛ أي: في أرض مصر ﴿وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾؛ أي: بمصدقين والهمزة في ﴿أَجِئْتَنَا﴾ للاستفهام الإنكاري بمعنى النفي؛ أي (١): قالوا له منكرين: ما جئتنا إلا لتصرفنا عما وجدنا عليه آباءنا وأجدادنا من ديننا، لنتبع دينك وتكون لك ولأخيك كبرياء الرياسة الدينية وما يتبعها، من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية التابعة لها في أرض مصر كلها، وما نحن بمتبعين لكما اتباع إيمان وإذعان، فيما يخرجنا من دين آبائنا، الذي تدين به عامتنا وتتمتع بكبريائه خاصتنا، وهم الملك وأشراف قومه.
والخلاصة: أنه لا غرض لك من تلك الدعوة إلا هذا، وإن لم تعترف به، وقد وجهوا الخطاب أولًا لموسى؛ لأنه هو الداعي لهم، وأشركوا معه أخاه في فائدة الدعوى، والغرض منها، وهي الكبرياء في الأرض؛ لأنهما سيشتركان فيها. وقرأ (٢) ابن مسعود وإسماعيل والحسن فيما زعم خارجة وأبو عمرو وعاصم، بخلاف عنهما ويكون بالياء التحتانية لمجاز تأنيث الكبرياء. وقرأ الجمهور: بالتاء الفوقانية لمراعاة تأنيث اللفظ.
٧٩ - ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ لملئه بعد أن يئس من إلزامه بالقول: اعملوا على دفع حجته بالفعل و ﴿ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ بفنون السحر حاذق ماهر فيه، قال: هكذا، لما رأى اليد البيضاء والعصا؛ لأنه اعتقد أنهما من السحر فأمر قومه بأن يأتوه بكل ساحر عليم. والمخاطب بقوله: ﴿ائْتُونِي﴾ خدمة فرعون، والمتصرفون بين يديه. وقرأ (٣) ابن مصرف وابن وثاب وعيسى وحمزة
(٢) البحر المحيط.
(٣) البحر المحيط.
٨٠ - قوله: ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ﴾ معطوف على محذوف، تقديره: فأتوا بالسحرة، فلما جاء السحرة ﴿قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾؛ أي: اطرحوا على الأرض ما معكم من الحبال والعصي؛ أي: قال لهم هذه المقالة بعد أن خيروه بين أن يلقي ما عنده أولًا، أو يلقوا ما عندهم، كما جاء ذلك في سورتي الأعراف وطه، ليظهر الحق ويبطل الباطل
٨١ - ﴿فَلَمَّا أَلْقَوْا﴾ حبالهم وعصيهم السحرية واسترهبوا الناس ﴿قَالَ﴾ لهم ﴿مُوسَى﴾ غير مبالٍ بهم، ولا بما صنعوا ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ﴾؛ أي: إن هذا الذي فعلتم وألقيتموه أمام النظارة هو السحر؛ أي: التمويه الذي يظهر بطلانه، لا ما جئت به من الآيات البينات من عند الله، تعالى. وقد سماه فرعون وملؤه سحرًا. وقرأ أبو عمرو ومجاهد وأصحابه وابن القعقاع وأبو جعفر بهمزة الاستفهام في قوله: ﴿السحر﴾ بإبدال (١) الهمرة الثانية ألفًا، ومدها مدًّا لازمًا، أو بتسهيلها من غير قلب، وعلى كليهما تجب الإمالة في موسى والمعنى: والذي جئتم به، أهو السحر أم لا؟ وهو استفهام على وجه التحقير والتوبيخ. وقرأ باقي السبعة والجمهور، بهمزة الوصل، والتقدير على الاستفهام، أهو السحر أم لا؟ وتكون ما استفهامية منصوبة بـ ﴿جِئْتُمْ﴾ و ﴿السِّحْرُ﴾ خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أي شيء جئتم به، أهو السحر أم لا؟ وعلى قراءة همزة الوصل، تكون ﴿مَا﴾ موصولة مبتدأة والخبر ﴿السِّحْرُ﴾. وقرأ عبد الله والأعمش ﴿ما جئتم به سحر﴾. وقرأ أبي ﴿ما أتيتم به سحر﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿سَيُبْطِلُهُ﴾؛ أي: سيظهر بطلان ما جئتم به ويمحقه به بما يظهره على يدي، من الآيات المعجزة حتى يظهر للناس أنه صناعة لا آية خارقة للعادة، وحجة واضحة على بطلان حجتي.
ثم علل ما قال، ببيان سنن الله في تنازع الحق والباطل والصلاح والفساد
٨٢ - ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ﴾؛ أي: ويثبت الله الحق الذي فيه صلاح الخلق، وينصره على ما يعارضه من الباطل ويبينه ويوضحه ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾ التنزيلية التي أنزلها في كتبه على أنبيائه، لاشتمالها على الحجج والبراهين، وبكلماته التكوينية وقضاياه السابقة في وعده. وقال ابن سلام، بكلماته بقوله: ﴿لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ وهي مقتضى إرادته التشريعية التي يوحيها إلى رسله، ومن ثم سينصر موسى على فرعون، وينقذ قومه من عبوديته، والواو في قوله: ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ﴾ للعطف على سيبطله. وقرىء ﴿بكلمته﴾ على التوحيد؛ أي: بأمره ومشيئته ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ من آل فرعون، أو المجرمون على العموم، ويدخل تحتهم آل فرعون دخولًا أوليًّا. والإجرام: الآثام؛ أي: ويظهر الله الحق وينصره، ولو كره من اتصف بالإجرام والآثام، إظهاره كفرعون وملئه.
٨٣ - وقوله: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ﴾ لما ذكر الله سبحانه وتعالى ما أتى به موسى، عليه السلام، من المعجزات العظيمة الباهرة، أخبر الله سبحانه وتعالى، أنه مع مشاهدة هذه المعجزات، ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، وإنما ذكر الله عَزَّ وَجَلَّ هذا تسلية لنبيه محمَّد، - ﷺ -؛ لأنه كان كثير الاهتمام بإيمان قومه، وكان يغتم بسبب إعراضهم عن الإيمان به واستمرارهم على الكفر، والتكذيب، فبين الله سبحانه وتعالى، أن له أسوة بالأنبياء، عليهم الصلاة والسلام؛ لأن الذي جاء به موسى، عليه السلام، كان أمرًا عظيمًا، ومع ذلك فما آمن معه إلا ذرية من قومه.
والفاء في قوله: ﴿فَمَا آمَنَ﴾ عاطفة على مقدر فصل في مواضع أخر؛ أي: فألقى عصاه. فإذا هي تلقف ما يأفكون، فمع ظهور تلك المعجزات الباهرة ما آمن لموسى؛ أي: فما انقاد واستسلم لموسى إلا ذرية قلائل من قومه؛ أي: فما آمن من قوم موسى إلا قليل منهم، وهم بنو إسرائيل، الذين كانوا بمصر من أولاد يعقوب، وذلك أن موسى دعا الآباء إلى دينه فلم يجيبوا خوفًا من فرعون، وأجابته طائفة من شبانهم مع الخوف ﴿عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ﴾؛ أي: آمنوا
﴿وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾؛ أي: لمن المجاوزين الحد في الظلم والفساد، بكثرة القتل والتعذيب، لمن يخالفه في أمر من الأمور، وبالكبر وغمص الحق واحتقار الخلق، ومن ثم ادعى الربوبية واسترق أسباط الأنبياء،
٨٤ - ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ لمن آمن من قومه وقد رأى خوفهم من الفتنة والاضطهاد ﴿يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ﴾ حق الإيمان ﴿فَعَلَيْهِ﴾ سبحانه وتعالى لا على غيره ﴿تَوَكَّلُوا﴾؛ أي: اعتمدوا وبوعده فثقوا ﴿إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ﴾؛ أي: مذعنين مستسلمين منقادين لأمره تعالى، إذ لا
٨٥ - ﴿فَقَالُوا﴾؛ أي: فقال: قوم موسى مجيبين له ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ سبحانه وتعالى لا على غيره ﴿تَوَكَّلْنَا﴾؛ أي: اعتمدنا في أمورنا كلها ثم دعوا ربهم فقالوا: ﴿رَبَّنَا﴾ ويا مالك أمرنا ﴿لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾؛ أي: لا تجعلنا موضع فتنة لهم؛ أي: مفتونين لهم؛ أي (٢): لا تمكنهم من أن يحملونا بالقهر على أن ننصرف عن هذا الدين الحق، الذي قبلناه أو المعنى (٣): لا تظهرهم علينا، ولا تهلكنا بذنوبهم فيظنوا أنا لم نكن على الحق فيزدادوا طغيانًا وكفرًا. وقال مجاهد لا تعذبنا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: لو كانوا على حق لما عذبوا، ويظنوا أنهم خير منا فيفتتنوا بذلك. وقيل معناه: لا تسلطهم علينا فيعذبونا، حتى يفتنونا عن ديننا.
٨٦ - ولما قدموا التضرع إلى الله سبحانه في أن يصون دينهم عن الفساد.. أتبعوه بسؤال عصمة أنفسهم فقالوا: ﴿وَنَجِّنَا﴾؛ أي: خلصنا ﴿بِرَحْمَتِكَ﴾ وحفظك وغوثك وإحسانك وإنعامك ﴿مِنَ﴾ أيدي ﴿الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾؛ أي: من أيدي فرعون وقومه، ومن سوء جوارهم وشؤم مصاحبتهم؛ لأنهم كانوا يستعبدونهم ويستعملونهم في الأعمال الشاقة. وفي هذا دليل على أنه كان لهم اهتمام بأمر الدين فوق اهتمامهم بسلامة أنفسهم.
(٢) المراح.
(٣) الخازن.
٨٧ - وقوله: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ...﴾ الآية، لما أرسل (٢) موسى أمر فرعون بمساجد بني إسرائيل فخربت كلها، ومنعوا من الصلاة فأمروا أن يتخذوا مساجد في بيوتهم ويصلون فيها خوفًا من فرعون، فذلك قوله: ﴿أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا﴾؛ أي: وقلنا لموسى وأخيه هارون اتخذا واجعلا لقومكما ﴿بِمِصْرَ بُيُوتًا﴾؛ أي: بيوتًا في مصر تكون مساكن وملاجىء، تعتصمون بها ومرجعًا ترجعون إليها للعبادة.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى أوحى إلى موسى وأخيه أن يتخذا لقومهما مساكن، بأرض مصر، يتوطنون بها، ويعبدون الله فيها رغمًا عن أنف عدوهم فرعون، وهذا طمأنينة للقوم، فإنهم كانوا خائفين من فرعون. وقيل: مصر (٣) في هذه الآية هي الإسكندرية، وقيل: هى مصر المعروفة لا الإسكندرية، ومصر من البحر إلى أسوان والإسكندرية من أرض مصر. وقرأ حفص في رواية هبيرة ﴿تبويا﴾ بالياء وهذا تسهيل غير قياسي، ولو جرى على القياس، لكان بين الهمزة والألف، ذكره أبو حيان.
﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾؛ أي: اجعلوها مستقبلة للقبلة لتصلوا فيها سرًّا، لئلا يصيبكم من الكفار معرة بسبب الصلاة، كما كان المؤمنون في أول الإِسلام بمكة على هذه الحالة، والمراد بالقبلة جهة بيت المقدس؛ لأنها قبلة اليهود إلى اليوم. وقيل: جهة الكعبة، وأنها قبلة موسى ومن معه ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ التي
(٢) تفسير الواحدي.
(٣) الشوكاني.
وإنما (١) جعل الخطاب في أول الكلام مع موسى وهارون، ثم جعله لهما ولقومهما في قوله: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ﴾ ثم أفرد موسى بالخطاب بعد ذلك في قوله: ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾؛ لأن اختيار المكان مفوض إلى الأنبياء، ثم جعل عامًّا في استقبال القبلة وإقامة الصلاة؛ لأن ذلك واجب على الجميع لا يختص بالأنبياء، ثم جعل خاصًّا بموسى؛ لأنه الأصل في الرسالة، وهارون تابع له، فكان ذلك تعظيمًا للبشارة وللمبشر بها. وقيل: إن الخطاب في ﴿وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لنبينا محمَّد - ﷺ - على طريقة الالتفات والاعتراض والأول أولى.
وعبارة المراغي هنا: وإنما خص موسى بالتبشير؛ لأن بشارة الأمة وظيفة صاحب الشريعة وأشرك معه هارون في أمر قومهما بالتبوؤ؛ لأنه مما يتولاه الرؤساء بتشاور بينهم، فهو تدبير عملي يقوم به هو ووزيره المساعد على تنفيذه، انتهت.
الإعراب
﴿وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ﴾.
﴿وَاتْلُ﴾ ﴿الواو﴾: استئنافية ﴿اتْلُ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿عَلَيْهِمْ﴾، متعلق به ﴿نَبَأَ نُوحٍ﴾، مفعول به ومضاف إليه، والجملة مستأنفة ﴿إِذْ﴾؛ ظرف لما مضى من الزمان، متعلق بـ ﴿نَبَأَ﴾. ﴿قَالَ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿نُوحٍ﴾ والجملة في محل الجر مضاف إليه
﴿يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ﴾.
﴿يَا قَوْمِ﴾: إلى قوله: ﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت يا: حرف نداء ﴿قوم﴾: منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنْ﴾: حرف شرط. ﴿كَانَ﴾ في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونها شأنية واسمها ضمير مستتر فيها، تقديره: هو، يعود إلى الشأن، أو زائدة لزيادتها بين أداة الشرط وفعله. ﴿كَبُرَ﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق به ﴿مَقَامِي﴾ فاعل ﴿كَبُرَ﴾. ﴿وَتَذْكِيرِي﴾ معطوف عليه ﴿بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿تَذْكِيرِي﴾ ﴿فَعَلَى اللَّهِ﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية ﴿عَلَى اللَّهِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ ﴿تَوَكَّلْتُ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه جواب الشرط، ويجوز أن تكون جملة ﴿تَوَكَّلْتُ﴾ معترضة، فيكون الجواب جملة ﴿أجمعوا﴾ وهذا أولى؛ لأنه لا يصح أن يكون توكلت جوابًا؛ لأنه لا يحسن ترتبه على الشرط، إذ هو متوكل على الله دائمًا، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول: قال، على كونها جواب النداء ﴿فَأَجْمِعُوا﴾ الفاء: رابطة أو عاطفة ﴿أجمعوا أمركم﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل الجزم معطوفة على الجواب، أو هي جواب الشرط ﴿وَشُرَكَاءَكُمْ﴾: منصوب على كونه مفعولًا معه ولا يصح كونه معطوفًا على ﴿أَمْرَكُمْ﴾؛ لأن الشركاء ذوات لا يتسلط عليه ﴿أجمعوا﴾ إلا بقلة ويصح نصبه بإضمار فعل لائق، نحو: واستعينوا شركاءكم أو ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ﴾ واجمعوا شركاءكم، بهمزة الوصل على حد علفتها تبنًا، وماءً باردًا، أو يقدر مضاف في المعطوف، والتقدير: فأجمعوا أمركم وأمر شركائكم ﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿لَا﴾: ناهية ﴿يَكُنْ﴾: فعل مضارع ناقص معطوف على ﴿أجمعوا﴾: على كونه جواب الشرط ﴿أَمْرُكُمْ﴾: اسم ﴿يَكُنْ﴾. ﴿عَلَيْكُمْ﴾ متعلق بـ ﴿غُمَّةً﴾ ﴿غُمَّةً﴾ خبر يكن منصوب ﴿ثُمَّ اقْضُوا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾
﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
﴿فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفتم ما قلته لكم، وأردتم بيان شأني فيما إذا توليتم.. فأقول لكم ﴿إن﴾: حرف شرط. ﴿تَوَلَّيْتُمْ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها. ﴿فَمَا﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا، لكون الجواب مقرونًا بـ ﴿ما﴾ النافية ﴿ما﴾ نافية ﴿سَأَلْتُكُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونه جوابًا لها. ﴿مِنْ أَجْر﴾: مفعول ثانٍ لـ ﴿سأل﴾ و ﴿مِن﴾: زائدة، أو يقال: جواب ﴿إنْ﴾ الشرطية محذوف، تقديره: فإن توليتم، فلا ضير عليّ؛ لأني ما سألتكم عليه من أجر، والفاء في ﴿سَأَلْتُكُمْ﴾ تعليل للجواب المحذوف وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول لجواب ﴿إذَا﴾ المقدرة وجملة ﴿إذَا﴾ المقدرة مستأنفة على كونها مقول، قال. ﴿إِنْ أَجْرِيَ﴾ ﴿إنْ﴾ نافية ﴿أجري﴾: مبتدأ ومضاف إليه. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ. ﴿عَلَى اللَّهِ﴾: جار ومجرور خبر المبتدأ، والجملة في محل النصب مقول قال ﴿وَأُمِرْتُ﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول قال ﴿أَنْ أَكُونَ﴾ ﴿أَنْ﴾: حرف نصب ﴿أَكُونَ﴾: منصوب بها واسمها ضمير يعود على ﴿نُوحٍ﴾. ﴿مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ جار ومجرور خبر ﴿كَانَ﴾ وجملة ﴿أَنْ﴾ المصدرية مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وأمرت بكوني من المسلمين، والجار
﴿فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾.
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾: الفاء: عاطفة ﴿كذبوه﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة الفعلية في محل الجر معطوفة على جملة ﴿قَالَ﴾ على كونها مضافًا لـ ﴿إذْ﴾ ﴿فَنَجَّيْنَاهُ﴾ الفاء، عاطفة ﴿نجيناه﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿كَذَّبُواْ﴾ ﴿وَمَنْ مَعَهُ﴾ الواو: عاطفة ﴿مَنْ﴾: اسم موصول في محل النصب، معطوف على مفعول ﴿نجيناه﴾ ﴿مَعَهُ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة من الموصولة ﴿فِي الْفُلْكِ﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿نجيناه﴾ ﴿وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ﴾ فعل وفاعل ومفعولان معطوف على ﴿نجيناه﴾ ﴿وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة معطوفة أيضًا على جملة ﴿فَنَجَّيْنَاهُ﴾ ﴿كَذَّبوُاْ﴾ فعل وفاعل صلة الموصول ﴿بِآيَاتِنَا﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق به ﴿فَانْظُرْ﴾ الفاء عاطفة ﴿انظر﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة ﴿أَغْرَقْنَا﴾ ﴿كَيْفَ﴾ اسم استفهام في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم عليها، معلق للنظر عن العمل فيما بعده ﴿كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ﴾: فعل ناقص واسمه، ومضاف إليه، وجملة ﴿كَانَ﴾ في محل النصب سادة مسد مفعول انظر علقت عنها باسم الاستفهام.
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف ﴿بَعَثْنَا﴾ فعل وفاعل معطوف على قوله: ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ﴾ ﴿مِنْ بَعْدِهِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿بَعَثْنَا {رُسُلًا﴾ مفعول به ﴿إِلَى قَوْمِهِمْ﴾ جار ومجرور، ومضاف إليه متعلق بـ ﴿بَعَثْنَا﴾ ﴿فَجَاءُوهُمْ﴾: فعل وفاعل ومفعول معطوف على ﴿بَعَثْنَا﴾ ﴿بِالْبَيِّنَاتِ﴾: متعلق بـ ﴿جَاءُ﴾ ﴿فَمَا كَانُوا﴾ الفاء: عاطفة ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه ﴿لِيُؤْمِنُوا﴾ اللام: حرف جر وجحود ﴿يؤمنوا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد لام الجحود.
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ﴾.
﴿ثُمَّ بَعَثْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ جار ومجرور متعلق به ﴿مُوسَى وَهَارُونَ﴾ مفعول به ومعطوف عليه ﴿إِلَى فِرْعَوْنَ﴾: متعلق به أيضًا. ﴿وَمَلَئِهِ﴾: معطوف على ﴿فِرْعَوْنَ﴾ ﴿بآياتنا﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من ﴿مُوسَى وَهَارُونَ﴾؛ أي: حالة كونهما مؤيدين بآياتنا، وجملة ﴿بَعَثْنَا﴾: معطوفة على ﴿بَعَثْنَا﴾ الأول عطف قصة على قصة، وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام، لما في الخاص من الغرابة، كما ذكره "أبو السعود" ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ فعل وفاعل معطوف على محذوف مرتب عليه، تقديره: فأتياهم فبلغاهم الرسالة، فاستكبروا عن اتباعها، فالجملة المحذوفة معطوفة على جملة ﴿بَعَثْنَا﴾ ﴿وَكَانُوا﴾: فعل ناقص واسمه معطوف على ﴿استكبروا﴾ ﴿قَوْمًا﴾: خبرها ﴿مُجْرِمِينَ﴾ صفة له.
﴿فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت أنهم استكبروا عن آياتنا، وأردت بيان كيفية استكبارهم..
﴿قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾.
﴿قَالَ مُوسَى﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة. ﴿أَتَقُولُونَ﴾ إلى آخر الآية، مقول محكي، وإن شئت. قلت ﴿أَتَقُولُونَ﴾ الهمزة: للاستفهام الإنكاري ﴿تقولون﴾: فعل وفاعل ﴿لِلْحَقِّ﴾ جار ومجرور متعلق به؛ أي: في شأن الحق ولأجله ﴿لَمَّا﴾ ظرف بمعنى حين متعلق بـ ﴿تقولون﴾ ﴿جَاءَكُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعله، ضمير يعود على ﴿الْحَقِّ﴾ والجملة الفعلية في محل الجر، مضاف إليه لـ ﴿لَمَّا﴾ ومقول ﴿تقولون﴾ محذوف، تقديره أتقولون للحق لما جاءكم إنه سحر. وقوله: ﴿أَسِحْرٌ هَذَا﴾؛ من كلام موسى، والهمزة فيه للاستفهام الإنكاري. ﴿سحر﴾ خبر مقدم ﴿هَذَا﴾: مبتدأ مؤخر والجملة مستأنفة من جهة موسى، عليه السلام، تكذيبًا لقولهم وتوبيخًا إثر توبيخ، وتجهيلًا بعد تجهيل، كما ذكره "أبو السعود" ﴿وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول لـ ﴿قَالَ مُوسَى﴾.
﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا﴾.
﴿قَالُوا﴾: فعل وفاعل والجملة مستأنفة ﴿أَجِئْتَنَا...﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: الهمزة للاستفهام الإنكاري. ﴿جئتنا﴾: فعل وفاعل ومفعول والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالُوا﴾ ﴿لِتَلْفِتَنَا﴾: اللام حرف جر وتعليل ﴿تلفت﴾ فعل مضارع منصوب بأن مضمرة بعد لام كي، وفاعله ضمير يعود على ﴿مُوسَى﴾. ﴿نَا﴾: ضمير المتكلمين في محل النصب مفعول به، والجملة في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: للفتك وصرفك إيانا عن الحق
﴿عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿عَمَّا﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تلفتنا﴾ ﴿وَجَدْنَا﴾ فعل وفاعل ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق به وهو في محل المفعول الثاني. ﴿آبَاءَنَا﴾ مفعول أول، أو وجد هنا بمعنى أصاب يتعدى لمفعول واحد ﴿وَتَكُونَ﴾: فعل مضارع ناقص معطوف على ﴿تلفت﴾ ﴿لَكُمَا﴾: جار ومجرور خبر ﴿تَكُونَ﴾ مقدم على اسمها. ﴿الْكِبْرِيَاءُ﴾ اسم تكون مؤخر. ﴿فِي الْأَرْضِ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿الْكِبْرِيَاءُ﴾ أو بـ ﴿تَكُونَ﴾. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾ حجازية ﴿نَحْنُ﴾: في محل الرفع اسمها ﴿لَكُمَا﴾ متعلق ﴿بِمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿مؤمنين﴾ خبر ﴿ما﴾ الحجازية والباء: زائدة، والجملة في محل النصب معطوفة على ما قبلها على كونها مقولًا لـ ﴿قَالُوا﴾.
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾.
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ﴾ فعل وفاعل والجملة مستأنفة ﴿ائْتُونِي...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿ائْتُونِي﴾: فعل وفاعل ومفعول به. ﴿بِكُلِّ سَاحِرٍ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به. ﴿عَلِيمٍ﴾: صفة ﴿سَاحِرٍ﴾ والجملة الفعلية في محل النصب مقول لـ ﴿قَالَ﴾.
﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾.
﴿فَلَمَّا﴾ الفاء: عاطفة على محذوف، تقديره: فأتوا بالسحرة ﴿فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ﴾ ﴿لما﴾: حرف شرط غير جازم ﴿جَاءَ السَّحَرَةُ﴾: فعل وفاعل فعل شرط لـ ﴿لما﴾ ﴿قَالَ﴾: فعل ماض. ﴿لَهُمْ﴾ متعلق به ﴿مُوسَى﴾ فاعل، والجملة جواب ﴿لما﴾ وجملة ﴿لمّا﴾ من فعل شرطها وجوابها معطوفة على تلك الجملة المحذوفة ﴿أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿أَلْقُوا مَا﴾ فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ ﴿أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ مبتدأ وخبر، والجملة صلة ﴿مَا﴾ الموصولة والعائد محذوف، تقديره: ما أنتم ملقونه.
﴿فَلَمَّا﴾: الفاء: عاطفة على محذوف؛ تقديره: فألقى السحرة ما عندهم ﴿لما﴾: حرف شرط. ﴿أَلْقَوْا﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لما﴾ ﴿قَالَ مُوسَى﴾ فعل وفاعل والجملة جواب ﴿لما﴾ وجملة ﴿لما﴾ معطوفة على تلك الجملة المحذوفة ﴿مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ﴾ إلى آخر الآيتين مقول محكي، وإن شئت، قلت: ﴿مَا﴾: اسم موصول في محل الرفع مبتدأ ﴿جِئْتُمْ﴾: فعل وفاعل ﴿بِهِ﴾: متعلق به، والجملة صلة الموصول ﴿السِّحْرُ﴾: خبر المبتدأ والجملة الاسمية في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ وفي المقام أوجه أخر من الإعراب، تركناها خوف الإطالة ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾. ناصب واسمه ﴿سَيُبْطِلُهُ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾ والجملة في محل الرفع خبر ﴿إِنَّ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ ناصب واسمه. ﴿لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهَ﴾ وجملة ﴿إِنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ مسوقة لتعليل ما قبلها. ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ﴾: فعل وفاعل ومفعول، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾ على كونها معطوفة على قوله ﴿سَيُبْطِلُهُ﴾ ﴿بِكَلِمَاتِهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿يحق﴾ ﴿وَلَوْ كَرِهَ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة على محذوف، تقديره: ويحق الله الحق لو لم يكره المجرمون ﴿وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾ ﴿لو﴾: حرف شرط ﴿كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾: فعل وفاعل فعل شرط لـ ﴿لو﴾ وجوابها محذوف، تقديره: ولو كره المجرمون يحق الله الحق بكلماته، وجملة ﴿لو﴾ الشرطية معطوفة على تلك الجملة المحذوفة.
﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ﴾.
﴿فَمَا آمَنَ﴾ الفاء: عاطفة على محذوف، تقديره: فألقى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، كما ذكره في "الفتوحات" ﴿ما﴾: نافية ﴿آمَنَ﴾: فعل ماض ﴿لِمُوسَى﴾: متعلق به ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿ذُرِّيَّةٌ﴾ فاعل ﴿مِنْ قَوْمِهِ﴾: جار
﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (٨٤)﴾.
﴿وَقالَ﴾: الواو: استئنافية ﴿قال موسى﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿يَا قَوْمِ...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يَا قَوْمِ﴾: منادى مضاف وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿إنْ﴾: حرف شرط. ﴿كُنْتُمْ﴾ فعل ناقص واسمه في محل الجزم على كونه فعل شرط لها. ﴿آمَنْتُمْ﴾ فعل وفاعل ﴿بِاللَّهِ﴾: متعلق به، والجملة الفعلية في محل النصب خبر ﴿كَانَ﴾ ﴿فَعَلَيْهِ﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية ﴿عَلَيْهِ﴾ متعلق بـ ﴿تَوَكَّلُوا﴾ ﴿تَوَكَّلُوا﴾ فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه جوابًا لها، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء. ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿كُنْتُمْ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إنْ﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿مُسْلِمِينَ﴾ خبر ﴿كَانَ﴾ وجواب ﴿إنْ﴾ الشرطية معلوم مما قبلها، تقديره: إن كنتم مسلمين، فعليه توكلوا، وجملة ﴿إنْ﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قال﴾.
﴿فَقَالُوا﴾: الفاء: حرف عطف وتفريع ﴿قالوا﴾: فعل وفاعل، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ ﴿عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا...﴾ إلى آخر الآيتين: مقول محكي، وإن شئت، قلت: على الله متعلق بـ ﴿تَوَكَّلْنَا﴾ ﴿تَوَكَّلْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ ﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف، وجملة النداء مقول ﴿قالوا﴾ ﴿لَا تَجْعَلْنَا﴾ فعل ومفعولان، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ ﴿لِلْقَوْمِ﴾ متعلق بـ ﴿فِتْنَةً﴾ ﴿الظَّالِمِينَ﴾ صفة ﴿لِلْقَوْمِ﴾ وجملة ﴿تَجْعَلْنَا﴾ في محل النصب مقول ﴿قالوا﴾ على كونها جواب النداء.
﴿وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (٨٦)﴾.
﴿وَنَجِّنَا﴾: فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهِ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿لَا تَجْعَلْنَا﴾ ﴿بِرَحْمَتِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿نجنا﴾ وكذا يتعلق به الجار والمجرور في قوله: ﴿مِنَ الْقَوْمِ﴾ ﴿الْكَافِرِينَ﴾: صفة لـ ﴿الْقَوْمِ﴾.
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿وَأَوْحَيْنَا﴾ فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿إِلَى مُوسَى﴾: متعلق به ﴿وَأَخِيهِ﴾ معطوف على موسى ﴿أَنْ﴾: إما مفسرة لوجود ضابطها، وهو أن يتقدمها جملة فيها معنى القول دون حروفه، وإما مصدرية ﴿تَبَوَّآ﴾: فعل أمر وفاعل مبني على حذف النون أمر من تفعل مثل قوله تعالى: ﴿أن اصنع الفلك﴾ أو فعل أمر في محل النصب بأن المصدرية مبني على حذف النون ﴿لِقَوْمِكُمَا﴾ متعلق بـ ﴿تبوءا﴾ وهو في محل المفعول الأول والأقرب كون اللام زائدة في المفعول ﴿بِمِصْرَ﴾: متعلق بـ ﴿تَبَوَّآ﴾ أو حال من ضمير ﴿تبوءا﴾ أو حال من ﴿بُيُوتًا﴾. ﴿بُيُوتًا﴾، مفعول ثانٍ لـ ﴿تبوءا﴾ وجملة ﴿تبوءا﴾ صلة ﴿أَنْ﴾ المصدرية ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في تأويل مصدر منصوب على المفعولية ﴿لأوحينا﴾ تقديره: وأوحينا إلى موسى وأخيه التبوؤ لقومهما بمصر بيوتا ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾: فعل وفاعل ومفعولان
التصريف ومفردات اللغة
﴿نَبَأَ نُوحٍ﴾؛ أي: بعض نبأه مع قومه، إذ المذكور ليس جميع خبره، بل بعضه وتقدم أن اسمه عبد الغفار، وأن نوحًا لقبه. والنبأ: هو الخبر الذي له خطر وشأن. ﴿مَقَامِي﴾ والمقام: بفتح الميم، مكان القيام، وبضمها مكان الإقامة، أو الإقامة نفسها، والأول: من قام الثلاثي، والثاني: من أقام الرباعي، وفي "زاده"، والمقام إما اسم لمكان القيام، أو مصدر له، فعلى الأول يكون كناية عن النفس؛ لأن المكان من لوازمه، وعلى كونه مصدرًا، إما أن يراد به طول قيامه بينهم، أو قيامه على الدعوة والتذكير؛ لأنه مكث فيهم ألف سنة إلا خمسين عامًا، اهـ ﴿فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ﴾ أمر من الإجماع والإجماع: العزيمة على الأمر عزمًا لا تردد فيه، كما قال شاعرهم:
أَجْمَعُوْا أَمْرَهُمْ بِلَيْلٍ فَلَمَّا | أَصْبَحُوْا أَصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ |
﴿غُمَّةً﴾ والغمة: الستر واللبس، يقال: إنه لفي غمة من أمره إذا لم يهتد له، والإنظار: التأخير والإمهال. ﴿فِي الْفُلْكِ﴾ تقدم أن الفلك يستعمل مفردًا وجمعًا، والمراد هنا المفرد ﴿خَلَائِفَ﴾ يخلفون الذين هلكوا بالغرق، جمع خليفة، كصحائف وصحيفة ﴿نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ﴾ الطبع على القلوب هو عدم
﴿فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ﴾ تقدم أن الملأ أشراف الناس الذين يملؤون العيون بالمهابة، والمجالس بأجرامهم والاقتصار عليهم؛ لأنهم المتبوعون، وغيرهم من بقية قوم فرعون تبع لهم، هكذا قرره بعض المفسرين، وقرر بعضهم أن المراد بالملأ هنا، مطلق القوم، من استعمال الخاص في العام. ﴿فَاسْتَكْبَرُوا﴾ من باب استفعل والاستكبار ادعاء الكبر من غير استحقاق ﴿لِتَلْفِتَنَا﴾ اللفت والفتل أخوان، اهـ "أبو السعود"، وكلاهما من باب ضرب، ففي "المصباح" لفته لفتًا، من باب ضرب، صرفه إلى ذات اليمين أو الشمال، ومنه يقال: لفته عن رأيه إذا صرفته اهـ وفي "السمين" اللفت: اللي والصرف، لفته عن كذا؛ أي: صرفه ولواه عنه. وقال الأزهري: لفت الشيء وفتله: لواه، وهذا من المقلوب، قلت: ولا يدعى فيه قلب حتى يرجح أحد اللفظين في الاستعمال على الآخر. ﴿وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ﴾ والكبرياء، مصدر على وزن فعلياء، ومعناها: العظمة، وسمى الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمور الدنيا، قاله الزجاج، وقيل: سمي بذلك؛ لأن الملك يتكبر.
﴿ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ﴾ وقرىء سحار، والسحار، صيغة مبالغة؛ أي: كثير السحر كثير العلم بعمله وأنواعه، ﴿إِلَّا ذُرِّيَّةٌ﴾ الذرية في اللغة، صغار الأولاد وتستعمل في الصغار والكبار عرفًا، والذرية اسم يقع على القليل من القوم. قال ابن عباس: الذرية القليل، وقيل، المراد به: التصغير وقلة العدد ﴿فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ الفتنة والفتون: الابتلاء والاختبار الشديد، للحمل على الفعل أو الترك والمراد به هنا: الاضطهاد والتعذيب ﴿أن تبوءا﴾؛ أي: أن اتخذا لقومكما بيوتًا بمصر، يقال: تبوأ الدار، اتخذها مباءة ومسكنًا، يبوء ويرجع إليها كلما فارقها لحاجة، ويقال: بوأت زيدًا مكانًا، وبوأت لزيد مكانًا، والمبوأ: المنزل الملزوم ومثه بوأه الله منزلًا؛ أي ألزمه إياه وأسكنه فيه، ومنها الحديث "من كذب عليّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". ومنه قول الراجز:
نَحْنُ بَنُوْ عَدْنَانَ لَيْسَ شَكُّ | تَبَوَّأ الْمَجْدُ بِنَا وَالْمُلْكُ |
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة، وضروبًا من الفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الإسناد المجازي في قوله: ﴿إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي﴾؛ لأن حق الإسناد أن يكون للذات نظير ثقل عليّ ظله، كما في "الصاوي".
ومنها: تقديم المعمول على عامله لإفادة الحصر في قوله: ﴿فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾.
ومنها: الاعتراض بين الشرط وجوابه بقوله: ﴿فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ﴾ إن قلنا الجواب جملة ﴿فأجمعوا﴾ كما قاله الأكثرون.
ومنها: الاستعارة المكنية في قوله: ﴿ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ﴾ إذا كان من قضى دينه إذا أداه، فالهلاك مشبه بالدين على طريقة الاستعارة المكنية والقضاء تخييل، أو فيه تضمين واستعارة مكنية إذا كان من قضى، بمعنى حكم، والتقدير: احكموا بما تؤدونه إليّ.
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَلَا تُنْظِرُونِ﴾؛ لأن الإنظار حقيقة في إمهال دين المعسر، مجاز في تأخير الإهلاك.
ومنها: تأخير الإغراق عن ذكر الإنجاء والاستخلاف في قوله: ﴿فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ لإظهار كمال العناية بشأن المقدم، ولتعجيل المسرة للسامعين وللإيذان بسبق الرحمة، التي هي من مقتضيات الربوبية على الغضب، الذي هو من مستتبعات جرائم المجرمين، ذكره "أبو السعود".
ومنها: الإبهام في قوله: ﴿أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ﴾ إفادةً لتحقيره وعدم المبالاة به.
ومنها: الإظهار في موضع الإضمار في قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ﴾ للتسجيل عليهم بالإفساد والإشعار بعلة الحكم وحق العبارة أن الله لا يصلح عملكم كما في "الكرخي".
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ﴾.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ﴾ وقوله: ﴿وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ﴾ فكأنه قال إن الله يبطل الباطل ويحق الحق.
ومنها: إطلاق العام وإرادة الخاص في قوله: ﴿لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ﴾؛ لأن المراد بها أرض مصر.
ومنها: الحذف في عدة مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٨٨) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨٩) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩٠) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (٩١) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (٩٢) وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣) فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٩٤) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٩٥) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧) فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (٩٨) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٠) قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠١) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (١٠٢) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٣)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما (١) أبان جبروت فرعون
وعبارة أبي حيان: مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أنه لما بالغ (١) موسى عليه السلام في إظهار المعجزات، وهم مصرون على العناد، واشتد أذاهم عليه، وعلى من آمن معه، وهم لا يزيدون على عرض الآيات إلا كفرًا وعلى الإنذار إلا استكبارًا، وعلم بالتجربة وطول الصحبة، أنه لا يجيء منهم إلا الغي والضلال، أو علم ذلك بوحي من الله تعالى.. دعا الله تعالى عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، كما تقول: لعن الله إبليس وأخزى الكفرة، كما دعا نوح على قومه حين أوحى إليه، أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وقدم بين يدي الدعاء ما آتاهم الله تعالى، من النعمة في الدنيا، وكان ذلك سببًا للإيمان به، ولشكر نعمه، فجعلوا ذلك سببًا لجحوده ولكفر نعمه انتهت.
قوله تعالى: ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر (٢) ما دار من الحوار بين موسى وفرعون، وذكر ما أتى به موسى من الحجج والبينات الدالة على صدقه، وغلبه لسحرة فرعون، ولم يزده ذلك إلا كبرًا وعتوًا فدعا عليه بالطمس على الأموال، والشد على القلوب، وذكر استجابة الله دعوته.. قفى على ذلك بذكر خاتمة القصة: وهو ما كان من تأييد الله لموسى وأخيه، على ضعفهما وقوة فرعون وقومه، إذ كانت دولته أقوى دول العالم في عصره.
قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ...﴾
(٢) المراغي.
وعبارة المراغي هنا: مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر خاتمة فرعون (٢) وجنوده.. قفى على ذلك بذكر عاقبة بني إسرائيل، وفي هذا عبرة لمكذبي محمَّد، - ﷺ -، والجاحدين من قومه المغترين بقوتهم وكثرتهم وثروتهم، فقد كان فرعون وقومه أكثر منهم عددًا، وأشد قوة، وأوفر ثروة، وقد جعل الله سننه في المكذبين واحدةً، ففكروا أيها المكذبون في عاقبة أمركم، وتدبروا مليًّا خوف أن يحل بكم مثل ما حل بهم، وها هو ذا أهلك أكثر زعمائهم، وجعل العاقبة لأتباعه المؤمنين، وأعطاهم أعظم ملك في العالمين.
قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما قص (٣) قصص الأنبياء السالفين، وما لا قوه من أقوامهم، من العناد والجحود والاستكبار والعتو، وفي كل حال كان النصر حليف المؤمنين، والخذلان نصيب الظالمين.. أردف ذلك بذكر صدقه فيما قال: ووعد وأوعد، وكون ذلك سنّة الله في المكذبين قبل، وسيكون ذلك فيهم من بعد، وليس في هذا سبيل للافتراء والشك، وقد ساق ذلك بطريق التلطف في الأسلوب، فوجه الكلام إلى الرسول، - ﷺ -، والمراد قومه، فجاء على نحو قولهم: إياك أعني واسمعي يا جارة، وقد جاء مثل هذا في قوله تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾.
(٢) المراغي.
(٣) المراغي.
قوله تعالى: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما بين أن سننه في نوع الإنسان، أن خلقه مستعدًّا للإيمان والكفر، الخير والشر، ولم يشأ أن يجعله على طريقة واحدة، إما الكفر وحده وإما الإيمان وحده، وأنك أيها الرسول لا تقدر على جعله على غير ذلك.. بين هنا أن مدار سعادته على استعمال عقله، في التمييز بين الخير والشر، وما على الرسول إلا التبشير والإنذار، وبيان الطريق المستقيم الذي يوصل إلى السعادة، وما الدين إلا مساعد للعقل على حسن الاختيار، إذا أحسن النظر والتفكر اللذين أمر الله تعالى بهما. فليحذر أولئك القوم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المكذبين فإن سنتنا لا تغيير فيها ولا تبديل فننجي رسلنا والذين آمنوا معهم، ونهلك من كذبهم وندخله سواء الجحيم.
وقال أبو حيان: قوله تعالى: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أنه لما تقدم قوله ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ...﴾ وكان ذلك مشعرًا بما حل بالأمم الماضية المكذبة ومصرحًا بهلاكهم في غير ما آية.. أخبر تعالى عن حكاية حالهم الماضية، فقال: ثم ننجي رسلنا، والمعنى: أن الذين خلوا أهلكناهم لما كذبوا الرسل، ثم نجينا الرسل والمؤمنين.
التفسير وأوجه القراءة
٨٨ - ﴿وَقَالَ مُوسَى﴾ بعد أن أعد قومه بني إسرائيل للخروج من مصر على قدر ما يستطيع من الإعداد الديني والدنيوي، وغرس في قلوبهم الإيمان وحب العزة
قوله: ﴿لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ﴾ وقد اختلف (٤) في هذه اللام الداخلة على الفعل، فقال: الخليل وسيبويه: إنها لام العاقبة والصيرورة، والمعنى: أنه لما كان عاقبة أمرهم الضلال صار كأنه سبحانه، أعطاهم ما أعطاهم من النعم، ليضلوا، فتكون اللام على هذا، متعلقة بـ ﴿ءَاتَيْتَ﴾. وقيل إنها لام كي؛ أي:
(٢) الفتوحات.
(٣) المراغي.
(٤) الشوكاني.
وقرأ (١) أبو الفضل الرقاشي ﴿إنك آتيت﴾ على الاستفهام. وقرأ الكوفيون وقتادة والأعمش وعيسى والحسن والأعرج بخلاف عنهما: ﴿ليضلوا﴾ بضم الياء من أضلّ الرباعي. وقرأ الحرميان، نافع وابن كثير والعربيان، أبو عمرو وابن عامر ومجاهد وأبو رجاء والأعرج وشيبة وأبو جعفر، وأهل مكة، بفتحها من ضل الثلاثي. وقرأ الشعبي: بكسرها والى بين الكسرات الثلاث.
ولما قدم ذكر الأموال، وهي أعز ما ادخر، دعا بالطموس عليها، فقال: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾؛ أي: ربنا امحق أموالهم، وأهلكها بالآفات التي تستأصل زروعهم، والجوائح التي تهلك أنعامهم، وتنقص مكاسبهم، فيذوقوا ذل الحاجة. وقرأ الشعبي وفرقة ﴿اطمس﴾ بضم الميم، وهي لغة مشهورة. قال ابن (٢) عباس ومحمد بن كعب، صارت دراهمهم حجارة منقوشة صحاحًا وأثلاثًا وأنصافًا، ولم يبق لهم معدن، إلا طمس عليه، فلم ينتفع بها أحد بعد. وقال قتادة بلغنا أن أموالهم وزروعهم صارت حجارة. وقال مجاهد أهلكها حتى لا ترى ﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: اجعلها قاسية ومربوطة حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان ﴿فَلَا يُؤْمِنُوا﴾ جواب (٣) للدعاء أو دعاء بلفظ النهي، أو عطف على ﴿لِيُضِلُّوا﴾ ﴿حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ وإنما دعا موسى عليهم بهذا الدعاء، لما علم
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراح.
وسبب غضبة موسى: أنه عرض عليهم آيات الله وبيناته عرضًا مكررًا، وردد عليهم المواعظ والنصائح، ردحًا من الزمن، وحذرهم عذاب الله وانتقامه، وأنذرهم عاقبة ما هم عليه من الكفر والضلال المبين، ثم لم يزدهم ذلك إلا كفرًا وعتوًا واستكبارًا في الأرض، ولم يبق له مطمع فيهم، وعلم بالاختبار أنه لا يكون منهم إلا الضلال، وأن إيمانهم كالمحال، فاشتد عليهم ومقتهم ودعا عليهم بما علم أنه لا يكون غيره، إذ لم يبق له فيهم حيلة، وأنهم لا يستأهلون إلا أن يخذلوا، ويخلى بينهم وبين ضلالهم يتسكعون فيه، ويسيرون قُدُمًا في طريق الغي والهلاك.
وخلاصة ذلك: كأنه قيل: فليثبتوا على ضلالهم، وليطبع الله على قلوبهم، فلا يؤمنوا وما عليّ منهم، هم أهل لذلك وأحق به، وما مثله إلا مثل قول الأب المشفق على ولده، الذي انحرف عن جادة الاستقامة، ولم يقبل منه نصيحة: فلتمض في غوايتك، ولتعث في الأرض فسادًا وهو لا يريد غوايته بل حردًا وغضبًا.
٨٩ - وقد روي أن موسى دعا بهذا الدعاء، وهارون، عليه السلام، كان يؤمّن على دعاء أخيه ومن ثم قال تعالى: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾؛ أي: قال (٢) الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون: قد قبلت دعوتكما. في فرعون وملئه وأموالهم، فموسى كان يدعو وهارون كان يؤمن، والتأمين دعاء، وحصل المدعو به، بعد أربعين سنة؛ لأن فرعون لبث بعد هذا الدعاء أربعين سنة. وقرأ ابن السميقع: ﴿قد أجبت دعوتكما﴾ خبرًا عن الله تعالى، ونصب دعوة. وقرأ الربيع: {قد
(٢) المراح.
﴿فَاسْتَقِيمَا﴾؛ أي: فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة، وإلزام الحجة ولا تستعجلا؛ أي: فامضيا لأمري، واثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة إلى الحق، ومن إعداد شعبكما للكفاح والجلاد والخروج من مصر ﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ﴾؛ أي: ولا تسلكا سبيل الذين لا يعلمون سنّتي في خلقي، فيستعجلا الأمر قبل ميقاته، ويستبطئا وقوعه في حينه؛ أي: ولا تسلكا طريق الجاهلين الذين يظنون أنه متى كان الدعاء مجابًا كان المقصود حاصلًا في الحال، والاستعجال، وعدم الوثوق بوعد الله يصدران من الجهال.
وفي سفر الخروج (١) من التوراة ما يدل على استجابة دعاء موسى، فقد كانت تنزل النوازل على مصر وأهلها، فيلجأ فرعون إلى موسى حين كل نازلة منها ليدعو ربه فيكشفها عنهم، فيؤمنوا به حتى إذا كشفها قسى الرب تعالى قلب فرعون، فأصر على كفره. وقرأ الجمهور (٢): ﴿تتبعان﴾ بتشديد التاء والنون، وابن عباس وابن ذكوان، بتخفيف التاء والنون على النفي، لا على النهي. وابن ذكوان أيضًا بتشديد التاء وتخفيف النون. وفرقة: بتخفيف التاء وسكون النون. وروى ذلك الأخفش الدمشقي عن أصحابه عن ابن عامر، فأما شد النون فعلى أنها نون التوكيد الشديدة، لحقت فعل النهي المتصل به ضمير الاثنين، وأما تخفيفها مكسورةً فقيل: هي نون التوكيد الخفيفة وكسرت كما كسرت الشديدة، لكون الكسر الأصل ولكونهما أشبهتا نون التثنية.
٩٠ - ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْر﴾ أي: جعلناهم مجاوزين بحر السويس، وسمي بحر القلزم، بأن جعلناه يبسا، وحفظناهم حتى بلغوا الشط، أي: جاوز بنو إسرائيل البحر بمعونة الله، تعالى، وقدرته وحفظه، وكان آيةً من آياته لنبيه موسى، عليه السلام، بفرقه تعالى بهم البحر. وقرأ الحسن: ﴿وجوزنا﴾ وهما لغتان.
(٢) البحر المحيط.
﴿فَأَتْبَعَهُمْ﴾؛ أي: فلحقهم وأدركهم في مجاوزة البحر ﴿فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا﴾؛ أي: ظلمًا وعدوانًا، أو ظالمين عادين عليهم؛ أي: مفرطين في محبة قتلهم ومجاوزين الحد، ليفتكوا بهم، أو يعيدوهم إلى مصر، ليسوموهم سوء العذاب ويجعلوهم عبيدًا لهم. وقيل: إن البغي طلب الاستعلاء في القول بغير حق، والعدو في الفعل، وخاض البحر مع جنوده وراءهم ﴿حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾؛ أي: حتى إذا أشرف على الغرق وناله، ووصله وألجمه ﴿قَالَ آمَنْتُ﴾ وصدقت ﴿أَنَّهُ﴾؛ أي: بأن الشأن والحال ﴿لَا إِلَهَ﴾؛ أي: لا معبود بحق ﴿إلّا﴾ الرب ﴿الَّذِي آمَنَتْ بِهِ﴾؛ أي: صدقت بوحدانيته وانقادت لأمره ﴿بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾؛ أي: جماعة بني إسرائيل بدعوة موسى، عليه السلام، ﴿وَأَنَا﴾ الآن ﴿مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾؛ أي: من المنقادين لأوامره، كما انقادوا، وأنا ممن أذعنوا لأمره بعد ما كان مني من جحود بآياته، وعنادٍ لرسوله موسى، عليه السلام، وقرأ الحسن (٢) وقتادة: ﴿فاتبعهم﴾ بتشديد التاء. وقرأ الجمهور. ﴿وجاوزنا فأتبعهم﴾
(٢) البحر المحيط.
٩١ - ولما لحقه من الدهش ما لحقه كرر (١) المعنى الواحد بثلاث عبارات، حرصًا منه على القبول المفضي إلى النجاة، ولكن هيهات، فقد فات الوقت، وجاء الإيمان حين اليأس، وهو لا يجدي فتيلًا ولا قطميرًا، وهذا ما بينه سبحانه بقوله: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾؛ أي؛ وقيل له: أتسلم الآن حين يئست من الحياة، وأيقنت بالممات، وقد عصيت وخالفت أمر ربك قبل ذلك، وضيعت التوبة في وقتها، وآثرت دنياك الفانية على الآخرة الباقية، ﴿وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾ في الأرض الظالمين للعباد، الغالين في الضلال والإضلال عن الإيمان، فدعواك الإِسلام الآن لا تقبل، فقد صار إسلامك اضطرارًا، لا اختيارًا، ولم (٢) يقبل ذلك من فرعون؛ لأنه إنما آمن عند نزول العذاب، وإنما أقر بعزة الربوبية ووحدانية الله تعالى، ولم يقر بنبوة موسى؛ ولأن ذلك الإقرار كان مبنيًّا على محض التقليد، وهو كان دهريًّا منكرًا لوجود الصانع، وإنما ذكر هذه الكلمة ليتوسل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة.
وخلاصة المعنى (٣): آلآن تقر لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة، وتخلص له الألوهية، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك، فأسخطته على نفسك، وكنت من المفسدين في الأرض الصادين عن سبيله، فهلا أقررت بما أقررت به الآن، وباب التوبة لك منفتح، والمقصود من الاستفهام في قوله: ﴿الآن﴾ التقريع والتوبيخ له.
(٢) المراح.
(٣) المراغي.
٩٢ - ﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ﴾؛ أي: فاليوم نجعلك على نجوة من الأرض ببدنك؛ أي: على مكان مرتفع من الأرض، ينظر إليك من كذب بهلاكك ﴿لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾؛ أي: لتكون عبرة لمن بعدك من الناس، يعتبرون بك فينزجرون عن معصية الله، والكفر به، والسعي في الأرض بالفساد، وهذا آخر مقول جبريل. ووجه (٣) العبرة في ذلك أنه يكون شاهدًا على صدق وعد الله لرسله، ووعيده لأعدائهم، كطغاة مكة التي أنزلت هذه الآيات لإقامة حجج الله عليهم قبل غيرهم، والمعنى: ليعرفوا عبوديتك ويبطل دعوى ألوهيتك؛ لأن الإله لا يموت.
قال أهل التفسير (٤): لما أغرق الله سبحانه وتعالى فرعون وقومه، وأخبر موسى قومه بهلاك فرعون وقومه قالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون، وإنما قالوا ذلك لعظمته عندهم وما حصل في قلوبهم من الرعب لأجله، فأمر الله عَزَّ وَجَلَّ البحر فألقى فرعون على الساحل أحمر قصيرًا، كأنه ثور، فرآه بنو إسرائيل فعرفوه، فمن ذلك الوقت، لا يقبل الماء الميت أبدًا، ولكن تحديد هذه البداية لا أصل له. ومعنى قوله: ﴿بِبَدَنِكَ﴾ يعني: نلقيك وأنت جسد لا روح فيه، وقيل: هذ الخطاب على سبيل التهكم والاستهزاء، كأنه قيل له: ننجيك، ولكن هذه النجاة، إنما تحصل لبدنك لا لروحك، وقيل: أراد بالبدن الدرع، وكان لفرعون درع من ذهب مرصع بالجواهر يعرف به، فلما رأوه في درعه ذلك عرفوه.
قرأ الجمهور (٥): ﴿نُنَجِّيكَ﴾ بالتشديد من التنجية. وقرأ يعقوب: ﴿ننجيك﴾
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
(٤) الخازن.
(٥) البحر المحيط.
ومعنى ﴿نُنَجِّيكَ﴾ بالجيم، نلقيك على نجوة من الأرض، وذلك أن بني إسرائيل لم يصدقوا أن فرعون غرق، وقالوا هو أعظم شأنًا من ذاك، فألقاه الله على نجوة من الأرض؛ أي: مكان مرتفع من الأرض حتى شاهدوه. وقيل، المعنى: نخرجك مما وقع فيه قومك من الرسوب في قعر البحر، ونجعلك طافيًا ليشاهدوك ميتًا بالغرق. ومعنى: ﴿ننحيك﴾ بالحاء المهملة نطرحك على ناحية من الأرض مما يلي البحر. قال كعب: رماه البحر إلى الساحل كأنه ثور. وقرأ أبو حنيفة ﴿بأبدانك﴾. ورويت عن ابن مسعود أيضًا؛ أي: بدروعك، أو جعل كل جزء من البدن بدنًا كقولهم ثابت مفارقه. واختلف (١) المفسرون في معنى ﴿بِبَدَنِكَ﴾ فقيل معناه: بجسدك بعد سلب الروح، منه قاله مجاهد. وقيل معناه: بدرعك، قاله: صخر، والدرع يسمى بدنًا ومنه قول كعب:
تَرَى الأبْدَانَ فِيْهَا مُسْبَغَاتٌ | عَلَى الأَبْطَالِ وَالْيَلَبَ الْحَصِيْنَا |
وقيل: نلقيك عريانًا قاله: الزجاج. وقيل: ننجيك وحدك، قاله ابن قتيبة، ورجح القول بأن المراد بالبدن هنا، الجسد.
وقرأ ابن مسعود (٢) وابن السميقع ﴿بندائك﴾ مكان ببدنك؛ أي: بدعائك بقولك: آمنت إلى آخره، لنجعلك آية مع ندائك الذي لا ينفع أو بما ناديت به في قومك كما حكاه عنه سبحانه ﴿وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ﴾ ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى (٢٣) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (٢٤)﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾. والمراد (٣) بالآية في قوله: ﴿لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً﴾ العلامة؛ أي: لتكون لمن خلفك، وبعدك من الناس، علامة يعرفون بها هلاكك، وأنك لست كما تدعي، ويندفع عنهم الشك
(٢) البحر المحيط.
(٣) الشوكاني.
وقرىء (١): ﴿لمن خلفك﴾ على صيغة الفعل الماضي بفتح اللام؛ أي: من الجبابرة والفراعنة، ليتعظوا بذلك ويحذروا أن يصيبهم ما أصابك إذا فعلوا فعلك. وقرأ ابن السميقع وأبو المتوكل وأبو الجوزاء ﴿لمن خلقك﴾ بالقاف من الخلق وهو الله، سبحانه وتعالى، أي: ليجعلك الله آية له في عباده.
﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا﴾ ودلائل قدرتنا التي توجب الاعتبار والتفكر في مصنوعاته، وتوقظ من سنة الغفلة ﴿لَغَافِلُونَ﴾؛ أي: لساهون عمّا توجبه الآيات من التيقظ وهذه الجملة تذييلية؛ أي: وإن كثيرًا من الناس لفي غفلة عن حججنا وأدلتنا، على أن العبادة له وحده خالصةً، فهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، فلا يتفكرون في أسبابها ونتائجها وحكم الله فيها، وفي ذلك إيماءٌ إلى ذم الغفلة وعدم التفكر في أسباب الحوادث وعواقبها، واستبانة سنن الله فيها، للعظة والاعتبار
٩٣ - ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾ هذا من جملة ما عدد الله سبحانه وتعالى من النعم التي أنعم بها على بني إسرائيل؛ أي: وعزتي وجلالي لقد أنزلنا وأسكنا بني إسرائيل بعد ما أنجيناهم، وأهلكنا أعداءهم منزلًا صالحًا مرضيًّا، وهو منزلهم من بلاد الشام الجنوبية، وهي بلاد فلسطين والأردن. وقيل: أرض الشام ومصر، فالشام بلاد البركة والخصب، وأورثهم الله تعالى جميع ما كان تحت أيدي فرعون وقومه. وهذه الآية بمعنى قوله تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا﴾. والمبوأ اسم مكان أو مصدر، كما سيأتي في مبحث التصريف، وإضافته إلى الصدق على ما
﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾؛ أي: وأعطيناهم المستلذات من الرزق فيها وقد جاء وصفها في كتبهم، بأنها تفيض لبنًا وعسلًا، وفيها كثير من الغلات والثمرات والأنعام وصيد البر والبحر. ﴿فَمَا اخْتَلَفُوا﴾ في أمر دينهم، وتشعبوا فيه شعبًا، بعد ما كانوا على طريقة واحدة غير مختلفة ﴿حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ﴾؛ أي: لم يقع منهم الاختلاف في الدين إلا بعدما جاءهم العلم بقراءتهم التوراة وعلمهم بأحكامها، وما اشتملت عليه من الإخبار بنبوة محمَّد - ﷺ -.
وقيل المعنى: إنهم لم يختلفوا حتى جاءهم العلم، وهو القرآن النازل على محمَّد، - ﷺ -، فاختلفوا في نعته وصفته، وآمن به من آمن منهم، وكفر به من كفر، فيكون المراد بالمختلفين على القول الأول: هم اليهود، بعد أن أنزلت عليهم التوراة، وعلموا بها، وعلى القول الثاني: هم اليهود المعاصرون لمحمد، - ﷺ -، وقيل (١) العلم، بمعنى: المعلوم، وهو محمَّد، - ﷺ -؛ لأن رسالته كانت معلومة عندهم، مكتوبة في التوراة، وكانوا يستفتحون به؛ أي: يستنصرون به في الحروب، يقولون: اللهم بحرمة النبي المبعوث في آخر الزمان، انصرنا فينصرون. فلما جاء قالوا: النبي الموعود به من ولد يعقوب، وهذا من ولد إسماعيل، فليس هو ذاك، فآمن به بعضهم، كعبد لله بن سلام وأصحابه. وقيل: العلم القرآن، كما مر، واختلافهم فيه قول بعضهم: هو من كلام محمَّد، وقول بعضهم: من كلام الله، وليس لنا إنما هو للعرب، وصدق به قوم فآمنوا؛ أي: فما اختلف بنو إسرائيل إلا بعد أن علموا بقراءة التوراة والوقوف على أحكامها، ذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمَّد، - ﷺ -، مجمعين على نبوته والإقرار به وبمبعثه غير مختلفين فيه، بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبًا عنده، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعض وآمن به آخرون.
٩٤ - ﴿فَإِن كنُتَ﴾ يا محمَّد ﴿فِي شَكٍّ﴾ وارتياب ﴿مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ﴾؛ أي: في حقيقة ما أنزلنا إليك، والشك في موضوع اللغة خلاف اليقين، والشك اعتدال النقيضين عند الإنسان لوجود أمارتين، أو لعدم الأمارة، والشك ضرب من الجهل، وهو أخص منه، فكل شك جهل، وليس كل جهل شكا. فإذا قيل: فلان شك في هذا الأمر، فمعناه: توقف فيه حتى يتبين له فيه الصواب أو خلافه. وظاهر هذا الخطاب في قوله: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ﴾ أنه للنبي، - ﷺ -، والمعنى: فإن كنت يا محمَّد، في شك مما أنزلنا إليك يعني من حقيقة ما أخبرناك به، وأنزلناه يعني القرآن، أو المعنى: فإن كنت أيها الرسول في شك مما قلناه في تلك الشواهد، من قصة هود ونوح وموسى وغيرهم فرضًا وتقديرًا ﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾؛ أي: الذين يقرؤون كتب الأنبياء من قبلك، كاليهود والنصارى، يخبروك أنك مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل، وأنك نبي يعرفونك بصفتك عندهم، أو يعلمون أن ما أنزلناه إليك من القصص حق، لا يستطيعون إنكاره. وقرأ يحيى وإبراهيم: ﴿يقرؤون الكتب﴾ على الجمع. وقد توجه (١) ههنا سؤال واعتراض، وهو أن يقال: هل شك النبي، - ﷺ -، فيما أنزل عليه، أو في نبوته حتى يسأل أهل الكتاب عن ذلك؟ وإذا كان شاكًّا في نبوة نفسه كان غيره أولى بالشك منه. قلت: الجواب عن هذا السؤال، والاعتراض، ما قاله القاضي عياض: في كتابه "الشفاء" فإنه أورد هذا السؤال، ثم قال: احذر ثبت الله قلبك، أن يخطر ببالك ما ذكره فيه بعض المفسرين، عن ابن عباس أو غيره من إثبات شك النبي، - ﷺ -،
أحدهما: أن الخطاب للنبي، - ﷺ -، في الظاهر، والمراد به غيره، فهو كقوله: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ ومعلوم أن النبي، - ﷺ -، لم يشرك، فثبت أن المراد به غيره، ومن أمثلة العرب إياك أعني واسمعي يا جارة. فعلى هذا يكون معنى الآية: قل يا محمَّد: يا أيها الإنسان الشاك، إن كنت في شك مما أنزلنا إليك على لسان رسولنا محمَّد، - ﷺ -، فاسأل الذين يقرؤون الكتاب، يخبروك بصحته، ويدل على صحة هذا التأويل، قوله تعالى في آخر هذه السورة: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي﴾ الآية. فبين أنَّ المذكور في هذه الآية، على سبيل الرمز، هو المذكور في تلك الآية على سبيل التصريح، وأيضًا لو كان النبي - ﷺ - شاكًّا في نبوته.. لكان غيره أولى بالشك في نبوته، وهذا يوجب سقوط الشريعة بالكلية، معاذ الله من ذلك.
وقيل: إن الله سبحانه وتعالى علم أن النبي، - ﷺ -، لم يشك قط، فيكون المراد بهذا التهييج، فإنه، - ﷺ -، إذا سمع هذا الكلام يقول: لا أشك يا رب، ولا أسأل أهل الكتاب، بل أكتفي بما أنزلته عليّ من الدلائل الظاهرة.
وقال الزجاج: إن الله سبحانه وتعالى، خاطب الرسول، - ﷺ -، في قوله: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ﴾ وهو شامل للخلق فهو كقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ وهذا وجه حسن، لكن فيه بعد، وهو أن يقال: متى كان الرسول، - ﷺ -، دخلًا في هذا الخطاب، كان الاعتراض موجودا، والسؤال واردًا. وقيل: إن لفظة ﴿إن﴾ في قوله: ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ﴾ للنفي، وما أنت في شك، مما أنزلنا إليك حتى تسأل، فلا تسأل، ولئن سألت لازددت يقينًا.
والقول الثاني: أن هذا الخطاب ليس هو للنبي - ﷺ -، ألبتة، ووجه هذا
واختلفوا في المسؤول عنه في قوله: ﴿فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ من هم. فقال المحققون من أهل التفسير: هم الذين آمنوا من أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه؛ لأنهم هم الموثوق بأخبارهم. وقيل، المراد: كل أهل الكتاب، سواء مؤمنهم وكافرهم؛ لأن المقصود من هذا السؤال الإخبار بصحة نبوة محمَّد، - ﷺ -، وإنه مكتوب، عندهم صفته ونعته فإذا أخبروا بذلك، فقد حصل المقصود، والأول أصح. وقال الضحاك يعني أهل التقوى، وأهل الإيمان، من أهل الكتاب، ممن أدرك النبي، - ﷺ -، ذكره في "الخازن".
وعزتي وجلالي ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ﴾ يا محمَّد ﴿الحقُّ﴾ واليقين من الخبر ﴿مِنْ رَبِّكَ﴾ بأنك رسول الله حقًّا، وإن أهل الكتاب يعلمون صحة ذلك ﴿فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾؛ أي: من الشاكين في صحة ما أنزلنا إليك بالتزلزل، عما أنت عليه، من الجزم واليقين، والامتراء: الشك والتردد؛ أي: لقد جاءك الحق الواضح، بأنك رسول الله، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحة ذلك، ويجدون نعتك في كتبهم، فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك. وهذا النهي وما بعده، يدلان على أن فرض الشك والسؤال فيما قبلهما تعريض بالشاكين والمكذبين له من قومه، ممن لم تستنر بصيرتهم بنبوته - ﷺ -، فأظهروا الإيمان بألسنتهم، ولم يثبت في قلوبهم، فهم في شك منه.
٩٥ - ﴿وَلَا تَكُونَنَّ﴾ أيها الرسول ﴿مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ﴾؛ أي: ممن كذب بآيات الله وحججه في الأكوان، مما يدل على وحدانيته وقدرته على إرسال
٩٦ - ﴿إنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ﴾ وثبتت ووجبت ﴿عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾؛ أي: قضاؤه وحكمه الذي كتبه في اللوح المحفوظ، بأنهم يموتون على الكفر ويخلدون في النار، بفقدهم الاستعداد للاهتداء لرسوخهم في الكفر والطغيان، وإحاطة خطاياهم بهم وإعراضهم عن آيات الله، التي خلقها في الأكوان بما يرشد إلى وحدانيته، وكمال قدرته ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ إذ لا يكذب كلامه، ولا ينتقض قضاؤه
٩٧ - ﴿وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾ من الآيات الكونية، كآيات موسى عليه السلام، التي اقترحوا مثلها عليك، والآيات المنزلة عليك، كآيات القرآن العقلية، الدالة بإعجازها على أنها من عند الله، وعلى حقية ما تدعوهم إليه وتنذرهم به ﴿حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ بأعينهم، ويذوقوه حين ينزل بهم، فيكون إيمانهم، اضطرارًا لا اختيارًا منهم، كدأب آل فرعون وأشباههم، فلا يترتب عليه عمل منهم يطهرهم ويزكيهم، وحينئذٍ لا ينفعهم إيمانهم كما لا ينفع فرعون، ويقال لهم إذ ذاك ﴿آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ﴾.
٩٨ - ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ﴾؛ أي: فهلا كانت ووجدت قرية ﴿آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾؛ أي: فهلا كان أهل قرية من قرى أقوام أولئك الرسل، آمنوا بعد دعوتهم، وإقامة الحجة عليهم، فنفعهم إيمانهم قبل وقوع العذاب الذي أنذروا به.
وخلاصة ذلك: أنه لم يؤمن قوم منهم، بحيث لم يشذ منهم أحد.
قال أبو مالك (١) - صاحب ابن عباس -: كل ما في كتاب الله تعالى، من ذكر لولا، فمعناه: هلا إلا حرفين ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ﴾ فمعناه: فما كانت قرية آمنت، ﴿فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُم﴾ فمعناه: فما كان من القرون،
والحاصل: أن الآية تضمنت تحضيضًا وتوبيخًا ونفيًا، فالنفي راجع لمن مضى، والتوبيخ والتحضيض راجعان لمن يسمع، فوبخ الله أهل القرى المهلكة، قبل يونس، قبل نزول العذاب بهم، إلا قوم يونس فإنهم آمنوا قبل نزوله بهم، وذلك حين رؤية أماراته فالفارق بين قوم يونس ومن قبلهم، أن قوم يونس آمنوا قبل نزوله، وذلك عند حضور أماراته وغيرهم لم يؤمن قبل نزوله، أعم من أن يكون آمن وقت نزوله، أو لم يؤمن أصلًا، فبهذا الاعتبار صار بين قوم يونس وغيرهم التباين باعتبار الوصف المذكور، فلم يندرج قوم يونس في غيرهم.
روي (٢) أن يونس عليه السلام، بعث إلى نينوى من أرض الموصل، وكانوا يعبدون الأصنام فكذبوه فذهب عنهم مغاضبًا، فلما فقدوه، خافوا نزول العذاب فلبسوا المسوح وعجّوا أربعين ليلة، وكان يونس قال لهم: إن أجلكم أربعون ليلة، فقالوا: إن رأينا أسباب الهلاك.. آمنا بك، فلما مضت خمس وثلاثون ليلة، ظهر في السماء غيم أسود هائل، فظهر منه دخان شديد، وهبط ذلك الدخان حتى وقع في المدينة، وسوّد سطوحهم فخرجوا إلى الصحراء وفرقوا بين النساء والصبيان، وبين الدواب وأولادها، فحنّ بعضها إلى بعض وعلت الأصوات وكثرت التضرعات وأظهروا الإيمان والتوبة، وتضرعوا إلى الله تعالى، فرحمهم وكشف عنهم، وكان ذلك اليوم يوم عاشوراء، يوم الجمعة.
وعن الفضل بن عباس، أنهم قالوا: اللهم إن ذنوبنا قد عظمت وجلَّت،
(٢) المراح.
والخلاصة (١): أن قوم يونس لما آمنوا قبل وقوع العذاب بهم بالفعل، وكانوا علموا بقربه من خروج نبيهم.. صرفنا عنهم عذاب الذل والهوان في الدنيا، بعد ما أظلهم، وكاد ينزل بهم، ومتعناهم بمتاعها إلى زمن معلوم، وهو الوقت الذي يعيش فيه كل منهم بحسب سنن الله في استعداد بنيته ومعيشته. وفي ذلك تعريض بأهل مكة وإنذار لهم، وحضّ على أن يكونوا كقوم يونس الذين استحقوا العذاب بعنادهم، حتى إذا أنذرهم نبيهم بقرب وقوعه وخرج من بينهم، اعتبروا وآمنوا قبل اليأس، وقبل أن ينزل بهم البأس.
وقرأ أبي وعبد الله (٢): ﴿فهلا﴾، وكذا في مصحفهما، وقال الزمخشري: وقرىء ﴿إلا قوم يونس﴾ بالرفع على البدل من قرية عن الحرمي والكسائي وتقدم الخلاف في قراءة يونس بضم النون وكسرها، وذكر جواز فتحها.
٩٩ - ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ﴾ يا محمَّد إيمان أهل الأرض جميعًا ﴿لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ﴾ بحيث لا يخرج منهم أحد، حال كونهم ﴿جَمِيعًا﴾؛ أي: مجتمعين على الإيمان لا يتفرقون فيه، ولا يختلفون بأن يلجئهم إلى الإيمان قسرًا، أو يخلقهم مؤمنين طائعين كالملائكة لا استعداد في فطرتهم، لغير الإيمان، ولكنه لم يشأ ذلك لكونه مخالفًا للمصلحة التي أرادها الله سبحانه وتعالى، وجاء في معنى الآية قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا﴾ وقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾.
وخلاصة ذلك (٣): أنه لو شاء ربك أن لا يخلق الإنسان مستعدًّا بفطرته للخير والشر، والإيمان والكفر، ومرجحًا باختياره لأحد الأمور الممكنة، على ما يقابله بإرادته ومشيئته.. لفعل ذلك، ولكن اقتضت حكمته أن يخلقه هكذا، يوازن باختياره بين الإيمان والكفر، فيؤمن بعض ويكفر آخرون.
(٢) البحر المحيط.
(٣) المراغي.
١٠٠ - ثم بين وعلل سبحانه ما تقدم فقال: ﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾؛ أي: ما ثبت وما استقام وما صح لنفس من الأنفس أن تؤمن في حال من الأحوال، إلا في حال إرادة الله تعالى الإيمان لها، وتيسيره وتوفيقه ومشيئته لذلك، فلا يقع غير ما يشاؤه كائنًا ما كان؛ أي: وما كان لنفس بمقتضى ما أعطاها الله، من الاختيار والاستقلال في الأفعال، أن تؤمن إلا بإرادة الله سبحانه وتعالى، ومقتضى سننه في الترجيح بين المتقابلين، فالنفس مختارة في دائرة الأسباب والمسببات، ولكنها غير مستقلة في اختيارها استقلالًا تامًّا بل مقيدة بنظام السنن والأقدار الإلهية. وقوله: ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ﴾ معطوف (٣) على محذوف، تقديره: فيريد الله الإيمان للبعض، ويجعل الرجس؛ أي: العذاب أو الكفر أو الخذلان الذي هو سبب العذاب ﴿عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ﴾؛ أي: على
(٢) الشوكاني.
(٣) الصاوي.
١٠١ - ولما بين سبحانه وتعالى أن الإيمان لا يحصل إلا بمشيئة الله تعالى.. أمر بالنظر والاستدلال بالدلائل السماوية والأرضية فقال: ﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾؛ أي: قل (٣) أيها الرسول لمن تحرص على هدايتهم، من كفار قومك، انظروا بأبصاركم وفكروا وتأملوا ببصائركم، ماذا في السموات والأرض؛ أي: في المخلوق الذي في السموات والأرض، من كواكب نيرات ثوابت وسيارات، وشمس وقمر، وليل ونهار، وسحاب ومطر، وهواء وماء، وليل ونهار. وإيلاج أحدهما في الآخر حتى يطول هذا ويقصر ذاك، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع، والأزاهير وصنوف النبات، وما ذرأ فيها من دواب مختلفة الأشكال والألوان والمنافع، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران، وما في البحر من عجائب، وهو مسخر مذلل للسالكين، يحمل سفنهم ويجري بها برفق، بتسخير القدير العليم، الذي لا إله غيره ولا رب سواه ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (٢٠) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (٢١)﴾ إنه يريكم كل هذه الآيات، ثم أنتم تشركون، وما أحسن قول الشاعر:
(٢) البحر المحيط والشوكاني.
(٣) المراغي.
وَفِيْ كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ | تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ |
والمعنى: أن من كان هكذا.. لا يجدي فيه شيء ولا يدفعه عن الكفر دافع، و ﴿ما﴾: نافية؛ أي: ما تنفع، ويجوز أن تكون استفهامية؛ أي: أي شيء ينفع؟ وقرىء: ﴿وما تغني﴾ بالتاء وهي قراءة الجمهور، وبالياء.
﴿تغني﴾ تنفع (٣) وتفيد ﴿وَالنُّذُرُ﴾ واحدها نذير؛ أي: إن الآيات الكونية على ظهور دلالتها، والرسل على بلاغة حجتها، لا تجدي نفعًا لقوم لا يتوقع إيمانهم؛ لأنهم لم يوجهوا أنظارهم إلى الاعتبار بالآيات والاستدلال بها، على ما تدل عليه من وحدانية الله تعالى، وقدرته، والاعتبار بسننه في خلقه والاستفادة منها فيما يزكي النفس ويرفعها عن الأرجاس والأدناس.
١٠٢ - قوله: ﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ﴾ مرتب (٤) على قوله: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ﴾ إلخ
(٢) البحر المحيط والصاوي.
(٣) المراغي.
(٤) الفتوحات.
والخلاصة: أنهم ما ينتظرون إلا مثل وقائعهم مع رسلهم، ممَّا بلغهم مبدؤه وغايته، فإن كانوا ينتظرون ذلك العذاب فـ ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمَّد؛ أي: لهؤلاء الكفار المعاصرين لك ﴿فَانْتَظِرُوا﴾؛ أي: تربصوا لوعد ربكم ﴿إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾؛ أي: من المتربصين لوعد ربي. وفي هذا تهديد شديد، ووعيد بالغ بأنه سينزل بهؤلاء، ما نزل بأولئك، من الإهلاك، إن لم يؤمنوا؛ أي: قل لهم منذرًا مهددًا انتظروا عقاب الله، ونزول سخطه بكم، إني من المنتظرين هلاككم بالعقوبة التي تحل بكم وإني على بينة بما وعد الله به وصدق وعده للمرسلين، وإن الذين يصرون على الجحود والعناد سيكونون من الهالكين.
١٠٣ - و ﴿ثُمَّ﴾ في قوله: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا﴾ للعطف على مقدر يدل عليه ما قبله، كأنه قيل: أهلكنا الأمم، ثم نجينا رسلنا المرسلين إليهم. وقوله: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا﴾ معطوف على رسلنا؛ أي: نجيناهم ونجينا الذين آمنوا. والتعبير بلفظ المضارع لاستحضار صورة الحال الماضية، تهويلًا لأمرها؛ أي: إن سنتنا في رسلنا
وقوله: ﴿كَذَلِكَ﴾ صفة (١) لمصدر محذوف؛ أي: إنجاء مثل ذلك الإنجاء، فهو مفعول مطلق، والعامل فيه قوله: ﴿ننج المؤمنين﴾. وقوله: ﴿حَقًّا عَلَيْنَا﴾ اعتراض؛ أي: وحق ذلك علينا حقًّا، أي: وجب وتحتم بمقتضى الفضل والكرم؛ أي: إنجاء مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين معك أيها الرسول، ونهلك المصرين على تكذيبك وعدنا ذلك وعدًا حقًّا علينا لا نخلفه، كما قال تعالى: ﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (٧٧)﴾. وقرأ (٢) يعقوب: ﴿ثم ننجي﴾ مخففًا وقرأ الباقون ﴿ثم ننجي﴾ بالتشديد وبثبوت الياء خطًّا ولفظًا. وقرأ حفص والكسائي ويعقوب: ﴿ننجي﴾ بالتخفيف والباقون بالتشديد، وتحذف منه الياء خطًّا إتباعًا لرسم المصحف. قاله "السمين" وفي اللفظ، إن وصل بما بعده، فحذفها ظاهر لأجل التقاء الساكنين، وإن وقف عليه وجب حذفها في النطق أيضًا، تبعًا لرسم المصحف اهـ "شيخنا". والتشديد والتخفيف في ﴿ننجي﴾ كلاهما لغتان فصيحتان أنجى ينجي إنجاءً، ونجى ينجي تنجيةً، بمعنى واحد. ومعنى الآية: أهلكنا (٣) المكذبين ثم نجينا رسلنا المرسلة إليهم والذين آمنوا بهم؛ لأن العذاب لا ينزل إلا على الكفار كذلك؛ أي: مثل ذلك الإنجاء الذي نجينا الرسل، ومن آمن بهم، ننج المؤمنين بك يا محمَّد، من كل شدة وعذاب، وجب ذلك علينا وجوبًا بحسب الوعد والحكم، لا بحسب الاستحقاق؛ لأن العبد لا يستحق على خالقه شيئًا.
الإعراب
{وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا
(٢) الشوكاني والفتوحات.
(٣) المراح.
﴿وَقَالَ مُوسَى﴾: الواو: استئنافية. ﴿قال موسى﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ﴾ إلى قوله: ﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿رَبَّنَا﴾ منادى مضاف، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿إنَّكَ﴾ ناصب واسمه ﴿آتَيْتَ فِرْعَوْنَ﴾ فعل وفاعل ومفعول أول؛ لأن أتى هنا بمعنى: أعطى. ﴿وَمَلَأَهُ﴾ معطوف على فرعون ﴿زِينَةً﴾ مفعول ثانٍ ﴿وَأَمْوَالًا﴾: معطوف عليه ﴿فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ متعلق بـ ﴿آتَيْتَ﴾ وجملة ﴿آتَيْتَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنّ﴾ وجملة ﴿إنّ﴾ في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء. ﴿لِيُضِلُّوا﴾: اللام: حرف جر وعاقبة، ﴿يضلوا﴾: فعل مضارع منصوب ﴿بأن﴾ مضمرة جوازًا بعد لام العاقبة ﴿والواو﴾ فاعله. ﴿عَنْ سَبِيلِكَ﴾: متعلق به والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور باللام، تقديره: لإضلالهم عن سبيلك، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿آتَيْتَ﴾.
﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾.
﴿رَبَّنَا﴾: منادى مضاف كرره للتأكيد، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قال﴾ ﴿اطْمِس﴾ فعل دعاء، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿عَلَى أَمْوَالِهِم﴾ متعلق به، والجملة في محل النصب مقول ﴿قال﴾ على كونها جواب النداء ﴿وَاشْدُدْ﴾: فعل أمر معطوف على ﴿اطْمِس﴾ ﴿عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾: متعلق به ﴿فَلَا يُؤْمِنُوا﴾ الفاء: عاطفة سببية ﴿لا﴾: نافية ﴿يُؤْمِنُوا﴾ فعل وفاعل منصوب ﴿بأن﴾ مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية، الواقعة في جواب الدعاء، سلوكًا مسلك الأدب مع الباري سبحانه، والجملة في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك، لإصلاح المعنى، تقديره: وليكن شدك قلوبهم يا الله فعدم إيمانهم ويصح أن يكون قوله: ﴿فَلَا يُؤْمِنُوا﴾: معطوفًا على ﴿لِيُضِلُّوا﴾ وما بينهما دعاء معترض، ذكره "أبو السعود". ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية ﴿يَرَوُا﴾: فعل وفاعل منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى. ﴿الْعَذَابَ﴾: مفعول به ﴿الْأَلِيمَ﴾: صفة له والجملة الفعلية صلة ﴿أَنْ﴾ المضمرة ﴿أَنْ﴾ مع صلتها في
﴿قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (٨٩)﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة مستأنفة ﴿قَدْ أُجِيبَتْ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي: وإن شئت قلت: ﴿قَدْ﴾: حرف تحقيق. ﴿أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا﴾ فعل ونائب فاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿فَاسْتَقِيمَا﴾ الفاء: عاطفة ﴿استقيما﴾: فعل أمر، وفاعل، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿أُجِيبَت﴾ ﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ﴾ الواو: عاطفة. ﴿لا﴾: ناهية جازمة ﴿تَتَّبِعَانِّ﴾: فعل مضارع مجزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأمثلة الخمسة، والألف ضمير للمثنى المذكر المخاطب في حل الرفع فاعل، والنون المشددة نون التوكيد، حرف لا محل لها من الإعراب مبني على الكسر، وإنما كسرت مع أن الأصل في نون التوكيد البناء على الفتح تشبيهًا لا بنون المثنى، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿فَاسْتَقِيمَا﴾ ﴿سَبِيلَ الَّذِينَ﴾: مفعول به ومضاف إليه. وجملة ﴿لَا يَعْلَمُونَ﴾ صلة الموصول.
﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾.
﴿وَجَاوَزْنَا﴾: فعل وفاعل، والجملة مستأنفة ﴿بِبَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ جار ومجرور ومضاف إليه متعلق بـ ﴿جاوزنا﴾ ﴿الْبَحْر﴾: منصوب على الظرفية ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ﴾: فعل ومفعول وفاعل والفاء: عاطفة ﴿وَجُنُودُهُ﴾: معطوف على ﴿فِرْعَوْنُ﴾ والجملة معطوفة على جملة ﴿جاوزنا﴾. ﴿بَغْيًا وَعَدْوًا﴾: مفعولان لأجله؛ أي: لأجل البغي والعدو وشروط النصب متوفرة، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع الحال؛ أي: باغين وعادين. ﴿حَتَّى﴾: حرف جر وغاية ﴿إِذَا﴾: ظرف لما يستقبل من الزمان ﴿أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الخفض
﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
﴿قَالَ﴾: فعل ماض وفاعله ضمير يعود على فرعون، والجملة جواب ﴿إِذَا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿إِذَا﴾ من فعل شرطها وجوابها في محل الجر بـ ﴿حَتَّى﴾: تقديره ﴿فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ﴾ إلى قوله: آمنت وقت إدراك الغرق إياه الجار والمجرور متعلق ﴿بأتبع﴾. ﴿آمَنْتُ﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿آمَنْتُ﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول ﴿قَالَ﴾. ﴿أَنَّهُ﴾: ناصب واسمه ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل ﴿إنَّ﴾. ﴿إِلَهَ﴾ في محل النصب اسمها وخبر ﴿لَا﴾ محذوف تقديره موجود. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ ﴿الَّذِي﴾: اسم موصول في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر ﴿لَا﴾ المحذوف، وجملة ﴿لَا﴾ في محل الرفع خبر ﴿أنّ﴾ وجملة ﴿أنّ﴾ المفتوحة في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: آمنت بعدم وجود إله، إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿آمَنَتْ﴾ وقراءة كسر همزة ﴿إنَّ﴾ على تقدير القول؛ أي: قائلًا. ﴿آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ﴾: فعل وفاعل ومضاف إليه، والجملة صلة الموصول. ﴿وَأَنَا﴾: مبتدأ. ﴿مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾: خبره والجملة الاسمية في محل النصب، معطوفة على جملة ﴿آمَنَتْ﴾ على كونها مقول ﴿قَالَ﴾.
﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ﴾.
﴿آلْآنَ﴾ في محل النصب على الظرفية الزمانية، متعلق بمحذوف تقديره: أتؤمن الآن، والهمزة فيه للاستفهام التوبيخي، والجملة المحذوفة في محل الرفع نائب فاعل لقول محذوف، تقديره: قيل له: الآن تؤمن، والجملة المحذوفة مستأنفة ﴿وَقَدْ عَصَيْتَ﴾ ﴿الواو﴾: حالية ﴿قد﴾: حرف تحقيق ﴿عَصَيْتَ﴾: فعل وفاعل ﴿قَبْلُ﴾: في محل النصب على الظرفية الزمانية مبني على الضم، لقطعه عن الإضافة، والظرف متعلق بـ ﴿عَصَيْتَ﴾ والجملة الفعلية في محل النصب حال
﴿فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ﴾.
﴿فَالْيَوْمَ﴾: الفاء: عاطفة تفريعية ﴿اليوم﴾: منصوب على الظرفية متعلق بما بعده ﴿نُنَجِّيكَ﴾: فعل ومفعول به، وفاعله ضمير يعود على الله ﴿بِبَدَنِكَ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بمحذوف حال من الكاف؛ أي: ننجيك ملتبسًا ببدنك فقط، لا مع روحك، كما هو مطلوبك، فهو تخييب له وحسم لطمعه، والجملة الفعلية في محل الرفع معطوفة على جملة أتؤمن الآن على كونها نائب فاعل للقول المحذوف، تقديره: قيل له أتؤمن الآن، فاليوم ننجيك ببدنك. ﴿لِتَكُونَ﴾ اللام: حرف جر وتعليل ﴿تكون﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة بعد لام كي واسمها ضمير يعود على ﴿فِرعَوْنَ﴾. ﴿لِمَنْ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿تَكُونُ﴾ أو حال من آية لأنه صفة نكرة قدمت عليها ﴿خَلْفَكَ﴾: ظرف ومضاف إليه صلة من الموصولة ﴿آيَةً﴾: خبر ﴿تَكوُنُ﴾ وجملة ﴿أَنْ﴾ المضمرة مع صلتها في تأويل مصدر مجرور باللام تقديره: لكونك آية لمن خلفك، الجار والمجرور متعلق بـ ﴿نُنَجِّيكَ﴾ ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا﴾ ناصب واسمه ﴿مِنَ النَّاسِ﴾ صفة لـ ﴿كَثِيرًا﴾ ﴿عَنْ آيَاتِنَا﴾: متعلق بـ ﴿غافلون﴾ ﴿لَغَافِلُونَ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾ والجملة مستأنفة اعتراضية تذييلية لا محل لها من الإعراب.
﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٩٣)﴾.
﴿وَلَقَدْ﴾: الواو: استئنافية. اللام: موطئة للقسم ﴿قد﴾: حرف تحقيق. ﴿بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ فعل وفاعل ومفعول به ﴿مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾: منصوب على الظرفية المكانية متعلق بـ ﴿بَوَّأْنَا﴾ وهو من إضافة الموصوف إلى صفته؛ أي: مبوأً
﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ﴾.
﴿فَإِنْ﴾: الفاء: استئنافية ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿كُنْتَ﴾: فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها. ﴿فِي شَكٍّ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كَانَ﴾. ﴿مِمَّا﴾ جار ومجرور صفة لـ ﴿شَكٍّ﴾ و ﴿مِن﴾ بمعنى في. ﴿أَنْزَلْنَا﴾: فعل وفاعل ﴿إِلَيْكَ﴾ متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿ما﴾ أو صفة لها، والعائد أو الرابط محذوف، تقديره: مما أنزلناه إليك. ﴿فَاسْأَلِ﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية وجوبًا. ﴿اسأل﴾: فعل أمر وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿الَّذِينَ﴾: مفعول أول لسأل والثاني محذوف، تقديره: عنه. ﴿يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ﴾: فعل وفاعل ومفعول. ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾: جار ومجرور حال من واو ﴿يقرؤون﴾، وجملة ﴿يقرؤون﴾: صلة الموصول، وجملة سأل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة. ﴿لَقَدْ﴾
﴿وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾.
﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَكُونَنَّ﴾: فعل مضارع ناقص في محل الجزم بـ ﴿لا﴾ الناهية، واسمها ضمير يعود على محمَّد. ﴿مِنَ الَّذِينَ﴾: جار ومجرور خبر ﴿تكون﴾ وجملة ﴿تكون﴾ معطوفة على جملة ﴿تَكُونَنَّ﴾ الأولى ﴿كَذَّبُوا﴾ فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿بآيات الله﴾: جار ومجرور ومضاف إليه، متعلق بـ ﴿كَذَّبُوا﴾. ﴿فَتَكُونَ﴾ الفاء: عاطفة سببية. ﴿تكون﴾: فعل مضارع ناقص منصوب بأن مضمرة وجوبًا بعد الفاء السببية الواقعة في جواب النهي، واسمها ضمير يعود على محمَّد. ﴿مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾: خبرها وجملة ﴿تكون﴾ صلة أن المضمرة أن مع صلتها في تأويل مصدر معطوف على مصدر متصيد من الجملة التي قبلها، من غير سابك لإصلاح المعنى، تقديره: لا يكن تكذيبك بآيات الله فكونك من الخاسرين.
﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (٩٦) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (٩٧)﴾.
﴿إِنَّ الَّذِينَ﴾: ناصب واسمه ﴿حَقَّتْ﴾: فعل ماض ﴿عَلَيْهِمْ﴾: متعلق به ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾: فاعل ومضاف إليه، والجملة الفعلية صلة الموصول. وجملة ﴿لَا يُؤْمِنُونَ﴾ في محل الرفع خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ مستأنفة. ﴿وَلَوْ﴾ الواو: اعتراضية. ﴿لو﴾: حرف شرط ﴿جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ﴾: فعل وفاعل ومفعول،
﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ﴾.
﴿فَلَوْلَا﴾: الفاء: استئنافية، ﴿لولا﴾: تحضيضية مضمنة معنى النفي. ﴿كَانَتْ قَرْيَةٌ﴾ فعل وفاعل لأن ﴿كان﴾ هنا تامة. ﴿آمَنَتْ﴾: فعل ماض، وفاعله ضمير يعود على ﴿قَرْيَةٌ﴾ والجملة في محل الرفع صفة لـ ﴿قَرْيَةٌ﴾ وجملة ﴿كان﴾ مستأنفة. ﴿فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا﴾: فعل ومفعول وفاعل، والجملة في محل الرفع معطوفة على جملة ﴿آمَنَتْ﴾ على كونها صفة لـ ﴿قَرْيَةٌ﴾ ولكنها صفة سببية. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء ﴿قَوْمَ يُونُسَ﴾: منصوب على الاستثناء. ﴿يُونُسَ﴾: ممنوع من الصرف للعلمية والعجمة ﴿لَمَّا﴾: حرف شرط غير جازم ﴿آمَنُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة فعل شرط لـ ﴿لَمَّا﴾. ﴿كَشَفْنَا﴾ فعل وفاعل. ﴿عَنْهُمْ﴾ متعلق به ﴿عَذَابَ الْخِزْيِ﴾: مفعول به ومضاف إليه، والجملة جواب ﴿لَمَّا﴾ لا محل لها من الإعراب، وجملة ﴿لَمَّا﴾ مستأنفة. ﴿فِي الْحَيَاةِ﴾ متعلق بـ ﴿كَشَفْنَا﴾. ﴿الدُّنْيَا﴾ صفة للحياة. ﴿وَمَتَّعْنَاهُمْ﴾ فعل وفاعل ومفعول. ﴿إِلَى حِينٍ﴾ متعلق به، والجملة معطوفة على جملة ﴿كَشَفْنَا﴾ على كونها جواب لما.
﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (٩٩)﴾.
﴿وَلَوْ﴾: الواو: استئنافية. ﴿لو﴾: حرف شرط ﴿شَاءَ رَبُّكَ﴾: فعل وفاعل والجملة فعل شرط لـ ﴿لو﴾. ﴿لَآمَنَ﴾ اللام: رابطة لجواب ﴿لو﴾. ﴿آمن من﴾ فعل وفاعل، والجملة جواب ﴿لو﴾ الشرطية وجملة ﴿لو﴾ الشرطية مستأنفة. {فِي
﴿وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (١٠٠)﴾.
﴿وَمَا﴾: ﴿الواو﴾ استئنافية. ﴿ما﴾: نافية. ﴿كَانَ﴾: فعل ماض ناقص. ﴿لِنَفْسٍ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كَانَ﴾ مقدم. ﴿أَنْ تُؤْمِنَ﴾: ناصب وفعل وفاعله ضمير يعود على النفس. ﴿إِلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿بِإِذْنِ اللَّهِ﴾: متعلق بـ ﴿تُؤْمِنَ﴾ وجملة: ﴿تُؤْمِنَ﴾ في تأويل مصدر مرفوع على كونه اسم ﴿كَانَ﴾ تقديره: وما كان الإيمان إلا بإذن الله، كائنًا لنفس، وجملة ﴿كَانَ﴾ مستأنفة مسوقة لتعليل قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ﴾ ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على الله، والجملة الفعلية معطوفة على محذوف، تقديره: فيأذن الله لبعضهم في الإيمان ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون ﴿عَلَى الَّذِينَ﴾: جار ومجرور متعلق بـ ﴿يَجْعَلُ﴾. وجملة ﴿لَا يَعْقِلُونَ﴾ صلة الموصول.
﴿قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ﴾.
﴿قُلِ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد والجملة مستأنفة ﴿انْظُرُوا مَاذَا...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿انْظُرُوا﴾: فعل وفاعل، والجملة في محل النصب مقول محكي. ﴿مَاذَا﴾ ﴿ما﴾ اسم استفهام في محل الرفع مبتدأ ﴿ذا﴾: اسم موصول بمعنى الذي في محل الرفع خبر، والجملة الاسمية في محل النصب مفعول ﴿انْظُرُوا﴾ لتعليق العامل، وهو ﴿انْظُرُوا﴾ عنها
﴿فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ﴾.
﴿فَهَلْ﴾ الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر تقديره: إذا عرفت أن الآيات لا تغني فيهم شيئًا، وأردت بيان عاقبتهم. فأقول لك. ﴿هل ينتظرون﴾: ﴿هَلْ﴾: حرف للاستفهام الإنكاري. ﴿يَنْتَظِرُونَ﴾: فعل وفاعل ﴿إلَّا﴾: أداة استثناء مفرغ. ﴿مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ﴾: مفعول به، ومضاف إليه. ﴿خَلَوْا﴾: فعل وفاعل صلة الموصول ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾: متعلق بـ ﴿خَلَوْا﴾ وجملة ﴿يَنْتَظِرُونَ﴾ في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة مستأنفة.
﴿قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد والجملة مستأنفة. ﴿فَانْتَظِرُوا...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿فَانْتَظِرُوا﴾ الفاء: فاء الفصيحة، لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت ما ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا وأردت بيان ما تقول لهم فأقول لك. ﴿انتظروا﴾: فعل وفاعل، والجملة الفعلية في محل النصب مقول لجواب إذا المقدرة، وجملة إذا المقدرة في محل النصب مقول لـ ﴿قُلْ﴾ ﴿إِنِّي﴾: ناصب واسمه. ﴿مَعَكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿الْمُنْتَظِرِينَ﴾ ﴿مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾: خبر ﴿إنَّ﴾ وجملة ﴿إنَّ﴾ في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾.
﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ﴾.
﴿ثُمَّ﴾: حرف عطف. ﴿نُنَجِّي رُسُلَنَا﴾ فعل ومفعول. ﴿وَالَّذِينَ﴾: معطوف عليه
التصريف ومفردات اللغة
﴿زِينَةً وَأَمْوَالًا﴾ الزينة: الحلل والحلي والأثاث والرياش والماعون. والأموال ما وراء ذلك من الذهب والفضة والأنعام والزروع ونحو ذلك. قال ابن عباس: كان من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة، جبال فيها ذهب وفضة، وزبرجد وياقوت، اهـ كرخي. وفي "المصباح" الفسطاط بضم الفاء وكسرها: مدينة مصر قديمًا. ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾ وفي "المختار" طمس الطريق، من باب دخل، وجلس، وطمسه إذا غيره، من باب ضرب، فهو متعد ولازم. وقوله تعالى: ﴿رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ﴾؛ أي: غيرها كما قال: ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا﴾ اهـ. والطمس: إزالة أثر الشيء بالمحو. ومعنى اطمس على أموالهم: أزل صورها وهيئاتها، وقال مجاهد: أهلكها. وقال أكثر المفسرين: امسخها وغيرها عن هيئاتها، ويقال: طمس الأثر وطمسته الريح، إذا زال. ﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾؛ أي: اربط على قلوبهم واطبع عليها وقسّها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان. ومعنى الشد على القلوب: الاستيثاق منها حتى لا يدخلها الإيمان. وفي "المختار" شده يشده، من باب نصر ويشده - من باب ضرب - شدا فيهما إذا أوثقه اهـ. والشد على القلب: الطبع عليه، وقسوته حتى لا ينشرح للإيمان. ﴿وَلَا تَتَّبِعَانِّ﴾ بتشديد التاء من اتبع الخماسي وتخفيفها من تبع الثلاثي، يقال: تبعه إذا مشى خلفه، واتبعه إذا أدركه ولحقه. ﴿وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ﴾ من جاوز
﴿وننجيك﴾؛ أي: نجعلك على نجوةٍ من الأرض، والنجوة: المكان المرتفع من الأرض، وقرىء بالتشديد من نجى المضعف ينجي تنجية، وبالتخفيف من أنجى الرباعي من باب أفعل ينجي إنجاءً. ﴿آية﴾ والآية: العبرة والعظة ﴿وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ﴾؛ أي: منزلًا صالحًا مرضيًّا، وأصل الصدق: ضد الكذب، ولكن جرت عادة العرب أنهم إذا مدحوا شيئًا أضافوه إلى الصدق، فقالوا: مكان صدق إذا كان كاملًا في صفته، صالحًا للغرض المقصود منه، كأنهم أرادوا أن كل ما يظهر فيه من الخير فهو صادق. ﴿فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ﴾ والشك في أصل اللغة: ضم الشيء بعضه إلى بعض، ومنه شك الجوهر في العقد، والشاك كأنه يضم إلى ما يتوهمه شيئًا آخر خلافه، فيتردد ويتحير ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ﴾ لولا كلمة تفيد التحضيض والتوبيخ كهلّا، والمراد بالقرية أهلها، وهو كثير الاستعمال بهذا المعنى. ﴿عَذَابَ الْخِزْيِ﴾ والخزي الذل والهوان. ﴿إِلَى حِينٍ﴾ والحين: مدة من الزمن، والمراد بها العمر الطبيعي الذي يعيشه كل شخص. ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ والإذن بالشيء: الإعلام بإجازته، والرخصة فيه، ورفع الحجر عنه. ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ﴾ والرجس لغة: الشيء القبيح المستقذر، والمراد به هنا العذاب.
البلاغة
وقد تضمنت هذه الآيات أنواعًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
ومنها: الاستعارة التصريحية التبعية في قوله: ﴿وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ﴾؛ لأن الشد حقيقة في ربط الأجرام بعضها إلى بعض كشد الحبال، شبه قسوة القلوب وتغليظها وعدم لينها للإيمان بشد الأجرام وربطها على طريقة الاستعارة التصريحية.
ومنها: تكرار المعنى الواحد ثلاث مرات ليقبل إيمانه في قوله: ﴿قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي﴾ إلخ، فإنه كرر إقراره بالإيمان ثلاث مرات في قوله: ﴿آمَنْتُ﴾ وفي قوله: ﴿أنه﴾ وفي قوله: ﴿وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.
ومنها: الاستفهام الإنكاري في قوله: ﴿آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ﴾.
ومنها: الاعتراض التذييلي في قوله: ﴿وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ إلخ، لأنه كلام معترض جيء به عقب الحكاية تقريرًا للكلام المحكي.
ومنها: جناس الاشتقاق بين قوله: ﴿بوأنا﴾ و ﴿مبوأ﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿كَلِمَتُ رَبِّكَ﴾؛ لأنه كناية عن القضاء والحكم الأزلي بالشقاوة عليهم.
ومنها: التحضيض المضمن للتوبيخ والنفي في قوله: ﴿فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ﴾.
ومنها: المجاز المرسل في قوله: ﴿قَرْيَةٌ﴾ من باب تسمية الحال باسم المحل لا مجاز بالحذف كما قيل.
ومنها: إيلاء الاسم حرف الاستفهام في قوله: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ﴾ للإعلام بأن الإكراه ممكن مقدور عليه، وإنما الشأن في المكره من هو، وما هو إلا هو وحده، لا يشارك فيه؛ لأنه هو القادر على أن يلقي في قلوبهم ما يضطرون عنده إلى الإيمان، وذلك غير مستطاع للبشر، اهـ "كرخي".
ومنها: الإظهار في مقام الإضمار في قوله: ﴿وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ﴾؛
ومنها: حكاية الأحوال الماضية في قوله: ﴿ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا﴾، حيث عبر بالمضارع حكايةً عن الماضي لتهويل أمرها، باستحضار صورتها، وكذلك في قوله: ﴿وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ﴾ حيث ذكر المضارع بمعنى الماضي.
ومنها: جناس الاشتقاق في قوله: ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ﴾.
ومنها: الزيادة والحذف في مواضع.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٠٦) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٠٧) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (١٠٨) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (١٠٩)﴾.
المناسبة
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي...﴾ الآيات، مناسبة هذه الآيات لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر الأدلة على صدقه في رسالته وصحة الدين الذي جاء به وبسطها غاية البسط حتى لم يبق فيها مجال للشك.. أردف (١) ذلك بالأمر بإظهار دينه وبإظهار الفارق بينه وبين ما هم عليه من عبادة الأوثان والأصنام التي لا تضر ولا تنفع، وبيان أن الذي بيده النفع والضر هو الله الذي خلقهم وبيده تصريف أمورهم.
قوله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ...﴾ الآية، مناسبة هذه الآية لما قبلها: أن الله سبحانه وتعالى، لما قرر دلائل التوحيد، والنبوة، والمعاد.. ختم السورة بهذا البلاغ للناس كافة بمقتضى البعثة العامة، وهو إجمال لما تقدم من التفصيل فيها.
التفسير وأوجه القراءة
١٠٤ - ﴿قُلْ﴾ يا محمَّد لهؤلاء الذين أرسلناك إليهم، فشكوا في أمرك ولم يؤمنوا
وخص (٢) صفة المتوفي من بين الصفات، لما في ذلك من التهديد لهم؛ أي: أعبد الله الذي يتوفاكم فيفعل بكم ما يفعل من العذاب الشديد، ولكونه يدل على الخلق أولًا وعلى الإعادة ثانيًا، ولكونه أشد الأحوال مهابةً في القلوب،
(٢) الشوكاني.
ومعنى الآية: قل لهم أيها الرسول: إن كنتم في شك من ديني الذي أدعوكم إليه، ولم يتبين لكم أنه الحق، فاسمعوا وصفه واعرضوه على عقولكم، وانظروا فيه لتعلموا أنه لا مدخل فيه للشك، إني لا أعبد الحجارة التي تعبدونها من دون إلهكم وخالقكم، بل أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذا شاء، وينفعهم ويضرهم إذا أراد، ومثل هذا هو الحقيق بأن يعبد، وأن يخاف، وأن يتقى، دون من لا يقدر على شيء من ذلك، وفي ذلك تعريض لطيف وإيماء إلى أن مثل هذا الدين لا يشك فيه، وإنما ينبغي أن تشكوا فيما أنتم عليه، من عبادة الأصنام التي لا تعقل ولا تضر ولا تنفع، إذ عبادة الخالق لا يستنكرها ذو الفطرة السليمة، أما عبادة الأصنام فيستنكرها كل ذي لب وعقل سليم، وقد أمرت أن أكون من المؤمنين الذين وعدهم الله بالنجاة من عذابه، وبنصرهم على أعدائهم واستخلافهم في الأرض.
١٠٥ - وجملة قوله: ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ﴾ معطوفة (١) على جملة قوله: ﴿أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ ولا يمنع من ذلك كون المعطوف بصيغة الأمر، لأن المقصود من أن الدلالة على المصدر وذلك لا يختلف بالخبرية والإنشائية؛ أي: وأمرت أن أكون من المؤمنين، وأمرت أن أقيم وجهي للدين القيم، الذي لا عوج فيه حالة كوني ﴿حَنِيفًا﴾؛ أي: مائلًا من الأديان الباطلة إلى الدين الحق. فحنيفًا، حال من الوجه، أو من الدين، كما سيأتي، وذلك بالتوجه إلى الله وحده في الدعاء وغيره بدون التفات إلى شيء سواه، ونحو الآية قوله: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾. فمن توجه قلبه إلى غيره
والمعنى: إن الله سبحانه وتعالى أمره بالاستقامة في الدين، والثبات فيه، وعدم التزلزل عنه بحال من الأحوال، وخص الوجه، لأنه أشرف الأعضاء أو أمره باستقبال القبلة في الصلاة وعدم التحول عنها.
ثم أكد (١) الأمر المتقدم بالنهي عن ضده فقال: ﴿وَلَا تَكُونَنَّ﴾ يا محمَّد ﴿مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾؛ أي: ممن يشرك في عبادة ربه الآلهة والأنداد، كأرباب الديانات الوثنية الباطلة الذين يجعلون بينهم وبين الله حجابًا من الوسطاء والأولياء والشفعاء، يوجهون قلوبهم إليهم عند الشدة تصيبهم، والحاجة تستعصي عليهم، ليقضوا لهم حاجتهم، إما بأنفسهم أو بشفاعتهم ووساطتهم عند ربهم، فإن فعلت ذلك كنت من الهالكين، وهذا من باب التعريض لغيره، - ﷺ -.
١٠٦ - وقوله: ﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ﴾ معطوف (٢) على ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ غير داخل تحت الأمر. وقيل: معطوف على ﴿وَلَا تَكُونَنَّ﴾؛ أي: ولا تدع يا محمَّد من دون الله في حال من الأحوال ما لا ينفعك ولا يضرك بشيء من النفع والضر إن دعوته، ودعاء من كان هكذا لا يجلب نفعًا ولا يدفع ضرًّا ضائع لا يفعله عاقل، على تقدير أنه لا يوجد من يقدر على النفع والضر غيره، فكيف إذا كان موجودًا، فإن العدول عن دعاء القادر إلى دعاء غير القادر أقبح وأفحش، أي (٣): ولا تدع أيها الرسول غيره تعالى دعاء عبادة لا على سبيل الاشتراك، بوساطة الشفعاء ما لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك إن تركت دعاءه ولا إن دعوت غيره.
﴿فَإِنْ فَعَلْتَ﴾؛ أي: فإن دعوت غيره تعالى ولكنه كنى عن القول بالفعل ﴿فَإِنَّكَ﴾ يا محمَّد ﴿إِذًا﴾؛ أي: إذا دعوت غير الله تعالى ﴿مِنَ الظَّالِمِينَ﴾ لأنفسهم بحرمانها من سعادة الدارين، وهذا جواب الشرط؛ أي: فإن دعوت من دون الله
(٢) الشوكاني.
(٣) المراغي.
١٠٧ - ثم أكد سبحانه وتعالى المعنى السالف ودحض شبهة الذين يدعون غير الله؛ لأنهم طالما استفادوا من دعائهم والاستغاثة بهم فشفيت أمراضهم وكشف الضر عنهم فقال: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ﴾؛ أي: وإن يصبك الله سبحانه وتعالى أيها الإنسان ﴿بِضُرٍّ﴾ كمرض يصيبك، بمخالفة سننه في حفظ الصحة أو نقص في الأموال والثمرات، بأسباب لك فيها عبرة، أو ظلم يقع عليك من غيرك.. ﴿فَلَا كَاشِفَ﴾ ولا رافع ﴿له﴾؛ أي: لذلك الضر ﴿إِلَّا هُوَ﴾ سبحانه وتعالى، بل هو المختص بكشفه كما اختص بإنزاله، وقد جعل الله سبحانه للأشياء أسبابًا يعرفها خلقه بتجاربهم، ككشف الأمراض بمعرفة أسبابها. ومعرفة خواص العقاقير التي يتداوى بها، فعلينا أن نطلبها من الأسباب ونأتي البيوت من الأبواب، ونتوجه إلى الله وحده وندعوه مخلصين له متوكلين عليه.
﴿وَإِنْ يُرِدْكَ﴾ ربك أيها الإنسان ﴿بِخَيْرٍ﴾؛ أي: برخاء ونعمة وعافية ﴿فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ﴾؛ أي: فلا يقدر أحد أن يحول بينك وبين فضله الذي تعلقت به إرادته تعالى، فما شاء كان حتمًا، فلا يُرجى خير ولا نفع إلا من فضله، ولا يخاف رد ما يريده فهو ﴿يُصِيبُ بِهِ﴾؛ أي: بفضله ﴿مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ بكسب أو بغير كسب، وبسبب ما قدره في السنن العامة، وبغير سبب ففضله تعالى على عباده عام بعموم رحمته، بخلاف الضر فإنه لا يقع إلا بسبب من الأسباب الخاصة بكسب العبد، أو العامة في نظام الخلق، كالأمراض التي تعرض بترك أسباب الصحة والوقاية، جهلًا أو تقصيرًا، وفساد العمران وسقوط الدول الذي يقع بترك العدل، وكثرة الظلم. ﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿الْغَفُورُ﴾ لذنوب من تاب، وأناب من عباده، من كفره وشركه إلى الإيمان به، وطاعته ﴿الرَّحِيمُ﴾ بمن آمن به منهم، فلا يعذبه بعد التوبة، ولولا مغفرته الواسعة ورحمته العامة، لأهلك الناس جميعًا
قلت: كأنه أراد أن يذكر الأمرين جميعًا الإرادة والإصابة في كل واحد من الضر والخير، وأنه لا رادَّ لما يريد منهما، ولا مزيل لما يصيب به منهما، فأوجز الكلام، بأن ذكر المسَّ، وهو الإصابة في أحدهما، والإرادة في الآخر، ليدل بما ذكر على ما ترك على أنه قد كرر الإصابة في الخير في قوله: ﴿يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾.
وجملة قوله: ﴿وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ تذييلية، ثم ختم هذه السورة بما يستدل به على قضائه وقدره،
١٠٨ - فقال: ﴿قُلْ﴾ لهم أيها الرسول مخاطبًا جميع الناس من حضر منهم فسمع هذه الدعوة منك ومن ستبلغه عنك: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ وهو القرآن العظيم المشتمل على محاسن الأحكام، المبين لحقيقة هذا الدين، وقد أوحى به إلى رجل منكم ﴿فَمَنِ اهْتَدَى﴾ بالإيمان به ﴿فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ لا لغيره؛ أي: فمنفعة اهتدائه مختصة بها؛ أي: فمن (٢) سلك سبيل الحق وصدق بما جاء من عند الله في كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فإنما فائدة ذلك عائدة إليه؛ لأنه يفوز بالسعادة في دنياه ودينه، وذلك إنما يكون بعمله لا بعمل غيره، ولا بتأثيره بشفاعته أو وساطته.
﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾ بالإعراض عنه ﴿فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾؛ أي: فوبال ضلاله مقصور على نفسه لا يتعداها، وليس لله حاجة في شيء من ذلك، ولا غرض يعود إليه؛ أي: ومن اعوج عن الحق الذي أتاه من عند الله وأعرض عن كتابه وعن آياته في الأنفس والآفاق، فإنما وبال ضلاله على نفسه، بما يفوته من فوائد الاهتداء في الدنيا وما يصيبه من العذاب على كفره وجرائمه في الآخرة.
(٢) المراغي.
١٠٩ - ثم أمر الله سبحانه وتعالى رسوله - ﷺ - أن يتبع ما أوحاه إليه من الأوامر والنواهي التي يشرعها الله تعالى له ولأمته، فقال: ﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾؛ أي (١): واتبع أيها الرسول وحي الله الذي أنزله إليك في كتابه، واعمل به وعلمه أمتك. ثم أمره بالصبر على أذى الكفار، وما يلاقيه من مشاق التبليغ وما يعاينه من تلون أخلاق المشركين وتعجرفهم، وجعل ذلك الصبر ممتدًا إلى حكمه بينه وبينهم، فقال: ﴿وَاصْبِرْ﴾ يا محمَّد على ما يصيبك من الأذى والمكاره، وعلى ما ينالك من قومك ﴿حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ﴾؛ أي: حتى يقضي الله بينك وبين المكذبين لك، وينجز لك ما وعدك؛ أي: حتى يحكم الله سبحانه وتعالى بينك وبينهم، في الدنيا بالنصر لك عليهم، وفي الآخرة بعذابهم بالنار، وهم يشاهدونه، - ﷺ -، هو وأمته المتبعون له المؤمنون به، العاملون بما يأمرهم به، المنتهون عما ينهاهم عنه، يتقلبون في نعيم الجنة الذي لا ينفد ولا يمكن وصفه، ولا يوقف على أدنى مزاياه.
﴿وَهُوَ﴾ سبحانه وتعالى ﴿خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾؛ أي: خير القاضين وأعدل الفاصلين، فهو لا يحكم إلا بالحق، وغيره قد يحكم بالباطل، إما لجهله بالحق، أو مخالفته له باتباع الهوى، وقد امتثل رسوله أمر ربه وصبر حتى حكم الله بينه وبين قومه، وأنجز وعده له، - ﷺ - ولمن اتبعه من المؤمنين، فاستخلفهم في الأرض وجعلهم الأئمة الوارثين ما أقاموا الدين. ولا يخفى ما في هذه الآيات من التسلية لنبيه ووعده للمؤمنين ووعيده للكافرين. وأنشد (٢) بعضهم في الصبر شعرًا فقال:
(٢) المراح.
سَأَصْبِرُ حَتَّى يَعْجَزَ الصَّبْرُ عَنْ صَبْرِيْ | وَأصْبِرُ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ فِيْ أَمْرِيْ |
سَأصْبِرُ حَتَّى يَعْلَمَ الصَّبْرُ أنَّنِي | صَبَرْتُ عَلَى شَيءٍ أَمَرَّ مِنَ الصَّبْرِ |
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (١٠٤)﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ...﴾ إلى آخر الآية مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء، ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه ﴿النَّاسُ﴾: صفة لأي وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ ﴿إن﴾ حرف شرط ﴿كُنْتُمْ﴾؛ فعل ناقص واسمه في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها فعل شرط لها. ﴿فِي شَكٍّ﴾: جار ومجرور خبر ﴿كاَنَ﴾. ﴿مِنْ دِينِي﴾ جار ومجرور متعلق بـ ﴿شَكٍّ﴾ ﴿فَلَا﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية ﴿لا﴾ نافية ﴿أَعْبُدُ الَّذِينَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة الفعلية في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها وجملة ﴿إن﴾ الشرطية في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾ على كونها جواب النداء. ﴿تَعْبُدُونَ﴾: فعل وفاعل صلة الموصول. ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به. ﴿وَلَكِنْ﴾ ﴿الواو﴾ عاطفة. لكن حرف استدراك. ﴿أَعْبُدُ اللَّهَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الشرطية على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾ ﴿الَّذِي﴾ اسم موصول في محل النصب صفة الجلالة. ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾: فعل ومفعول وفاعله ضمير يعود على الموصول، والجملة صلة الموصول ﴿وَأُمِرْتُ﴾ فعل ونائب فاعل والجملة في محل النصب معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿أَنْ أَكُونَ﴾ ناصب وفعل ناقص واسمها ضمير يعود على محمَّد. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ خبر أكون صلة ﴿أَن﴾ المصدرية ﴿أَن﴾ مع صلتها في تأويل مصدر مجرور بحرف جر محذوف، تقديره: وأمرت بكوني من المؤمنين.
﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١٠٥)﴾.
﴿وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ﴾.
﴿وَلَا﴾: الواو: عاطفة ﴿لا﴾: ناهية جازمة. ﴿تَدْعُ﴾ فعل مضارع جزوم بـ ﴿لا﴾ الناهية، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة معطوفة على جملة قوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ كما في "أبي السعود"، ويجوز أن تكون مستأنفة كما في "السمين" ﴿مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾: متعلق به ﴿مَا﴾: موصولة أو موصوفة، في محل النصب مفعول ﴿تدع﴾ ﴿لَا يَنْفَعُكَ﴾ فعل ومفعول، وفاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿وَلَا يَضُرُّكَ﴾ معطوف عليه والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها.
﴿فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾.
﴿فَإن﴾: الفاء: فاء الفصيحة؛ لأنها أفصحت عن جواب شرط مقدر، تقديره: إذا عرفت نهينا لك عن دعاء ما لا ينفع ولا يضر، وأردت بيان حكم ما إذا فعلت ذلك.. فأقول لك ﴿إِن﴾: حرف شرط. ﴿فَعَلْتَ﴾: فعل وفاعل في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها فعل شرط لها ﴿فَإِنَّكَ﴾ الفاء رابطة لجواب ﴿إن﴾ الشرطية. ﴿إنك﴾ ناصب واسمه ﴿إِذًا﴾ حرف جواب توسطت بين اسم ﴿إنَّ﴾
﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾.
﴿وَإِنْ﴾: الواو: استئنافية. ﴿إن﴾ حرف شرط. ﴿يَمْسَسْكَ اللَّهُ﴾ فعل ومفعول وفاعل مجزوم بـ ﴿إن﴾ على كونه فعل شرط لها ﴿بِضُرٍّ﴾: متعلق به ﴿فَلَا﴾ الفاء رابطة. ﴿لَا﴾: نافية تعمل عمل إن ﴿كَاشِفَ﴾: في محل النصب اسمها. ﴿لَهُ﴾ جار ومجرور خبر ﴿لا﴾. ﴿إِلَّا﴾ أداة استثناء مفرغ ﴿هُوَ﴾ ضمير للمفرد المنزه عن الذكورة والأنوثة والغيبة، في محل الرفع بدل من الضمير المستكن في خبر لا المحذوف، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية مستأنفة ﴿وَإِنْ﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿إن﴾: حرف شرط ﴿يُرِدْكَ﴾: فعل ومفعول في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على الله. ﴿بِخَيْرٍ﴾ متعلق به ﴿فَلَا رَادَّ﴾ الفاء رابطة. ﴿لا﴾: نافية ﴿راد﴾: في محل النصب اسمها ﴿لِفَضْلِهِ﴾. جار ومجرور ومضاف إليه متعلق به، وخبر ﴿لا﴾ محذوف جوازًا تقديره: فلا راد لفضله موجود، وجملة ﴿لا﴾ في محل الجزم بـ ﴿إن﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿إن﴾ الشرطية معطوفة على جملة ﴿إن﴾ الأولى. ﴿يُصِيبُ﴾: فعل مضارع، وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾. ﴿بِهِ﴾ متعلق به ﴿مَن﴾ اسم موصول في محل النصب مفعول به. ﴿يَشَاءُ﴾ فعل مضارع وفاعله ضمير يعود على ﴿اللَّهُ﴾ ومفعول المشيئة محذوف، تقديره يشاءه، وهو عائد على ﴿مَن﴾ الموصولة. ﴿مِنْ﴾ ﴿عِبَادِهِ﴾ حال من الضمير المحذوف من ﴿مَن﴾ الموصولة وجملة ﴿يشاء﴾ صلة من الموصولة وجملة ﴿يصيب﴾ في محل النصب حال من ضمير ﴿فضلِهِ﴾. ﴿وَهُوَ﴾. مبتدأ ﴿الْغَفُورُ﴾ خبر أول ﴿الرَّحِيمُ﴾ خبر ثانٍ. والجملة الاسمية
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ﴾.
﴿قُلْ﴾: فعل أمر، وفاعله ضمير يعود على محمَّد، والجملة مستأنفة. ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ...﴾ إلى آخر الآية: مقول محكي، وإن شئت قلت: ﴿يا﴾: حرف نداء. ﴿أي﴾: منادى نكرة مقصودة. ﴿ها﴾: حرف تنبيه ﴿النَّاسُ﴾ صفة لأي، وجملة النداء في محل النصب مقول ﴿قُلْ﴾. ﴿قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ﴾: فعل ومفعول وفاعل ﴿مِنْ رَبِّكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿جاء﴾ أو حال من ﴿الْحَقُّ﴾ والجملة الفعلية في محل النصب مقول القول على كونها جواب النداء.
﴿فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ﴾.
﴿فَمَنِ﴾: الفاء: حرف عطف وتفصيل. ﴿من﴾: اسم شرط جازم في محل الرفع مبتدأ، والخبر جملة الشرط أو الجواب أو هما ﴿اهْتَدَى﴾: فعل ماض في محل الجزم بـ ﴿من﴾ على كونه فعل شرط لها، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿فَإِنَّمَا﴾ الفاء: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية. ﴿إنما﴾: أداة حصر ونفي. ﴿يَهْتَدِي﴾: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿لِنَفْسِهِ﴾: متعلق به، وجملة ﴿يَهْتَدِي﴾ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة قوله: ﴿قَدْ جَاءَكُمُ﴾ على كونها مقولًا لـ ﴿قُلْ﴾. ﴿وَمَن﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة. ﴿من﴾: اسم شرط في محل الرفع مبتدأ. ﴿ضَلَّ﴾: فعل ماضٍ في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿فَإِنَّمَا﴾ ﴿الفاء﴾: رابطة لجواب ﴿من﴾ الشرطية ﴿إنما﴾: أداة حصر. ﴿يَضِلُّ﴾: فعل مضارع مرفوع، وفاعله ضمير يعود على ﴿من﴾. ﴿عَلَيْهَا﴾: متعلق به، والجملة في محل الجزم بـ ﴿من﴾ الشرطية على كونها جوابًا لها، وجملة ﴿من﴾ الشرطية في محل النصب معطوفة على جملة ﴿من﴾ الأولى. ﴿وَمَا﴾ ﴿الواو﴾: عاطفة ﴿ما﴾: حجازية أو تميمية. ﴿أَنَا﴾: في محل الرفع اسمها أو مبتدأ. ﴿عَلَيْكُمْ﴾: متعلق بـ ﴿بوكيل﴾.
﴿وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (١٠٩)﴾.
﴿وَاتَّبِعْ﴾: فعل أمر معطوف على ﴿قُلْ﴾ وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿مَا﴾ موصولة أو موصوفة في محل النصب مفعول به. ﴿يُوحَى﴾: فعل مضارع مغير الصيغة، ونائب فاعله ضمير يعود على ﴿مَا﴾. ﴿إِلَيْكَ﴾؛ متعلق به، والجملة صلة لـ ﴿مَا﴾ أو صفة لها ﴿وَاصْبِرْ﴾: فعل أمر معطوف على ﴿وَاتَّبِعْ﴾ وفاعله ضمير يعود على محمَّد. ﴿حَتَّى﴾ حرف جر وغاية. ﴿يَحْكُمَ اللَّهُ﴾ فعل وفاعل منصوب بـ ﴿أن﴾ مضمرة وجوبًا بعد ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى والجملة الفعلية في تأويل مصدر مجرور بـ ﴿حَتَّى﴾ بمعنى إلى الجار والمجرور متعلق باصبر والتقدير واصبر إلى حكم الله تعالى بينك وبينهم. ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾: مبتدأ وخبر والجملة في محل النصب حال من الجلالة.
التصريف ومفردات اللغة
﴿فِي شَكٍّ﴾ والشك: إدراك الطرفين على السواء، والظن: إدراك الطرف الراجح، والتوهم: إدراك الطرف المرجوح، وهو مصدر شك يشك، من باب شد، والتعبير عما هم فيه بالشك مع كونهم قاطعين بعدم الصحة للإيذان بأن أقصى ما يمكن عروضه للعاقل في هذا الباب، هو الشك في صحته، وأما القطع بعدمها فمما لا سبيل إليه، كما مر ذكره عن "أبي السعود". ﴿مِنْ دِينِي﴾ والدين لغةً: ما يتدين به الشخص، باطلًا كان، أو حقًّا، وشرعًا ما شرعه الله تعالى لعباده على لسان رسوله، - ﷺ -، من العقائد والأحكام. ﴿وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ﴾؛ أي: اصرف وَوَجِّهْ وجهك؛ أي: ذاتك بكليتها للدين؛ أي: إلى الدين. ﴿وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾ لعله ذكر الإرادة مع الخير، والمس مع الضر، مع تلازم الأمرين، للتنبيه على أن الخير مراد بالذات، وأن الضر إنما مسهم لا بالقصد الأول. ﴿وَاصْبِرْ﴾ والصبر: حبس النفس على الشدائد والمشقات وتجرعها.
وقد تضمنت هذه الآيات ضروبًا من البلاغة والفصاحة والبيان والبديع:
فمنها: الجناس المماثل في قوله: ﴿فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾.
ومنها: إطلاق الجزء وإرادة الكل، في قوله: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ﴾، أي: اصرف وَوَجِّهْ ذاتك.
ومنها: الطباق بين ﴿ينفعك﴾ و ﴿يضرك﴾.
ومنها: المقابلة اللطيفة بين قوله: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ﴾ وقوله: ﴿وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ﴾.
ومنها: الطباق بين قوله: ﴿فَمَنِ اهْتَدَى﴾ وقوله: ﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾.
ومنها: جناس الاشتقاق بين قوله: ﴿حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ﴾ وقوله: ﴿وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ﴾.
ومنها: الجناس المماثل بين ﴿اهتدى﴾ و ﴿يهتدى﴾، وبين ﴿ضل﴾ و ﴿يضل﴾.
ومنها: الكناية في قوله: ﴿فَإِنْ فَعَلْتَ﴾؛ أي: دعوت ﴿فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ﴾؛ لأن الفعل هنا كناية عن القول والدعاء.
والله سبحانه وتعالى أعلم
* * *
مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: هي مكية إلا آيةً، وهي قوله تعالى: ﴿وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ...﴾ الآية. وقال مقاتل (١): هي مكية إلا قوله تعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ﴾، وقوله: ﴿أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾، وقوله سبحانه: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ﴾. وهي: مئة وثلاث وعشرون آيةٌ، وألف وسبع مئة وخمس وعشرون كلمةً، وتسعة آلاف وخمس مئة وسبعة وستون حرفًا. وسميت السورة باسم هود لذكره فيها، وهو هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: هو هود بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح بن عم أبي عاد، اهـ "بيضاوي".
ومن فضائلها: ما أخرجه (٢) الدارمي وأبو داود في "مراسيله"، وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر والبيهقي في "الشعب" عن كعب، قال: قال رسول الله - ﷺ - "اقرؤوا هود يوم الجمعة".
وأخرج ابن المنذر والطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه وابن عساكر، من طريق مسروق عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - قال: قلت: يا رسول الله، لقد أسرع إليك الشيب، فقال: "شيبني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتسألون، وإذا الشمس كورت". وأخرجه البزار وابن مردويه من طريق أنس عنه مرفوعًا بلفظ، قلت: يا رسول الله، عجل إليك الشيب قال: "شيبتني هود وأخواتها، والواقعة، والحاقة، وعم يتسألون، وهل أتاك حديث الغاشية".
قال بعض العلماء (٣): سبب شيبة - ﷺ - من هذه السور المذكورة في
(٢) الشوكاني.
(٣) الخازن.
الناسخ والمنسوخ: وقال (١) أبو عبد الله محمَّد بن حزم رحمه الله في كتابه "الناسخ والمنسوخ": سورة هود فيها من المنسوخ ثلاث آيات:
أولاهن: قوله تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا﴾ الآية (١٥) نسخت بقوله تعالى في سورة الإسراء: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ﴾ الآية (١٨).
الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ﴾ الآية (١٢١) نسخت بآية السيف.
الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (١٢٢)﴾ الآية (١٢٢) منسوخة بآية السيف أيضًا.
المناسبة: مناسبة هذه السورة لما قبلها (٢): أنها تضمنت ما تضمنته سورة يونس، من أصول الإِسلام، وهي التوحيد والنبوة والبعث والحساب والجزاء.
وفصل فيها ما أجمل في سابقتها، من قصص الرسل عليهم السلام، وهي مناسبة لها في فاتحتها وخاتمتها وتفصيل الدعوة في أثنائها، فقد افتتحتا بذكر القرآن بعد ﴿الر﴾ وذكر رسالة النبي، المبلغ عن ربه، وبيان أنَّ وظيفة الرسول إنما هي التبشير والإنذار، وفي أثنائهما ذكر التحدِّي بالقرآن والرد على الذين زعموا، أن الرسول، - ﷺ -، قد افتراه ومحاجة المشركين في أصول الدين، وختمتا بخطاب الناس بالدعوة إلى ما جاء به الرسول، - ﷺ -، ثم أمر الرسول، - ﷺ -، في الأولى بالصبر، حتى يحكم الله بينه وبين الكافرين، وفي الثانية بانتظار هذا الحكم منه تعالى، مع الاستقامة على عبادته والتوكل عليه. وعلى الجملة فقد أجمل في كل منهما، ما فصل في الأخرى، مع فوائد انفردت بها كل منهما، فقد
(٢) المراغي.
والله أعلم
* * *